أحدث المقالات

د. البشير التهالي(*)

 

تقديم

للإمام الشاطبي في تحليل الاشتباه في القرآن الكريم وجهة نظر خاصة، مبنية على اعتبار الإشكال من قبيل العيب في الكلام، ممّا يتنزَّه عنه خطاب الله تعالى لخَلْقه. وهو بذلك ينفي السمة البلاغية التي تلتبس بالخطاب حال كونه اشتباهياً. وهو مع اعترافه بوقوع الاشتباه في هذا الأصل أَنْكَرَ كونَه عاماً؛ وذلك «أنّ المتشابه لو كان كثيراً لكان الالتباس والإشكال كثيراً، وعند ذلك لا يُطْلَق على القرآن أنه بيان وهدى…، والمشكل الملتبس إنّما هو إشكالٌ وحَيْرة، لا بيان وهدى. لكنّ الشريعة إنّما هي بيانٌ وهدى، فدَلَّ على أنّه ليس بكثير»([1]).

ومن قوله يتبين أنّ الشرط في اعتبار الخطاب كذلك سلامتُه من الاشتباه. على أنّه فيما يبدو إنما يقصد الخطاب الشرعي الذي تتعلَّق به الأحكام، ويتوقَّف تطبيقه على وضوح معناه بالكامل. وهو وإنْ ورد في بعض المواضع متشابهاً من جهة العموم والإجمال والإطلاق «فلا تشابه فيها بحسب الواقع؛ إذ هي قد فُسِّرت بالعموم المراد به الخصوص، قد نصب الدليل على تخصيصه، وبيَّن المراد به. وعلى ذلك يدلّ قول ابن عباس: لا عامَّ إلاّ مُخَصَّص. فأيُّ تشابه فيه وقد حصل بيانه؟…، وإنّما يكون متشابهاً عند عدم بيانه»([2]).

ويفهم من كلامه أنّ الخطاب الاشتباهي يعرف وضعين اثنين:

الأوّل: قبل البيان، وهي مرحلة عدم التحقُّق، حسب رأي الشاطبي؛ إذ لا يمكن اعتبار الخطاب الاشتباهي في ذاته خطاباً تترتب عليه فائدة تداولية شرعية.

الثاني: بعد البيان، وهي مرحلة التحقُّق، حيث ينتقل العام إلى الخاص، والمطلق إلى المقيَّد، ويتّضح المراد بهما. يقول الشاطبي: «ولذلك لا يقتصر ذوو الاجتهاد على التمسك بالعامّ مثلاً حتّى يبحث عن مخصِّصه، وعلى المطلق حتّى ينظر هل له مقيِّد أم لا؛ إذ كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما. فالعامّ مع خاصّه هو الدليل، فإنْ فُقِد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه [إهمال المخصّص وعدم الأخذ به] زيغاً وانحرافاً عن الصواب»([3]).

ومن هنا يتّضح أنّ الشاطبي لا يعترف بالبنيات الاشتباهية بوصفها بنيات مستقلة لها دلالتها، وبُعْدها البلاغي، بل يعتبرها قاصرة تستوجب الاستناد إلى بنيات أخرى تحدِّد المراد بها. وبناء على ذلك يصير اجتماع الخطاب الاشتباهي بمقابِلِه المفسِّر له خطاباً واحداً، ينطوي على حقيقة مشتركة، تنفي الاحتمال عنه في حالته الاشتباهية، بل إنّها تمنع قابليته لذلك في الأصل.

 

1ـ مفهوم الدليل وتمفصل الاشتباه والتفسير

من منطلق ما سلف ذكره توجه الشاطبي إلى إعادة النظر في مفهوم الدليل؛ ليصير نتيجةً لتمفصل نوعين من الخطاب: الدليل القطعي، وهو يحمل صفة البيان، ولا منفذ للاشتباه إليه؛ والدليل الاشتباهي مستلزماً لما يرفع عنه بواعث الإشكال.

ويمكن تمثيل هذا النوع بالرسم الآتي:

دليل واحد

الخطاب الاشتباهي                                  الخطاب المفسِّر

 

خطاب كامن                                  خطاب منجز

فيكون اجتماعهما أو تمفصلهما هو المسوِّغ لتحقُّق الخطاب، ويكون انفصالهما ناقضاً له.

وليس الأمر كما ذهبنا إليه في السابق، وكما استفدناه من جهود الأصوليين المتقدّمين، الذين لا يُخْلُون الخطاب الاشتباهي من دلالته، ولا يُخْرِجونه من مفهوم الخطاب تبعاً لذلك.

كما أنّ الخطاب المفسِّر([4]) في علاقته بالخطاب الاشتباهي يصير احتمالاً واحداً من بين احتمالات دلاليّة متعدِّدة ينفتح عليها هذا الخطاب، ويكتسب بموجبها صورته البلاغية، التي تنحاز به عن الخطابات المطابقة التي تنغلق صيغتها على حقيقة واحدة، يتذبذب التأويل دون سَوْرَتها. وعلى ذلك فالخطاطة المناسبة لتمثيل ما ذهبنا إليه تصير على هذا الشكل:

دليل

الخطاب الاشتباهي                                  الخطاب غير الاشتباهي (المفسِّر نوع منه)

 

دلالات تداوليّة                                              دلالة لفظية

وفي المقارنة بين الخطاطتين يتبيَّن أنّ تصور الدلالة في الأولى أفقيّ يسير في اتّجاه واحد يَصُبُّ في الخطاب المفسِّر، وهذا ما يجعل الدلالة فيها مغلقة. وبذلك يتحول الخطاب الاشتباهي إلى خطابٍ تابع لما يُبَيِّنه، فينتقل من خطاب متحقق إلى خطاب كامن. أمّا الخطاطة الثانية فإنّها تمنح البنيات الاشتباهية دلالتها المستقلّة، التي تتَّسم بالتعدُّد، وتتّخذ وضعاً عمودياً بالنظر إلى اختلاف مساقات التداول، وبذلك تنفكّ عنها صفة كونها تابعة لغيرها. فعوض أن ترتهن دلالتها إلى صيغ لفظية أخرى، كما في الخطاطة الأولى، تصبح نتيجة لجهد المتلقي المشروط بظروف تلقّيه للخطاب.

 

2ـ أقسام المتشابه بين الوضع والاستعمال والتداول

قسَّم الشاطبي المتشابه قسمةً تخدم هدفَه إلى نقض الاشتباه في الأدلة، فجعله على ثلاثة أضرب: اثنان يرجعان إلى الصيغة؛ والثالث إلى المناط الذي تتنزَّل عليه الأحكام.

فأمّا الأوَّلان فأحدُهما حقيقي: «ومعناه راجع إلى أنّه لم يُجعَل لنا سبيلٌ إلى فهم معناه، ولا نُصِب لنا دليلٌ على المراد منه، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصّاها وجمع أطرافها لم يجِدْ فيها ما يُحْكِمُ له معناه، ولا ما يدلّ على مقصوده ومغزاه، ولاشكّ في أنّه قليل لا كثير…، ولا يكون إلاّ في ما لا يتعلَّق به تكليف سوى مجرّد الإيمان به»([5]).

وفي نصِّه هذا إحالةٌ إلى ما سبق أن أشرنا إليه من أنّ الشاطبي يحتكم في بنائه للمفهوم إلى إملاءات الحكم الشرعي، التي تقتضي أن تكون الدلالة عليه مباشرة، لا تحتمل التأويل، وأن يكون تحصيلها على سبيل الفهم التامّ، الذي لا منفذ إليه لاحتمال أو اختلاف. وعلى ذلك يمكن القول: إن ما اعتبره الشاطبي ممّا لا يُحْكَم معناه قد لا يعني انتفاء الدلالة عنه، وانتقاض كونه خطاباً، بل إنّنا نحسب أنّ دلالته في هذه الحالة تصير بلاغية إعجازية، راجعة إلى اختلاف المتلقّين في تأويله وتوجيه معناه، وأنّ سبيل إدراكها هو الذوق والاستحسان، لا الفهم، واستدلال العقل. ومعلومٌ أنّ سُبُل الذوق متفرِّقة بحسب طبائع أهلها، واختلاف استعداداتهم وقدراتهم.

والضرب الثاني سمّاه الشاطبي: المتشابه الإضافي، وهو «ليس بداخلٍ في صريح الآية، وإنْ كان في المعنى داخلاً فيه؛ لأنّه لم يَصِرْ متشابهاً من حيث وُضِع في الشريعة؛ من جهة أنّه قد حَصَل بيانه في نفس الأمر، ولكنّ الناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتّباعاً للهوى، فلا يصحّ أن يُنسب الاشتباه إلى الأدلة، وإنّما يُنسب إلى الناظرين التقصير، أو الجهل بمواقع الأدلّة»([6]).

والشاطبي في هذا النصّ يضع الخطاب في معرض التلقّي، مسبوقاً بتأكيد الوضوح في مقاصد الكلام الإلهي، منتهياً إلى براءته الأصلية من الاشتباه، وإنّما هو وصف إضافي لاحق ينتج عن عيب في المتلقّي يحجب عنه المعنى، ولا يَدَ للأدلّة في ذلك. ولعلّ مذهبه هذا موافقٌ لبعض ما نميل إليه من كون دلالة الكلام أو الخطاب، بصفة عامة، مرتبطةً بسياق التداول الذي يجعل المتلقّي مركزاً له خارج الدلالة الوضعية التي تتميَّز بالاتّفاق والثبات، وخارج الدلالة الاستعمالية التي تُعَدُّ تصرُّفاً في الوضع بأساليب مختلفة.

غير أنّ الإمام الشاطبي ـ كما يفهم من كلامه ـ يحاول أن يجعل العلاقة بين الدلالات الثلاث: الوضعية؛ والاستعمالية؛ والتداولية، على صورة خطّية واحدة، تَحُدُّ من إمكانية احتمال الخطاب لغير ما أُريد له في أصل الاستعمال الذي يجري بدوره على أصل الوضع، وعلى ذلك يكون المتلقّي مُجْبَراً على فهم دلالة واحدة، لا يجوز توقُّعها على غير ما هي عليه في تصوُّر المستعمِل للخطاب؛ احترازاً من التعدُّد الذي يقود إلى الهوى، بعبارة الشاطبي.

وعلى هذا المذهب يحمل قول الشاطبي: «الشريعة كلّها ترجع إلى قولٍ واحدٍ في فروعها، وإنْ كثُر الخلاف. كما أنّها في أصولها كذلك. ولا يصلح فيها غير ذلك»([7]). والدليل عليه من القرآن قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82)، فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتّة، ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال. وفي القرآن: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59)، «وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف، فإنّه رَدَّ المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلاّ ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلاّ بالرجوع إلى شيءٍ واحد»([8]).

ولئن كان الشاطبي يومئ في كلامه إلى نوع من التعدُّد الدلالي يوقع الأدلة في التناقض، ويَعْمى به الناظر عن قصد الشارع، وخاصّة في ما له مساسٌ واضح بالتكاليف، فإنّنا نقصد إلى نوعٍ آخر من الاشتباه، مجرّد عن موضوعه، تكليفياً كان أو سواه، ممّا لا يُخِلّ بانسجام الخطاب ووحدته حتّى ولو اختلفت الدلالات الثلاث: الوضعية؛ والاستعمالية؛ والتداولية، حول حقيقة الخطاب. ونحن نعتبر الأمر، فوق ذلك، من بواعث بلاغة الخطاب، وارتفاع قيمته الأسلوبية التي دارت حولها جهودٌ علمية كثيرة قادت إلى تأسيس مباحث البيان والمعاني الواصفة لمجاري الخطاب الإلهي وأساليبه. والشاطبي في مذهبه السابق إنّما يعمل على توسيع مساحة التقاطع بين الدلالات المشار إليها إلى أقصى حدودها الممكنة على نحو ما نبيِّنه في الرسم التالي:

 

 

 

 

على خلاف ما نذهب إليه في شأن هذه العلاقات حيث نحصر التداخل بين الدلالات الثلاث في الحدود التي تسمح بالانتقال من دلالة إلى أخرى، وفق الخطاطة التالية:

 

 

والضرب الأخير من التشابه أرجعه الشاطبي إلى المناط، وليس إلى الأدلة، ومثَّل له بقوله: «فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول، لا في الدليل على تحليله أو تحريمه، لكنْ جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه، وهو الاتّقاء، حتّى يتبين الأمر، وهو أيضاً واضحٌ لا تشابه فيه»([9]).

وهذا النوع كما يتبيَّن لا مَدخل له إلى بنية الخطاب، بل يقع خارجها، مما لا يسمح ببناء تصور لغوي أو بلاغي حوله يقود إلى فهم طبيعة الاشتباه فيه وآلياته. وقد ساقه الإمام الشاطبي على سبيل تعزيز نسقه الاستدلالي الموظف لنفي الاشتباه عن الخطاب القرآني، واستبعاده عن حيِّزه الصريح بالكلّ.

ويتعلَّق بنوعَي المتشابه: الحقيقي؛ والإضافي ـ على التعريف المسند إليهما ـ، شكل من أشكال التأويل، حاول الإمام الشاطبي تقييده أكثر ما يمكن انسجاماً مع مذهبه القائم على تنزيه الخطاب القرآني من الاشتباه.

فالمتشابه الإضافي يلحقه التأويل في صورته التفسيرية المطابقة لمقصد الاستعمال وحقيقته، والتي لا تخضع لتداعيات التلقي، ولا تستجيب لتوجّهاته المرسَلَة في مساقات التداول. فالتأويل في هذه الحالة لا يتجاوز وظيفة التبيين بخطاب يشارك الخطاب الاشتباهي في تشكيل الدليل الذي لا يمكن أن يؤسِّسه أيٌّ منهما في صورته الفردية المستقلّة. فالعام بنية اشتباهية، والخاصّ بنية تفسيرية، وتمفصلهما يفضي إلى بناء دليلٍ واحدٍ يوصف بالإحكام. وكذلك الشأن مع المطلق والمقيد وما في معناهما. ويمكن تمثيل ذلك على هذا النحو:

خطاب محكم

العام                                                                  الخاص

 

 

بنية اشتباهية                                                      بنية تفسيرية

وقد يصح إسقاط هذه الخطاطة على سائر البنيات الاشتباهية المفتقرة إلى خطاب مبيِّن، يوجِّه إلى إدراك حقيقتها ذات البعد الواحد، كما نفهم من كلام الشاطبي.

أما المتشابه الحقيقي الذي سبق أن أشار الشاطبي أن لا مطمعَ في فهمه للناظر، مع مبالغته في تقليب القرائن، ومقابلة بعضها ببعض ـ كما أشار إلى أنّ الغالب عليه وقوعه خارج حيِّز التكليف؛، بمعنى خلوِّه من الأحكام الشرعية ـ فقد أكَّد الشاطبي عدم لزوم تأويله؛ «لأنّه إمّا أن يقع بيانه بالقرآن الصريح، أو بالحديث الصحيح، أو بالإجماع القاطع، أو لا. فإن وقع بيانه بأحد هذه فهو من قبيل الضرب الأول من التشابه، وهو الإضافي. وإنْ لم يقع بشيء من ذلك فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تَسَوُّرٌ على ما لا يُعْلَم، وهو غير محمود»([10]). لذلك يأخذ على بعض مَنْ امتدّ نظره إلى ما لا يقبل هذا الإجراء التأويلي ـ حسب اعتقاده ـ قياساً على ما يفهم من اتّساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع؛ تأنيساً للطالبين، وبناءً على استبعاد الخطاب بِمَا لا يُفْهَم.

 

3ـ تأويل البنيات الاشتباهية

والظاهر أنّ مفهوم الإمام الشاطبي للتأويل لا يخرج عن كونه بحثاً عن المعنى الأصلي للخطاب الذي يطابق نوايا المستعمل، ولا ينفكّ عنها.

ويجري هذا البحث كما يفهم من كلام الشاطبي على درجاتٍ، تغني السابقة منها عن اللاحقة في الوصول إلى المراد.

وأولاها: إمكان ردُّ الخطاب الاشتباهي إلى صورته الطبيعية المحكمة بإزالة أسباب خفاء المعنى، وخاصّة في المتشابه الإضافي.

وثانية الدرجات: تحرّي البنيات التفسيرية داخل الأصل القرآني، لتنضمّ إلى نظيرتها الاشتباهية؛ لتشكيل الدليل المحكم ذي المعنى الواحد غير القابل للتعدُّد.

والثالثة: ترك الدليل الاشتباهي على حاله وهيئته؛ تجنباً للوقوع في الزيغ، «فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء، ولا تكلَّموا فيها بما يقتضي تعيين تأويل من غير دليل، وهم الأسوة والقدوة. وإلى ذلك فالآية مشيرةٌ إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ﴾ (آل عمران: 7)»([11]).

وبناءً على هذا التصوُّر الخاصّ لمفهوم التأويل عند الشاطبي فقد وضع أمامَ المؤوِّل شروطاً محدَّدة تضمن المطابقة بين المعنى المستنبط وبين المراد من الخطاب، وتُصحِّح هذه المطابقة أيضاً، ومنها:

1ـ أن يكون الاحتمال الذي توجه إليه المؤوِّل دالاًّ على معنى صحيح يقبله اللفظ، ويوافق في الآن نفسه المعنى المقصود من اللفظ. فالشاطبي ينظر إلى هذه الموافقة من جهتين اثنتين: جهة اللفظ؛ وجهة المعنى المقصود. ويُلزِم المؤوِّل بإخراج احتماله الدلالي طبقا للجهتين. ويمكن تمثيل هذه الموافقة بالرسم التالي:

 

 

 

 

 

وعلى ذلك يستنتج الشاطبي أنّ اللفظ إذا جرى على الجهتين معاً «فلا إشكال في اعتباره؛ لأنّ اللفظ قابلٌ له، والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه، فاطِّراحه إهمالٌ لما هو ممكن الاعتبار قصداً»([12]).

2ـ أن يكون المعنى المؤوَّل به مما يصح حَمْلُ الدليل عليه، سواء من جهة اللفظ أو المعنى. وبناءً على هذا الشرط يُخطِّئ الشاطبي تأويل مَنْ حمل لفظ (الخليل) في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ (النساء: 125) على معنى الفقير، وتأويل مَنْ حمل لفظ (غوى) في قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: 121) على معنى غَوِيَ الفَصيل (إذا بَشِمَ من شرب اللبن)؛ ففي الأوّل لا يصحّ التأويل من جهة اللفظ، وفي الثاني لا يصحّ من جهة المعنى.

وممّا جمع بين خطل الجهتين قول مَنْ تأوَّل آية ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ (القصص: 88) بأنّ ذات الله فانية، ما عدا الوجه، الذي استُثني في الآية بصريح اللفظ، «وإنّما المراد بالوجه هنا غير ما قال، فإنّ للمفسِّرين فيه تأويلات، وقد هَذَا القائل ما لا يتّجه لغةً ولا معنى. وأقرب قولٍ لقصد هذا المسكين أن يُراد به ذو الوجه، كما تقول: فعلتُ هذا لوجه فلانٍ، فكأن معنى الآية: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاّ هو. ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾ (الإنسان: 9)»([13]).

والخلاصة أنّ مفهوم التأويل عند الشاطبي لا يعدو كونه حَمْلاً للفظ على معناه المطلق المطابق له في الاستعمال، وأنّ كلَّ جُهْد في تلقّي الخطاب محصور بحدود العلاقة بين صورة الخطاب وبين معناه المقصود الذي يحيل في النهاية على نوايا المستعمل.

على أننا إذا نظرنا في المرتكزات الشرعية التي ينطلق منها الشاطبي (مقاصد الشرع)، وفي المقتضيات الدلالية المبنية عليها (قطعية الخطاب)، وجدنا لهذا التوجه مسوِّغَه المناسب. فمن الصنف الأول قول الشاطبي: «وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعةٌ إلى نمط التشابه؛ لأنّها دائرة بين طرفَي نفيٍ وإثبات شرعيّين، فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ. وعلى كلّ تقدير إنْ قيل بأنّ المصيب واحدٌ فقد شهد أرباب هذا القول بأنّ الموضع ليس مجال الاختلاف، ولا هو حجّة من حجج الاختلاف، بل هو مجال استفراغ الوسع، وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتّحد»([14]).

وكذلك قوله: «إن الاجتهاد إنْ تعلَّق بالاستنباط من النصوص فلا بدّ من اشتراط العلم بالعربية، وإنْ تعلَّق بالمعاني من المصالح والمفاسد، مجرّدةً عن اقتضاء النصوص لها أو مسلَّمةً من صاحب الاجتهاد في النصوص، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنّما يلزم العلم بمقاصد الشرع جملةً وتفصيلاً»([15]).

ومضمون هذا القول أنّ البنيات الاشتباهية لا تقبل إلاّ تأويلاً واحداً، يفضي إلى مقاصد الشريعة التي بنى عليها الشاطبي نظره في الأصول، فما وافق هذه المقاصد اعتُدَّ به احتمالاً سليماً للخطاب، وما أوقع في خلاف ذلك فهو ضربٌ من الهوى والزيغ.

 

4ـ المعيار القصدي في تأويل البنيات الاشتباهية

ومن الصنف الثاني قول الشاطبي: «كون الشارع قاصداً للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية؛ والحاجية؛ والتحسينية، لا بدّ عليه من دليل يستند إليه. والمستنَد إليه إمّا أن يكون دليلاً ظنياً أو قطعياً. وكونه ظنياً باطل، مع أنّه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعيّة حسب ما تبيَّن في موضعه؛ فأصول أصولها أَوْلى أن تكون قطعية»([16]).

غير أنّ هذه القطعية بالنسبة إليه لا تحصل في صورة الدليل أو الخطاب على وجه الحصر؛ لأنّ الأمر يقتضي أن يكون هذا الدليل خالياً من عوامل الاشتباه بالكلّية، وقد حصرها الشاطبي في عشر مقدّمات:

1ـ نقل اللغات وآراء النحو.

2ـ الاشتراك.

3ـ المجاز.

4ـ النقل الشرعي أو العادي.

5ـ الإضمار.

6ـ التخصيص للعموم.

7ـ التقييد للمطلق.

8ـ الناسخ.

9ـ التقديم والتأخير.

10ـ المعارض العقلي.

وإذا كان خلوّ الدليل من إحدى هذه المقدّمات عسيراً ونادراً فإنّ مأتى القطعية عنده من وجهٍ آخر، يعتبره الشاطبي روح المسألة، وطريقه ما اصطلح عليه بالاستقراء المعنوي، الذي يتجاوز حدود الصيغة واللفظ، مع ما يعتريها من الأحوال الاشتباهية المختلفة، والموقِعَة في الظنّ، لا القطع. وهذا الاستقراء المعنوي عنده «لا يثبت بدليلٍ خاص، بل بأدلّةٍ منضافٍ بعضُها إلى بعض، مختلفة الأغراض؛ بحيث ينتظم من مجموعها أمرٌ واحد تجتمع عليه تلك الأدلّة… فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليلٍ مخصوص، ولا على وجهٍ مخصوص؛ بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات والمطلقات والمقيّدات، والجزئيّات الخاصّة في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كلّ باب من أبواب الفقه، وكلّ نوع من أنواعه، حتّى ألفَوْا أدلة الشريعة كلّها دائرة على الحفظ على تلك القواعد. هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة»([17]).

وبناءً على ما سبق يصح القول: إنّ اعتبار المقاصد العامّة للخطاب الإلهي هو المبدأ الذي تُردّ إليه كافّة الظواهر الدلالية التي تلتبس على نحوٍ من الاشتباه يخفي القصد أو يقرنه بالتعدُّد. وهذا المذهب إنّما يستند إلى قاعدة خاصّة في تحقُّق الخطاب عند الشاطبي، مفادها أنّ القصد سابقٌ على بنية الخطاب ومعناه، ومنفصلٌ عنهما في آنٍ. ونتيجة هذا الأمر أنّ عملية تلقّي الخطاب ينبغي أن تتعدّى ظروف التداول، وتتجاوز معنى الخطاب، لتتوجَّه إلى القصد الذي يعتبر آنذاك الاحتمال الدلالي الوحيد للبنية الكلامية قيد التداول، سواء كانت اشتباهيّة أو جليّة، ويتمّ تحصيله على الجملة، لا على التفصيل. وهذا معنى قول الشاطبي: «فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداءً. وكثيراً ما يغفل هذا النظر بالنسبة إلى الكتاب والسنّة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتستبهم على الملتمس، وتستعجم على مَنْ لم يفهم مقاصد العرب»([18]).

ويتأسَّس على ذلك أنّ المستعمل عنصر مركزي يتحكّم في العناصر الأخرى للمقام التداولي، ويوجِّه حركتها التضافرية لتشكيل دلالة الخطاب. كما أنّ القصد ـ وهو من صفات المستعمل ـ يتحوَّل بدوره إلى مرجعٍ أساسي تُعرض عليه جميع الاحتمالات الدلالية المفترضة، وخاصّة في البنيات الاشتباهية التي تسمح بهذا التعدُّد. وبالنظر إلى هذا (القصد المرجعي) تتحدّد الدلالة المناسبة. أمّا في البنيات المنصوصة، التي يذهب الشاطبي إلى أنّها الغالبة على خطاب الله عزَّ وجلَّ، فإنّ المعنى فيها يطابق القصد القبلي المحصَّل ابتداءً.

وفوق ذلك وجدنا الإمام الشاطبي يحصر معنى الخطاب في القصد ذاته، حيث يؤكِّد أنّ الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، «بناء على أن العرب إنّما كانت عنايتها بالمعاني، وإنّما أصلحت الألفاظ من أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية. فاللفظ إنّما هو وسيلةٌ إلى تحصيل المعنى المراد؛ والمعنى هو المقصود، ولا أيضاً كلّ المعاني، فإنّ المعنى الإفرادي قد لا يُعبَأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوماً دونه»([19]). ويمكن تمثيل العلاقة بين القصد والخطاب والمعنى حسب تصور الشاطبي في هذه الخطاطة:

 

 

 

 

فالقصد يرتقم في الخطاب، وينبغي أن يكون معنى الخطاب المستخرج أثناء التلقي دالاًّ عليه، ومطابقاً له، حتّى إذا تعدَّدت المعاني التي يحتملها الخطاب كان الأنسب منها هو الذي يحيل على القصد مباشرة. على أنّ تصحيح العلاقة بين المعنى والخطاب ـ وهو الخطوة الممهّدة لإدراك القصد ـ إنّما يُرجع فيها إلى معهود العرب «الذين نزل القرآن بلسانهم، فإنّ للعرب في لسانهم عرفٌ مستمرّ، فلا يصحّ العدول عنه في فهم الشريعة. وإنْ لم يكن ثَمّ عرفٌ فلا يصحّ أن يجري في فهْمها على ما لا تعرفه، وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب. مثال ذلك: إن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبداً عند محافظتها على المعاني، وإنْ كانت تراعيها أيضاً»([20]).

وترتيباً على ذلك فإنّ كافّة أشكال الاشتباه في الخطاب، الناتجة عن اختلال العلاقة بين العناصر الثلاثة السابقة (الخطاب؛ والقصد؛ والمعنى) يمكن ردُّها إلى وحدة المعنى والقصد، التي لا يزري بها خروج الكلام على خلاف الأحكام والقوانين المطّردة والضوابط المستمرّة، وتداخل أساليب المنثور والمنظوم، والاستغناء ببعض الألفاظ عمّا يرادفها أو يقاربها. «ولا يعدّ ذلك اختلافاً ولا اضطراباً إذا كان المعنى المقصود على استقامةٍ»([21]).

وإذا شئنا أن نستطلع كيف تعامل الإمام الشاطبي مع التعدُّد المعنوي في الخطاب؛ لاختبار ما سبق التصريح به في شأن العلاقة بين الخطاب ومفهومَيْه المتلازمين: المعنى؛ والقصد، يكفي النظر إلى المسألة التي صاغها الإمام في هذه الدعوى: «إذا ثبت أنّ للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين: من جهة دلالته على المعنى الأصلي؛ ومن جهة دلالته على المعنى التبعي، الذي هو خادم للأصل، كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام، وهل يختصّ بجهة المعنى الأصلي، أو يعمّ الجهتين معاً؟»([22]).

 

5ـ الدلالة الأصلية والدلالة التبعية في الخطاب الشرعي

وعند هذه المسألة يتّضح أكثر ما سبق الإلماع به من تأثير اقتضاءات الحكم الشرعي في تحليل الشاطبي لاشتباه الخطاب، وهي التي قادته إلى نفي ذلك عن كلام الله عزَّ وجلَّ عن طريق تعميم (حكميّته) الموجبة لتحصيل المعنى في صورةٍ مباشرة وصريحة لا يشوب صفاءها تعدُّدٌ أو غرابةٌ أو إبهامٌ. وفي المسألة المشار إليها يقيم الشاطبي نوعاً من التعارض بين معنيين: الخطاب في دلالته على الوضع من جهة؛ ودلالته على معنى لازم اقتضته الصيغة أو المفهوم من جهةٍ ثانية. والتعارض المذكور قائمٌ على استعمال الإمام لفظي (الأصلي) و(التبعي) لإفادة الدلالتين. فعن الأصلي تتمخَّض صفة الإطلاق، التي نسبها إلى دلالة الخطاب على الحكم الشرعي ابتداءً: «فلا إشكال في صحّة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاقٍ، ولا يسع فيه خلافٌ على حال. ومثال ذلك: صيغ الأوامر والنواهي، والعمومات والخصوصات، وما أشبه ذلك، مجرّداً من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول»([23]).

أمّا التبعي فإنّ كونَه دالاًّ على معناه موقوف على أمرين: التعلُّق بالأصلي؛ والزيادة عليه. ويظهر أنّهما صفتان موجبتان لإغناء دلالة الخطاب، وتعزيز بلاغته، دون إخلال بمعناه الابتدائي المقصود. وهذا الأمر جارٍ مع حجّة الآخذين بدلالة التبعي في «أنّ الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنّما هو من جهة كونها بلسان العرب، لا من جهة كونها كلاماً فقط. وهذا الاعتبار يشمل ما دلّ بالجهة الأولى، وما دلّ بالجهة الثانية. هذا وإنْ قلنا: إنّ الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف، كالفصل والخاصّة، فذلك كلُّه غير ضائر. وإذا كان كذلك فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام، دون الثانية، تخصيصٌ من غير مخصِّص، وترجيحٌ من غير مرجِّح. وذلك كلُّه باطل؛ فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية، فكان اعتبارهما معاً هو المتعيِّن»([24]).

وهي حجّة تكتسب قوّتها من وجوب تضافر الأصلي والتبعي لإفادة معنى الخطاب، من غير تقديم لأحدهما على الآخر؛ لاستحالة تحديد ما يصحّ أن يكون من قبيل الجهة الأولى، وما يكون من قبيل الجهة الثانية من بين معاني الخطاب، إلاّ إذا فهمنا (الأصلي) على أنّه المعنى الوضعي الذي يدرك من جهة ما اتّفق عليه من نسبة المعاني إلى الألفاظ وأصول التركيب في العبارة. وبهذه المطابقة بين (المعنى الوضعي) و(المعنى الأصلي) يمكن أن نتبيَّن المعاني الثواني التي تقترن بالخطاب، وتجمعها بالمعنى الأصلي علاقة خدمة وتبعية. لكنّ المعلوم أنّ الغالب على الخطاب البليغ، والقرآن الكريم منه، أن لا يتّبع سنّة المطابقة تلك، بل يلجأ مستعمله إلى تشكيل قانونه الاستعمالي الخاصّ الذي يوصله إلى تسنّم مراتب البلاغية المحدِثة للتأثير في السامع، ممّا يلجئه بدوره إلى مواجهة المعنى الاستعمالي بقوانين دلالية مغايرة، تُسند إلى الخطاب معنىً مخالفاً للاستعمال أو زائداً عليه. وهذا وجه تسميتنا له بالاحتمالي أو الاشتباهي. وهذه الحقيقة أيضاً مبعث استحالة تصنيف الدلالات الخطابية وتقسيمها إلى: أصلية؛ وتبعية. فالأصلية عند المستعمل ليست كذلك عند المتلقّي، ومعلوم أنهما معاً يأخذان بلازم المعنى. فدلالة الاستعمال لازمة عن الوضع؛ ودلالة الاستقبال لازمة عن الاستعمال. وبناءً على ذلك فكلّ دلالة من الثلاث أصليّة بالقياس إلى منتجها، لا إلى ما تلزم عنه.

ولتوضيح هذه الفكرة التي نأتمّ بها في هذه المسألة نوظِّف الرسم التالي:

دلالة أصلية دلالة أصلية دلالة أصلية
الجماعة المخاطِب المتلقّي

مع الإشارة إلى أنّ الأولى معجمية، والثانية والثالثة تداوليّة ناتجة عن إخضاع الأولى لمقام التواصل.

وعلى خلاف ذلك، يذهب الإمام الشاطبي إلى تأكيد المطابقة التي أشرنا إليها بين المعنى الوضعي والمعنى الاستعمالي، على نحوٍ يمنع من استفادة شيءٍ زائد على الدائرة الأولى للخطاب. وهو يأخذ بحجج مَنْ يسقط دلالة التبعي، وأهمّها: «أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعاً للأولى يقتضي أنّ ما تؤدّيه من المعنى لا يصحّ أن يؤخذ إلاّ من تلك الجهة. فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجاً بها عن وضعها. وذلك غير صحيح. ودلالتها على حكمٍ زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونها تبعاً للأولى، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهمٍ عربي. وذلك غير صحيح. فما أدّى إليه مثله، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية، غير مسلَّمٍ، وإنّما هي راجعة إلى أحد أمرين: إمّا إلى الجهة الأولى؛ وإمّا إلى جهةٍ ثالثة غير ذلك»([25]).

وقد وجدنا عند ابن قيِّم الجوزية ما يصحّ التمثيل به لهذه الحجّة بتفاصيلها المذكورة؛ وذلك حيث يميِّز بين المعنى ولازم المعنى في تفسير القرآن (الأصلي والتبعي في كلام الشاطبي)، ويقدِّم الأول على الثاني. يقول في تفسير سورة ق: «ثمّ عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ﴾ (ق: 15)، يقال لكلّ مَنْ عجز عن شيء: عَيِيَ به، وعَيِيَ فلانٌ بهذا الأمر، قال الشاعر:

عَيُّوا بأمرهـم كما عَيِيَتْ ببيْضتها الحمامهْ

ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ (الأحقاف: 33)، قال ابن عبّاس: أفعجزنا؟ وكذلك قال مقاتل. قلتُ: هذا تفسير بلازم اللفظة، وحقيقتها أعمّ من ذلك؛ فإنّ العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا، وعييتُ به؛ إذا لم تهتدِ لوجهه، ولم تقدر على معرفته وتحصيله، فتقول: أعياني دواؤك؛ إذا لم تهتدِ له، ولم تقف عليه. ولازم هذا المعنى العجز عنه»([26]).

أمّا الجهة الثالثة التي تحدَّث عنها الشاطبي في النصّ السابق فهي التي أسماها في موضوعٍ آخر بالآداب الشرعية والتخلقات الحسنة، وهي التي جعلها الإمكانية الوحيدة التي تسوِّغ الحديث عن دلالة تبعية إلى جانب أخرى أصليّة. ويظهر من حديثه عنها أنّها لا تبلغ درجة الدلالة؛ لأنها ليست لازمة عن صيغة الخطاب، كما هو الحال في الدلالة الأصلية، ولكنّها تدرك بالعقل والاعتبار، وهي وحدها التي يجري عليها جواز التعدُّد. ومع كونها زائدة فإنّ ذلك لا يفضي إلى ثنائية الدلالة على النحو الذي ينفيه الشاطبي.

وتأسيساً على هذه الإضافة يمكن تقسيم الدلالات في رأيه إلى ثلاثة أقسام، تجمع بينها العلاقات التي نوضِّحها في هذه الخطاطة:

 

 

 

 

 

الوضع         آداب شرعية      تخلّقات حسنة

وفي شأن هذه المعاني الاعتبارية أورد الشاطبي سبعة أمثلة:

يتعلّق الأوّل بترك حرف النداء في الآيات التي تتضمّن نداء العبد لربّه؛ لأنّ الله تعالى منزَّه عن التنبيه الذي يفيده حرف النداء في الأصل. كما أنّ أكثر أدوات النداء دالّة على البعيد، ومنها (يا)، وقد أفاد الله سبحانه في غير ما آيةٍ أنّه قريبٌ من عباده.

ويتعلَّق الثاني بورود النداء القرآني من المخلوق للخالق بلفظ (الربّ)؛ تنبيهاً وتعليماً لأنْ يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال المدعوّ بها؛ وذلك أنّ الربّ في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب»([27]).

ويتعلّق الثالث بالكناية الني يلجأ إليها الخطاب القرآني في المعاني التي يمنع الاستحياء من التصريح بها، كالكناية عن الجماع باللباس والمباشرة، وكالدلالة على قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط.

ويعتبر الشاطبي أنّ دلالة هذه الألفاظ على المعاني المشار إليها إنما تتمّ بالتبع، لا بالأصل. وبتحليل هذا المثال يتبين أنّ الكناية عبارة عن بنية اشتباهية اقتضاها عنصر مقامي، وهو هاهنا الاستحياء من التعبير المباشر عن المعنى، باعتبار تعلّقه بمرجع دلالي لا يقبل التصريح. ويتمّ تلقي هذه البنية الاشتباهية من لدن السامع عن طريق إخضاع الصيغة التعبيرية للعنصر المقامي المذكور الذي يؤدي دوراً ضابطاً، وبه يتمّ اكتناه المعنى المقصود. وهي عملية، كما يلاحَظ، تستوجب الاستعلاء عن المعنى المباشر للفظ للوقوف على المعنى المقصود، أو قُلْ: إنّ الأمر يستدعي نوعاً من الانتقال بين الصورتين الدلاليتين، في الوقت الذي يقع فيه إدراك الموجب المقامي لهذا الانتقال، وهو الاستحياء والتماس الأدب. وعليه يمكن القول: إنّ البنية الاشتباهية في غياب العنصر المقامي السالف، أو في حالة الغفلة عنه، تظلّ كذلك إلى أن يتدخّل أطراف المقام لحلّ هذا الإشكال. ولنا أن نوضح ما سلف ذكره بواسطة التخطيط التالي:

 

 

 

 

دلالة استعمالية      عنصر مقامي ضابط        دلالة تداولية

على أنّ الإمام الشاطبي في تحليله لأمر الانتقال بين الدلالة الاستعمالية والدلالة التداولية في هذا المثال يعتبر أنّ إفادة (اللباس) لـ (الجماع) تابعة للدلالة الأصلية، التي تعد شرطاً لوجودها، كما أنّها لا تعدو أن تكون «أدباً لنا استنبطناه من هذه المواضع»، على حدّ تعبيره، الذي يوحي بانتظام هذه الإفادة خارج مفهوم (الدلالة)، أو قُلْ: إنّها قاصرةٌ عن القيام في هيئة دلالة مستقلّة وثابتة. والوجه عندنا أن تكون هذه البنية الاشتباهية تجلياً بلاغياً للمعنى، يستفاد بعيداً عن هاجس المطابقة بين اللفظ المستعمل والمعنى المراد به. فإن تخيل هيئة (الملابسة) دالّة على معنى الجماع، والانتقال منها إليه أبلغ من تصوُّر الجماع قبل ورود معنى الملابسة على الذهن، وإنْ كان الأوّل أصلاً، والثاني فرعاً. ونحن نقصد أنّ بلاغة هذه البنية الاشتباهية قائمة على قلب الموضعين ليصير التابع (الملابسة) أصلاً يسبق إلى الذهن، والأصل تابعاً يُدرَك مع الأول بالضرورة؛ باعتباره مقصوداً لا لذاته؛ بل مع غيره الذي يتوقّف على ما تُمليه عناصر المقام التداولي.

ورابع الأمثلة: الالتفات. وهو أيضاً من البنيات الاشتباهية القائمة على المخالفة في خطابٍ واحد بين ضميري الخطاب والغياب. وعنها تترتَّب دلالة بلاغية قاربها الإمام الشاطبي في عدّة شواهد، منها: قوله تعالى عتاباً للنبيّ|: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ (عبس: 1)، التفاتاً من الحضور إلى الغيبة، التي تقتضي تقليص حدّة العتاب، على خلاف ضمير الخطاب المفهِم للمعنى على وجهٍ أشدّ وأكثر كثافة. ويتحصّل من ذلك أنّ دلالة الالتفات من نوع الدلالات المقامية التي يرجع فيها إلى تحليل المقتضيات التداولية للخطاب، دون اعتبار لدلالته المباشرة.

أمّا المثال الخامس من الآداب والتخلّقات الحسنة عند الشاطبي فإنّه يلتمس في البنيات اللغوية التي وقع فيها السكوت عمّا لا يليق نسبته إلى الله عزَّ وجلَّ، مع أن هذه البنيات تحتمل دخول المسكوت عنه في معناها. وقد عبَّر الشاطبي عن ذلك بقوله: «الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشرّ إلى الله تعالى، وإنْ كان هو الخالق لكلّ شيء، كما قال بعد قوله: ﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ (آل عمران: 26)، ولم يقُلْ: (بيدك الخيرُ والشرّ)، وإنْ كان قد ذكر القسمين معاً؛ لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى مَنْ لحق ذلك به شرٌّ ظاهر»([28]).

وفي المثال السادس يحلِّل الإمام الشاطبي مجموعةً من الشواهد يمكن إدخالها في باب الاشتباه المقصود لغاية تداولية عبَّر عنها الإمام بالأدب في المناظرة: «أن لا يفاجئ بالردّ كفاحاً دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة»([29]). ففي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ (الزخرف: 81) جرى التعبير عن معنى يخالف مقتضى العقيدة، لكنّ المقام التداولي المحيط بهذه البنية يقود إلى أن المقصود خلاف المعنى المذكور؛ أو قُلْ: إن الإقرار به متعلّق بالفائدة المقامية الناجمة عنه، وهي التي سبق الإلماع بها.

وسابع الآداب عند الشاطبي أنْ يعبِّر المتكلِّم العالم بمصير أمر من الأمور على نحو ينبئ بجهله هذا المصير، كما في قوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ (الإسراء: 79)، «فإنّ الترجّي والإشفاق ونحوهما إنّما تقع حقيقة ممَّنْ لا يعلم عواقب الأمور، والله عليمٌ بما كان وما يكون، وما لم يكن أنْ لو كان كيف يكون، ولكنْ جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا»([30]). والاشتباه في هذه البنيات قائم على معرفة حالة المتكلِّم المستعمل للخطاب، وإدراك المفارقة بين علمه المطلق وبين ما يدلّ عليه خطابه من وقوعه في صفّ العامة والجمهور، الذين يحيط علمهم فقط بما لا يتجاوز قدرتهم المحدودة.

والإمام الشاطبي بعد ذلك كلّه يخلي هذه الأمثلة جميعاً من إفادة الحكم «من جهة وضع الألفاظ للمعاني، ويؤكِّد أنّ الأمر حادثٌ من جهة الاقتداء بالأفعال»؛ بمعنى أنه يخرجها من مفهوم الدلالة، كما سبقت الإشارة إليه؛ امتثالاً لمقتضيات الحكم الشرعي، التي أجبرته على نفي التعدُّد الدلالي للخطاب، وقادته إلى فهمٍ خاصّ للدلالة يستند إلى الوحدة والمطابقة بين الصيغة والمفهوم، ممّا يثبت صعوبة تحليل البنيات الاشتباهية وتجلّياتها البلاغية، بإعمال آليات النظر التي يوظِّفها الشاطبي.

الهوامش:

(*) أستاذٌ مساعد في جامعة مولاي إسماعيل (المغرب)، في الكلية متعدِّدة التخصُّصات في الرشيدية.

([1]) الموافقات في أصول الشريعة 3: 64، تحقيق: عبد الله دراز ومحمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت.

([2]) المصدر السابق 3: 66.

([3]) المصدر السابق 3: 67.

([4]) يعرِّف المسدي والطرابلسي «التفسير» كالتالي: «مفهوم لغوي عام يعني تناول نفس المدلول بصياغة تعبيرية جديدة، بحيث يكون لمدلولٍ واحد دالاّن اثنان على الأقلّ، أمّا غايته فتتمثَّل في الإيضاح؛ قصد التأكد من الإبلاغ، ولا سيما إنْ خيف غموضٌ أو التباس. على هذه الأسس الدلالية يعتبر التفسير وظيفة نحوية، مداره تحديد أجزاء الكلام بعضها بالنسبة إلى بعض». (الشرط في القرآن على نهج اللسانيات الوصفية: 159، الدار العربية للكتاب بتونس، الطبعة الأولى، 1985).

وينظر: بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن 3: 36، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت. وفيه يربط الزركشي التفسير بفوائده البلاغية.

وينسجم هذا التصوّر مع فكرة التمفصل الدلالي والتركيبـي الذي يتيح استقلال الخطاب المفسر عن الخطاب الاشتباهي من جهة التركيب، كما يتيح ارتباطهما من جهة الدلالة. على أنّ هذا الارتباط نفسه يدل عليه اللفظ، وقد يُفهَم من النِّسَب الجامعة بين عناصر الخطاب.

([5]) الموافقات 3: 68.

([6]) المصدر السابق 3: 69.

([7]) المصدر نفسه.

([8]) المصدر السابق 3: 86.

([9]) المصدر السابق 3: 69.

([10]) المصدر السابق 3: 73.

([11]) المصدر نفسه. وينظر: شهاب الدين السهروردي(632هـ)، كشف الفضائح اليونانية ورَشْف النصائح الإيمانية: 201 ـ 210، تحقيق: عائشة يوسف المناعي، دار السلام بمصر، الطبعة الأولى، 1999.

وفي مناقشة قواعد التأويل التي وضعها الشاطبي لضبط عملية استنباط المعنى القرآني بصفة عامة يستنتج د. محمد مفتاح أنّ غاية الشاطبي كانت هي التوفيق بين ردِّ الآراء والنـزاعات والاختلافات حول الدلالة الشرعية وبين الاجتهاد في استنباط الأحكام، لكنّه يُسنِد هذه الوظيفة إلى الخاصّة، الذين يمتلكون القدرة العلمية والآلية لأدائها، كما أنّه يُخرج الأصول العقدية من عمل التأويل، ويحصره في الجزئيات، دون الكلّيات. (ينظر: التلقي والتأويل: 139، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2001).

([12]) الموافقات 3: 74.

([13]) ينظر: الشاطبي، الاعتصام 2: 303، تحقيق: محمد رشيد رضا، مكتبة الرياض الحديثة.

([14]) الموافقات 4: 92.

([15]) المصدر السابق 4: 117.

([16]) المصدر السابق 2: 37.

([17]) المصدر السابق 2: 39.

([18]) المصدر السابق 2: 67.

([19]) المصدر السابق 2: 66.

([20]) المصدر السابق 2: 62.

([21]) المصدر السابق 2: 63.

([22]) المصدر السابق 2: 72.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) المصدر السابق 2: 73.

([25]) المصدر السابق 2: 77.

([26]) ابن قيِّم، الفوائد: 16، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.

([27]) الموافقات 2: 79.

([28]) المصدر السابق 2: 80.

([29]) المصدر السابق 2: 81.

([30]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً