أحدث المقالات

د. الشيخ حسن آقا نظري(*)

أ. باقر جاسم المبرقع(**)

 

مقدّمة

يعتبر الاستهلاك أحد أهم مكونات الطلب الإجمالي في الاقتصاد، ودراسته مهمة؛ لدَوْره في التأثير على الناتج الكلي والعمالة. كما تنبع أهمّيته أيضاً من علاقته بالادخار، فالجزء الذي لا يستهلك من الدَّخْل يُدَّخر، وهذا بدَوْره يكون متاحاً للاستثمار، الذي يعتبر قوةً دافعة نحو النمو الاقتصادي.

وإذا نظرنا إلى الزكاة على أنها جزءٌ يقتطع من دَخْل المكلَّف القابل للإنفاق فلا شَكَّ في أن لها أثراً هاماً في تخصيص الدَّخْل الصافي بين الاستهلاك والادّخار. وهذا ما دفع عدداً من الباحثين في مجال الاقتصاد الإسلامي نحو دراسة علاقة الزكاة بالاستهلاك الكلّي([1]).

تشير أدبيات الاقتصاد الإسلامي المعاصرة إلى تعدُّد الدراسات التي حاولت التعرُّف على أثر الزكاة في الاستهلاك الكلّي.

واستخدم عددٌ من هذه الدراسات أسلوب التحليل الرياضي، ونماذج التحليل الكلي. ومع أن بعض الباحثين حاولوا صياغة نظرية للاستهلاك ضمن إطار إسلامي، إلاّ أن معظمهم استندوا إلى الإطار الذي وضعه (كينز) ـ نظرية الدَّخْل المطلق ـ، حيث يعتبر الاستهلاك معتمداً على الدَّخْل الجاري القابل للإنفاق، ثم قاموا بتتبُّع أثر بعض المتغيرات الإسلامية على الاستهلاك، مثل: إيتاء الزكاة؛ واستبعاد الإسراف.

وبالنسبة إلى الزكاة مع أن عدداً من الباحثين تنبّهوا إلى أن بعض مستحقي الزكاة يمكن أن يكونوا من الأغنياء، إلاّ أنه عند صياغة دالة الاستهلاك لدراسة أثر الزكاة تمّ تقسيم المجتمع إلى مجموعتين؛ بحيث تقوم المجموعة الأولى، وهم دافعو الزكاة (الأغنياء، مالكو النصاب)، بتحويل جزء من دَخْلهم (الزكاة) إلى المجموعة الثانية، وهم مستحقو الزكاة. كما افترضوا أن المجموعة الثانية تتألف في معظمها من الفقراء، ولذلك قاموا بتمثيل الأصناف الثمانية المستحقّة للزكاة بفئةٍ واحدة، لها نفس الميل الحدّي للاستهلاك، الذي اعتبر أكبر من الميل الحدّي للاستهلاك عند الأغنياء دافعي الزكاة، وتوصَّل بعضهم إلى أنه في الاقتصاد الإسلامي يكون كلٌّ من الميل الحدّي (والمتوسط) للاستهلاك، وكذلك الاستهلاك الكلي، أعلى مما هو عليه في الاقتصاد الوضعي. ويعتبر الميل الحدّي لاستهلاك دافعي الزكاة أقل منه عند مستلميها، وأنه يوجد دائماً في البلد الإسلامي عددٌ كافٍ من الناس الذين يستحقون الزكاة، وأن فرض الزكاة على الدخول الصافية للأغنياء يؤدّي إلى إنقاص استهلاكهم من السلع الكمالية بنسبةٍ معينة تعتمد على ميلهم الحدّي للاستهلاك، وأن تحويل الزكاة إلى المستحقين يؤدّي إلى زيادة دَخْل كلّ صنفٍ منهم بمقدار نصيبهم من الزكاة، ومن ثم زيادة استهلاكهم، اعتماداً على الكيفية التي حددت للتصرُّف بالزكاة([2]).

مباحث تمهيدية على الاستهلاك ودالته

1ـ الاستهلاك في المحاسبة الوطنية

ينقسم إلى: استهلاك إنتاجي أو وسيط؛ واستهلاك نهائي.

الأوّل: الاستهلاك الإنتاجي أو الوسيط

يعرف الاستهلاك الوسيط (الإنتاجي) على أنه عبارةٌ عن مجموع السلع (من غير سلع التجهيز) والخدمات الإنتاجية المنتجة أو المستوردة، المستخدمة من قبل وحدات الإنتاج أثناء عملية الإنتاج في الفترة محلّ الدراسة، بحيث لا يتضمن الاستهلاك الوسيط الخدمات غير الإنتاجية التي لا تستهلك، كما لا يتضمّن الاستهلاك الوسيط هلاك أو تناقص قيمة السلع التجهيزية (أثناء عملية الإنتاج)، الذي يعتبر استهلاكاً للأصول الثابتة أو تلفاً([3]).

الثاني: الاستهلاك النهائي

وهو عبارةٌ عن إجمالي السلع والخدمات الإنتاجية المستخدمة للإشباع المباشر والآني لحاجات الأعوان غير الإنتاجية المقيمة. ويقيَّم الاستهلاك النهائي بسعر الحصول، بما فيها الرسم الوحيد الإجمالي والرسوم والحقوق على الواردات بالنسبة إلى المنتجات المحصَّلة من السوق([4]).

2ـ تعريف دالة الاستهلاك

دالة الاستهلاك هي عبارةٌ عن دراسة العلاقة الموجودة بين الدَّخْل والاستهلاك على مستوى الاقتصاد الكلّي.

تتكوّن دالة الاستهلاك من جزءين:

الجزء الأول: الاستهلاك الثابت أو التلقائي

وهو الجزء الثابت الذي لا يتبدّل مع تغيير الدَّخْل، ويكون دائماً موجباً، حتّى وإنْ كان الدَّخْل المتاح للشخص مساوياً للصفر، ويرمز بحرف (a).

الجزء الثاني: الاستهلاك التبعي

وهذا الجزء يكون معتمداً على المستوى المتاح لدَخْل الشخص، ويرمز بحرف (bY).

وبهذا، يمكن كتابة دالة الاستهلاك بالصورة التالية:

C = a + bY

 

3ـ الإنفاق الاستهلاكي

ويشمل هذا الإنفاق كل المبالغ التي قام الأفراد باقتطاعها عند مستويات الدَّخْل المختلفة (الدَّخْل المتاح للتصرف)؛ لغرض إنفاقها على شراء السلع والخدمات الاستهلاكية. ويقوم الأفراد عادةً بالإنفاق على:

أـ السلع المعمرة

وهي السلع التي يتمّ استخدامها لفترةٍ طويلة من الزمن، مثل: (الثلاجات والغسالات والأثاث…، إلخ).

ب ـ السلع نصف المعمرة

وهي السلع التي يتمّ استعمالها أكثر من مرّة واحدة، ولكنْ ليس لفتراتٍ طويلة من الزمن، مثل: (أدوات التنظيف، والقرطاسية…، إلخ).

ج ـ السلع غير المعمرة

وهي السلع التي يتمّ استعمالها لمرّة واحدة فقط، مثل: (الوقود). ويعتمد هذا الإنفاق الاستهلاكي على مجموعة من العوامل، والتي اعتبرت كمؤشّرات تؤثّر على الميل الحدّي للاستهلاك، وبالتالي على قيمة الاستهلاك. ومن أهم هذه العوامل:

1ـ العوامل الشخصية

قام كينز بتحديد بعض العوامل لجعلها عوامل شخصية، كالكهرباء، والبخل، والبذخ، والاحتياط، وبُعْد النظر، والضغط الاجتماعي، والتوقّعات.

2ـ كيفية توزيع الدَّخْل

هو جعل نسبة من الدَّخْل الممكن التصرُّف به، والتي سيستخدمها الفرد للإنفاق الاستهلاكي، تتوقف جزئياً على حجم دَخْله.

3ـ حجم الأصول السائلة

الأصول السائلة هي النقود والودائع الجارية، وأيّ أصول أخرى يمكن أن تتحول إلى نقود، مثل: (السندات، الودائع الادّخارية).

4ـ الائتمان الاستهلاكي

ويقصد به البيع بالتقسيط، الذي يسمح للفرد بالشراء أو الاستهلاك بنسبةٍ أكبر مما يسمح له دَخْله، مثل: (شراء الثلاجات أو الأجهزة الكهربائية بالتقسيط).

5ـ رصيد السلع المعمرة

إن حيازة مثل هذه السلع تخفض رغبة الفرد في شراء سلع إضافية منها طالما أنه يمتلكها، لكنّها توسّع من إنفاق الفرد على مشتريات السلع غير المعمرة، مثل: (حيازة السيارات تحفز على شراء البنزين، وحيازة جهاز التلفزيون يحفّز على زيادة كمية استهلاك الكهرباء، وهكذا).

6ـ توازن المستهلك

إن الإنسان خلال سعيه للوصول إلى أكبر قدر من الإشباع من خلال دَخْله المتاح هو يسعى في الحقيقة إلى حالة التوازن بين هذا الدَّخْل والإشباع. وعلى ضوئه يعرف التوازن بأنه تحقيق أقصى إشباع ممكن ضمن حدود الدَّخْل.

4ـ الاستهلاك و المتغيِّرات الاقتصادية

العلاقة بين الاستهلاك والدَّخْل

أـ قوانين أنجل

من خلال العديد من الدراسات الإحصائية حول الاستهلاك يوجد ثلاثة أنواع من المستقيمات ترتبط بثلاث فئات من السلع الاستهلاكية. وتعرف هذه المستقيمات بمستقيمات أنجل (Droite d’Engel)، أو قوانين أنجل، وهي([5]):

القانون الأول لأنجل: يقرّ بأنه تحت ظروف محدّدة فإن الزيادة في الدَّخْل الوطني تؤدي إلى زيادة الإنفاق على المواد الغذائية (بالكمّيات)، لكنّها تتناقص كنسبةٍ منه (أي من الدَّخْل).

القانون الثاني لأنجل: يؤكّد على أنه في ظروف معينة كذلك يؤدّي ارتفاع الدَّخْل الوطني إلى زيادة الإنفاق على الترفيه والتعليم. ليس فقط بالكمّيات، وإنما أيضاً كنسبة من الدَّخْل الوطني.

القانون الثالث لأنجل: يقرّ بأن ارتفاع الدَّخْل الوطني يؤدّي إلى زيادة الإنفاق على السكن واللباس، ليس فقط بالكميات، لكنْ بشكلٍ كبير جدّاً في النسبة التي تساوي نسبة الزيادة في الدَّخْل الوطني.

ب ـ مرونة الطلب الدَّخْلية([6])

نقصد بها مدى استجابة الكمية المطلوبة من سلعةٍ معينة للتغير في دَخْل المستهلك. و يمكن حسابها من خلال العلاقة التالية:

مرونة الطلب الدَّخْلية = النسبة المئوية للتغير في الكمية المطلوبة / النسبة المئوية للتغير في الدَّخْل.

 يمكن التطرّق لمرونة الطلب الدَّخْلية لكل نوع (فئة) من النفقات التالية:

1ـ الإنفاق على المواد الغذائية

العلاقة أقل من الواحد الصحيح، إذا زاد الدَّخْل بـ 1% فإن الإنفاق على الغذاء يزداد بأقلّ من 1%، مهما يكن مستوى الدَّخْل الجديد.

2ـ الإنفاق على السكن واللباس

العلاقة (مرونة الطلب الدَّخْلية) هي حوالي الواحد الصحيح. وهذا يعني أنه إذا زاد الدَّخْل بـ 1% فإن الإنفاق عليها يزداد بنسبة 1%.

3ـ الإنفاق على الترفيه والتعليم والنقل والصحة

إن المرونة هنا أكبر من الواحد الصحيح، أي زياد الدَّخْل بـ 1% يؤدّي إلى زيادة الإنفاق على الترفيه والتعليم… بنسبة أكبر من 1%. وقد أثّرت السياسة المالية (التخفيضات الضريبية) على الاستهلاك.

ج ـ المتغيرات الأخرى وتأثيرها على الاستهلاك

يلعب الدَّخْل، كما هو معروفٌ، الدَّوْر الأساس في تحديد الاستهلاك، إلاّ أن هناك عوامل أخرى في تحديد الاستهلاك أيضاً. وفي الفقرة سنتناول أهمّ هذه العوامل:

أـ معدّل الفائدة

إن معدّل الفائدة هو الثمن الذي يدفع للأفراد مقابل التضحية بالاستهلاك الحالي، أو بمعنى آخر: هو عبارةٌ عن المكافآت التي تُعطى للأفراد من أجل الاقتصاد أو الادّخار، وهذا يعني أن الزيادة في معدل الفائدة سيشجع الادّخار.

S = s (Yd . r)

أي إن الادّخار (S) هو دالة تابعة للدَّخْل التصرفي (Yd) والفائدة (r). وبما أن الاستهلاك يساوي، بالتعريف، الفرق بين الدَّخْل والادّخار فعليه تصبح دالة الاستهلاك على النحو التالي:

C = Yd – s (Yd . r) = C (Yd . r)

ومن الواضح أن أي تغير في معدل الفائدة سيؤثِّر بالسلب على الاستهلاك([7]).

ب ـ الثروة

تدخل الثروة في كثير من الأحيان في دالة المستهلك الكلي كمحدّد للاستهلاك. فمثلاً: يرى الاقتصادي الإنجليزي جيمس توبين بأن الزيادة في الثروة تؤدّي إلى زيادة الاستهلاك، مؤدّية بدالة الاستهلاك في المدى القصير إلى الانتقال إلى أعلى. كما أن الثروة تلعب أدواراً متعدّدة في نظرية الدَّخْل الدائم لفريدمان، حيث تدخل الثروة في تعريف الدَّخْل الدائم. وهذا، بالرغم من أنها لا تظهر صراحةً في دالة الاستهلاك لفريدمان (CP = KYP)، إلاّ أنها تدخل ضمنياً في متغير الدَّخْل الدائم.

كما تعتبر الثروة من المحددات الهامة للاستهلاك في نظرية دورة الحياة المقترحة من قبل ألبرت أندو وفرنكو موديغلياني، وعلى ضوء هذه النظرية فإن الاستهلاك الحالي دالة تابعة للدَّخْل الحالي والدَّخْل المتوقَّع والثروة([8]).

ج ـ التوقُّعات لحركات الأسعار

لقد أثبتت الدراسات أن الاستهلاك يمكن أن يتأثَّر إيجاباً أو سلباً بسبب التوقُّعات المستقبلية المتعلقة بالأسعار. فعندما يتوقع الأفراد انخفاض الأسعار في المستقبل؛ لسبب من الأسباب، فإنهم سوف يحجمون عن شراء كلّ حاجاتهم منها، فيحتجزون بذلك جزءاً من الدَّخْل النقدي، الذي ستكون له قدرة شرائية أكثر بعد أن تنخفض الأسعار. أما إذا توقَّع الأفراد ارتفاع أسعار السلع في المستقبل فإن ذلك التوقع سوف يدفعهم إلى شراء أكبر كمية ممكنة من السلع، وبالتالي زيادة الاستهلاك الكلي([9]).

د ـ الأذواق

إن أي تغير في أذواق الأفراد أو رغباتهم سوف يؤثر إيجاباً أو سلباً على الاستهلاك، حسب طبيعة هذا التغير. وأذواق الأفراد ورغباتهم تتأثّر بعوامل عديدة، مثل: العمر؛ تغيُّر المستوى الثقافي والاجتماعي؛ ونشاط وسائل الإعلان والدعاية. وهذه العوامل تلعب دَوْراً كبيراً في التأثير على أذواق الأفراد، وبالتالي التأثير على الاستهلاك، مما يؤدي في النهاية إلى تغييره بالزيادة أو النقصان([10]).

هـ ـ المحاكاة

تبين نظرية دوسنبري، التي اهتمت بتحليل السلوك الاستهلاكي والادّخاري للأفراد، أثر عامل المشاهدة والتقليد في زيادة الاستهلاك وتخفيض الادخار. فإذا كان نمط المعيشة المترفة، كاقتناء السيارات الفاخرة والفيديو و..، يتّخذ نمطاً استهلاكياً فإننا نجد أغلب الأفراد يتطلعون إلى تقليد هذا النمط المعيشي، مما يزيد من استهلاك هؤلاء الأفراد زيادة كبيرة تمتصّ أغلب مدخراتهم([11]). وباختصارٍ إنّ رغبة الأفراد في تقليد الأنماط المعيشية للطبقة التي تحظى بتقدير أفراد المجتمع، وتنعم بمستويات استهلاك مرتفعة، هي التي تدفعهم إلى زيادة الاستهلاك واستنزاف الادخارات.

المقاربات المختلفة المفسرة للاستهلاك

1ـ المقاربات التقليدية

أـ المقاربات الكلاسيكية والنيوكلاسكية

يحتلّ سلوك المستهلك في التحليل الكلاسيكي والنيوكلاسيكي مكانة مهمّة، فالمستهلك في هذا الفكر يفترض أنه عقلاني (رشيد)، ويبحث دائماً عن الأمثلية في توزيع دَخْله، أي تعظيم منفعته.

يرى التقليديون في كل سياسة إنعاش (توسع) استهلاكي أنها مصدرٌ محتمل للتضخُّم، ومن ثم الاختلال الخارجي.

لقد حاول التقليديون الجدد (وخاصّة والراس، جيفونز، منجل…) إيجاد جواب حول الكيفية التي يقوم بها المستهلك بتقسيم دَخْله ـ وذلك عند مستوى دَخْل معين ـ بين مختلف السلع الموجودة في السوق. وقد عرف هذا التيار الفكري بالمدرسة الحدّية([12]).

إن نقطة الانطلاق في التحليل الحدّي هي دالة المنفعة. فبالنسبة للحدّيين إن قيمة الأشياء ترتبط بالمنفعة التي يمكن الحصول عليها من استعمال هذه الأشياء، وليس بتكلفة إنتاجها فقط. مثلاً: لنفرض شراء سلعة اقتصادية، ولتكن الأحذية مثلاً. شخصٌ ليس لديه إلاّ زوج واحد من الأحذية فإن المنفعة الكلية لهذه السلعة (الأحذية) كبيرة جدّاً. إذا قام نفس الشخص بشراء زوجٍ ثانٍ فإن المنفعة الكلية كبيرة، لكن المنفعة الحدّية (أي المنفعة الإضافية للزوج الإضافي من الأحذية) تنخفض. وبنفس الطريقة لو اشترى هذا الشخص الزوج الثالث… فإن المنفعة الحدّية تنخفض أكثر. بهذه الطريقة نصل إلى قانون تناقص المنفعة الحدّية، التي تركز على أن المنفعة الكلية تتزايد مع الكمية المستهلكة من سلعةٍ ما، ولكنّ المنفعة الحدّية تتناقص([13]).

لكنْ إذا رجعنا إلى التحليل الحدّي. فبالنسبة إليهم إن قيمة السلعة تتعلق من جهةٍ بالمنفعة الاقتصادية؛ ومن جهةٍ أخرى بكمية السلعة التي يمكن الحصول عليها (هذه الكمية محدودة بالندرة النسبية لهذه السلعة، التي ترتبط هي الأخرى بالقدرة الإنتاجية للجهاز الإنتاجي)، علماً أن الموارد الاقتصادية في العالم نادرة. المنفعة الحدية ترتبط بالندرة النسبية للسلع، وبالتالي هي التي تحدِّد القيمة. وبعبارةٍ أخرى: كلما كانت المنفعة الكلية ضعيفة (وهي حالة السلع النادرة جدّاً) كلما كانت المنفعة الحدية أكبر، وبالتالي كانت السلعة أغلى. وبالعكس، كلما كانت المنفعة الكلية كبيرة (وهي حالة السلع المتوفرة بكثرة) فمنفعتها الحدّية تكون أقلّ، وبالتالي يكون سعرها أقلّ. هذا التحليل يقوم على مجموعة من الفرضيات، والتي تعرضت لانتقادات شديدة، لعلّ منها ما يلي:

ـ اعتبار منفعة السلع تامة. وهذا غير صحيح في الواقع.

ـ قرارات الشراء لها دوافع، ولا تتمّ بدون دراسة مسبقة.

تفترض المدرسة الحدّية إمكانية اختيار واسعة، على الرغم من أن المهم في الاستهلاك يتعلّق بمجموعة من القيود (وبشكلٍ خاص الدَّخْل)([14]).

ب ـ المقاربة الكينزية (نظرية الدَّخْل المطلق) (The Absolute Income Hypothesis)

تسمّى بنظرية الدَّخْل المطلق؛ للتأكيد على أن قرارات الاستهلاك مبنية على القدر المطلق من الدَّخْل الجاري الذي يحصل عليه الفرد.

القانون السايكولوجي الأساسي

بالنسبة لكينز فإن دالة الاستهلاك تعبر عمّا سمّاه (القانون السايكولوجي الأساسي)، على الميل الوسطي للاستهلاك (APC) وعلى الدَّخْل. كما أن زيادة الاستهلاك المرافقة لزيادة معينة في الدَّخْل تتوقف على الميل الحدّي للاستهلاك (MPC)، وهذا يعني أن التغير في الاستهلاك إما أن يعود إلى تغير الدَّخْل، مع ثبات الميل إلى الاستهلاك؛ وإما أن يعود إلى تغير الميل إلى الاستهلاك، مع ثبات الدَّخْل. ومن المعروف أن الميل إلى الاستهلاك يتوقف على عوامل متعددة، منها: العوامل الذاتية، كالطبيعة الإنسانية، والعادات والتقاليد، وغيرها؛ ومنها: العوامل الموضوعية، كالتغير في مستوى الدَّخْل، والتغيرات غير المتوقعة في قيمة الثروة، والتغيرات في معدلات الفائدة، والسياسة المالية والنقدية للدولة، وغيرها. ولقد لاحظ كينز أن العومل الذاتية لا تتغير إلاّ في المدى الطويل، وبالتالي اعتبرها ثابتة. وهكذا قال بأن الميل إلى الاستهلاك يتغير في المدى القصير بتأثير العوامل الموضوعية فقط. ومن هذا استنتج كينز بأن الميل إلى الاستهلاك ثابتٌ تقريباً في المدى القصير، بمعنى ثبات نسبة ما يخصِّصه المجتمع للاستهلاك من الدَّخْل الجاري أو الحالي. وعلى ضوء ذلك تتوقف تغيرات الاستهلاك في المدى القصير على تغيرات الدَّخْل، لا على تغيرات الميل إلى الاستهلاك. لذلك يعتبر الدَّخْل الجاري بصورةٍ عامة المتغير الأساس الذي يحدّد الاستهلاك في الفترة القصيرة. ولقد افترض كينز أن الاستهلاك يزداد كلما زاد الدَّخْل، لكن الزيادة في الاستهلاك تكون أقلّ من الزيادة في الدَّخْل. ولهذا السبب افترض كينز أن الميل الحدّي إلى الاستهلاك أكبر من الصفر، وأقلّ من الواحد. كما افترض أن الميل الوسطي إلى الاستهلاك ينخفض كلما زاد الدَّخْل. ومن أجل أن ينخفض الميل الوسطي إلى الاستهلاك بارتفاع الدَّخْل فإن دالة الاستهلاك لا بُدَّ أن تقطع المحور العمودي (محور الاستهلاك) في نقطةٍ تقع فوق مركز الإحداثين (الأصل)، كما يجب أن يكون الميل الحدّي للاستهلاك أقلّ من الواحد([15]).

2ـ المقاربات الجديدة

أـ نظرية الدَّخْل النسبي

تتلخص نظرية الدَّخْل النسبي لجيمس ديوزنبري في أن الاستهلاك هو دالة تابعة للدَّخْل النسبي، أي الدَّخْل نسبة إلى دخول الأفراد الآخرين أو استهلاكهم ونسبة إلى الدَّخْل السابق أو الاستهلاك السابق. ولقد لاحظ ديوزنبري أن الميل الوسطي إلى الاستهلاك لشخصٍ ما ما هو إلاّ دالة عكسية لوضعه الاقتصادي نسبة إلى الأفراد الذين يعيشون معه أو يجاورونه. وهذا يعني أنه إذا كان هذا الشخص له أقلّ دَخْل في مجموعته فإن ميله الوسطي إلى الاستهلاك سيكون كبيراً؛ أما إذا كان له أعلى دَخْل فإن ميله الوسطي إلى الاستهلاك سيكون صغيراً؛ والسبب في ذلك أن هذا الشخص يشعر بالطمأنينة والارتياح إذا كان استهلاكه أكبر من استهلاك الأشخاص الآخرين، لذا ربما يكون هذا دافعاً له لتخفيضه. بينما لا يشعر بالطمأنينة والارتياح إذا كان استهلاكه أقلّ من استهلاك الآخرين، لذا ربما سيرفعه. وبما أن استهلاك الفرد هو دالة تابعة لدَخْله نسبة إلى دخول الأفراد الآخرين فلا داعي إذن لأن نفترض أن نسبة الاستهلاك إلى الدَّخْل الكلّي (الميل الوسطي الكلّي إلى الاستهلاك) سينخفض عندما يرتفع دَخْل كلّ فرد من أفراد المجتمع.

ولقد افترض ديوزنبزي أن الاستهلاك الكلي هو دالة تابعة للدَّخْل الحالي (الجاري)، وليس لأيّ دَخْل سابق، أي

C = ƒ (Yc . Ypp)

حيث C تمثل، كالعادة، الاستهلاك الكلي أو الوطني، و(Yc) تمثل الدَّخْل الحالي والجاري، و(Ypp) تمثل أعلى دَخْل سابق، واستخرج دبوزيزي دالة الاستهلاك التالية:

(C / Yc) = a + b (Yc / Ypp)

من هذا تستنتج أنه إذا كان (Yc) أكبر من (Ypp) (ولكنّ الزيادة في الدَّخْل الحالي هي زيادة مؤقتة) فإن هذا الفرد سيزيد من استهلاكه ولكنْ بنسبةٍ أقلّ من الزيادة في الدَّخْل، أي إن هناك علاقة غير تناسبية بين الاستهلاك والدَّخْل.

أما إذا كان (Yc) أكبر من (Ypp)، ولكن الزيادة في الدَّخْل الحالي هي زيادة دائمة، فإن الفرد سيزيد من استهلاكه بنفس الزيادة في الدَّخْل، ما يعني أن هناك علاقة تناسبية بين الاستهلاك والدَّخْل.

أما إذا كان أعلى الدَّخْل السابق (Ypp) أكبر من الدَّخْل الحالي (Yc) فإن الفرد سيخفض من استهلاكه. غير أن التخفيض في الاستهلاك سيكون أقلّ من التخفيض في الدَّخْل؛ لأن هذا الفرد سيحاول المحافظة على المستوى السابق من الاستهلاك([16]).

مشاكل نظرية ديوزنبري

يمكن التطرُّق لبعض الانتقادات التي تعرضت لها نظرية الدَّخْل المقارن:

أوّلاً: رفض الكثير من الاقتصاديين فكرة أن الأفراد يبنون قرارات الاستهلاك على عوامل غير رشيدة، مثل: الدَّخْل النسبي. فسعي الأفراد إلى تعظيم المنفعة والإشباع لا يمكن أن يدفعهم للتقليد.

ثانياً: مشكلة أخرى بالنسبة إلى نظرية الدَّخْل النسبي هي تلك المتعلِّقة بأثر الثروة على الدَّخْل، حيث إن الاختلاف في الثروة يؤدّي إلى اختلاف في الميل إلى الاستهلاك، حتّى لو تساوت الدخول.

لا بُدَّ من الإشارة أخيراً إلى أن نظرية الدَّخْل النسبي أو أثر التقليد على الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها، إلاّ أنها تفسِّر بشكلٍ كبير طريقة الاستهلاك في الدول النامية والمتخلفة، حيث يمكن ملاحظة أن أصحاب الدخول المرتفعة في هذه الدول ـ وهم ذوو القدرة الادّخارية ـ يحاولون تقليد نماذج الاستهلاك في الدول المتقدّمة، ويسرفون في الاستهلاك الكمالي. علماً أن هذا يعتبر من أحد عوائق التنمية؛ لأن الإسراف في الاستهلاك على الكماليات يؤدّي إلى تضاؤل في قيمة المدخرات، ما يعني تراجعاً في التكوين الرأسمالي، الذي هو أحد أهمّ أسس التنمية، كما هو معلوم([17]).

ب ـ أثر الدخول الماضية أو أثر الكبح

حسب الاقتصادي تي. أم. براون فإن مستوى الاستهلاك لا يرتبط فقط بالدَّخْل الجاري (كما أشار إلى ذلك كينز)، ولكنْ أيضاً بأكبر مستوى للدَّخْل تمّ الوصول إليه في الماضي. وهذا ما يسمّى بأثر الكبح أو أثر الذاكرة (memory effect)، حيث ستحجم العائلات عن تخفيض استهلاكها بنفس نسب انخفاض دَخْلها المتاح؛ لأنهم سيعتمدون أوّلاً على ادخاراتهم.

الحقيقة هي أن دوسنبيري قد أشار إلى أثر الكبح ضمنياً عندما قال بأن السلوك الاستهلاكي يكتسب بالعادة، وبالتالي فإن الأُسَر التي ينخفض دَخْلها الحقيقي المتاح سوف تحاول الحفاظ على نمطها الاستهلاكي([18]).

ج ـ نظرية الدَّخْل الدائم

التفسير الآخر المتعلق بعدم اتساق العلاقة بين الاستهلاك والدَّخْل في المدى القصير والمدى الطويل يتمثَّل في نظرية الدَّخْل الدائم، لميلتون فريدمان. ويرى فريدمان، مثل جيمس ديوزنبري، أن العلاقة بين الاستهلاك والدَّخْل في المدى الطويل هي علاقة تناسبية، حيث يقول فريدمان بأن الاستهلاك في المدى الطويل يتحدّد بتوقعات الأفراد لدخولهم المستقبلية. فالخريج الجامعي الذي هو في بداية حياته المهنية يميل إلى التمتع بالاستهلاك المرتفع (عن طريق الاقتراض)؛ لأنه يتوقع أن يكون له دَخْلٌ مرتفع في المستقبل. وبشكلٍ عامّ يمكن تلخيص نظرية الدَّخْل الدائم لفريدمان في نظام يتكون من ثلاث معادلات، هي:

(1) C = kyp

(2) yc = yp + yT

(3) C = Cp + CT

تشير المعادلة رقم (1) إلى أن الاستهلاك الدائم أو المخطط للفرد (Cp) عبارة عن كسر ما (k) من دَخْله الحقيقي الدائم أو المخطط. ويرى فريدمان أن الباراميتر (k) يعتمد على متغيرات متعددة، منها، بشكلٍ خاصّ: معدل الفائدة (i)؛ الثروة غير البشرية إلى الثروة الكلية (بشرية وغير بشرية) (w)؛ وعوامل أخرى (u)، مثل: العمر، الذوق، الجنس، العادات…إلخ، أي:

k = ƒ (i . w . u)

ولقد افترض فريدمان بأن (k) ثابت نسبياً ومستقلّ عن الدَّخْل الدائم، بمعنى أنه لا يوجد ارتباط بين (k) و(yp).

أما العلاقة الثانية فهي تبين مكونات الدَّخْل الحقيقي الحالي (yc) خلال فترة زمنية معينة. ويعامل فريدمان هذا الدَّخْل على أنه مجموع الدَّخْل الحقيقي الدائم (yp) والدَّخْل الحقيقي العابر (yT) (غير المتوقّع). والدَّخْل الدائم هنا هو عبارة عن المتوسط المرجح للقيم السابقة والحالية للدَّخْل، أما الدَّخْل المؤقت أو العابر (غير المتوقع) (yT) فهو يعكس في رأي فريدمان الفرق بين الدَّخْل الحالي والدَّخْل الدائم، وهو يمكن أن يكون موجباً (حالة ربح الرهان الرياضي) أو سالباً (حالة التوقف عن العمل) .

أما المعادلة الثالثة فهي تبين أن الاستهلاك الجاري (Cc) يؤلف مجموع الاستهلاك الدائم (Cp) والاستهلاك المؤقت (العابر) . والاستهلاك الدائم يعكس قيمة البضائع والخدمات المخطط استهلاكها خلال الفترة الزمنية المعينة، بينما الاستهلاك المؤقت أو العابر فيعكس شراء البضائع التي تكون غير متوفرة بشكلٍ كافٍ، أو مفقودة وعندما تظهر فجأة في السوق فإنه يتمّ شراؤها. ومن المهمّ أن نشير هنا إلى أن الاستهلاك في هذه النظرية يستبعد منه البضائع المعمرة، حيث اعتبرت هذه البضائع ادخاراً؛ لأن استعمالها يستمرّ مدةً طويلة. ولقد افترض فريدمان أيضاً عدم وجود ارتباط أو علاقة بين الاستهلاك المؤقت (العابر) والدَّخْل العابر (المؤقت) وبين الاستهلاك العابر والاستهلاك الدائم، وأخيراً بين الدَّخْل الدائم والدَّخْل العابر. وهذه الفرضيات تعني أن أيّ زيادة أو نقص في الدَّخْل العابر لن يتبعها أيّ تغيُّر في الاستهلاك، ما يعني بالطبع أن الميل الحدّي للاستهلاك الناجم عن الدَّخْل العابر يساوي الصفر، أي: Cc = k (yc – YT) + CT (دالة استهلاك الفرد).

ومن خلال هذه العلاقة نلاحظ أن الاستهلاك الحالي يساوي جزءاً ما من الفرق بين الدَّخْل الحالي والدَّخْل العابر، بزيادة احتمال حدوث استهلاك مؤقت (سلبي أو إيجابي). وبما أن دالة الاستهلاك الكلية لها نفس خصائص دالة الاستهلاك الفردية لذا يمكن كتابة دالة الاستهلاك الكلية كما يلي:

C = k (yc – YT) + CT (دالة الاستهلاك الكلي)

حيث (K) لها نفس المدلول السابق، إلاّ أن لها بالإضافة إلى ذلك مدلولاً كلياً. أما المتغيرات الباقية فهي متغيرات كلية، ولها نفس المدلول السابق أيضاً. ويجب أن نشير هنا إلى أن الفرضيات السابقة التي تنصّ على عدم وجود ارتباط بين الاستهلاك المؤقت والدَّخْل المؤقت وبين الاستهلاك العابر والاستهلاك الدائم، وأخيراً بين الدَّخْل الدائم والدَّخْل العابر، تبقى سارية المفعول هي الأخرى في هذه الدالة الكلية.

وفي المدى الطويل، وبالنسبة إلى مجموعة كبيرة من الأفراد، يمكن لنا أن نتوقع أن العناصر المؤقتة للاستهلاك والدَّخْل ستزيل أو تلغي بعضها البعض. وبمعنى آخر: على المستوى الكلي، وفي المدى الطويل، إن ما يربحه شخصٌ ما عن طريق الرهان الرياضي (دَخْل مؤقت) سيلغي خسارة الشخص الآخر بسبب حادث سرقة مثلاً. كما أن الاستهلاك الإيجابي بالنسبة إلى فردٍ ما سيلغي الاستهلاك السلبي لفردٍ آخر. ونستنج من ذلك أن الاستهلاك العابر في المدى الطويل، وعلى المستوى الكلي، سوف يساوي الصفر. كما أن الدَّخْل المؤقت سيساوي الصفر أيضاً، أي:

YI = CT = 0

ومن العلاقة الأخيرة يتبين لنا أن الميل الوسطي إلى الاستهلاك (APC) والميل الحدّي إلى الاستهلاك (MPC) متساويان، أي:

ثابت = (MPC) = ∆C/∆Y = dC/dK = K الميل الحدّي إلى الاستهلاك

ثابت = (APC) = C/Y = K الميل الوسطي إلى الاستهلاك

إذن

ثابت = (APC) = K الميل الوسطي إلى الاستهلاك = (MPC) الميل الحدّي إلى الاستهلاك

وهكذا نستنج أن هناك علاقة تناسبية في المدى الطويل بين الاستهلاك والدَّخْل، أي عندما يزداد الدَّخْل بنسبةٍ ما فإن الاستهلاك سوف يزداد بنفس النسبة. أما في المدى القصير فإن العناصر المؤقتة (العابرة) للدَّخْل والاستهلاك لن تساوي الصفر، بل نتوقَّع أن تكون لها قِيَم.

والآن لا بُدَّ أن يكون واضحاً أن القرارات الخاصة بالسياسة الاقتصادية، التي تغير فجأةً أو مؤقتاً مستوى الدَّخْل التصرفي للأفراد، ربما لن يكون لها أيّ أثر على سلوك الاستهلاك الحالي. فعلى سبيل المثال: خلال فترة التضخُّم عادة لا بُدَّ من رفع الضرائب؛ فإذا توقع المستهلكون أن التضخم سيستمر فإنهم ربما لن يخفضوا من استهلاكهم، بالرغم من أن دخولهم قد انخفضت جراء زيادة الضرائب. واستناداً إلى نظرية الدَّخْل الدائم فإن الزيادة المفاجئة للضرائب ستؤدي إلى تخفيض الدَّخْل العابر، وبالتالي سيكون لها أثرٌ بسيط جدّاً، أو لن يكون لها أيّ أثر على الاستهلاك الحالي. وفي الحالة العكسية، حالة الكساد، عادةً لا بُدَّ من تخفيض الضرائب، فإذا توقع الأفراد بأن ذلك إشارة على استمرارية الكساد فإنهم ربما سيخفضون من استهلاكهم، على الرغم من ارتفاع دخولهم نتيجة انخفاض الضرائب.

وعلى الرغم من أن الدراسات التجريبية التي تمّت تدعم نظرية الدَّخْل الدائم، إلاّ أن هناك انتقادات كثيرة موجهة إليها، ومن بينها: الانتقاد الخاص بالفرضية القائلة بعدم وجود ارتباط بين الاستهلاك العابر والدَّخْل العابر، حيث ثبت أن هناك علاقة بين هذين العنصرين. أما الانتقاد الآخر فيتمثَّل في صعوبة قياس الدَّخْل الدائم مهما كانت الوسائل الإحصائية المستعملة([19]).

د ـ نظرية دورة (حلقة) الحياة

1ـ تنصّ هذه النظرية، التي قدّمها كلٌّ من: موديغلياني وأندو، على أن المستهلك يرغب في توزيع موارده بشكلٍ يمكنه من المحافظة على نفس المستوى تقريباً من الاستهلاك في كلّ سنة من سنوات حياته. فكما هو معروف إن دَخْل الفرد يتأثر بعوامل كثيرة، منها: العمر، الحالة التعليمية، الخبرة، إلخ. وبالتالي فإن الاستهلاك يتأثر أيضاً بهذه العوامل. فبالملاحظة نجد أن الإنسان عندما يكون شابّاً، وفي مستهل حياته الوظيفية، يستهلك كثيراً (زواج، شراء سيارة، شراء بيت، إلخ)، بل إن استهلاكه يفوق دَخْله أحياناً (يستقرض مثلاً). لكنْ عندما يصبح في متوسط عمره (40 سنة إلى 45 سنة) فإنه يصبح يدّخر أكثر، وذلك كي يتمكّن من أن يحافظ على نفس المستوى من الاستهلاك بعد التقاعد، حيث بعد تقاعده سوف يستعمل مدّخراته إلى أن يموت([20]).

ولقد تعرّضت نظرية دورة الحياة هي الأخرى للانتقاد. وقد كان من أهم الانتقادات الموجهة إليها هو أنها تتكوّن من متغيرات مختلفة يصعب قياسها، وخاصة في ما يتعلق بالدَّخْل المتوقع في المستقبل، حيث مهما كانت الوسائل الإحصائية الدقيقة المستعملة، ومهما كانت البيانات الإحصائية المجمعة، فإنه من الصعب جدّاً حساب الدَّخْل المتوقع بشكلٍ دقيق. كما تفترض النظرية وجود درجة غير معقولة من العقلانية لدى المستهلكين، حيث تفترض أن المستهلكين يمكن لهم التنبّؤ بالمستقبل بشكلٍ دقيق، وهذا بطبيعة الحال صعبٌ جداً.

وبالرغم من هذه الانتقادات الموجّهة إلى نظرية دورة الحياة فإنها تتضمن تفسيرات اقتصادية كلّية لأثر معدل نموّ السكان في النسبة الكلية للادّخار على الدَّخْل، حيث إنها تبين أنه كلما كان معدّل نموّ السكان أسرع كلما كان معدّل الادّخار الكلّي أكبر، وهذا لأن زيادة عدد السكان يؤدّي إلى زيادة عدد العائلات التي ستدخر من أجل المحافظة على نفس المستوى من الاستهلاك بعد التقاعد.

3ـ نظرية الاستهلاك في الإسلام

أـ تعريف الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي([21])

هو مجموعة التصرفات التي تشكل سلة السلع والخدمات من الطيبات التي تتّجه نحو الوفاء بالحاجات والرغبات المتعلقة بأفراد المجتمع، والتي تتحدّد طبيعتها وأولوياتها بالاعتماد على القواعد والمبادئ الإسلامية، وذلك لغرض التمتُّع والاستعانة بها على طاعة الله سبحانه وتعالى.

 يمكن أن نجمل أهمّية الاستهلاك في خمسة أمور رئيسة:

أوّلاً: جعل الله تعالى الطبيعة البشرية بحيث تتطلب حدّاً أدنى من الاستهلاك؛ لتستمر على قيد الحياة.

ثانياً: يشكّل الاستهلاك جزءاً رئيساً من مكوّنات الطلب الكلي.

ثالثاً: يعتبر نشاط القطاع الاستهلاكي هو المحور المولد الذي تدور حوله جميع نشاطات القطاعات الاقتصادية الأخرى.

رابعاً: بتحديد مستوى الاستهلاك يمكن استنتاج مستوى الادّخار المحلي، الذي يعتبر مهمّاً لتمويل الاستثمار، وتكوين رأس المال، الذي يعتبر عنصراً ضرورياً لتحقيق التنمية في العالم الإسلامي.

خامساً: إن اتباع الرشادة في التصرفات الاستهلاكية يؤدّي إلى قيام المسلمين بواجباتهم ومسؤولياتهم تجاه مختلف أولويات المجتمع الإسلامي على الوجه الأمثل.

ب ـ الإطار النظري

مبدأ الرشادة الإسلامي([22])

ومبدأ الرشادة يعني مجموع الدوافع العقلانية والمنطقية والقيمية التي توجه الكيفية التي يخصّص بها الأفراد جزءاً من دخولهم للإنفاق على السلع والخدمات النهائية؛ للوفاء بمتطلَّباتهم الحياتية (العضوية) والنفسية والروحية.

ويعتمد مبدأ الرشادة الإسلامي على ثلاثة عناصر رئيسة، وهي:

1ـ مفهوم النجاح والفلاح.

2ـ النطاق الزمني لسلوك المستهلك.

3ـ مفهوم المحافظة على الثروة وإنمائها.

1ـ مفهوم النجاح

هو الفلاح في توجيه الفرد لدَخْله؛ ليحقِّق أقصى منفعة له وللأفراد المرتبطين به، في إطار التعاليم والتشريعات الإسلامية

2ـ النطاق الزمني لسلوك المستهلك

يقسم المستهلك المسلم موارده النادرة من الدَّخْل والوقت في تحصيل منافع مادية وروحية في الحياة الدنيا والآخرة. وترتبط منافع المسلم المادية والروحية في الدنيا والآخرة بمدى التزامه بأوامر الله سبحانه وتعالى، ومنها: نفع الغير، والإنفاق عليهم في سبيل الله، حتّى ولو لم يتحقَّق نفع مادي مباشر من هذا السلوك.

3ـ مفهوم المحافظة على الثروة وإنمائها

يعتبر الإسلام مقدرة بعض المسلمين على تكوين دَخْل مرتفع وتحقيق ثروة كبيرة من النعم التي يحبيها الله سبحانه وتعالى لمَنْ يشاء من عباده، إذا استخدمت في طاعته.

ج ـ القواعد والمبادئ الرئيسة لنظرية الاستهلاك

المتغيّرات المستقلة الجديدة

الإيمان: يلعب الإيمان دَوْراً رئيساً في التأثير على توزيع دَخْل المسلم بين مختلف أوجه الإنفاق الاستهلاكية الحاضرة والمستقبلة والإنفاق في سبيل الله.

2ـ معدل العائد على المضاربة: يستثمر المستهلك المسلم جزءاً من دَخْله بواسطة المضاربة أو المشاركة.

3ـ الإنفاق في سبيل الله: ويشمل الزكاة والصدقات، والتي تعيد توزيع الدَّخْل والثروة داخل المجتمع بمختلف فئاته الاجتماعية.

المتغيِّرات السائدة

1ـ الدَّخْل: يترك الدَّخْل تأثيره على استهلاك المسلم، وذلك في إطار حدّين: أدنى؛ وأعلى. فهناك حدٌّ أدنى لمستوى الدَّخْل، الذي يمكن أن يتاح عادةً لكل مسلم.

ويقابل الحدّ الأدنى للاستهلاك حدٌّ أقصى لإمكانية تأثير الزيادة في الدَّخْل على الاستهلاك. وهذا الحدّ الأقصى مرتبطٌ بتفسير الإسراف والتبذير حَسْب ظروف الزمان والمكان للمستهلك المسلم.

2ـ الأذواق: هناك عدّة مبادئ تحدِّد دَوْر أذواق المستهلك المسلم في اختيار قائمة السلع والخدمات الاستهلاكية، وفي كيفية استهلاكها.

فالطيِّبات من السلع والخدمات هي القائمة التي يمكن أن تدخل في سلة الاستهلاك الإسلامية. ويمكن أن نجمل خصائص الطيبات أو سلة السلع الاستهلاكية الإسلامية بما يلي:

1ـ إنها تشتمل على كلّ السلع والخدمات التي لم يَرِدْ نهيٌ أو تحريمٌ لها.

2ـ إن الأصل في الأشياء الحلّ؛ حيث إن ما حرم قليل جدّاً بالنسبة إلى المجموع.

3ـ استهلاك الطيبات باعتدالٍ يؤدّي إلى التوازن النفسي والروحي والجسمي للإنسان.

4ـ السلع الطيبة هي السلع الاقتصادية.

د ـ النماذج الاستهلاكية التقليدية الإسلامية([23]).

1ـ نموذج الاستهلاك في إطار الطلب الكلي

ويعتمد هذا النموذج على تقسيم أيّ مجتمع إلى فئتين، هما: مجموعة الأغنياء؛ ومجموعة الفقراء. ويفترض أن الميل الحدّي إلى الاستهلاك في مجموعة الفقراء b2 أكبر الميل الحدّي إلى الاستهلاك في مجموعة الأغنياء b1، وبالتالي يمكن كتابة دالة الاستهلاك في الإطار غير الإسلامي على الشكل التالي:

(1) C = a + b1 (RY) + b2 {(1 – R) Y}

حيث:

C: الاستهلاك في الاقتصاد غير الإسلامي.

a: القيمة الاستهلاكية أو الاستهلاك المستقل.

RY: دَخْل الأغنياء. وتمثّل R ثابت بين الصفر والواحد (نسبة دَخْل الأغنياء إلى الدَّخْل الكلي.

 (1 – R) Y: دَخْل الفقراء.

وبإدخال عامل الزكاة مع الافتراضات السابقة يفترض النموذج أن ذلك يمثل الإطار الإسلامي للاستهلاك، كما توضِّحه المعادلة التالية:

(2) C* = a + b1 (R – Z) Y + b2 (1 – R + Z) Y

حيث:

 C*: الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي.

 Z: معدل أداء الزكاة.

وبطرح المعادلة (1) من (2) نستخرج الفرق بين الاستهلاك في الإطار الإسلامي والاستهلاك في الإطار غير الإسلامي.

وبعد الطرح الجبري نحصل على:

(3) C* – C = (b2 – b1) ZY

وحيث إن الميل الحدّي إلى الاستهلاك لمجموعة الفقراء b2 أكبر من الميل الحدّي إلى الاستهلاك لمجموعة الأغنياء b1 فإن الجانب الأيسر من المعادلة (3) أكبر من الصفر، وبالتالي فإن الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي أكبر من الاستهلاك في الاقتصاد غير الإسلامي.

وبمفاضلة المعادلة (3) بالنسبة إلى الدَّخْل نحصل على:

(4) 0 = (b2 – b1) Z

 

2ـ نموذج الاستهلاك في إطار العرض الكلّي

تعبر النتائج في النموذج السابق عن نتائج إيجابية لو كان اقتصاد العالم المسلم اقتصاداً حديثاً متقدماً. ولكن العالم المسلم عالمٌ نامٍ، ولذلك فإن التنمية هي أهم مشكلة تواجه العالم المسلم. وإن النظام الاقتصادي الإسلامي لا بُدَّ أن يوضح استراتيجية تبرز الاهتمام بجوانب العرض الكلي. والعرض الكلي يتضمن الإنتاج الكلي الذي يتحدّد بعناصر الإنتاج، وأهمّها: العمل ورأس المال. وحيث إن النظرية السائدة في التنمية في النظرية الكلاسيكية، التي تؤكّد على دَوْر رأس المال، فإن الاستثمار، وهو معدل تراكم رأس المال، لن يصبح العنصر الأساس الذي يجب أن ينال الأولوية في استراتيجية التنمية، ومن ثم زيادة الادّخار، وهو الجانب التمويلي للاستثمار. وبالتالي يعتبر التقليل من الاستهلاك ضرورياً لأيّ محاولةٍ جادّة للتنمية الاقتصادية.

ولذلك فإن النموذج الحالي يعيد بناء نموذج الاستهلاك باستخدام دوال ومتغيرات أكثر شمولاً (التقوى، الإنفاق في سبيل الله…)، في إطار زمني يتّسع ليشمل الأجلين: القصير؛ والطويل.

إن أهم النتائج التي توصلنا إليها عند دراسة تنظيم الاستهلاك في الإسلام وسلوك المستهلك المسلم، مقارناً بالأنظمة الاقتصادية الأخرى، هي:

هناك مآخذ على الاستهلاك في النظام الرأسمالي، منها: إن إطلاق الحرية في الاستهلاك قد أدّى إلى تفشّي الأزمات الاقتصادية، ونموّ العادات الاستهلاكية السيئة، من إسراف وتبذير، كما أدّى إلى التأثير على توجيه الموارد نحو إنتاج السلع الكمالية.

ومما يؤخذ على تنظيم الاستهلاك في النظام الاشتراكي عدم واقعيته، وتقييده لحرّية المستهلك في اختيار السلع والخدمات، وعدم وجود ضوابط وقيود أخلاقية على الاستهلاك.

وهناك تميُّز لتقسيمات السلع في الدراسات الفقهية عن تلك التقسيمات في الدراسات الاقتصادية.

ترتبط الحاجة في الاقتصاد الإسلامي بمقاصد الشريعة العامة وضوابط الشرع والقيم والأخلاق.

للاستهلاك في الإسلام ضوابطه، التي تجعل المستهلك المسلم يتَّصف بدرجةٍ عالية من الرشد الاقتصادي.

هناك عدّة وسائل لتنظيم الاستهلاك في الإسلام، تقوم في جانبٍ منها على عقيدة الفرد المسلم، وفي جانبٍ آخر على قيام وليّ الأمر بتطبيق قواعد السلوك الاستهلاكي.

تحليل سلوك المستهلك في النظام الرأسمالي لا يصلح للتطبيق في النظام الإسلامي؛ لاختلاف خصائص كلٍّ من النظامين.

يمكن قبول دالة الاستهلاك كما جاء بها كينز كأداةٍ تحليلية، مع التحفظ على نتائج النظرية الكينزية؛ لإهمالها الجوانب الاجتماعية.

دالة الاستهلاك في المجتمع الإسلامي أعلى منها في المجتمع غير الإسلامي

الفروق الجوهرية بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الرأسمالي

أوّلاً: من حيث المقصد

يتمثل مقصد النظام الاقتصادي الإسلامي في إشباع الحاجات الأصلية للائتمان، وتوفير حد الكفاية الكريم؛ ليحيا الناس حياة طيبة رغيدة، وليعينهم على تعمير الأرض وعبادة الله عزَّ وجلَّ. وبذلك هو يهدف إلى تحقيق الإشباع المادي والروحي للإنسان. وأساس ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61)، وقوله كذلك: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56),

أما مقاصد النظام الاقتصادي الرأسمالي فهي تحقيق أقصى إشباع مادي ممكن، وتكوين الثروات، بدون أيّ اعتبار للإشباع الروحي.

ثانياً: من حيث المنهج

يقوم النظام الاقتصادي الإسلامي على منهج عقائدي أخلاقي، مبعثه الحلال والطيبات والأمانة والصدق والطهارة والتكافل والتعاون والمحبة والأخوة، مع الإيمان بأن العمل (ومنه: المعاملات الاقتصادية) عبادةٌ. وأساس ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ﴾ (النحل: 114)، وقول الرسولﷺ: (طلب الحلال فريضة بعد الفريضة) (متَّفق عليه).

أما النظام الاقتصادي الرأسمالي فهو يقوم على منهج الفصل بين الدين وحلبة الحياة، فلا دَخْل للعقيدة والأخلاق بالاقتصاد. ومن المفاهيم التي يلزمون بها أنفسهم: (الدين لله، والوطن للجميع)، (دَعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، كما يقولون: (الغاية تبرر الوسيلة)، وهذه المفاهيم وغيرها مرفوضةٌ تماماً في الفكر الإسلامي.

ثالثاً: من حيث التشريع

يضبط النظام الاقتصادي الإسلامي مجموعة من القواعد (الأصول أو الأسس) المستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية: القرآن والسنّة واجتهاد الفقهاء الثقات. كما أنه لا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، بل يعمل على تحقيقها، وهي حفظ الدين والعقل والنفس والعرض والمال. وتتسم قواعد الاقتصاد الإسلامي بالثبات والعالمية والواقعية، وتأتي المرونة في التفاصيل والإجراءات والأساليب والأدوات والوسائل.

بينما يحكم النظم الاقتصادية الوضعية مجموعة من المبادئ والأسس من استنباط واستقراء البشر الذي يصيب ويخطئ. كما تتأثر هذه المبادئ بالأيديولوجيا التي تنتهجها الحكومة، سواء أكانت حرّة برجوازية أو شيوعية أو اشتراكية أو تعاونية أو رأسمالية. وعليه هي غير ثابتة أو مستقرة، بل دائمة التغيير والتبديل. وتتصف كذلك بالتضاد والنقص والانقراض. كما تتأثَّر بالتغيرات الدائمة في الظروف المحيطة؛ وذلك لأن واضعيها ينقصهم المعرفة الكاملة باحتياجات البشرية، كما لا يعلمون الغيب.

رابعاً: من حيث الأساليب والوسائل

يستخدم فقهاء ومطبِّقو قواعد الاقتصاد الإسلامي مجموعة من الأساليب والوسائل التي تحقق المقاصد والغايات، شريطة أن تكون مشروعة. وعليهم أن يأخذوا بأحدث أساليب التقنية الحديثة؛ فالحكمة ضالّة المسلم، أينما وجدها فهو أحقّ الناس بها.

وطبقاً لهذا المفهوم نجد تشابهاً بين بعض الأساليب والوسائل الاقتصادية التي تستخدم في النظم الاقتصادية الإسلامية والرأسمالية؛ لأن ذلك من الأمور التجريدية.

والفارق الأساس في هذا الأمر هو أن الإسلام يركِّز على مشروعية الغاية ومشروعية الأساليب والوسائل، بينما لا يعتقد بذلك في النظام الاقتصادي الرأسمالي.

خامساً: من حيث المقوِّمات

يقوم النظام الاقتصادي الإسلامي على مجموعة من المقومات، من أبرزها: زكاة المال، وتحريم الربا وكافّة المعاملات التي تؤدّي إلى أكل أموال الناس بالباطل. كما يطبق التكافل الاجتماعي، وغير ذلك من المقوِّمات المشروعة التي تحقّق للإنسان الحياة الرغيدة ورضا الله عزَّ وجلَّ.

بينما تختلف هذه المقوّمات في النظام الرأسمالي. فعلى سبيل المثال: تأخذ هذه النظم بنظام الفائدة ونظام الضرائب المباشرة وغير المباشرة. وهذه الأمور تسبِّب خللاً في المعاملات الاقتصادية، وتقود إلى تكدُّس الأموال في يد حفنةٍ من الناس؛ ليسيطروا على مقادير الآخرين. وهذا ما يقول به علماء وكتّاب الاقتصاد الوضعي الآن.

سادساً: الفرق من حيث حركة السوق

يعمل النظام الاقتصادي الإسلامي في ظلّ سوق حرّة طاهرة نظيفة، خالية تماماً من: الغرر والجهالة والتدليس والمقامرة والغشّ والاحتكار والاستغلال والمنابذة…إلخ، وكل صور البيوع التي تؤدّي إلى أكل أموال الناس بالباطل. ويضبط التزام المتعاملين بذلك كلّ من: الوازع الديني؛ والرقابة الاجتماعية؛ والرقابة الحكومية. ويجوز للدولة التدخُّل في السوق إذا ما حدث خللٌ يترتّب عليه ضررٌ للأفراد وللمجتمع.

يقوم النظام الاقتصادي الرأسمالي على فكرة حرّية السوق، أو ما يسمى أحياناً باقتصاد الطلب المنبثق من السوق بدون ضوابط أو حدود؛ لمنع الاحتكار والسيطرة والجشع وكل ما يمسّ ذاتية الإنسان، وحفظ عقيدته وعقله وعرضه ونفسه وماله.

بينما يعمل النظام الاقتصادي الرأسمالي في ظلّ سوق حرة مطلقة بدون ضوابط عقائدية أو خلقية، تؤدّي في معظم الأحيان إلى تكوين التكتُّلات والاحتكارات والاستغلال. وهذا هو الواقع في الدول الرأسمالية الآن، والتي بدأت أخيراً بتدخُّل الدولة؛ للحدّ من تلك التكتلات والاحتكارات.

سابعاً: الفروق من حيث الملكية

الأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي الملكية الخاصة، وتكون مسؤولية الدولة حمايتها، وتهيئة المناخ للنماء والتطوير. ويلتزم الأفراد بسداد ما عليهم من حقوق على هذه الملكية، مثل: الزكاة والصدقات والجزية والخراج… وكذلك من حقّ الدولة أن توظِّف أموال الأغنياء في حال الضرورة إذا لم تكْفِ الإيرادات. كما توجد الملكية العامة، بضوابط، ولتحقيق مقاصد معينة لا يمكن للقطاع الخاص الوفاء بها، مثل: المنافع العامة. كما لا يجوز للدولة أن تأخذ ملك إنسانٍ لمنفعةٍ عامة عند الضرورة بلا عوض.

أما في ظلّ النظام الرأسمالي الاقتصادي فإن الأصل الملكية الخاصة، وتكون الملكية العامة في أضيق الحدود. وتتمثَّل حقوق الدولة على أساس الملكية الخاصة في الضرائب والرسوم المختلفة، والتي عادة ما تكون مرتفعة. والمفهوم السائد هو: دَعْه يعمل، دَعْه يسير، وفي ظلّ النظام الاقتصادي. ويتّضح من التحليل السابق أن هناك فروقاً جوهرية أساسية بين النظام الاقتصادي الإسلامي وبين النظام الاقتصادي الرأسمالي، وأن من الخطأ القول بأن الاقتصاد هو الاقتصاد، وأنه لا فرق بين الاقتصاد الإسلامي وبين الاقتصاد الرأسمالي، أو نعت الاقتصاد الإسلامي بالرأسمالية.

وعندما تُطبَّق أسس الاقتصاد الإسلامي في مجتمعٍ إسلامي سوف تتحقق الحياة الرغيدة الكريمة للناس، وتكون مسؤولية الدولة هي توفير حدّ الكفاية لكلّ فردٍ، بصرف النظر عن دينه وفكره.

الخاتمة

مطالعتنا لعدد من الدراسات والأبحاث العلمية والمراجع التي عُنيت بالمقارنة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الرأسمالي، ومن خلال هذا البحث المتواضع والبسيط، قد خلصنا إلى عدّة نقاط جوهرية وهامة تبرز أوجه هذه الدراسة، وهي:

1ـ الفوارق الاقتصادية بين النظرية والتطبيق في كلا النظامين الإسلامي والرأسمالي.

2ـ الفوارق الاجتماعية بين النظرية والتطبيق في كلا النظامين الإسلامي والرأسمالي

3ـ الفوارق الأدبية بين النظرية والتطبيق في كلا النظامين الإسلامي والرأسمالي.

ونقصد بالفوارق الأدبية البُعْد الإنساني والسلوكي في النظرية والتطبيق بين كلا النظامين.

وقد كانت النتيجة في ما يتعلَّق بالتنظير والتطبيق بين كلا النظامين هي ترجيح الفكر التنظيري والتطبيقي للنظام الإسلامي في المعالجات الاقتصادية عن النظام الرأسمالي، الذي اتَّخذ من مبدأ الربح و الخسارة متفرداً طريقاً وحيداً أو خياراً جازماً لمعاملاته الاقتصادية، في الوقت الذي اتخذ فيه نظام الاقتصاد الإسلامي جميع الأبعاد السابقة، اجتماعية واقتصادية وأدبية.

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، وعضو الهيئة العلميّة في مركز بحوث الحوزة والجامعة. متخصِّصٌ في الاقتصاد الإسلاميّ.

(**) باحثٌ في الاقتصاد الإسلاميّ.

([1]) حطّاب، دليل الباحثين إلى الاقتصاد الإسلامي والمصارف الاسلامية: 65، 2013.

([2]) فرحي وبوسبعين، أثر الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي للزكاة على الطلب الكلي، 2012.

([3]) بشرول، تقدير دالة الإنفاق الاستهلاكي العائلي في الجزائر باستخدام نماذج التكامل المشترك وتصحيح الخطأ: 4، 2010 ـ 2011.

([4]) أقاسم، المحاسبة الوطنية: 64 ـ 65، 2002.

([5]) Perthel Vol. 43. 1995. pp, 211-213.

([6]) عابد صونيا، التحليل الاقتصادي الجزئي: 58 ـ 59، 2010 ـ 2011.

([7]) عمر، التحليل الكلي: 132، 1398.

([8]) المصدر السابق: 134.

([9]) سلامي، الادخار في الاقتصاد الجزائري وأثره في التنمية الاقتصادية: 54، 2010 ـ 2011.

([10]) المصدر السابق: 55.

([11]) مصطفى وآخرون، مبادئ الاقتصاد الكلي: 142، 2000.

([12]) مريزق، الأزمة المالية العالمية كنتاج أزمة سلوك استهلاكي والحل البديل: 707، 2011.

([13]) الأشقر، الاقتصاد الكلي: 217، 2007.

([14]) الموسوي، النظرية الاقتصادية، التحليل الاقتصادي الكلي: 157، 1994.

([15]) فليح، الاقتصاد الكلي: 158، 2007.

([16]) المصدر السابق: 159.

([17]) الموسوي، النظرية الاقتصادية، التحليل الاقتصادي الكلي: 161.

([18]) صخري، التحليل الاقتصادي الكلي: 231، 2005.

([19]) أبدجمان، الاقتصاد الكلي، النظرية والسياسة: 271 ـ 162، 2001.

([20]) الحمداني، نظرية الاقتصاد الكلي: 159، 2015.

([21]) كبارة، الاستهلاك، الموسوعة العربية، 2010.

([22]) يوسف، القيم الإسلامية في السلوك الاقتصادي: 57 ـ 97، 1410هـ.

([23]) الكبيسي، الحاجات الاقتصادية في المذهب الاقتصادي الإسلامي: 253 ـ 263، 1408هـ.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً