أحدث المقالات

دراسةٌ في شخصيّته ودوره الديني

د. محمد إيلخاني(*)

ترجمة: حسن مطر الهاشمي

يعتبر (بولس) من أهمّ الشخصيات تأثيراً في بلورة الأصول العقائدية وتكوين الكلام المسيحي. وفي الأساس فإن ما نعرفه حالياً باسم (الديانة المسيحية)، ما هو إلاّ تفسير وفهم بولس لكلمات وأفعال النبيّ عيسى الناصري [السيد المسيح عيسى ابن مريم×].

لقد كان بولس يهودياً يونانياً، بمعنى أنه كان يتمتَّع بتعليم وثقافة يونانية، وكان يتكلَّم اللغة اليونانية. ولد في مدينة طرسوس (Tarsus) في أسرة أرستقراطية. وكان أبوه مواطناً رومياً، أي إنه رغم اعتناقه الديانة اليهودية كان قد تمكَّن بثروته أن يحافظ على هويته الرومية. وقد ساعد هذا الأمر (كونه رومياً) بولس في المرحلة اللاحقة في الكثير من الموارد؛ إذ شكَّل له ذلك غطاءً ليكون بمنأىً من الأذى الصادر عن أعداء المسيحيين. ويبدو أنه أمضى شطراً من فترة شبابه في بيت المقدس، تلقّى خلالها دراسة في الكتاب المقدّس والمعتقدات اليهودية. وبذلك تمكَّن من اكتساب ثقافتين؛ حيث حصل على ثقافة يونانية أثناء إقامته في مدينة طرسوس؛ وثقافة يهودية في بيت المقدس. وقد كان لهاتين الثقافتين أبعد الأثر في تبلور آرائه الخاصة. لقد كان بولس ـ بوصفه يهودياً ـ فريسياً([1]). فلم يكن يوماً في زمرة حواريي عيسى المسيح، ولم يلتَقِ به أبداً. وكان في بداية أمره من ألدّ أعداء الديانة المسيحية، ومن الذين يقودون المهمّات في مطاردة المسيحيين، ويتولَّوْن تعذيبهم([2]). وفي واحدةٍ من المهامّ التي أُنيطت به؛ لإلقاء القبض على جماعة من المسيحيين والقضاء عليهم، توجَّه إلى مدينة دمشق، وادّعى أن السيد المسيح قد ظهر له في أثناء الطريق، وبعد أن نهاه عن قمع المسيحيين دعاه إلى دينه، وأن يبذل كلّ ما بوسعه من أجل نشر كلمته ورسالته.

ليس لبولس رسالةٌ تبيِّن آراءه بشكلٍ منتظم. فقد اشتمل العهد الجديد على عددٍ من رسائله إلى المجتمعات والمؤمنين المسيحيين. وقد عالج في هذه الرسائل المشاكل التي يعاني منها مخاطبوه، وطرح فيها المسائل الاعتقادية، وعمل من خلالها على توجيههم. وكلّ رسالة من هذه الرسائل تمثِّل في العادة انعكاساً للظروف والمشاكل الخاصّة بذلك المجتمع أو الفرد الخاص([3]). يقوم التقليد السائد في دراسة المفسِّرين والمؤرِّخين في الدين المسيحي على دراسة عقائده ضمن رسائله، ويعملون على بيان عقائده بشأن مختلف الموضوعات، من قبيل: الإله، والمسيح، والإنسان، والمعصية، والعالم أو تأثير الديانة اليهودية أو الفكر اليوناني على كلامه، وما إلى ذلك من الأمور.

تندرج رؤية بولس وأفكاره ضمن إطار التيارات العرفانية التي ظهرت قبل قرنٍ من الميلاد، وظلّت ساريةً حتّى القرن الرابع الميلادي. فمنذ بداية القرن الثالث قبل الميلاد أخذ الدين ـ بفعل جهود الرواقيين ـ يلعب في الفكر الإغريقي دَوْراً أكبر، وحتّى ما قبل قرنٍ من ميلاد المسيح كانت التيارات العرفانية تمثِّل العامل الأهم في بلورة الفكر الإغريقي. في هذه المرحلة اختلط العرفان ـ الذي كان يتَّخذ أحياناً صورة الثنوية، ويتجلّى على شكل المذاهب الغنوصية، والأديان الشرقية، ومن بينها: الميترائية وغيرها من المذاهب المحفوفة بالأسرار ـ بالأصول الفلسفية والآراء الأرسطية والرواقية والفيثاغورية، لتكوّن الإطار الفكري الإفلاطوني والفلسفة الإفلاطونية الوسيطة، حيث يشتمل على توجُّهٍ عرفاني، يشكِّل مع العرفان الثنوي المعتقدات السائد في تلك المرحلة، من القرن الأول قبل الميلاد إلى أواخر القرن الثالث الميلادي. وقد خضع بولس ـ بوصفه مفكِّراً ينتمي إلى تلك المرحلة ـ لتأثير تلك التيارات. وبطبيعة الحال يمكن مشاهدة هذين النوعين من التفكير ـ أي الفلسفة الإفلاطونية الوسيطة والعرفان الثنوي ـ عند اليهود أيضاً. ومن ناحيةٍ نشاهد التيارات العرفانية ذات الصبغة الثنوية المقرونة بالحياة الرهبانية عند الأسينيين، ومن ناحيةٍ أخرى يعمد فيلون الإسكندراني إلى تفسير التوراة تفسيراً إفلاطونياً وسيطاً.

يجب التعرُّف على المنهج الفكري لبولس في إطار العقائد المسيحية، ودراسته ضمن آراء المسيحيين الذين يُعْرَفون بـ «اليهود ـ المسيحيين». والمراد باليهود المسيحيين تلك الجماعة الأولى من المسيحيين التي تشكَّلت بعد عيسى المسيح في بيت المقدس، بقيادة يعقوب أخي عيسى، وبطرس. ودليلُ هذه التسمية أن هذه الجماعة من المسيحيين كانت تعتقد أن الإيمان بالمسيح يتوقَّف ـ قبل كلّ شيءٍ ـ على أن يكون الفرد يهودياً، وملتزماً بالشرائع اليهودية وعاملاً بها، ليعتقد بعد ذلك بعيسى المسيح. وبعبارةٍ أخرى: إن هؤلاء كانوا من اليهود الذين يعتقدون أن مسيحهم الموعود قد ظهر، وأنهم بذلك يمتازون من سائر اليهود. كان هؤلاء، مثل سائر اليهود، يمتثلون أحكام الشريعة، ويراعون الحلال والحرام في المأكل والملبس وفي سائر شؤون الحياة. ومن ناحيةٍ أخرى لم تكن هذه الجماعة لتخلع على المسيح صفاتٍ إلهية. وعلى الرغم من المعجزات التي شاهدوها منه بأنفسهم كانوا ـ في الحدّ الأقصى ـ يرَوْنه ملكاً من الملائكة. وهكذا فإن عيسى المسيح كان بالنسبة إلى اليهود ـ المسيحيين نبيّاً مثل سائر الأنبياء، غاية ما هنالك أنه المنجي، الذي ظهر في آخر الزمان؛ لإنقاذ قومه. إن هذه الرؤية، رغم عدم منعها من دعوة سائر الأقوام إلى دين ورسالة المسيح، ولم تكن لتخالف نشر الديانة المسيحية بين جميع الناس، إلاّ أنها لم تدَّعِ عالمية هذه الرسالة. ولذلك لم يكونوا متحمِّسين إلى نشر المسيحية بين غير اليهود.

أما بولس فإنه؛ بوصفه رسول المسيح إلى غير اليهود، قد أعلن عن رسالة المسيح العالمية. ولذلك كانت رؤيته وتفسيره للمسيحية تختلف جوهرياً عن المجتمع المسيحي ـ اليهودي في بيت المقدس؛ حيث كان بولس ينكر ركنين رئيسين من أركان عقيدة هذا المجتمع، وهما: شريعة اليهود؛ وبشرية المسيح. وبطبيعة الحال لم يكن القيام بهذه المهمة خِلْواً من المشقّة؛ إذ كان عليه في البداية أن يواجه رفضاً وصدوداً من المجتمع اليهودي ـ المسيحي لهذا التفسير والفهم لخطاب وعقل المسيح، إلاّ أنه بعد عددٍ من اللقاءات والمناقشات بينه وبين كبار هذا المجتمع رضخ المسيحيون في بيت المقدس، وآمنوا بأنه رسول السيد المسيح لغير اليهود، الذي كان هو المراد الرئيس لليونانيين وأصحاب النزعة اليونانية في تلك المرحلة([4]). وعلى هذا الأساس تمّ الاتفاق على إمكان أن يعتنق غير اليهود المسيحية دون حاجة إلى اتّباع الديانة اليهودية. وبطبيعة الحال فقد اقترح سكّان بيت المقدس مقترحاً أدنى، عُرف بمعاهدة الرُّسُل. وطبقاً لهذه المعاهدة تعيَّن على المسيحيين من غير اليهود أن يجتنبوا أكل أضاحي الكفّار، وأن يمتنعوا عن تناول دم الأضحية، والأنعام المنخنقة، وأن لا يرتكبوا الزنا([5]). وبطبيعة الحال فقد كان رسل المسيحية يطمعون برعاية كامل أحكام الشريعة بين اليهود ـ المسيحيين، بل كان بعضهم يتوقَّع أكثر ممّا ورد في معاهدة الرسل بالنسبة إلى غير اليهود من المسيحيين.

بعد أن آمن بولس بالمسيح (ما بين عامي 32 ـ 36 للميلاد)، وحتّى وفاته في روما (ما بين عامي 62 ـ 64 للميلاد)، بذل كلّ ما في وسعه من أجل التبشير بأفكاره وفهمه للمسيحية؛ فقام بالكثير من الأسفار، وتحمَّل الكثير من الصعاب والآلام، وسجن لعدّة مرّات.

يقوم فهم وتفسير بولس لرسالة وسلوك المسيح على أساس التفكير والتجربة العرفانية، وهي التجربة والفكرة التي ترى العالم محتلاًّ من قِبَل القوى الشيطانية، ولا بُدَّ؛ للخلاص من هذا العالم والتحرُّر من سلطة الشيطان والشياطين، من مجيء منقذٍ إلهيّ، لا سلطة للقوى الشيطانية عليه، ليضع أمام البشر ـ وحتّى الطبيعة ـ طرق الخلاص. يرى بولس أن جوهر وذات دين وتعاليم وأعمال المسيح أمرٌ باطني. عندما تتجلّى الحقيقة في روح الإنسان وباطنه سيدرك حينها أن الحقيقة ليست شيئاً آخر غير المسيح نفسه. وهكذا فمن خلال تجسُّد المسيح تمّ نسخ السنن والأحكام الظاهرية لشريعة اليهود، من قبيل: الختان، والحلال والحرام في الأعمال والمأكل والملبس. إن اتّباع مجموعةٍ من القوانين الدينية والأحكام الظاهرية ليس مجانباً للصواب فحَسْب، بل من شأنه أن يشكِّل حجاباً دون تحرُّر وانعتاق روح الفرد المؤمن وضميره. وعليه، بعد تطهير الروح والضمير، فإن سلوك المؤمن الطاهر ـ الذي هو نتيجة لطهر الروح والضمير ـ سيضمن له التحرُّر والخلاص والسعادة الأبدية. نشاهد عند الكثير من المفكِّرين الإغريق في تلك المرحلة ـ ولا سيَّما في كلمات الفيلسوف الرواقي (أبيكتيتوس)([6])، المعاصر لبولس ـ الاعتقاد بالانقلاب الداخلي، بوصفه الطريق الوحيد لخلاص الإنسان. فقد كان هؤلاء المفكِّرون يعتقدون أن بإمكان الإنسان، من خلال الاعتماد على طاقاته الروحانية والإلهية الكامنة فيه، أن يخلِّص نفسه من الظلمات. أما من وجهة نظر بولس فإن الفرد العاصي والمذنب لا يستطيع أن يخلِّص نفسه من مستنقع الرذيلة، استناداً إلى مجرّد قواه الباطنية، بل هو بحاجةٍ إلى عَوْنٍ من الله؛ كي ينجيه بلطفه ورحمته، ويهديه إلى حيث السعادة الأبدية.

يُعَدّ بولس موحِّداً؛ فهو يخالف عبادة الأصنام بشدّةٍ، ويشجب عبادة جميع أنواع الأوثان، سواء أكانت على شكل إنسانٍ أم حيوان([7]). وفي ذلك يقول: «فنحن نعرف أن الوَثَن لا كيان له، وأن لا إله إلاّ الله الأحد، وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنهم آلهة، بل هناك كثيرٌ من هذه الآلهة والأرباب، فلنا نحن إلهٌ واحد»([8]). وهنا لا يعمد بولس إلى إنكار وجود آلهة الإغريق، فهو يقول في الفقرة الخامسة من هذا الإصحاح: «هناك كثيرٌ من هذه الآلهة والأرباب». ولكنْ يبدو أنه يعتبر هذه الآلهة مظاهر للشياطين والشرور في العالم([9]). وبطبيعة الحال سيرد هنا بحث العقيدة الثنوية. فإذا كان لهذه الشياطين وجود في العالم فهل وجودهم مستقلٌّ عن الله؟ وهل ستكون لديهم القدرة على الخلق أو التغيير في هذا العالم بشكلٍ مستقلّ أم إنهم سيكونون في ذلك تابعين لإرادة الله وقدرته؟ يمكن القول في هذا الشأن: إن بولس ينسب خلق جميع الأشياء إلى الله. وعلى الرغم من مشاهدة مسحة من الاعتقاد بالثنوية في كلماته، إلاّ أنه في ما يتعلَّق بمنشأ العالم يعتقد بأصلٍ واحد، بمعنى أنه ينكر الاعتقاد بالثنوية، كما صرَّح بذلك على ما تقدَّم في الفقرة السادسة من الإصحاح الثامن من رسالته الأولى إلى كورنثوس حول البحث بشأن الآلهات الأخرى؛ إذ يقول: «فلنا نحن إلهٌ واحد، وهو الأب الذي منه كلّ شيء، وإليه نرجع». يذهب بولس بتأثير من الفكر اليهودي ـ خلافاً لما عليه الفلسفات الإغريقية المعاصرة له ـ إلى الاعتقاد بأن الله شخص واحد، يخلق ويتكلّم ويحبّ، ويغضب أيضاً. ويؤيِّد الأصل اليهودي القائل بأن الأرض وكلّ ما عليها للربّ([10])، وأن الله هو غاية الوجود؛ لأن كلّ شيء إنما وُجد منه وبه وإليه([11]). وعليه يكون كلّ شيء من الله ومتعلّقاً به، بمَنْ في ذلك الابن، فهو أيضاً تابعٌ له، وهو الحاكم المطلق([12]).

إن إله بولس هو إلهٌ منقذ، يخلِّص الفرد ويطهِّره من ذنوبه. وإن قدرة هذا الإله مطلقةٌ، في حين أن قدرة الإنسان محدودةٌ، فالإنسان لا يمكنه أن يكون عنصراً لإنقاذ نفسه. فإذا أراد الإنسان الإحسان لن يكون ذلك مقدوراً له، إلاّ بعونٍ من الله([13]). ويرى بولس أن الإرادة وحدها لا تعني القدرة على تحقيق الأمور، فلا بُدَّ من القوة الإلهية الأزلية والأبدية لنجاة الإنسان من الذنوب.

يأتي إنقاذ الله للإنسان وتطهيره من الذنوب بواسطة حبّه المطلق للإنسان؛ فهو يحبّ الإنسان، وعملية الإنقاذ لطفٌ منه ورحمة بالإنسان المذنب الذي لا يستحقّ الإنقاذ. إن الحب هو حبٌّ أبوي. من هنا فإن بولس ـ مثل الكثير من المفكِّرين الإغريقيين المعاصرين له، ومن بينهم: (أبيكتيتوس) ـ يخاطب الله بالأب. إن الله ليس مجرّد أبٍ للمسيح، بل هو أبٌ لجميع أفراد البشر، ولا سيَّما المؤمنين منهم. وبطبيعة الأمر فإن الأبوة هنا مفهومٌ مشكِّك، فأبوّة الله للمسيح تختلف عن أبوّته للفرد المؤمن؛ فالمسيح ابن الله بحَسَب الطبيعة، في حين أن سائر الناس أبناءٌ له بواسطة الإيمان والروح([14]).

إن إله بولس إلهٌ عليم وحكيم، قد كان يعلم منذ البداية ما يريد، وقد نفذ كلّ شيءٍ طبق خطّةٍ مرسومة على نحوٍ دقيق، وسوف يواصل تنفيذها. إن مشيئته هي التي تحكم التاريخ، ولكي يعمل على تنفيذ مشيئته سوف يتدخَّل في حركة التاريخ دائماً. فهو الذي عاهد إبراهيم، وأرشد شعب اليهود إلى أرض الميعاد. وهو الذي أنقذ اليهود من أسر المصريين، وعاقبهم على طول التاريخ مراراً؛ بسبب الذنوب التي اقترفوها، وأجزل لهم العطاء والثواب عند إطاعتهم وتبعيّتهم لأوامره. وكان آخر تدخُّل مباشر لله في التاريخ قد تمثَّل بإرسال ولده الوحيد إلى الأرض، حيث تعرَّض للصلب. وعليه فحتّى صلب المسيح كان بتخطيطٍ من الله. فلو لم يتمّ صلبه لما تمَّتْ عملية إنقاذ الإنسان، ولاستمرّت سلطة المعاصي والذنوب على حالها؛ إذ توقّف إنقاذ الإنسان من الذنوب على تضحيته بولده الوحيد. ويرى بولس أن هذه الحتمية التاريخية القائمة على أساس المشيئة الإلهية لا تزيل اختيار الإنسان، بل يبقى الإنسان مختاراً، ولذلك يكون مسؤولاً عن أفعاله. فهو يستطيع أن يختار بين الخير والشر، ويمكنه أن يلتحق بالمسيح ويغدو عَبْداً له، وينال السعادة الحقيقية، أو أن يبقى عَبْداً للذنوب، والخلود في الجحيم. بَيْدَ أن القول بأن الذنب قد تسلَّل إلى العالم، وجاء معه بالموت، وبالتالي فإن القول بأن جميع الناس يولَدون مذنبين([15])، وأن الإنسان ليس بمقدوره لوحده أن ينقذ نفسه إلاّ بلطفٍ من الله، يقوِّي النزعة الجَبْرية في عقيدة بولس. وبطبيعة الحال لو اقترن هذا الأمر بسيادة المشيئة الإلهية في التاريخ، وعلم الله بأهل النعيم وأهل الجحيم، سوف يتّضح سبب جنوح بعض الفِرَق المسيحية إلى القول بالجَبْر، ولا سيَّما بعض الجماعات البروتستانتية، من الذين يعتمدون على رسائل بولس في تفسيرهم وتأويلهم للمسيحية.

إن العالم مخلوقٌ لله، ولذلك لا يحتوي هذا العالم على قيمةٍ ذاتية، ويمكن لنا أن نشاهد فيه صفات الله الخفيّة([16]). وبعبارةٍ أخرى: إن العالم هو المرآة التي يمكن أن نشاهد الله من خلالها. وهنا يبتعد بولس عن عقيدة العرفاء الثنوية، التي ترى العالم مخلوقاً لإله الشرّ، وتجعله في القطب المخالف لإله الخير. ولكنّه يرى أن العالم بعد الخلق قد تعرّض للفساد، واستولَتْ عليه القوى الشيطانية. كما خضع العالم لسلطة الإنسان، الذي ابتعد عن الله؛ بسبب اقترافه للذنوب. بَيْدَ أن العالم لا يزال يتوقَّع ظهور أبناء الله؛ لينقذوه من كلّ هذا العَبَث والفساد، ويكون شريكاً لجلال أبناء الله في هذا التحرير والانعتاق. وبطبيعة الحال فإن العالم لم يتعرَّض للفساد بإرادته، وإنما كان ذلك بإرادةٍ من الله([17]). وعلى هذا الأساس فإن كلَّ ما يجري في هذا العالم إنما هو خاضعٌ لقدرة الله ومشيئته. وحتّى إذا رأينا شرّاً في العالم فإن هذا الشرّ لا يخرج عن دائرة القدرة الإلهية. لا يمكن للإنسان أن يجعل من العالم غايةَ مطمحٍ له، أو أن يضع نفسه في خدمة المخلوق، بَدَلاً من خدمة الخالق.

إن النظرة التي ينظر بها بولس إلى الإنسان هي نظرةٌ أخلاقية بَحْتة. فهو من خلال الاستناد إلى التوراة يؤكِّد على أن الإنسان شبيهٌ بالله، وهو مظهرٌ من مظاهر الجلال الإلهي([18]). إذن فالإنسان كائنٌ مسؤول، ولكنّه لا يمثِّل الحقيقة الكاملة والمنجزة. فهو كائنٌ متأرجح بين قطبين متناقضين أو متنافرين، وهما: الخير؛ والشرّ، ويتم تعريف وجوده من خلال نواياه وإرادته. وعليه يمكن للإنسان أن يكون صالحاً ويتعالى، أو يكون طالحاً ويتسافل حدَّ السقوط. بسبب معصية آدم أصبح جميع الناس آثمين، وبذلك تسلَّل الذنب والموت إلى العالم، وسيطرت قوى الشرّ على العالم الأرضي([19])، وبالتالي أضحى الإنسان تابعاً لسلطانها.

يضع بولس القطب الإنساني (الدنيوي) والقطب الإلهي في مقابل بعضهما. وعليه لا بُدَّ من الانفصال عن الدنيا والإنسان والتوجُّه إلى الله. إن الشعور بالاستقلال والاستغناء عن الله يُعَدّ ذنباً، وبالتالي فهو من الشرّ. أما التبعية لله فهي عين الاستغناء والسعادة. إن لكلّ واحدٍ من هذين القطبين حكمته الخاصة به. ومن هنا فإن بولس يضع الحكمة الإنسانية أو الدنيوية في مقابل الحكمة الإلهية. يدّعي بولس أن كلامه حكمةٌ إلهية، وأن الإنجيل الذي يُبشِّر به ليس من صنع الإنسان، إنما هو وحيٌ وإلهام من قِبَل عيسى المسيح([20]). إن هذه الحكمة هي نوعٌ من الكشف، وليست تعاليم قد اكتسبها في هذا العالم. في حين أن ما يقوله الآخرون (من الكفّار أو المبتدعين الذين يعتبرون كلامهم كلام المسيح) ليس سوى فلسفةٍ وأدلّة لا معنى لها، فهي مجرّد سنن إنسانية لا ربط لها بالمسيح أبداً([21]). إن الحكمة الإنسانية هي حكمةُ المعصية، وهي الحكمة التي تحاور العقل، وتدّعي تفسير العالم، وهي الحكمة التي تعتبر الحكمة الإلهية تفاهةً عديمة المعنى، بل تراها ضَرْباً من الجنون والجَهالة. إن اليهود يطالبون بالمعجزات، بينما يسعى الإغريق وراء العقل والحكمة. وإن ما يبدو أنه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الناس([22]). أما الحكمة الإلهية فهي معرفة عيسى، ومعرفة الله بواسطة التعرُّف على عيسى([23]). وعليه فإن القِيَم الإنسانية تُعَدّ تافهةً وعبثية بالقياس إلى القِيَم الإلهية. يجب عدم الانصياع لعبادة الإنسان، بل إن هدف الإنسان هو العبودية للمسيح([24]). وفي الأساس إن أسلوب الإنسان في الحياة مَدْعاةٌ للاقتتال والتنازع والحسد والجنون إذا أراد الإنسان أن يفاخر بإنسانيّته([25]).

إن مفهوم المعصية يمثِّل نقطة ارتكاز في المعرفة الإنسانية لدى بولس. فجميع الناس ـ سواء اليهود أم غير اليهود ـ مذنبون. وتتلخّص معصية الإنسان بشعوره واعتقاده باستغنائه عن الله. إن غرور الإنسان وتكبُّره هو الذي يدفعه إلى إدارة حياته الدنيوية اعتماداً على عقله فقط. إن اعتبار الإنسان لإرادته بوصفها هي الإرادة الوحيدة، وجعلها ندّاً لإرادة الله المطلقة، هي المعصية بعينها. إن البقاء في دائرة الإنسان والابتعاد عن الله، وجعل الإنسان لذاته منافساً عنيداً في مواجهة الذات الإلهية، ذنبٌ ومعصية موصوفة. ولا يخفى أن التخبُّط في المعصية يعني البُعْد عن الله([26]). إن المعصية طاقةٌ شيطانية تسلَّلت إلى العالم([27]). ولم يتهرَّب أحدٌ من المعصية، ولن يتهرَّب؛ فالإنسان منقادٌ وعبدٌ للمعصية([28]). وإن الذنب يشكِّل أساس وأصل حياة الإنسان([29]). وإن المعصية ترسِّخ في الإنسان الطمع([30]). إن الأعمال القبيحة تنشأ من المعصية؛ فلو لم يخضع الإنسان لسطوة الذنب لما تمرَّد على القوانين الإلهية، ولما أصرّ على الالتحاق بركب الشياطين. فالخطيئة دخلت في العالم بالإنسان، وبالخطيئة دخل الموت، وسرى الموت إلى جميع البشر، ولأنهم جميعاً مخطئون فالموت سيعمّهم جميعاً([31]). إن المعصية تمثِّل الحالة التي يعيش الإنسان في صلبها، رغم عدم كونه مسؤولاً عن هذه الحالة([32]).

فهل المعصية من وجهة نظر بولس جزءٌ من ذات الإنسان؟ وبعبارةٍ أخرى: هل الذنب من المقوّمات الذاتية للإنسان؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا خلق الله الإنسان مذنباً؟ وإنْ لم يكن الأمر كذلك فما هو الأمر الذي حدث في تاريخ الإنسان وجعل المعصية تستوطن وجوده وكيانه؟ لا يمكن العثور على إجاباتٍ واضحة عن هذه الأسئلة في كلام بولس. وعلى أيّ حالٍ فإن هذا الذنب قد حمله الإنسان في جيناته الوراثية، وبدأ ينتقل من الآباء إلى الأبناء عبر الأجيال: «وأنا في أعماق كياني أبتهج بشريعة الله، ولكنّي أشعر بشريعةٍ ثانية في أعضائي تقاوم الشريعة التي يقرّها عقلي، وتجعلني أسيراً لشريعة الخطيئة التي هي في أعضائي. ما أتعسني، أنا الإنسان! فمَنْ ينجيني من جسد الموت هذا؟»([33]). وهنا نجد بولس يرى جسم الإنسان بالتحديد هو المعصية، وأن السعادة تكمن في الخلاص منه. فالجسم بمنزلة المعصية، يقف في مواجهة الروح، التي تمثِّل عنصر النجاة. يمكن لنا أن نشاهد الاعتقاد بالثنوية في الفصل بين الروح والجسد عند بولس بشكلٍ واضح. تأتي هذه الرؤية العرفانية في إطار الثقافة العرفانية ـ الثنوية لتلك المرحلة. ولكنْ يجب التنبيه إلى أن بولس وإنْ كان يرى الجسد مظهراً للمعصية، فهو لا يراه شرّاً ذاتياً، كما يذهب سائر العرفاء الثنويين. فصحيحٌ أن الجسم حاملٌ للموت، والموت يعني الشرّ، ولكنّ بولس كما سبق أن ذكرنا ـ وخلافاً لما كان يعتقده الثنويون ـ يرى أن الجسم لم يُخْلَق بواسطة إله الشرّ؛ فقد تمّ خلق كلّ شيء بما في ذلك الجسم والروح بواسطة إلهٍ واحد، وحتى المسيح ابن الله عندما جاء لنجاة الإنسان إنما تقمَّص هذا الرداء الجسماني. وهذه هي النظرية التي لم تحْظَ بقبول الثنويين من المسيحيين، ولا سيَّما (مرقيون السينوبي)([34])؛ لأن المسيح بوصفه خيراً مطلقاً لا يمكن أن يتقبَّل اكتساب وتقمُّص المادّة، التي هي شرٌّ مطلق. يرى بولس أن جسم المسيح الذي يشبه أجسامنا بريءٌ منزَّه من المعصية، ويأمل أن تكون أجسامنا بعد البعث والقيامة منزّهةً عن الفساد والضياع.

ويبدو أن بولس يذهب إلى الاعتقاد بأن المعصية شيءٌ قد تسلَّل إلى العالم([35])، بمعنى أن هذه العلقة قد تحقّقت في بداية تاريخ الإنسان بارتكاب الخطيئة، ولن تزول هذه العلاقة إلاّ بتدخُّلٍ من المسيح وروح القدس. إن الإنسان في مستهلّ خلقه لم يكن مذنباً، ولم تقُمْ إرادة الله على أن يكون الإنسان مذنباً من الناحية الذاتية، ولكنْ بعد تسلُّل الذنب إليه أصبحت ذاتُه مذنبةً، وحيث أضحى الذنب أمراً ذاتياً صار عدم الذنب مستحيلاً على الإنسان، ولم يَعُدْ بإمكانه أن لا يقترف المعصية. وقد كان الإنسان هو السبب في تسلُّل الذنب إلى دائرة العالم. ويبدو من كتابات بولس أن ذلك الإنسان هو آدم. إن معصية آدم لم تكن معصيةً شخصية، وعليه فإنها لا تقف عنده، وإنما تسري إلى الجميع. وسبب ذلك أنه قد أفسد بذنبه جوهر الإنسان وذاته، وبذلك خضع الإنسان لسلطة الذنب. لقد أصبح الإنسان؛ بسبب معصية آدم، مذنباً، وبتبعيته وانقياده لآدم الثاني ـ أي عيسى المسيح ـ سوف يطهر من الذنب، وسوف يتمكّن من إدراك جلال الله([36]). ويمكن القول: هناك آدمان في التاريخ كانا منشأً للمعصية والنجاة. وإن الاتحاد بآدم الأوّل يعني التعايش مع المعصية، بينما الاتحاد بآدم الثاني (عيسى المسيح) يعود على الإنسان بجلال الله. وبذلك فإن آدم يمنح الموت والمعصية، والمسيح يمنح الحياة والجلال الإلهي.

بعد أن تسلَّلت المعصية إلى العالم أضحى الذين مالوا إليها من الكافرين، وتجاهلوا نداء الوجدان والوحي الطبيعي المتجلّي في عالم الخلق. فمنذ بداية الخلق ظهرت آثار القدرة الأزلية والربوبية لله في مخلوقاته باديةً للعيان. ورغم تمكُّن الكفار من رؤيتها إلى حدًّ ما إلاّ أنهم لم يقدِّروا الله حقّ قدره. بل على العكس من ذلك، فقد ضلّوا في أفكارهم التافهة، وأضحَتْ أفئدتهم المجنونة طعمةً للظلمات والشرور. يدعي الكفار الحكمة، ولكنّهم ليسوا غير طغمة من المجانين؛ إذ إنهم ـ بَدَلاً من إدراك جلال الله ـ اختاروا الوثنية، وعبدوا مخلوقات الله، بَدَلاً منه. وإنّ ابتعادهم عن الله وإقبالهم على عبادة الأوثان جعلهم ينغمسون في الشهوات، ويمارسون الرذيلة وكلّ ما يتنافى مع العفّة، وأصبحوا متكبِّرين، لا وفاء لهم ولا مشاعر أو عواطف، واقترنت أفعالهم بالغباء والقسوة، وتجرّدت أرواحهم من الرحمة. وبطبيعة الحال فقد تركهم الله ليذوقوا وبال أعمالهم القبيحة([37]). وبذلك أصبح الإنسان والخلق تابعين للعوامل الدنيوية([38]).

إن الله لم يترك الإنسان إلى نفسه، فهو برحمته الواسعة يريد النجاة لجميع الناس، وأن يصل الجميع إلى إدراك الحقيقة([39]). وطبقاً لمشيئته وخطّته المفعمة بالحبّ والرحمة يقوم الله بهداية الإنسان إلى طوق النجاة مرحلةً بعد مرحلة، بمعنى أنه يُهدى إلى ظهور المسيح وصَلْبه. وإن بني إسرائيل هم وحدهم الذين تمكَّنوا من تجنُّب الأعمال القبيحة، وحصلوا بذلك على الوحي المكتوب، الذي يمثِّل الشريعة. وبطبيعة الحال فإن التوسُّل بالشريعة لم يؤدِّ إلى نجاة اليهود، فهم مذنبون أيضاً؛ لأن معصية آدم تسري على جميع نسله. بَيْدَ أن الله وعد إبراهيم وأبناءه وراثة الأرض؛ بسبب إيمانهم، لا بسبب التزامهم بالشريعة([40]). إن الله أعطى موسى الشريعة، وصحيحٌ أن العمل بالشريعة لا يستطيع أن ينجينا، بَيْدَ أنه يهدينا إلى المسيح([41]). إن الإنسان في مرحلة الشريعة ليس سوى طفلٍ صغير، وهو ـ مثل سائر العبيد ـ مقيَّدٌ بقيود العقائد الدنيوية. وقد جاءت الشريعة كي تعدَّه لإدراك الحقيقة والحرّية التي سيحملها له ابنُ الله([42]). ورغم أن بولس يؤكِّد على المنشأ الإلهي للشريعة، فإنّه يعبِّر عنها بكلماتٍ لا تنسجم في الوَهْلة الأولى مع إلهية الشريعة. وأضاف قائلاً: إن الشريعة زادت من الذنوب([43])، وهي منشأٌ لاستحقاق اللعنة، أكثر منها مجلبة للنجاة، ولا أحد يتطهَّر بالشريعة([44])، بل إن الشريعة تستوجب الغضب الإلهي، وحيث لا شريعة لا مكان لتجاوزها([45]). ولكنّ بولس بطبيعة الحال يخفِّف من حدّة هذه الكلمات من خلال قوله: كلما كان هناك مزيدٌ من المعاصي كان الفيض الإلهي أكثر([46]). ويبدو أن السبب الرئيس في الردّ على الشريعة أنه يرى الخضوع للشريعة مساوياً للخضوع لسلطة عالم الدنيا([47]). وعلى أيّ حالٍ يبقى السؤال قائماً: لماذا يرى بولس الشريعة تستوجب اللعنة أكثر مما تستوجب النجاة، مع اعتقاده بأن الشريعة هي من عند الله؟! ولماذ يؤدّي القانون النازل من قبل الله إلى وضع الإنسان تحت سلطة العالم؟! يمكن لنا أن نفهم من رسائل بولس أن الشريعة عبارةٌ عن قوانين تنظِّم الحياة في هذه الدنيا؛ وذلك للتقليل من صدور المعاصي عن الناس. إن القوانين الدينية اليهودية تقيِّد ذات الإنسان المذنب، وبسبب خوفه من العقاب يقوم الإنسان بتجنُّب الأعمال المنافية للأخلاق، والتي تبعده عن الله. في حين أن فهم بولس الديني يقوم على التخلُّص من الدنيا. والنجاة أمرٌ سماوي. وعليه لن تكون الشريعة ناجعةً، ويجب التخلّي عنها. فإذا أردنا النجاة من خلال الشريعة فإن هذا سيعني أننا نجعل من العالم غايةَ مطمحٍ لنا، وهذا هو عين الذنب. وبظهور المسيح يجب التخلّي عن سلوك جميع الطرق الأخرى، بما فيها طريق الشريعة. إذا أردنا بعد ظهور المسيح أن نستند إلى الشريعة، أو أن نعتقد بها مع اعتقادنا بصلب المسيح، أمكن القول: إن الشريعة تستوجب اللعنة أكثر من كونها طريقاً للنجاة. وعلى الرغم من أن للشريعة منشأً إلهيّاً، وأنها قد نزلت وَحْياً من الله، إلاّ أنها إنما نزلت لتحديد المعصية، وقد قام وعد الله بأن تقوم إلى حين ظهور ابن إبراهيم، الذي هو المسيح. يفهم من كتابات بولس أن إنزال الشريعة يتناقض مع الوعود الإلهية؛ إذ لم يكن بالإمكان تحصيل الحياة من الشريعة، وبالتالي لم يكن بإمكان الشريعة أن تمنح الإنسان الخير المطلق. فحتّى ما قبل مرحلة الإيمان كان الإنسان رازحاً تحت سلطة الشريعة والعبودية بانتظار ظهور الإيمان. لقد كانت الشريعة حارسةً للإنسان؛ لكي توصله إلى المسيح ويتطهَّر. وبعد ظهور الإيمان لا يعود الإنسان بحاجةٍ إلى ما يحرسه، وسوف يكون الجميع أبناء الله؛ بسبب إيمانهم بعيسى المسيح. إن الذين تعمّدوا بالمسيح احتموا به، ولا يعود هناك من فرقٍ في الإيمان بين اليهودي وغيره، ولا فرق بين الحُرّ والعبد، ولا بين الرجل والمرأة. وإذا كان المؤمنون مرتبطين بالمسيح سيكونون من نسل إبراهيم، وسوف يرثون الأرض، طبقاً للوعد الإلهي([48]).

لقد كان انتظار المنجي شائعاً بين اليهود في فلسطين بشكلٍ كبير، فقد رزحوا تحت وطأة الكفّار من البابليين واليونانيين والروميين لقرونٍ طويلة. وقد كانوا يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار. ومن الطبيعي أن يتوقَّعوا أن يمدّ الله لهم يد العَوْن، طبقاً للوعد الذي سبق أن قطعه لهم على نفسه، وأنّ الغرباء سيُطْرَدون من أرض الميعاد. لقد وردت البشارة بـ «المسيا» أو المسيح في رسالات التوراة، ولا سيَّما في كتاب دانيال، وكان اليهود ينتظرون ظهور منقذهم بفارغ الصبر. وبطبيعة الحال كان اليهود يرَوْن أن التعجيل في ظهور المسيا «المسيح» يكمن في العمل الأكثر والأفضل بالشريعة. وقد كان هذا النمط من التفكير يستند إلى العهد الذي سبق لـ (يهوه) أن قطعه لإبراهيم في المرّة الأولى، ثم لموسى ثانياً، بمعنى أن اليهود كان يتعيَّن عليهم أن يعبدوا (يهوه)، ويمتثلوا الشريعة التي أوحاها لهم، في مقابل العَوْن الذي سيقدِّمه لهم. في تلك المرحلة كان الاعتقاد بظهور المنقذ مقروناً بالاعتقاد بالحياة في آخر الزمان، والقرب من الحكومة الإلهية. وعندما يظهر المنجي يتمّ القضاء على الكفّار، ويبدأ اليهود المنتشرون في الأرض العودة إلى بيت المقدس، وسوف تتشكَّل السلطة الإلهية، ويصل العالم إلى نهايته. ولكنّ اليهود يرَوْن أن المنجي لم يكن إلهاً. قبل اعتناق المسيحية كان بولس ـ بوصفه يهودياً فريسياً ـ ينتظر مجيء مسيا «المسيح»، وإقامة السلطة الإلهية، وانتهاء العالم. لقد مزج بولس عقائده اليهودية بالأفكار الإغريقية السائدة، واستعان بكفاءته الفكرية؛ ليقدِّم تصوُّراً جديداً عن المنجي وشخصيته. إن ألوهية المنجي ترتبط بشكلٍ كامل برؤية بولس للعالم، والتوقُّع الذي ينتظره من الدين في إطار نجاة الإنسان. إن جوهر المسألة يقول: إذا كانت ذات الإنسان طاهرة، وكان يبحث عن الله بفطرته، وإن النجاة تكمن في الدنيا أو بواسطة الدنيا، وتشكّل المجتمع الموعود في العالم، يمكن للمنجي أن يكون إنساناً، وأن تلعب الشريعة دوراً جوهرياً لتجنُّب الذنوب والمعاصي. وأما إذا كانت النجاة مسألةً أخروية، وكان مجتمع المؤمنين يتبلور في ملكوت السماوات، وأضحَتْ الثنوية ـ وإنْ لم تكن عقائدية ـ هي الحاكمة، وبالتالي إذا كان الإنسان فاسداً ومذنباً في ذاته، وأضحى تَبَعاً لذلك تحت سيطرة القوى الشيطانية، فمن الواضح أن الإنسان يجب أن يتصف بكيانٍ غير إنساني، ولا يمكن للشريعة ـ التي هي قانون للحياة الأفضل في العالم ـ أن يكون لها محلٌّ من الإعراب في هذه المنظومة الفكرية؛ لأن الهدف هو النجاة من القِيَم الإنسانية ومن الدنيا. ولا بُدَّ من التذكير بأن المنجي أو المراد في الأفكار العرفانية يبتعد عن الخصائص الإنسانية. وخلافاً لذلك فإن الأديان التي تمنح الدنيا مزيداً من الاهتمام، يعيش القائمون على الدين فيها مثل سائر الناس، ولا يختلفون عنهم كثيراً، ولا يميِّزهم من الآخرين سوى اتصالهم بمبدأ الوحي. إن المسيح الذي كان اليهود يتحدَّثون عنه، ويتوقَّعون ظهوره، كانت له صفةٌ تاريخية، بمعنى أن كلّ وجوده يكمن في وجوده التاريخي، ولم يكونوا يرَوْن له وجوداً سابقاً. إن هذا المسيح ـ طبقاً لرؤية بولس ـ يتخلّى عن موقعه لصالح المسيح الإلهي ـ وهو المسيح الذي يحظى عمله، ولا سيَّما موته وعودته إلى الحياة، بأهمِّيةٍ ـ، وتضمحل كلماته وحياته التاريخية إذا لم نقُلْ: إنها تختفي بالمرّة. وعليه لا يعود المسيح نبيّاً أو مصلحاً تحظى كلماته بتلك الأهمّية، بل يغدو مجرّد شخصٍ إلهيّ تمَّتْ التضحية به؛ من أجل إنقاذ الناس. وعليه فإن أخذ ألوهية المسيح بنظر الاعتبار إنما يأتي في إطار الفهم المختلف لبولس لليهود والإنسان والعالم ودَوْر الدين. وعليه لا يمكن للمسيح ـ في عقيدة بولس ـ أن يكون نبياً أو ملاكاً نزل من قِبَل الله، وإنما هو كائنٌ إلهيّ وابنُ الله، وإنه خالق الكون، والعلّة الفاعلية لوجود الأشياء. وقد نزل إلى الأرض، وتجسَّد في شخص عيسى، واتَّخذ شكل إنسان، وتقبَّل المصائب، وتحمَّل الكثير من العذاب، وجعل من نفسه ضحيةً بريئة؛ ليشتري بذلك ذنوب البشر. تمثِّل التضحية بالمسيح تجلِّياً للعدالة والعشق الإلهي، الأمر الذي قرّب الإنسان من الله، وأعاد علاقته به. لقد تمّ صلب المسيح على يد قوى الشرّ، ولكنه بواسطة الصليب انتصر عليها. كما قد انتصر على الموت أيضاً، وعاد إلى الحياة ثانيةً، ليحصل عند الأب على مكانةٍ ومنزلة أكبر من التي حصل عليها سابقاً. وعليه فإن الاعتقاد بصلب عيسى، الذي كان شائعاً بين تلاميذه وحوارييه بوصفه فاجعةً، كان من وجهة نظر بولس ضرورةً إلهية لإنقاذ الإنسان والخلق، فهو يرى أن موت عيسى قد شكَّل منعطفاً تاريخياً، ومثَّل ذروة المشيئة الإلهية.

فلْنَرَ الآن ما هي الكاريزما والسلوك الذي يتمتَّع به المسيح من وجهة نظر بولس؟

يمثِّل المسيح ـ في المنظومة الكلامية لبولس ـ نقطة الارتكاز والالتقاء لجميع الموضوعات والمسائل، بمعنى أن جميع الأمور في عقيدة القديس بولس ترتكز على عيسى المسيح، حتّى إذا حذفنا المسيح من هذه المنظومة الكلامية فسوف تنهار بجميع تفاصيلها. وفي الأساس فإن ما يعتبره بولس إنجيله هو نجاة جميع البشر بواسطة المسيح وفي المسيح. وإن جميع كلمات بولس ـ تقريباً ـ تتحدَّث عن المسيح ودوره بوصفه منقذاً.

ويمكن لنا أن نرصد صورة المسيح في كلمات بولس على نحوين: المسيح في وجوده السابق؛ والمسيح في وجوده التاريخي.

وفي البدء سنعمل على بيان شخصية المسيح في وجوده السابق. فقد كان الله راغباً ـ من وجهة نظر بولس ـ أن يتَّصف المسيح بالألوهية الكاملة. فهو مشتملٌ على جميع الصفات الإلهية، وهو صورة ومظهر الإله المستتر([49]). إن المسيح هو مظهر قدرة وحكمة الله([50]). إنه غير محدودٍ؛ لأن جميع الألوهية قد حلَّتْ فيه([51]). إلاّ أن هذه الألوهية الكاملة لا تؤدّي إلى أن يكون هو والإله الأب شيئاً واحداً، أو أن يكون معه في مرتبةٍ واحدة. فهو منفصلٌ عن الله بشكلٍ كامل، ويقتفي أثره([52]). إن المسيح هو ابنُ الله([53]). يطلق بولس أحياناً مصطلح أبناء الله على جميع الناس. ومرادُه من ذلك المؤمنون المعرضون عن الذنوب، من الذين اتجهوا إلى الله بواسطة المسيح. إن المؤمنين لا يتَّصفون بالألوهية أبداً، ولا يمكن أن يكونوا أبناء حقيقيين لله. وإنما هذا الكلام من بولس هو مجرّد بيانٍ تمثيلي؛ لتوضيح الخروج من الذنوب، والاتحاد الروحاني مع الله. وأما عندما يتحدَّث عن بنوّة المسيح لله فهو يريد بذلك أنه ابنُ الله الخاصّ، وأنه يتَّصف بالألوهية، وأن له وجوداً سابقاً. فقد كان المسيح قبل جميع الأشياء، وقبل جميع العصور، وهو أوّل مولودٍ بالنسبة إلى جميع الكائنات([54])، وهو أفضل منها جميعاً، وهو أعلى من كلّ أنواع السلطة والاقتدار والقدرة والمَلَكية وأيّ منصبٍ أو مقام آخر في هذه الدنيا والدنيا الآتية([55]). إنه الإله (الربّ) الأوحد، ويتمتع بالقدرة الكاملة، وخالق كلّ شيءٍ في السماء والأرض، وكلّ ما يُرى وما لا يُرى، وقد خلق كلّ شيء بواسطته، ومن أجله، وهو حافظُ الكون، وكلّ شيء ينتظم بأمره([56]). ويُدعى إلى المسيح كما يدعى إلى الأب([57])، وإنّ كل الكائنات في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض تجثو على ركبها عند سماع اسمه([58])، وهو منشأ الثواب والفيض والسكينة والفضيلة والنجاة، التي لا يمكن لأحدٍ أن يهبها أو يمنحها إلى أحدٍ غير الله([59]). إنه الله الكبير، ومنقذ البشر([60])، والذي ابتاع الكنيسة بدمائه([61]).

ولكنّ المسيح في الوقت نفسه شخصيةٌ عاشت في صلب التاريخ، حيث ولد من سيّدةٍ عذراء، ليصلب بعد مرحلة من الزمن قضاها في الحياة بين الناس. إن بولس لا يبيِّن طريقة تأنسن المسيح، وكيفية تقبُّل الذات الإلهية تقمُّص الجسد الفاني والمخلوق، فكان لا بُدَّ من الانتظار حتّى القرن الخامس الميلادي؛ كي يتصدّى المتكلِّمون المسيحيون، بعد دراساتٍ طويلة حول ألوهية المسيح وروح القدس، لبيان وتوضيح كيفية اتّحاد الجوهر الإلهي والجوهر الإنساني في عيسى المسيح. وعلى أيّ حال فإن بولس يصرِّح بوضوحٍ أن الألوهية قد تجسَّدت في المسيح([62]). فهو على الرغم من ألوهيته لم يشأ أن يتساوى مع الله، ولذلك تجسَّد بصورةٍ إنسانية([63])، فصار واسطةً بين الله والإنسان([64]). فالمسيح هو الإنسان الثاني([65]). إن آدم الأوّل قد خلق من ترابٍ، ثمّ صار دنيوياً؛ وأما آدم الثاني فقد جاء من السماء مباشرةً. ومن هنا كان الدنيويون شبيهين بالترابي، الذي هو آدم، وأما السماويون فهم يشبهون الذي جاء من السماء، وهو المسيح([66]). فهو بحَسَب الظاهر إنسانٌ من نسل بني إسرائيل([67])، وهو من الناحية الجسدية ينحدر من صلب داوود([68]). فهو مثل جميع الناس وُلد من امرأة([69]). وهو على الرغم من كونه إنساناً، وامتلاكه جسداً، مثل الآخرين، ولكنّه كان مبرّأً من الذنوب، ولم يقارب المعاصي، ولم يتلوَّث بها([70]). ومع ذلك كلِّه فإذا كان الله قد أرسله بجسدٍ مفعم بالذنوب فما ذلك إلاّ من أجل التضحية به؛ لكي يشجب بذلك المعاصي والذنوب([71]).

وعليه فإن بولس ـ كما تقدَّم أن ذكرنا ـ يرى أن المعاصي قد أحاطت بالعالم، وأصبح الإنسان مذنباً، ولم يَعُدْ بمقدوره لوحده، ومن دون عَوْنٍ من الله، أن يطهِّر ذاته من المعاصي، ويغدو قادراً على التعالي. إن الله؛ لشدّة لطفه ورحمته، أرسل ابنه الوحيد ليُرْفَع فوق الصليب ويُضَحَّى به؛ ليخلِّص الناس من عبودية الذنوب. إن التضحية بالمسيح، ورفعه على الصليب، يمثِّل أعلى مظاهر الرحمة والعدالة الإلهية وحبّ الله لمخلوقاته. إن المسيح المصلوب هو الحامل للخير المطلق الذي بشَّر به كتاب التوراة وأنبياء بني إسرائيل([72]). إن الموت على الصليب هو الذي وجد فيه اليهود فضيحةً، وكان من وجهة نظر الإغريق جنوناً([73]). وقد مثَّل ذلك بداية مرحلةٍ وعصر جديد في تاريخ العالم والإنسان، وهي مرحلة تصالح العالم مع الله([74]). وبذلك تبدأ مرحلة حرّية الإنسان([75]). إن صلب المسيح يمثِّل انتصاراً على جميع القوى الشيطانية العالمية والسماوية([76]). لقد اقترف الجميع المعاصي، وحُرِموا من جلال الله. ومن خلال الإيمان بالدماء التي سالت من السيد المسيح تطهَّر الناس من الذنوب، وغفر الله ذنوبهم، وتخلَّصوا من غضبه ونقمته. إن الناس الذين كانوا أعداء لله أصبحوا؛ بسبب موت ابنه، متصالحين مع الله([77]). إن عشق المسيح يعبِّر عن «شخصٍ واحد مات من أجل الجميع، وهذا يعني أن الجميع ماتوا». إن الذين يتَّحدون مع السيد المسيح يشاركونه في موته أيضاً، وبذلك تتمّ التضحية بهم معه. لقد مات المسيح كي لا يعيش الأحياء من أجل أنفسهم؛ وإنما لكي يحيون من أجل الذي مات من أجلهم، وعاد إلى الحياة ثانيةً ليحصلوا على حياةٍ جديدة من خلال الاتحاد به والحياة معه. إن المؤمنين يشاركون المسيح في الحياة، ويتطهَّرون، ويحصلون على جلال الله([78]). في الاتحاد مع موت المسيح يكون المؤمنون قد تعمَّدوا، ودفنوا في التعميد معه، وأصبحوا شركاء معه في موته؛ ليتمكَّنوا من العيش في الحياة الجديدة بقدرة الله، كما عاد المسيح إلى الحياة بعد الموت بقدرته([79]). في ما يتعلَّق بالتضحية بالمسيح وسفك دمه يجب الالتفات إلى هذه المسألة الجوهرية، وهي أن اليهود كانوا يرَوْن للتضحية بالمسيح دوراً مهمّاً جداً. فبالتضحية وسفك الدم يتمّ الصفح عن الذنوب. لقد وجّه آدم بعمله إساءةً عظيمة إلى الله، وبذلك كان ذنبه عظيماً جدّاً. وعليه يجب أن تكون التضحية مساويةً للذنب في العظمة. إن المعصية عالمية، وعليه كان يتعيَّن على الكائن الإلهي أن يسفك دمه؛ لكي يتمّ محو هذه المعصية العظيمة من ساحة الإنسانية. وهل يمكن أن يكون هناك ما هو أعظم من التضحية بابن الله الوحيد؟! صحيحٌ أن المسيح قد صُلب بواسطة القوى الشيطانية، ولكنّه انتصر على تلك القوى بواسطة الصليب.

يرى بولس أن بالإمكان إدراك الإيمان بشريعة اليهود، بمعنى أن الإيمان للخلاص من المعصية يمثِّل النقطة المقابلة للعمل بالشريعة من أجل الحصول على مرضاة الله. وكما تقدَّم فإن رعاية الشريعة من وجهة نظر بولس بمنزلة الركون إلى الدنيا. ولا يمكن للشريعة أن تحدث علاقةً عاطفية بين الله والإنسان. إن الشريعة تقدِّم الإنسان بوصفه كائناً ضعيفاً، وهي لا تمحو الذنب، بل ـ رغم كونها ليست ذات الذنب ـ تجلِّيه وتعرِّفه([80]). ويمكن للشريعة أن تكون وسيلةً لاقتراف الذنوب، وزيادتها، ودفع الإنسان نحوها. وبعد ظهور المسيح وصلبه لا يبقى هناك جدوى من الشريعة. يرى بولس أن المسيح غاية ومنتهى الشريعة، وأن كلّ مَنْ يؤمن به سيصبح طاهراً وصالحاً([81]). إذن فالإيمان بالمسيح ورسالته وسلوكه هو الذي ينجي، وليس العمل بالشرائع ذات الآلية الدنيوية. وعليه فإن بولس لا يرى الإيمان عملاً دنيوياً، بل هو خلاصٌ وتحرُّر من الدنيا وكلّ ما يتعلق بها. إن الإيمان يعني التحرُّر من الأنا الإنسانية، ومن العقل والقدرة الدنيوية. وفي الوقت الذي تكون الشريعة أمراً عينياً وخارجياً مرتبطاً بالأرض نجد الإيمان أمراً داخلياً وروحانياً مرتبطاً بالسماء. إن الإيمان فعلٌ فجائي ودفعي، ولا يتبع مساراً خاصّاً يحصل عليه الإنسان بالتدريج، كما هو الحال بالنسبة إلى العمل بالشريعة. إن الإيمان انجذابةٌ نحو الواقعية الخفية الخالدة([82]). إن الإيمان هو العبودية للسيد المسيح، وردّة فعل يقوم بها الإنسان تجاه العشق الإلهي الذي تجلّى على المسيح([83]). إن الإيمان يعني أن يصلب المرء مع المسيح، ويحيا معه([84]). إن الحياة في المسيح حياةٌ روحانية، وحياةٌ في روح الله، وحياةٌ في الإنسانية الجديدة، وقد ورد في الإنجيل: «لأن روح الله يسكن فيكم، ومَنْ لا يكون له روح المسيح فما هو من المسيح؟! وإذا كان المسيح فيكم وأجسادكم ستموت؛ بسبب الخطيئة، فالروح حياة لكم؛ لأن الله برَّركم. وإذا كان روح الله الذي أقام يسوع من بين الأموات يسكن فيكم فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يبعث الحياة في أجسادكم الفانية؛ بروحه الذي يسكن فيكم»([85]). فإذا كان المؤمن في روح الله، وكان روح الله منشأً للحياة فيه، سيكون هادياً له أيضاً([86]). إن روح الله واهبُ الإرادة، والهادي إلى الحياة، وإن روح القدس يمنح الفرح والأمل([87])، والمحبّة، والسعادة، والهدوء، والصبر، والرحمة، وحبّ الخير، والوفاء، والخضوع، والتواضع. «والذين هم للمسيح يسوع صلبوا جسدهم بكلّ ما فيه من أهواءٍ وشهوات»([88]).

إن الإيمان بالمسيح يمثِّل الدخول إلى الكنيسة. والكنيسة (باليونانية: ekkiesia) هي مجمع المؤمنين. يطلق بولس على هذا التجمُّع اسم الكنيسة([89])، أو كنيسة الله([90]). إن الكنيسة هي جسد المسيح، وهو رأسها ومنشؤها([91]). وكلّ مؤمنٍ، سواء أكان عبداً أم حراً، وسواء أكان يهودياً أم إغريقياً، هو حالٌّ في هذا الجسد، وهو مفعمٌ بالروح([92]). وعليه فإن الكنيسة مجتمعٌ تشكل في المسيح، وإن للروح القدس حضوراً متواصلاً فيه.

إن النجاة والفداء التامّ في آخر الزمان إنما يحدث عندما يظهر المسيح ثانية، عندها سيحصل المنتجبون في يوم البعث على أجساد روحانية. ولكنْ حتى ذلك الحين سيحصل المؤمنون الذين نجوا بلطف الله والإيمان على الحياة الأبدية فيه، من خلال الالتحاق بالكنيسة، التي هي جسد المسيح، وسوف يقيمون معه رابطة عرفانية أبدية([93]). لقد تُرك بنو إسرائيل لأنفسهم مؤقَّتاً، وحان الوقت إلى انتقال ميراثهم إلى بني إسرائيل الجدد، الذي يؤلِّفون المجتمع العالمي المؤمن. إن أفراد هذا المجتمع ينحدرون من غير اليهود بشكلٍ خاصّ، والمتوقَّع من اليهود أن يلتحقوا بهذا المجتمع في آخر الزمان. إن الكتاب المقدَّس ـ المشتمل على الوصايا والإرشادات الإلهية ـ يتمّ تفسيره بنور النجاة الذي جاء به المسيح، ويحافظ على جميع قِيَمه. لم يَعُدْ الكتاب المقدَّس تراثاً لشعبٍ، بل هو قانونٌ ودستور للمجتمع العالمي المسيحي، الذي لا فرق فيه بين اليهودي وغير اليهودي، ولا بين المختون وغير المختون، ولا بين العبد والحُرّ، بل المسيح الذي هو كلّ شيء، وفي كل شيء([94]).

 

الهوامش

(*) أستاذ الفلسفة في جامعة طهران. له مصنَّفاتٌ عدّة في مجال الأديان وفلسفة القرون الوسطى.

([1]) انظر: الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثالث، الفقرة 5.

([2]) انظر: الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثالث، الفقرة 6؛ الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الأول، الفقرة 13.

([3]) لقد تمّ التشكيك أو القطع بنسبة بعض هذه الرسائل إلى بولس. فقد ذهب جميع المحقِّقين في كتاب العهد الجديد وتاريخ الكنيسة القديمة إلى القول بأن الرسالة إلى العبرانيين ليست لبولس. وهناك الكثير من المحقّقين الذين يرَوْن أن بولس لم يكن هو كاتب الرسالة الأولى والثانية إلى تيموثاؤس، ولم يكن هو كاتب الرسالة إلى تيطس أيضاً. وهناك مَنْ لا يراه كاتب الرسالة الأولى إلى أهل كولوسي، والرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي. في حين ينسب له أكثر المحقّقين الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي. وفي المقابل ليس هناك مَنْ يشكّ في أن بولس هو الذي كتب الرسالة إلى أهل روما، والرسالة الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة إلى أهل فليمون. يذهب الناقدون إلى الاعتقاد بأن تلاميذ بولس أو أتباعه هم الذين كتبوا هذه الرسائل، مستعينين بأفكاره على نحوٍ مباشر. للمزيد من التوضيح انظر:

Cullmann, O., “Le Nouveau Testament”, Paris, 1979, pp. 49 – 89.

وإذا ما استثنينا الرسالة إلى العبرانيين فإننا في هذا المقال اعتبرنا جميع هذه الرسائل من كتابة بولس؛ إذ ليس قصدنا في هذا المقال إثبات نسبة جميع هذه الرسائل أو بعضها إلى بولس، بل المراد هو التعريف بآراء وأفكار بولس بوصفه المؤسِّس للكلام المسيحي، وهو الفكر الذي أسهمت هذه الرسائل في بلورته التاريخية.

([4]) يمكن العثور على قصة هذا الخلاف في رسالة أعمال الرسل ورسائل بولس في العهد الجديد.

([5]) العهد الجديد، أعمال الرسل، الإصحاح الخامس عشر، الفقرة 28 ـ 29.

([6]) Epictetus.

([7]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الأول، الفقرة 24.

([8]) العهد الجديد، كورنثوس الأولى، الإصحاح الثامن، الفقرة 4 ـ 6.

([9]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح العاشر، الفقرة 20 ـ 21.

([10]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح العاشر، الفقرة 26.

([11]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الحادي عشر، الفقرة 36.

([12]) انظر: العهد الجديد، كورنثوس الأولى، الإصحاح الخامس عشر، الفقرة 27 ـ 28.

([13]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح السابع، الفقرة 18.

([14]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الثالث، الفقرة 26؛ رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الثامن، الفقرة 14 ـ 17.

([15]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الثاني عشر، الفقرة 5.

([16]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الأول، الفقرة 20.

([17]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الثامن، الفقرة 18 ـ 22.

([18]) انظر: العهد الجديد، كورنثوس الأولى، الإصحاح الحادي عشر، الفقرة 7.

([19]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الخامس، الفقرة 12 ـ 14.

([20]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الأول، الفقرة 11 ـ 12.

([21]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الثاني، الفقرة 8.

([22]) انظر: كورنثوس الأولى، الإصحاح الأول، الفقرة 20 ـ 25.

([23]) انظر: الرسالة إلى أهل أفسس، الإصحاح الرابع، الفقرة 13؛ الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثالث، الفقرة 8؛ الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 10.

([24]) انظر: كورنثوس الأولى، الإصحاح السابع، الفقرة 21 ـ 23.

([25]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الثالث، الفقرة 3 ـ 21.

([26]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الثالث، الفقرة 22 ـ 23.

([27]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الخامس، الفقرة 12.

([28]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح السادس، الفقرة 17؛ والإصحاح الرابع عشر، الفقرة 7.

([29]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح السابع، الفقرة 25؛ والإصحاح الثامن، الفقرة 2.

([30]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح السابع، الفقرة 8.

([31]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الخامس، الفقرة 12.

([32]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح السابع، الفقرة 17.

([33]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح السابع، الفقرة 22 ـ 24.

([34]) مرقيون السينوبي (Marcion of Sinope)(85 ـ 160م): هو ابن أسقف سينوب في إقليم البنطس (على شاطئ البحر الأسود). تأثَّر بالأفكار الغنوصية بعد أن أصبح غنياً؛ فحرمه والده من الكنيسة؛ فخرج يطوف في البلدان، ونشر تعاليمه، وتجمّع حوله الكثير من الأتباع؛ فكانت كنيسته الغنوصية أكثر عدداً من جميع الكنائس الغنوصية السورية. ثم صاغ مذهباً مميّزاً، أدّى إلى إلقاء الحرمان عليه من قبل كنيسة روما في تموز سنة 144م، وهو التاريخ التقليدي لتأسيس الكنيسة المرقونية. وبعد تكفيره من قبل الكنيسة عاد إلى آسيا الصغرى، وبقي فيها ينشر تعاليم فرقته إلى آخر حياته، حيث وافته المنية سنة 160م. وقد واصلت فرقته حياتها، وكان لها وجودٌ متمثِّل بكنائسها في سوريا حتّى القرن الخامس الميلادي. المعرّب.

([35]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الخامس، الفقرة 12.

([36]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الخامس، الفقرة 12 ـ 21.

([37]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الأول، الفقرة 20 ـ 32.

([38]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الرابع، الفقرة 3 ـ 9.

([39]) انظر: الرسالة الأولى إلى تيموثاوس، الإصحاح الثاني، الفقرة 4.

([40]) انظر: رسالة إلى أهل رومية.

([41]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الثالث، الفقرة 24.

([42]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الرابع، الفقرة 1 ـ 5.

([43]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الخامس، الفقرة 20.

([44]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الثالث، الفقرة 10 ـ 11.

([45]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الرابع، الفقرة 15.

([46]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الخامس، الفقرة 20.

([47]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الرابع، الفقرة 3 ـ 5.

([48]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الثالث، الفقرة 19 ـ 29.

([49]) انظر: الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الرابع، الفقرة 4؛ الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 15.

([50]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول، الفقرة 24.

([51]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الثاني، الفقرة 9.

([52]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثالث، الفقرة 23؛ والإصحاح الحادي عشر، الفقرة 3.

([53]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الثامن، الفقرة 3؛ الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول، الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 13؛ الرسالة إلى أهل أفسس، الإصحاح الأول، الفقرة 6.

([54]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 17 ـ 19.

([55]) انظر: الرسالة إلى أهل أفسس، الإصحاح الأول، الفقرة 21.

([56]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 16 ـ 17؛ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثامن، الفقرة 6.

([57]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول، الفقرة 2.

([58]) انظر: الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثاني، الفقرة 10.

([59]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الأول، الفقرة 7؛ والإصحاح السادس عشر، الفقرة 20؛ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول، الفقرة 3؛ والإصحاح السادس عشر، الفقرة 23.

([60]) انظر: الرسالة الأولى إلى تيطس، الإصحاح الثاني، الفقرة 13.

([61]) انظر: أعمال الرسل، الإصحاح العشرون، الفقرة 28.

([62]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الثاني، الفقرة 9.

([63]) انظر: الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثاني، الفقرة 6 ـ 7.

([64]) انظر: الرسالة الأولى إلى تيموثاوس، الإصحاح الثاني، الفقرة 5.

([65]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الخامس، الفقرة 15.

([66]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الخامس عشر، الفقرة 45 ـ 49.

([67]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح التاسع، الفقرة 5؛ الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الثالث، الفقرة 16.

([68]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الأول، الفقرة 3.

([69]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الرابع، الفقرة 4.

([70]) انظر: الرسالة الثانية إلى كورنثوس، الإصحاح الخامس، الفقرة 21.

([71]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الثامن، الفقرة 3.

([72]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الثالث، الفقرة 21.

([73]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول، الفقرة 23.

([74]) انظر: الرسالة الثانية إلى كورنثوس، الإصحاح الخامس، الفقرة 19.

([75]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول، الفقرة 30.

([76]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الثاني، الفقرة 8؛ الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الثاني، الفقرة 15.

([77]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الخامس، الفقرة 9 ـ 10.

([78]) انظر: الرسالة الثانية إلى كورنثوس، الإصحاح الخامس، الفقرة 14 ـ 17.

([79]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح السادس، الفقرة 3 ـ 5.

([80]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح السابع، الفقرة 7.

([81]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح العاشر، الفقرة 4.

([82]) انظر: الرسالة الثانية إلى كورنثوس، الإصحاح الرابعة، الفقرة 18.

([83]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الأول، الفقرة 5 ـ 8.

([84]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الثاني، الفقرة 20.

([85]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الثامن، الفقرة 9 ـ 11.

([86]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الخامس، الفقرة 25.

([87]) انظر: رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح الخامس عشر، الفقرة 13.

([88]) انظر: الرسالة إلى أهل غلاطية، الإصحاح الخامس، الفقرة 22 ـ 23.

([89]) انظر: الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثالث، الفقرة 6.

([90]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الخامس عشر، الفقرة 9.

([91]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 18.

([92]) انظر: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثاني عشر، الفقرة 13.

([93]) انظر: الرسالة إلى أهل كولوسي، الإصحاح الأول، الفقرة 18 ـ 25.

([94]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح الثالث، الفقرة 11.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً