أحدث المقالات

دراسةٌ في أسباب الفشل

د. حسن طالقاني(*)

ترجمة: علي الوردي

 

مقدّمة

بعد اجتيازه مراحل تاريخية حافلة بالتجارب والتحوّلات أصبح العالم الإسلامي يعد العدّة للدخول إلى العصر الحديث.

فقبل حوالي 200 عام، وبالتحديد عندما دقّت مدفعية نابليون بونابرت تمثال أبي الهول في القاهرة، وبالرغم من أنها لم تستطع سوى التقليص من حجم أنفه، إلاّ أنّ هديرها أيقظ العالم الإسلامي من سبات تأريخي دام عقوداً طويلة.

ومنذ تلك اللحظة بدأ عصر جديد عرف تارةً بعصر النهوض، وأخرى بعصر إحياء الدين، وثالثة بعصر إصلاح الدين. ولا يزال هذا العصر مستمراً إلى يومنا هذا.

وقد شهدت البلدان الإسلامية طيلة القرنين المنصرمين أحداثاً هامة، ألقت بظلالها على مسار العالم الإسلامي بأسره، وربما غيرت ملامحه إلى حدٍّ بعيد.

لكنّ أبرز هذه الأحداث حادثتان وقعتا في العقدين الماضيين، كان لهما أثرٌ بالغ على العالم الإسلامي.

أولاهما: الثورة الإسلامية في إيران.

وثانيهما: انهيار الاتحاد السوفياتي، ونهاية العصر الماركسي اللينيني كنظرية ثورية.

ويمكننا عدّ أهمّ إفرازات الثورة الإسلامية وأبرز تأثيراتها على الحركات الثورية الإسلامية المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي هي إكسابها طابعاً سياسياً، وتحويلها إلى حركات سياسية.

وقد أدّى هذا التحوُّل الذي شهده المسلمون إلى ظهور اتجاهات وأصوات جديدة في سائر البلدان الإسلامية تطالب بتغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، واستبدال أساليب المواجهة مع الأنظمة الحاكمة بكافّة أشكالها.

وكان لانهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة أثرٌ بالغ على العالم الإسلامي، وذلك ضمن محورين:

الأوّل: التحوّل الذي شهدته استراتيجية الأحزاب اليسارية، التي كان أغلبها ماركسياً، جرّاء الانهيار. فبعدما كانت رؤيتها تنطلق من صميم المجتمع انعكست للتحوّل من خارج المجتمع إلى صميمه. وعلى أثر ذلك نشأت علاقات جديدة بين أحزاب اليسار التقليدي من جهة والأحزاب الإسلامية والائتلافات الوطنية من جهة أخرى.

وقد ساهم ذلك في تقليل حدّة التناقضات الفكرية والسياسية لشريحة كبيرة من الفرقاء السياسيين الذين يمتلكون اتجاهات ورؤى مختلفة.

فقد أصبحت الأحزاب اليسارية ـ في كثير من الأحيان ـ تتقبل التقاليد الاجتماعية السائدة، وتعدّها جزءاً من الثقافة الوطنية التي لا بُدَّ من احترامها.

وفي الحقيقة نشأ هناك نوعٌ من الانسجام والوفاق والتحالفات بين أطياف واسعة من الأحزاب والتيارات الإسلامية وغير الإسلامية (كالتحالف الذي نشأ بين حزب العمل الشيوعي والإخوان المسلمين في مصر).

وقد ساعدت هذه التحالفات في ظهور وتنمية الحركات السياسية التي كانت تنوي إيجاد تحوّلات جذرية على كافة الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. الأمر الذي أدّى إلى تدهور ميزان القوى الذي كان حاكماً بين الأنظمة وشعوبها في كثير من البلدان الإسلامية، بحيث تفاقمت المشاكل والأزمات على كافة المستويات، وخصوصاً على المستوى السياسي، وشملت معظم دول العالم الإسلامي تقريباً.

وإضافةً للتبعات التي خلّفتها نهاية الحرب الباردة، فقد كان لتلك الحرب تبعات مصيرية أخرى على العالم الإسلامي لا تقلّ أهمّية عن سابقها، وكان أبرزها تذليل العقبات التي أوجدها المحتلّون، والتي كانت تقف في وجه تأسيس الأنظمة الديمقراطية فيه، أي في العالم الإسلامي.

فإبان الحرب الباردة كانت أغلب دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول الإسلامية، تحت نفوذ وهيمنة الدول الغربية، وكان ذلك النفوذ يحول دون ظهور القوى الوطنية، وبتبعها الحركات التحرُّرية الإسلامية.

وكانت الدول الغربية المهيمنة تستثمر وجود بعض الحركات الإسلامية والوطنية، وتدفعها لتشكِّل سدّاً أمام تقدُّم المدّ الشيوعي. لكنْ بالرغم من هذا الاستثمار كان الخوف لا يفارق الدول الغربية؛ إذ قد يؤدي دعمها للحركات الإسلامية والتحرُّرية إلى نموّها وتطوّرها، وبالتالي خروجها عن نطاق السيطرة. وهذا القلق الذي كان يساور الدول الغربية دفعها لأن تحجِّم وتقلِّص من نموّ وتطوّر هذه الحركات. وليس هذا فحَسْب، فقد كانت تلجأ في كثير من الأحيان إلى مواجهتها والتصدّي لها.

وما كان يقلق الدول الغربية المحتلة بالدرجة الأولى هو أن الحركات الوطنية والإسلامية؛ نظراً لأهدافها الوطنية والإسلامية، قد تنمو وتتّسع، فتبلغ مرحلة تجعلها قادرة على المواجهة، وبالتالي تبدأ بتهديد المصالح الغربية في هذه الدول.

ولذلك كان توظيف الإسلام ـ من قِبَل الدول الغربية ـ لمواجهة المدّ الشيوعي محدوداً، وخاضعاً لضوابط لا يمكن تجاوزها.

والأمر الآخر الذي كان يشكِّل مصدر قلق للدول الغربية هو أن لا تتمكن هذه الحركات ـ الوطنية والإسلامية ـ من التفوُّق على الأحزاب الشيوعية، التي تتمتع بتجربة فذّة وتنظيم دقيق، إضافةً للدعم الروسي لها، وبالتالي يفضي الأمر إلى انتصار الأحزاب اليسارية وسيطرتها.

وقد أضافت متطلبات الحرب الباردة قلقاً جديداً إلى القلق السابق الذي كان يثقل كاهل الدول الغربية، ممّا ألجأها لاتخاذ مواقف وسياسات مزدوجة تجاه الإسلام والمسلمين.

وقد استمرّ الحال على هذه الشاكلة حتى نهاية الحرب الباردة، التي أنهَتْ معها الحواجز التي كانت موضوعة في طريق الديمقراطية في كثيرٍ من البلدان، وبذلك انطلق تيار الديمقراطية يجتاز دول العالم واحدةً تلو الأخرى بلا هوادة.

وقد مهَّد إقرار الديمقراطية في كثير من دول العالم الثالث، وخصوصاً الدول ذات الغالبية المسلمة، إلى دخول هذه الدول عصر التنمية. لكنْ يا ترى هل تمكنت هذه الدول من دخول هذا العصر أم لا؟

الملاحظ أن أيّاً من الدول الإسلامية لا يزال حتّى الآن غير داخلٍ في عصر التنمية، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي؛ وذلك لوجود حواجز وعقبات جذرية، لا تقتصر على كون الأنظمة الحاكمة هي أنظمة فاسدة ودكتاتورية، وإنما هناك عقبات أكثر جدّية وأهمّية، وما لم يتمّ تجاوزها لا يمكن للدول الإسلامية الدخول إلى العصر الجديد.

وإذا أخذنا مفهوم التنمية ببُعْده الإنساني العام، وتبعاً لذلك أولَيْنا التنمية السياسية أهمّيةً أكثر من التنمية الاقتصادية، فإن التنمية السياسية لا بُدَّ أن تعني تكريس الديمقراطية، والإقرار بكافّة الحقوق والحرّيات التي يتمتّع بها الانسان.

إن الديمقراطية وحقوق الإنسان يتأثران بالأيديولوجيا إلى حدٍّ كبير، بل لا يمكن فهم وتفسير ماهية الإنسان وفطرته وحقوقه الطبيعية والحريات الأساسية بالنسبة له (والتي من ضمنها حقّ الديمقراطية) لا يمكن تفسيرها من دون أيديولوجيا واضحة.

وعلى الرغم من أن تاريخ هذا الموضوع ـ حقوق الإنسان ومسألة حكم الأكثرية ـ يسبق موضوع الديمقراطية الحديثة بفترة زمنية طويلة، إلاّ أن ما يطرح في عالمنا اليوم تحت عنوان الحقوق والحريات الأساسية للإنسان إنما هو من مقولات العالم الحديث.

ففي عالمنا اليوم أصبح الإنسان هو المحور الذي على أساسه تفسّر وتؤدلج أساليب الحكم وأنظمته.

إن فلسفة الحكم المعاصرة تختلف عن فلسفة الحكم التقليدية القديمة. فالحكم أو السلطة في الفكر التقليدي تنحدر من الأعلى إلى الأسفل، من القمة إلى القاعدة([1])، بمعنى أنها من الشؤون الإلهية، ومن خصائص الربّ، ومنحها لابنه المسيح «فقط»، الذي فوَّضها بدوره إلى رأس السلطة الكنسية، أي البابا.

إذن فالملوك والحكام يستمدّون سلطتهم من الكنيسة.

أما البابا فهو معصومٌ أثناء أدائه التكليف «الإلهي»، بمعنى أنه لا يعتريه الخطأ، ومسدَّد من قبل الله. فقوله قول الله، والرادّ عليه رادٌّ على الله، والرادّ على الله مرتدّ وملعون.

ولا فرق في أن تكون السلطة للبابا أو للحاكم الإلهي، ففي الحالتين لا يجوز لأحد انتقادها أو الردّ عليها.

والناس ليسوا سوى رعية تحت رحمة الملك والكنيسة، ومن واجبهم الالتزام بكل ما يصدر عنهما.

إذن ففي مثل هذه الفلسفة السياسية لا يوجد شيءٌ اسمه «حقوق المواطن».

لكنْ في عصر النهضة تغيَّرت المفاهيم، وتراجعت السلطة الكنسية، بعد أن وافقت على التعريف الجديد للإنسان، وأقرَّت بالفلسفة السياسية الجديدة التي تنشأ فيها السلطة من الأسفل، أي من الشعب؛ وذلك نظراً لحقِّهم الطبيعي في الانتخاب، ثم تتّجه إلى الأعلى أو القمّة([2]). والناس هم مواطنون متساوون في الحقوق، التي من ضمنها حقّ تحديد المصير.

وفي ظلّ هذا التحول نشأ مفهوما المواطنة والدولة (State Nation). وفقدت السلطة بُعدها اللاهوتي، ونزلت إلى الأرض، وأصبح بالإمكان تغييرها ونقدها وتداولها.

كما أصبح بالإمكان (في ظلّ هذه الرؤية الجديدة للإنسان والسلطة) فهم الحقوق والحرّيات الرئيسية للإنسان، والتي منها حقّه في الحكم.

وفي الفترة التي أعقبت عصر النهضة، وبعد أن خاضت صراعات طاحنة نجمت عنها تضحيات كبيرة، بدأت الكنيسة باستيعاب المقولات المعاصرة حول الإنسان، وآفاق السلطة السياسية، وأهمّية فصل الدين عن الدولة، واستطاعت تقبُّل كلّ ذلك، والتكيُّف معه بشكلٍ أو بآخر.

أما في الفترة التي أعقبت الحرب الباردة، والتي شهدت اجتياح موجة الديمقراطية الحديثة أغلب دول العالم، فلم تواجه الطائفة المسيحية وكنيستها في دول العالم الثالث مشكلة في تقبُّل أسس الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان، فشهدت هذه الدول نموّاً وازدهاراً في تبنّي الأنظمة الديمقراطية، واتجهت بخطوات سريعة نحو التنمية السياسية والعمل المؤسّساتي.

وكان لهذه التحوّلات أثرٌ بالغ على دول المعسكر الشرقي، بما فيه أوروبا الشرقية وروسيا وجزء من أمريكا اللاتينية، يمكن أن نقرأه من خلال انصهار أنظمتها السياسية والاقتصادية بالأنظمة الغربية (أوروبا الغربية وأمريكا).

لكنّ مثل هذه الأجواء التي عاشتها معظم دول العالم لم تنسحب على الدول الإسلامية، ولم يتمكّن أيّ بلد إسلامي من الدخول إلى العصر الجديد، سوى اقتباسه بعض المظاهر السلوكية ـ الفردية والاجتماعية ـ وأساليب العمران وإنشاء المدن الحديثة وطرق التجارة العصرية، التي لا يمكن عدّها تنمية أو حداثة بأيّ شكلٍ من الأشكال.

ولم تكن العقبة الرئيسية في دخول الدول الإسلامية إلى العصر الحديث مقتصرة على الصراع السياسي بين الأنظمة الدكتاتورية والحركات التحرُّرية في تلك البلدان. وطبعاً لا نريد بذلك إغفال دور الحاكم المتَّصف بالفساد والسرقة والدكتاتورية والعمالة في تخلُّف البلد وانحطاطه. وإنما الذي نريد قوله هنا هو أن من غير الصائب إلقاء اللوم على الحاكم وحده، وعدّه السبب الوحيد في تلك المشكلة، ونغفل باقي الأسباب الأخرى، والتي لا تقلّ أهمية عنه.

إن أحد أبرز الأسباب التي ساهمت وتساهم في عرقلة دخول الدول الإسلامية إلى العصر الحديث هو عدم إيمان قادة الحركات الإسلامية ومفكِّريها بمقولات الحداثة، وخصوصاً ما يتعلق منها بحقوق الإنسان، كالحرّيات الفردية، التي من ضمنها حقّ الحكم، والقضاء، والتعدُّدية الفكرية والسياسية، والتسامح والمصالحة، وحرية التعبير وحرية الصحافة، وحرية تشكيل الأحزاب والتيارات السياسية وغيرها.

وقد لا تعدو الديمقراطية لدى بعض القادة والنشطاء السياسيين والمفكِّرين الإسلاميين سوى ضرب من ضروب الكفر([3]). كما لا زالت فكرتهم عن الدولة والسلطة فكرة تقليدية بحتة، تقضي بانحدارها من القمّة إلى القاعدة.

ولذلك فإن الانطباع السائد لدى غالبية المسلمين عن الحكومة الإسلامية ينبثق من سيرة الخلفاء والحكّام، كالخلفاء الراشدين وبني أميّة وبني العبّاس، وصولاً إلى العثمانيين.

والجدير ذكره أنه في الفترة التي أعقبت انهيار الخلافة العثمانية في تركيا انطلقت في بعض البلدان الإسلامية تيارات تدعو لاستمرار الخلافة كأداة حكم تدار بها شؤون البلاد. كما أن هناك اليوم مَنْ يعمل جاهداً لإحياء سُنّة الخلافة مرة أخرى.

لكن يا ترى ما هي ميزات هذا النظام «الخلافوي»؟

في هذا النظام ـ أي الخلافة ـ يُعَدّ الخليفة أو الأمير أو الملك «خليفةً لرسول الله»، و«أميراً للمؤمنين»، وبالتالي خليفة الله في الأرضين، فهو إذن يمتلك سلطات وصلاحيات مطلقة. فكلامه هو الدستور، وإرادته هي القانون.

إن كثيراً من الدول الإسلامية لا تمتلك دستوراً للبلاد. ففي إيران الملكية كان الشاه هو صاحب الشأن والجلال والعظمة الإلهية، أما السلطة فهي هبة الله له، فهو ظل الله في الأرض، حكمه حكم الله، وإرادته إرادته، ولا فرق في جهة صدور الأمر من الشاه أو من الله، فالأمر نافذٌ في كلا الحالين!

وفي بعض الدول الإسلامية قد يكون هناك دستور ـ وقد كتب في أغلب الأحيان تحت ظروفٍ استثنائية ـ، لكنّه لا يحظى بالتطبيق إطلاقاً؛ لأن الحاكم يتجاهله بكلّ بساطة، وإذا أراد أن يتفضَّل على الناس بتطبيقه فسوف يتصرّف في بنوده كما يحلو له، وكما تشتهي نفسه.

وقد نلاحظ أن الحاكم المستبدّ، الذي ينظر إلى الديمقراطية بعين الاشمئزاز، ويجد فيها تهديداً لمصالحه، يدعم طائفة من رجال الدين والمفكِّرين الإسلاميين؛ لكونهم من مؤيِّدي الاستبداد، ومن العاملين على تبريره دينياً. لكنْ مع ذلك من الخطأ أن نعتبر هؤلاء المفكِّرين ورجال الدين، بل وهذا النوع من الفكر المؤيِّد للاستبداد، نتاجاً للحكومات الاستبدادية المتخلِّفة؛ وذلك لأننا لو عدنا إلى الفكر السياسي لدى المفكِّرين الإسلاميين في ذلك العصر لوجدناه قاصراً عن فهم أبرز الأسس التي قامت وتقوم عليها حقوق الإنسان والديمقراطية، وعليه فقد وجدوا أن هذه المقولات تتقاطع مع المبادئ الدينية، وربما تؤدي إلى الكفر في بعض الأحيان.

والسلطة في ظلّ هذه الرؤية لا تنشأ من الشعب، وإنما تنشأ من اللاهوت. والحاكم أو الملك أو السلطان هو وليّ الأمر، وأما الشعب فمهمّته الطاعة والانقياد التام لأوامره ونواهيه.

ومن الطريف أننا عندما نواجه العديد من أصدقائنا العرب المسلمين من الطائفة السنية، ونسألهم عن سبب طاعتهم لسلاطين الظلم والجور والفساد؟ يردّون علينا بأنهم أولو الأمر، وطاعتنا لهم فريضة، أما لو اتَّسم وليّ الأمر بالفساد والظلم فإن مهمتنا الدعاء له بالصلاح وحُسْن السيرة!

ويرى هؤلاء أن نقد الحاكم أو تغييره يؤدّي إلى الفوضى والفتنة وسفك دماء المسلمين.

وهذا النمط من التفكير لا يقتصر على السنّة، فهناك طائفة من الشيعة تتبنّى نظريةً قريبة منها إلى حدٍّ ما، وتطلق عليها نظرية ولاية الفقيه المطلقة، أو الولاية العامّة للفقهاء.

وبحَسَب هذه النظرية «الولاية تعني أن الحكم بالأصالة هو لله سبحانه، ولا ولاية إلاّ من بعد إذنه، أي لا تصحّ الولاية إلاّ بإذن الله. والله سبحانه قد نصب الرسول الكريم| ليكون ولياً ومديراً ومدبِّراً لشؤون الأمة السياسية، ومن بعده يتولّى الأئمة المعصومون سائر تلك المهام، بعد أن تمّ تنصيبهم من قبل الشارع المقدَّس أيضاً.

أما في عصرنا الحاضر فإن صاحب الزمان# هو صاحب الولاية العظمى، وقد فوّض الشارع المقدّس ولاية الأمّة في زمن الغيبة ـ غيبة صاحب الزمان ـ إلى الفقهاء العدول بشكلٍ مباشر، ومن دون واسطة.

إن الشارع هو الذي يتولّى جعل الولاية، كما يتولّى تنصيب الفقهاء أولياءً على الأمّة، فتصبح الأمّة مولّى عليها.

وكلّ أمّةٍ لا تكون تحت ولاية الفقهاء العدول فستكون لا محالة تحت ولاية الطاغوت. وكلّ حاكم لم ينصب من قبل الشارع فهو ـ بلا شَكٍّ ـ طاغوت».

كما أن الشعب في ظلّ هذه الرؤية السياسية غير قادر على ممارسة دور الرقابة أو النقد؛ إذ لا يحق له التدخُّل أو الاعتراض على سلوك الوليّ وممارساته.

والإقرار للشعب بمثل هذا الحقّ يؤدّي إلى نفي الولاية، وخروج الناس من كونهم مولّى عليهم.

إذن على الشعب أن يسلِّم بهذه الولاية؛ كي لا يخرج عن حدود الدائرة الشرعية، وبالتالي يلج دائرة العصيان.

ولا يخفى أن هذه الرؤية لا تبقي مجالاً للدستور؛ لأنه لن يكون ملزماً للولي الفقيه، فإن الأخير بإمكانه نقض أيّ فقرة من فقرات الدستور إذا وجد مصلحةً في ذلك([4]). إضافةً إلى «أن نظام ولاية الفقيه لا يمنع وجود مَنْ هو فوق القانون، وبإمكانه تجاوز القانون متى ما وَجَد ما يدعو لذلك»([5]).

«إن الحاكم مسؤولٌ أمام الله، ولا يمكن لأيّ جهةٍ قانونية محاسبته أو مؤاخذته، والجميع تحت رعايته، ولا أحد فوقه سوى الله سبحانه، الذي هو رقيبٌ على أعماله، ومشرفٌ على سلوكه»([6]).

يتّضح لنا إذن من خلال هذا العرض الموجز الموقف إزاء العديد من مقولات وعناصر حقوق الإنسان وغيرها. فعلى سبيل المثال:

 

1ـ التقنين

من الواضح أن نظريات المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان لا يمكن لها أن تتحقّق على أرض الواقع من دون منحها تعريفاً قانونياً، وبُعْداً دستورياً. بينما نجد أن القانون لا يشكّل مرجعاً رئيساً لأصحاب تلك النظرية. وبالإضافة إلى ذلك فإن العديد من المفكِّرين الإسلاميين، سواء في الماضي أم في الحاضر، يعارضون فكرة التقنين برمّتها.

يقول الشيخ فضل الله النوري بهذا الصدد: «نحن لسنا بحاجة إلى وضع دستور للبلاد»، «وماذا يعني الدستور الوضعي (الأرضي) أمام القانون الإلهي (الإسلام)؟! وما هو دور النبيّ| إذن؟»، و«ماذا يعني تدوين الدستور حينما نمتلك نحن المسلمين أفضل دستور، وهو الإسلام؟!»، ويقول في موضعٍ آخر: «إن قيام الناس بوضع القوانين وتدوين الدساتير إنما يعني أن شريعة النبيّ| وقوانينه لم تكن تامّة، أو أن الإسلام (الذي فرض على الناس تدوين الدستور) قد أغفل هذا الأمر. ومثل هذا الاعتقاد من شأنه إخراج المسلم عن الملّة… ومَنْ أراد أن يكتب الدستور (يريد بذلك نوّاب المجلس) فقد عزم على فعلٍ اختصّ به الرسول الكريم، بالإضافة إلى أن إقرار القوانين هو بمثابة الإقرار بنقصان الشريعة الإسلامية».

بناءً على ذلك فالذي نستخلصه من رؤية الشيخ الشهيد هو أن التقنين، بل والقوة المقننة بأسرها، إنما هي مصادرة لمهامّ النبيّ من جهة، ومصادرة لسلطته وصلاحياته| من جهةٍ أخرى([7]).

الإشكالية الأخرى التي يوردها هؤلاء تستهدف أسلوب اتخاذ القرارات. ففي الأنظمة الحديثة تتّخذ القرارات عن طريق كسب أغلبية الآراء، والأغلبية هي الحاسمة للأمور في شتّى الميادين. لكنّ جملةً من المفكِّرين الإسلاميين (كالشيخ فضل الله النوري، ومصباح اليزدي) يعتقدون أن اتخاذ القرارات من خلال استقطاب غالبية الآراء مخالفٌ للشريعة الإسلامية، و«آلية اتخاذ القرارات عن طريق كسب الأغلبية لا اعتبار لها في مذهب الإمامية، كما لا حظّ لها من الصواب».

إن هذا الموقف يعكس أوّلاً: مدى غفلة هؤلاء عن التعقيدات التي تضجّ بها المجتمعات المعاصرة، والتي تحتاج وبشدّةٍ إلى دستور تُدار به شؤون البلدان ومجتمعاتها؛ وثانياً: تسطيحهم لدور القوة المقنّنة، وتهميشهم لمهامها. والقوّة المقننة، كما هو واضحٌ، ليست بديلاً عن الشريعة أو الدين.

 

 2ـ الحُرِّية

تعد «الحرّية» من أبرز حقوق الإنسان، ومن أهمّ مبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية. لكنْ ما هو المراد من الحرّية؟

يميل جملةٌ من الباحثين الإسلاميين إلى أن الحرّية المطروحة في الحال الحاضر إنما تعني الحرّية المطلقة، أي التي لا تخضع لضوابط ولا قيود، على غرار ما في العالم الغربي، وبالتالي لجأوا إلى معارضة الحرّية بشكلٍ مطلق، وقاموا بالتصدي لها بشتّى الوسائل.

وممَّنْ كتب بهذا الشأن الحاج الملا علي كني، الذي وجَّه كتاباً إلى ناصر الدين شاه أبدى به امتعاضه من الحركة الدستورية ومناهضته لها. وكان من جملة ما ذكره في الكتاب: «إن كلمة الحرّية الخبيثة التي يغلّفها ظاهر ساحر وجميل ليست في باطنها سوى منظومة من النقائص والعيوب». وهذا الأمر ـ الحرّية ـ مخالف لسائر أحكام الرسل والأوصياء وجميع السلاطين العظماء والحكّام البارزين([8]).

ولتعريف الحرّية لا بُدَّ من الإجابة عن سؤالين مهمّين: الأوّل: من أين أتت الحرية؟ وما هو المراد منها؟

وثانياً: ما هي الغاية من الحرّية، أي لأجل أيّ شيء نسعى نحو الحرية؟ وأيّ طائفة من الحرّيات تعارض شرائع الرسل؟ وأيّ منها تناهض دساتير السلاطين والحكام؟

يرى الشيخ فضل الله النوري، في رسالته تذكرة الغافل، أن حرّية القلم والتعبير تصطدم مع القانون الإلهي، ويبدي قلقه إزاء إقحام مبدأ الحرّية في الدستور؛ لأنه ـ وبحَسَب الشيخ ـ سوف يبيح لفرق الملاحدة والزنادقة والكفّار مهاجمة الإسلام وتقويضه.

ويقول على سبيل المثال: «أيها الأخ العزيز، ألستَ تدري بأن حرّية القلم والتعبير تصطدم مع القانون الإلهي في العديد من مظاهرها؟! وهل غفلت عن غايتها التي هي تمكين فرق الملاحدة والزنادقة والكفّار من نشر كلمات الكفر والإلحاد وبثّها في الملأ، من على المنابر ومن خلال البيانات و…، إلخ».

إن عودة سريعة إلى تفاصيل مناقشات المجلس النيابي ومسوّدة الدستور (الذي تم إقراره في إيران عام 1358)، وجلسة إعادة صياغة الدستور (عام 1368)، إضافة إلى آراء جملة من المحافظين التقليديين حول مبادئ حرّية التعبير والقلم والأحزاب، تعطينا صورة واضحة عن ماهية الحقوق الرئيسة التي أقرَّتْ للمواطن آنذاك.

 

3ـ المساواة

يتمتّع جميع المواطنين بحقوق متساوية في ظلّ المجتمع المدني والتنموي.

وللفكر التقليدي ملاحظات على هذه المساواة. فعلى سبيل المثال: يكتب الشيخ فضل الله النوري، مجيباً عن سؤال حول حرمة الحركة الدستورية وارتداد الدستوريين([9]): «إن أحد إشكاليات هذه الحركة الضالّة هي إقرارها بمساواة كافّة مواطني الدولة في الحقوق… وإذا أصبح كافّة مواطني إيران متساوي الحقوق أمام القانون… فعلى الإسلام السلام… ثمّ اعلموا أن المملكة الإسلامية الدستورية سوف لن يكتب لها النجاح أبداً؛ لأن أوّل ما يرد عليها هو أن مبدأ المساواة لا يتَّفق مع الإسلام ولا ينسجم معه بأيّ حال من الأحوال».

 

4ـ تعقيد المجتمعات المعاصرة

عندما يدور الحديث عن المجتمع المثالي في الأوساط الإسلامية فإن الأذهان تنتقل مباشرة إلى صدر الإسلام، حيث مدينة النبيّ والمجتمع المدني.

وممّا لا شَكَّ فيه أن الذي حدث في مدينة النبيّ آنذاك مثَّل أبرز وأروع نموذج عرفه المسلمون على مدى التاريخ الإسلامي الحافل.

وقد صُنِّف الدستور المدني «تاريخياً» بين أقدم وأعرق الدساتير في العالم.

لكنْ مع كلّ هذا فإن المجتمعات المعاصرة أصبحت معقَّدة أكثر من أيّ وقت مضى. وهذه التعقيدات لم تقتصر على جانب محدّد، وإنما شملت كافة الميادين، ومنها: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل من الصعب مقارنتها ـ أي المجتمعات المعاصرة ـ بأيّ مجتمعٍ بسيط عاش في الزمن الغابر.

ولا بُدَّ لي هنا من التنويه إلى أن هذا النوع من الرؤية للموضوعات التي مرَّت بنا، كموضوع السلطة السياسية، والقانون، والحرّية، وما إلى ذلك، لا يشترك فيها ولا يتّفق عليها كافّة العلماء والمفكِّرين ورجال الدين، بل هناك الكثير من العلماء البارزين يرفض هذا النمط من التفكير.

إننا جميعاً نعرف مواقف وتوجُّهات العلماء، أمثال: الطالقاني ومطهري والحائري والطباطبائي والمنتظري. ولا داعي لأن نتعرض لبيان آرائهم هنا.

ومن جملة العلماء الشيعة غير الإيرانيين يمكننا ذكر الشيخ محمد جواد مُغْنِيّة، وهو من خيرة علماء لبنان ومنظِّريه. وقد كان يرى في ما يتعلَّق بنظرية الحكم والدولة «أن حاجة المجتمع إلى تأسيس الدولة ليست حاجة وضعية يمكن للشرع إقرارها أو نفيها، وإنما هي أمر ضروري لا بُدَّ منه… والفقيه العادل من الناحية الشرعية لا ولاية سياسية له، كما لا ولاية للفقهاء على الراشدين. وليس المراد من إقامة الدولة الإسلامية تسلُّط الفقهاء ورجال الدين، وتفويض السلطة السياسية لهم حصراً…، وإنما المراد من أسلمة الدولة، بل إن أهم معالم الدولة الإسلامية، هو الإخلاص والكفاءة والعدالة والأمانة… وليس من الضروري أن يكون رئيس الدولة فقيهاً ومجتهداً، بل يكفي كونه ملتزماً بأحكام الشريعة».

«إن الدولة تتحقّق بالفعل، وليس بالفاعل، بالمضمون، وليس بالظاهر والقشور».

و«لا بُدَّ لرئيس الدولة الإسلامية أن ينتخب عن طريق اقتراع الناس… ونحن لا نملك خياراً آخر سوى اللجوء إلى أصوات الناخبين»([10]).

ومن علماء لبنان البارزين أيضاً الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الرئيس السابق للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان، وهو الآخر يؤكِّد في مجمل آرائه على أنه «لا توجد أحكامٌ ثابتة في الشريعة، سوى الأحكام الإلهية المذكورة والمعروفة ـ التي تشمل: العبادات، ونظام الأسرة، وأحكام الجنسين، وأحكام الربا، و… ـ، أما الأحكام المتَّصلة بتنظيم العلاقات الاجتماعية، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو على صعيد العلاقات الخارجية، فهي لا بُدَّ أن تكون أحكاماً متغيرة وزمنية، توجد بوجود المصلحة الاجتماعية، وترتفع بارتفاعها. وهذه الأحكام تتمخَّض عن حاجة المجتمع لتنظيم وإدارة شؤونه»، كما «…لا تثبت الولاية العامة للفقهاء بتولّيهم الزعامة السياسية، وليسوا في مقام النيابة عن الإمام عند إدارتهم لشؤون البلاد. فالفقيه لا يملك الولاية على الناس»، و«الإنسان على نفسه بصيرة، والمجتمع هو وليُّه. وبما أن الأمة هي أدرى بمستقبلها، وأعلم بمقدراتها، فهي سوف تختار النظام السياسي الأمثل لها، والذي يبتني على الشورى، وينبثق منها في جميع مراحل تكوُّنه. كما أن الفقه ليس عنصراً أو شرطاً مهمّاً يجب توفُّره في شخصيّة الرئيس المنتخب للدولة الإسلامية».

و«لا بُدَّ للدولة أن تتماهى مع المجتمع الذي انبثقت منه، فهي نشأت من صميمه ومن أعماقه، ولا بُدَّ لها أن تثق وأن تؤمن بعقله وفكره وتطلُّعاته، وتثمِّن التجربة الاجتماعية، وتستزيد منها»([11]).

ومن المفكِّرين الإيرانيين الشيعة هناك العديد من العلماء البارزين لا يؤمنون بولاية الفقهاء العامّة، ولا يقرّونها.

ولتجنب الخوض في التفاصيل نعرض عن رصد جميع النظريّات المطروحة في هذا الباب، ونقتصر على نظرية الدكتور مهدي الحائري اليزدي، التي طرحها ضمن حديثه عن (القوى والسلطات السياسية، رؤية من الداخل ـ الديني)، وأطلق عليها «تفويض الملكية الخاصّة المشاعة»([12]).

والمنطلق لهذه النظرية قاعدتان فقهيتان: الأولى: قاعدة الملكية الخاصة؛ والثانية: قاعدة التوكيل أو التفويض.

وتعتمد القاعدة هذه على ثلاث أركان:

الأوّل: الملكية الخاصة المشاعة للمواطن، باعتبارها أساساً لمنح الشرعية.

الثاني: توكيل الدولة والقوى الثلاث من قبل المواطنين.

وقد طرح هذا الموضوع (توكيل الحكومة من قبل الشعب، الذي هو المالك للوطن ملكاً مشاعاً) لأوّل مرّة منذ حوالي 40 عاماً على يد الشيخ مرتضى الحائري اليزدي، شقيق الدكتور مهدي الحائري، الذي مرّ ذكره قبل قليل.

الثالث: تحديد دور الدين والفقه في العملية السياسية.

بناءً على هذه النظرية لا يعدّ الفقه شرطاً في زعامة الدولة الإسلامية، كما ليس للفقيه ـ من ناحية فقهه ـ أولويّة على سواه، أو امتيازاً يجعله في طليعة المؤهَّلين لإدارة العملية السياسية.

ومن جملة مَنْ يتبنى هذه النظرية العلاّمة الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان). وقد كتب في تفسير أولي الأمر: «وأما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر؛ إذ العلماء ـ وهم يؤمئذٍ المحدِّثون والفقهاء والقرّاء والمتكلِّمون في أصول الدين ـ إنما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلك… وأيُّ خبرةٍ للعلماء من حيث إنهم محدِّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتّى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردّها إليهم؟! وأيّ رجاءٍ في حلّ أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟!»([13]).

ويكتب صاحب نظرية (تفويض أصحاب الملك المشاع) في كتابه (حكمت وحكومت) [الحكمة والحكومة]: «إن القرآن الكريم يقول في إحدى آياته: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، أي إن أمور الدنيا والحوادث اليومية التي تقع للناس، والتي منها: الشؤون السياسية والدستور والقانون وما إلى ذلك، مرجعها جميعاً إلى الناس أنفسهم؛ لأنها شأن من شؤونهم.

وبعبارةٍ أخرى: إن أمور الناس ومشاكلهم لا بُدَّ أن تحلّ عبر المشورة والحوار وتبادل الآراء فيما بينهم، لا عن طريق الوحي والرسالة الإلهية»([14]).

ثم إن «السياسة الحديثة والقوانين المدنية المعاصرة تعدّ جميعها من الأمور الفرعية التي لا شأن للأنبياء والرسل والأئمّة^ بها، وإذا كان هذا حال الأنبياء والأئمة^ فنوّابهم ـ الخاصّون والعامّون ـ أجدر بعدم التدخُّل وتحديد وترسيم وتشخيص المواضيع التي تتّصل بها»([15]).

وقد جاءت نظرية تفويض الملكية الخاصة المشاعة ردّاً على نظرية ولاية الفقيه [المعروفة].

يقول الشيخ فضل الله النوري بصدد الحديث عن ولاية الفقيه العامّة ما نصُّه: «ما الذي كان يدعوهم ليطلقوا على الأعضاء كلمة (وكيل)؟! أغاب عنكم أن الوكالة لا تصحّ في الشؤون العامة؟! إنما الشؤون العامة متعلّقة بالولاية الشرعية فقط. أي إن الحديث في الشؤون والمصالح العامة للأمة لا يجوز إلاّ للإمام× أو نائبه العامّ، ولا شأن لغيرهم بها، وتدخُّل سواهم فيها من الأمور المحرَّمة، والتي تعد انتهاكاً لشأن النبيّ| والأئمّة المعصومين^، وتجاوزاً على مقامهم»([16]).

ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنه لا يمكن لبلدٍ إسلامي أو نظام سياسي بعينه احتكار الدراسات والبحوث التي تتناول الدولة والديمقراطية والتنمية السياسية وما يتمخَّض عنها والفكر السياسي المعاصر الذي يشتمل على حقوق الإنسان والديمقراطية وصلتها بالأسس الدينية؛ إذ إن أغلب الدول الإسلامية أصبحت تتناول مثل هذه البحوث وتضعها على طاولة النقاش والحوار؛ لتتيح لعلمائها ومفكِّريها الخروج بصيغ مقبولة، وتقرب التيارات الثقافية الدينية من الوصول إلى غاياتها وتطلُّعاتها.

وتعدّ التيارات الثقافية الدينية في الدول الإسلامية ظاهرة عامّة تتسارع في الانتشار والنموّ يوماً بعد يوم. وقد قطع روّاد الثقافة الدينية طيلة العقود المنصرمة أشواطاً مهمة ومؤثِّرة للتوفيق بين الرؤى الإسلامية والأخرى الغربية المعاصرة، وتمكَّنوا عبر الاتكاء على التراث الإسلامي الثريّ، المتمثِّل بالكتاب والسنّة، من تحديد معالم الإنسان في الأيديولوجيات التوحيدية، التي منحته دوراً هامّاً، وأكسبته مكانة مرموقة جدّاً، كما حدَّدت موقف الإسلام، الذي اتّسم بإيجابيته، من حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية، وأوضحت أنّ الديمقراطية لا تتقاطع مع القِيَم والمبادئ الدينية بأيّ حالٍ من الأحوال. لكنْ مع ذلك لا يزال هناك العديد من مفكِّري وروّاد الاتجاه السلفي يصرّون على تقاطعها وتضادّها مع الشريعة الإسلامية.

إن الوصول إلى موقفٍ موحّد يتفق عليه جميع المسلمين إزاء هذه المواضيع يتطلب وقتاً قد يكون طويلاً بعض الشيء، كما يتطلّب أنموذجاً تطبيقياً موفَّقاً يجسِّده عدّةٌ من البلدان الإسلامية، أو بلدٌ واحد على الأقلّ.

وربما يكون هذا السبب قد دعا شريحة واسعة من المسلمين لتعليق آمالهم على التجربة الإيرانية.

كما يجب على المثقَّفين أن يتخلَّصوا من خطابهم النخبوي. فالملاحظ أن المثقَّفين، وخصوصاً المثقَّفين الدينيّين، يشكلون طبقة النُّخْبة في أغلب الدول الإسلامية، الأمر الذي يجعل خطابهم خطاباً نخبوياً يستهدف طبقة اجتماعية بحدّ ذاتها، وغالباً ما تكون هذه الطبقة من الطلاب والمثقفين أيضاً.

وعندما تتحول التيارات الإسلامية ـ وللأسباب التي تقدّم الحديث عنها ـ من الدائرة الأيديولوجية المحضة إلى العمل السياسي؛ لتشكّل فيما بعد تيارات سياسية ذات أهداف دينية، وتبدأ القاعدة الجماهيرية تحت وطأة الشعور الديني، وبمختلف طبقاتها، بالالتحاق والانضمام إلى هذه التيارات، عندئذٍ تزداد أهمية القادة الشعبيين، وتنتقل معظم الأدوار القيادية لهم، ممّا يؤدّي إلى إقصاء قادة التيارات الحقيقيين من المثقفين والمثقفين الدينيين، ويصبح كلّ مَنْ عمل وأسّس وتزعّم تلك التيارات مهمّشاً أو خارج دائرة التيار.

والقادة الشعبيين عادةً ما يتفوّقون على القادة المثقّفين من حيث نفوذهم بين الجماهير، ولذلك نجد أن قدرتهم على التعبئة أكثر بكثير من قدرة المثقّفين والنخب.

فبعد أن يتمكّن هؤلاء القادة الشعبيون التقليديون من تعبئة الناس وتحريضهم، مستغلّين بذلك نفوذهم، تبدأ الكفّة تميل لصالحهم على حساب الطرف الآخر، فيمسكون بالسلطة السياسية، ويقصون النخب الثقافية والريادية، وينحّوها جانباً.

لكنْ ما يميز هؤلاء القادة هو رؤيتهم التقليدية للسلطة، التي بموجبها تفقد الشعوب والجماهير معظم حقوقهم وامتيازاتهم.

والمشكلة أن هؤلاء القادة يصبحون في ظلّ هذه الرؤية غير قادرين على تحقيق التنمية السياسية. كما أن وجود هذا الأفق الضيق لديهم، وعدم الوقوف على التعقيدات الاجتماعية والمشاكل التي يعاني منها الشعب، إلى جانب امتلاك زمام السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية، يجعلهم غير قادرين على تلبية أبسط متطلّبات الجماهير، ممّا يؤدّي إلى دهورة وتأزّم الأوضاع السياسية والاقتصادية، التي تلقي بظلالها على الوضع الثقافي والاجتماعي في ذلك البلد، فيحيله إلى دائرة الانحطاط والتخلُّف.

والملخَّص ممّا تقدّم أن أسباب فشل تطبيق حقوق الإنسان في البلدان الإسلامية يعود إلى أمرين: أحدهما: النظرة التقليدية للسلطة، وغياب الوعي بالمقولات الحديثة، كحقوق الإنسان وحرّيته، وخصوصاً حقّ الأمة أو الشعب في الحكم.

وثانيهما: الجهل بواقع المجتمع الحديث والتعقيدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعتريه، والتي تميِّزه عن المجتمع التقليدي القديم، وعدم الإيمان بضرورة إيجاد حلول فاعلة ومجدية تساهم في إدارة المجتمع الحديث.

ولا بُدَّ لنا من التأكيد على أن استمرار تفوُّق وهيمنة الرؤية التقليدية على المقولات المعاصرة، وبقاء الهوّة والفجوة قائمة بين القِيَم والمبادئ الدينية من جهة، وهذه المقولات من جهةٍ أخرى، سوف يكون [بلا أدنى شَكٍّ] حائلاً دون تحقُّق الديمقراطية والتنمية السياسية والاقتصادية في البلدان الإسلامية.

 

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في القانون وعلوم الشريعة. من إيران.

([1]) Power desending from top to the bottom.

([2]) Power desending from bottom to the top.

([3]) لقد أحرزت جبهة الانقاذ الإسلامي في الجزائر انتصاراً ساحقاً في انتخابات البلدية، أعقبه حصولها على غالبية الأصوات في انتخابات المجلس الوطني. لكنْ قبل أن تتسلّم الجبهة زمام القيادة، وقبل أن تتحول السلطة لها، حاول قادتها البارزين، كـ (بالحاج)، من خلال تصريحاتهم الرسمية التأكيد على رفض الديمقراطية، التي اعتبروها أشدّ وأخطر من الكفر. وقد أثار هذا الموقف مخاوف الكثير من أنصار الجبهة، من المفكِّرين والمثقّفين، كما أدّى إلى ردود أفعال لدى العسكريين، ممَّنْ كانوا على رأس السلطة.

([4]) جوادي آملي، «پيرامون وحي ورهبري»، طهران، 1368.

([5]) الدكتور محمد لاريجاني، «حكومت، مباحثي در مشروعيت وكارآمدي»، مؤسسة سروش للنشر، 1373.

([6]) تفاصيل مداولات إعادة النظر في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، طهران، 1369.

([7]) فريدون آدميت، أنديشه ترقّي وحكومت قانون (حكومة القانون ومشروع التنمية): 200، طهران، 1351، نقلاً عن: سنّت ومدرنيسم، للدكتور صادق زيبا كلام، التراث الثقافي، 1377.

([8]) كتاب تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل، في (الرسائل والبيانات والمدوّنات والصحف، الشيخ فضل الله النوري)، إعداد وتنظيم: محمد تركمان، المجلد الأول، مؤسسة النشاطات الثقافية، 1362.

([9]) محمد تركمان، الشيخ فضل الله النوري، المجلد الأوّل.

([10]) محسن كديور، «نظريه هاي دولت در فقه شيعه» (نظريات الحكم في الفقه الشيعي)، ني للنشر، 1376.

([11]) المصدر نفسه.

([12]) مهدي الحائري، «حكمت و حكومت»، 1374.

([13]) العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان، 5: 36 ـ 37، مؤسسة العلامة الطباطبائي العلمية والثقافية، دار رجاء للنشر والتوزيع الثقافي. ب. ت. [راجع تفسيره لأولي الأمر الواردة في الآية 83 من سورة النساء: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾].

([14]) مهدي الحائري، «حكمت وحكومت»، 1374.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) كتاب تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل، في «الرسائل والبيانات والمدونات والصحف، الشيخ فضل الله النوري»، إعداد وتنظيم: محمد تركمان، المجلد الأوّل، مؤسّسة النشاطات الثقافية، 1362.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً