أحدث المقالات

هل كفر سروش أم أخطأ؟

أ. محمد نصر الأصفهاني(*)

ترجمة: السيد حسن مطر

قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 17ـ18].

إن من الصعاب المستعصية في مجال الدين والعرفان، وحتى الفلسفة، بل والعلم أحياناً، هو البعد عن الفهم العرفي، والاختلاف في مجال التخاطب بين المتكلم والسامع، الأمر الذي يعرقل الوصول إلى فهم الحقيقة، ويعطي ذريعة بيد المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ويوفر لهم فرصة في الانقضاض على خصومهم وهذا بالتحديد هو ما ابتلي به سقراط والحلاج والسهرودي وغاليلو وآخرون. وإن شطراً كبيراً من النزاعات المحتدمة بين المحدّث والمتكلم، والفيلسوف والمتكلم، والعارف والفيلسوف، والفقيه العارف والفيلسوف، والأصولي والإخباري، عبر تاريخنا وثقافتنا، وما يتبع ذلك من تكفير واتهام بالإلحاد ومحاولات القضاء على الخصوم، يتم عبر الاستفادة من هذه الذرائع. وان الحوار الذي أبداه الدكتور سروش مؤخراً وردود الفعل المختلفة التي أعقبت هذا الحوار شاهدٌ على ذلك.

إن تحمّس سروش وهيامه بالنبي الأكرم’ قلما نجد له مثيلاً في هذا الوقت، وفي مجتمع يدعي جميع أفراده وصلاً به، ومن المدهش أن يتهم سروش بإنكار الوحي والنبوّة ومخالفة القرآن بسبب شطحياته بشأن الوحي والنبوّة والتي تتطلب بحثاً ونقاشاً طويلاً.

إفشاء الحقيقة خطيئة المستنيرين!!  ـــــــ

إن الذنب الذي اقترفه سروش هو إفشاؤه الأسرار عند من لا يحفظها. ولا بد من التذكير بأن هذه المعضلة لم يسلم منها حتى الإمام الخميني، الذي لا يدانيه أحد في مقامه وتأثيره الاجتماعي، فحينما يعتبر الإمام قبل الثورة كافراً ونجساً، ويعمد إلى تطهير الإناء الذي يشرب منه ولده، بسبب تعرضه لبحوث غير متداولة في الحوزة، مثل: العرفان والفلسفة، بل حتى وهو في هرم السلطة، بوصفه قائداً للثورة، يمنع من قبل المتشددين في الحوزة من مواصلة تفسيره للقرآن في إذاعة الجمهورية الإسلامية؛ لتعارضه مع النهج والرؤية الرسمية في الحوزة العلمية، فلا غرابة من أن يواجه سروش هذا الهجوم الواسع من قبل القريب والبعيد، ويتعرّض لشتى التهم. وقد علق الإمام الخميني في الإجابة عن الاعتراضات التي وجّهت إلى تفسيره في الحلقة الأخيرة: <إن الاختلافات التي تحدث أحياناً بين العلماء يعود سببها أحياناً إلى عدم إدراك بعضهم لغة البعض الآخر، إذ لكل فئةٍ لغتها الخاصة بها…، يتلخص جوابي في عدم رفض الجميع…. ، فلا يذهبن بكم الظن إلى أن كل من تفوه بجملة عرفانية هو كافر بالضرورة….، إن من الإجحاف أن نحرم أنفسنا من بعض وجهات النظر…، ولو انه صدر عنا مثل هذه العبارات ـ على سبيل الاحتمال ـ لا تقولوا: ها قد عدتَ لمثل هذه الكلمات من جديد؛ إذ لا بد من إعادتها>([1]).

كان الإمام الخميني رحمه الله ينصح بضرورة فتح هذا الباب، إلا أن الضغوط كانت من القوّة والشدّة بحيث اضطر في النهاية إلى عدم مواصلة تفسيره.

هذه الحقيقة المأساوية ماثلة في مجتمعنا الديني، ولا بد أن يأتي يوم لتغييرها؛ إذ كيف يرفع المجتمع الديني شعار ثورة البرمجيات، ولا يطيق سماع الكلمات المخالفة. ولماذا لا يبادر المخلصون من الخبراء في المعارف الدينية إلى بيان الحلول لمثل هذه العُقد والمشاكل، حتى يتمكن المفكرون من بيان آرائهم بحرية كاملة، بعيداً عن دوائر الخوف، لنشهد انتعاش وازدهار العلم والحضارة الإسلامية في مجتمعنا؟

تعدّد دوافع المعارضين للدكتور سروش ـــــــ

وطبعاً لا بد من أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار، وهي أن دوافع المعارضين للتفكير الحّر لا تنطلق بأجمعها من الشعور الديني والبحث عن الحقيقة، كما نلاحظ ذلك في التيارات المناهضة لرؤية الدكتور سروش، حيث لم تكن ردود الأفعال على وتيرة واحدة، وقد رسم المخالفون أهدافاً وغايات مختلفة في إبداء مواقفهم تجاهه؛ فهناك غيارى على الدين حقيقة، ولكنهم يتبنون المفهوم التقليدي والرسمي، فلا يطيقون أقواله، وردوا عليه بتكرار الأجوبة المعهودة؛ وهناك من يشكون من عقدة الطموح، وبرغم أن أكثرهم لا يفهم ما يعنيه الدكتور سروش، انتهجوا إستراتيجية ضرب الجذور والأسس التي تقوم عليها نظرية الإصلاح الديني، ظناً منهم أن ذلك يوفر عليهم ضرب الطبقات الوسطى والخارجية لهذا التيار، فعمدوا إلى طرح هذا البحث العلمي في وسائل الإعلام وإثارة الدهماء بغية الوصول إلى أهدافهم السياسية؛ أما المجموعة الثالثة فهم الذين يصطادون في المياه العكرة، وبرغم افتقارهم إلى الفهم الصحيح لما يقوله سروش، بل لا يرون ضرورة لفهم مراده، وجدوا في هذه الأجواء القاتمة فرصة لهم للتظاهر بالحماس والغيرة الدينية في مهاجمة شخص أعزل، عسى أن ينالوا حظوة وشيئاً من حطام الدنيا.

ومهما كان فإن التهم وشحن الأجواء وتوتيرها لا يؤدي إلا إلى تشويه الحقيقة، فحتى لو نجحت هذه السياسة في إسكات سروش ستظهر في زمان ومكان آخر على لسان شخص آخر، وتنكأ الجراح مرّة أخرى، وربما سيكون ذلك على يد من لا يحمل أدنى غيرة على الدين.

ما أقلّ الذين ينشدون الحقيقة، فوضعوا كلمات سروش في رقعة الإمكان، وسعوا إلى تحليلها علمياً، واعتبارها فرصة لكشف الحقيقة، أو إبطال نظرية معرفية.

وفي هذا الإطار نعمد في ما يأتي إلى تبويب ادعاءات سروش التي صدع بها مؤخراً، مع ذكر الأدلة التي ساقها في هذا المجال، والفرضيات، ونقد ومناقشة آرائه، عسى أن نصل بذلك إلى الحقيقة، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام حيث قال: <اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب>([2]).

يمكن تقسيم الكلمات التي صدرت مؤخراً عن سروش إلى أربعة مدعيات:

1ـ الوحي هو الإلهام.

2ـ تشبيه الإبداع النبوي بالإبداع الشعري.

3ـ تدخل النبي في أمر الوحي.

4ـ إمكان الخطأ في مجال الوحي.

كيف فهم المسلمون حقيقة الوحي؟ ـــــــ

بما أن محور جميع البحوث المطروحة من قبل سروش ومخالفته تعود إلى (حقيقة الوحي) فلن يغدوا بالإمكان الحكم بحيادية ما لم يتم توضيح هذه المسألة.

وقد طرحت أقوال مختلفة في مختلف الثقافات الإسلامية حول بيان حقيقة الوحي. ولذلك سنعمد هنا إلى دراسة هذا المصطلح في المجال الأدبي والقرآني والكلامي والفلسفي العرفاني.

     كان (الوحي)، يطلق في الثقافة العربية السابقة على الإسلام على نوع من الارتباط الخفي والسريع بين شخصين، أحدهما مؤثر؛ والآخر متأثر، ويمكن لهذا الارتباط أن يتم عبر المشافهة أو الكتابة أو الإشارة.

إن أهم ما يحدد معالم الوحي القرآني هو ماهية الارتباط الرسالي، وقد عبر القرآن بالوحي عن الارتباط الخفي القائم بين الله والإنسان، وبين الله والمخلوقات، وبين الملائكة والبشر، وبين الشياطين فيما بينهم([3])، وبين الشيطان والإنسان([4])، وبين الإنسان والإنسان([5]).

وإن أهم استعمال للوحي في القرآن هو النداء الخفي الخاص بين الخالق ومخلوقاته، ومن هنا أطلق على ارتباط الله بالملائكة([6])، والسماوات([7])، والأرض([8])، والنحل([9])، وبعض عباده المخلصين والصالحين([10])، والأنبياء([11])، أنه وحيٌ.

أما في مصطلح المتكلمين من المسلمين فالوحي يختص بالنبي، وعد الوحي إلى غيره بسبب الاختلاف الماهوي للمتلقين مختلفاً. فالمتكلمون إنما يرون الارتباط بين الله وعباد مخلصين له لحمل أعباء الرسالة والنبوّة <وحياً>([12])، واستعملوا لغير ذلك عناوين أخرى، فارتباط الله بالملائكة عبّر عنه بـ <الوحي الوظيفي>، وارتباطه بالجمادات
بـ <الوحي التكويني>، وارتباطه بالحيوانات بـ <الوحي الغريزي>، وارتباطه بأوليائه
بـ <الإلهام>، وارتباط الناس فيما بينهم، والشيطاين فيما بينهم، بـ <الإلقاء الخفي>([13]).

وفي الرؤية الكلامية لأمثال: ابن خلدون، أو العلامة الطباطبائي، عُدّ الوحي شعوراً خفياً ومجهولاً([14])، لا يمكن لغير الأنبياء الوصول إلى كنهه.

وفي مصطلح الفلاسفة يُعدّ الوحي نوع استعداد بشري، يحصل عليه الفرد بالتدريج، من خلال بلوغ النفس مرحلة التجرّد الكاملة، بعيداً عن الانغماس في الشهوات الجسدية، وعندها ستنكشف له جميع العلوم على نحو إجمالي([15]).

يرى الفارابي وابن سينا والملا صدرا وغيرهم من الفلاسفة أن العقل الفعال للعالم الروحاني هو الذي يمدّ يده نحو البشرية لرفعهم إلى العالم الأعلى، وبذلك فقد جعلوا من العقل الفعال والروح الأمين وروح القدس وعالم الملكوت شيئاً واحداً([16]).

ويرى الفلاسفة أن الإنسان الكامل المتجرِّد يتواصل مع العقل الفعال، ويحصل منه على الحقائق، وأنه بهذا الوحي أو الإلهام يبلغ مرتبة النبوّة والإمامة أو الرئاسة؛ ليكون واسطة بين العقل المجرَّد الفعال والمخلوق غير المتكامل([17]).

وقد تمّ تقرير مفهوم الوحي في مصطلح العرفاء ـ بنحوٍ مختلف عنه في مصطلح الفلاسفة والمتكلمين، حيث إن العرفاء ـ وانطلاقاً من رؤيتهم حول الاتصال والاتحاد في العالم ـ لا يحملون التفكيك الظاهري بين الله والإنسان، ويرون الكون حقيقة متكاملة ومرتبطة ببعضها.

ويرون أن الوحي هو اتصال واتحاد، وليس انتقال، ويستدلون لذلك بالاتحاد الشهودي بينهم وبين الله، وآيات، من قبيل: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر﴾، و﴿وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾. وهم بهذا الشهود لا يرون أي شيءٍ  ــ بما في ذلك الوحي ــ منفكاً ومنفصلاً عن الله، بل يعتبرون كل شيءٍ شعاعاً من نور الحق، ولا يمكن أن ينفصل عنه([18]).

كما يرى العرفاء عدم استثناء الإنسان من هذه القاعدة الارتباطية والاتحادية، فقد قال الإمام الخميني، بشأن قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾]الحديد: 4[، <ثبت أن الله لا يخلو منه مكان([19])، فلا بد أن يكون المراد من الآية ما هو أعمق من ظاهرها، وان الله موجود بين الإنسان وقلبه، قال تعالى: : ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾  ]الأنفال: 24[.

وعليه فالوحي عند العارف هو حالة استشعار وجود الله في القلب، والذي يحكي عن نوع اتحاد بين نفس الإنسان النورانية والوجود الأسمى الذي هو منشأ هذه النورانية.

إن الوحي من وجهة نظر العرفاء غير قابل للتوضيح والتبيين، حسيّاً أو عقلياً، وعليه فإن اختلاف المتكلم والفيلسوف والعارف يكمن في أن المتكلم والفيلسوف ـ من خلال اعتبارهم الوحي أمراً خفياً ـ يقفون عند هذا الحد، في حين يواصل العارف مشواره، ويرى إمكان بيان الوحي بشكل أوضح لا يتوصل إليه المتكلم والفيلسوف؛ بسبب خشبية استدلالاتهم، وأدلتهم الحسّية والعقلية.

واتخذ إقبال اللاهوري؛ بتأثير من الفكر العرفاني، موقفاً عرفانياً في تفسير الوحي، حيث قال: <إن أسلوب استعمال كلمة الوحي في القرآن يثبت أن الوحي من خصوصيات الحياة، إلا أنها خصوصية تختلف بحسب المراحل المختلفة لتكامل الحياة، فالنبتة التي تنمو في تربتها بحرية، والحيوان الذي يتكامل بغية الانسجام في محيط حياته، والإنسان الذي يتوصل إلى إدراك جديد عن عمق الحياة، كلّها تمثل حالات مختلفة للوحي>([20]).

وكما لاحظنا فإن هناك آراء مختلفة حول حقيقة الوحي، ولا يمكن الحكم على صحة أو بطلان بعضها دون القيام بدراسة ونقد مباني هذه الآراء، وعليه إذا أردنا أن نحكم على آراء الدكتور سروش بشأن الوحي علينا قبل كل شيء أن نتعرّف على المباني والفرضيات التي يتبناها، ومن ثم نعمد إلى نقد نظرياته وافتراضاته من خلال نقد مبانيه.

مقارنة بين الوحي والإلهام ـــــــ

لقد أراد الدكتور سروش من خلال اعتباره الوحي إلهاماً إلى رفع الفوارق بين النبي وغيره من أفراد الإنسانية المتسامين، وإخراج الوحي من كونه أمراً بعيد المنال، فما هو مدى صحّة هذا الافتراض؟

لقد استعمل القرآن الكريم الوحي للأنبياء ولغيرهم، فالله تعالى  يوحي إلى أم موسى× ويظهره على السيدة مريم العذراء÷، ولم يكن هذا الارتباط حسياً، وإنما هو قلبي، وقد استعملت نفس هذه العبارات بالنسبة إلى الأنبياء الآخرين، مثل: إبراهيم، وموسى، ونبينا’، واعتبر القرآن الوجود العيني للوحي إلقاءً من قبل الله تبارك وتعالى، حيث قال: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6]. وأن مهبط الوحي هو قلب النبي، وأن هذا الإنزال يقوم به الروح الأمين على قلب النبي، حيث قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193ـ194]، وأن النبي يقوم بحفظ ما ينزل على قلبه ولا ينساه ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾[الأعلى: 6]، وأن النبي يصدّق بما ينزل عليه، قال تعالى حكاية عن النبي الأكرم‘: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: 11].

وفي رواية: إن الحارث بن هشام سأل النبي’ وقال: كيف يأتيك الوحي؟ فقال’: <أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقوله>([21]).

فإن صحّت هذه الرواية فهناك نوعان من نزول الوحي على النبي: أحدهما من جنس الكلام؛ والآخر صوت يحلّ النبي رموزه فيدرك معناه.

ويبدو من ظاهر روايات الشيعة أن المرتبطين بالله ثلاثة، وهم: الرسول؛ والنبي؛ والمحدث، ولكل واحد منهم مرتبة من مراتب الارتباط بعالم الغيب؛ فالرسول هو الذي ينزل عليه جبرائيل، فيراه ويسمع كلامه، وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه؛ وأما النبي فهو الذي يرى في منامهِ، نحو: رؤيا إبراهيم× ونحو ما كان يرى رسول الله’ من أسباب النبوّة قبل الوحي والبعثة؛ وأما المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع ولا يرى، وقد كان الأئمة^ محدثين([22]). وفي رواية عدّ سليمان× محدثاً([23]). وقد صرح القرآن برؤية مريم العذراء لشخص الملك، وتكلمت معه، رغم أنها لم تكن نبياً ولا رسولاً ولا إماماً.

إذاً فالنصوص الدينية لا تأبى أن تكون هناك مراتب للارتباط بالغيب، وإمكان ذلك لغير الأنبياء أيضاً.

وقد فسّر المتكلمون هذه الآيات بأن وحي الله للأنبياء على نحوين: مباشر؛ وغير مباشر. وفي المباشر يلقي الله الوحي على قلب النبي ويفهمه محتواه من دون واسطة، وأما الوحي غير المباشر، الذي يتم عبر الواسطة، فهو على نحوين أيضاً؛ فتارةً يَكون من قبيل الرؤيا الصادقة وأحياناً يتمثل في شيءٍ مثل النار، يوصل الكلام والنداء إلى النبي، كالرؤيا التي رآها إبراهيم× للتضحية بإسماعيل×، أو الصوت الذي سمعه النبي موسى× من قلب النار؛ وأحياناً يصل الوحي إلى النبي بواسطة الرسل والملائكة، مثل: جبرائيل× حيث خاطب النبي بقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ ]العلق: 1ـ2[.

وقد ذكر المتكلمون في بيان كيفية الوحي انه لا يشابهه شيء من كلام البشر، وأنه رمزيّ، ولكنهم لم يقدموا إجابة شافية، وتركوا الموضوع مسكوتاً عنه.

أما الفلاسفة فلا مانع عندهم من تقريب الوحي، وتشبيهه بالكفاءات البشرية، بل يسعون جاهدين إلى تقديم تفسير معقول لظاهرة الوحي، واكتشاف نقاط الاشتراك، بينه وبين المعارف الأخرى، ومن هنا اعتبروا الوحي قريباً من الإلهام أو التجارب النفسية والباطنية والمدركات الذهنية للأفراد الاعتياديين، ويعتقد الفارابي وابن سينا وغيرهما أن النبوة نوع من الاستعداد الإنساني الذي يحصل عليه بفعل تكامل قواه الإدراكية والتحريكية، فحينما تبلغ النفس الإنسانية الناطقة إلى غايتها من ناحية الإحساس والتخيل والتعقل، تتصل مع عقلها الاكتسابي المتكامل بالعقل الفعال، فيبدأ بفهم المعقول بقلبه، ثم يعمل خياله القوي على اجتذاب التعقل فيجسد الملك في خياله، وفي المرتبة الثالثة يعمل إحساسه القوي إلى تحويل الخيال إلى حسّ، فيسمع النبي صوته، وفي اعتقادهم أن هذه النتيجة مغايرة لكلام المخلوق الذي تتلقاه الأذن أولاً، ثم ينتقل إلى المخيلة، ثم يناله العقل، فمن وجهة نظر الفلاسفة تستحقّ النفس الناطقة إذا بلغت الكمال العقلي والسمو الأخلاقي خلافة الله على الأرض([24]).

ويربط ابن خلدون ماهية النبوّة برؤيته للإنسان في موقف مؤيد للفلاسفة، فيذهب إلى عدم انفكاك مدركات النبي عن بشريته، حيث قال: <فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملاكية، ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات، ليعود بعد ذلك إلى المدارك البشرية لحكمة التبليغ، وهذا هو معنى الوحي والخطاب ومحاورة الملائكة. والمعارف التي يحصل عليها النبي في هذه الحالة من جنس الرؤية التي لا يتطرق إليها الخطأ والوهم، وان معلوماته فيها مطابقة للحقيقة الذاتية؛ لانكشاف حجب الغيب عنهم، وبعد مفارقة هذه الحالة والعودة إلى عالم البشرية، يكون قد حصل لهم الشهود، ولا ينفصل هذا الانكشاف عنهم>([25]).

وخلافاً للمتكلمين يرى العرفاء للوحي مثيلاً في كلام البشر، إذ يرى العرفاء حقيقة الوحي والمكاشفة واحدة، وهي الاتصال بما وراء الحجب وكنه الوجود وشهود عالم الحقيقة([26]). وذكر القيصري، في مقدمته على فصوص الحكم، لمحيي الدين بن عربي: >بإمكان كل فرد أن يغدو ولياً، كما أن النبي إنما يكون ولياً ثم يبعث بالنبوّة والرسالة، وذهب ـ تبعاً لابن عربي ـ إلى أن الإلهام مفهوم عام، وأن الوحي مندرجٌ تحت هذا المفهوم، فقال: (الوحي) من خواص (النبوّة)، و(الإلهام) من خواص (الولاية). إن باطن النبوة ولاية تشمل جميع المؤمنين الصالحين، الذين لا يخشون أحداً إلا الله([27]).

يذهب هؤلاء إلى أن التجربة الباطنية، أو المكاشفة العرفانية، قريبة من تجربة الأنبياء، بل تفوقها. ويرى ابن عربي الولاية أو معرفة الله أساساً لجميع المراتب المعنوية، وأن جميع الرسل والأنبياء أولياء، وفي رأيه أن الصفة الخاصة لكلّ ولي هي (المعرفة)، والمعرفة علم باطني يلقى في القلب بطريقة خاصة، وأن هذا العلم الباطني يختلف عن الوحي من ناحية المحتوى؛ وذلك لارتباط الوحي بالمسائل التشريعية، ومحدود بزمان ومكان خاصين، وقد تنقطع النبوّة والرسالة، أما سلسلة الولاية فلا تنقطع أبداً. ويرى ابن عربي أيضاً أن الوحي أو العلم الشرعي يحصل عليه الرسول من ملك الوحي، في حين أن العلم بالباطن إنما يحصل عليه الولي من المعين الفياض للفيض المعنوي، المتمثل في روح محمد، أو (الحقيقة المحمدية)، فالمبدأ الأساس في الوحي للأنبياء والأولياء هو (الحقيقة المحمدية) التي لا ربط لها بالخلقة السابقة للنبي’، بل هي عقل إلهي موجود قبل وجود آدم×([28]).

وعليه يظهر من القيصري أن لكلٍّ من الوحي والإلهام مراتب، وأن هناك أربعة فروق أساسية بين الوحي والإلهام، وهي:

1ــ الإلهام ينتقل من دون واسطة، في حين أن الوحي يفيض على النفس النبوية عن طريق شهود الملائكة.

2ـ الإلهام مجرّد كشف معنوي، في حين أن الوحي مكاشفات تتضمن الكشف المعنوي.

3ــ الإلهام من خصائص أهل الولاية، أما الوحي فمن خصائص النبوّة.

4ــ الإلهام ليس شرطاً في التبليغ، في حين أن الوحي شرط فيه([29]).

     وأما عند إقبال اللاهوري فلا فرق من ناحية الكيفية بين التجربة الباطنية والتجربة النبوّية([30])، ويرى أن التجربة الباطنية أو الدينية حالة من الشعور ذات بعد معرفي، ولا يمكن انتقال محتواها إلى الآخرين إلا على نحو حكمي([31]). ويذكر للتجربة العرفانية والنبوية (التجربة الباطنية) خمس خصائص مشتركة:

1 ــ التجربة الباطنية المباشرة والعينية كالمعارف الحسيّة.

2 ـ إن التجربة الباطنية كاملة، وليست مجزَّأة، ولا فرق فيها بين الشخص والشيء في الذهن والخارج.

3 ـ إن التجربة الباطنية هي بيان لحظة يتحد فيها حامل التجربة مع آخر، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً، وهذا الآخر وجود متعالي ومحيط بكل شيء، وإن الاتصال بهذا الآخر تترتب عليه ردود فعل تكمن في تلبية ندائه.

4 ــ إن محتوى التجربة الباطنية غير قابل للشرح والتفسير لأنه أقرب إلى الشعور منه إلى المعرفة، فلا يمكن إدراك ذلك الشعور عقلاً حتى لو تمّ توضيحه بالكلمات. إن الشعور والفكر أنحاءٌ ثنائية ثابتة ومتغيرة لعامل واحد يُشكل التجربة الباطنية.

5 ـ إن الحالة الباطنية سريعة الزوال، ولكنها تترك آثارها بقوّة وعمق، وإن النبوي منها مفعم بمعانٍ للبشرية لا يمكن إحصاؤها، وإن الذي يميز التجربة الرحمانية من الشيطانية هو الثمار دون الجذور([32]).

وقد ذهب إقبال اللاهوري في بيان الاختلاف بين التجربة النبوية والشهود العرفاني إلى ما ذكره ابن خلدون من الميل إلى العودة وبسط التجربة النبوية، حيث قال: يمكن تعريف النبوة على أنها إدراك باطني تنزع فيها (التجربة الاتحادية) إلى الامتلاء، والبحث عن فرص لتفسير مفردات الحياة الاجتماعية من جديد، أو منحها شكلاً جديداً، يعثر فيها النبي على ذاته، ويظهر في مرحلة تاريخية، وقال: إن للقلب اشراقة باطنية، وإن مدركاته ـ كسائر التجارب الواقعية الأخرى ـ قابلة للتأويل والتفسير والنقد، وإن النبي الأكرم’ كان أول ناقد للتجربيات الباطنية([33]).

وبذلك ندرك أن اعتبار الوحي إلهاماً من قبل سروش وإن لم يتفق مع مصطلحات المتكلمين، ولكنه منسجم مع المواقف الدينية الأخرى.

ما المائز بين الوحي والشعر و…؟ ـــــــ

يذهب الدكتور سروش إلى اعتبار الإلهام ذا مراتب كثيرة، تشمل وساوس الشيطان، وتجارب الفنانين والشعراء والعرفاء، وإن تجربة الأنبياء تقع في ذروة الإلهام وأعلى مراتبه. ويرى أن الوحي ليس (شعوراً خفياً)، وإنما هو (فن خفي). ممّا أثار استياء بعض، ودعاه إلى القول بأنّ السيد سروش يعتبر النبي شاعراً، والقرآن شعراً.

بعد بعثة النبي الأكرم وظهور الدعوة وجد المشركون القرآن مخالفاً لمعتقداتهم العامة، ومتعارضاً مع مصالحهم، ومن هنا اتهموا النبي بالجنون، ونسبوا القرآن إلى الشعر والكهانة([34]). وقد ذكر ابن هشام في سيرته أن الوليد بن المغيرة، وهو ممن تثنى له الوسادة في أساليب البيان العربي، أنكر أن يكون القرآن شبيهاً بأقوال الكهان أو الشعراء؛ لعدم تناغمه مع أيٍّ من الأوزان الشعرية، ومع ذلك فإن حلاوته وفصاحته، التي هي من خصائص الشعر، تجتذب الجميع([35]).

وقد نفى القرآن أن يكون مضمون الوحي من شعر الشعراء أو سجع الكهان أو أقوال مجنون، قال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ ]الحاقة: 41[، ولكنه سكت عن وجود مشابهة بين كيفية مضمون الوحي للشعر والكهانة والفن.

وقد سعى المتكلمون حفاظاً على قداسة الوحي إلى تمييز ساحة القرآن عن سائر الظواهر البشرية الأخرى، كي لا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه أعداء النبي فنزل القرآن بذمهم، ولذلك فقد أحجموا عن مقارنة الوحي بسائر الأمور القريبة منه، وكشف أوجه التشابه بينهما.

وذكر ابن خلدون أن هذه القابلية وهذا الاستعداد إذا كان متوفراً عند بعض الأفراد بشكل كامل وجب أن يكون هذا الاستعداد موجوداً عند غير الأنبياء أيضاً، ولكن بدرجة أقل ورتبة أدنى. وقد ذهب إلى أن الكهانة تشغل واحدة من هذه المراتب الدنيا([36])، وأن هناك شيئاً من الإدراك النبوي عند الكهان، حيث قال: >… ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات، لأن وحيه من وحي الشيطان، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة، ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص، فيهجس في قلبه عن تلك الحركة، والذي يُشيّعها من ذلك الأجنبي، ما يقذفه على لسانه، فربما صدق ووافق الحقّ، وربما كذب>([37]).

كما يذهب ابن خلدون إلى اعتبار الرؤيا قريبة من الوحي؛ إذ يعتبر الرؤيا حالة تعتري النفس الناطقة عند تجردها عن الموارد الجسمانية والمدارك البدنية، وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلية، فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً وغير جلي فإنه يحتاج إلى تعبير، وقال: أما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملاكية المحضة، التي هي أعلى الروحانيات، وهو عندما يُعرّج على المدارك البدنية، ويقع فيها ما يقع من الإدراك، شبيهاً بحال النوم شبهاً بيّناً، ولأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة>([38]).

ذهب الدكتور سروش في المقابلة التي أجراها معه مراسل الإذاعة الهولندية إلى اعتبار الوحي إلهاماً، أو شبيهاً بالتجارب التي يخوضها الفنانون والشعراء والعرفاء، وقد أضاف أن النبي يخوض هذه التجربة على مستوى أكبر ومرتبة أعلى.

وقد كان كلامه بحيث يفتح آفاقاً واسعة أمام الموافقين والمخالفين، لإمكان تفسير عبارة <على مستوى أكبر> إلى مراتب مختلفة؛ فالذين ينظرون إلى كلماته بسوء ظن وريبة فهموا من كلامه أنه لا يفرق بين الوحي والشعر، واتهموه بالكفر وإنكار القرآن. وقد سأله مراسل صحيفة (كارگزاران) انطلاقاً من هذه الرؤية قائلاً: يحكى أنكم تنكرون رسمياً نزول القرآن من عند الله، وترونه كلاماً بشرياً لمحمد، فهل هذا صحيح؟! فأجابه قائلاً: ربما كانوا  يمزحون في ذلك، أو أنهم يضمرون ـ والعياذ بالله ـ غايات سياسية وشخصية، ونسأل الله أن يكونوا أساؤوا فهم مرادي، وإلا فإن العارف بالولاية الإلهية العامة وقرب أولياء الله منه تبارك وتعالى، وخَبر تجربتهم الاتحادية، لا يسعه الإنكار بمثل هذه الصراحة.

كما أوضح الدكتور سروش مراده في جوابه عن رد الشيخ السبحاني، فقدّم بهذه الإجابة قراءة جديدة عن ظاهرة الوحي، فقال: <يتلخص كلامي في أن بالإمكان إدراك ظاهرة الوحي المبهمة من خلال الاستعانة بظاهرة الشعر (أو بالإبداع الفني بشكل عام)؛ لكونها أكثر وضوحاً، وذلك على مستوى التصّور فقط. ألم يذكر الغزالي أن بالإمكان إدراك ظاهرة الوحي عن طريق الاستعانة بظاهرة الوساوس الشيطانية؟ وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾».

لا إشكال في تشبيه الوحي بالشعر والكهانة والرؤيا لتوضيح المعنى وتقريبه إلى الأذهان، إذا كان وجه الشبه يكمن في الكلام الموزون، والاستفادة من صناعة الأدب في المشبه والمشبه به، أو بيان حالة الشبه بين الوحي والرؤيا في حدوث الاتصال بعالم غير مادي، إلا أن ما يهدف إليه الدكتور سروش يذهب إلى أبعد من ذلك، فإن اعتبار كون وجه الشبه بشرياً لا يمكن قبوله بسهولة، ولقد ذكر الدكتور سروش في إيضاح كلامه: <إن الشعر بوصفه إبداعاً فنياً سامياً يختلف اختلافاً كبيراً عما كان يجول في أذهان أمثال أبي جهل وأبي لهب، وإن الاستفادة من الظواهر الأدبية لتقريب معنى الوحي لايقلل من شأن القرآن، ولا يرفع من مكانة أبي لهب! وقد ذهب العلامة الطباطبائي إلى اعتبار الوحي (شعوراً خفيّاً)، وأرى أن التعبير بـ (الفن الخفي) أنسب. وهذا هو مكمن المشكلة، فان الشعر إبداع يقوم به الشاعر، فهل يقوم النبي بعمل في تكوين الوحي؟ هذا ما يرد عليه الدكتور سروش بالإيجاب.

ويبدو أن مشابهة الشعر والوحي عند الدكتور سروش، تكمن في ثلاثة أمور:

1 ـ المضمون المجرد عن القالب الإلهامي.

2 ـ قولبة الكلام بالاستفادة من الإبداع البشري.

3 ـ السجع والوزن واستعمال الصناعة الأدبية في القرآن.

وإن الفصل بين المضمون والقالب، وهما الأصلان الأولان اللذان افترض الدكتور سروش أنهما يستدعيان مناقشة جديدة في رقعة التفكير الديني.

دور النبي في الوحي بين الفعل والانفعال ـــــــ

يدور السؤال المهم حول بنية كلام الله، وكيفية (نزوله)، وهل يتدخل النبي في صياغته؟ نعلم أن الله تبارك وتعالى ليس له تعيّن ولا حدّ محدود، وعليه ما هي الآلية التي ينزل بها كلامه ووحيه إلى البشر؟ فهل هناك واسطة أو وسائط في البين أو أن ذلك يتمّ من دون واسطة؟ وإن كان هناك واسطة فمن الذي يصوغ هذا المضمون في قالب اللغة والثقافة والظروف التي يعيشها النبي’؟ فهل يتدخل شخص النبي في هذه  الصياغة، أو ليس له من دور سوى الانفعال؟

ليس هناك من يشكّ في أن منشأ القرآن من الله تبارك وتعالى.

وهناك آيات كثيرة في القرآن تصرح بصدور القرآن عن الله وأنه كلامه، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6].

وفي ما يتعلق بوجود الواسطة وعدمها يقول القرآن: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51].

وفي ما يتعلق بعدم الواسطة نجد القرآن ساكتاً؛ إذ لم تتضح كيفية الحجب في ما يتعلق بدورها في عملية الوحي، فمثلاً: حينما يشهد النبي موسى× النارَ يفهم منها حقيقة ما، فهل هذه النار مادية ومحسوسة للجميع، أو أن الذي يفهمه موسى مجرد صوت مفهوم أو معنىً ومضموناً من قلب النار؟

وفي ما يتعلق بالوحي بواسطة الرسول، الذي هو جبرائيل، أقصى ما قيل هو أن موضع هبوطه هو قلب النبي، وأن هذا النزول قد تمّ عبر روح أمينةٍ على قلب النبي’، قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ ]الشعراء: 193ـ194[،  ولم تتضح كيفية رؤية النبي للملاك بقلبه، ولسنا نعلم أيّ شيءٍ يتم إلقاؤه على قلب النبي الأكرم، ولكن ما نعلمه هو أن جميع هذه الوسائط مؤتمرة بأمر الله، ولا ينزل على قلب النبي إلا ما يريد الله نزوله، ولا يحدث أدنى دخل أو تصرف خلافاً لإرادة الله، والسؤال الذي يطرح هنا هو: ما هو الشيء الذي يلقيه الله أو جبرائيل على قلب النبي بالتحديد؟ والإجابة عن هذا السؤال لا تخرج عن واحدةٍ من الصور الآتية:

1 ــ تكوين مضمون النداء من قبل الله، وصبّه في قالب لغة القوم، وما هم عليه من الثقافة والمعتقدات والأهداف، وإرساله إلى النبي.

2 ــ إن ما يلقى على قلب النبي هو مجرد المضمون واللب وجوهر المعنى، ثم يقوم النبي بصياغته في قالبه اللفظي.

بعبارة أخرى: حينما يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ هل دور الصياغة العربية يقوم به الله تبارك وتعالى مباشرة، أو جبرائيل، أو شخص النبي؟ ولبّ السؤال: هل يمكن للنبي بوصفه بشراً أن يضطلع بدور الأسباب الطبيعية والمادية للوحي؟ وهل تجربة النداء في مستوى فهم النبي هي نفسها في مستوى فهم عامة الناس؟ أو أن ما يتم إنزاله إنما يكون في مستوى فهم مَنْ خاطبه الله، وإن النبي في ذلك شبيه بالولي والعارف الذي يحول ما ينزل عليه بنحو يتلاءم وفهم مخاطبيه، ويناسب مستوى عقولهم البشرية، في قالب اللغة والثقافة والمذاق؟

وإذا كان الجواب بالنفي أو الإثبات، يرد تساؤل آخر مفاده: إن الله تبارك وتعالى يقول: : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ]إبراهيم:4[. فإن كان النبي ينقل القرآن فهل يأتيه تفسيره وبيانه من خارج ذاته أو انه هو الذي يقوم ببيانه وتفسيره؟

وقلما تعرض العلماء ـ أعم من الفلاسفة والمتكلمين والمفسرين والعرفاء ـ إلى هذه الجزئيات، وأشبعوها بالبحث والتحقيق؛ إذ يذهب المتكلمون إلى أن القرآن على هيئته الموجودة حالياً قد نزل من عند الله على رسوله دون أي تغيير أو تصرف في شكله ومحتواه، وأن النبي قام بدوره بنقله إلى الناس دون تدخل أو تصرف.

والدليل على ذلك ظاهر الآيات التي تدل على أن القرآن نزل على هذه الهيئة، إلا أنهم لم يشرحوا كيفية تقبل القلب للصوت والألفاظ ومعانيها، وأغلقوا باب البحث باعتبار أن الوحي أمراً خفياً؛ كما أن المتكلمين يحجمون عن بيان وتوضيح دور النبي، ووجوده من عدمه، في مسألة الوحي.

ومهما كان فقد ثبت عند المتكلمين أن النبي ليس له أدنى تدخل في الوحي؛ لأن أي تدخل  من قِبله ـ حتى لو كان من منطلق عصمته، وكان تدخله جزئياً ـ سيؤثر في مجموع الوحي والقرآن، ولن يمكن وضع حدّ لهذا التدخل.

وقد أشار الإمام الخميني من زاوية عرفانية، ومال بنحوٍ من الأنحاء، إلى تدخل النبي وتصرفه في نزول الوحي، فقد قال ضمن تفسيره لسورة الحمد على نحو عابر: <إن القرآن حقيقة … يجب أن تنزل إلى المرتبة الدنيا والنازلة، وحتى إذا دخلت في قلب رسول الله تكون قد تنزلت مرة أخرى حتى أمكن لها دخول قلب النبي، ولا بد لها أن تنزل من ذلك الموضع لتكون على مستوى فهم الآخرين>([39])، ولم يدخل سماحته في كيفية ومقدار دور التنزل من ناحية النبي، ولكنه قال بوجود تنزلين، وذلك على مستويين للقرآن، ودليله على ذلك اختلاف مستوى الفهم بين النبي وسائر أفراد الناس.

وقد ذهب الدكتور سروش إلى ما يشبه كلام الإمام الخميني، حيث إنه يقول: إن وظيفة النبي تكمن في إعطاء المضمون صورة كان يفتقدها، ليتمكن من وضعها في متناول الجميع؛ إذ لا يمكن تقديم هذا المضمون على الهيئة التي نزلت من عند الله، وذلك لأنها فوق مستوى فهمهم، بل هي فوق مستوى الكلمات. ويرى أن للنبي دوراً محورياً في إعادة صياغة كلام الله، وبذلك يتضح أن الدكتور سروش يذهب إلى أن دور النبي يكمن في صياغة الوحي ووضعه في قالب بشري، وهذا ما يحتاج الدكتور سروش في إثباته إلى دليل.

يبدو أن الدكتور سروش في عرض أدلته يسير على نهج العرفاء، في أن بلوغ الإنسان الكامل عند بلوغه مرتبة الفناء، وحينها تزول عنه الصبغة البشرية، ويتخذ صبغته  الإلهية بأمر مقدس ومطلق بنحو من الأنحاء، وعند العودة تتخذ كلمات الله الكامنة في مسامعه، والتي تلقاها على نحو غير بشري، قالباً بشرياً، ليتمكن من نقلها إلى أولئك الذي لا يسعهم خوض تجربته.

قال الدكتور سروش: إن هذا الإلهام يَنبع من (نفس) النبي، وإن (نفس) كل شخص إلهية، إلا أن النبي يمتاز من سائر أفراد الإنسانية في أنه أدرك إلهية هذه النفس، وانتقل من القوة إلى مرحلة الفعلية، واتحدت نفسه بذات الله، وإن أولياء الله من القرب منه والفناء فيه حتى غدا كلامهم عين كلام الله، وأمرهم ونهيهم وحبهم وبُغضهم عين أمر الله ونهيه وحبّه وبغضه، لقد كان النبي الأكرم بشراً، وقد قال تعالى حكاية عنه’: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾]الإسراء:93[، إلا أن هذا البشر في الوقت نفسه قد اتخذ صبغة إلهية، وإن الوسائط ـ بما فيها (جبرائيل) ـ قد خلت بينه وبين الله حتى غدا كل ما يقوله هو كلامه الإنساني  وكلام الوحي الإلهي في وقت واحد، ولم يعد بالإمكان التفريق بينهما.

يقع كلام الله أو الوحي، أو التجربة الدينية في مصطلح الدكتور سروش([40])، في وادٍ، والطبيعة البشرية للنبي والقالب اللفظي للكلام في وادٍ آخر. وقد رأى الدكتور سروش، تبعاً لمولوي والفلاسفة، وجود اختلاف ماهوي بين  الساحة الإلهية والبشرية؛ إذ لا وجود في الساحة القدسية للكم والزمان والمكان.

وقد عمد الدكتور سروش إلى تصنيف محدد للأدوار بين (الأمر القدسي)، و(الأمر غير القدسي)، الذي هو من خصائص البشرية، والصنف الأول من صنع الله، والصنف الثاني من صنع الوسيط بين السماء والأرض، وهو رسول الله’، وتكون حصيلة الصنعين، التي هي الوحي والقرآن، إنجازاً إلهياً وبشرياً في آن واحد.

قال الدكتور سروش: <أرى محمداً رسول الله عاشقاً، مبدعاً، مملوءاً صدره بالتجربة الروحية، نافذ البصيرة، مفعمة روحه بوجود الله، فغدا كل ما يراه ويقوله إلهياً، ويرى الإنسان والكون حالاً فيه وصائراً إليه، ثم يعود إلى الناس مبتهجاً بهذا الكشف النبوي ليشاركهم تجربته، ويجتذب الأرواح الظامئة إليه، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

إن تصوري لتلك الرابطة، التي هي (أقرب من حبل الوريد)، يكمن في ميتافيزيقية القرب والوصال، على نحو النفس والجسد، وببيان أوضح مثل الفلاح والشجرة، إذ يقوم الفلاح بزرع البذرة، وتقوم الشجرة بإفراز الثمرة، ولا تخرج كل ثمرة من كل شجرة، فشجرة التفاح لا تثمر غير التفاح، وان هذه الثمرة مدينة في كل ما تحتوي عليه، من عطرها، وشكلها، والفيتامينات، والأملاح، إلى الشجرة التي أخرجتها، والتي زرعت في أرضٍ مخصوصة، واستقت من نور وغذاء وهواء خاص، وطبعاً لا يخرج زرعها ولا ثمرها إلا بإذن ربّها، ولا يشكّ الموحِّدون في ذلك، بل إن وجود الشجرة هو عين أمر الله وإذنه>.

الدليل الآخر الذي يتمسك به الدكتور سروش هو ما ذهب إليه المتكلمون من الشيعة والمعتزلة، والمستنيرون الجدد من أهل السنة، فقال: ألم يقل الحكماء، وفي مقدمتهم صدر الدين الشيرازي: إن كل حادث مسبوق بالمادة والمدّة (وإن كل حادث إنما يوجد في ظروف مادية وزمانية خاصة)؟ فكذلك حادث الوحي المحمدي قابل للحدوث في ظروف مادية وتاريخية خاصة وإن لتلك الظروف مدخليه كاملة في صياغة الوحي، وتلعب دور العلة الصورية والمادية للوحي. ولا بد من الالتفات إلى أن المسألة تفوق اللفظ والمعنى، وتشمل الصورة وعدمها، وإن اللفظ أحد أنواع الصور، خلاصة القول: إن ما يأتي به محمد’ هي المحدوديات (العلمية والوجودية والتاريخية وما إلى ذلك) مما لا يمكن التنصّل عنه لكل مخلوق.

إن دليل سروش الفلسفي والكلامي في هذا الموضوع غير تام؛ إذ لا تنافي بين خلق القرآن وما يراه المخالفون، لأن الحدوث مفهوم مشكك، يمكن أن يكون مؤيداً لرأيه من أن المراد هو خلق القرآن على غير صورة، وتخويل النبي مهمة تصويره، كما يمكن أن يكون خلقاً للفظ والمعنى الذي لا يكون للنبي من دور فيه سوى الوساطة.

وعلى كل حال فإن نظرية الدكتور سروش في هذا الموضوع تقضي بتحويل دور النبي في ما يتعلق بالوحي من الانفعال التام إلى التأثير والفعالية اللائقة بالإنسان الكامل، وتستعرض قابلية الإنسان العميقة، وبذلك يحل بعض رموز الوحي وأسراره.

وأهم إشكال يرد على هذه النظرية يكمن في أنها تحمل المحدوديات البشرية على الوحي، وتجرّده من قداسته، وهذا ليس بالأمر الهيّن أوالقليل.

إمكان تطرّق الخطأ إلى النبي ـــــــ

إن الدكتور سروش بذهابه إلى بشرية بعض نتائج الوحي قد فتح باب إمكان طرو الخطأ في مضمون الوحي والقرآن، وهو ما سعى المسلمون على الدوام إلى نفيه ولا يزالون، وهو ما أكد عليه القرآن في الكثير من آياته، مما يقوم على نفي كل أنواع الخلل في الوحي، وعليه اتباعه بشكل مطلق: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾[يونس:109]، وعندما لم تنزل آية على رسول الله كان المشركون يقولون للنبي: ما سبب امتناعك عن الإتيان بجديد من الآيات، انطلاقاً من تصورهم أن النبي هو الذي يختلقها، فقال تعالى في ذلك: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي﴾[الأعراف:203]، وانطلاقاً من هذا التصوّر كان هناك من يطالب رسول الله بتغيير بعض الآيات لينسجم كلام الله مع رغباتهم، فقال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾[يونس:15]. وغاية ما قام به الله عز وجل من تأييد لنبيه في مواجهة اتهامات خصومه أن قال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم:2ـ4]، وقال في دفع شبهة كونه من عند غير الله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾[هود:1].

وعلى كل حال إذا تمكنا بشقّ النفس من تفسير هذا النوع من الآيات، وقلنا: إن مراد الله من الوحي في جميع هذه الموارد هو مضمون الوحي المجرد عن الصورة، وقلنا: إن صياغة النبي للوحي إنما تكون بإشراف من الله تعالى وإذنه وان الله يمهد السبيل في ذلك لرسول الله‘، حيث قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[الدخان: 58]، وقد أمضى الله ما قام به رسوله بقوله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾، إذا أمكن لنا ذلك بصعوبة فكيف يمكن لنا أن نفسر قالب الوحي البشري المحدود؟ وبعبارة أخرى: إذا خولنا النبي بوصفه بشراً أن يصوغ الوحي فكيف يمكننا تجنيب الوحي محذور المحدودية البشرية، وكيف يمكننا أن نملأ الجرّة بماء البحر؟

إن الدكتور سروش يدرك جيداً النتائج المترتبة على كلامه، وهو ملتزم بها، وقال صراحة: إن شخصية النبي وما يعتريها من تغير في أحوالها وأوقاتها منعكسة بأجمعها على القرآن، وان النبي يقوم بنقل هذا الإلهام باللغة التي يتقنها والأسلوب الذي يعرفه والصورة والعلم الذي حصل عليه من عصره ومحيطه.

هذه هي بشرية الوحي من وجهة نظر سروش، والتي تفتح الباب أمام تطرّق الخطأ إلى الوحي، وهنا يكمن أخطر ما في هذه النظرية، ويقول: إن الرؤية التقليدية تمنع وقوع الوحي في الخطأ، أما حالياً فيتجه الكثير من المفسرين إلى عصمة الوحي في المسائل الدينية الصرفة، من قبيل: أوصاف، الله والحياة بعد الموت، وأسس العبادة فقط، ويميلون إلى إمكان خطأ الوحي في ما يتعلق بمسائل الكون والمجتمع الإنساني، وليس من الضروري أن يكون ما يذكره القرآن عن الوقائع التاريخية وسائر الأديان وسائر الموضوعات العملية الأرضية صحيحاً، ويستند هؤلاء المفسرون إلى أن وقوع هذا النوع من الأخطاء في الوحي والقرآن لا يؤثر في نبوّة النبي؛ لأنه إنما يتكلم على مستوى فهم الناس في عصره، ويخاطبهم بلغة عصره.

ونحن نقول للسيد سروش: إن لنا رأياً آخر؛ إذ نقول: لا نتصور أن النبي قد تحدث (بلغة عصره) بعد أن كانت علومه مستقاة من مصدر آخر.

قال الدكتور سروش: كان النبي’ مؤمناً بما يقول، وقد كانت تلك لغته وفكره، ولا أتصور أن علمه بشأن الأرض والكون والإنسان يفوق أبناء جيله وعصره، كما أنه لم يكن لديه العلم المعاصر، وهذا لا يؤثر في نبوته؛ لأنه إنما كان نبياً، ولم يكن مهندساً أو مؤرخاً.

إن الدليل الذي يعتمده السيد سروش هو أنه لم يرد في القرآن أن الله علمّ نبيه كافة العلوم، ولم يدّع ذلك النبي‘ لنفسه، وليس هناك من يتوقع من النبي الإجابة عن جميع المسائل العلمية، ابتداءً من الإلهيات والروحانيات إلى الطب والرياضيات والموسيقى والفلك، مضافاً إلى أن الله تعالى يأمر نبيه بأن يقول: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، وفي عقيدة الدكتور سروش إن جاذبية الوحي المحمدي ليست في تلك المتشابهات، وإنما هي في سورة مثل الحديد، التي تسمى بالحديد، والحال أن نسيجها من (الحرير)، وقد وصفها الغزالي بـ (حلية القرآن). وكذلك في الله ويوم القيامة والإيمان والإنفاق والجهاد والخشوع وما إلى ذلك، مما قرن بين الصلابة والمحبة، وتكفي منه صيحة، مثل: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾، لتحريك الأرواح وتأجيج شعلة الإيمان في الصدور.

أين مرسى سفينة سروش؟! ـــــــ

يتصور بعضٌ أن سروش يعتزم من خلال هذه الأفكار إلى اجتثاب جذور الإسلام، وإضرام النار في بيدر إيمان الشباب؛ وهناك من قال بأنه هناك من يعمل على تحريكه من قبل أعداء الإسلام بلا شعور منه؛ وهناك من يراه منزلقاًَ في منحدر حادّ بعيداً عن الإسلام، هذا والقرآن يدعونا إلى حمل المسلم على الصحة، والعمل على إيجاد محمل لما يقوله بقدر الإمكان، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ ]النساء:94[، خصوصاً بالنسبة إلى شخص مثل الدكتور سروش، الذي لا تخفى إنجازاته في خدمة الفكر الديني في تاريخنا المعاصر.

ويبدو لنا أن السيد سروش قد سلك هذا الطريق بنوايا خيّرة ورؤية إصلاحية؛ بوصفه متنوّراً دينياً، لغرض حل معضلة التعارض بين الإسلام التقليدي والفكر المعاصر، حتى وإن كان ذلك على حساب بعض الأذواق والمشارب التي لا يروقها مثل هذا التوجه، فهو يفصل بين الجوانب المعنوية والغيبية والعبادية، التي تمثل جوهر الدين وذاته، وبين الجوانب الاجتماعية والسياسية، التي هي بمثابة القشور والأعراض في الدين، حتى لا يؤثر كلامه سلباً في أمور الدين العبادية والغيبية، وتبقى هذه المساحة بمنأى من الخطأ، ويكون في الوقت نفسه ناجحاً وموفقاً في حلّ التعارض القائم بين العلم والدين، والدين والحياة الاجتماعية، والدين وحقوق الإنسان.

إن اختلاف الدكتور سروش عن سائر المختصين في مجال الأمور الاجتماعية أنهم يفضلون السكوت وعدم الخوض في الموضوع، أو يسعون إلى حل المشاكل العديدة في الرؤية التقليدية للدين بالأحكام الثانوية ومصلحة النظام، ورغم اعتقادهم بأن حلال الله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، دون أن يتحدد بزمان أو مكان، إلا أنهم من الناحية العملية لم يطبّقوا من الأحكام الشرعية سوى الأحكام الثانوية والحكومية المؤقتة، التي ترتبط بزمان ومكان خاصين، وطبقوها على نطاق واسع من أمور الحياة، فيجب أن يقال لهم مثلاً: إذا كان حكم الله في القرآن أبدياً وغير مقيّد بزمان ومكان فيجب قطع يد السارق، فلماذا عطلتم هذا الحكم؟ هل حكمكم هذا عدم قطع السارق في الظروف الراهنة مؤقتٌ؟ فإذا كان كذلك فعليكم تحديد زمن انتهاء هذا الحكم. ألم يكن ما صرّح به الإمام الخميني في أواخر حياته، من أنه لا يمكن إدارة المجتمع بالاجتهاد المصطلح، إشارة إلى وجوب التفكير الجاد في هذا الشأن؟ أليس من الأجدى أن نفكر بحل جذري بدلاً من الاستدراك على أحكام الله بتأبيد الأحكام الثانوية، لتغدو أطول عمراً من أحكامه الأبدية، وأن نقدر من سلكوا هذا الطريق الشائك بدلاً من أن نعمل على تخطئتهم وتشويه سمعتهم؟ إن الحلّ الذي يراه سروش هو القول بان هذا النوع من الأحكام المتعلقة بالأمور الاجتماعية وحقوق الإنسان ليست أحكاماً دائمة، بشرط أن لا يكون في ذلك مخالفة لله وجرأة على رسوله، إنّه يقول صراحة، ودون أن يكون في كلامه جرأة على محبوبه، أو أن يتهمه ـ كما فعل البعض ـ بالتمويه، وأنه’ رغم علمه ببطلان هذه الأمور إلا أنه تمادى في ذلك مغتنماً جهل الناس، وإنما يقول: إن رسول الله’ بناءً على علمه قد صاغ الوحي الإلهي وشرح للناس أحكام الله الاجتماعية، وعليه يحتمل أن لا يكون ذلك الحكم أو الموضوع منطبقاً على عصرنا الحاضر.

ومع ذلك لا تخلو رؤية الدكتور سروش من الإشكال؛ فإنه يعتقد في هذه النظرية أن هناك اختلافاً بين لؤلؤ الوحي وصدفه، وذاتيّه وعرضيّه، وعليه أن يجيب عن الكثير من الأسئلة، ومنها:

السؤال الأول: ما هو المعيار الذي يساعدنا على التفكيك بين لؤلؤ الدين وصدفه؟ إذ هناك الكثير من الآراء المطروحة في هذا المجال، فقد ذكر ابن خلدون والفيض الكاشاني وإقبال اللاهوري آراء مختلفة في هذا الشأن.

والسؤال الثاني: مع وجود التداخل الوثيق والمتشعب في مسائل الوحي السياسية والاجتماعية بالأمور التي يراها السيد سروش أساسية وجوهرية في الوحي، مثل: الله، ويوم القيامة، والإيمان، والإنفاق، والجهاد، والخشوع، والزهد، والعبادة، فما هو المعيار الذي يساعدنا على التفكيك بين الأمور التي يمكن فيها الخطأ والأمور التي لا تقبل الخطأ في الوحي؟

والسؤال الثالث: إذا كان الجانب البشري والقابل للخطأ يؤثر في جزءٍ من كلام الله فما هي الضمانة في أن تقتصر هذه الأخطاء على السماوات السبع، ورجم الشياطين، وما إلى ذلك من الأمور التي ترونها من عرضيات الدين؟ ولماذا لا تنسبون خطأ التصوير إلى أجزاء الوحي الأخرى، كالذاتيات؟ فما هو الفرق بين تصوير الوحي من قبل الإنسان في الأمور العملية والاجتماعية وتصويره في أمور الوحي الجوهرية؟ فهل يخلع النبي في هذا المجال رداء بشريته ويرتديه في المجال الآخر؟

وعلى كل حال هذه أسئلة أساسية يتعين على الدكتور سروش إذا أراد إتمام نظريته وإخراجها في صيغتها النهائية أن يجيب عنها.

الهوامش 

_________________________________________

(*) باحث في الدراسات المذهبية النقدية، ومختصّ بعلوم القرآن والعقيدة.

([1]) الإمام الخميني، تفسير سورة الحمد: 106ـ118ـ124، انتشارات طباطبائي، قم، بي تا.

([2]) غرر الحكم: 442.

([3]) {يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرفَ القول غروراَ} [الأنعام: 112].

([4]) {إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121].

([5]) {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيّاً} [مريم: 11].

([6]) {إذ يوحي ربك إلى الملائكة} [الأنفال: 12].

([7]) {وأوحى في كلّ سماءٍ أمرها} [فصلت: 12].

([8]) {بأنّ ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5].

([9]) {وأوحى ربّك إلى النحل} [النحل: 68].

([10]) {وإذ أوحيتُ إلى الحواريين} [المائدة: 111]. {وأوحينا إلى أمّ موسى} [القصص: 7].

([11]) {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات}، [الأنبياء: 73].

([12]) جعفر السبحاني، الإلهيات والمعارف الإسلامية: 218 ـ 226، انتشارات شفق، 1370؛ ومحمد تقي مصباح يزدي، راهنما شناسي: 22، مركز مديريت حوزة علمية قم، 1367.

([13]) الشيخ المفيد، تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد أو شرح عقائد الصدوق: 99 ـ 100، منشورات الرضي، قم.

([14]) الطباطبائي، الشيعة في الاسلام: 140، دفتر انتشارات اسلامي، 1374.

([15]) الطباطبائي، نهاية الحكمة: 261، مؤسسة نشر اسلامي.

([16]) أبو نصر محمد الفارابي؛ السيد جعفر سجادي، سياسة المدينة الفاضلة 136:2، سازمان چاب وانتشارات، 1371.

([17]) أبو نصر محمد الفارابي؛ السيد جعفر سجادي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مكتبة طهوري، 1361.

([18]) تفسير سورة الحمد: 87.

([19]) تفسير سورة الحمد: 110.

([20]) محمد إقبال اللاهوري؛ أحمد آرام، إحياء الفكر الديني في الإسلام: 144ـ146، كتاب بايا، بي تا.

([21]) تاريخ ابن خلدون، 98:1، دار إحياء التراث العربي، بي تا.

([22]) الكليني، أصول الكافي 177:1.

([23]) الطوسي، رجال الكشي 19، ح44، جامعة مشهد، 1348.

([24]) ابن سينا، الشفاء من الإلهيات: 557ـ546، الفصل السابع.

([25]) مقدمة ابن خلدون: 870ـ871، محمد بروين كنابادي، شركت انتشارات علمي فرهنگي.

([26]) السيد جلال الدين آشتياني، شرح مقدمة القيصري: 620 و621، بوستان كتاب، قم، 1380.

([27]) المصدر السابق 5: 869.

([28]) ابن عربي، شرح فصوص الحكم 1: 74ـ75؛ أبو العلاء العفيفي، نصر الله حكمت، انتشارات إلهام، 1380ش.

([29]) شرح مقدمة القيصري: 590 ـ 591.

([30]) إحياء الفكر الديني في الإسلام: 146.

([31]) إحياء الفكر الديني في الإسلام: 34.

([32]) إحياء الفكر الديني في الإسلام: 24 ـ 30.

([33]) إحياء الفكر الديني في الإسلام: 144؛ راجع: أصول الكافي، الحديث الثاني، باب حقيقة الإيمان واليقين، في ما يتعلق بحارثة ومشاهداته.

([34]) الأنبياء: 5 و37؛ والصافات: 36.

([35]) سيرة ابن هشام 242:1، رفيع الدين إسحاق الهمداني، انتشارات دانشگاه طهران، بنياد فرهنگ إيران، 1359.

([36]) مقدمة ابن خلدون 187:1.

([37]) مقدمة ابن خلدون 185:1.

([38]) مقدمة ابن خلدون 1: 191 ـ 192.

([39]) تفسير سورة الحمد: 93.

([40]) عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوى 3: 3، مؤسسة فرهنگي سروش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً