أحدث المقالات

الشيخ مقصود رنجبر(*)

 

تمهيد ــــــ

تمثّل ثورة عاشوراء المثل الأعلى للثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، ولمعظم الثورات الشيعيّة الأخرى. وهي تمثّل في حقيقتها ورسالتها الأساسيّة محاربة الظلم والتمييّز والفساد السياسيّ والاجتماعيّ والبِدَع الدينيّة، الأمر الذي كان له أكبر الأثر على كافّة الثورات الشيعيّة ومَنْ قادها. والثورة الإسلاميّة الإيرانيّة هي إحدى الثورات التي ترتكز إلى مبادئ التشيّع، التي تخضع لتأثير واقعة عاشوراء في جوانب مختلفةٍ منها. وقد انطلقت ثورة عاشوراء والثورة الإسلاميّة كلتاهما في الظروف التي مَسَخ فيها الفساد الاجتماعيّ روحَ المجتمعات الإسلاميّة، وأُودِع النظام الإسلاميّ الرفيع في عالم النسيان. لذا فقد كانت هذه الثورة خاضعةً لتأثير عاشوراء في أسسها الفكريّة، وأسلوبها في المواجهة، وكان ذلك بادياً بوضوحٍ في فكر القيادة ومواقفها، وكذا في جماهير الثائرين؛ فقد كانت حركة الإمام الخمينيّ& في ثورته حركةً هجوميّة، انطلقت بإلهامٍ من ثورة عاشوراء؛ بهدف الإطاحة بنظام الشاه، وانتهت بدَحْره، فأسَّست حكومةً جديدة ترتكز إلى مبدأ ولاية الفقيه.

وسنسعى في هذه المقالة إلى دراسة تأثير ثورة عاشوراء على الثورة الإسلاميّة من النواحي الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

والنقطة التي لا بُدَّ من الإشارة إليها في هذا المجال هي صعوبة الفصل أحياناً بين التأثُّر بثورة عاشوراء وبين التشابه معها. ففي كلٍّ من الثورة الإسلاميّة وثورة عاشوراء مبادئ، كالمناداة بالعدل، محاربة الظلم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يجعلهما متشابهتين متَّحدتين في ذلك، فيصعب في مثل هذه المبادئ بيان تأثير ثورة عاشوراء على الثورة الإسلاميّة. ولكنْ في الوقت نفسه يمكن القول بأنّ التشابه يتضمَّن نوعاً من التأثير. والحقيقة أنّ الأحداث إذا تشابهت تأثَّر بعضها ببعض، ولذا عندما تواجهنا في دراستنا لبعض الجوانب عناصر من التشابه فإنّنا نلمس معها نوعاً من التأثُّر .

وقد جُعلَتْ هذه المقالة على قسمَيْن: تكفَّل القسم الأوّل منهما بدراسة أثر عاشوراء في نشأة وتبلور الثورة الإسلاميّة؛ بينما بحث القسم الثاني دور عاشوراء في استمرارها.

 

1ـ دور عاشوراء في نشأة وتبلور الثورة الإسلاميّة ــــــ

لمعرفة دور عاشوراء في نشأة وتبلور الثورة الإسلاميّة لا بُدَّ من دراسة ذلك على ضوء أسبابها وعواملها، مبادئها وأسسها، أهدافها ودوافعها، كيفيّة نشوئها، ودور مظاهر عاشوراء في الثورة الإسلاميّة. وسيتمّ التركيز في بيان هذه المجالات على دور كلٍّ من: الثقافة السياسيّة الشيعيّة، وقيادة الثورة وسائر الشخصيات الثوريّة.

 

 أـ أسباب وعوامل الثورة الإسلاميّة ــــــ

لقد طُرحت حول أسباب وعوامل الثورة الإسلاميّة رؤى مختلفة([1])، ليس هذا مجال استعراضها، ولكنّ ما يهمّنا ـ بعد أن تمّ بيان الهدف من هذه المقالة، وتأثير ثورة عاشوراء على الثورة الإسلاميّة ـ هو الرؤية التي عدّت السياسات اللادينيّة لنظام الشاه هي العامل الأساس للثورة الإسلاميّة.

وقد كان أحد عوامل ثورة عاشوراء كذلك هو طبيعة الحكومة الأمويّة اللادينيّة، والمعارِضة للإسلام، والتي بلغت أوجها في عهد يزيد. كما أنّ طبيعة نظام الشاه السياسيّة، ومنهج سياساته، كانا بنحوٍ يفسح المجال لرجال الدين أن يعبِّئوا الناس ضدَّه عن طريق التمسّك بالسياسات اللادينيّة لمعاوية ويزيد، والمماثلة التاريخيّة بين هذين النظامين. وقد كُتبت بصورة عامّة العديد من الكتابات حول السياسات اللادينيّة لنظام الشاه، والتفاوت الطبقيّ، والتمييز، والظلم الذي رافق تلك المرحلة([2]).

لقد أدَّت الممارسات اللادينيّة التي قام بها النظام البهلوي، وقمعه للعلماء، إلى ظهور جوٍّ في المجتمع جعل الناس يشعرون بنوعٍ من التشابه بين سلوك حكومة الشاه وحكومة يزيد في محاربة الدين. وهذا ما دفع الناس إلى مواجهته، فاقتدُوا بمواقف الإمام الحسين× في كربلاء، واستلهموا منها في هذا الطريق.

لم تكن سياسة نظام الشاه تتكئ على مبادئ لا تتلاءم مع الدين فحَسْب، بل كان تهميش الدين واحداً من أهدافها السياسيّة. وممّا لا شك فيه أنّ محاربة يزيد الأمويّ للدين كان لها حقيقة مختلفة عن محاربة محمد رضا بهلوي؛ فلئنْ كان الدين قد حُرِّف بشكلٍ كامل في عهد يزيد ومعاوية فإنّ الحكومة في هذه المرحلة كانت تسعى لاقتلاع القِيَم الدينيّة؛ لتغرس مكانها قِيَماً جديدة. وفي الوقت نفسه كانت هناك جهودٌ تهدف إلى تقديم صورة مشوَّهة عن الدين، تجعله في نظر الناس عامل تخلُّف وتحجُّر هذا المجتمع.

واستناداً إلى الرؤية المتقدّمة ـ والتي تؤكّد على محاربة نظام الشاه للدين ـ فإنّ الهدف الأساس لنظام الشاه في سياساته الثقافيّة هو محاربة الثقافة الدينيّة، ومظاهرها في المجتمع، بما فيها العلماء، ثقافة عاشوراء، والآداب والسنن الدينيّة. وكذلك كان يهدف إلى فصل الدين عن السياسة؛ لإقصائه عن ساحة السياسة والحكم، وتحجيم النفوذ السياسيّ للعلماء. وقد تمّ على هذا الصعيد الترويج للتقاليد التراثيّة القديمة بشكلٍ كبير، في سبيل تعزيز القيم اللادينيّة واللاإسلاميّة، وخُصِّصت لذلك مبالغ طائلة. وقد ووجِهت هذه الإجراءات من قِبَل جميع العلماء بمعارضةٍ حادّة وشديدة، وخاصّة من قِبَل الإمام الخميني.

ويرجع تاريخ معارضة الإمام الخميني لسياسات النظام البهلوي المناهضة للدين إلى عهد رضا خان، فقد طرح الإمام الخميني آراءه في هذا المجال ضمن كتابه المعروف بـ «كشف الأسرار».

كما أنّ أحد العناصر الرئيسة التي تمّ التأكيد عليها عند محاربة الثوريين لنظام الشاه هو الروحيّة الدينيّة للشعب. وكانت ثقافة عاشوراء بمفهومها الشامل أحد المؤثّرات الكبرى لعناصر هذه الروحيّة الدينيّة، والتي كان لها جذور على مرّ التاريخ في أعماق روح الشعب الإيراني، وكانت قد تحوَّلت إلى سُنَّة راسخة ومتأصِّلة في ثقافة الإيرانييّن، وأوجدت الأرضيّة الثوريّة بين الناس بشكلٍ واضح وملموس.

وقد كانت السياسات الحكوميّة المعارِضة للدين، وحالة تسلّط الحكّام المعادين له، من العوامل الأساسيّة في كلٍّ من ثورة عاشوراء والثورة الإسلاميّة. وكانت الثورة الإسلاميّة بدورها خاضعةً للموروث التاريخيّ من نهضة عاشوراء في ما يتعلَّق بضرورة محاربة الحكومات المناوئة للدين. وقد تصدّى الإمام الخميني لإحياء هذا الموروث. وللإمام الخميني مقارنة صريحة بين أسباب وعوامل الثورة الإسلاميّة وثورة عاشوراء، وهو يعتبر أنّ العامل الأساس في كلٍّ من الحركتين هو القضاء على الإسلام: لقد رأى سيّد الشهداء أنّ معاوية وابنه آخذان في القضاء على الإسلام… فهذا الأب وهذا الابن (رضا شاه ومحمد رضا شاه) كهذَيْن، كانا يظهران الإسلام بشكلٍ مغاير لحقيقته([3]).

 

ب ـ أصول ومبادئ الثورة الإسلاميّة ــــــ

لقد تركت ثورة عاشوراء تأثيراً أكثر واقعيّة وعُمْقاً على الثورة الإسلاميّة. فالثقافة السياسيّة للشيعة متأثِّرة بمجموعتين من العناصر والعوامل النظريّة والتاريخيّة، وبالتفاعل القائم فيما بينهما. والمقصود من العناصر النظريّة هو التعاليم، والمعتقدات والتقاليد الدينيّة الشيعيّة، التي لها قابليّة في أن تلعب دور المشجِّع والمحرّك للنظرة الثوريّة لدى أتباع هذا المذهب. وعناصرها المهمّة هي: أصل الإمامة، الشهادة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرّيّة.

والمقصود بالعوامل التاريخيّة هو أنّ هذه الأصول اتَّخذت تفاسير مختلفة في طيّ التحولات التاريخيّة، وبالالتفات إلى الظروف السياسيّة والاجتماعيّة، فتبلورت ضمن عمليّة تاريخيّة متأثِّرة بالظروف وعاملَيْ الزمان والمكان. وقد أدّى ذلك إلى تبدُّل «الثوريّة» و«المثاليّة» ومحاربة الحكومات الجائرة إلى إحدى الخصائص الأساسيّة لثقافة الشيعة. وكانت نهضة عاشوراء إحدى التجلّيات البارزة والعمليّة للثقافة السياسيّة للشيعة بالخصائص المتقدّمة، والتي تحوَّلت بعد حدوثها إلى أحد المظاهر الأساسيّة لهذه الثقافة. وقد كان الشيعة دائماً على صعيد التطبيق لهذه الثقافة السياسيّة خاضعين بشكلٍ كبير لعاشوراء، وخصوصاً في ما يتعلَّق بمسألة «المثاليّة» و«الثوريّة» و«الشهادة».

لذا كان هناك دورٌ فاعل لمفاهيم، كالإمامة، الواقعيّة والانتظار، الشهادة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ والتي هي جميعها من الأركان الأساسيّة للثقافة السياسيّة الشيعيّة ولنهضة عاشوراء ـ. وكان لأصل الإمامة والحكومة الإسلاميّة الأثر الأكبر في هذا المجال.

إنّ التصوُّر الذي يمتلكه الشيعة عن المراحل الأولى للإسلام، ولحكومة الإمام عليّ×، بقي دائماً في مخيِّلتهم على صورة هدفٍ، فضحّوا وجاهدوا في سبيل تحقيقه. وقد أخذ هذا الهدف مجراه في قلب المجتمع وعقله كأُمنية حكومة عدل تحكمها القوانين الإسلاميّة الأصيلة على نهج حكومة الإمام عليّ×. وكذلك ما استخلصه الناس من ثورة عاشوراء، من أنّ هذه الحركة هي الأخرى  كانت جهاداً لتحقيق هذا الهدف نفسه. ولكنْ رغم ذلك أدّى التطوّر التاريخيّ للتشيّع إلى نشوء حالة جعلت علماء الشيعة وكبارهم يُحجمون عمليّاً عن تحقيق هذا الهدف؛ وذلك بحكم التقيّة والمفهوم الخاصّ للانتظار. وكان الشعب الإيراني يعدّ الثورة الإسلاميّة فرصةً لإقامة حكومة العدل، التي طالما بشَّرت بها الأطروحة الفكريّة والمبادئ الشيعيّة. وهذا ما كان له كبير الأثر في الثقافة السياسيّة. وقد سَرَتْ هذه العقيدة بين القادة الدينيّين وفئات الشعب على السواء. وفي الواقع كان قادة الثورة ينقلونها إلى الناس على الدوام، فاعتبروا إيجاد حكومة العدل الإسلاميّة هو الهدف من الثورة، وكانوا يَدْعون الناس إلى التضحية في سبيل الحكومة الإسلاميّة، بالاستفادة من تضحية الإمام الحسين× في هذا السبيل.

لذا فقد كان فكر كلّ ثورة إسلاميّة يستلهم بشكلٍ أساسيّ من هذا الفكر التاريخيّ للشيعة، والقاضي بوجوب تحويل الحكومات إلى حكومات مبنيّة على أسس الإسلام والقرآن. وهي فكرةٌ كان لها الدَّوْر المؤثِّر والخلاّق  في نهضة عاشوراء؛ فقد ثار الإمام الحسين× من أجل الإطاحة بحكومة يزيد، ولتحلّ مكانها حكومة ترتكز إلى القِيَم الدينيّة الأصيلة. وقد أدّى الإمام الخميني دَوْراً مؤثّراً في إحياء هذا الفكر، والحثّ على التضحية في سبيل محاربة الحكومة غير الشرعيّة، وتأسيس حكومة إسلاميّة، مقتدياً في ذلك بثورة عاشوراء. وفي الأساس كانت فكرة الثورة؛ لتأسيس الحكومة الإسلاميّة، التي طرحها الإمام الخميني في ثورته، مستوحاةً من الفكر العاشورائيّ؛ حيث رأى أن تلك الأوضاع القائمة لا تقبل الإصلاح، ولا يمكن تغييرها إلاّ بواسطة حركةٍ جَذْريّة. ولا نرى في تاريخ إيران المعاصر أيّاً من الانتفاضات تحمل فكرة الثورة كما طرحتها الثورة الإسلاميّة؛ فقد كانت تلك الانتفاضات تهتمّ دائماً بالظواهر والتغييرات الشكليّة([4]).

وكانت هذه المرّة هي الأولى التي تُطرح فيها فكرة الإطاحة بالسلطة في فكر الثورة الإسلاميّة، والتي كان الإمام الخميني متأثِّراً في طرحها بشكلٍ كبير بمبادئ الفكر السياسيّ الشيعيّ من جهةٍ، وبثورة الإمام الحسين× من جهةٍ أخرى. وطبقاً لمبادئ الفكر الشيعيّ فإنّ جميع الحكومات الموجودة هي غير شرعيّة، ويجب السعي إلى تغييرها([5]). وعلى أساس فكر الإمام الحسين× العاشورائيّ فإنّ أوضاع المجتمع الإسلاميّ في تلك المرحلة لم تكن لتقبل التغيير إلاّ عن طريق الثورة الجَذْريّة، التي تؤدّي إلى تغيير الحكومة. وقد كان الإمام الخميني متأثِّراً بهذه الأفكار أثناء قيادته للثورة الإسلاميّة، وكذلك عند تحديده لمعالم نمطها ونظامها. ولهذا لا بُدَّ من البحث عن الأصول الأولى للثورة الإسلاميّة في المباني الفكرية للثورات الشيعيّة. ومن هنا كان الإمام الخميني يستفيد من الكلمات والمناسبات والأفكار التي ترتبط بنحوٍ ما بعاشوراء وبالتشيُّع، أكثر من العناصر الأخرى، وخاصّةً عندما كان يهدف إلى التعبئة السياسيّة والثوريّة للأمّة. فكان يستفيد من المظاهر العاشورائيّة، وكان يختار لخطاباته الثوريّة أيّاماً متزامنةً مع ذكرى نهضة عاشوراء والأيّام المتعلِّقة بها.

ج ـ أهداف ودوافع الثورة الإسلاميّة ــــــ

إنّ أهداف الثورة الإسلاميّة هي إحدى المجالات المهمّة التي تبيِّن تأثير عاشوراء على الثورة الإسلاميّة. وتتمثّل أهداف ثورة عاشوراء بصورةٍ عامّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الحكومة الأمويّة الجائرة وظلمها وعدم إنصافها، وتأسيس حكومةٍ إسلاميّة، وحفظ الإسلام. وعندما كان الإمام الخميني يبيِّن أهداف الإمام الحسين× في نهضة عاشوراء كان دائماً يجعل تلك المبادئ نصب عينَيْه.

ويلمس المتأمِّل في هذه الأهداف أنّ الإمام الخميني أثناء قيام الثورة الإسلاميّة وتبيين أهدافها كان يرمي إلى نفس أهداف ثورة عاشوراء، وكان يرى أنّ فلسفة الثورة الإسلاميّة تتمثّل في النهاية بإحياء الإسلام وصَوْنه. وفي الواقع كان الإمام الخميني يهدف كذلك، حتّى خلال الظروف السياسيّة ـ الاجتماعيّة لإيران ما قبل الثورة، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (محاربة الفساد السياسيّ والاجتماعيّ والظلم)، وكان يشير في مواقع مختلفةٍ إلى المنكَرات التي كان يروِّج لها النظام البهلويّ في المجتمع، وكان يعمل على مجابهتها([6]). وكذلك هو الأمر في ما يتعلَّق بالهدف الثاني، وفضح الظلم والاضطهاد الذي كانت تمارسه الحكومة البهلويّة، وسياستها المخالفة للدين. وكان تأسيس الحكومة الإسلاميّة هو الهدف الأساس للإمام الخميني من الثورة الإسلاميّة ومن قيادتها([7]).

وفي الوقت نفسه أعلن الإمام الخميني في تحليله النهائيّ أنّ هدف الشعب الإيراني من الثورة الإسلاميّة هو حفظ الإسلام([8]). والنظرة العامّة إلى الفكر السياسيّ للإمام الخميني، وإلى خطاباته أثناء قيادته للثورة الإسلاميّة، وفي مرحلة ما بعد الانتصار، تبيّن مدى تأثُّره الشديد بثورة الإمام الحسين×، مضافاً إلى الثقافة السياسيّة للشيعة. فقد كان يسعى دائماً إلى بعث الروح في هذه الأهداف ضمن ملحمة عاشوراء، وإلى نقلها إلى المواجهات الإسلاميّة للشعب الإيراني. ويقول في هذا المجال: منذ اليوم الأوّل الذي ثار فيه سيّد الشهداء× كان هدفه إقامة المعروف، والنهي عن المنكر… ونحن الذين نتَّبع سيّد الشهداء يجب علينا أن نعلم ما هو الحال الذي كان في الواقع دافعه إلى النهي عن المنكر، ومن جملته قضيّة حكومة البغي، فهذه الحكومة يجب أن تزول([9]).

ويقول في مكانٍ آخر: إنّ حياة سيّد الشهداء كانت تحمل هذا المعنى، فقد أراد أن يؤسِّس حكومة العدل في مقابل الجَوْر([10]).

ويقول كذلك حول الإطاحة بحكومة يزيد، بما هي الهدف من ثورة عاشوراء: لقد كان تكليف سيّد الشهداء أن… ينكِّس عَلَم يزيد([11]).

وكذلك يقول في موضعٍ آخر: لقد قتل سيّد الشهداء من أجل أن يُحيي الإسلام([12]).

ويقول هذا القائد العظيم، في معرض بيانه لواجب المسلمين في استخلاص درسٍ من مدرسة عاشوراء: لقد علَّمنا إمام المسلمين أنّه عندما يحكم الحاكم الظالم المسلمين بالإكراه فقِفُوا في وجهه، وإنْ لم تكن قوّتكم في مستواه. وإذا رأيتم أنّ كيان الإسلام في خطر فَضَحُّوا، وانثروا دماءكم([13]).

 

د ـ كيفيّة تبلور الثورة الإسلاميّة ــــــ

يرتبط تسليط الضوء على تبلور الثورة الإسلاميّة وتأثُّرها بثورة عاشوراء ارتباطاً وثيقاً بدور قيادتها وسائر الشخصيّات المؤثِّرة فيها. فقد كان سريان روح الثورة في الناس متأثِّراً بشكلٍ بارز بمعرفتهم بواقعة عاشوراء. وتختلف النتائج الناجمة عن ذلك باختلاف طبيعة رؤيتهم حولها. وفي هذا المجال لعبت القيادة دورها الكبير في بثّ روح الثورة في الشعب الإيراني، مستفيدة من ثورة عاشوراء. فقد اعتمد الإمام الخميني أسلوبين اثنين في الإفادة من سياسة عاشوراء، والتعبئة السياسيّة للشعب، وترغيبه بمحاربة النظام البهلوي؛ فقد جهد بدايةً في تقديم تفسيرٍ ثوريّ لها، وذلك من خلال بيانه لفلسفتها، ونفضه عنها غبار التفاسير التقليديّة التي كانت قد نَحَتْ بها منحىً انفعاليّاً؛ ثمّ قام بعد ذلك بالمقابلة بين الظروف السياسيّة لمرحلة نهضة الشعب الإيراني وظروف نهضة الإمام الحسين×، فاستطاع بذكاءٍ أن يحرِّك مشاعر الناس ضدّ الحكومة البهلويّة.

وإلى جانب الإمام الخميني شمَّرت شخصيّاتٌ ثوريّة أخرى عن ساعد الهِمَّة في تقديم تفسيرٍ جديد لبعض مفاهيم ثورة عاشوراء والثقافة السياسيّة الشيعيّة. ولكنْ لا شكّ أنّ الإمام الخميني كان الشخصيّة الأكثر تأثيراً في استلهام الثورة الإسلاميّة من ثورة عاشوراء. ومن هنا سيتمّ في هذه المقالة التأكيد على دوره، أكثر من سواه، في تقديم تعريفٍ جديد لثورة عاشوراء.

إنّ أحد العناصر التي سعى الإمام الخميني لإحيائها على صعيد البُعْد الفكريّ لثورة عاشوراء  هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد صار معلوماً ممّا تقدَّم أنّ أحد الأهداف الأساسيّة للثورة الحسينيّة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد خالف الإمام الخميني في هذا المجال اجتهاد أغلب الفقهاء، مقدِّماً في ذلك وجهة نظر جديدة. فاحتمال التأثير هو أحد شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الناحية الفقهيّة، وبانتفاء هذا الشرط يسقط وجوبه. غير أنّ الإمام الخميني رأى أنّ إيجاد الشروط المؤثِّرة هو واجبٌ أيضاً، فهو من شروط الواجب، ولذلك فإنّ تحصيله واجبٌ. يقول في تحرير الوسيلة: لو كان في سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم خوفٌ من أن يصير المنكر معروفاً، أو المعروف منكراً، يجب عليهم إظهار علمهم، ولا يجوز السكوت، ولو علموا عدم تأثير إنكارهم في ترك الفاعل([14]).

وهذا الرأي للإمام الخميني مستلهَمٌ بشكلٍ دقيق من فكر الإمام الحسين× في ثورته ضدّ يزيد. وقد كان في ذاك الزمان مجموعةٌ كبيرة من الممانعين لحركة الإمام الحسين×؛ لأسباب مختلفة، ولكنّه جعل الأمر بالمعروف مطلقاً هَدَفاً له، دون الالتفات إلى تأثيره.

ويقول الإمام الخميني في وجوب سائر مقدّمات وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي دليلها الأساس:

ـ لو وقعت بِدْعة في الإسلام، وكان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجِباً لهَتْك الإسلام، وضعف عقائد المسلمين، يجب عليهم الإنكار بأيّ وسيلةٍ ممكنة، سواء كان الإنكار مؤثِّراً في قلع الفساد أم لا. وكذا لو كان سكوتهم عن إنكار المنكَرات موجِباً لذلك، ولا يلاحظ الضَّرَر والحَرَج، بل تلاحظ الأهمّيّة.

ـ لو كان في سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم خوفٌ من أن يصير المنكر معروفاً، أو المعروف منكراً، يجب عليهم إظهار علمهم، ولا يجوز السكوت، ولو علموا عدم تأثير إنكارهم في ترك الفاعل، ولا يلاحظ الضَّرَر والحَرَج مع كون الحكم ممّا يهتمّ به الشارع الأقدس جدّاً.

ـ لو كان في سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم تقوية للظالم، وتأييد له ـ والعياذ بالله ـ، يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الإظهار، ولو لم يكن مؤثِّراً في رفع ظلمه.

ـ لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجِباً لجرأة الظَّلَمة على ارتكاب سائر المحرَّمات، وإبداع البِدَع، يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الإنكار، وإنْ لم يكن مؤثِّراً في رفع الحرام الذي يُرتَكَب.

ـ لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجِباً لإساءة الظنّ بهم، وهتكهم، وانتسابهم إلى ما لا يصحّ ولا يجوز الانتساب إليهم، ككونهم ـ نعوذ بالله ـ أعوان الظَّلَمة، يجب عليهم الإنكار؛ لدفع العار عن ساحتهم، ولو لم يكن مؤثِّراً في رفع الظلم([15]).

وكما هو واضحٌ فإنّ الإمام الخميني يرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه الحكومة التي خرجت عن مسير العدالة، وسلكت طريق الجَوْر. وقد اهتمّ& بإبراز هذا الفكر وعلاقته بعاشوراء في كتبه الفقهيّة، ومواقفه وخطاباته الثوريّة، فأوجد بهذه الفتاوى الفقهيّة الجديدة أرضيّة للتغيير والثورة في المجتمع.

والحركة الأساسيّة الأخرى التي قام بها الإمام الخميني خلال ثورته، فكان لها كبير الأثر، هي تحريم التقيّة، والتي كانت من العناصر الثابتة في موقف الشيعة من الحكومات. وقد تحرّك الإمام الخميني في هذا المجال كالإمام الحسين×. فقد رأى الإمام الحسين× في زمن يزيد الأمويّ أنّه إذا حكم المسلمين شخصٌ مثل يزيد فعلى الإسلام السلام. لذا ثار× لحفظ الإسلام من الاضمحلال، بغير مراعاة واحتياط. ويبدو أنّ رأيّ الإمام الخميني في ترك التقيّة وتحريفها تابعٌ بشكلٍ كامل لمنطق الإمام الحسين×. وقد توصّل الإمام الخميني إلى أنّ السياسات التي اتَّبعها الشاه والنظام البهلويّ ستؤدّي في النهاية إلى اضمحلال الإسلام وأصل الدين([16]). من هنا لم يكن للتقيّة أيّ معنى؛ لأنّ هدف التقيّة في الأساس هو حفظ المعتقدات، ولكنْ عندما تكون المعتقدات من أساسها في معرض الخطر فلا بُدَّ من المواجهة العَلَنيّة. وبما أنّ تحريم التقيّة هو عنصر متأثِّر بالفكر العاشورائيّ فقد كان له دَوْرٌ عظيم في تطوّر وتبلور الثورة الإسلاميّة.

وعندما طرح الإمام الخميني مسألة الحكومة الإسلاميّة، وأصرّ على ضرورة قيامها، حتّى عن طريق الثورة، كان ذلك ذروة القضاء على التقيّة. فالسبب الذي دفع الأئّمة المعصومين^ وعلماء الشيعة على مرّ تاريخ التشيُّع إلى اعتماد التقيّة في مقابل حكومات الجَوْر وحكّامها، حتّى في الإفصاح عن آرائهم…، هو الضغوط الشديدة التي كانوا خاضعين لها، وكان ذلك منهم إجراءً عمليّاً لحفظ اعتقاداتهم. ولم تكن دعوة الإمام الخميني الناس إلى الثورة الإسلاميّة من أجل تأسيس الحكومة مجرّد خروج للتشيُّع عن موقفه الدفاعيّ فحَسْب ـ والذي كانت التقيّة من أبرز مظاهره ـ، بل نقلَتْه نقلةً نوعيّة إلى الموقف الهجوميّ للإطاحة بالحكومة الظالمة، وهو نفس الهدف الذي سعى إليه الإمام الحسين× في ثورة عاشوراء، دون أن يتمكّن من بلوغه؛ لأسبابٍ عديدة.

وفي سبيل مضاعفة عزم الثوّار، وزيادة معرفة الناس بحقيقة النظام البهلويّ اللادينيّة، ومن أجل تفعيل كُرْه الناس لذاك النظام، كان الإمام الخميني يقايسه دائماً بحكومة معاوية ويزيد. فقد كانت حكومة هذين الأخيرَيْن في أذهان الشيعة الإيرانييّن حكومة ظلم وجَوْر وفساد، وهي الحكومة التي ثار ضدّها إنسانٌ رفيع المقام كالإمام الحسين×؛ ليقلبها رَأْساً على عَقِب. ومن الطبيعيّ أن يثوروا ضدّ كلّ حكومة تماثلها، ويعملوا على إزالتها. وكان الإمام الخميني يعتقد أنّ نداء عاشوراء يجب أنْ يبقى حيّاً في كلّ عصرٍ([17]). ومن هنا كان يؤكِّد أكثر على هذا البُعْد للقضيّة، وكان يعرِّف الناس على حقيقة النظام من خلال هذه المقابلة التاريخيّة: وهكذا هو وضع الحكومة اليوم، فقد وصلت إلى هذا المنصب بالإكراه، وهي تمارس حُكْماً بالإكراه. فكما كان معاوية يحكم كُرْهاً فهذه الحكومة تمارس الإكراه أيضاً([18]).

وكان لدى الإمام الخميني معرفةٌ بحكومات أخرى جائرة وظالمة على مرّ التاريخ. فقد كان الخلفاء العبّاسيّون والعثمانيّون بأجمعهم مظاهر لحكومات الجَوْر في تاريخ الإسلام، ولكنّ الإمام الخميني كان يشدّ الناس بمفاهيم معيَّنة إلى مشاهد كانوا على علمٍ بها، فيدفعهم إلى إبداء النفور والكُرْه لها في المراحل التاريخيّة المختلفة.

لقد كانت حكومة يزيد مظهراً للظلم وللفساد، وتشبيه حكومة الشاه بها يوجد نوعاً من المماثلة في ذهن الناس. وبالالتفات إلى الحضور العظيم للإمام الحسين× في حياة الناس فقد وجدوا دافعاً قويّاً للثورة ضدّ النظام. وبهذا العمل أوجد& حسّ محاربة الظلم لدى الشعب. وهو باقتدائه بعاشوراء يعبِّر عنها بـ «حجّة المواجهة»، ويقول بصراحةٍ تامّة: إنّ حجّتنا في هذه المواجهة بين المسلمين وبين الجهاز الفاسد… حجّتنا في جواز ولزوم هذا العمل هو عمل سيّد الشهداء… حجّتنا على هذا أنّه إذا تابعنا هذه المواجهة، وقتل منّا مائة ألف نسمة، فإنّها تستحق ذلك؛ لدفع ظلم هؤلاء؛ وللحدّ من سلطتهم في هذه الدولة الإسلاميّة… حجّتنا هي عمل أمير المؤمنين× وسيّد الشهداء’([19]).

وكان للإمام الخميني في كتبه عناية خاصّة بالشهادة؛ كونها تمثّل أحد العناصر الأساسيّة في واقعة عاشوراء. ويجعل من هذا العنصر خلاصة فهمه العامّ لنهضة عاشوراء. ولذا فما دامت محاربة حكومة الظلم واجبةً، وفقاً لمبادئ عاشوراء، فعلى الإنسان أن يكون مستعدّاً للشهادة والفداء، كما صنع سيّد الشهداء×. وقد استفاد الإمام الخميني من ذلك أثناء قيام الثورة الإسلاميّة، وكذلك بعد انتصارها، وخلال الحرب المفروضة، وذلك تعبئةً للشعب في سبيل تثبيت وحفظ الحكومة الإسلاميّة.

ولا شكّ أنّ للشهادة في كتابات الإمام الخميني مكانتها العظيمة، سواء منها كتاباته السياسيّة أم الأخلاقيّة أم العرفانيّة. وهو يبيِّن في تفسيره للشهادة الأهداف السياسيّة لها، إلى جانب بُعْدها المعنويّ والأخلاقيّ. وبعبارة أخرى: الشهادة في سبيل الله برَأْيِه ليست قيمة معنويّة فحَسْب، بل هي في نفسها ذات أهداف وآثار سياسيّة كذلك، في أيّ الظروف كانت. وانطلاقاً من هذه الرؤية، وإضافة إلى ما تتمتَّع به الشهادة من القيمة الرفيعة، فإنَّ الهدف الذي يستشهد من أجله الإنسان يمتاز بقيمة أكبر. وضمن هذا النطاق فالشهادة في سبيل تأسيس الحكومة الإسلاميّة وحفظها هي من أرقى القِيَم([20]).

وقد اهتّم الإمام الخميني في تفسيره للشهادة بعاشوراء، أكثر من أيّ واقعة تاريخيّة في الإسلام؛ حيث كان أوج الشهادة لأرقى البشر في سبيل الوصول إلى الحقيقة. وكانت له& كلماتٌ كثيرة في هذا المضمار، فقد قال: أَوَهُناك دمٌ أقدس من دم سيّد الشهداء؟! فلماذا نخاف إذاً من بذل الدماء؟!([21]).

لقد كانت الشهادة من المفاهيم المؤثّرة في السلوك الثوريّ للشعب. فالشهادة هي من المفاهيم الأساسيّة في الثقافة السياسيّة لعاشوراء، وللإسلام بشكلٍ عامّ. وتعدّ الشهادة أو الموت في سبيل هدفٍ مقدَّس وإلهيّ القيمةَ الرفيعة التي يتَّفق فيها جميع المسلمين، ولكنّ واقعة عاشوراء منحتها ميزة خاصّة، تركت أثراً عميقاً في الثقافة السياسيّة لدى الشيعة. فمن الجوانب المهمّة والبارزة في نهضة عاشوراء الشهادة في سبيل الإيمان والعقيدة. وبتأثيرٍ هذه الواقعة تحوَّل مفهوم الشهادة إلى واحد من الأفكار والمفاهيم الأساسيّة، التي تعدّ مصدر إلهام للشيعة عند المواجهات العقائديّة والدينيّة.

وكان هناك طروحاتٌ أخرى أثّرت كذلك بشكلٍ كبير في تعبئة الشعب، عن طريق التمسُّك بالنماذج والرموز العاشورائيّة. وفي الواقع كان محور البرنامج السياسيّ والثوريّ لكثيرٍ من المفكرّين إبّان الثورة هو إحياء الوجه الثوريّ للأئمّة المعصومين، وخاصّة ثورة عاشوراء وحركة الإمام الحسين× والسيّدة زينب؛ ليتمكّنوا بذلك الجهد الكبير من تحويل اعتقاداتهم وسياساتهم إلى حركةٍ ثوريّة.

وعلى أساس بعض هذه النظريات فإنّ الشيعيّ الحقيقيّ هو الذي يكون دائماً، وبالاقتداء بالإمام عليّ× وبالإمام الحسين×، في حالة مواجهةٍ مع نظام الظلم والجَوْر، ويكون هذا النظام دائماً على وَجَلٍ منه. لقد دعا هؤلاء المفكِّرون الناس إلى الثورة ضدّ الظلم، بإلهامٍ من الإمام الحسين×. وفي هذا المجال قاموا بمواجهة الأفكار والشعائر التي تبلورت في أجواء الفكر الشيعيّ وثورة عاشوراء، ولكنَّها كانت مانعاً عن الثورة، بدلاً من أن تكون سبباً لها. وتغيَّرت ضمن هذه النظريات الشعائر التي كانت مرتبطةً بنحوٍ ما بثورة عاشوراء، كالعزاء، والمفاهيم الأخرى، كالتقيّة، وأضْحَتْ عوامل للثورة ضدّ الأنظمة الجائرة، لا عوامل للاستسلام لها. ولذا كان للتجديد الثوريّ للفكر العاشورائيّ دورٌ عظيم في إيجاد الروحيّة الثوريّة في جيل الشباب والجامعييّن على وجه الخصوص([22]).

وقد تمتَّع «الشهيد» في الكتب الثوريّة التي نُشرت في هذه المرحلة بمكانةٍ مميَّزة، وصار مفهوماً أكثر حماسةً وثوريّة وسياسيّة.

وانطلاقاً من هذه النظرة فإنّه لا يمكن إدراك عمل الإمام الحسين× بدون إدراك مفهوم الشهادة، وهي البُعْد الأرقى والأسمى في نهضة عاشوراء، ولا بُدَّ أن تفهم بشكلٍ جيّد؛ ليتَّضح عمق ثورة الإمام الحسين×. وقد تزامنت هذه الطروحات مع مناهضة شديدة للنظريّة القائلة بأنّ شهادة الإمام الحسين× هي عاملٌ يسعى إلى تحقيق الشفاعة للشيعة. وهي ترى أنّ هذا النوع من العقائد كان متأثِّراً بالروح الصوفيّة، والنظرة المسيحيّة، وهي تؤدّي إلى تسخيف ثورة الإمام الحسين×، وجعلها خاويةً بلا مغزى. والشهادة موتٌ إراديّ، يختاره المجاهد بكامل وعيه ومنطقه وشعوره ويقظته. ويهدف هذا الاختيار إلى ضمان بقاء عقيدةٍ أو إيمان معيَّنين، ولهذا السبب استشهد الإمام الحسين×. ومن خلال هذه النظرة فإنّ الشهادة المستلهمة من ملحمة الحسين× في عاشوراء هي أفضل وأعظم وأهمّ رأسمال شيعيّ على مرّ التاريخ. وعلى الشيعيّ الحقيقيّ، بَدَلاً من تعظيم الشهداء، أن يكون مستعدّاً للشهادة؛ من أجل حفظ نهجهم ومبادئهم، والدفاع عن العقيدة والإيمان الذي استشهدوا في سبيله، وكذلك محاربة الظلم والحكومات الجائرة([23]). وقد كان لهذه النظرة أثرٌ عميق عند الشباب الثوريّين في تلك المرحلة، وكان يبرز بشكلٍ خاصّ في المحافل الجامعيّة. وقد كان للإمام الخميني فكرٌ مماثل، يستند إلى الرؤية الدينيّة التقليديّة الحاكمة على فئات الشعب، وقد طرحه في أوساط عامّة الشعب الإيراني.

 

هـ ـ مظاهر نهضة عاشوراء وتأثيرها على الثورة الإسلاميّة ــــــ

تركت حادثة عاشوراء في أفكار الشيعة وأرواحهم أثراً مُفْجعاً لا يبلى، وصارت حقيقتها ثابتة خالدة؛ بما أحدثت على مرّ التاريخ من تغييرات. إنّها تمثّل ذكرى للقضيّة المقدَّسة، وللشهادة، والإيثار، ولحبّ المواجهة، الصفات التي كان يتَّسم بها أنصار الإمام الحسين×. وقد أقام الشيعة مراسم لإحيائها، كمجالس العزاء، ومناسبات الأربعين. وتعدّ هذه المراسم العناصر المكوّنة للثقافة الشيعيّة، والسبب في تمايزها عن الثقافات الأخرى. وقد كان لهذه المظاهر الثقافيّة على مرّ التاريخ نتاجات مختلفة؛ باختلاف ظروف الزمان والمكان. ففي بعضها سكوتٌ وقعود، وفي آخر ثورةٌ وخروج.

ومع ذلك فقد كانت روح هذه المظاهر هي الثورة والسعي نحو المواجهة. فهي تمتلك بطبيعتها قابليةً ثوريّة؛ لأنّ منشأها الأساس كان ثوريّاً، إلاّ أنّ الاستفادة منها كانت متفاوتةً؛ وذلك لارتباطها بالظروف السياسيّة والاجتماعيّة، ونظرة الناس والعلماء والمفكِّرين والحكومات([24]).

كذلك يمكن القول: إنّه من وجهة نظر تاريخيّة كانت هذه المراسم ذات حقيقة سياسيّة، إضافة إلى وظيفة العزاء التي كانت ترافقها على الدوام. فقد كانت هذه المظاهر تتضمَّن نوعاً من الاعتراض على السلطات السياسيّة الحاكمة، ونوعاً من التمرّد السياسيّ. هذا على الرغم من أنّ البعض ينظر إليها من زاوية الحزن وحده، والذي يسعى الشيعة من خلاله إلى نَيْل الشفاعة، عن طريق إبراز التألُّم، ومواساة الإمام الحسين× وأنصاره. ومن الشخصيّات الثوريّة مَنْ ينتقد هذه الرؤية، كالشهيد مطهَّري([25]).

وقد اتَّخذت مراسم عاشوراء خلال الثورة الإسلاميّة منحىً سياسيّاً ـ ثوريّاً، وذلك على أيدي العلماء الثوريّين، كالإمام الخميني، والمفكِّرين الثوريّين الآخرين، كالدكتور شريعتي.

وفي الواقع إذا نظرنا إلى هذه المسألة على ضوء «نظريّة الخطاب» فإنّ الخطاب الثوريّ للإمام الخميني ولسائر الثوريّين حول عاشوراء والمراسم السنويّة المتعلِّقة بها قد منحها حقيقة سياسيّة وثوريّة بشكلٍ تامّ، حيث كان لها دورٌ خلاّق في قضيّة الثورة الإسلاميّة. والحقّ أنّ أثر هذه المظاهر والمراسم المتعلِّقة بعاشوراء على الثورة الإسلاميّة بلغ حدّاً يمكن معه القول: إنّه لولاه لم تكن الثورة الإسلاميّة، أو عل الأقلّ لم تنتصر بهذه السرعة. وهنا سنبحث قِسْماً من المظاهر المتعلِّقة بعاشوراء، والتي تحوّلت في الأوساط الشيعيّة إلى شعائر دينيّة، وكان لتجدُّدها الدائم أثرٌ في سَيْر التحوّلات السياسيّة:

 

1ـ إقامة مجالس العزاء ــــــ

إنّ إقامة مجالس العزاء هي إحدى الثقافات التاريخيّة للشيعة. وأهل البيت^ هم أوّل مَنْ أقام العزاء على الإمام الحسين×، وقد أوصُوا الشيعة مؤكِّدين على إقامة هذه المجالس؛ تخليداً لذكرى الإمام الحسين× وقضيّة عاشوراء([26]). ولذا فقد تحوّلت هذه المجالس، وبشكلٍ تدريجيّ، في الأوساط الشيعيّة إلى تقليدٍ راسخ، ثمّ اتَّسعت أبعاده مع مرور الزمان، ولكنّها كانت تؤدّي وظائف مختلفة في الأزمنة المختلفة، بالالتفات إلى الظروف السياسيّة والاجتماعيّة الحاكمة عليها. فكانت هذه المجالس أحياناً دينيّة صِرْفة، حيث كان الشيعة يقيمون العزاء فقط لإبراز الحزن على الإمام الحسين× وأولاده، وكانت تقام بمنأى عن العمل السياسيّ إلى حدٍّ كبير؛ وأحياناً أخرى كانت تُطْرَح فيها حادثة عاشوراء كرواية سياسيّة ثوريّة، يتوجَّب على أساسها أن ينهض المعزُّون، كالإمام الحسين×، في طريق محاربة الظلم وحكومات الجَوْر؛ تأسّياً بشهداء كربلاء.

وفي العصر الحاضر قدّم الإمام الخميني عزاء الإمام الحسين× على أنّه رواية سياسيّة محضة، وهي الرواية التي كان يعتقد بها الإمام الخميني منذ تأليفه كتاب (كشف الأسرار). وهو يرى في هذا الكتاب أنّ هدف كربلاء هو نزع أسس الظلم والجَوْر، وفلسفة العزاء هي حفظ هذا الهدف في كلّ الظروف([27]). وبصورةٍ عامّة تختلف رؤية الإمام الخميني للعزاء اختلافاً كبيراً عن الخطاب الغالب في ذاك الزمان: لا تظنوا أنّ دافع البكاء والاجتماع في مجالس العزاء هو فقط أن نبكي من أجل سيّد الشهداء، فلا سيّد الشهداء بحاجةٍ إلى هذا البكاء، ولا هو ينتج شيئاً… القضيّة هي ليست قضيّة بكاءٍ وتباكٍ، وإنّما هي مسألة سياسيّة، فقد أراد الأئمّة من خلال رؤيتهم الإلهيّة أن تنهض هذه الشعوب، وتشكّل نسيجاً واحداً…([28]).

ورغم أنّ هذا الكلام قد صدر بعد الثورة الإسلاميّة، ولكنّه يبيِّن رؤية الإمام الخميني حول مجالس العزاء، والذي عمل على أساسه خلال الثورة أيضاً. وقد أدّى هذا الفهم لثورة الإمام الحسين× إلى إيجاد حماسٍ سياسيّ في المجالس. والحقيقة أنّ هذه المجالس تحوَّلت من مراسم العزاء المحض، التي كانت تعقد بهدف الحصول على المغفرة الفرديّة، إلى حركة ذات هدفٍ سياسيّ. وباعتبار أنّها كانت تمتلك دائماً وعلى مرّ التاريخ حقيقة جماعيّة وثوريّة فلم يكن التحكّم بها ممكناً من جانب النظام البهلويّ. ونؤكِّد مجدَّداً أنّ هذه المراسم كانت تمتلك هويّة سياسيّة، ولكنْ ظلّ هذا البُعْد السياسيّ لها مكتوماً على مرّ التاريخ؛ لأسباب مختلفة. وكان الإمام الخميني واعياً لهذه القدرة. ولهذا السبب كان يؤكِّد أنّ «هذا الجانب السياسيّ لهذه المجالس هو أرقى من جميع الجوانب الأخرى»([29]).

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا طرح هذا البُعْد لمجالس العزاء بشكلٍ أكثر بروزاً من الأبعاد الأخرى، إلى حدّ اعتبر أنّ فلسفة وجود مجالس العزاء هو وظيفتها السياسيّة؟

في الواقع كان هدف الإمام من إشاعة هذا الكلام في المجتمع هو الاستفادة من القوّة العظيمة للجموع المشاركة في هذه المجالس، والتي لم يكن لها نظيرٌ في أيّ مراسم دينيّة أخرى. وفي الوقت نفسه لم يكن للنظام أيّ سلطةٍ على هذه المجالس. ولهذا السبب كان& يختار هذه الأوقات (محرَّم وصفر) من أجل توجيه الخطابات التاريخيّة والحاسمة. وكان حضور الناس في  هذه الشهور يهيِّئ الأسباب الموجبة لسقوط النظام. وقد  كان& يؤكِّد في خطاباته على اقتداء الثورة الإسلاميّة بنهضة عاشوراء بشكلٍ صريح: لقد كانت نهضة الثاني عشر من محرَّم والخامس عشر من شهر خرداد، في مقابل قصر الشاه والأجانب ومأوى الظلم، كانت مؤثِّرة وحاسمة؛ بسبب اقتدائها بالثورة الحسينيّة، إلى حدٍّ جعلها تحوِّل عصر الظالمين والخائنين إلى ليلٍ أسود([30]).

وفي الوقت نفسه كان الناس أيضاً يشعرون أثناء إقامة مجالس عاشوراء بتعاطفٍ أكثر مع مبادئ الثورة الإسلاميّة، وكانوا يعتبرون هذه الأهداف موافقةً تمام الموافقة لمبادئ الإمام الحسين× في نهضة عاشوراء.

وفي الطرف المقابل فقد شمَّر شريعتي عن ساعد الهِمّة في المحافل الجامعيّة؛ من أجل إقصاء المفهوم التقليديّ لمجالس العزاء، والذي كان مسيطراً في المجتمع الشيعيّ، وقدَّم تلك المجالس كعاملٍ بنّاء محرِّك ومنمٍّ للفكر الشيعيّ. وهذا ما لم يكن يمتّ بصلةٍ إلى الخطاب الغالب في ذاك الزمان. لقد تناول شريعتي مراسم عاشوراء بالنقد الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ من حيث فلسفة وجودها وكيفيّتها، وقدّم من خلال المجالس خطاباً ثوريّاً، كان له أثره في أحداث الثورة الإسلاميّة.

ويعتبر شريعتي أنّ أصل العزاء هو تقليدٌ ثوريّ ذو أثرٍ عميق على الناحية الروحيّة والاعتقاديّة، وأنّه مفيدٌ في التربية والإيمان، وفي تلطيف الروح الأخلاقيّة والعاطفيّة. وهذا التقليد يبعث على إيجاد مواجهةٍ دائمة للشعب ضدّ النظام الحاكم بغير شرعيّة. وقد اهتمّ شريعتي في كتاباته بشكلٍ أكبر ببُعْد الجهاد ومبارزة الظلم، وكان يسعى لإحياء الآثار السياسيّة والدينيّة؛ حتّى يخرجها عمّا يبعث على سكونها وخمودها، ويسعى لتحويلها إلى وسيلةٍ للاعتراض والثورة، والاستمرار في نهج الإمام الحسين على مرّ العصور؛ لتكون مظهراً دائماً لمحاربة الأنظمة الحاكمة([31]).

وقد طرح الشهيد مطهَّري رؤيةً جديدة حول إقامة مجالس عزاء الإمام الحسين×، حيث كانت فلسفة إقامة العزاء عنده مختلفة بشكلٍ كامل. فهو يرى أنّ العزاء وإقامة المجالس لا يهدفان في الدرجة الأولى إلى الحصول على شفاعة الإمام الحسين×، بل إنّ هذا التفكير هو على درجةٍ من الخطورة: هذا التفكير هو تشويهٌ كامل للإمام الحسين×، يجعله مخبأً للخاطئين، ويجعل ثورته كفّارةً لأعمال الآخرين([32]).

ويقدِّم الشهيد مطهَّري كذلك مفهوماً ثوريّاً عن العزاء. فإقامة العزاء التقليديّ اليوم هو تبديل للحركة إلى مؤسَّسةٍ، وقد كان أصل فلسفتها تصحيحَ الأحاسيس ضدّ اليزيديّين وأبنائهم، وهو يعود بالفائدة على الحسينيّين وأبنائهم. وعندما يكون الحسين× مدرسةً لها حضورها في زمان معيَّن، ورمزاً لطريق ونهج اجتماعيّ معيَّن، والقضاء على طريق ونهج آخرين، فإنّ قطرة دمعٍ واحدة تذرف من أجله… هي مواجهة اجتماعيّة([33]).

لقد كان استمرار الحركة الثوريّة هو الأثر الأكبر لمظاهر النهضة الحسينيّة في الثورة الإسلاميّة، فقد كانت روح الفكر العاشورائيّ هي الباعث الأساس على الحركة فيها. وكان الناس يستمدّون من هذه المظاهر في استمرار حركتهم وجهادهم، حتّى يمكن القول: إنّه لو لم تكن الروح العاشورائيّة، ومنطق التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، والتي كان منبعها الإمام الحسين×، لم تكن الثورة لتصل إلى النصر بهذا الحجم والاتّساع والسرعة.

لقد كانت مجالس العزاء أبرز مظاهر نهضة عاشوراء في الثقافة السياسيّة، فهي التي أوجدت الفكر الثوريّ لقادة الثورة، ونَحَتْ به منحى الاعتراض السياسيّ، وقلبت الحقيقة التقليديّة لهذه المجالس رأساً على عَقِب.

وقد كان للمجالس، ولأيام وأشهر العزاء، أهميّة عظيمة في مجرى الثورة الإسلاميّة، وخاصّة أنّ أهمّ وأحسم التظاهرات الشعبيّة كانت في يومَيْ تاسوعاء وعاشوراء، وكذلك في شهري محرَّم وصفر عامّة. ويقول الإمام الخميني كذلك حول الصلة بين هذه الأيّام وعاشوراء والتظاهرات الشعبيّة: لو لم تكن عاشوراء وحرارتها وحماسها الثوريّ لم يكن من المعلوم وقوع ثورةٍ كهذه بغير سابقةٍ. إنّ وقعة عاشوراء العظيمة منذ العام 61هـ وحتّى خرداد 1342هـ.ش، ومنه إلى ظهور بقية الله#، هي مبعث للثورات في كلّ آنٍ([34]).

وقد كانت إحدى تلك المظاهرات الثوريّة في عاشوراء 1357هـ.ش، والتي تعدّ المرحلة الأخيرة في عمر النظام البهلوي. وقد ثار في هذه التظاهرة ضدّ النظام ما يقارب عشرين مليون شخصاً، وأكّدوا في المقرَّرات التي أصدروها قبل كلّ شيء على عهدهم مع الثورة التاريخيّة للإمام الحسين×.

في هذا اليوم العظيم والتاريخيّ من أيّام عاشوراء، يوم استشهاد أعظم سيّد للأحرار، وخير ملهم لهم، قائد وإمام مسلمي العالم، الحسين بن عليّ×، وأصحابه المجاهدين الأوفياء، فإنّ الشعب الإيراني المجاهد بتظاهرته العظيمة هذه، والتي قلّ نظيرها، يجدِّد ارتباطه وعهده قبل كلّ شيء مع الثورة التاريخيّة، وصانعة التاريخ…، ثورة كربلاء، ومع أهدافها المقدَّسة([35]).

وكانت الأهداف التي جاءت ضمن الرسالة متأثِّرة بعاشوراء بشكلٍ مقصود، وهي عبارة عن إسقاط الشاه، ودحر نظام الاستبداد السلطويّ، وإنشاء حكومة العَدْل الإسلاميّة، وفقاً لإرادة الشعب([36]).

 

 2ـ سنّة ذكرى الأربعين ــــــ

رغم أنّ سنّة ذكرى الأربعين ليست منفصلةً عن مجالس عزاء عاشوراء، إلاّ أنّ دورها الخلاّق المستقلّ اقتضى أن تُبحَث بشكلٍ منفصل. إنّ سلسلة مجالس ذكرى الأربعين كانت باعثاً على إيجاد انتفاضةٍ دائمة ضدّ النظام البهلويّ. وقد أدّت هذه السنّة إلى أن تستمرّ الثورة الإسلاميّة في حركتها دون انقطاعٍ، ممّا كان يفوِّت على النظام القيام بأيّ عمل يفرض السيطرة على الأزمة الشديدة التي تواجهه. ولو لم تكن هذه السنّة في مسيرة الثورة الإسلاميّة لكان قلّ حضور الشعب في الميادين الثوريّة، ومن جهةٍ أخرى كانت ستُتاح للنظام فرصةٌ بين الحركات المختلفة يفرض خلالها سيطرته على الثورة بقوّةٍ أشدّ. كما أنّ هذه المجالس كانت في نفسها ثوريّةً. ولهذا السبب كان الناس يشاركون فيها بحماسٍ دينيّ.

وأوّل ذكرى أربعين أُقيمت أثناء الثورة الإسلاميّة كانت حركة 29 بهمن في تبريز، والتي كانت إحياءً لذكرى أربعين القَمْع الذي حدث ضدّ أهالي قُمْ في التاسع عشر من شهر دِيْ. وبعدها حدثت حركةٌ كبيرة في يَزْد، وذلك في ذكرى أربعين شهداء تبريز. وقد استمرَّتْ هذه الحركات، والتي كانت تنطلق في مناسبات ذكرى الأربعين، في أنحاء مختلفة، وبدرجات مختلفة من القوة والضعف، حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة.

ومن جهةٍ أخرى فإنّ نفس هذه المراسم كانت باعثةً على إيجاد التقارب بين الثورة الإسلاميّة وواقعة عاشوراء،فعن طريق هذه السنّة ـ والتي لها أصلٌ في عاشوراء ـ كان يشعر الناس باتّحادٍ أكبر بين الثورة الإسلاميّة وثورة الإمام الحسين×، وفي النتيجة كانوا يضحُّون ويُؤْثِرون في سبيله.

 

3ـ شعارات الثورة الإسلاميّة ــــــ

إنّ التأمّل في الشعارات الشعبيّة أثناء المواجهات الثوريّة تبيِّن أنّ القسم الأساس منها هو في مجال نهضة عاشوراء وثورة الإمام الحسين×. وهي مقولاتٌ نظير: الشهادة والتضحية. وعلى أساس التحقيق الذي سجّل على هذا الصعيد فإنّ نسبة 15% من هذه الشعارات كانت حول الشهداء، الشهادة، مظاهر عاشوراء، ومحرَّم. ويمكن الإشارة إلى أهمّ الشعارات في العناوين التالية([37]):

ـ طريق السعادة الوحيد هو الإيمان، الجهاد، والشهادة.

ـ حسين حسين شعارنا، الشهادة افتخارنا.

ـ كلّ أرض كربلاء، كلّ يوم عاشوراء.

إنّ الاهتمام بإعلان المظاهر الرمزيّة هو أحد الوجوه البارزة في ثقافة عاشوراء، لذا فهي واحدةٌ من المزايا الأساسيّة؛ لتأثيرها في تبلور الثورة الإسلاميّة. وقد كان هناك علاقة معنويّة بين نقاط قوّة حركات الشعب الثوريّة وضعفها من جهةٍ، وبين المناسبات والتقاليد والمراسم الدينيّة المرتبطة بعاشوراء، فكانت التحرُّكات الشعبيّة تبلغ ذروتها في هذه الأيام. وهذه العلاقة الملموسة هي دليلٌ على التأثير الحقيقيّ والواضح لمظاهر عاشوراء في تبلور الثورة الإسلاميّة.

 

2ـ دور نهضة عاشوراء في استمرار الثورة الإسلاميّة ــــــ

يمكن أنْ تدرس مسألة استمرار الثورة الإسلاميّة وتأثير نهضة عاشوراء عليها ضمن مرحلتين مختلفتين، وكذلك من وجهتي نظر مختلفتين أيضاً. فقد تمثّلت الوظيفة الأساس لملحمة عاشوراء في ثقافة شيعة إيران على مرّ التاريخ بتسلية الخاطر. وكان الشيعة بتذكُّر مصاب الإمام الحسين× في عزائه يوم عاشوراء يعزُّون أنفسهم، ويهدّئون من روعها. وكما سبقت الإشارة فإنّ فكر الإمام الخميني وآخرين، كالشهيد مطهَّري والشهيد بهشتي والسيد الخامنئي والدكتور شريعتي، حوّلوا دَوْر هذه الملحمة من تقديم العزاء إلى ثقافة التضحية، وغلبت عليها صفة المبادرة إلى التغيير. وإثْر هذا التحوُّل صار عنصر الفداء والتضحية في ثقافة عاشوراء أشدّ بروزاً، وتبدَّل الفداء في سبيل مبادئ الإمام الحسين× في ملحمة عاشوراء إلى ضرورة أساسيّة في مشهد الثورة الإسلاميّة. إنّ منطق التضحية بمعنى الفداء في سبيل هدف عظيم ومقدَّس هو الذي دفع الإمام الحسين× إلى تقديم نفسه في المشهد العاشورائيّ؛ ليحفظ دين النبيّ محمد|. وقد تمّ إحياء هذا البُعْد من ثورة عاشوراء في الثورة الإسلاميّة، فنتجت عنه تحوّلات عظيمة. كما أدّى دوراً مؤثِّراً في تعبئة الشعب من أجل الثورة. ويقول الإمام الخميني في هذا المضمار: يجب أن تتعلَّموا من سيّد المظلومين التضحية في سبيل إحياء الشريعة([38]).

وقد وصف الإمام الخميني في مواقف أخرى عمل الإمام الحسين× في المشهد العاشورائيّ بالمنطق الإلهيّ في سبيل حفظ المبدأ العظيم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ عنصر التضحية هنا مختلفٌ عن الرؤية التي يراها البعض ممَّنْ يعتقدون أنّ الإمام الحسين× ضحّى بنفسه من أجل الشيعة، كما فعل السيّد المسيح. ويكتب شريعتي في نقد هذه النظريّة: إنّ النظرة العامّيّة المتأثِّرة بالروح الصوفيّة والرؤية المسيحيّة، والتي تقول: إنّ الحسين× قد ثار من أجل أن يُقْتَل، وليس من أجل أن يحارب الحكومة؛ ليفدي الأمّة بنفسه، ويشفع يوم القيامة لمحبيّ أهل البيت الذين يمارسون الذنوب الكبيرة… هذه هي نفس النظرة المسيحيّة لفلسفة شهادة المسيح، الذي ضحّى بنفسه من أجل البشريّة، وفداها بنفسه، وقدَّمها فداءً وقرباناً؛ ليعفو الله عن أبناء آدم الذين طُرِدوا من الجنّة بعد ذنوبهم، وأن يدخلهم الجنّة. إنّ هذه النظريّة هي أمهر حيلة تجعل شهادة الإمام الحسين× ـ مع حفظ عظمته وجلالته ـ عَبَثاً، خالية من المعنى والمحتوى([39]).

ويعتقد البعض أنّ الباعث على مقدرة الإمام× في إبراز عنصر الفداء ومنطق التضحية في ثقافة عاشوراء هي الأبعاد العرفانيّة لشخصيّة الإمام×؛ لأنّ «الفناء في الله» هو مفهوم عرفانيّ يقدِّم البشر على أساسه كلَّ ما لديهم في سبيل المعشوق.

وقد نظر الإمام الخميني إلى ثورة عاشوراء من هذا الجانب، واستفاد منه في تعبئة الشعب في سبيل المبادئ الإسلاميّة([40]). وعلى أساسه كان الناس يضحُّون بأنفسهم بحماسٍ متميّز في سبيل الأهداف والمبادئ المقدّسة.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا المنطق لم يكن قد أدّى دَوْراً مؤثِّراً أثناء الثورة الإسلاميّة فحَسْب، بل كان له دورٌ بارز في استمرار الثورة الإسلاميّة بعد انتصارها، وخلال أحداث الحرب المفروضة. فقد عمل بمنطق الفداء بعد الثورة بشكلٍ مطَّرد؛ حفظاً لها من الأخطار التي كانت تتهدَّدها. وصار هذا المنطق باعثاً على تحمُّل كثير من أفراد الشعب للآلام والتضحيات؛ دفاعاً عن المبادئ الإسلاميّة، الأمر الذي كان على صلة مباشرة بمنطق الشهادة.

ويبدو أنّ نهاية الحرب كانت نهايةً لمنطق الفداء أيضاً؛ ذلك لأنّ على الحكومة الإسلاميّة بعد تأسيس الجمهوريّة أن تقوم بوضع البرامج والخطط من أجل استمرارها. ولهذا الاستمرار لوازم لا يتحقَّق دونها. ومن أهمّ ما يواجه الثورة في استمرارها مسألتان: التنمية؛ والبناء. وفي الواقع فإنّ الوجه البارز لاختلاف عاشوراء الإمام الحسين× عن الثورة الإسلاميّة هو أنّ هذه الأخيرة انتهَتْ بتشكيل حكومة إسلاميّة وتأسيس جمهوريّة إسلاميّة، خلافاً لثورة عاشوراء. ولكنْ لا بُدَّ الآن من العمل على تحقيق مصالحها، شأنها في ذلك شأن أيّ حكومة من الحكومات. وهي هنا تختلف عن المنطق العاشورائي. فهنا يطالعنا الاختلاف الذي يراه علماء الاجتماع بين مرحلتي التأسيس والاستقرار، أو مرحلتي النشوء والبناء([41]). فعلى أساس منطق الفداء الذي تعرّض الإمام الخميني له: «نحن مكلَّفون بأداء الواجب، ولسنا موكَّلين بالنتيجة». وهذه العبارة تمثّل حقيقة وروح ثقافة عاشوراء، والتي تمّ الالتزام بها أثناء الثورة الإسلاميّة، وبعد انتصارها، وكذلك في زمن الحرب. ولكنّ للبقاء لوازمه في مرحلة البناء، ومن جملتها، بل وأهمّها: الالتفات إلى التخطيط والاهتمام بنتائج الأعمال والخطط، فهل يمكن إيجاد علاقة بين منطق عاشوراء ومنطق الفداء وبين منطق البناء والبقاء؟

يبدو أنّ علينا هنا التعرُّض لبيان هذه المسألة من جهةٍ أخرى، وهي مبادئ عاشوراء والثورة الإسلاميّة.

وقد أشار الإمام الحسين× في بيان الدوافع الأساسيّة لنهضة عاشوراء إلى عناوين متعدِّدة، كإرساء العدالة، محاربة الحكومة الجائرة، محاربة بِدْعة حكم يزيد على المسلمين، رواج الانحلال والمفاسد الأخلاقيّة، هَتْك الحقوق، الاستخفاف بالحقوق والقوانين الإلهيّة، سيطرة الدنيا على عقول الناس وأعمالهم (الناس عبيد الدنيا…)، زوال الفضائل وسيطرة الرذائل، إفراغ الدين من محتواه وبقاء المظهر الخارجيّ له([42])، وأعلن أنّ أهدافه هي تثبيت العدالة وتشكيل المجتمع الإسلاميّ.

وقد ذكرنا في ما سبق أنّ مقصود الإمام الحسين× من المجتمع الإسلاميّ هو نفس المجتمع العادل، وإلاّ ففي زمانه كان الناس يقومون بظواهر العبادات والأحكام، ولكنّ المجتمع كان خالياً من الروح والحقيقة والمحتوى الدينيّ والإسلاميّ([43]). ولكنْ قبل كلّ شيء فقد كان هدف الإمام الحسين× من نهضة عاشوراء محاربة الظلم، والفساد، والانحلال، والتمييز، وانعدام العدالة.

وكما تقدّم فإنّ ثورة الإمام الحسين× لم تؤدِّ إلى هزيمة حكومة يزيد الأمويّ، وإلى تأسيس الحكومة الإسلاميّة. ولو تسنّى للإمام الحسين× الإطاحة بيزيد، وتشكيل حكومة إسلاميّة، لكان عمله في إيجاد المجتمع الإسلاميّ صَعْباً للغاية؛ وذلك بملاحظة البُعْد الذي كان بين الناس وبين الدين والحقائق المعنويّة، وما كانوا عليه من تعلُّقٍ شديد بالدنيا. أمّا الثورة الإسلاميّة، واستلهاماً من ثورة عاشوراء، فقد بلغت هدفها الأساس ـ ألا وهو تأسيس المجتمع الإسلاميّ ـ، وأدّت الحالات الروحيّة والتضحية والإيثار المستوحى من فكر عاشوراء دوراً أساسيّاً في استمرارها ضمن مرحلةٍ من مراحلها الأولى، وهي تحتاج الآن؛ من أجل استمرارها إلى إحياء الروح العاشورائيّة في المجتمع، والأهمّ في تحقيق ذلك هو مدى قدرة الحكومة الإسلاميّة على الوصول إلى الأهداف التي قامت من أجلها الثورة على خُطى عاشوراء([44]).

ومن أهمّ الأهداف التي كانت تتَّبع الثورة الإسلاميّة فيها أثر عاشوراء إقرار العدالة والحرّيّة، العدالة في الحكومة، والعدالة الاجتماعيّة. لذا فقد هاجم الإمام الخميني الفساد والظلم الموجود في أنظمة الحكم البهلويّ، وكذلك كان يعتبر أنّ إحدى عوامل الثورة نفسها شيوع الفساد والظلم في أوساط العناصر الحاكمة، والجهاد من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك مشهودٌ في أماكن عديدة من خطابات الإمام الخميني في صحيفة النور.

إنّ استمرار فكر الثورة الإسلاميّة منوطٌ بمدى قدرة الحكومة الإسلامية ـ المقتدية في نشأتها بعاشوراء ـ على القضاء على الفساد السياسيّ، وإقرار العدالة فيها. وهذا ما يرجع إلى حدٍّ كبير إلى نظرة الشعب نحو الحكومة. وكذلك ترجع أهمّيّة السلامة السياسيّة وحكومة المجتمع ـ من ناحيةٍ أخرى ـ إلى تأثير تلك النظرة في الأخلاق العامّة للمجتمع. فالحديث الشريف الذي يؤكِّد على أنّ «الناس على دين ملوكهم» يعني أنّ الأخلاق الحاكمة في المجتمع هي انعكاسٌ للوضع السياسيّ الموجود. وعلى الحكومة التي تأسَّسَتْ بإلهامٍ من فكر عاشوراء الإمام الحسين× أن تكون ـ قدر المستطاع ـ مظهراً لحكومة الأخلاق والعدالة في مختلف مظاهرها. والمسألة الأخرى هي العدالة الاجتماعيّة، والتي هي من الأهداف المهمّة الأخرى للإمام الحسين×. وهذه هي النقطة المهمّة بعينها التي كان يؤكِّد عليها الشهيد مطهَّري حين قال: إنَّني أؤكِّد أنَّه ما لم تخطُ ثورتنا باتجاه العدالة الاجتماعيّة فلَنْ تصل حتماً إلى أيّ نتيجة. وهذا خطرٌ ينبئ عن أنّ ثورةً أخرى بماهيّةٍ أخرى قد تحلّ محلّ هذه الثورة([45]).

إنّ توطيد العدالة الاجتماعيّة في المجتمع هو من العناصر الضروريّة لاستمرار الثورة الإسلاميّة وحكومة القِيَم الناشئة من نهضة الإمام الحسين× في قلوب الناس وضمائرهم. وعندما يمسي ذلك توأماً مع البناء وسَعَة العيش لدى الشعب يمكن أن تبقى قِيَم عاشوراء حيّةً ومُلْهِمة للشعب في سبيل استمرار الثورة الإسلاميّة. لذا فعلى الحكومة الإسلاميّة، التي هي وليدة الثورة الإسلاميّة، أن تبقى محافظةً على كلّ عنصرٍ له دَوْرٌ في نهضة عاشوراء والثورة الإسلاميّة؛ ليمكنها أن تستند إلى هذه العناصر في استمرارها. وما يلزم هذا الأمر هو تثبيت العدالة الاجتماعيّة، ومحاربة الفساد السياسيّ، مترافقاً مع التنمية، والعمل على إعمار البلد وبنائه.

والسبب في التأكيد على هذه الأمور هو تأثير الوضع السياسيّ ـ الاقتصاديّ الحاكم على البلد على العناصر الثقافيّة العاشورائيّة، واعتقاد الناس بها. وعلى الثورة، التي انطلقت على أساس فكر عاشوراء، وحقَّقَتْ هدفها في إرساء قواعد الحكومة الإسلاميّة، أن تتمكّن بمستوى مقبولٍ من تحقيق مبادئ عاشوراء ـ والتي من أهمّها كذلك العدالة الاجتماعيّة والسياسيّة ومحاربة الفساد ـ. وهذه هي النقطة ذاتها التي تمّ التأكيد عليها في القسم الأوّل، أعني الاختلاف بين مرحلتي النشأة والبناء.

ويبدو أنّ قِيَم عاشوراء في المرحلة الراهنة يمكنها أن تؤثِّر على استمرار الثورة الإسلاميّة، إذا ما شعر الناس أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تبذل جُهْداً في سبيل تحقيق مبادئ عاشوراء، من إيجاد مجتمع عادل على الصعيدين الاجتماعيّ والسياسيّ.

 

نتيجة البحث ــــــ

يمكن القول في نظرةٍ شموليّة بأنّ تأثير فكر عاشوراء ومظاهرها ـ بل فكر التشيّع ككلّ ـ مشهودٌ بوضوح في الثورة الإسلاميّة. وقد كان الناس يبحثون عن روح التشيّع في شخصيّة الإمام الخميني، ويعتبرون الثورة الإسلاميّة فرصةً تاريخيّة من أجل إحياء حقوق أهل البيت×، ووصول التشيّع إلى السلطة. والحقيقة أنّ الناس كانوا يستلهمون أثناء الثورة الإسلاميّة من سلوك ومواجهات الشخصيّات الشيعيّة البارزة، وقد جعلوا تعاليمهم عنواناً لثورتهم. ويصوِّر الشهيد مطهَّري هذه المسألة، فيقول: كان نداء الإمام الخميني يصدر من قلب الثقافة، ومن أعماق التاريخ، ومن عمق روح هذا الشعب، الشعب الذي سمع طيلة أربعة عشر قَرْناً عن ثورة محمد، عليّ، الزهراء، الحسين، زينب، سلمان، أبي ذرّ… ومئات الآلاف من الرجال والنساء الآخرين. وقد امتزجت هذه الثورة في قلوبهم، وقد سمعوا مرّةً أخرى هذا النداء المعروف من فم هذا الرجل. لقد رأوا عليّاً والحسين× في وجهه، وقد أزاح هو الستار عن جميع أشكال ثقافتهم التي كانت مهملة…، واستطاع أن يعيد الإيمان الفارّ من أيدي الناس إليهم من جديد…. هؤلاء الناس، الذين طالما تمنّوا لسنواتٍ طوال أن يكونوا في زُمْرة أصحاب الإمام الحسين×…، صاروا في مشهد كأنَّهم كانوا يرَوْن الإمام الحسين× بعينه. وهذا هو الذي أدّى إلى قيامهم، وإلى أن يصيحوا دفعةً واحدة بالتكبير ضدّ كلّ ما هو ظلمٌ وتعدٍّ([46]).

لقد حكّم الإمام الخميني على المجتمع خطاباً استوحاه من عاشوراء، لم يكن له نظيرٌ في ثوريّته على مدى تاريخ التشيّع، كما حوَّل نهضة الإمام الحسين× إلى قدوة لمحاربة الاستبداد والظلم والاستكبار العالميّ، وعبّأ من خلالها الشعب للإطاحة بالنظام البهلويّ. ولم يكن الإمام الخميني محيطاً بالأبعاد السياسيّة ـ الاجتماعيّة لثورة عاشوراء فحَسْب، بل استفاد من هذه الأبعاد على الوجه الأتمّ من أجل ثورته. وبصورةٍ عامّة فإنّ الإمام الخميني كان أثناء الثورة الإسلاميّة خاضعاً لتأثير عاشوراء الإمام الحسين×: قدِّموا الإسلام واعرضوه للناس، وأثناء تقديمه أَوْجِدوا نظيراً لعاشوراء تلك، التي هي مدرسة الجهاد والدين والمواجهة. اجعلوها بين أيدي الناس؛ ليصحِّحوا أخلاقهم وعقائدهم من خلالها؛ وليشكِّلوا قوّةً واحدة تقلب النظام السياسيّ الجائر، وتبني الحكومة الإسلاميّة([47]).

 

الهوامش

(*) أستاذٌ في الحوزة العلمية.

([1]) راجع: صادق زيبا كلام، مقدّمه بر انقلاب إسلامي (مقدّمة في الثورة الإسلاميّة).

([2]) راجع: مرتضى مطهري، پيرامون انقلاب إسلامي (حول الثورة الإسلاميّة)؛ منوشهر محمدي، تحليلي بر انقلاب (دراسة حول الثورة).

([3]) صحيفه نور 7: 230.

([4]) راجع: عباس زارع، آخرين انقلاب قرن، دفتر أوّل (آخر ثورات القرن، الدفتر الأول).

([5]) راجع: حميد عنايت، أنديشه سياسي إسلام معاصر (الفكر السياسيّ الإسلامي المعاصر)، ترجمة: بهاء الدين خرّمشاهي.

([6]) راجع: كشف الأسرار: 239، صحيفه نور 1: 10؛ 9: 135؛ و…

([7]) راجع: الإمام الخميني، حكومت إسلامي؛ صحيفه نور 2: 260.

([8]) راجع: صحيفه نور 2: 276.

([9]) المصدر السابق 3: 183.

([10]) المصدر السابق 20: 191.

([11]) المصدر السابق 2: 208.

([12]) المصدر السابق 8: 71.

([13]) المصدر السابق: 56.

([14]) تحرير الوسيلة 1: 373 (ملاحظة: نُقِلت الفتوى في المتن الفارسي بنحوٍ مشوَّش، وترجمة غير دقيقة، وأُرجع إلى صفحة خاطئة. والصحيح ما أثبتناه هنا [المترجم]).

([15]) المصدر السابق: 474.

([16]) لقد أشار الإمام الخميني إلى هذه المسألة في كافّة مؤلَّفاته. (راجع: صحيفه نور 7: 237).

([17]) قيام عاشورا در كلام وپيام إمام خميني (ثورة عاشوراء في كلمات وخطابات الإمام الخميني): 73؛ صحيفه نور 20: 21.

([18]) صحيفه نور 3: 183.

([19]) المصدر السابق 14: 247.

([20]) راجع كتاب «الإيثار والشهادة في مدرسة الإمام الخميني&»: 45 ـ 77.

([21]) صحيفه نور 2: 28.

([22]) راجع: علي شريعتي، مجموعه آثار، ج19.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) راجع: سيد جعفر شهيدي، أز ديروز تا إمروز: 161؛ علي شريعتي، مجموعه آثار (تشيّع علوي وتشيّع صفوي) 9: 38.

([25]) مرتضى مطهري، حماسه حسيني (الملحمة الحسينيّة) 1: 127.

([26]) بين المفكِّرين بصورة عامّة اعتقاد بأنّ شخصيّة كشخصيّة الإمام الخميني كان لها دورٌ أساس في جعل الاستفادة السياسيّة من نهضة عاشوراء في الزمن المعاصر. (راجع: آرواند آبراهاميان، إيران بين دو انقلاب (إيران بين الثورتين)، ترجمه إلى الفارسية: أحمد گل محمدي ومحمد إبراهيم فتاحي.

([27]) الإمام الخميني، كشف الأسرار: 174.

([28]) صحيفه نور 13: 153.

([29]) المصدر نفسه.

([30]) المصدر السابق 2: 11.

([31]) شريعتي، مجموعه آثار، ج19.

([32]) مرتضى مطهري، حماسه حسيني 1: 77، 127.

([33]) مرتضى مطهري، پيرامون انقلاب إسلامى (حول الثورة الإسلاميّة): 14.

([34]) قيام عاشورا در كلام وپيام إمام خميني: 61.

([35]) راجع: جواد منصورى، سير تكوين انقلاب إسلامى (تاريخ نشأة الثورة الإسلاميّة): 331 ـ 332.

([36]) المصدر نفسه.

([37]) راجع: مهران محسنيان راد، بررسى ديوار نوشته هاي انقلاب (دراسة في شعارات الثورة الإسلاميّة)، المجلّة الفصليّة (رسانه)، العدد 4، السنة 1369هـ.ش.

([38]) صحيفه نور 1: 52.

([39]) راجع: د. علي شريعتي، مجموعه آثار (حسين وارث آدم) 19: 189.

([40]) راجع: سعيد حجاريان، أنديشه عاشورا، مجموعه مصاحبه هاي كنكره بين المللي إمام خميني&، دفتر أول: 241 ـ 248.

([41]) راجع: علي شريعتي، تشيّع علوي وتشيّع صفوي: 221.

([42]) راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين×.

([43]) راجع: عباس زارع، آخرين انقلاب قرن.

([44]) أقول: يبدو أنّ الكاتب يريد أن يثبت أنّ ثورة الإمام الحسين× لو نجحت في استلام الحكم، وإسقاط الظلم المتمثِّل بيزيد، لما أمكنها النجاح في إثبات أركان الحكم الإسلاميّ، واستمرار ثورته، في ظلّ تلك الأجواء المريضة للمجتمع. بينما لا نلاحظ هذا الأمر في ثورة الإمام الخميني، فقد كانت الأجواء مناسبة لإرساء أركان الحكم الإسلاميّ في المجتمع، فضلاً عن الظروف المناسبة التي كانت مؤاتيةً للقيام بأصل الثورة. إنّ هذا الكلام من الكاتب لا يمكن الموافقة عليه بإطلاقه؛ إذ شتّان ما بين ثورة الإمام الحسين× وبين غيرها من الثورات ـ مع الاعتقاد بأهمّيّة الثورة الإيرانيّة، كما لا يخفى ـ، بالإضافة إلى أنّ استمرار نجاح الثورة ـ لو سُلِّم ـ لا يعني كون الثورة أفضل بحالٍ (المترجم).

([45]) مرتضى مطهري، پيرامون انقلاب إسلامي.

([46]) المصدر السابق: 94 ـ 95.

([47]) الإمام الخميني، حكومت إسلامي: 158 ـ 159.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً