أحدث المقالات

مشتاق بن موسى اللواتي

لقد ترك مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) والثلة الطيبة من أهل بيته وأنصاره معه في واقعة كربلاء في سنة 61 للهجرة النبوية، آثارا وانعكاسات دينية وسياسية واجتماعية وأدبية وثقافية وفكرية في تاريخ العرب والمسلمين، ولاتزال أصداؤها متوهجة وملهمة ونابضة بالحياة حتى يومنا هذا.

و قد حرص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على تجذير القضية الحسينية في الوجدان الإيماني للمسلمين، بالأخص لدى أتباعهم ومحبيهم. فحثوا على قول الشعر في الحسين ورغبوا في تجديد ذكرى استشهاده والبكاء عليه. كما أرشدوا إلى زيارة مرقده الشريف في أي وقت على مدار العام، سواء بشد الرحال إلى حيث مثواه أو عبر زيارته عن بعد لمن لم يتح له ذلك. وورد التأكيد على زيارته في بعض المناسبات كيوم عاشوراء أو يوم عرفة أو النصف من رجب وشعبان أو ليلة القدر أو الفطرأو الأضحى وغيرها.

و على الرغم من الظروف الضاغطة التي مرت بأهل البيت وأوليائهم سواء في العصر الأموي أو العباسي – على تفاوت – إلا أن الأئمة تواصل تأكيدهم على قضية ربط جماهير الأمة بالحسين بشتى الطرق. والباحث في المصادر الحديثية والتاريخية يلحظ ذلك.

ورد في “الكافي ” عن معاوية بن وهب أنه أذن له بالدخول على الإمام جعفر الصادق (ت148)، فدخل عليه فوجده ساجدا يناجي ربه وهو يقول : يا من خصنا بالكرامة وخصنا بالوصية… اغفر لي ولإخواني ولزوار قبر أبي عبد الله الحسين الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برنا ورجاء لما عندك في صلتنا وسرورا أدخلوه على نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم)… اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا… فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبدالله وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى توافيهم من الحوض يوم العطش.

و النص يزخر بالمفاهيم التأصيلية للزيارة وأهدافها وما للزائر من أجر مضاعف، ويستحث على مواصلتها على الرغم من المتاعب الجسمية والنفقات المالية التي يتكبدها الزائر وعلى الرغم من الضغوط الأمنية والحملات الفكرية السلبية التي يواجهها من جراء زيارته للحسين.

 لقد مرت بأهل البيت وأتباعهم ظروف شديدة، لم يكن بوسع الواحد منهم أن يذكر شيئا عن علمهم وفضلهم أو يبدي أي تعاطف معهم. فقد كان الإمام علي (عليه السلام) يشتم في بعض المحافل الرسمية في بعض الفترات. روى مسلم (ت261) في الصحيح عن سهل بن سعد قال : استعمل على المدينة رجل من آل مروان، قال : فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا، قال : فأبى سهل، فقال له : أما ان أبيت فقل : لعن الله أبا التراب، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب اليه من أبي التراب، وان كان ليفرح اذا دعي بها.

و يذكر أبو جعفر الاسكافي المعتزلي (ت220) أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي (ع) وعاقبوا على ذلك، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثا يتعلق بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول : عن أبي زينب. ويصرح أبو الفرج الاصفهاني (ت 356) في “المقاتل ” إن الشعراء كانت لا تقدم على رثاء الإمام الحسين مخافة بني أمية وخشية منهم.

زيارة الحسين في العصر الأموي والعباسي :

و من الطبيعي أن الزيارة في هذه المرحلة، كانت تتم بصورة فردية حيث كان يخرج بعض الأفراد لزيارته والسلام عليه خفية وفي أجواء من السرية والكتمان الشديدين.

 ومع بعض الانفراج السياسي الذي شهده عصر الإمام جعفر الصادق، سرعان ما تحولت زيارة الحسين إلى ظاهرة دينية وثقافية عامة. فقد جاء عن الإمام جعفر، قال لعبد الله بن حماد البصري : بلغني ان قوما يأتونه من نواحي الكوفة وناسا من غيرهم، ونساء يندبنه وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قاريء يقرأ وقاص يقص ونادب يندب وقائل يقول المراثي، فقلت له نعم جعلت فداك قد شهدت بعص ما تصف، فقال الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا وجعل عدونا من يطعن عليهم.

و إذا أخذنا في الاعتبار أن الإمام جعفر عاصر أواخر الدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية فإنه يفسر لنا بعض التحول الذي حدث في ظاهرة الزيارة في عصره.

و يبدو أن هذا الإقبال العام إلى زيارة الحسين كان يقلق السلطات، لأنها كانت تكرس ربط الجماهير بأهل البيت وبمنهجهم، الأمر الذي كان يعد – في بعض الفترات – جريمة يستحق أصحابها عليها العقاب. ولهذا لا نستغرب إن قرأنا في التاريخ عن تعليمات رسمية بمنع زيارة الحسين ومعاقبة من يخالفها. بل لقد بلغ القلق لدى السلطات العباسية من ظاهرة تجذر زيارة الحسين حدا يصعب تصوره. وهو أن تجري أكثر من محاولة لهدم القبر الشريف وتكريبه وحرثه وطمس آثاره.

فقد جاء في “الأمالي ” للطوسي أن قبر الحسين كرب عدة مرات، منها، زمن هارون الرشيد (ت 193) وقطعت السدرة التي كان يستظل بها الزائرون ويستدلون بها على القبر الشريف. وتكرر ذلك زمن المتوكل العباسي (ت247) روى الطبري (ت 310) أنه في سنة 236 للهجرة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم المنازل والدور التي حوله، وأن يحرث ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه، فنودي في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق. وحسب الاصفهاني في “المقاتل ” : كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظا على جماعتهم مهتما بأمورهم شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم…وكان من ذك أن كرب قبر الحسين وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق مسالح له، لا يجدون أحدا زاره إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة.

و في ذلك قال الشاعر أبو الحسن بن البسام البغدادي :

تالله إن كانت أمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله *** هذا لعمرك قبره مهدوما

و كان أئمة أهل البيت يحثون أتباعهم على عدم ترك زيارته بسبب الخوف، وقد خصص ابن قولويه (ت 368) بابا في “الكامل ” بعنوان ” ثواب من زار الحسين وعليه خوف ” كما عقد الصدوق (ت381) في ” الفقيه ” ” باب ما يجزي من زيارة الحسين في حال التقية ” ومما جاء في ” الكامل ” عن الإمام جعفر الصادق، قال لمعاوية بن وهب : لا تدع زيارة قبر الحسين لخوف… أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعون الله ورسول الله وعلي وفاطمة والأئمة.

و بالفعل لم يترك أتباعهم ومحبوهم زيارته، فقد كانوا يتحينون الفرص ويخرجون خفية ويتكبدون المشاق ويقطعون الليالي ويضعون علامات خاصة للتعرف على القبرالشريف.

و حدَث الاصفهاني عن محمد الأشتاني، قال بعد عهدي بالزيارة خوفا، ثم خاطرت بنفسي مع أحد العطارين، فخرجنا نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا القبر وقد خفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه، فزرناه وأكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط.. فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع. فلما قتل المتوكل اجتمعنا فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه. وذكر الذهبي (ت748) في “سير النبلاء” عن الكلبي لما أجري الماء على قبر الحسين انمحى أثر القبر، فجاء أعرابي فتتبعه حتى وقع على أثر القبر، فبكى وقال : أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه (كذا)… فطيب تراب القبر دل على القبر.

إن كل تلكم الممارسات الجائرة شكلت عاملا إضافيا في تعميق الشعور الجمعي لدى أتباع أهل البيت بصدق قضيتهم وعمق ظلامتهم. وفي نفس الوقت كانت تسهم في تجذير المودة والولاء لهم والإصرار على التمسك بهم وبنهجهم والتشبث بكل ما يرمز إليهم.

زيارة الأربعين في النصوص الدينية والتاريخية :

نشير هنا إلى أبرز النصوص الدينية والفقهية والتاريخية الواردة في زيارة الأربعين منذ القرن الثاني الهجري. وستتبين لنا النصوص التأسيسية والثانوية عن زيارة الأربعين، وكيف تحولت هذه الزيارة مع مرور الوقت إلى مناسبة دينية عامة.

و يجدر التنويه إلى أننا لسنا في هذه المقالة، بصدد البحث عن واقعة مجيئ عائلة الحسين إلى كربلاء بعد عودتها من الشام، وإرجاعها الرأس الشريف إلى بدنه ولقائها بجابر الأنصاري، ومدى وقوع ذلك تاريخيا، وإن كان سيذكر ذلك في بعض الموارد.

 إنما نحاول التعرف على الخلفيات الدينية والتاريخية لزيارة الأربعين ونتلمس الشواهد التاريخية لتحديد تاريخ تشكلها كظاهرة دينية واجتماعية وثقافية معروفة.

و مما يؤسف له، إن مصادر التاريخ لم تبد اهتماما كافيا “بظاهرة الزيارة “. فلم تؤرخ لها ولا لمناسباتها ومواسمها وما كان يرافقها من عادات أو تأسس في ضوئها من مراكز ثقافية ومصالح أو علاقات اجتماعية وما صدر من مواقف من السلطة السياسية والدينية الرسمية تجاهها.

أولا – الأحاديث الدينية :

1-إن أقدم نص ديني وردنا في زيارة الأربعين هو ما جاء في ” التهذيب ” للشيخ الطوسي (ت460) – وهو أحد الكتب الحديثية الأربعة عند المسلمين الإمامية -. فقد أخرج بسنده عن صفوان بن مهران الجمال قال : قال لي مولاي (جعفر) الصادق (ت148) صلوات الله عليه، في زيارة الأربعين : تزور عند ارتفاع النهار وتقول : السلام علي ولي الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه السلام على صفي الله وابن صفيه، السلام على الحسين المظلوم الشهيد السلام على أسير الكربات وقتيل العبرات، اللهم إني أشهد أنه وليك وابن وليك وصفيك وابن صفيك الفائز بكرامتك… أعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجة على خلقك من الأوصياء…وقد توازر عليه من غرته الدنيا وباع حظه بالأرذل الأدنى…فجاهدهم فيك صابرا محتسبا حتى سفك في طاعتك دمه واستبيح حريمه، اللهم فالعنهم لعنا وبيلا وعذبهم عذابا أليما..الخ

2- الرواية الآخرى أوردها الشيخ المفيد (ت413) في ” المزار ” ـ وهو كتاب مختص ببعض الزيارات ـ وعقد فيه بابا لفضل “زيارة الأربعين ” ونقل فيه حديث الإمام الحسن بن علي العسكري (ت260) : علامات المؤمن خمس، صلاة الإحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم..

و هذه الرواية أوردها الطوسي أيضا، في ” التهذيب ” ـ مع اختلاف يسير ـ في فضل زيارة الحسين.

و خصص الطوسي في “المصباح ” فصلا تحت عنوان ” زيارة الأربعين ” وصرح فيه باستحباب زيارة الحسين فيه وهي “زيارة الأربعين ” ونقل الرواية المذكورة أيضا. ونقل السيد ابن طاووس (ت 664) كلا الروايتين، في كتاب “الإقبال” ـ هو مختص بالأدعية والأذكار والزيارات ـ إحداهما في فضل الزيارة والأخرى في شرحها وآدابها.

نظرة عامة في الروايتين :

اختلف العلماء في تقييم سند الرواية الأولى عن صفون عن الإمام جعفر، حسب اختلاف المباني الرجالية، فقد ضعفها بعضهم فيما وثقها آخرون.

و دلالة الرواية ظاهرة على “زيارة الأربعين” للإمام الحسين، وقد ورد فيها عنوان “زيارة الأربعين ” بوضوح على لسان الراوي. ولم يرد أي توضيح للمقصود من زيارة الأربعين، وما إذا كان يعني زيارته بعد أربعين يوما من مقتله أو أربعين أسبوعا أو أربعين شهرا أو تعني الزيارة الأربعون للإمام الحسين وهكذا.

فهل كان المعنى مفهوما ومعهودا عنده، بأنه يعني زيارة الحسين بعد مرور أربعين يوما على مقتله ؟

و السؤال الذي يطرح هنا هو : هل كان ذلك معهودا في ثقافة المسلمين ولهذا انصرف الذهن إليه ولم ينصرف إلى أمور أخرى.

حاول بعض الكتاب أن يربط بينه وبين بعض الروايات التي ورد فيها أن السموات بكت على يحيى بن زكريا والحسين بن علي أربعين صباحا، ولكنه تفسير تبرعي. وثمة أسئلة قد ترد في المقام، حول بعض هذه الروايات والممارسة التاريخية المبكرة التي تشكلت في بعض المواسم بسببها، وهي خارجة عن أغراض المقال.

 وفي جميع الأحوال، فإن الشيخ الطوسي ومن جاء بعده حملوا العبارة على مرور أربعين يوما على مقتل الحسين بدون أدنى تردد منهم في ذلك.

 والفقرة المقتبسة الآنفة من الزيارة المأثورة، مفعمة بالمفاهيم الإيمانية والفكرية والعاطفية الدينية التي يستدعيها الزائر حين زيارته. وهي تشد الزائر بالمزور وترسخ ارتباطه به وبمبادئه وتزوده بشحنة من المفاهيم الإيمانية.

و قد طوت الرواية مراحل التناقل الشفهي والتحريري، حتى وصلت إلى الطوسي فأخرجها، وقد انفرد بروايتها من بين المحدثين، وهو أمر لا يختص بهذه الزيارة. فهناك زيارات مهمة لم يوردها الكليني (ت329) في الكافي ولا الصدوق (ت381) في ” من لا يحضره الفقيه “. وهناك زيارات مخصوصة لم يشيرا إليها أصلا. وعلى الرغم من أن كتاب ” كامل الزيارات ” مختص باالزيارات إلا أنه صرح في مقدمته بأنه لم يستقص فيه جميع الروايات.

أما الرواية الواردة عن الإمام العسكري، ومع وجود مقال في سندها من جهة الإرسال، ووجود بحث حول دلالتها لدى بعض المتأخرين، إلا أن العلماء في تلك الفترة تلقوها بالقبول ولم يثيروا أي سؤال حول سندها أو صدورها. ويبدو أنها كانت أكثر اشتهارا من الأولى، مع أن الأولى اظهر في دلالتها على “زيارة الأربعين” للإمام الحسين.

و تتميز الأولى بأنها اشتملت على وقت الزيارة وعلى نص خاص بالزيارة وكذا بعض آدابها.

وقد فهم العلماء من عبارة “زيارة الأربعين” في حديث الإمام العسكري الآنف على أنها زيارة الحسين يوم الأربعين، وأن هذا العنوان يدل عليها.

و يبدو أن هذا المعنى كان هو المعهود أو السائد آنذاك، ولهذا وجدناهم أرسلوه إرسال المسلمات، دون أية عناية أو محاولة إضافية منهم في تفسيرها. ولم يطرحوا أي رأي تفسيري آخر لها، أو يدخلوا في مناقشة لأي قول أو قراءة أخرى لها. ولم يثيروا أية مناقشة حول مصاديقها وتطبيقاتها، مما يوحي بأن هذه القراءة لهذه الرواية، كان متسالما عليها بينهم.

و تتميز الرواية الثانية ـ حسب هذه القراءة ـ بأنها تشير إلى فضل الزيارة وموقعها الديني كونها من علامات المؤمن. وهذا يعني أن الاحتمالات التفسيرية الأخرى والمناقشات حول مفادها ودلالتها طرجت في أزمنة لاحقة.

و من الطبيعي أن يكون لهذا الفهم السائد بين العلماء آنذاك، ولاهتمامهم بها كإحدى الزيارات المخصوصة، تأثير على تشكيل اتجاهات الجماهير نحو الزيارة في هذه المناسبة.

ثانيا – النصوص الفقهية :

خصص العلامة الحلي (ت726) في بعض كتبه الفقهية بابا للزيارة بعد أحكام الحج أسوة بكتب الحديث. وأدرج أحكام الزيارات وآدابها في المتون الفقهية، بعد أن كان العلماء –في الغالب – يؤلفون كتبا خاصة بالأدعية والزيارات والأعمال المسنونة على مدار العام. قال في كتابه الفقهي ” التحرير ” : وفي زيارته فضل كثير، واستشهد برواية عن الإمام  أبي جعفر الباقر في الحث على الزيارة، ثم قال : ويستحب زيارته في يوم عرفة والعيدين وأول رجب ونصفه ونصف شعبان وليلة القدر ويوم عاشوراء والعشرين من صفر وفي كل شهر. وصرح في كتابه الفقهي ” المنتهى ” في سياق ذكر مواسم زيارة الحسين، بقوله : ويستحب زيارته يوم الأربعين من مقتله(ع) وهو العشرون من صفر. ونقل رواية “علامات المؤمن ” عن الإمام العسكري.

و قد سبق أن أشرنا إلى تصريح الطوسي باستحباب زيارة الأربعين، بل يستفاد ذلك أيضا من تخصيص المفيد بابا لها في سياق فضائل الزيارة.

و يلاحظ أن الحلي – وقد عاش في القرنين السادس والسابع – أدرج زيارة الأربعين في عداد الزيارات المخصوصة الأخرى، وصرح باستحبابها واستشهد برواية “علامات المؤمن” مما قد يفيد بأن الموقف الفقهي الإمامي آنذاك، استقر على استحباب زيارة الأربعين.

ثالثا – النصوص التاريخية :

1-جاء في كتاب “مسار الشيعة ” للمفيد – وهو كتاب مختص بالمناسبات التاريخية والمستحبات الدينية فيها – : قال : وفي اليوم العشرين منه (صفر)… وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله بن حزام الأنصاري – صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورضي الله تعالى عنه – من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر سيدنا أبي عبد الله (الحسين) عليه السلام، فكان أول من زاره من الناس. وهو نفس ما ذكره الطوسي في ” المصباح “

زيارة جابر الأنصاري :

إن ذكر زيارة جابر الأنصاري (ت 78) – وهو الصحابي الجليل المعروف – في هذا السياق – هو تدعيم للتوجيه نحو هذه الزيارة ولا يعد تأسيسا لها، بالأخص إذا أخذنا في الاعتبار أن عمل الصحابي لا يعد دليلا في الفقه الإمامي، إلا إذا كشف عن دليل شرعي، كأن أفصح عن إمضاء النبي (ص) أو الإمام (ع) لممارسة معينة،على غرار سيرة المتشرعة. ولم يصرح المفيد إن كان جابر قصد زيارة الحسين في هذا اليوم بالخصوص.

و قد نقل واقعة زيارة جابر كل من العماد الطبري الإمامي (ت553) في “البشارات ” والموفق الخورزمي الحنفي (ت 568) في “المقتل “بسند ينتهي إلى الأعمش عن عطية العوفي، غير أنهما لم يذكرا فيها تاريخ الزيارة. كما أشار إليها ابن نما الحلي (ت645) ” مثير الأحزان ” وأشار كذلك إلى لقاء جابر بعائلة الحسين عند رجوعها من الشام ولكنه لم يحدد تاريخ ذلك.

2- يوجد نص تاريخي مهم لمؤرخ مستقل وعلامة موسوعي ورحالة معروف هو أبو الريحان البيروني (ت440) في كتاب “الآثار ” في معرض ذكر المناسبات عند المسلمين في شهر صفر، تحت عنوان ” القول فيما يستعمله أهل الإسلام ” قال في اليوم الأول منه أدخل رأس الحسين (ع) مدينة دمشق فوضعه بين يديه، ونقر ثناياه بقضيب كان في يده. وقال : وفي العشرين رد رأس الحسين إلى جثته حيث دفن مع جثته، وفيه زيارة الأربعين، وهم حرمه (كذا) بعد انصرافهم من الشام.

و البيروني عاش في القرن الرابع والخامس، ولم يكن بالعراق أو الشام أو بعض مناطقهما كالكوفة أو الحلة أو بغداد أو حلب أو حمص بل عاش في خوارزم والري وجرجان ورحل الى الهند وتوفى في غزنة. وكان جمع بين علوم الطبيعة والفلسفة والتاريخ والأديان وكان مفكرا وصاحب ثقافة واسعة. وكلامه الآنف يفيد بأن زيارة الأربعين كانت قد غدت في زمانه مناسبة معروفة – على الأقل – في الأوساط الشيعية في بعض تلك المناطق. ولهذا وجدناه يشير إليها دون تردد، وبعنوان ” زيارة الأربعين ” كمناسبة دينية معروفة لدى أتباع أهل البيت. وقد يستفاد من كلامه، بأن “زيارة الأربعين ” غدت مصطلحا معروفا ينصرف إلى زيارة الحسين في العشرين من صفر. كما ربطها بمجيء العائلة الحسينية من الشام ومعها الرأس الشريف الذي تم دفنه مع جسده الطاهر في كربلاء. وهذا الربط نسبه ابن شهراوب (ت588) للطوسي أيضا، فبعد إشارته لرأي المرتضى برد الرأس الى البدن بكربلاء، قال : قال الطوسي : ومنه زيارة الأربعين.

3- ورد نص تاريخي آخر لفقيه ومفسر معروف وهو أبو عبدالله القرطبي (ت 671) وهو من علماء الأندلس. خصص في كتاب ” التذكرة ” بابا بعنوان ” في بيان مقتل الحسين ذكر فيه مختصرا عنه ثم قال : وساق القوم حرم رسول الله (ص) كما تساق الأسارى حتى إذا بلغوا الكوفة.. ودعا (ابن زياد) بعلي بن الحسين فحمله وحمل عماته وأخوته إلى يزيد على محامل بغير وطاء…حتى قدموا دمشق وأقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد وأمر أن يجعل في طشت من ذهب…ثم تكلم بكلام قبيح وأمر بالرأس أن تصلب بالشام. ثم قال القرطبي : واختلف الناس في موضع الرأس المكرم…و الإمامية تقول : إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من المقتل. وهو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة (فيه، زيارة) الأربعين “

و القرطبي كان من فقهاء ومفسري الأندلس وعاش في قرطبة وانتقل منها إلى مصر. وقد عاش في القرن السابع الهجري، ونقل عن الإمامية بأن الرأس قد أعيد إلى جثته يوم الأربعين وأشار إلى ” زيارة الأربعين ” وصرح بأنه يوم معروف عندهم. ويلاحظ أنه لم يتعقب رأيهم مما قد يعني موافقته لهم.

 وتجدر الإشارة إلى أنه عاش في مصر، التي يوجد فيها مقام معروف لرأس الإمام الحسين منذ العصر الفاطمي، إلا أنه مع ذلك يصرح عن الإمامية ما يخالف ذلك. وهو يفيد بأن هذه الزيارة قد ترسخت وغدت معلما معروفا في الثقافة الدينية لدى الإمامية وأصبحت مشهورة بين المسلمين بشكل واسع.

الخلاصة :

إن أقدم نص ديني ورد – حسب المصادر المتاحة – في زيارة الأربعين وبهذا العنوان، كان عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام). أما حديث “علامات المؤمن” فهو عن الإمام العسكري، وكان أشهر من الأول ـ بالأخص – في سياق فضل هذه الزيارة. وأن الشيخ المفيد هو أول عالم إمامي، خصص بابا بعنوان “زيارة الأربعين “، وأنه غدا مصطلحا معروفا ينصرف إلى زيارة الإمام الحسين في العشرين من صفر.

و يستفاد من بعض النصوص التاريخية، أن “زيارة الأربعين”غدت معروفة منذ القرن الرابع الهجري في أوساط المسلمين الإمامية وغيرهم.

و أصبحت هذه الزيارة اليوم – بما يرافقها، من مسيرات وفعاليات – ظاهرة دينية واجتماعية وثقافية عامة ومعروفة.

أهم المصادر :

1- الآثار الباقية، أبو ريحان البيروني

2- التذكرة بأحوال الموت، لمحمد بن أحمد القرطبي

3-التهذيب في شرح المقنعة، محمد بن الحسن الطوسي

4- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري

5-كامل الزيارات، جعفر بن محمد ابن قولويه

6- مسار الشيعة، محمد بن محمد النعمان المفيد

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً