أحدث المقالات

د. حسين داورزني(*)

د. علي آل بويه(**)

د. محمد حسين بياتي(***)

طرح المسألة

الكفالة عقدٌ يلتزم بموجبه أحد الطرفين إحضار شخص ثالث للطرف الآخر، فيصطلح على الملتزم بالكفيل وعلى الشخص الثالث بالمكفول، وعلى صاحب الحقّ بالمكفول له.

الكفالة قد تكون مطلقةً؛ وقد تكون مقيدة بمدّةٍ. ففي الصورة الأخيرة لا بُدَّ أن تكون المدّة منضبطة، ولا يحقّ للمكفول له أن يطلب من الكفيل إحضار المكفول قبل حلول الأجل، وذلك بخلاف الكفالة المطلقة، حيث يحقّ له أن يطلب من الكفيل إحضار المكفول في أيّ زمان.

إذا أحضر الكفيل المكفول في الزمان والمكان الذي قد التزم بتسليمه فيهما تبرأ ذمّته؛ وأمّا إذا لم يعمل بمقتضى التزامه يحبس إلى أن يحضر المكفول أو يؤدي بنفسه ما يكون على ذمّة المكفول للمكفول له. والسؤال الرئيسي في المقام، والذي تكون هذه المقالة بصدد الإجابة عنه، هو: ما هي شرائط حبس الكفيل بحَسَب الروايات ورؤية الفقهاء الإماميين؟ وهل يحبس الكفيل حتّى يحضر المكفول أو يخلي سبيله إنْ أدّى بنفسه دين المكفول إلى المكفول له؟ وهل يوجب عدم الوفاء بالالتزام من ناحية الكفيل أن يحكم عليه بالسجن؟

حبس الكفيل في الفقه الإمامي

إذا طلب المكفول له من الكفيل أن يحضر المكفول، فامتنع الكفيل عن ذلك، فهل يحبس الكفيل إلى أن يؤدّي الحقّ أو يعاقب عليه بغرامة مالية فحَسْب، من دون أن يحبس؟ وردت رواياتٌ صحيحة تنصّ على أنّ للقاضي حبس الكفيل في هذه الصورة. وقد أفتى جملةٌ من فقهاء الشيعة وفق هذه الروايات، ومنهم: الشيخ الصدوق وسلاّر الديلمي والشيخ الطوسي والمحقّق والعلاّمة الحلّيان والشهيدان وغيرهم.

فمن بين الروايات الآتية تكون إحداها فقط ـ وهي الرواية المنقولة في دعائم الإسلام ـ مشعرةً بتخيير الكفيل بين الإحضار والأداء؛ بينما سائر الروايات تدلّ بالصراحة على حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول. ويرتفع التنافي المزبور إمّا بحمل سائر الروايات على رواية الدعائم؛ وإمّا بالقول بالتخيير.

ففي الدعائم: «عن أبي جعفر محمد بن عليّ’ أنّه قال: إذا تحمّل الرجل بوجه الرجل إلى أجل، فجاء الأجل من قبل أن يأتي به، وطلب الحمالة، حبس، إلاّ أن يؤدّي عنه ما وجب عليه إنْ كان الذي يطلب به معلوماً، وله أن يرجع به عليه، وإنْ كان الذي قد طُلب به مجهولاً ما لا بُدَّ فيه من إحضار الوجه كان عليه إحضاره إلاّ أن يموت، وإنْ مات فلا شي‌ء عليه»([1]).

وفي مسند زيد: «…زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليٍّ(رضي الله عنهم)، أنّ رجلاً كفل لرجل بنفس رجل فحبسه حتّى جاء به»([2]).

وفي وسائل الشيعة: «محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن عليّ بن محبوب، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن غياث بن كلوب بن فيهس البجلي، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه×، أن علياً× أُتي برجلٍ كفل برجل بعينه، فأخذ بالمكفول، فقال: احبسوه حتّى يأتي بصاحبه»([3]).

يقول العلاّمة المجلسي حول هذه الرواية، في ملاذ الأخيار: «حسن أو موثّق. قوله: بعينه: قال الوالد العلاّمة قدّس الله روحه: أي ببدنه. ويمكن أن يقرأ بعينه بكسر العين، أي: بسبب سلف أو نسيئة. انتهى. والباء في قوله: بالمكفول سببيةٌ، أي: أخذ الكفيل بسبب المكفول»([4]).

ووردت في وسائل الشيعة أربع روايات بمضمون أنّ علياً× كان يحبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول([5]).

وقد عمل فقهاء الشيعة بمضمون هذه الروايات، وأفتوا بأنّه لو امتنع الكفيل من تسليمه ألزمه الحاكم به؛ فإنْ أبى فللمستحقّ طلب حبسه من الحاكم حتّى يحضره أو يؤدّي ما عليه إنْ أمكن أداؤه عنه، كالدَّين؛ فلو لم يمكن، كالقصاص والزوجية والدعوى بعقوبةٍ توجب حدّاً أو تعزيراً، ألزم بإحضاره حتماً مع الإمكان، وله عقوبته عليه كما في كلّ ممتنعٍ من أداء الحقّ مع قدرته عليه، فإنْ لم يمكنه الإحضار وكان له بَدَلٌ، كالدية في القتل وإنْ كان عمداً، ومهر مثل الزوجة، وجب عليه البَدَل. وقيل: يتعين إلزامه بإحضاره إذا طلبه المستحق مطلقاً؛ لعدم انحصار الأغراض في أداء الحقّ، وهو قويٌّ. ثم على تقدير كون الحقّ مالاً، وأدّاه الكفيل، فإنْ كان قد أُدِّي بإذنه رجع عليه؛ وكذا إنْ أُدِّي بغير إذنه مع كفالته بإذنه وتعذّر إحضاره، وإلاّ فلا رجوع»([6]). قال الشيخ الصدوق: «وإذا كان لرجلٍ على صاحبه حقّ فضمنته بالنفس فعليك تسليمه، وعلى الإمام أن يحبسك حتّى تسلمه؛ وإنْ ضمنته بالمال فعليك بالمال»([7]). قال الشيخ الطوسي: «ومَنْ ضمن لغيره نفس إنسان إلى أجل معلوم بشرط ضمان النفوس، ثمَّ لم يأتِ به عند الأجل، كان للمضمون له حبسه حتّى يحضر المضمون، أو يخرج إليه ممّا عليه»([8]). واشترط في كتابه المبسوط تخلية سبيل الكفيل بتسليمه للمكفول. وصرّح في الخلاف بحبسه الدائم. والذي يبدو بالنظر اختصاصه بموارد القتل أو المفاسد الاقتصادية الهائلة.

قال في المبسوط: «إذا تكفّل [كفل خ ل] رجل ببدن رجل لرجل عليه مال أو يدعى عليه مالاً… وإنْ امتنع من تسليمه حبس حتّى يسلم»([9]). وقال في الخلاف: «إذا تكفل ببدن رجل، فغاب المكفول به غيبة يعرف موضعه، ألزم الكفيل إحضاره، ويمهل مقدار زمان ذهابه ومجيئه لإحضاره، فإنْ لم يحضره بعد انقضاء هذه المدّة المذكورة حبس أبداً حتّى يحضره أو يموت. وبه قال جميع مَنْ أجاز الكفالة بالبدن»([10]). ذهب يحيي بن سعيد إلى انحصار عقوبة الكفيل في الحبس، ولا يرى شيئاً آخر عليه من الحقّ أو المال([11]). وذهب الشيخ البهائي إلى أنه يحكم على الكفيل في صورة عدم إحضاره للمكفول بالحبس أو أداء الحقّ الذي يكون على ذمّته([12]). وقد قسّم سلار الدَّيْلمي في المراسم الكفالة إلى قسمين: الكفالة العقدية؛ والكفالة القهرية، وحصر حبس الكفيل في الكفالة العقدية، قال: «أما الكفالة فعلى ضربين: أحدهما: كفالة اقتضاها عقد؛ وكفالة قهر. فأما التي بالعقد فأن يتكفل رجل بوجهه إلى أجل معلوم. وإن جاء الأجل ولم يأتِ به بنفسه حبسه ليجي‌ء به أو يخرج ممّا عليه»([13]). وذهب المحقِّق الحلّي إلى أنّه لو امتنع الكفيل عن تسليم المكفول عنه يحبس حتّى يحضر المكفول أو أدّى ما في ذمّته([14]). قال العلاّمة الحلّي في تذكرة الفقهاء: «إذا كانت الكفالة حالّةً، أو مؤجَّلة وحلّ أجلها، فإنْ كان المكفول به حاضراً وجب على الكفيل إحضاره‌ إذا طلبه المكفول له، فإنْ أحضره، وإلاّ حُبِس؛ وإنْ كان غائباً فإنْ كان موضعه معلوماً يمكنه ردّه منه أُمهل الكفيل بقدر ذهابه ومجيئه، فإذا مضى قدر ذلك ولم يأتِ به من غير عذرٍ حُبس، ولا يُحبس في الحال. وبه قال عامّة أهل العلم»([15]). وقال صاحب مفتاح الكرامة بعد نقل كلام العلاّمة الحلّي: «كما في النهاية والسرائر والشرائع والنافع والتحرير والإرشاد واللمعة والروضة، وظاهر هذه الكتب أنه إذا أدى ما عليه وجب على المكفول له القبول، ويبرأ الكفيل بذلك. وفي (التذكرة وجامع المقاصد) أنه إذا لم يرْضَ بدفع المال، وطلب إحضاره، ألزمه الحاكم بإحضاره»([16]). ثمّ قال موضِّحاً لكلام العلاّمة الحلّي& في قواعد الأحكام: «فيجب بالكفالة السعي في إحضارها، فلو لم يحضرها حُبس لا غير»([17]).

كلام صاحب الجواهر

قال صاحب الجواهر في ذيل عبارة المحقِّق الحلّي: «لا إشكال ولا خلاف في أن للمكفول له مطالبة الكفيل بالمكفول عنه عاجلاً إنْ كانت الكفالة مطلقة أو معجّلة، وبعد الأجل إنْ كانت مؤجلة، فإنْ سلَّمه تسليماً تامّاً، بحيث يتمكن المستحقّ منه فقد برئ ممّا عليه من حقّ الكفالة؛ …وإنْ امتنع الكفيل عن ذلك كان له حبسه عن الحكم، بل وعقوبته عليه حتّى يحضره، أو يؤدّي ما عليه، كما عن النهاية، والسرائر، والنافع، والتحرير، والإرشاد، والمصنّف، والروضة»([18]).

إشكال صاحب الجواهر

قد استشكل صاحب الجواهر على القول بتخيير الكفيل بين إحضار المكفول وبين أداء دينه بنفسه، فقال: «إلاّ أنها كما ترى، ليس في شي‌ء منها التخيير بين الإحضار والأداء؛ إذ قد يكون له غرضٌ لا يتعلق بالأداء، أو بالأداء من الغريم لا من غيره»([19]).

قال صاحب الحدائق: «أما لو امتنع التسليم فقد عرفت من الأخبار المتقدّمة أن للحاكم حبسه حتّى يحضره. والأصحاب قد ذكروا هنا أن للحاكم حبسه حتى يحضره، وله عقوبته عليه، كما في كلّ ممتنعٍ عن أداء الحقّ. وفيه: إن غاية ما دلّت عليه الأخبار المتقدمة هو الحبس حتّى يحضره، وهذا كافٍ في عقوبته، فلا معنى لعقوبته زيادة على ذلك؛ لعدم الإذن فيه شرعاً»([20]). يرى صاحب الرياض أنّه إذا امتنع الكفيل من تسليمه ألزمه الحاكم به، فإنْ أبى كان للمكفول له طلب حبسه منه حتّى يحضر الغريم، أو يؤدّي ما عليه إنْ أمكن أداؤه عنه، كالدين؛ فلو لم يمكن، كالقصاص والزوجيّة والدعوى لعقوبة توجب حدّاً أو تعزيراً، ألزم بإحضاره حتماً مع الإمكان، وله عقوبته عليه، كما في كلّ ممتنعٍ من أداء الحقّ مع قدرته. فإنْ لم يمكنه الإحضار، وكان له بَدَلٌ، كالدية في القتل وإنْ كان عمداً أو مهر مثل الزوجة، وجب عليه الإحضار»([21]). وبحَسَب رؤية الإمام الخميني& كلّ مَنْ عليه حقّ مالي صحّت الكفالة ببدنه، ولا يشترط العلم بمبلغ ذلك المال. نعم، يشترط أن يكون المال ثابتاً في الذمة، فإنْ كان المكفول حاضراً وجب على الكفيل تسليمه إلى المكفول له، فإنْ سلّمه له بحيث يتمكّن منه فقد برئ مما عليه، وإنْ امتنع عن ذلك يرفع الأمر إلى الحاكم، فيحبسه حتّى يحضره أو يؤدّي ما عليه في مثل الدين([22]). وفي وسيلة النجاة: «إذا تحقَّقت الكفالة جامعة للشرائط جازت مطالبة المكفول له الكفيل بالمكفول عاجلاً إذا كانت الكفالة مطلقة أو معجّلة؛ وبعد الأجل إنْ كانت مؤجّلة. فإنْ كان المكفول حاضراً وجب على الكفيل إحضاره؛ فإنْ أحضره وسلّمه تسليماً تامّاً بحيث يتمكّن المكفول له منه فقد برئ ممّا عليه؛ وإنْ امتنع عن ذلك كان له حبسه عند الحاكم حتّى يحضره أو يؤدّي ما عليه؛ وإنْ كان غائباً فإنْ كان موضعه معلوماً يمكن الكفيل ردّه منه أُمهل بقدر ذهابه ومجيئه، فإذا مضى قدر ذلك ولم يأتِ به من غير عذرٍ حبس»([23]). وفي موارد السجن: «إذا امتنع الكفيل عن تسليم المكفول يجبره الحاكم عليه؛ فإنْ امتنع يحقّ للمكفول له أن يطلب حبسه من الحاكم إلى أن يحضره أو يؤدّي ما كان عليه إنْ كان يمكنه الأداء، كالدَّيْن»([24]). يقول الطبسي: «وما يقال: إن التخيير بين الإحضار والأداء ليس في ما تقدَّم من الأخبار، إلاّ خبر الدعائم؛ إذ قد يكون للمكفول له غرضٌ لا يتعلق بالأداء، أو لا يريده من غير المكفول، إنما يَرِدُ فيما لو كانت الكفالة في غير المال، وإلاّ بأنْ كان مالاً فلا شَكَّ في انحلال عقد الكفالة بأداء الكفيل الدين، كما ينحلّ بتسليم المكفول أو بإبراء المكفول له أو بموت المكفول أو برفع المكفول له يده عن الكفالة، ومعه لا يبقى مجال لهذا الإشكال. أضِفْ إلى ذلك احتمال ورود الرواية مورد الغالب من عدم بذل الكفيل المال، كما احتمله في مفتاح الكرامة»([25]).

حبس الكفيل بحَسَب رؤية القانون المدني

قرَّرت المادّة 740 من القانون المدني: الكفيل يكون ملزماً بإحضار المكفول في الزمان والمكان الذي قد التزم بتسليمه فيهما، وإلاّ فعليه أن يؤدّي الحقّ الثابت على ذمّة المكفول إلى المكفول له([26]). مفاد هذه المادّة يكون منطبقاً مع رأي جمعٍ من فقهاء الفريقين، من أنه إذا امتنع الكفيل عن إحضار المكفول يكون غارماً، وعليه أن يؤدّي بنفسه ما يكون ثابتاً على ذمّة المكفول. وتُؤيِّد ذلك بعض روايات العامّة أيضاً،مضافاً إلى أنّ العرف وبناء العقلاء يساعده، فإنه إذا أدّى الكفيل حقّ المكفول له فلا يبقى مبرِّر لإبقاء الكفيل في السجن.

قرّرت المادّة 743: إذا التزم الكفيل أن يدفع مالاً إلى المكفول له في صورة عدم إحضاره للمكفول يجب عليه أن يعمل وفق ما التزم به([27]). هذه المادّة إنما تنصّ على لزوم وفاء الكفيل بما التزم به، ولا يتصدّى لبيان حكم ما إذا لم يعمل الكفيل وفق التزامه. لو قيل بأنه لا يكون ثمّة عقوبة في فرض عدم عمل الكفيل بتعهُّده، فيرد عليه حينئذ بأنّ التعهُّد المزبور سوف يفتقد الخصيصة القانونية، ويبقى كوعدٍ أخلاقيّ مَحْض، فيقع حقّ المكفول له في معرض التضييع والتفويت. فلا بُدَّ من فرض عقوبةٍ على الكفيل ـ وهو يكون السجن بحَسَب الروايات ـ. وبناءً على رأي بعض الفقهاء يجبر الكفيل أوّلاً بالأداء؛ فإنْ امتنع يحبس. يحاول الكفيل حينئذٍ إحضار المكفول بأيّ وجهٍ ممكن؛ لئلاّ يتضرّر بنفسه. ومن البديهيّ أنّ مَنْ يتقبّل الكفالة يلزم أن يكون عالماً بتبعاتها القانونية. وهذه التبعة بحَسَب الروايات والأدلّة الأخرى هي الحبس.

آراء علماء العامّة حول حبس الكفيل في الأمور المالية

أجمع علماء العامّة على مشروعية الكفالة المالية([28]). وصرَّحوا بأنه لو لم يعمل المكفول بتعهُّده أو مات معسراً، وكان الكفيل قد امتنع عن إحضاره، فعلى الكفيل الغرامة. وأمّا إذا امتنع عن أداء الغرامة فهل يحبس إلى أن يؤدّي الدين أو يثبت تعذّر إحضار المكفول؟ ذهب علماء الحنفية والشافعية إلى أنه يلزم الكفيل بإحضار المكفول؛ وأمّا إذا لم يحضره فلا يجبر على أداء الغرامة، بل إنّما يحبس حتّى يثبت تعذّر الإحضار أو يؤدّي الدَّيْن([29]).

جاء في أحكام السجن ومعاملة السجناء: «صرّحت الأحناف والشوافع بجواز حبس الكفيل؛ لأجل تخلّفه عمّا التزم بأدائه؛ لأنّ ذمّته قد انضمّت إلى ذمّة المكفول بمطالبة المكفول له. فيجوز حبسه إلاّ أن يثبت إعساره. وهذا مقتضى كلام المالكية والحنابلة، بل قد نقل عليه إجماع الفقهاء»([30]).

تسليم المكفول المحبوس بحَسَب رؤية فقهاء الشيعة

إذا كان المكفول محبوساً فهل يجب تسليمه أيضاً أم لا؟ فصَّل الفقهاء في ذلك بين ما إذا كان المكفول في سجن الحاكم الشرعي فيجب؛ وبين ما إذا كان المكفول في سجن ظالمٍ فلا يجب. وإليك أنظارهم: قال الشهيدان: «ويبرأ الكفيل بتسليمه تسليماً تاماً بأن لا يكون هناك مانعٌ من تسلّمه، كمتغلّب، أو حبس ظالم، وكونه في مكان لا يتمكّن من وضع يده عليه»([31]). ويرى صاحب الجواهر وجوب تسليم المكفول فيما إذا كان في سجن حاكمٍ عادل؛ معلّلاً بإمكان استيفاء الحقّ حينئذٍ. قال: «ولو كان المكفول محبوساً في حبس الحاكم العادل وجب تسلّمه؛ لأنه متمكّن من استيفاء حقّه منه؛ ضرورة أنه برفع أمره إليه يخرجه من الحبس أو يطالبه وهو فيه وينهي أمره معه ولو بأن يحبسه على الحقّين معاً»([32]). وقال في شرائع الإسلام: «لو كان محبوساً في حبس الحاكم وجب تسلّمه؛ لأنه متمكِّن من استيفاء حقّه؛ وليس كذلك لو كان في حبس ظالم»([33]). وجاء في تحرير الأحكام: «وليس له أن يسلِّمه إيّاه محبوساً في حبس الظالم، كما قلنا؛ وله أن يسلِّمه محبوساً في حبس الحاكم، فإنْ طالب الحاكم بإحضاره أحضره مجلس الحكم، وحكم بينهما، ثم ردّه إلى السجن»([34]). وقال في الحدائق الناضرة: «ولو كان في حبس الحاكم الشرعي لم يمنع ذلك تسليمه؛ للتمكُّن من استيفاء الحقّ؛ بخلاف ما إذا كان في حبس الجائر. والفرق بينهما واضحٌ في الأغلب؛ فإن الحاكم الشرعي لا يمنع من إحضاره ومطالبته بالحقّ، بخلاف الجائر… ثم إنه لو كان في حبس الحاكم الشرعي فطلبه الكفيل من الحاكم أمر الحاكم بإحضاره، وحكم بينهما؛ فإنْ انفصلت الحكومة بينهما ردَّه إلى الحبس‌ بالحقّ الأول؛ ولو توجه عليه حقٌّ يوجب الحبس حبسه أيضاً بالحقَّين معاً، وتوقّف فكّه على خلاصه من الحقَّين معاً»([35]).

تسليم المكفول المحبوس بحَسَب رؤية العامّة

صرَّح مشهور فقهاء العامّة بأنّ الكفيل لو تعهّد بتسليم المكفول في مكان خاصّ، فحبس المكفول عند غير حاكم شرعيّ، لم يجُزْ للمكفول له إلزام الكفيل بإحضار المكفول المحبوس؛ فإنّ كونه في حبس كذلك يكون مانعاً عن استيفاء الحقّ.

النتيجة

تحصَّل مما ذكرناه النتائج التالية:

1ـ إنّ المادّة (741) من القانون المدني وإنْ لم تصرِّح بحبس الكفيل في صورة عدم وفائه بما التزم به؛ إلاّ أنه يمكن إثبات ذلك بالروايات وبسائر الأدلّة.

2ـ ذهب جمعٌ من علماء الشيعة والسنّة إلى حبس الكفيل، وصرّحوا بإبقائه في السجن إلى أن يحضر المكفول، وقالوا: ليس عليه شيءٌ آخر غيره، كأداء الحقّ. وتتوافق آراء هؤلاء مع مضمون عدّةٍ من الروايات.

وذهب بعضٌ آخر إلى تخيير الكفيل بين إحضار المكفول وبين أداء ما عليه من الحقّ.

3ـ لا يحبس الكفيل إذا أثبت أنّ إحضار المكفول عنه لم يكن ممكناً له، كما إذا كان المكفول في حبس ظالم أو غائباً منقطعاً أو كان في مكانٍ غير معلوم.

4ـ شرائط حبس الكفيل بحَسَب رؤية الفريقين عبارة عن: أـ امتناع الكفيل عن تسليم المكفول في الأمور المالية؛ ب ـ مطالبة المكفول له حبس الكفيل؛ ج ـ كون الكفالة بإذن المكفول له وإجازته؛ د ـ كون الكفالة حالّة أو مؤجّلة وحلّ أجلها؛ هـ ـ عدم كون الكفيل في حبس حاكمٍ ظالم، وعدم كون المكفول غائباً منقطعاً لا يعرف مكانه.

وقد اشترط المالكية والحنابلة، مضافاً إلى ذلك، عدم إعسار المكفول عنه، فلو امتنع الكفيل عن إحضار المكفول عنه، فمات الأخير مُعْسراً، حكم على الكفيل بالغرامة.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الفقه وأصول القانون الإسلاميّ في كلِّية الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة في جامعة طهران.

(**) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الفقه وأصول القانون الإسلاميّ في جامعة «آزاد إسلامي».

(***) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الفقه وأصول القانون الإسلاميّ في جامعة عدالت.

([1]) التميمي المغربي، دعائم الإسلام 2: 64.

([2]) البقّال، مسند زيد: 257.

([3]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 13: 156.

([4]) المجلسي، ملاذ الأخيار 9: 555.

([5]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 13: 156، ح4، 3، 2، 1.

([6]) الجبعي العاملي، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1: 152 ـ 151.

([7]) الصدوق، المقنع: 378.

([8]) الطوسي، النهاية: 315.

([9]) الطوسي، المبسوط 2: 337.

([10]) الطوسي، الخلاف 3: 323.

([11]) الحلّي، الجامع للشّرائع: 303.

([12]) بهاء الدين العاملي، جامع عبّاسي: 225.

([13]) سلاّر الديلمي، المراسم العلوية: 200.

([14]) الحلّي، شرائع الإسلام 2: 115.

([15]) الحلّي، تذكرة الفقهاء 2: 102.

([16]) العاملي، مفتاح الكرامة 5: 434.

([17]) المصدر السابق: 429.

([18]) النجفي، جواهر الكلام 26: 189.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) البحراني، الحدائق الناضرة 21: 65.

([21]) الطباطبائي، رياض المسائل 9: 292.

([22]) الخميني، تحرير الوسيلة 2: 36 ـ 35.

([23]) الإصفهاني، وسيلة النجاة 2: 146.

([24]) الطبسي، موارد السجن: 432.

([25]) المصدر نفسه.

([26]) منصور، قانون مدني: 128.

([27]) المصدر نفسه.

([28]) ابن قدامة، المغني 4: 616؛ ابن حزم الأندلسي، المحلّى 2: 327.

([29]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى 29: 547.

([30]) حسن أبو غدّة، أحكام السجن ومعاملة السجناء: 205.

([31]) الجبعي العاملي، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 4: 151.

([32]) النجفي، جواهر الكلام: 201.

([33]) الحلّي، شرائع الإسلام 2: 116.

([34]) الحلّي، تحرير الأحكام 1: 225.

([35]) البحراني، الحدائق الناضرة 21: 76.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً