أحدث المقالات

علم الكلام الجديد قراءة أوليّة

حيدر حب الله

مدخل:

يلعب علم الكلام الديني دوراً رئيسياً في المنظومة المعرفيّة لأيّ دينٍ كما يحتل مركزاً حسّاساً فيها، ومن الطبيعي وفقاً لهذه الموقعيّة التي يتميز بها أن يمثل التنامي أو التغييرات أو التعديلات الطارئة على هذا العلم تغيراً بنيوياً بالنسبة لكافة خطوط الخارطة المعرفية الأخرى، ومن هنا قد يكون هناك مجال للتحفظ إزاء عمليات إعادة النظر أو البناء التي تمارس في نطاق المسائل الفقهية والقانونية أو المسائل الأخلاقية والتربوية … وذلك بمعزل عن ملاحظة التعديلات التي طرأت وتطرأ أو التي لابد أن تطرأ على علم الكلام([1])، لأن هذا العلم يشتمل جملة المبادىء التصديقية للمعارف الأخرى، فلابد أن تكون الانطلاقة من القاعدة وصولاً حتى رأس الهرم دون العكس، إذ هذا ما تقتضيه طبيعة العلاقة بين هذه العلوم والمعارف، وهذا ما يفرض وضع التنمية الشاملة لعلم الكلام في موقعها الصحيح في سلّم الأولويات الفكرية والثقافية؛ لأن قضية إعادة ترتيب الأولويات بما يناسب الظروف الثقافية الراهنة وعدم التقيّد بالترتيب السابق لهذه الأولويات والذي اقتضته ظروفٌ سابقةٌ مختلفةٌ تعدّ واحدةً من أهم ما ينبغي تحديده للتوصّل إلى نموٍّ صحيحٍ بدلاً من التورّط بحالات تورّم.

ومن هنا نلاحظ أن الظروف ـ كما تؤكّد ذلك أعداد المصنفات وأعداد المتكلمين والفقهاء ـ التي فرضت شيئاً من تهميش الكلام لصالح الفقه والأصول منذ القرن التاسع الهجري، والتي ربما فرضتها الأوضاع السياسية التي رافقت أو أعقبت ظهور الدولة الصفويّة وفتحت ميدان السياسة والاجتماع أمام الفقهاء مما اضطرهم لإثبات حضورٍ قانونيٍّ فاعلٍ ساهم في ظلّ تسارع وتائر الظروف السياسية وغيرها إلى إعطاء أولويةٍ للعقل شكّل لدى البعض انحساراً لدور النص دفعه لثورةٍ على هذا الواقع دفاعاً عن التراث من الضياع، فتعززت بذلك صراعاتٌ واسعةٌ أخذت الأولوية آنذاك وتمركزت في السياق الأصولي والفقهي الأخباري والاجتهادي على حساب المجال الكلامي ونحوه، هذه الظروف قد تغيّرت ـ كما سنلاحظ ـ وصارت تستدعي اهتماماً مناسباً أكثر ـ وليس من الضروري أن يكون أكبر نسبياً ـ بالمسائل الكلامية.

وفي هذا السياق يأتي مشروع علم الكلام الجديد والذي جرى ويجري التركيز عليه في المحافل الفكرية والدينية المعاصرة سيما في العقد الميلادي الأخير، إذ يحاول هذا المشروع أن يضع حداً لحالات الركود التي سيطرت على الدراسات الكلامية في القرون الأخيرة ويعيد بعث النتاج الكلامي من جديد ضمن آليات عمل متناغمة مع تطوّرات المعرفة الإنسانية سيما الحاصلة بفعل تأثيرات العاصفة الغربية التي ضربت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وذلك بهدف تحقيق التنمية الفكرية لهذا العلم ووضعه في سياقه المناسب له فعلاً.

 

آفاقالتجديدفيعلمالكلام :

هناك رؤيةٌ([2]) تؤمن بأن التجديد في علم الكلام هو بتحويل الجهد الكلامي إلى مؤسّسة أو مأسسة علم الكلام وذلك من خلال الاهتمام بمجموعة أمورٍ من قبيل تشكيل مؤسّسات ولجان لتصحيح التراث الكلامي وإخراجه من المكتبات القديمة ومن عالم المخطوطات وتحقيق هذه الكتب وطباعتها طباعةً عصريةً، وكذلك إقامة المؤتمرات الدورية والملتقيات والمنتديات التي تُعنى بالفكر الكلامي، وتأسيس مكتباتٍ كلاميّةٍ متخصّصةٍ تتوفر فيها جميع المصادر والمراجع الكلامية القديمة والحديثة، وكذلك تأسيس بنوكِ معلوماتيةٍ كلاميّةٍ يسهّل على الباحثين المادة الكلامية، وتحويل علم الكلام إلى عالم الانترنت والكمبيوتر ونحوها، وبالإضافة إلى كلّ ذلك الاهتمام بالإصدارات الكلامية المتخصّصة من مجلاّتٍ ونشريّاتٍ ودوريّات، وكذلك تهيئة معاجم مفهرسة ومعاجم مصطلحات ودائرة معارف وموسوعة، كما تجدر الإشارة هنا إلى دور مراكز الترجمة التي تنقل الفكر الآخر كما تعرّف الآخر بالفكر الكلامي الإسلامي و… وهكذا ـ وسيّما على المستوى الحوزوي ـ من الضروري تأسيس مراكز تعليمية تتخذ الكلام مادةً أساسيةً وتُلحق بها ما صار يلاصقها من علومٍ ومعارف أخرى كعلم المعرفة والنفس والهرمنيوطيقيا والاجتماع والألسنية وتاريخ العلوم والأسطورة و… وغير ذلك من المشاريع والبرامج الكثيرة.

هذه الرؤية موجودة لدى الكثيرين اليوم سواءٌ صرّحوا بذلك في كتاباتٍ أو لا، فهي رؤيةٌ يعيشها الكثير من الذين يحملون الهمَّ الفكري على الصعيد الديني عموماً.

ومع القبول الكامل لهذا المشروع الكبير والذي توجد نشاطاتٌ واسعةٌ اليوم وموفقةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ تتحرّك في إطاره، إلا أن الذي ينبغي ملاحظته هو أن التجدّد والتغيّر الذي حصل يستدعي إصلاحاتٍ كبيرةٍ وعميقةٍ في العقل الكلامي نفسه، فالملاحظ أنّ التجدد الذي حصل كان على أكثر من مستوى وعلى أكثر من صعيد مما يمكن إيجازه هنا:

1 ـ تجدّد المسائل فإن قسماً كبيراً من مسائل علم الكلام لم يعد له اليوم وجودٌ بمعنى أنّه لم يعد يشكّل القضية التي تشغل اهتمام الباحثين والمفكّرين بل إن بعض الأفكار والأدلة والرؤى صار بطلانها اليوم غير محتاجٍ إلى توجيهٍ وتفسيرٍ نظراً إلى انهيار كل الأعمدة التي انبنت عليها تلك الأفكار عبر الزمن، بل إن مذاهب ومدارس كلامية بأكملها صار حالها كذلك وهذا أمر طبيعي ومترقب، وفي مقابل كل ذلك ظهرت أفكارٌ جديدةٌ ومذاهب كلامية جديدة قد يصح لنا أن نقول إنها أكثر بكثير مما ذهب وتنحّى عن حلبة الصراع، وهذه الاتجاهات لم تستخدم نفس آليات البحث التي كان يتم الاعتماد عليها سابقاً بل استقت لنفسها أنماط تفكيرٍ أخرى، وهذا تحوّلٌ جذريٌّ وأساسيٌّ في مساحات العمل وأفق التفكير الطارئة على علم الكلام.

2 ـ تجدد المبادىء بمعنى أن كثيراً من دراسات علم المعرفة والوجود وكذلك العلوم الإنسانية والطبيعية والأبحاث الرياضية قد تبدّلت وتغيّرت من أساسها، ومن هنا فإن بقعةً كبيرةً من اهتمامات وأدلّة ونقاشات المتكلّمين صارت بلا معنى في ظلّ التحولات العلمية العظيمة، وهذا نحوّ مهمٌّ من أنحاء التجدّد الحاصل.

3 ـ تجدّد المنهج وهو أهم أنواع التجدّد فقد كان المنهج المتبع سابقاً في علم الكلام ـ وسنشير إلى ذلك لاحقاً ـ هو المنهج الجدلي القائم على القضايا المسلمة والمشهورة لدى الطرفين، ثم حصل تطوّرٌ في زمن نصير الدين الطوسي وفخر الدين الرازي تمّ على إثره حصول التزاوج بين الفلسفة والكلام بعد قرونٍ من التخاصم. أما اليوم ففضلاً عن أن الفلسفة نفسها قد خضعت لتحولاتٍ بنيويةٍ ـ مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات العالمية لها ـ فإن العلوم الأخرى قد تعرضت هي الأخرى أيضاً لانقلاباتٍ منهجيّةٍ، بل صار المنهج نفسه عرضةً للنقد والتحليل أيضاً، وهذا كلّه يستدعي موقفاً عملياً من الكلام المعاصر تجاهه.

فالمسألة هي مسألة العقل الكلامي بالدرجة الأولى، والتحوّلات الموجودة تستدعي تطوير هذا العقل بصورةٍ أساسيّةٍ.

4 ـ التجدّد في الهندسة المعرفية([3]) فالتغييرات التي تعرّضت العلوم لها لم تكن محصورةً في نطاق المسائل والمنهج والمبادىء بل تعدّتها لتشمل مجموع هذه الأمور، أي وصل التحوّل إلى مرحلةٍ أشبه بالكلّية والشاملة فصارت بنية العلم هي المتحوّلة والمعدّلة، وهذا أيضاً واقعٌ يُطالب علم الكلام بتقديم أجوبةٍ عمليّةٍ لنفسه عنه.

ومن هناـ وبملاحظة ما سيأتي أيضاً ـ فإن التجديد في علم الكلام أو علم الكلام الجديد هو من العمق والسعة بمكانٍ لا تفي به مجرّد بناء المؤسّسات بالشكل المتقدّم وإن كانت لازمةً له.

إنّ التعديلات المنصبة على العقل المتحكّم في علمٍ ما هي من أهم التعديلات الجوهريّة في أيّ علمٍ من العلوم؛ لأنّ كافّة التعديلات الأخرى إنّما تمثّل تطويرات جانبية إذا ما قيست برتبة العقل العلمي نفسه، والتعديل المتوجّه إلى العقل العلمي يمكنه بدرجةٍ أكبر أن يمنح المفكّر نمط معالجةٍ مختلفٍ وأسلوباً تحليلياً آخر وخطّاً منهجياً جديداً وأفقاً أكثر سعةً ورحابةً، والأفق والمنهج والمدى أمورٌ لا تتعلّق بالكمّ المعرفي بقدر ما تتعلّق بالمستوى العلمي نفسه.

 

عرض  موجز  لتاريخ  علم  الكلام  الجديد

تعود بذور التفكير الكلامي الجديد على الساحة الإسلامية إلى القرن التاسع عشر الميلادي؛ أي إلى زمن شروع التحديات الفكرية والثقافية الغربية التي رافقت الاستعمار الغربي الفرنسي والبريطاني للعالم الإسلامي. وقد كان للمستشرقين دورٌ فاعلٌ في تكوين هذا الجوّ العام نتيجة الانتقادات الحادّة التي وجّهوها إلى كافة مرافق الفكر الإسلامي لا سيما السنّة النبوية الشريفة، وقد انبرى جيلٌ من العلماء في تلك الفترة لمواجهة هذا الواقع الفكري المرفوض في الوسط الديني، وكان أبرز هؤلاء السيد جمال الدين الأفغاني في ردّه على الدهريين، وجاء بعد ذلك جيلٌ آخر تمثل بالشيخ محمّد عبده والشيخ محمد رشيد رضا وغيرهم فسجّلوا أبحاث هامة على هذا الصعيد، إلى أن وصل الحال إلى أمثال العلامة الطباطبائي وتلميذه الشهيد مرتضى مطهري والى الدكتور علي شريعتي وسيد قطب والسيد محمد باقر الصدر ومالك بن نبي وغيرهم فأغنوا علم الكلام بالكثير من الدراسات والأبحاث القيّمة مع عشراتٍ من العلماء الآخرين في شتّى أنحاء العالم الإسلامي.

وقد أدّى انتصار الثورة الإسلامية في إيران ـ كما يشير إليه بعض الباحثين([4]) ـ إلى تشكّل واقعٍ ضاغطٍ على علم الكلام؛ فأثيرت وبصورةٍ مكثّفةٍ العديد من التساؤلات الكلامية على أكثر من صعيد، وقد دفع هذا الأمر إلى تعاظم حجم المسؤوليات الملقاة على كاهل هذا العلم فانبرت جماعةٌ من العلماء لسدّ الثغرة الحاصلة وأثّر ذلك في حدوث تطوّرات متسارعة على هذا الصعيد.

لقد أدّى انتصار الثورة الإسلامية في إيران وما تلاه من حركةٍ إسلاميةٍ عالميّةٍ في شتّى البلدان إلى تحوّل المشكلات الكلامية من طابع الإجابة عن أسئلةٍ واستفهاماتٍ وملاحظاتٍ أثارتها ظاهرة الاستشراق أو الظاهرة العلمانية والقومية المتعاظمة أو التيار الماركسي… إلى تقديم صياغاتٍ متكاملةٍ لمشاريع فكرية كبرى صارت تمثّل تحدّيات، فلم تعد القضية بحيث إنّنا نجيب عن تساؤلٍ وإشكاليّةٍ واردةٍ، وإنما صارت هناك مسؤوليةٌ جديّةٌ لتقديم مكوَّنٍ متكاملٍ في موضوعةٍ ما؛ فالظاهرة الدينية ككل صارت بحاجةٍ إلى تفسيرٍ فلسفيٍّ متكاملٍ وشاملٍ، وموضوعة المرأة ليست كامنةً في إشكاليّة الحجاب أو الستر… وإنّما في عرض نظريةٍ متكاملةٍ متناغمةٍ متناسقةٍ حول هذا العنصر البشري.

هذا التحدي ضغط بثقله على النشاط الكلامي عقيب المد الإسلامي سيما بعد حرب الخليج الثانية التي أعادت رسم الخرائط في المنطقة الإسلامية التي لا ينعزل عنها وعن أحداثها علم الكلام، فحال علم الكلام الجديد ما قبل الثمانينات وما بعدها كحال علم الكلام القديم قبل الطوسي والغزالي والفخر الرازي و… وبعدهم، أو كحال علم الحديث قبل الموسوعات الكبرى كالكافي والبخاري و… وبعد هذه الموسوعات.

وظائف  الكلام  الجديد:

إن الوظائف الرئيسية التي يمارسها علم الكلام تتمثل ـ وفق ملاحظات جملة من الباحثين([5]) ـ في أمور ثلاثة:

أ ـ محاولة شرح وتبيين المفاهيم الاعتقادية بالصورة المناسبة القادرة على احتواء واستيعاب المضمون إلى أبعد الحدود ونقله بأمانةٍ ودقّةٍ، وبالتالي تحجيم وتقليص الأخطاء والاشتباهات التي يمكن أن يسببها سوء أو قصور الخطاب والعرض الكلامي، ويأتي هنا دور تحديد المصطلح السليم الذي يبعد عن حدوث التداخلات والاختلاطات بحيث يعكس بوضوح ما يريد أن يحكي عنه بأقلّ قدر ممكن من الانفلاش والتضيّق.

ب ـ محاولة إثبات المفاهيم الاعتقادية وإقامة الأدلة والبراهين عليها من خلال توظيف مختلف أنواع الإثبات المنطقية والمعتبرة قياساً واستقراءاً و.. على المستوى العقلي أو النصّي أو التاريخي أو التجريبي أو …

ج ـ محاولة رد ودفع الاشكالات والشبهات الموجّهة إلى المعتقدات الدينية والمذهبية.

ويعتقد هؤلاء الباحثين أنّه لو قبلنا بعلم الكلام الجديد أو رفضناه فإن الوظائف المتوجبة على علم الكلام اليوم هي نفسها الوظائف التقليدية الثلاث المتقدمة.

وهذا التوصيف أو تلك التوصية كأنها تفترض مسبقاً انتهاء علم الكلام من البناء الاعتقادي ومن ثم هو يقوم أو يجب أن يقوم بتبيينه أو إقامة الدليل عليه أو الدفاع عنه بردّ الانتقادات الموجّهة إليه، وهذا يستدعي أن يكون ثبوت المعتقد الديني أو المذهبي لدى العقل الكلامي أمراً مفروغاً عنه، ويُراد لعلم الكلام أن يعرضه أو يبرهن عليه للآخر، وهذا يتطلّب معرفياً أن نكون قد هيئنا ما يجهّز لعلم الكلام هذه المعتقدات ليقوم بدور خدمتها، لأن المتكلم إذا خرج بنتيجةٍ تعارض المعتقد المذهبي مثلاً فإنه سيخرج عن دائرة الكلام؛ أي عن دائرة الأنا إلى دائرة الآخر وبالتالي سيتم اعتباره خارجاً عن حريم علم الكلام؛ لأن هذا العلم قد افترض فيه شيءٌ من الالتزام والتعهّد، وهذا خللٌ منهجيٌّ علمياً لأن أهمّ خصيصةٍ من خصائص العلمية اليوم هي خصيصة الموضوعية وإقصاء الاسقاطات الذاتية والفئوية على الموضوع مادة البحث، فما لم يكن هناك علمٌ سابقٌ على علم الكلام قادرٌ على تأمين المبادىء التصديقيّة له بما في ذلك المعتقد نفسه الذي يدافع عنه علم الكلام ـ وفرض علمٍ كهذا لا يخلو من مشكلات ـ فإن الكلام سوف يفقد المصداقية المعرفية التي يراد له أن يتمتّع بها، لا بمعنى إقحام الدوافع الذاتية للباحث في حكمنا على بحثه بما لا نجد مبرراً صحيحاً له بل بمعنى أن البنية الداخلية للعلم نفسه إذا أريد له أن يكون ديناميكياً تتطلّب عدم افتراض قبليات لم يجر تأمينها من قبل، وبالتالي فنحن بحاجةٍ إلى كلام ديني ليس غرضه ـ من ناحية علمية صرفة لا دينية ـ الدفاع عن الدين بل غرضه البحث حول الدين.

وهذا التعديل في وظيفة علم الكلام يمكنه أن يؤمّن له:

أ ـ ديناميكيّة فعّالة ناتجة عن إفساح المجال للتعددية الفكرية في النطاق الكلامي، وبالتالي إفساح المجال لتقبّل أي تطوير جوهري، لأن تكثير الخطوط الحمراء من الناحية العلمية يضر بتقدّم العلم تقدماً ملحوظاً.

ب ـ توسيع نطاق الأنا العلمي الأمر الذي يفعّل من النقد الذاتي البنّاء لأن الباحث لم يعد بحاجةٍ إلى تقمّص شخصيةٍ أخرى عندما يريد نقد الكلام الإسلامي أو اليهودي أو … ، أمّا علم الكلام بشكله الحالي فإنه يضيّق من مساحة النقد الذاتي إذ يفترض أن قسماً كبيراً من عمليات النقد هي عمليات خارجية أي من الخارج لأنها تنقد الدين أو المذهب لا داخلية، وهذا قد يفقد علم الكلام في تركيبته الداخلية فرصاً للنقد الذاتي والتنقل بين الأفكار بحريةٍ أكبر نتيجةً لذلك، الأمر الذي صار ضرورةً لنموّ أيّ علمٍ.

المثال التقريبي الذي يمكن توظيفه هنا لتأكيد هذه الفكرة هو المسائل الجزئية الكلامية التي وقع اختلافٌ كبيرٌ بين المتكلّمين فيها؛ فمثلاً مسألة البدن الذي يرافق الإنسان في عالم البرزخ هل هو بدنٌ جسماني أو مثالي أو … في علم الكلام الشيعي لا يشعر المتكلّمون بأنّ الذي يرفض مقولتهم في هذه المسألة خارجٌ عن علم الكلام الشيعي بل يرونه متكلّماً شيعياً أي هو متخصّص في علم الكلام الشيعي، أما إذا دخلت المسألة حيز المسائل الجوهريّة والأساسيّة كمسألة الإمامة بعد الرسول (ص) فإن النتائج التي يخرج بها المتكلّم تجعله مصنّفاً على جهةٍ دون أخرى، وبالتالي فهو خارجٌ عن إطار الكلام الشيعي؛ لأن تشيع المتكلّم كأنّه جزءٌ دخيلٌ في قبوله كمتكلّم شيعي أي كأحد علماء علم الكلام الشيعي، أمّا في الطب فالقضية ليست كذلك؛ فإيمان الطبيب بأيّ فكرةٍ لا يصنّفه إلا في حدود كونه مؤمناً بهذا الاتجاه الفكري لا أكثر.

ومن هنا فإذا أريد لعلم الكلام الجديد أن يتجاوز عقبة الاسقاطات والتطويع التي ابتليت بها المذاهب والمدارس الكلامية عليه أن يجري تعديلاً أساسياً ـ فيما أظن ـ في التوظيفات التي يراد استخدام علم الكلام فيها عبر تحويله من علم ملتزم مدافع إلى علم باحث محقّق من دون أن يلزمنا ذلك رفع اليد عن دينٍ أو مذهبٍ ما، فالحديث هنا يدور حول نمو علمٍ لا خدمة دينٍ وان كان نموّ هذا العلم على المدى البعيد يصبّ في خدمة الدين لا محالة.

إن الواقع التاريخي لعلم الكلام يدلّل بوضوح على أن هذا العلم قد اكتسب صبغةً ذرائعيّةً واتخذ لنفسه موقعيّةً دفاعيّةً، وليس معنى ذلك هو أنّ القضايا الكلامية هي بحدّ ذاتها قضايا ذرائعيّة غير قابلة للمحاكمة بمعزلٍ عن هذه النزعة وهذه الهادفية، فإنّ القضايا الكلامية هي كأي قضايا ذات طابع علمي، إنّما المسألة هي في المسير الذي اتخذه المتكلّمون عبر التاريخ والذين لا يمكننا فصلهم تاريخياً عن القضايا والمعادلات الكلامية، وهذا يعني أنّ القول بأن علم الكلام لم يكن علماً دفاعيّاً ملتزماً هو قول يحاول في قراءةٍ تاريخيةٍ واحدةٍ أن يفصل بين القضايا المنتجة وبين وسائل الإنتاج التي تتمثّل في المتكلّمين أنفسهم، إنّ هذا الفصل هو مفارقةٌ منهجيةٌ؛ فنحن نتكلّم عن علم الكلام كظاهرةٍ تاريخيةٍ وليس عن القضايا الكلامية مجرّدةً عن أي ملابسات.

نعم يمكن تجريد هذه القضايا عن هذا الطابع وهذا يعني أنّ الدراسات الكلامية ليست لصيقةً بالمنهج الذرائعي الملتزم، وبالتالي فلا يعني الخروج من هذا الإطار الهادفي ـ الذي التصق تاريخياً لا واقعياً وعلمياً بعلم الكلام واستبداله بإطارٍ آخر من دون أن يؤدّي ذلك إلى نوعٍ من إفراغ هذا العلم من محتواه أو إجراء تبديل جوهري فيه ـ تشويهاً لهذا العلم.

لقد كان يرجى بعد عملية فلسفة الكلام ـ أي جعله فلسفياً ـ والتي حصلت على يد نصير الدين الطوسي أن يحدث هذا الأمر، ولعل بعض آثار هذا الحدث قد تجلّت في علم الكلام وهو أمر يحتاج إلى دراسة؛ فهل كان هذا الاندماج لصالح الكلام وكيف؟ لكن من المؤكّد أن علم الكلام لم يستطع أن يتحلّى بالاستقلاليّة العلمية التامة بل كان ـ كعلم الفلسفة ـ يعيش قلق التوافق مع النص، ومن هنا توجّه الدعوة إلى إنشاء الكلام الفلسفي([6]) بغية تحقيق فرص نموٍّ أكبر لهذا العلم، ونقصد بـ “الفلسفي” في هذه التسمية صيرورة المنهج الكلامي فلسفياً يستهدف الحقيقة دون أن يصادرها في إطارٍ أو غيره بصورةٍ مسبقةٍ كما هو الحال في المنهج الكلامي المعروف تاريخياً والذي يفترض الحقيقة في جانبٍ من الجوانب ثم يتحرّك على أساس الدفاع عنها.

إنّ فلسفة علم الكلام بهذا المعنى يمكنها أن تعطي هذا العلم الإمكانية الداخلية لعمليات إعادة النظر المتواصلة، وبالتالي الحدّ من التجمّد على أخطاء لا مجال لتجاوزها، كما توسّع من التنوّعات الفكرية والثقافية داخل منظومة هذا العلم، ممّا يمنحه مزيداً من الحيوية والإثمار.

 

الكلام  الجديد  بين  الإثبات  والنفي  ــ  إشكالية  التسمية:

الذي يبدو وكما صرّح به بعض الباحثين المتتبعين أن تسمية «علم الكلام الجديد» هي تسمية إسلامية ولم تعهدها الدراسات الكلامية الغربية لا اليهودية ولا المسيحية([7])، وقد جرى استخدام هذه التسمية للمرة الأولى من قبل الباحث الهندي شبلي النعماني (1274 ـ 1332هـ ق) في كتابه «علم الكلام الجديد»([8]) وإن كان يبدو منه أن هذا الاستعمال كان موجوداً في تلك الفترة في بلاد مصر والشام وغيرها أيضاً، وقد طرح الشهيد مرتضى مطهري هذه التسمية أيضاً وترك طرحه لها أثراً في تكون هذا المشروع؛ حيث تمّ تداول هذا المصطلح في العقد الميلادي الأخير على نطاقٍ واسعٍ سيما في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث تمّ تشكيل مادة دراسية تحت هذا العنوان في جامعة طهران، وقامت بعض الدروس تحت العنوان نفسه وكذلك بعض الملتقيات في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة.

كما استخدم الدكتور حسن حنفي أيضاً مصطلح علم أصول الدين الجديد في إطار مشروعه الشامل([9]). واعتبر مشروعه في هذا الكتاب ونحوه علم كلام جديد ([10]).

وقد وقعت هذه التسمية موقعاً للجدل فتحفّظ عليها البعض من أمثال الأستاذ الشيخ عبد الله الجوادي الآملي استناداً إلى عدم وجود مبرّرات لها مستوحين من التسمية ثنائية القطيعة بين الجديد والقديم، فيما دافع آخرون عنها لاعتباراتٍ عدّةٍ من امثال أحمد فرامرز قراملكي ومحمد اسفندياري.

هذا القلق أو ذاك الإصرار لا يلغي أن هذه التسمية صارت بمثابة الأمر الواقع؛ فالجميع بات يستخدمها اليوم مهما كان موقفه منها، وبالتالي فإن هذا المصطلح قد دخل بالفعل قاموس المعرفة الدينية وصار لابد من تحديد موقف حياله.

ولا يعني الخلاف في التسمية خلافاً في الكلمة واللغة وإنما يقوم أو يجب أن يقوم على خلفية واقع لهذا العلم، فهل هو شيءٌ آخر غير الكلام القديم يستدعي هذه الثنائية معه أو أنه هو نفسه مع تراكم المسائل والأبحاث مما هو طبيعيٌّ في كلّ علم؟

القضية هي انه ووفقاً لمقولة أنّ علم الكلام قد توقّف نموّه وغطّ في سباتٍ عميقٍ منذ القرن التاسع الهجري ومع غض النظر عن المشروعات الإحيائية التي ظهرت منذ أواسط القرن التاسع عشر الميلادي نظراً لافتقاد الكثير منها اليوم للمواصفات المطلوبة … فإن العقل الكلامي المعاصر سيتواجه مواجهةً حادّةً ـ وربما تصادمية أحياناً ـ مع الموروث الكلامي نظراً للفجوة الكبيرة التي تسبّب بها ركود هذا العلم، هذه الفاصلة أحدثت تغيراً في الهوية يبرّر التسمية والسعي لتأسيس علمٍ جديدٍ.

هذه الفجوة تفضي عادةً إلى تشوّهاتٍ حادةٍ في النتاج الكلامي اليوم وفقاً لما تستدعيه عيوب فترة الانتقال كأمر قد يصح لنا أن نعبر عنه بالمحتوم ليس في علم الكلام فحسب بل في مجمل العلوم الإنسانية.

وتمثل القطيعة مع الموروث الكلامي واحدةً من أبرز أشكال هذه النتوءات، فقد اتسمت الكثير من الأفكار والمشاريع الأخيرة في القرنين الأخيرين بطابع القطيعة هذه مما أفضى إلى طفو وبروز الثنائية التقليدية التي عرفها عالمنا الإسلامي وهي ثنائية القديم والجديد والتقليدي والحداثي والثابت والمتحوّل كعنصرين منفصلين يصعب وضع الجسور بينهما ليشكل أحدهما الامتداد الطبيعي للآخر، والتحقيب المتقدّم لعلم الكلام يكشف عن حدوث فراغٍ في العقل الكلامي في نفس الفترة التي بدأت فيها عمليات ظهور ونفوذ الفكر الآخر إلى بنية العقل الإسلامي بل والديني ككل مما أحدث فاصلةً جامدةً بين الموروث القديم المبتني على تداعيات فكرية خاصة والنتاج الحديث المنبثق من عمليات تلاقح شديدة ذات طابع جوهري وبنيوي في تأثيراتها، وهذا ما عزز أكثر الثنائية المذكورة في علم الكلام بالخصوص ودعم فرص هذه القطيعة…

وأمام هذا الواقع يقف الكلام المعاصر عند مفترق طرق؛ فالنزوع الطبيعي نحو الموروث وضرورة إلغاء القطيعة معه وأهمية الشروع من حيث وقف الآخر لا من حيث انطلق وأمورٌ أخرى تسوق علم الكلام نحو عملية إعادة بعث لتاريخه ومن ثم إعادة إنتاج ذاته وفقاً لذلك … لكن على خطٍّ آخر فإن من الضروري هنا تنحية الخطاب الموروث عندنا والذي يتداول عملية التواصل مع الماضي أحياناً كخطابٍ تعبويٍّ ثورويٍّ أكثر منه خطاب علمي، وكنتيجةٍ لهذا الإقصاء للخطاب التعبوي هنا تبرز الحاجة لدراسة الفرص الواقعية التي تؤكّد منطقية ـ لا عبثية ـ محاولة العودة للتراث كأساسٍ أوليٍّ لأي تغيير لا مجرد عنصر مساعد، وهل هناك ما يحل المشكلة في هذه الخطوة؟ هل سنتقدم خطوة أو خطوات إلى الأمام نتيجةً لذلك أم أنّنا سنعيد اجترار الماضي بأسلوبٍ آخر كما حصل أحياناً في مجالات أخرى؟

وهكذا نجد أن هناك ما يبرّر التسمية إلى حدٍّ ما إذا ما استطعنا أن نحدّد الجواب على السؤال المتقدم، فهل التغيير الحاصل في المبادىء والمسائل والمنهج بل والهندسة المعرفية سيسمح بإعطاء الأولويّة للكلام القديم في الاستمداد منه كمصدرٍ وحيدٍ وأساس؟

إنّ واقع التغيرات الشاملة التي حصلت يمكن القول بأنها شطرت الكلام القديم وتشطره من جهة كما أنها تلغي ثمار كثيرٍ من أبحاثه من جهةٍ أخرى، فالدراسات السياسية ودراسات علم الاجتماع وعلم النفس اليوم كم تهمّش من أبحاث أساسيّة في الكلام سيما فيما يرتبط بأنظمة الحكم وأنماط تشكّلها، كما أفرغ علم الفقه والأخلاق الكلام من مساحاتٍ واسعةٍ من عمله، وعاد التداخل الذي فرضته الفلسفة في أبحاث من قبيل أبحاث الوجود بمثابة المبادىء التي يستمدّها علم الكلام من غيره بدل أن يعالجها هو والفلسفة معاً، بل إنّ العلوم الطبيعية الحالية قد سلخت عن علم الكلام حيزاً مهماً كان يشغله وأفرغت كثيراً من تصوّراته من مضمونها وهكذا.

فالحقيقة أن ما يريد أن يسعى له الكلام الجديد قد لا ينفعه فيه الكلام القديم إلا كعنصرٍ من عناصر الإمداد إلى جانب عناصر أخرى، فمن المعلوم أن التجربة المسيحية في الصراع مع الماديين والاتجاهات الفكرية المعارضة أو المتقاطعة مع الدين في الغرب أو غير الغرب يمكنها أن تمدّ الكلام الجديد بالكثير من الثراء والمعلومات، وهي تجربةٌ تستحقّ أن تقرأ، ومع ذلك فهذا لا يجعل الكلام الجديد في الإطار الإسلامي امتداداً له في الإطار المسيحي وهكذا العكس.

بهذا السياق يتمّ الميل لصالح الاحتفاظ بالمصطلح من دون أن نخسر الماضي كعنصرٍ مهمٍّ من عناصر المدّ والاستقاء.

وفي قبال ذلك تقف وجهة النظر المعارضة لهذه التسمية لتؤكّد عدم وجود المبرر لهذه الطفرة ولتشدّد على أن ما طرأ ويطرأ لا يصل إلى درجة تأسيس علمٍ في قبال علم الكلام القديم.

وقد ذكرت ثلاثة وجوهٍ مقرّبةٍ لنفي موضوعية هذه التسمية وهي:

1 ـ إنّ تمايز العلوم إنّما يكون بالأغراض لا بالموضوعات لعدم موضوعٍ لبعض العلوم كعلم الكلام، ولا بالمنهج لاشتراك سلسلة علومٍ في منهجٍ واحدٍ أحياناً كالمنهج التجريبي بالنسبة إلى جملةٍ مهمّةٍ من العلوم الطبيعية، ووفقاً لذلك سوف لن يكون هناك أيّ مبرّرٍ منطقيٍّ للشروع في علم جديد مادامت الأغراض المترقّبة من علم الكلام الجديد هي بعينها الأغراض المنتظرة من علم الكلام القديم؛ وهي تبيين وإثبات المعتقدات الدينية والمذهبية ومن ثَمّ الدفاع عنها. ([11]).

لكن هذا الوجه يمكن أن يلاحظ عليه ـ تبعاً لما اقترح آنفاً من التعديل الوظائفي لعلم الكلام ـ أن الغرض من علم الكلام الجديد ليس متطابقاً مع الغرض من علم الكلام القديم وهذا ما يبرّر لنا ثنائية القديم والجديد هنا؛ لأن الدفاع عن الدين أو المذهب كان السمة الطابعة على هدف الكلام القديم بيد أن ما يطبع الكلام الجديد إنما هو خاصية البحث في المعتقد لا الدفاع عنه، وهذا لا يمنع من أن يدافع كل من يصل إلى نتيجةٍ عن تلك النتيجة التي توصّل إليها، فهذه هي سمة كافة العلوم والمعارف من دون أن يؤثّر ذلك في تحويل تلك العلوم من علوم مستوعبة لكافّة التوجهات إلى علومٍ منحصرةٍ في توجّهٍ دينيٍّ أو مذهبيٍّ معينٍ، وأظن أنّ هذا الفارق الجوهري في الغرض يكفي لرفع الحيثية المذكورة في هذا الوجه.

2 ـ إن فرضية الكلام القديم والجديد ترجع في الحقيقة إلى وقوع التباسٍ بين علم فلسفة الدين وعلم الكلام أو الإلهيات، فعلم فلسفة الدين يمتاز بمنهجه الفلسفي في قراءة الدين كما انه يطلّ على الظاهرة الدينية إطلالة محايدة، بمعنى أن الفيلسوف الديني لا يفترض نفسه من اتباع دين معين ثم يتكفل ويتعهد بالدفاع عن هذا الدين وانما يقرأ كل الاديان بنظرةٍ واحدةٍ متجاهلاً خاصية الحقانية والبطلان فيها، وهذا ما لا نلاحظه أبداً في علم الكلام، وعليه فإذا نجحنا في القيام بعملية فرزٍ لهذين العلمين فإننا لن نجد حينئذ فارقاً وجيهاً بين الكلام القديم والجديد لا في الموضوع ولا في المنهج بل ولا في الغاية ([12]).

ونحن هنا لو صرفنا النظر عن الرأي القائل بأن ما يتسمّى في الغرب بفلسفة الدين هو نفسه مشروع الكلام الجديد كما يراه اسفندياري، فإنه ووفقاً لما ذكرناه من التعديل الوظيفي للكلام لا يكون هذا الوجه صحيحاً؛ لأن علم فلسفة الدين كغيره من الفلسفات المضافة يقرأ الدين قراءة خارجية لا تستهدف التوصّل الى نتائج لصالح هذا الطرف أو ذاك، وهذا ما لا نراه أصلاً في علم الكلام الجديد فهو يستهدف الوصول الى الحقيقة الدينية والمذهبية المتوفرة وهو بهذا يصبح جزءاً من العلوم الداخلية لا الخارجية، وتبعاً لذلك سيبقى الفاصل المطروح بين الكلام القديم والجديد على حاله مبرِّراً لهذه الثنائية.

3 ـ نحن نفترض ـ وهو افتراضٌ صحيحٌ ـ أن تغييراتٍ طرأت على علم الكلام ليس في حدود المسائل والمفردات فحسب وإنما حتى في دائرة الأسلوب والمنهج، لكن هذا كلّه لا يبرّر استحداث علمٍ جديدٍ وذلك يتضح من خلال مراقبتنا لعلمٍ كعلم الفقه، فالجميع يعرف أن هذا العلم كيف كان  في القرون الأربعة الهجرية الأولى وكيف هو اليوم وكم طرأ عليه من تحوّلاتٍ بنيويةٍ في نطاق المنهج والأسلوب والمواضيع وغير ذلك، لكن مع ذلك لم يسمح الفقهاء لأنفسهم بإبراز تقسيمٍ ثنائيٍّ على غرار التقسيم المقترح لعلم الكلام، وهكذا الحال في علم الكيمياء أو الرياضيات…، وهذا ما يدفعنا إلى إبراز إشكاليّةٍ في هذا التقسيم تتمحور حول الضابط الموضوعي لجدِة علم الكلام؛ لأنه بدون هذا الضابط المحدّد سوف يصحّ لنا أن نفترض علوماً كلامية عديدة لأن كل حقبةٍ زمنيّةٍ تشتمل لا محالة على تغييراتٍ في هذا العلم تسمح لنا بالتالي بوصفه بالجديد ([13]).

وأعتقد أن هذا الوجه يركّز كثيراً على وصف الجِدة والحداثة المأخوذ في التسمية في حين أنّ المطلوب هو التركيز على الفارق بين العلمين مهما كانت التسمية، فعلم الفقه لم يتبدّل فعلاً تبدّلاً جوهرياً على مستوى الهندسة المعرفية كما هو الحال في المقترح هنا، وعلوم الرياضيات أو غيرها تتعامل فعلاً بقطيعةٍ ما إزاء الرياضيات القديمة وهكذا…، وبعبارةٍ أخرى هناك فرقٌ بين أن يمثّل علمٌ ما امتداداً طبيعياً لعلمٍ سابقٍ منقرضٍ عملياً بحيث يقوم على أنقاضه وبين أن يكون تعبيراً عنه نفسه في مرحلةٍ زمنيةٍ متقدمةٍ، وما نريده هنا هو معرفة أنّ أمثال علم الرياضيات الحديثة هل قام على أنقاض العلم القديم بحيث إنّ المعرفة الرياضية القديمة لم يعد لها حضورٌ في الرياضيات الحديثة أصلاً لا على مستوى المنهج ولا على مستوى الأسلوب أو الخارطة المعرفية كلها أم لا سواءٌ أطلق الرياضيون على الرياضيات الحديثة تسميةً معاصرةً أو لم يفعلوا ذلك؟ وهل أن علم الفقه بتطوراته قد أحدث نوعاً من الثنائية في المرحلتين الزمنيتين القديمة والجديدة؟ هذه هي محوريّة المسألة، وليس أنّ كلّ تطوّرٍ يبرّر التسمية الحديثة المنبثقة عن واقعٍ علميٍّ جديدٍ، ولا انه لا مبرر لهذه التسمية حتى لو حصلت تطوّراتٌ جذريةٌ تفرض قطيعةً كاملةً بين القديم والجديد.

لكن في تقديري وإذا أردنا أن نخرج من هذه الجدالية وقمنا بقراءة التسمية من جهةٍ أخرى، وهي الجهة التي تلاحظ فيها أوّلاً التداعيات اللاشعورية للتسمية في الوعي العام أو الخاص، وثانياً التناسب المنطقي بين المقترح والاستجابات الواقعية الحاصلة له، فإننا سوف نميل إلى التنازل عن هذه التسمية وأمامنا مبرّران أحدهما يعالج التسمية نفسها وثانيهما المسمى وهما:

المبرّر الأول: إن القطيعة التي تحدثها هذه التسمية بين الماضي والحاضر قد صارت في الوعي العام ذات طابعٍ إلغائيٍّ غير محايدٍ إطلاقاً، وهذا ما قد يجعلنا نخسر على المدى البعيد فرص استثارة الجهود السابقة على مستوى كافّة الاتجاهات والتي لم تصل في تقديري إلى الدرجة التي يُسمح لنا فيها بالتعامل بفوقيّةٍ معها، والشيء الملاحظ أحياناً هو أنّ بعض الباحثين المهتمّين بدراسات علم الكلام الجديد ـ وكما تحكيه نتاجاتهم ـ لم تحضر في نتاجاته أيّة نماذج من علم الكلام القديم، مع أنّ بعض الموضوعات كان لعلم الكلام القديم فيها تحليلاتٌ ودراساتٌ معمّقةٌ وموسّعةٌ لا يمكن التغاضي عنها بهذه البساطة، وهذا ما يؤكد القلق المنطقي من الإغراق في التسمية الجديدة بحيث يُحدث هذا الأمر نوعاً من فقدان الامتداد التاريخي للعلم نفسه.

نعم التسمية الجديدة المقترحة قد يكون فيها شيءٌ من التحفيز على ملاحقة الأبحاث الجديدة والاهتمام بها، وهو أمر قد يدفع من هذا الطرف إلى الحثّ على خطواتٍ من هذا القبيل كما يراه اسفندياري([14])، لكنّ المشكلة هي في أن التسمية والمصطلح إنما يعبّران عادةً عن مفهومٍ أو مقولةٍ متقدّمة لم تستطع المصطلحات المتداولة الاستجابة لها والتعبير عنها بخصائصها الجديدة، وعلم الكلام الجديد وإن عبّر عن هذا المضمون من خلال إيحائه بالنظريات والمتابعات الحديثة إلا أن قطيعته مع الماضي أو القلق من هذه القطيعة المحتملة جداً يجعل في تبنيه شيئاً من المخاطرة غير الضرورية، سيّما وأنّ هناك إمكانية للاستعاضة عنه بمصطلحٍ آخر أكثر جامعيةً وشموليةً.

المبرر الثاني: إن المشروع المقترح على عظمته لكنّه حتى الآن وبالمقدار الذي أنجز منه لا تبدو فيه مقوّمات الانفصال والتفرّد، نعم هو بصيغته المقترحة فيه ذلك، لكن التسمية يجب أن تحاكي الواقع لا الأمل، لأنّ عدم محاكاة المصطلح والتسمية للواقع الحاصل أو لمعطياتٍ تجعل من تشكّل هذا الواقع أمراً ميسوراً يحدث فراغاً داخل المنظومة المعرفية مما يتسبّب في حدوث مشكلاتٍ عديدةٍ، ومن هنا تنشأ العلوم الجديدة في الغرب عندما تصل مجموعةٌ من الدراسات إلى مرحلةٍ من التضخّم الحقيقي تضطّر العلماء إلى فرزها في علمٍ جديدٍ يكون أكثر قدرةً على استيعابها والتركيز عليها.

وأظن أن ما ذكرناه يبرّر لنا تحييد هذه التسمية أو لا أقل عدم الإصرار عليها والحفاظ على التسمية القديمة أو استبدالها بتسميةٍ أخرى تحكي أيضاً عن هذا العلم على طول الخط من دون اشتمالها على آثار سلبية كالتي ذكرناها، فإن أساس تسمية العلم المتعلّق بالعقائد الدينية بأنّه علم كلام مهما كانت أسبابه التاريخية والتي وقع جدلٌ طويلٌ معروفٌ فيها هي تسميةٌ غير متناسبةٍ وغير حاكيةٍ عن مسمّاها، فسواءٌ سمّي الكلام بالكلام لأجل قضية الكلام الإلهي أو لكثرة الكلام فيه أو لطبيعة عنونة المسائل قديماً فيه أو غير ذلك فلا ضرورة تقتضي الاحتفاظ بهذه التسمية ما دمنا نرى أنها لا تعكس لنا المضمون بقيمته ومستواه وأهميته، وهذا ما يجعل من علم أصول الدين أو علم العقيدة الدينية أو علم النظريّات العقديّة ـ سواءٌ قبلنا هذه التسمية كجوابٍ نهائيٍّ أو لا ـ أنسبَ من التسمية بعلم الكلام أو علم الذات والصفات أو الفقه الأكبر أو حتّى علم التوحيد وغيره ـ نظراً لافتقارها إلى عنصر الشمولية لكافة الموضوعات المستبطنة فيه تارةً أو لعدم تناسب المصطلح مع تسمية علمٍ من العلوم النظرية الفكريّة كتسمية “علم الكلام” التي تتناسب مع علم اللغة أكثر من العقيدة ـ وأكثرَ جامعيةً وقدرةً على الاستيعاب لما يزيل الثنائية المفترضة حتّى إشعارٍ آخر تتبدّل فيه الواقعيات في هذا العلم لا المقترحات.

ضرورة  قراءة  التجربة  الكلامية  القديمة:

في إطار هندسةٍ سالمةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ للكلام الجديد من الضروري الأخذ بعين الاعتبار تجربة الكلام القديم وقراءتها قراءةً موضوعيةً فاحصةً لتحديد عناصر القوة والضعف قدر الإمكان بغية المحافظة على عناصر القوّة وتفعيلها وتفادي المشكلات والآثار الناجمة عن عناصر الضعف، وهذا بحثٌ ـ بطبعه اللائق به ـ طويلٌ لكن نشير هنا إلى نماذج.

عناصر القوّة: ونذكر على سبيل المثال لا الحصر نماذج أربعة هي:

أ ـ الدقّة والشموليّة التي قد يصحّ التعبير عنها باللامتناهية في معالجة الأفكار، فالمتكلّم القديم عندما يشتغل بمسألةٍ كلاميةٍ نراه يتفحّصها تفحصاً دقيقاً ويعالجها معالجةً فاحصةً، والتراث الكلامي المدوّن شاهدٌ ناطقٌ عندنا اليوم على حجم الجهود التي بذلها المتكلّمون في دراساتهم المدوّنة إن في نفس المصنفات الكلامية أو في علم الأصول([15])، وطريقة «إن قلتَ: قلتُ» واحدةٌ من أبرز الطرق الشاهدة على هذا الأمر.

علم الكلام الجديد قد تشوبه سرعة الحكم وعدم الدقّة وعدم الشمولية، فهو بحاجةٍ اليوم إلى عدم استعجال النتائج لكلّ الأمور وعدم حرق المراحل الطبيعية، وفي هذا السياق أيضاً يلاحظ أن بعض الدراسات الكلامية الجديدة مبتلاة بعدم الدقة والشمولية في النطاق اللغوي والاصطلاحي؛ فاللغة المتداولة لغةٌ مشوبةٌ أحياناً بالتشويش وعدم الشفافية وفتح الباب للاحتمالات العديدة في حين صارت جامعيّة ومتانة اللغة ضرورة لإيجاد نموٍّ صحيحٍ وتصاعديٍّ لأيّ علم.

ب ـ المواكبة الدائمة للمستجدات الفكرية في المجتمع الإسلامي، وهذه ميزةٌ مهمةٌ في علم الكلام،([16]) فلا تكاد تسمع بطرح أو كتاب أو نقد أو نظرية… صدرت وتناقلتها الألسن في المحافل العلمية حتى ينبري المتكلّمون لتقييمها والرد عليها أو تأييدها … وعلى كلّ حالٍ لإبداء رأيٍ فيها، وهذا امتيازٌ يطالب الكلام الجديد اليوم بإعادة تمثّله وبصورةٍ أفضل، فدراسات كثيرة اليوم مضى عليها قرن أو قرون تصنّف لدى البعض بالحديثة جداً أو الأحدث وكأنها آخر ما تمخّض عن العقل البشري، في حين أنّه مع ضرورة قراءتها بعمقٍ وجدّيةٍ سيما الدراسات التأسيسية الغربية وغير الغربية فإنه لابد من التوجّه إلى الدراسات الواسعة المعاصرة سيما في العقود الثلاثة الأخيرة على مستوى الساحة العربية والإيرانية والغربية، وبالأخص ما ظهر عقيب انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ظاهرة الأحاديّة القطبية.

ج ـ اتسم علم الكلام بإجاباته الحاسمة والمطمئنة في تلك الآونة ليس لميزةٍ خاصةٍ به بل لأن العقل البشري قبل عصر النهضة كان كذلك، أمّا اليوم فإن علم الكلام الجديد يُخشى عليه من النزعة التشكيكية الشاملة والمدمرة، وهذا يفقد علم الكلام دوره الحضاري في إشاعة الطمأنينة والاستقرار في نفوس المناصرين للاتجاهات الكلامية.

لا نريد العودة إلى عصر اليقين هذا إذ يبدو من الصعب تحقيق ذلك، لكن علم الكلام اليوم مطالبٌ ـ وبالتعاون مع بقية العلوم سيّما الفلسفة وعلوم الدين الأخرى ـ بالتفكير في حلٍّ لمشكلة الاضطراب والتذبذب النفسي ولو بإجراء تعديلاتٍ على مفهوم اليقين العلمي، وإلا فإن بقاء هذه الحالة سوف يساهم في إعاقة عملية التطور الحضاري سيما القائمة والمعتمدة على الدين.

د ـ خصوصية الأصالة التي تمتّع بها علم الكلام القديم لأسبابٍ عديدةٍ، فعلم الكلام هو من العلوم الإسلاميّة الأصيلة؛ لأنّه ولد قبل عصر الترجمة أي أنه لم يكن متأثراً في انطلاقته بالثقافة والفلسفة اليونانية، بل إنّ التاريخ الكلامي يؤكّد أنّ هذا العلم قد وقف موقفاً حذراً إلى حدٍ بعيدٍ من التوجّهات الفلسفية التي استقت من الفكر اليوناني بالخصوص أسسها ومنطلقاتها وبناها التحتية، وهو ما سبّب أو كان على الأقل أحد أسباب الخلاف الفلسفي الكلامي في التاريخ الإسلامي سيما القرون الخمسة الأولى.

ولا يعني ذلك أن علم الكلام لم يتأثر بالأفكار الواردة على العالم الإسلامي من شرق الأرض وغربها، وأنّ كل ما كان عنده هو وليد مقولاتٍ وتصوراتٍ داخليةٍ لم تتلاقح مع أيّ واردٍ خارجيٍّ، بل كانت في قمّة القطيعة معه، وإنما المقصود هو أن الطابع الذي حكم هذا العلم سيما في انطلاقته التي تعود إلى بدايات نشوء فرقة الخوارج في الإسلام هو طابع الأصالة، وبالتالي فكانت المزاوجة بينه وبين أي فكر خارجي مزاوجةً إيجابيةً ومن الدرجة الثانية.

المطلوب من الكلام الجديد اليوم هو التماهي مع هذا النمط الكلامي القديم، أي الانطلاق في التفكير بصورةٍ أصيلةٍ غير مثقلةٍ بالحمولات الأخرى من دون أن يعني ذلك سدّ باب التفاعل الطبيعي بين العلوم كلّها بما فيها علم الكلام والذي يستدعي أن يقوم هذا العلم بإنشاء علاقةٍ وطيدةٍ مع العلوم الأخرى سيما التي تلتقي معه في طبيعة التخصّص ومنهجه كعلم الفلسفة وغيره، سواءٌ كانت هذه العلوم ذات نتاجٍ داخليٍّ حضاريٍّ أو نتاجٍ خارجيٍّ من هذه الناحية.

إلا أن المشكلة الحقيقية هنا تكمن في الأسباب المولّدة لأصالة علم الكلام، وأبرز هذه الأسباب على ما يبدو هو أنّ المتكلم القديم كان يفكّر من موقع الفعل والصنع والإبداع؛ لأنه كان منتصراً من الناحية السياسية والعسكرية، والأهم من الناحية الحضارية، ولذلك فلم يكن في تفكيره ملاحَقاً لا زماناً ولا واقعاً؛ أي لم يكن هناك ما يفرض عليه العجلة في التوصّل إلى نتائجه أو يفرض عليه لضرورات الواقع إنتاج فكرٍ معينٍ، إلا إذا كان هناك سوء علاقةٍ معينةٍ بين المثقف والسلطة الحاكمة، وهذا الارتياح النفسي يساهم قبل كل شيء في تجويد الإنتاج وتحسين الأداء، والأهم من ذلك في خلق المفاهيم والمقولات والمصطلحات كما يراه الدكتور حسن حنفي([17]).

أمّا الكلام الجديد فهو يعيش في إشكاليّةٍ غايةٍ في التعقيد على هذا المستوى، والسبب في ذلك يعود إلى أن المتكلم الإسلامي لم يشارك في صنع الحداثة ولم يخلق مفاهيمها ومقولاتها، ومن هنا تورّط في استيرادٍ متواصلٍ للمفاهيم والمصطلحات وأرهق نفسه في تتبّعها في عملية شرحٍ وتفسيرٍ وتبيئةٍ وتوظيفٍ لما ينتجه الغربي بقطع النظر عن مدى الصوابية في هذا الإنتاج.

لم ـ وربما لن ـ يستطع المتكلّم الجديد اليوم أن يلحق بالركب السريع الخطى لماكينة المفاهيم والمصطلحات الغربية، ولهذا فإن عقبته سوف تكون ـ حضارياً ـ في استغراقه في ردّ الفعل وفي استخدام ما صنعه الآخر، وبالتالي فلن يتمكّن من تمثّل الأصالة والذات بهذه السهولة، أو تحقيق العلاقة الطبيعية والصحيّة بينه وبين العلوم الأخرى حتى تلك الواردة من الغرب.

إنّ هذه المعادلة المعقّدة في الواقع العملي تؤكّد على ارتباط علم الكلام بالواقع السياسي للأمّة التي يمثلها هذا العلم كما يطرحه الدكتور حنفي([18])، لكن ذلك لا يعني بالضرورة عدم قدرة هذا العلم على تخطي ولو بعض مشكلات هذه الغربة والازدواجية والانفصام، ولعل أوّل ما يحتاجه المتكلّم على الصعيد النفسي هو الإحساس بالثقة وتبديد عوامل اليأس والإحباط، وهو أمرٌ تلعب التربية الاجتماعية أثراً بالغاً فيه.

 

عناصر الضعف: ويمكن كنماذج ذكر ما يلي:

أ ـ النزعة التجريدية التي عاش الكلام القديم ردحاً طويلاً في مداراتها هو وبقية أفراد أسرة المعرفة الدينية من الفلسفة وحتى الفقه والأخلاق، فأدّى ذلك إلى انشغال الباحثين بأمور ومسائل لا ترجع بالفائدة المتناسبة مع حجم الجهود المبذولة، كما وأدّى ذلك إلى تولّد عقلٍ فرضيٍّ يحاكي الصور والاحتمالات من دون أن يلحظها وانعكاساتها في أفق الواقع مما أحدث عزلةً نسبيةً للعقل الكلامي، ومن هنا فإن الكلام الجديد مطالبٌ بمتابعة الرؤى والأفكار آخذاً بعين الاعتبار أيضاً التأثيرات الميدانية لمادّة البحث ونتائجه، وهذا ما يستدعي إعادة فرزٍ وترتيبٍ للموضوعات الكلامية مع الأخذ بالنظر هذا الجانب أيضاً.

من المعروف أنه ونتيجةً لتأثيرات المنطق الأرسطي فقد جعلت استقامة الفكر منفصلةً عن الواقع الخارجي العملي؛ لأن هذا المنطق يرى أنّ سلامة العمليات الاكتشافية العقلية تكمن في قدرتها على وضع القضايا والمعلومات في مكانها الذهني الصحيح للمساهمة في ضمان صحّة التوصل إلى النتيجة، وهذا يعني أنّ الهدف الذي يتوخّاه العقل الارسطي هو الوصول العقلي إلـى نتيجةٍ سليمةٍ ذهنيـاً دون النظر إلى التردّدات العملية لهذه النتيجة ([19]).

لكنّه من المناسب هنا الإشارة إلى عدم الإفراط في ملاحقة هذه النزعة وإقصائها إلى الحد الذي يفقدنا قيمة أبحاث وموضوعات قيمة، فالعملانية ضرورة غير نهائية؛ والسبب في إثارة هذه القضية هو أنّ هناك نزعةً ملحوظةً سرت في الفترة الأخيرة في الأوساط الفكرية والثقافية الدينية، وتعبّر هذه النزعة عن حالةٍ من النقد الشديد للدراسات النظرية في الفكر الديني والتي لا توجد تردّداتٌ عمليةٌ لها الأمر الذي يبرز واضحاً في علم أصول الفقه، وهذه النزعة يمكن الموافقة عليها والدفاع عنها للخلاص من الجهود الإستنزافية التي غرقت بها الدراسات الدينية في الكثير من الأحيان، إلا أنّ المشكلة هي في ظاهرة تخطّي هذه النزعة للحدود المنطقية وتحوّلها أحياناً إلى ظاهرة رفضٍ فيه شيءٌ من الإطلاقية وشعورٌ بحالةٍ من التأزّم، وهو ما يؤدّي إلى ضياع الكثير من الجهود وقطع مسار تواصلها وديمومتها، ولعلّ هناك من يتحدّث اليوم عن علم أصول فقهٍ مصغّرٍ جداً قد تؤدي الموافقة عليه إلى شيءٍ من فقدان الدراسات التأسيسيّة الهامة، كما لعل هناك من يستبعد الكثير من الأفكار الاعتقاديّة الهامة لمجرّد تحسسّه أهميّة موضوعاتٍ أخرى في الفترة الراهنة تحسّساً يمكن الوقوف معه غالباً، وهو ما يدعونا إلى التمييز بين لغويّة بحثٍ ما من حيث المبدأ وزيادة أهمية بحثٍ آخر عليه في فترةٍ معينةٍ.

ب ـ النزعة اليقينية (وهنا نقرأها من جانبٍ آخر غير ما تقدم) حيث ساهم المنطق الأرسطي وغيره أيضاً فيها، فإنه وفق تصوره لليقين ووسائل الإثبات أيضاً ساهم في تكوين عقلٍ دوغمائي جزمي ينفي الآخر بمجرد إثبات ذاته نفياً غير قابلٍ لاحتمال الخلاف، وهذه النزعة الدوغمائية المشبعة بشيءٍ من النرجسية أشبعت علم الكلام القديم بشكلٍ واضحٍ يلاحظ بأدنى مراجعة للمتون الكلامية سيما تلك التي ذات طابعٍ مذهبيٍّ خالصٍ.

هذه النزعة قد لا يوافق البعض على إجراء تعديلاتٍ فيها، غير أن ذلك ـ في تقديري ـ صار لازماً عملياً لعلم الكلام الجديد باستبدال العقل الدوغمائي بعقلٍ تعدّدي احتمالي منفتح يوسّع من هامش التنقل العلمي والمعرفي ويضيّق من ضغوط اللاوعي.

ج ـ النزعة المذهبية التي اصطبغ بها الكلام القديم حتى صارت السمة الغالبة عليه، وهذا الاصطباغ مع ما فيه من حسناتٍ إلا أنّه حدّ من حركة هذا العلم لأنه أحاطه بجداليّة لا متناهية في موضوعاتٍ محدودةٍ، وحكم عليه بأطرٍ محدّدةٍ غير قابلة للتجاوز تمّ تلقيها على أنها خطوط حمراء ومقدّسات غير قابلةٍ للبحث وإعادة النظر ـ بقطع النظر عن صحّتها أو فسادها من حيث هي ـ ولا حاجة لكثير كلام ـ فيما اعتقد ـ سيما في واقعنا الراهن بسلبيات هذه النزعة التي صار من الضروري استبدالها بعقلٍ منبسطٍ، فإن واحدةً من آثار هذه النزعة وأشباهها هو اعتماد المتكلّمين على المنطق الجدلي؛ وهو منطق يتكؤ بالدرجة الأولى على القضايا المشهورة والمسلّمة ويستهدف صرع الآخر أكثر من كشف حقيقةٍ أو حلّ مشكلةٍ، في حين يحتاج الكلام اليوم إلى ركائز علمية قبِلها فلان أو لم يقبلها، لأن هذا هو الذي يحل المشكلة أو ينير الطريق.

د ـ لعلّه ولأسباب تاريخية لم تُعط دراسات مقارنة الأديان حقّها في الكلام القديم، أمّا اليوم سيما بعد صيرورة العالم بحكم قريةٍ كونيةٍ واحدةٍ واحتكاكات المسلمين والمسيحيين واليهود على أكثر من صعيدٍ صار علم الكلام المقارن ضرورةً ملحّةً حتى يقوم الحوار بين الأديان على قواعد علمية تختزل الوقت وتغتنم الفرص، ولهذا لابد أن يركّز الكلام الجديد على مقارنة الأديان وأن لا يقتصر على مقارنة المذاهب كما هو الحاصل فعلاً.

هـ ـ إن تاريخ علم الكلام يكشف عن اعتماده على المنطق الارسطي كمنطقٍ وحيدٍ وحَكَمٍ متفرّدٍ في الجدل العلمي، حيث قُدم هذا المنطق على انه حقائق ثابتة عامة شاملة كلية ويقينية، غير أن تطوّر المعارف البشرية كشف عن ثغراتٍ في هذا المنطق لا اقل انه بوضعه الحالي ليست لديه قابلية لحل كل المشكلات اليوم، ومن هنا ونظراً لتجدّد الكثير من الإشكاليات ذات الطابع المنطقي المختلف فإنه من الضروري للكلام الجديد الاتكاء على مخزون منطقي اكبر يشمل إلى جانب المنطق الأرسطي المنطق الاستقرائي والرياضي والتجريبي والذاتي والديالكتيكي و.. وإلا فإن أزمة تخاطبٍ ستنشأ تبعاً للهوّة الحاصلة بين الهيكلية المنطقية للأفكار والإشكاليات الجديدة مع الهيكلية المنطقية التي تحكم علم الكلام.

لا يراد هنا التنقيص من شأن المنطق الأرسطي بقدر ما يراد الإشارة إلى كون هذا المنطق هو جهد بشري لا يتّصف بالكمال.

و ـ إنّ واحدةً من إفرازات نزعة اليقين والتمذهب هو الذاتية والتحيز، وبالتالي ضعف الموضوعية والحياد، وهي مشكلةٌ جديّةٌ لا يخلو منها علم، لكن الكلام القديم ـ كبعض العلوم الأخرى ـ قد تجاوزت فيه الذاتية والتحيّز الحدّ الطبيعي، ومن هنا فعلى الكلام الجديد تجنّب هذه المشكلة بواسطة رفع القيود وتقليل الاعتبارات التي تفضي بالمتكلم إلى الذاتية والأحكام المسبقة، وتقليل هذه الاعتبارات سيساهم في فتح الباب أمام صنوف الأفكار والآراء الأمر الذي يثري حركة الفكر ويرفع رصيد علم الكلام ويضاعف من إنتاجه([20]).

 

موضوعات الكلام الجديد:

لم يجر في علم الكلام الجديد تأسيس موضوعاتٍ لم يكن لها سابق بحثٍ وحضورٍ في الساحة الفكرية الإسلامية دائماً، بمعنى أن أصحاب الاقتراح لم يقوموا بتأسيس مجموعةٍ من القضايا والمباحث الكلامية التي ليس لها سابق وجودٍ وإنما نظّموا مسائل علم الكلام الجديد على أساس عملية تجميعٍ لأبرز الموضوعات التي ظهرت أمام المفكّرين المسلمين في الآونة الأخيرة ومسّت المسائل الفكرية والعقائدية الجذرية من دون أن تكون محصورةً بعلمٍ معيّنٍ كعلم الفقه أو الأصول مثلاً بحيث تكون مسألةً أصوليةً أو فقهيةً بطبيعتها، وهذا الأمر يؤدّي بطبيعته ـ إذا لم تجر عملية تحديدٍ مسبقٍ لموضوع هذا العلم ومداه ودائرته ـ إلى حدوث خلطٍ مضمونيٍّ في هذا العلم وهذا خللٌ أساسيٌّ جدّاً، لأنّ تحويل علم الكلام إلى علمٍ تجميعيٍّ لمسائل متفرّقة وهموم مختلفة يصيّره على مرّ الأيّام خليطاً متناقضاً من موضوعات واهتمامات لا رابط فيما بينها، وهذا ما قد يؤدّي على المدى البعيد إلى افتقاده المنهج الواضح الموحّد وكذلك التناسق المنطقي المتناغم.

وعلى أيّ حال وأبرز النماذج المطروحة في مجال نشاط الكلام الجديد هي كالتالي وبشكلٍ مفهرسٍ وسريعٍ([21]):

1 ـ النطاق الديني: هل الدين محدود في دائرة الفرديات والأخلاقيات أم أنه يمتد ليشمل النواحي السياسية والاقتصادية و… وحتى الطبية وأمثالها؟ وما هي تأثيرات الجواب هنا على الفهم الديني ككل؟ وهنا في الحقيقة يقع ملتقى مجموعةٍ من النظريات أبرزها نظرية “إنتظارات وتوقّعات البشر من الدين”، كما تدرس بعمقٍ هنا نظرية شمول الدين لكلّ وقائع الحياة؟ وشكل هذا الشمول؟ كما تأتي هنا نظريةٌ أخيرةٌ عرفت بنظرية “الدين بالحد الأعلى والدين بالحد الأدنى”، أو ما يتعلّق بنظريةٍ جديدةٍ أخرى تسمّى بنظرية “تكامل التجربة النبوية” والتي طرحها الدكتور عبد الكريم سروش في إيران.

2 ـ اللغة الدينية: وهل هي لغة رمـزية، أسطـورية، واقعية، قصصية، بيانية؟ … هل ترجع القضايا الدينية إلى مضمونٍ أو أنها بلا معنى كما يقول الوضعيون؟ هل هي لغة إنشائية أو إخبارية حقيقية أو مجازية؟ هل للدين لغةٌ خاصّةٌ به؟ كيف يمكن تقييم التوصيفات البشرية للدين سيما الباري تعالى؟…

3 ـ النزعة الدينية: ما هي أسباب ظهور التديّن الخوف أو الجهل أو الطبقية أو …؟ تحليل نظريات ماركس وسبنسر ودوركايم وفرويد، هل البشر بحاجةٍ إلى الدين؟ وهل هو فطري؟ وما معنى وحقيقة الفطرة؟ هل الفطرة أمرٌ آخر غير البديهيّات القبلية التي قرّرها علم المنطق أم أنها ليست سوى هذه القبليات الواضحة عقلياً؟ وبالتالي هل يمكن الاعتماد بصورةٍ مستقلّةٍ على الفطرة في قبال الأدلّة والمعايير العلمية الأخرى أم لا؟…

4 ـ التجربة الدينية: ما هي حقيقة المشاعر والأحاسيس الدينية وما هي عناصرها وميزاتها وهل هناك فرق بين التجربة الدينية والأخلاقية؟ ما هو ميزان ضبط صدقيّة التجربة الدينية؟ العلاقة بين التجربة الدينية والروحية والعرفانية؟…

5 ـ عقلانية الدين: هل إثبات القضايا الدينية يكون بشكلٍ عقلانيٍّ أو شهوديٍّ؟ … وهنا تطرح نظريات الكانتيين فيما يرتبط بالعقل العملي والإثبات الأخلاقي للدين، كما وتقرأ المدارس الروحية والعرفانية لدى الأديان كافّة أيضاً … الرابطة بين الدين والعقلانية؟ التعقل والتعبّد في الدين ومساحاتهما وعلاقاتهما؟…

6 ـ معنى وحقيقة الدين: ما هو تعريف الدين؟ وما هو الفاصل بين الديني وغير الديني؟ وأساساً هل للدّين تعريف محدد؟ وعلى تقديره فهل هو ذو خصيصة معرفية أو عاطفية أو عملية أو غير ذلك؟…

7 ـ الجوهر والعرض في الدين: ما هو ذلك الذي يمثّل العنصر الذاتي في الدين وما هو ذاك الذي يمثل العنصر العرضي؟ كيف نرتّب سلسلة الدينيّات من حيث الأهمية والرتبة ومن أين نبدأ؟… الأخلاق، القانـون، العقيدة…

8 ـ القاسم المشترك الديني: مميزات وقواسم الأديان والمذاهب؟ ما هي الحدود الواضحة والشفّافة بينها؟ هل يرجع الكل إلى منظومةٍ واحدةٍ أم لا؟ ما هو موقف الأديان من بعضها البعض؟ ما هي المقومات الحقيقية ـ أخلاقياً ومعرفياً وميدانيّاً ـ للحوار الديني والمذهبي؟ ما هي حقيقة هذا الحوار؟ هل الحوار هو السبيل أو التصادم؟ وأين تكمن مظاهر من قبيل التكفير واللعن والسباب من هذه القضية؟ …

9 ـ مناهج المعرفة الدينية: هل منهج المعرفة في الدين هو عقلي تركيبي، تفكيكي، نقلي، تجريبي، سلوكي، شهودي أو هناك تلفيقٌ ما؟ ما هي طبيعة هذا التلفيق وكيف هو؟ ما هي حدود كل منهجٍ ونطاقه؟ هل علاقة الدين بمنطقٍ ما ومنهج تفكيرٍ ما علاقة خالدة؟…

10 ـ التعددية الدينية: هل كلّ الأديان مصيبة؟ ما هي نسبة الإصابة والخطأ؟ هل الوصول يمكن أن يتم عبر كل الطرق؟ هل يعذر المتدينون بما دانوا به من دينٍ أو مذهبٍ ولماذا؟ ما هي حدود اعتراف الأديان ببعضها؟ …

11 ـ الدور الديني: ما هو الأثر الذي يتركه الدين في حياة الفرد والجماعة؟ ما هي الأرقام حول هذا الموضوع؟ هل هو أثر نفسي، اجتماعي، سياسي أو … أو ملفّق أو مجموع؟ ما هو دور الدين في الصنع والفعل الحضاري؟ تأثيرات الدين في صنع القرارات السياسية؟ هنا تدرس مسائل علم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني وغيرهما من العلوم، وتُحدّد العلاقة بين الدين وعلم الإحصاء والقراءات الميدانية…

12 ـ المجتمع الديني: ما هي خصائص ومقوّمات المجتمع الديني؟ العلاقة بين المجتمع الديني والمجتمع المدني بعد تحديدهما بشكل دقيق؟ ما هي بنية الاجتماع الديني؟ ما هي المعالم المميزة لهذا المجتمع؟ طبقة علماء الدين في المجتمع الديني؟ الطبقية والعشائرية والقبلية في المجتمع الديني؟ ومعالجة إشكاليّات عديدة على هذا الصعيد لعل أبرزها مسألة الوضعيّة الاجتماعية والاقتصادية والحقوقيّة لذريّة النبي محمّد (ص)…

13 ـ المعرفة الدينية والبشرية: ما هي حدود التفاعل بينهما؟ أنواعه؟ هل هو كلي أو محدود وجزئي وكيف؟ ماذا ينجم عن قبول أو رفض نظرية التفاعل وتأثر المعرفة الدينية بالمعرفة البشرية؟ أين تقع الذاتية والموضوعية في القراءة الدينية؟ هل هناك إسقاطاتٌ دائمةٌ على النص الديني؟ هل المعرفة الدينية رهينة القارىء أو انه هو رهين النص؟ العلاقة بين النص وقارئه على ضوء نظريات اللغة والهرمنيوطيقيا الحديثة؟ وعلى أساس ذلك ما هو المقدّس وأين هو في الدين؟ أساساً فكرة المقدّس هل تنمّ عن عقلٍ خائفٍ أو لا؟…

14 ـ الثبات والتحوّل الديني: مساحات الثابت والمتحوّل في الدين؟ هل يطرأ التحوّل على كل شيء أو لا وكيف؟ هل المتحوّل هو المعرفة البشرية للدين أو الدين نفسه يخضع لتحولاتٍ أيضاً؟ النظرة التاريخية للدين واعتبار القرآن الكريم والتجربة النبوية ظاهرةً تاريخيّةً بشريّة،ً ومضاعفات وملابسات هذه النظرة منهجياً ومضمونيّاً، وهنا تُستعرض نظريّات أمثال الدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور محمّد أركون والدكتور عبد الكريم سروش و…

15 ـ الدين والعلم: وهذه أهم مسألة في الكلام الجديد وفق نظرة الشيخ محمد مجتهد الشبستري([22]) إذ يتُساءل هنا هل يجب وضع المفاهيم الدينية كخطٍّ أحمر ونتائج نهائية أمام العلم لا يسمح له بتجاوزها أم نمنح العلم حقّ الاستقلال؟ هل نحن ملزمون بالتوفيق بين النتائج العلمية سيما تلك المتعلقة بالظواهر الكونية والخلقة الإنسانية (ومن أبرزها نظريّة تطوّر الأحياء لداروين) ونظريات علم النفس والاجتماع… وبين المفاهيم الدينية؟ وعلى تقديره فما هو طريق التوفيق المنطقي والموضوعي؟ هل يقدم أحدهما على الآخر وما هو ولماذا؟ كيف يجمع بين المعجزة والنظم الكوني بين منطق التكليف العام وجبرية السلوك الإنساني على كل الصعد أو على بعضها؟ فطرية الدين والغربة التي يعيشها المؤمن؟ هل الفارق هو في اللغة الدينية والعلمية أو في الجوهر؟ ما هي حدود وأساليب وقوانين تطويع المتن الديني للعلم؟ هل نحن من حيث المبدأ عقلانيون أم نصيّون؟ … هذه الإشكالية أكثر ما تبرز صعوبتها بين العلوم الإنسانية والدين، إذ تتدخّل العلوم الإنسانية كثيراً في الحقل الذي يدلي فيه الدين بدلوه كالنفس البشرية والمجتمع والتربية والاقتصاد والأخلاق…

16 ـ الدين والأخلاق: ما هي النظرية الأخلاقية الدينية؟ أين تقف مبادىء الحق والواجب والتكليف والفرد والجماعة والإلزام والنيّة والثواب والعقاب وغيرها من هذه النظرية؟ هل الدين يدعم الأخلاق أو يتصادم معها؟ هل بالإمكان تصوّر عالمٍ أخلاقيٍّ بلا دين بحيث يكون التلازم بين مساري الدين والأخلاق تاريخي لا واقعي حتمي أم لا؟ ما هي الضمانات التي يؤمّنها الدين للأخلاق؟ نسبية الأخلاق وتأثيرها على الأخلاق الدينية؟ العلاقة بين الأخلاق والقانون، وبينهما وبين الدين؟ الجمال والجماليّات (ومنها الأدب والفن) في التصوّر الديني؟…

17 ـ إنسانية الدين: هل الدين إنساني أو غير إنساني؟ أين تقف موضوعة حقوق الإنسان من الدين؟ الحرية والعدالة في الدين؟ التمايز الديني والعصبية الدينية؟ الدين ومفاهيم القومية والعرقية؟ مفهوم الاخوة والمساواة في الدين؟ قضية الأقليّات؟ موضوعة المرأة وإشكالياتها المعقدة؟ حقوق الطفل؟ حقوق العامل؟ الحقوق العامة وعلاقة مفهوم السلطة ـ بعد تحديده ـ بمفهوم الحق العام؟ نظام العقوبات الجنائية والجزائية في الدين سيما مسألتي الإعدام وأساليبه والارتـداد والتكييف الإنساني لـهما؟…

18 ـ الدين والأسطورة: العلاقة بينهما في الجوهر واللغة؟ السرّ في نموّ الأساطير في الساحة الدينية؟ ميزات الأسطورة والحقيقة الدينية؟ هل التشابه التاريخي بين الأديان والأساطير يجعلنا نصدر حكماً ما؟…

19 ـ الدين والأيديولوجيا: الرابطة بين الدين والأيديولوجيا والنسبة بينهما؟ تعريف الأيديولوجيا تعريفاً واضحاً؟ موضوعة موت الأيديولوجيا وتأثيرها على الدين وموقف الدين منها؟ النزعات البراغماتيّة وموقف الدين منها؟…

20 ـ آفات الدين: هل للدين مساوىء؟ العصبية ـ التطرف الديني ـ التفرّدية ـ الفوقية الدينية ـ الشخصانية ـ الحروب ـ الكبت الجنسي والفكري ـ الإرهاب بكل أشكاله ـ العنف والخشونة ـ وغيرها، وتحليلها تحليلاً علمياً وتقديم إجابة وافية حولها؟…

21 ـ الأبحاث التقليدية الكلامية على النمط الحديث كمسألة الروح، الجن، الشيطان، الباري تعالى، الوحي (وهو مسألة مهمة جداً)، المعجزة ورابطتها المنطقية الإثباتية، الملائكة، الإمامة، المهدويّة، الحسن والقبح، مسألة آدم (عليه السلام) والخلافة الإلهية وغيرها من المسائل العديدة…

22 ـ التقليدية والحداثة في الدين: ما هي قابلية الدين لتحديث نفسه؟ ما هي أطر هذا التطوير؟ كيف يتم إحياء الدين وتنميته؟ قراءات فاحصة ونقدية للتجارب الإحيائية للدين (جمال الدين الأفغاني ـ محمد عبده ـ عبد الرحمان الكواكبي ـ محمد حسين النائيني ـ روح الله الخميني ـ محمد باقر الصدر ـ مرتضى مطهّري ـ علي شريعتي ـ محمد رشيد رضا ـ محمود شلتوت ـ محسن الأمين ـ محمد إقبال ـ مالك بن نبي … على المستوى الإسلامي، والبروتستانتية بكل أشكالها على المستوى المسيحي …)، قابليّة الدين للتكيّف مع متغيّرات الحياة؟…

وغيرها من المسائل التي لا مجال لذكرها هنا لضيق المجال مما بحثه الكلام الجديد فعلاً أو لم يبحثه حتى الآن.

ومن اللازم هنا الإشارة إلى أن العناوين والموضوعات الكلامية الجديدة المتقدّم بعضها ذات تشعّباتٍ عديدة وذات قابلية للقراءة من أكثر من جانبٍ؛ فموضوعة حقوق الإنسان قضية تتصل بالفقه والقانون الإسلامي كما تتّصل بالكلام الجديد؛ ومن هنا فمن الضروري السعي لتحديد المحور الذي يُعنى به علم الكلام حتى لا يتسبّب ذلك في حصول حالة تسيّبٍ منهجيةٍ واختلاطٍ موضوعيٍّ، فالمقصود إجمالاً من البحث الكلامي في هذه الموضوعات هو الترسيم العام للخارطة الفكرية المتصلة بالبنية التحتية لهذه الموضوعات لا البُنى الفوقية التي تتعلّق بعضها بمسائل الفقه الإسلامي أو بمسائل علم الأخلاق أو التاريخ… ومن هنا تمكن الملاحظة على ما يطرحه بعض الباحثين كموضوعاتٍ لعلم الكلام الجديد مما يتّصل بالعلوم الدينية الأخرى بالدرجة الأولى، وكأنّ علم الكلام الجديد اليوم مسؤولٌ عن كافّة الموضوعات الجديدة التي تتصل بالفكر الديني عموماً.

 

نقلاً عن مجلة الحياة الطيبة – العدد السادس

الهوامش:



([1]) يراجع مجلة المنطق العدد 119 : 5 د . حسن جابر.

([2]) مجلة نقد ونظر، العدد 9 : 2 ـ 9، أكبر قنبري.

([3]) يراجع مجلة پيام صادق العدد الرابع 97 م، ص 4 مقال علي الحاج حسن.

([4])أحمد قراملكي، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 14، 2001م.

([5]) أشار إليها الدكتور عبد الكريم سروش في قبض وبسط تؤريك شريعت ص 65 ـ 66، وأيضاً الشيخ مجتبى المحمودي، مجلة الفكر الإسلامي العدد 16 : 208، وعلي أوجبي في «كلام جديد در گذر انديشه ها» ص 42 ـ 43، ومحمد مجتهد الشبستري في «مدخل إلى علم الكلام الجديد» كتاب قضايا إسلامية معاصرة ص 27 ـ 30، ترجمة علاء زيد، وأبو القاسم فنائي في كتاب « در آمدى بر فلسفه دين وكلام جديد» ص 97 ـ 99، وغيرهم.

([6])يراجع بصدد هذا المصطلح مقدمة المترجم لكتاب «كلام فلسفي» إبراهيم سلطاني وأحمد نراقي ص 7 .

([7])علي أوجبي «كلام جديد در گذر انديشها» ص 35 ومحمد اسفندياري «كتاب شناسي توضيحي كلام جديد» نقد ونظر العدد 2 : 214 .

([8])مجلة التوحيد العدد 96 : 33 «الاتجاهات الجديدة في علم الكلام مدخل تاريخي» عبد الجبار الرفاعي، ونقد ونظر مصدر سابق : 214 وغيرهم.

([9])راجع من العقيدة الى الثورة ج1 ص74 ط 1988 م.

([10]) راجع مجلة النور العدد 100، 1999م ص50.

([11])نقد ونظر العدد 9 : 93 ـ 94 احمد واعظي نقلاً عن الشيخ صادق لاريجاني في مجلة «انديشه حوزة» العدد 5، 1996 م.

([12]) ابو القاسم فنائي، مصدر سابق، ص 74 ـ 78 ـ 89 .

([13])عبد الله الجوادي الآملي «كلام جديد در گذر انديشه ها» ص 22 ـ 25 .

([14])مصدر سابق.

([15]) لا بأس بالإشـارة إلى أنّ جملةً من دراسـات علم الكلام قد توزّعت في الفترة الأخيرة بين علم أصول الفقه الإسلامي وعلم الفلسفة سيـما الفلسفة المتعالية؛ فالإلـهيّات بالمعنى الأخـص في علم الفلسفة من المسائل التي تعني المتكلم بالدرجة الأولى، أما علم الأصول فقد حدثت فيه اختلاطاتٌ موضوعيةٌ مضمونيةٌ نقلت على أثرها مجموعةٌ من مسائل علم الكلام إلى الأصول بحيث إن البحث المعمّق حولها صار يراجعه الباحث في الأصول أكثر من الكتب الكلامية، وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لها أسبابها الخاصّة التي لا مجال لها الآن.

([16])أشار إليها سماحة السيد علي الخامنئي حفظه الله تعالى في خطابه للحوزة العلمية، يراجع مجلة الفكر الإسلامي، العدد 16 : 209 .

([17])الدكتور حسن حنفي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 14، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، ص 17.

([18])م، ن.

([19])يراجع عبد الجبار الرفاعي ومحمد مجتهد الشبستري مصادر سابقة.

([20])بعض هذه النقاط ليست من مختصات الكلام لكنه اتصف بها أيضاً.

([21])قد تتداخل بعض هذه الأبحاث وتنفرز أبحاث نقطةٍ واحدةٍ، كما أنّنا تجاهلنا هنا الفرز الموجود عند البعض بين مسائل علم الكلام الجديد ومسائل علم فلسفة الدين.

([22])مدخل إلى علم الكلام الجديد، محمد مجتهد الشبستري، الكتاب السادس لمجلة قضايا إسلامية معاصرة، عام 1998م، ص 51 ـ 58، حوار ترجمه وأعدّه جواد علي.

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً