أحدث المقالات

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا

أوّلاً: في ضرورة فتح باب الاجتهاد في علم الكلام

يعتبر علم الكلام من أحد الفروع الأساسيّة للمعرفة الإسلاميّة، وهو من العلوم الأولى التي نشأت في تاريخ الإسلام في القرن الهجريّ الأوّل، قبل أن ينشأ علم أصول الفقه وعلم الفلسفة، وكذلك قبل نشوء علم التاريخ الإسلامي وعلم الرجال وعلم الحديث. لقد وُلد علم الكلام من رحم الخلافات السياسيّة الحادّة بين المسلمين في ظلّ وقائع زمن عثمان بن عفّان وما بعدها، وكذلك في حرب الخوارج مع الإمام عليّ×، حيث ظهرت القضايا الكلاميّة، ووقعت النزاعات الأقدم والأسبق في تاريخ الإسلام.

لعلّ بإمكاننا ـ إلى حدّ مّا ـ أن نقول: إنّ علم الكلام قد شهد ظهور أولى مسائله في إطار الخلاف حول قضيّة الإمامة والحاكميّة، وحول قضيّة الخليفة الحقّ بعد رسول الله‘، ثم تطوّر هذا العلم، وصار يستوعب في اهتماماته مختلف القضايا الاعتقادية من وجود الله، إلى توحيده، إلى صفاته وأسمائه، إلى عدله، مروراً بالنبوّات وقضايا الإمامة، وصولاً إلى قضايا الآخرة والمعاد.

وقد مرَّ علم الكلام بمراحل تاريخيّة متعدّدة، وفي بعضها شهد ازدهاراً عظيماً، غير أنّه شهد في بعضها الآخر ركوداً، بحيث قد نلاحظ أحياناً مرور قرن أو قرنين أو ثلاثة دون أن يشهد هذا العلم تطوّراً ملحوظاً، فيما نجد قروناً اُخر يبدو فيها علم الكلام قد شهد تطوّراً كبيراً واتّساعاً عظيماً في مباحثه ومناهجه، لاسيّما في القرون الهجريّة الثمانية الأولى.

وكما نعلم فإنّ علم الكلام ظلّ عبر التاريخ ذا طابعٍ دفاعي، يهدف للدفاع عن المعتقدات الدينيّة، والجواب عن الإشكاليات والتحدّيات التي تُطرح على الدين عموماً أو على الإسلام خصوصاً، ولذلك كانت هناك علاقة متبادلة بين هذه الإشكاليّات وبين مباحث علم الكلام ووجوده وحياته ونموّه.

من هنا، بدأ هذا العلم يأخذ طابعاً مختلفاً بعد أن شهد العالم تطوّراً ملحوظاً على صعيد العلوم الإنسانيّة، منذ القرن السادس عشر الميلادي، وبشكل خاصّ مع القرن العشرين؛ لأنّ التحدّيات التي واجهها العالِم المسلم في مختلف بلدان المسلمين ظهرت لها أشكالٌ جديدة، وظهرت تساؤلاتٌ وانتقاداتٌ جديدة، وكما أنّ المتكلّم في القرون الهجريّة الأولى أراد أن يصوغ العقيدة الإسلاميّة انطلاقاً من العقل والنقل معاً، ليدفع ما يراه شبهةً ونقداً على الدين، كذلك الحال بالنسبة إلى المتكلّم الجديد، فقد سعى أيضاً كي يصوغ علم الكلام الإسلامي والمنظومة الاعتقاديّة الإسلاميّة بطريقة تستطيع أن تُبعد الشبهات عنها في ظلّ الإشكاليّات التي صار يواجهها العالم الإسلامي في القرن الأخير.

لهذا، لاحظ بعض العلماء ـ ومنهم بعض المعاصرين ـ أنّ علم الكلام في فترة القرون الأربعة الأخيرة قبل القرن العشرين، كان شبه راكدٍ، حيث لا نجد تطوّرات مُلفِتة للنظر في مسيرته، قياساً بما كانت عليه الحال في القرون الهجريّة الأولى، وعلى سبيل المثال لو أخذنا القرن الرابع والخامس الهجريّين، فسنجد تطوّرات كلاميّة عظيمة على يد شخصيّات كلامية بارعة كالشيخ المفيد، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، والشيخ الطوسي، وأبي بكر الباقلاني، والسيد المرتضى وغيرهم، لكنّ القرون الأخيرة قبل القرن العشرين، قليلاً مّا نجد فيها شخصيات بارزة من المتكلّمين، خلافاً لما هي الحال عليه في سائر العلوم الإسلاميّة كالفقه والأصول والفلسفة وغيرها.

ولهذا يعتبر بعض العلماء ـ مثل الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي حفظه الله ـ أنّ علم الكلام في فترة (الثلاثة ـ الأربعة) قرون قبل القرن العشرين قد كَسُدَ سوقه، حسب تعبيره([2])، وكأنّه قد غطّ في سُباتٍ عميق، كأنّما نام أو أخذ قيلولة، لكنّه استيقظ أمام موجة من الإشكالات على الدين التي فرضتها الحضارة والثقافة الغربيّة، وفرضها الوعي والفهم والفكر الجديد.

من هنا، يطرح بعضهم ضرورة أن نعيد ترتيب وتنظيم هذه المنظومة الكلاميّة التي نملكها، بحيث تستطيع أن تستوعب جميع الإشكالات والتحدّيات التي طرحت في القرون الأخيرة، فلم تعد اليوم «شبهة الآكل والمأكول» بشكلها القديم تمثل تحدّياً أساسياً للدين، بل نتيجةَ تطوّر العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة ظهرت تساؤلات أعمق وأخطر بكثير، وينبغي لعلم الكلام الإسلامي أن يستوعبها استيعاباً علميّاً وبلغة معاصرة أيضاً.

بل إنّ الاهتمام والتجديد في المنظومة الكلاميّة مقدّمٌ ـ من حيث الرتبة ـ على أيّ تطوير في الفقه أو في أصوله؛ وذلك لسببٍ بسيط، ألا وهو أنّ علم الكلام يقع في رتبة متقدّمة على العلوم الشرعيّة، حيث يمسّ البنية التحتية لقضاياها، فأيّ نظريّة في علم الكلام بإمكانها أن تترك تأثيراً عظيماً على مختلف أبواب العلوم الشرعيّة، وعلى سبيل المثال لو أخذنا نظريّة العصمة سنجد علاقةً وطيدة بينها وبين حجيّة السنّة الشريفة، فإذا قال المتكلّم بأنّ النبي‘ غيرُ معصوم في غير التبليغ ـ كما قال به بعض المسلمين ـ فقد يترك ذلك تأثيراً كبيراً على إمكانية الاحتجاج بفعل النبي‘ في علوم الشريعة.

إذن، قضايا علم الكلام مقدّمة من حيث الرتبة على قضايا علوم الشريعة، فإذا أردنا أن ندخل مجال التجديد في العلوم الإسلاميّة، فينبغي أن نعرف أنّ علم الكلام يحظى بأهمية كبيرة نظراً لتقدّمه الرتبي ولموقعه الحسّاس وبالغ الأهمّية في منظومة العلوم الإسلاميّة، ولهذا يرى الكثير من العلماء والباحثين في القرن العشرين أنّ التجديد في الفقه أو في الأصول لا يصحّ بمعزلٍ عن التجديد والبحث في قضايا علم الكلام كافّة، فإنّ الاجتهادات الشرعيّة في علوم الفقه والأصول تنبني على نتائج مباحث علم الكلام.

هذا كلّه يعني أنّنا بتنا بحاجة بعد قرونٍ أربعة من الركود، لمواجهة الإشكاليات الجديدة التي طرحها وجود الغرب في حياة البشر، بما يملك الغرب من أدوات وعُدد علمية ومعرفية ونمط تفكير مختلف، وهذا لن يحصل إلا بتطوير علم الكلام.

لكنّ التطوير هذه المرّة لن يكون بمجرّد نشر هذا العلم، بل نحتاج إلى تغيير جذري يلامس البنيات التحتيّة والمنظومة الكلاميّة، الأمر الذي لن يحصل إلا عن طريق فتح باب الاجتهاد في علم الكلام لتأتي عقولٌ جديدة وتفكّر وتحلّل لتقديم منظومة كلاميّة جديدة تختلف في مسائلها ومناهجها، بحيث تستطيع أن تستوعب جميع الإشكاليّات الحديثة.

فلا يكفي اليوم أن نتحدّث عن تدريس المباحث الكلاميّة أو نشرها بين الناس، ونحن ندعو إلى تطوير علم الكلام، بل لكي ننهض بهذا العلم بين المسلمين، نحن بحاجة إلى فتح باب الاجتهاد فيه، فكما أنّ فتح باب الاجتهاد في المسائل الفقهيّة طوّر الفقه، إلى أن أصبح مفخرةً للإسلام والمسلمين بسبب هذه التطوّرات الكبيرة التي شهدها عبر التاريخ، وكما أنّ فتح باب الاجتهاد في علم أصول الفقه طوّر علم الأصول ولم يؤخّره، وصار لدينا اليوم عمالقة في هذا العلم، كذلك الحال في فتح باب الاجتهاد في علم الكلام.

فلكي يصبح هذا العلم قادراً اليوم على مواجهة التحدّيات التي تنال من الدين، علينا أن نفتح باب الاجتهاد فيه بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من المعاني؛ لأنّه إذا لم يكن باب الاجتهاد في القضايا الكلامية مفتوحاً، فسوف يقتصر الدرس الكلامي على مجرّد التلقين وعرض الآراء وتكرار الأدلّة، وسيصبح المتكلّم يعتاش ويقتات على موائد المتكلّمين في العصور السابقة كالشيخ المفيد والعلّامة الحلّي وغيرهما من العلماء، أمّا إذا فتح باب الاجتهاد في علم الكلام فسيتطوّر هذا العلم، وسنشهد له اتّساعاً كبيراً من حيث الكمّ والكيف؛ لأنّ تضارب الآراء واختلافها من شأنه أن يقدّم العلم ـ أيّ علمٍ ـ إلى الأمام.

علينا أن نعلم أنّ القول بلزوم فتح باب الاجتهاد يلازم تحقّق الظروف والشروط اللازمة له، ومن جملة هذه الشروط الأساسيّة، هو الاعتراف باجتهادات المجتهدين الآخرين، فإذا لم نفتح المجال للآراء المختلفة فلن نستطيع مشاهدة تطوّر ملحوظ.

إنّ تطوّر العلوم بحاجة إلى التراكم المعرفي عبر الأجيال المتعدّدة من العلماء والباحثين، الأمر الذي لا يحصل إلا باحترام الأفكار والنظريّات المختلفة في فضاء فكري هادىء بعيداً عن التعصّبات، بل علينا أن نشجّع الآخرين على إبداء آرائهم مهما اختلفنا معهم، ونحاول أن نصل إلى أفضل الحلول بالمشاركة مع العقل الجمعي.

إذا نظرنا إلى الفقه والأصول بوصفهما من أكثر العلوم الإسلامية تطوّراً عبر التاريخ، لوجدنا أنّ احترام الآراء المختلفة هو الذي ساهم كثيراً في تطوير هذين العلمين، ففكرة «للفقيه المجتهد المخطئ أجرٌ» هي التي هيّأت الأرضية المناسبة لتحمّل الآراء المختلفة، ومن ثمّ تطوّر الفقه والأصول.

لو كان الفقهاء يتعاملون مع مخالفيهم تعاملّ النّبذ والرفض، لما شهد الفقه والأصول هذا التطوّر الذي نشاهده اليوم، إنّنا نجد الفقهاء في كثير من الأحيان يذكرون أقوال مخالفيهم بكلّ احترام وأحياناً مع مزيد من التأييد، ثمّ يحاولون الجواب عليها، وهذا ما أدّى إلى تطوّرهما إلى أبعد الحدود.

لولا تضارب الإخباريّين مع الأصوليّين، ما ظهرت هذه الكتب الضخمة في علم الأصول، ولولا تضارب صاحب الكفاية مع الشيخ الأنصاري لما تتطوّر علم الأصول إلى هذه الدرجة، ولولا ردود العلماء الأصوليّين الثلاثة (المحقق العراقي، والمحقق النائيني، والمحقّق الإصفهاني) على الجيل الذي سَبقَهم من الشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية، ما تطوّر علم الأصول كما نشهده اليوم.

فإذا جاء شخصٌ بنظريّة كلاميّة يخالف فيها النظريّة السائدة، وبدل أن ندخل معه في حوار هادئ ومنتج، أنزلنا عليه اللّعن والطرد، فعلينا أن لا نتوقّع تطوّراً جذريّاً سويّاً في علم الكلام.

ليس هذا بمعنى فوضويّة البحث الكلامي كما يتصوّره بعضٌ، بل على الكلّ أن يلتزم بالمعايير العلميّة والموضوعيّة في البحث حتى نتّجه نحوَ مزيد من التعميق والتوسيع في القضايا الكلاميّة، فالكلّ يستطيع أن يعطي رأياً كلاميّاً مرفقاً بالأدلّة، ومن حقّ الآخرين أيضاً أن ينتقدوه بالأدلّة العلميّة.

كما لا يعني هذا إضلالَ الناس؛ لأنّ المقصود فتح المجال في الأوساط العلميّة كما هي الحال في العلوم الشرعية، حيث نجد مباحث خلافية كثيرة في الأوساط والكتب التخصّصية لا يعرف عنها غير المتخصّصين شيئاً.

فما نجده في بعض الأوساط من ممارسة أساليب التهويل أو المنع أو الحظر في حقّ الآخر الفكري، ليس لصالح تطوّر الفكر الإسلامي، وإنّما يوجب ذلك طرد الأفكار وعقمها، فعلينا أن نلتزم في المباحث الفكريّة بالحلم وسعة الصدر تجاه الآخرين.

بهذا الحقّ الذي نعطيه للمجتهد الأوّل في إبداء رأيه وبذاك الحقّ الذي نعطيه للمجتهد الثاني الذي يناقش الرأي الأوّل، يتطوّر علم الكلام، وتصبح لدينا ثروة معرفيّة كبيرة في القضايا الكلاميّة قادرة على أن تواجه الإشكاليّات والتحديّات القائمة.

إذن:

1 ـ إنّ الاهتمام بعلم الكلام وتطويره وتجديده، مقدّمٌ رتبة على التطوير والتجديد والاهتمام بعلوم الشريعة؛ لأنّ علم الكلام متقدّم رتبة على هذه العلوم.

2 ـ إنّ تطوير علم الكلام وتقويته ودعمه في الحوزات العلميّة وفي المؤسّسة الدينيّة والمراكز البحثيّة لا يكون إلا بفتح باب الاجتهاد في القضايا الكلاميّة.

3 ـ إنّ فتح باب الاجتهاد يقوم على مبدأ (الاعتراف بحقّ الآخر)، فالمجتهد في الكلام يبدي رأيه مسنداً ومرفقاً بالدليل، ويعترف بحقّ المختلفين معه في ردّه ونقده بالأدلّة العلميّة، وليس بأساليب التهويل، أو المنع، أو الحظر، أو الإخراج من الدين أو المذهب، أو رفع سلاح «مخالفة الإجماع أو الشهرة أو التسالم»، بهدف محاصرة الأفكار الكلاميّة الجديدة.

بعد أن علمنا ضرورة التجديد في علم الكلام وضرورة فتح باب الاجتهاد فيه، علينا أن نبرمج لهذا التجديد وندرس آليّات الوصول إلى مرحلة جديدة، من هنا سوف نتناول الموضوع في محورين:

المحور الأوّل: أدوات المجتهد في علم الكلام.

المحور الثاني: من الخطوات العمليّة لتطوير علم الكلام.

ونختم ـ إن شاء الله ـ بعد ذلك بخاتمة نذكر فيها الخلاصات والنتائج.

ثانياً: أدوات المجتهد في علم الكلام

يحتاج المجتهد في علم الكلام ـ وهو الذي يستطيع أن يبدي رأياً، ويناقش أدلّة الآخرين ويقدّم أدلّة بديلة ـ إلى أدوات أساسيّة، تماماً كالنجّار الذي يحتاج لمجموعة أدوات، فيجب أن توضع هذه الأدوات أمام المتكلم، لتمكّنه من البحث في القضايا الكلاميّة الجديدة، وقد يكون عمل المتكلّم من هذه الناحية أصعب من عمل الفيلسوف وإن كان كلاهما معنيّاً بالمنظومة الاعتقاديّة.

وأكتفي هنا بذكر ثلاث أدوات أساسيّة، هي:

أ ـ التاريخ (التراث)

إنّ الفيلسوف ـ خاصّةً في سياق الفلسفة العقليّة ـ غيرُ معنيّ عادةً بالتاريخ؛ لأنّه يبحث انطلاقاً من البديهيات ويرتّب الأقيسة والبراهين، فينطلق من نظريات أساسيّة كأصالة الوجود أو أصالة الماهية، ليبني علىها نظريات اُخَر كالوحدة التشكيكيّة و.. حتى يرسم لنا لوحةً ضخمة عن العالم، ويبيّن فيها نقطة البداية والنهاية، ونقطة قوس الصعود في الأعلى ـ بحسب تسميتهم ـ وقوس النزول في الأسفل، فلا يحتاج الفيلسوف عادةً إلى التاريخ.

أمّا المتكلّم فلا يمكنه أن يصبح مجتهداً في علم الكلام إلا أن يكون ذا ثقافة وخبرة في التاريخ؛ لأنّ بعض الموضوعات الأساسيّة العمدة في نشاط المتكلّم تقوم على القضايا التاريخيّة.

وعلى سبيل المثال قضايا النبوّة والإمامة ترتبط في جزئها الكبير بالوثائق التاريخيّة، فلا يمكن للمتكلّم أن يتكلّم عن مسألة النبوّة الخاصّةً والإمامة الخاصّةً دون أن يكون خبيراً في التاريخ.

لا يمكن للمتكلّم أن يجلس في زاوية بيته أو مكتبته ليحلّل مثل هذه القضايا الكلاميّة على طريقة الفيلسوف، بل هو بحاجة إلى مطالعة جميع الوثائق التاريخيّة المرتبطة بهذا الموضوع؛ ليعرف ما حصل بعد وفاة الرسول‘ من أحداث حتى يحكم بصحّة هذه النظريّة في الإمامة أو صحة تلك النظريّة في الخلافة.

نعم، بعض القضايا العامّة كضرورة النبوّة العامة أو الإمامة الخاصّةً، لا يتعلّق بالتاريخ، لكنّ مسألة النبوّة والإمامة لا تنتهيان عند هذا الحدّ، بل على المتكلّم أن يكمل المسير ليُثبت النبيَّ الحقّ والإمام الحقّ على أرض الواقع، ليعرِّفنا سلسلة الأنبياء والأوصياء بعد رسول الله‘ بأسمائهم وصفاتهم.

لا يمكن للمتكلّم أن يكون له رأي في هذا المجال دون أن يتمسّك بقضايا علم التاريخ وعلم الحديث، وبشكل عام الحصيلة التراثيّة الواصلة إلينا، بينما الفيلسوف في راحة من أمره، لا يحتاج إلى البحث التاريخي، أمّا المتكلّم فهو مُجبر على أن تكون له ثقافة تاريخيّة، فكلّ من يريد في أوساطنا أن يتخصّص في قضايا علم الكلام ، فهو مطالب بأن تكون له ثقافة تاريخيّة ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ حتى يتمكّن من الوصول إلى مجموعة نتائج فيما يتعلّق بقضيّة النبوّات والإمامة على سبيل المثال لا الحصر.

إذن، الثقافة التاريخية اليوم حاجة أساسيّة في نشاط المتكلّم.

ب ـ دراسة مناهج التفكير

المعروف أنّه يعتبر الدفاع عن العقائد الدينية ومواجهة الإشكاليّات، المهمّةَ الأساس لعلم الكلام، لكنّ التحدّيات والإشكالات على الدين لا تنحصر اليوم بالقضايا الجزئيّة، بل هناك الكثير من الإشكالات التي ترتبط بالجذور المعرفيّة لمنظومة المفاهيم الدينيّة، بحيث لا يستطيع المتكلّم ـ بوصفه المحامي والمدافع عن القيم العقائدية الدينيّة ـ أن يجيب عن هذه التحدّيات إلا بخبرة واسعة بهذه القضايا التي تقع على رأسها مناهج التفكير.

تنبني المنظومة العقائديّة الإسلاميّة في الأعمّ الأغلب على المنطق الصوري (الأرسطي)، بينما اليوم ظهرت مناهج تفكير جديدة في العالم تختلف مع هذا المنطق اختلافاً جذرياً، وهذه المناهج عمّت ـ بسبب عُدَدها المعرفيّة وجاذبيّتها الخاصّة ـ جميع البلاد الإسلامية بحيث صارت جزءاً من أدبيّاتها، وعلى سبيل المثال المنطق الوضعي(Positivism) الذي لا يقبل بمعارف غير حسّية، قد دخل بقوّة في المدارس والجامعات بحيث يتربّى أولاد المسلمين منذ صغرهم عليه، وهو يختلف كثيراً عن مناهج القدماء في تناول القضايا الكلاميّة، فإذا أراد المتكلّم أن يفهم الآخرين وإشكالاتهم، فإنّ عليه أن يتعرّف بالدرجة الأولى على مناهجهم في التفكير.

عندما تأتي اليوم الفلسفة الوضعيّة وتغزو العالم الإسلامي لتقول: إنّ قواعد منطق أرسطو باطلة، بينما نبني نحن علم الكلام كلِّه على قواعد هذا المنطق في الأقيسة والعكوس والتناقض وغيرها، كيف يمكن للمتكلّم اليوم أن يدافع عن منهج البحث الديني، إذا لم يكن خبيراً بالمنطقيّات، أي مناهج التفكير؟

عندما أقول: يجب أن يكون خبيراً في المنطقيّات، لا أعني بذلك أن يكون خبيراً في كتاب «المنطق» للشيخ المظفّر، أو في كتاب «النجاة» أو في «منطق الشفاء» لابن سينا، بل أعني من ذلك أن يكون خبيراً في جميع مناهج التفكير القديمة والجديدة من المنطق الصوري، إلى المنطق الديالكتيكي، والمنطق التجريبي، والمنطق الرياضي، والمنطق الاستقرائي وغير ذلك.

إذا لم يستطع المتكلّم المعاصر أن يفهم اليوم آخر ما توصّلوا إليه في مجال نقد المنطق الذي تقوم عليه الدراسات الإسلاميّة، فكيف يمكنه أن يدافع عن العقائد الإسلاميّة؟! فعلى المتكلّم أن يكون متخصّصاً في هذا المجال أو لا أقلّ عليه أن يملك ثقافة واسعة فيه، حتى يستطيع أن يفهم الآخر عندما يناقشنا كيف يناقش؟ حتى لا يقع تائهاً أمام إشكالات يُسجلها زيد أو عمرو ممن ينتمون إلى الفكر الآخر، ولا يفهم عليهم ماذا يقولون أو يفهمهم بشكل خاطئ؟

ولكي يتّضح الأمر أكثر، نشير إلى أنموذجين من الإشكالات المعاصرة حول المنظومة العقائديّة الإسلاميّة؛ لنرى مدى تأثير التعرّف على المناهج الجديدة في التعامل مع الموقف.

المثال الأول: نظريّة القبض والبسط للدكتور عبد الكريم سروش

من النظريّات التي طُرحت مؤخراً في الأوساط الإسلاميّة نظريةُ القبض والبسط التي طرحها بشكلٍ جادّ الدكتور عبد الكريم سروش، وإن كانت مثارةً قبل ذلك في الغرب، لكنّه طرحها في الأوساط الشيعية بلغةٍ تناسبها، فهذه النظريّة تقول: إنّ المعرفة متغيّرة، ونحن لا نستطيع أن نتحدّث عن معرفة متعالية عن الزمان والمكان و..

طرحت هذه النظريّة في الأوساط الشيعيّة، خاصّةً في إيران، وأثارت جدلاً كبيراً في حينه، الأمر الذي دفع بعض العلماء للجواب عنها، فتصدّى بعضهم للردّ بالفعل، وألَّف أحد العلماء آنذاك كتاباً كبيراً في ردِّ نظرية القبض والبسط، وهو من أوائل الكتب التي كتبت في ردِّ هذه النظريّة. لقد قال هذا العالم الجليل في كتابه هذا بأنّ نظريّة القبض والبسط التي تثبت تغيّر المعرفة الدينيّة باطلّة؛ وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ المعرفة وجودُ ذهني، والوجود الذهني مجرّد، والمجرّد لا يتغيّر، فالمعرفة الدينية لا تتغيّر.

يبدو لي أنّ هذا الجواب نشأ عن عدم اطّلاع قائله على المناهج الفكريّة الحديثة، حيث لا يقصد الدكتور سروش من هذه النظريّة أنّ المعرفة بما لها من وجود ذهني متغيّرة، لأنّه لا ينظر إلى المعرفة من زاوية أنطولوجيّة (وجودية)، وإنّما ينظر إليها من زاوية إيبستمولوجيّة (معرفيّة)، ويريد أن يقول: إنّ المعرفة بما أنّها متأثرة بالظروف الزمانية والمكانيّة، وهي ظروف متغيّرة، فتتغيّر المعرفة تبعاً لتغيّر تلك الظروف.

لقد علّق الشيخ رضا أستادي في إحدى الندوات التي انعقدت في الحوزة العلميّة في قم على ما ذكره هذا العالم الناقد، فقال بأنّ هذا النوع من الإشكالات أوجب أن نتعرّض للسخريّة، فيجب علينا قبل أن نردّ نظريّةً تنتمي إلى فضاء ثقافي آخر، أو فضاء فكري أو منهجيّ آخر، أن ندرس المناهج، كي لا نقع في أخطاءٍ فادحة.

المثال الثاني: تأثر المعرفة الدينيّة بالمعارف البشريّة

في سياق نظريّة القبض والبسط تحدّث عبد الكريم سروش عن أنّ المعرفة الدينيّة متأثّرة بالمعرفة البشريّة، وأنّ الحوزات لا تستطيع أن تحسم الأمور من دون أن ترجع إلى العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، فكتب أحد العلماء البارزين كتاباً خصَّصه للردِّ على نظريّة «القبض والبسط»، وأفرد أكثر من مئة وخمسين صفحة لإثبات أنّ علماءنا المتقدّمين كانوا يهتمّون بعلوم الفلك والرياضيات والطّب.

لكن لا علاقة بين هذا الموضوع والنظريّة التي طرحها سروش، إنّه لا يريد أن يقول: إنّ علماء المسلمين لم يهتمّوا بالعلوم الطبيعيّة، وإنما يريد أن يقول بأنّ العلوم الدينية تتأثر بالعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، وبما أنها علوم متغيّرة تبعاً لتطوّر أدوات المعرفة عند البشر، فإنّ العلوم الدينيّة أيضاً تتغيّر عبر الزمن، فلا يوجد علم ديني مقدّس متعالٍ عن التغيير.

بما أنّنا بعيدون عن المناهج الجديدة في التفكير، قد لا نستطيع أن نفهم الأمور بوضوح، فلا نستطيع أن نفهم الآخر الفكري كي ندخل معه في حوارٍ علمي منتج، وقد نقع في أخطاء فادحة قد تجرّ علينا سخرية الآخرين.

لذلك، نجد أنّ بعض الكتب الأولى التي كتبت في ردّ نظرية «القبض والبسط» قد بان عليها الضعف؛ لأنّ الذين تصدّوا للردّ عليها لم يتعرفّوا بعدُ على المناهج الجديدة للتفكير، لكن ما كُتِب بعد ذلك كان أكثر توفيقاً؛ لأنّ بعض الذين كتبوا بعد ذلك كانوا يُتقنون اللغة الإنجليزيّة، وقرأوا أصول نظريّة القبض والبسط باللغات الأجنبيّة، ومن ثمّ كتبوا ردّاً عليها، أي إنّهم اطّلعوا على المنهج والمنطق الذي قامت عليه هذه النظريّة من جذوره، ثم بدأوا بردِّه ونقدهِ، هذا هو العمل الصحيح.

وعليه، لا يستطيع المتكلّم المعاصر أن ينتقد دون أن يتعرّف على مناهج تفكير الآخرين، وعلى الأصول المنطقيّة لتفكيرهم، وعلى الفضاء الفكري والزمني لبحوثهم وموضوعاتهم، غير أنّه وللأسف الشديد فإنّ الكثير من العلماء المسلمين يتصوّر بأن الكلّ يفكّر كما يفكّر هو، وأنّ معايير الإقناع والاقتناع واحدة بين الجميع، وهذا ليس صحيحاً.

إنّ الطالب في الحوزات العلميّة ينمو منذ البداية على أنّ العالم كلّه يفكّر كما هو مكتوبٌ في كتاب «المنطق» للشيخ المظفّر، هذه وجهة نظر، ولكن على أرض الواقع، الأمر ليس كذلك، بل هناك أممٌ من الناس ومدارس فكريّة تفكّر بطريقة مختلفة ـ على الأقلّ هي تدّعي ذلك ـ فإذا أردنا أن نفهم الآخرين قبل أن نقوم بنقدهم أو قبولهم، فعلينا أن نفهم كلامهم، ليس فهماً لغويّاً فحسب، بل فهم فكريّ وسياقيّ وأركيولوجي، وهذا لن يحصل إلا من خلال التعرّف على مناهجهم في التفكير.

إذن، المتكلّم المعاصر الذي يريد أن يستجيب للتحدّيات التي تواجه الدين، عليه أن يدرس مناهج التفكير المختلفة، ليعرف كيف تفكّر المدارس الأخرى؟ وما هي المناهج التي يعتمدون عليها؟ حتى يعرف كيف يردّ عليهم أو كيف يقبل منهم؟ وأين الخطأ في كلامهم؟ وماذا أرادوا من هذه النقطة أو تلك؟ ذلك كلّه لكي لا نقع في مثل هذه الأخطاء التي وقع فيها بعض العلماء من حيث لا يشعرون.

ج ـ الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة

يحتاج المتكلّم المعاصر إلى الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة؛ إذ قد دخل العالَم بقوّةٍ اليوم في مدار العلوم الإنسانيّة، التي تقع على تماسٍ مباشر مع القضايا الدينيّة في كثيرٍ من الأحيان، فظهرت تحدّياتٌ كبيرة بالنسبة إلى الفكر الديني في قضايا العلوم الإنسانيّة، وعلى المتكلّم المسلم أن يجيب عن هذه الإشكالات ويدافع عن القضايا الدينيّة إزاء النظريّات الجديدة في العلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما، أو أنّ عليه أن ينتفع بمنجزات العلوم الإنسانيّة المقبولة لديه لمزيد من وعي القضايا الدينيّة.

لقد اختلفت الأمور كثيراً بعد أن دخل العالم في القرن العشرين، خاصّةً بعد الحرب العالمية الثانية واتّجه نحوَ العلوم الإنسانيّة بعد أن كان مهتمّاً أكثر بالعلوم الطبيعيّة، ولذلك نجد المفكّر المسلم في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان همّه تطوّر العلوم الطبيعيّة الذي تحوّل إلى مشكلة للدين، ولذلك إذا لاحظنا كتب التفسير التي كُتبت في تلك الفترة ـ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ـ سنجدها كانت تهتمّ كثيراً بإثبات أنّ القرآن يشتمل على الكيمياء والفيزياء والطبّ وحقائق الفلك وعلوم الأحياء وغير ذلك، حتى أنّهم ألّفوا كتباً موسوعيّة ضخمة كي يثبتوا أنّ في القرآن جميع العلوم الطبيعيّة؛ لأنّ مشكلتهم كانت مع العلوم الطبيعيّة، حيث كانت تظهر يوميّاً نظرياتٌ جديدة تُشعر المتكلّم المعاصر بأنّها تعارض المنظومة العقائدية الإسلاميّة، فأراد أن يوفّق بين العلوم الطبيعيّة والإسلام، لكن بعد أن دخل العالم في القرن العشرين، تحوّلت الأمور وصارت العلوم الإنسانيّة تحظى بأهمية أكبر من العلوم الطبيعيّة خاصّةً ما بعد الحداثة، فظهرت نظرياتٌ جديدة في قضايا علم الاجتماع، وعلم النفس وعلم التاريخ وعلم اللغة، والهرمنوطيقا وغير ذلك.

من هنا، ظهرت اليوم تحدّيات كثيرة وكبيرة في قضايا العلوم الإنسانيّة التي تُشعر الإنسان بأنّها قد تقع في مقابل المنظومة الفكريّة الإسلاميّة، بل والدينيّة عموماً، فعلى المتكلّم المعاصر أن يتعرّف على العلوم الإنسانيّة ويفهم تلك النظريّات حتى يستطيع أن يدافع عن العقائد الإسلاميّة أو يتعمّق في فهمها، وكما كتب السيد جمال الدين (الأفغاني) ردّاً على الدهريّين، مستنداً إلى معطيات العلوم الطبيعيّة والفلسفيّة، كذلك المتكلّم اليوم هو بحاجة إلى أن يفهم المشاكل التي تواجه الدين من خلال العلوم الإنسانيّة.

بل قد تكون الأمور اليوم أصعب من الماضي؛ لأنّ قضايا العلوم الإنسانيّة تدخل في كثير من مجالات الحياة وتؤثّر على نمط حياتنا من حيث لا نشعر، وقد نجد في يومٍ من الأيّام أنّ النظام التعليمي والتربوي والإعلامي و.. كلّها باتت تقوم على نظريّات غربية علمانيّة تقع في مقابل المنظومة الاعتقاديّة الإسلاميّة، فرصد مثل هذه النظريّات يحظى بأهمية بالغة.

وعلى سبيل المثال، إذا كشف المتكلّم المعاصر أنّ نُظُم التعليم والتربيّة وكذلك الإعلام و.. في بلاده كلّها تبتني على نظريّة فرويد، أي النظرية التي تعتقد بأنّ كلّ تفكير الإنسان يرجع إلى الجِنس أو كما يُسمّيه فرويد العقل السفلي، وأنّ هذا العقل العلوي الذي نحن نتكلّم عنه، إنّما هي صورةٌ مغشوشة عن ذلك العقل الذي وضع على وجهه الغطاء، والوجه الحقيقي لهذا العقل في أعماقنا إنّما هو هذه الأغراض الجنسيّة، وهي النظريّة التي بنيت على أساسها النشاطات النفسيّة في بلاد المسلمين أيضاً، فما الذي على المتكلّم المعاصر أن يفعله؟ كيف يستطيع أن يواجه أو يتعامل مع مثل هذه النظريّات إذا لم يكن مطّلعاً على العلوم الإنسانيّة؟

عندما يواجه المتكلّم المسلم قضايا العلوم الإنسانيّة، عليه أن يتّخذ موقفاً منها، الأمر الذي يتطلّب منه أن يكون مطّلعاً عليها، ولا نقول: يجب على المتكلّم أن يكون متخصّصاً في التاريخ أو متخصّصاً في علم النفس ـ ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ـ لكن عليه أن يكون مطّلعاً على ما يجري في تلك العلوم التي تُعدّ من أساسيات النقد على الإسلام أو النقد على الدين عموماً.

وبعبارة موجزة: لكي ننهض بعلم الكلام ونطوّره نحتاج إلى فتح باب الاجتهاد في هذا العلم، والمجتهد في علم الكلام بحاجة إلى أدوات أساسيّة وعلى رأسها: علوم التاريخ وعلوم المنطقيّات والمناهج والعلوم الإنسانيّة، فكلّما تفتّحت آفاقنا في هذه العلوم، أمكننا أن نصوغ دفاعاً أفضل عن الدين من الدفاع الذي يمكن تقديمه ونحن لا نعرف شيئاً عن التاريخ أو المناهج أو العلوم الإنسانيّة.

من هنا، أقترح دوماً على طلاب العلوم الدينيّة أن يكون لدى كلّ واحد منهم ـ إلى جانب تخصّصه الحوزوي ـ تخصّص جامعي واحد في الحدّ الأدنى مرتبط بالعلوم الإنسانيّة في التاريخ أو المناهج أو المنطقيات والفلسفة الحديثة أو الاجتماع أو مقارنة الأديان أو غيرها، وهو أمر مقدور جداً، فلم يعد يمكن النهوض بدون ذلك، بل بالفعل فإنّ حركة الجمع بين الدرس الحوزوي والجامعي باتت ناشطة جداً في العقود الأخيرة والحمد لله، لكنّها تحتاج إلى توسّع في طبيعة الاختصاصات.

ثالثاً: من الخطوات الضروريّة لتطوير علم الكلام

بعد أن تحدّثنا عن بعض الأدوات اللازمة لتطوير علم الكلام، علينا أن نبرمج هذا التطوير من خلال تحديد بعض الخطوات الضرورية التي علينا أن نقوم بها، وسأكتفي هنا بذكر خمس خطوات أساسيّة، وهي:


الخطوة الأولى: تقوية حسّ المعاصرة

الخطوة الأولى التي علينا أن نقوم بها لتطوير علم الكلام، خاصّةً على صعيد المؤسّسة الدينيّة، هو ما أسمّيه: تقوية حسّ المعاصرة، فكما أنّ للإنسان حواسَّ ظاهريّة مثل اللّمس والبصر والسمع والذوق والشمّ، هناك حسّ باطني يجب أن يتكوَّن لدينا وهو حسّ المعاصرة، بأن تهمّنا القضايا المعاصرة ونرصدها بشكل متناوب، كأنّنا نملك أجهزة كشف وإنذار حسّاسة (رادارات) بالقضايا المعاصرة التي تتعلّق بالدين، فأينما طُرحت قضيّة جديدة تمسّ الدين، نلتقطها مباشرة، ونشعر في أعماقنا بأنّنا معنيُّون بها، وتستفزنا للتفكير، لا يمكن اليوم أن نكتفي بما طرح قبل ألف عام، ونترك جميع الإشكالات المعاصرة، صحيح أنّ ما طرُح في الماضي أيضاً مهمّ ونحن معنيّون بها ولكن هذا لا يعني أن نترك قضايانا المعاصرة التي تبدو أهمّ بالنسبة إلينا.

هذا الحسّ لا يخصّ الأفراد، بل بالدرجة الأولى هو ضرورة في المؤسّسة الدينيّة بما فيها الحوزات العلميّة والمعاهد والمؤسسات التي تهمّها القضايا الدينية، فعلى المؤسسّة الدينية برمّتها أن ترصد جميع القضايا المعاصرة دراسةً شاملة، ومن ثمّ تبرمج للجواب عنها حتى تستطيع أن تدافع عن المنظومة العقائدية الإسلاميّة، وتطوّر وعينا بها، لا أن تقف مكتوفة الأيدي لتأتي الآلاف من الإشكالات والتحدّيات وتغزو عالمنا الإسلامي، وتأخذ الكثير من الضحايا من شبابنا وفتياتنا، ونحن ـ بوصفنا مؤسّسة دينية ـ نغطّ في سُبات عميق، أو نتعالى عن الخوض في حوار مع واقعنا وعصرنا.

ومع الأسف نحن في الحوزات العلمية والمعاهد الدينيّة على فئتين:

الفريق الأول: فريق متمحّض في حسّ المعاصرة ـ إن صح التعبير ـ بحيث لا نجده مطّلعاً على التراث، وليس متخصّصاً في العلوم الإسلاميّة التراثيّة.

الفريق الثاني: فريق متخصّص في التراث ولا يملك حسّ المعاصرة إطلاقاً، لا يدري ما يجري من حوله، وإذا سمع عُشر معشار الإشكالات المعاصرة، يتفاجئ من وجود هذا النوع من الإشكالات، فهو لا يعرف أنّ هناك في العالم اليوم آلاف الكتب ومواقعَ الانترنت، بل فضائيات تابعة لديانات أخرى، مهمّتها الأساسية نقد المفاهيم الدينيّة الإسلاميّة فحسب!

لا يمكن تجاوز هذه الإشكاليات عبر وصفها بأنّها مُغرضة أو استعماريّة؛ لأنّها مهما كانت أغراضها سوف تترك تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، المهمّ تلك المعطيات التي يقدّمونها، فعندما تأتي هذه الكتب والمواقع والفضائيات وتبثّ مئات الإشكاليّات التي تتعلّق بالقرآن والسنّة والتاريخ، وقضايا علم الكلام، في أذهان المسلمين ـ وهم أيتام محمّد وآله عليهم السلام ـ ويذهب الكثير من شبابنا وفتياتنا ضحايا نتيجةَ عدم معرفتهم الكاملة بالمفاهيم الدينية، فعلينا أن نتعامل معها، مهما كانت نواياها، شئنا أم أبينا.

إذن، من الضروري أن نخلق في داخلنا ـ نحن طلاب العلوم الدينيّة ـ هذا الحسّ، لنلتقط القضايا الجديدة التي تطرح، ونحلّلها، ونتأمّلها بدون توتّر، وبهدوءٍ تامّ، لنقوم بعد ذلك بتقويمها، هل هي صحيحةٌ أو لا؟ وإذا كانت غير صحيحة فأين هي نقطة الضعف فيها؟ وما شابه ذلك.

من هنا، قد نجد أنّ موضوعاً قد طُرِحَ قبل سبعين عاماً، ونحن اليوم نتلقّفه وبدأنا للتوّ في  الحوزات العلمية نكتب عنه رسائل ماجستير وأطاريح دكتوراه، ويظنّ الطالب أنّ هذا إشكالٌ جديد؛ لأنّ الذين سبقوه لم يتعرّضوا له، لماذا يحتاج الموضوع الذي يشكّل إشكاليّة على الدين إلى أن يمرَّ بسبعين أو مائة عام لنشهد اهتماماً به؟! ما السبب وراء ذلك؟!

إنّ السبب هو أنّ حسّ المعاصرة ضعيفٌ بعضَ الشيء في المؤسّسة الدينيّة، فنحتاج من جهة إلى جهدٍ مضاعف لتنشيط هذا الحسّ بين طلاب العلوم الدينيّة؛ ليطّلعوا على ما يجري في العالم، ومن جهة أخرى نحتاج إلى تنشيطه في المؤسّسة الدينية نفسها وأجهزتها، لتركّز إمكانيّاتها على الرصد والاهتمام بقضايا المعاصرة.

إنّ من العلماء الذين وجدنا فيهم هذا الحسّ بقوّة، الشيخ محمّد جواد مغنية& (1979م)، هذا الرجل كان علامة بما للكلمة من معنى، وهو من الرجال الذين نذروا أنفسهم لله بحقّ من وجهة نظري، وكما جاء في سيرة حياته، أنّ÷ حتى عندما كان رجلاً كبيراً في السنّ، كان ينزل في بيروت يوماً في الأسبوع، ويذهب إلى كلّ المكتبات الأساسيّة فيها، ويجمع كلّ الصحف والمجلات الثقافيّة التي تُنشر خلال الأسبوع، ثمّ يأتي بها إلى البيت ويقرأها، وكلّما وجد موضوعاً يتضمّن إشكالاً على الدين أو المذهب، كان يبدأ مباشرةً بكتابة ردّ عليه، وكان يرسله إلى الصحيفة نفسها، ولذلك جزءٌ من كتب الشيخ محمّد جواد مغنية هو في الأصل مقالاتٌ نشرها في صحُف عربيّة لبنانيّة ومصريّة وغيرها.

لم يكن عمله هذا مقتصراً على الصحف والمجلّات اللبنانيّة، بل كان يتابع جميع الصحف والمجلّات العربيّة حيث أمكنه، كصحيفة الأهرام المصريّة، أو صحيفة كذا التونسية أو العراقية أو.. ممّا يعني أنّ اُفُقَه وتواصله كان على مستوى العالم العربي.

ومع الأسف الشديد، قلّةٌ بين علمائنا ومفكّرينا في تلك الفترة ممّن كان مثل الشيخ محمّد جواد مغنية، يهتمّ برصد الإشكالات والتحدّيات المعاصرة، ليلتقط أيّ إشكالٍ جديد يُطرح، ويحاول أن يُجيب عنه خدمةً للدين، بحيث يكون له حضورٌ في هذه الصحف الثقافيّة أو تلك.

هذا هو حسّ المعاصرة، وحسّ المواكبة، الذي يشعر الإنسان معه بأنّه ابن اللحظة، وليس ابن القرن الرابع أو الخامس الهجري، دون أن نتنكّر للتراث أو تاريخنا أبداً، لكن علينا أن نجمع بين التراث والعصر الحاضر، لنكون أكثر توفيقاً في الدفاع عن المفاهيم الدينيّة.

إذن، الخطوة الأولى هي خلق حسّ المعاصرة، وهذا الحسّ هو الذي يمكِّننا من مواكبة كلّ تطوّر جديد، لكي لا نتأخّر في أداء مهمّة الدفاع عن الدين أو فهمه.

الخطوة الثانية: الاهتمام بالإشكالات الميدانيّة ـ التطبيقيّة

ظهرت في الغرب مدرسةٌ فكرية معروفة، شهدت رواجاً عظيماً في القرن العشرين، وأخذت تعمُّ العالم كلّه لتهيمن اليوم على الكثير من مساحات التفكير العالمي، وهي المدرسة الوضعيّة (Positivism)، التي ترى أن القضيّة العلميّة، هي القضيّة القابلة للاختبار والتجربة بالحسّ ليس إلا، وبهذا تخرج القضايا غير الحسّية عن أن تكون قضايا علميّة، وعلى سبيل المثال قضية «الطقس ممطرٌ اليوم» قضيّة علميّة؛ لأنّها قابلةٌ للاختبار بالحسّ والتجربة، لكنّ قضية: «الله موجودٌ» ليست قضية علميّة أساساً؛ لأنّها غير قابلة للاختبار عبرَ الحسّ والتجربة، فيجب إخراجها من العلوم، ومثلها الكثير من القضايا الدينيّة. هذه مدرسة بالغة الخطورة في التفكير الإنساني عالمياً، وقد شهدت سلسلة تجاذبات في الغرب وانتُقدت، لتتراجع بعض الشيء نظريّاً منذ سبعينيات القرن الماضي.

انتشر هذا التفكير في جميع أرجاء الأرض، ونحن المسلمين أيضاً من حيث لا نشعر تأثّرنا بها، إذ الكثير من شبابنا وفتياتنا اليوم في الجامعات والمعاهد العلميّة يتربّون على روح هذا التفكير، لأنّ النظريات العلميّة الأكثر رواجاً اليوم هي النظريّات الغربيّة عادةً، وكثيراً ما بُنيت على أساس هذا التفكير.

إنّ رسوخ هذا النمط من التفكير في الأذهان أدّى إلى نوعٍ جديد من الإشكالات والتحدّيات أمام الدين والقضايا الدينيّة؛ لأنّ الذهنيّة الوضعيّة ترى أنّ صدق أيّ قضيةٍ رهينٌ بصدق النتائج المحسوسة لها، فإذا واجه الوضعي قضية «الإسلام نظام حياة» أو قضية «الإسلام حلاّل المشاكل» أو «الإسلام لا يميّز بين عربي وأعجمي ولا بين أبيض وأسود» أو غير ذلك، فسوف يذهب مباشرةً إلى أرض الواقع وما حقّقته التجربة الإسلاميّة من النتائج؛ ليحكم على صدق هذه القضايا أو كذبها، فيذهب إلى الدول التي تسمّي نفسها «إسلاميّة»، ليرى ماذا حقّقوا في الخارج؟

إذا قلنا: «إنّ الإسلام هو الحلّ، وإذا طبّقناه ستُحلّ جميع المشاكل»، فسوف يذهب مباشرةً إلى التجارب الإسلاميّة ليرى النتائج الملموسة ويختبر صدق هذه القضية من خلالها، فيذهب إلى المملكة العربية السعوديّة ليرى ما الذي حقّقته الدولة الإسلاميّة السعوديّة؟ ما الذي يميّزها عن أوروبا؟ أو يذهب إلى التجربة الأفغانيّة ليرى ما هي النتائج التي حصلت من تطبيق الإسلام فيها، أو يذهب إلى التجربة الإيرانيّة أو النيجيريّة أو الصوماليّة أو الباكستانيّة أو..، فالمهمّ عنده ما حصل ميدانياً، أي النتائج الملموسة على أرض الواقع، وهي التي تحكم بصحّة الإسلام أو بطلانه؛ لأنّه لم يعد يقتنع بأنّ صحّة المفاهيم تتمّ عبر المنطق وإقامة البراهين فحسب، وإنّما صحّة القضايا عنده رهينةٌ بالتجربة والعمل.

إذن، طريقة الاقتناع اختلفت كثيراً، فبعد أن كان المخاطب يقتنع بإقامة البراهين والمقدّمات العلميّة، أصبح اليوم لا يبالي بهذه المقدّمات، بل يبحث أكثر عن النتائج العينيّة والملموسة، فلا يمكن أن نتكلّم مع المخاطب المعاصر المتأثّر بمثل هذه النظريات كما كنّا نتكلّم سابقاً، فالدفاع عن القضايا الدينية اليوم يحتاج إلى آلية كلاميّة جديدة بإمكانها أن تفهم نوعيّة الإشكالات وتجيب عنها بطريقة تُقنع المخاطب.

ثمّة إشكالات كثيرة اليوم تسجّل على القضايا الدينيّة، انطلاقاً من هذه الفكرة، وهي تبلغ العشرات بل المئات، فلو حلّلناها سنجدها ترجع لهذه النقطة بالذات، حيث يرىد المستشكل أن يحاكم القضايا الدينيّة من خلال التجربة.

فعلينا أن ننتبه إلى نوعيّة الإشكالات التي تصاغ اليوم، والتي تختلف عن نوعيّة الإشكالات التي كانت تصاغ سابقاً، حتى الإشكالات التي كانت بين الفكر الإسلامي وبين الشيوعيّين والماركسيّين، كانت تختلف عن هذه الإشكالات؛ لأنّها كانت ذات طابع استدلالي منطقي وكانت تناقش بالمقدّمات المنطقيّة والبراهين، ومن ثمّ كان بإمكان الكلام الإسلامي أن يدخل معهم في حوار برهاني ويخرج بسلام من هذه المعركة، لكنّ نمط الإشكالات اليوم اختلف كثيراً، فلا يمكن أن ندخل الحوار مع تلك الأدوات السابقة وإلا سنخسر المعركة، فنحتاج إلى البحث عن طرق أخرى للإقناع تستطيع أن تقنع الآخر المتأثّر بالمنطق الوضعي، لندافع عن الساحة الدينيّة.

ولكي نتعرّف على هذه الإشكالات لا بأس بأن نشير إلى أحد النماذج، وهو ما سألني أحدهم عنه في سؤالٍ منشور في كتابي المتواضع «إضاءات»، حيث قال لي: ماذا حقّقت دولة الإمام علي× قياساً بدولة اليابان؟ دولة اليابان نجحت بمئات المرّات أكثر ممّا نجح الإمام علي×، فكيف نعتبره اُنموذجاً مثالياً يُقتدى به؟ هذا ليس سؤالَ شخص واحد، بل سؤال شريحةٍ كبيرة من شبابنا.

إنّ علينا أن نفكّر في هذا النوع من الإشكالات، حتى نعدَّ العدّة للجواب عنها، حيث لا يمكن الجواب عنها من خلال المقدّمات المنطقيّة وإقامة البراهين؛ لأنّ المخاطَب أساساً لا يفكّر بهذه الطريقة، بل لا يقبل هذه الطريقة في التفكير، وهذا ما يحتاج إلى الكثير من العمل وتحليل القضايا والتأمّل فيها.

يسيطر المنطق الوضعي والتجربي اليوم على شريحة كبيرة من شبابنا وفتياتنا، وكلّما فشلت حركة إسلاميّة ـ مع الأسف ـ ازداد هذا النوع من الإشكالات، من هنا نجد هذا النوع من الإشكالات أكثر انتشاراً في البلدان التي أحرزت الحركة الإسلاميّة الاجتماعية والسياسيّة فيها فشلاً، فنجد الشباب يُشكلون بهذه الطريقة وفي كثيرٍ من الأحيان بلغةٍ قاسية، وعلينا أن نستوعب القسوة هذه، ونحلّل المسألة بكلّ هدوء محاولين تبيين مناشئ الفشل هذا، حتى نُبعد أصل النظريّة الإسلاميّة عن مركز المشكلة، وإلا فعلينا في بعض الأحيان النظر مجدّداً في عُمق النظريّة لكي نقوم بإصلاحها بنفسها.

الخطوة الثالثة: الاهتمام بالتحدّيات الكلاميّة المناطقيّة

كلّ منطقة لها مشاكلها الفكريّة والكلاميّة التي ربما لا وجود لها في المناطق الأخرى، والمتكلّم الإسلامي عليه أن يرصد هذه المشاكل المناطقيّة إضافةً إلى المشاكل المشتركة؛ لأنّ الكلّ وإن كانوا معنيّين بأن يهتموا بالمشاكل المشتركة، لكنّهم معنيُّون أكثر بالاهتمام بالمشاكل المناطقيّة نتيجةَ توزيع الأدوار، حيث لا يستطيع الكلّ أن يرصد جميع المشاكل والتحدّيات الفكرية خاصّةً إذا كانت في مناخٍ لا يعرفه.

فعلى سبيل المثال المتكلّم الإفريقي عليه أن يهتمّ بالمناخ الموجود في إفريقيا، ليعرف ما هي طبيعة المشاكل التي تواجه نمط تفكير الناس إزاء القضايا الدينيّة في هذه المنطقة، وهو بوصفه متكلّماً عليه أن يجيب عنها، ربّما الكثير من المشاكل هناك لا وجود لها في العالم العربي، وربّما يكون الكثير من مشاكل العالم العربي لا وجود له هناك، فبدل أن ننقل المشاكل غير الموجودة، علينا أن نبحث عن المشاكل الموجودة ونحلّها.

عدم وجود التخطيط في هذه الناحية قد يؤدّي إلى مثل هذه المشكلة، فبدل أن نأتي بموضوع ليس له وجود في هذه المناطق، ثم نطرحه فنخلق مشكلةً جديدة، ونزيد الطين بلّةً، علينا أن نبحث عن المشاكل الموجودة في كلّ منطقة ونحاول حلّها، فعلى المتكلّم المعاصر أن يكون مهتمّاً بالمشاكل الموجودة في منطقته.

إذن، الخطوة الثالثة التي علينا القيام بها، هي القدرة على رصد المشاكل المشتركة بين المسلمين في العالم على مستوى القضايا الفكريّة والكلاميّة إلى جانب المشاكل الخاصّة، أي المشاكل المتعلّقة بقوميّات أو لغات أو مناطق جغرافيّة خاصّة، وهذا الجمع هو الذي يوزّع أدوارنا ولا يشتّت طاقاتنا ولا يورّطنا في استهلاكٍ عبثيّ لها.

الخطوة الرابعة: الاحتراز عن الأعمال الموازية

تحتاج المؤسّسة الدينية إلى أجهزة للتنسيق فيما بينها حتى تهتمّ بجميع المشاكل الفكريّة دون أن تهدر الطاقات في نقطةٍ معيّنة وحول مسألةٍ معيّنة، وهذا ما يحصل كثيراً للأسف في المؤسّسة الدينية، حيث يعمل أشخاصٌ مختلفون على موضوع معيّن من دون تنسيق فيما بينهم، الأمر الذي يؤدّي إلى ظاهرة الأعمال الموازية، فتعمل ثلاث مؤسّسات على تحقيق كتاب واحد، ويكتب أربعة أشخاص في نفس الوقت كتاباً في موضوعٍ معيّن من دون اطّلاع بعضهم على الآخر.

ونتيجة ذلك أنّنا نلاحظ اليوم أنّ نسبة ربما ستين في المئة من الجهود الكلاميّة الإماميّة اليوم تذهب نحو النقاش مع التيارات السلفيّة، في حين تشكّل التيارات السلفية تحدّياً فكريّاً بنسبة أقلّ من ستين في المئة، وهذا يعني أنّنا نصبّ جهودنا على نقطة لا تحتاج إلى هذا القدر من الجهود، بل إلى قدر أقلّ، ولو أنّنا حملنا سياسة استراتيجيّة متناسقة، لما أهدرنا الطاقات في أعمال تكراريّة ولا صرفنا الجهود في مكان لا يحتاج لهذا كلّه، بل يحتاج لما هو أقلّ منه.

الخطوة الخامسة: الاهتمام ببعض المباحث التقليديّة في علم الكلام

ثمّة بعض المباحث التقليديّة في علم الكلام أخذت تحظى بأهميّة كبيرة اليوم، وهي مع الأسف في بحوثنا الكلاميّة قليلة، وتحتاج إلى مزيد من الاهتمام بها من قِبل الباحثين والعلماء، وسأذكر أنموذجين من هذه المباحث المهمّة:

1 ـ مسألة المعاد:

عندما نراجع الكتب الكلامية نجد أنّ المباحث المتعلّقة بالمعاد قليلة، وهي في الغالب تعتمد النصوص القرآنيّة، حيث كانوا يعتمدون في قضيّة المعاد على القرآن الكريم والسنّة الشريفة أكثر من اعتمادهم على المعطيات العقليّة، فصارت بعض الكتب الكلامية في قضيّة المعاد أشبه بتفسير القرآن منها بالمباحث الكلاميّة.

بينما اليوم تحوّل المعاد إلى مسألة معقّدة وإشكاليّة، وعلى سبيل المثال مسألة الخلود وتناسب الذنب والعقاب من المسائل التي أثارت جدلاً واسعاً اليوم، على سبيل المثال كيف يمكن أن نجمع بين العدل الإلهي والإخلاد في النار؟ وكيف يمكن أن نقبل بأن يعصي شخصٌ مدّةً محدودة من الزمان لكنّه بسببها يُعذّب في النار خالداً إلى ما لا نهاية؟!

هذا الإشكال ليس جديداً، لكنّه اليوم يأخذ رواجاً كبيراً، ويكرّرونه ويعيدونه بهدف إثبات ظلم الدين للإنسان، وعدم إنسانيّة الدين، وأنّ هذا الاله الذي صوّروه لنا هو ظالمٌ جائر (والعياذ بالله)، وهذا موضوعٌ مهمّ.

2 ـ مسألة النبوّة

إنّ الكثير من الإشكالات التي توجّه اليوم إلى الدين قائمةٌ على إثبات صدقيّة الأنبياء، حيث بدأنا نشهد هنا وهناك من يُنكر نبوّة بعض الأنبياء، بل بعضهم حاول التشكيك في وجودهم كما يقال بالنسبة إلى نبيّ الله موسى وعيسى، فهذه أصبحت قضية مهمّة جداً.

بل إنّ نقد الدين التاريخي صار حالة عامّة اليوم وأنصار المذهب الربوبي أخذوا بالتوسّع تدريجيّاً، وأفكارهم قائمة على نقد الأديان التي أتى بها الأنبياء عبر نقد أصل فكرة النبوّة، والتشكيك في وجودها.

الخلاصة والنتائج

إنّ علم الكلام ـ كأيِّ علم من العلوم ـ شهد تحوّلات وتطوّرات عديدة عبر التاريخ، فمني بتراجعٍ في فترة ما، وشهد تنامياً في فترة أخرى، وهذا أمرٌ طبيعي جداً، لكنّنا إذا أردنا اليوم أن نشهد تطوّر الكلام الإسلامي مجدّداً فعلينا أن نفتح باب الاجتهاد فيه، وهذا لن يحصل إلا من خلال الاعتراف بالآخر واحترامه.

والمجتهد الكلامي اليوم بحاجة إلى أدوات أساسيّة، منها:

الوعي التاريخي.

دراسة مناهج التفكير.

الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة.

ذلك كلّه ليستطيع أن يجيب على الإشكاليّات المعاصرة.

كما يحتاج تطوير علم الكلام إلى القيام بخطوات أساسيّة، منها:

تقوية حسّ المعاصرة.

الاهتمام بالمشاكل الميدانيّة.

الاهتمام بالمشاكل المناطقيّة.

الاحتراز عن الأعمال الموازية.

الاهتمام ببعض المباحث الكلامية القديمة التي أخذت رواجاً من جديد كمسألة المعاد والنبوّة.

فعلينا أن نفتح عيوننا ونأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار ليكون ما نقدّمه مفيداً، وأن لا يكون في نهاية المطاف مجرد كتابٍ يوضع على رفوف المكتبات، لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً في صنع الوعي الثقافي للشباب المسلم.

وأقترح على الذين لديهم رسائل ماجستير أو دكتوراه أن يختاروا موضوعاتٍ تجيب على مشكلة قائمة، وليس على قضايا فرضيّة أو ترفيّة، وعلى سبيل المثال «أصالة الوجود بين ملّا هادي وملّا صدرا دراسةٌ مقارنة»، هذا موضوعٌ جيّد، لكن في الظروف الراهنة هذه القضية لا تشكّل تحدّياً للإسلام أو الدين، بينما قضية مثل «الخلود في العذاب ومقاربتها من زاوية منطق العدل الالهي» موضوعٌ مهم جداً على مستوى التحدّيات التي تواجه الدين، لا أريد أن أبخس الأشياء حقّها، فكلّ هذه المباحث من الناحية العلميّة مهمّة، لكن علينا أن نعطف نظرنا نحو هذا النوع من الموضوعات التي تتعامل مع الإشكاليّات المعاصرة، عملاً بفقه الأولويّات وتقديماً للأهمّ على المهمّ.

_______________________

([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في مقرّ الجالية الإفريقيّة في إيران، بتاريخ 15 ـ 12 ـ 2013م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والتوضيحات.

([2]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الإسلاميّة: 25 ـ 26، نشر المشرق للثقافة، إيران، الطبعة الأولى، 2006م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً