أحدث المقالات

 فتوي واحدة وقراءات عديدة

ـ القسم الأول ـ

الشيخ أحمد عابديني(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

الحاجة لدراسة موضوع ومصافحة المرأة

يجدر بنا قبل كل شيء أن نعلن عن بالغ سعادتنا لفتح باب الحوار في مختلف الأبواب الفقهية دون صدور الحكم بالكفر والارتداد بسبب الإفتاء بما يخالف المشهور أو يناقض الإجماع، ومن دون هجوم الجموع الغاضبة بأدواتهم الجارحة، كالخناجر والبلطات وما شاكلهما، على المفتين والباحثين والمحققين. ومما يدل على البلوغ الفكري لدى الأكثرية الساحقة من أبناء المجتمع أنها بدأت تدرك تدريجياً أن الفكرة يجب أن تقارع بالفكرة، وعدم مواجهة الأقلام بالسكاكين والمقامع.

ومع ذلك تستعمل الأقلام أحياناً كلمات جارحة تفوح منها الإهانات، ولذلك نُهيب هنا بحملة الأقلام، وهم من المثقفين والعلماء، أن يكبحوا جماح مدادهم، وإذا عملنا بذلك نكون قد احترمنا وظيفة العلم والقلم، وتوصلنا إلى بيان الحقيقة بشكل أسرع وأفضل.

كما أنه لا ينبغي في تحليل المطالب قصر النظر على القائل والمفتي، واتخاذ المواقف على أساس الحب والبغض السياسي والشخصي؛ لأنها أمور مؤقتة وعابرة، في حين أن النظرية العلمية باقية وخالدة. وإننا لو واجهنا العلم بأسلوب غير علمي سيفتضح أمرنا بعد تغير الأوضاع السياسية، وسيعمل العلم والتاريخ على إدانتنا، ولن يجدينا استهلاك الأقلام والأوراق واستـنزاف وقتنا ووقت الآخرين شيئاً؛ لأننا لم نقم بواجبنا تجاه العلم ولم نزد فيه خردلة، وإن للتفوق السياسي على الخصوم أساليبه الأخرى، ولا يمكن رفع شخص أو خفضه بمجرد قبول أو رفض فتوى أو رأي.

 نسعى في هذه المقالة ـ في حدود الإمكان ـ إلى بيان السابقة التاريخية لهذه الفتوى، والموارد المشابهة لها، وأدلتها، وبيان النقد الوارد بشأنها وجنوح الأقلام فيها؛ بغية التعرف على نقاط الضعف والقوة؛ بغية القضاء على مواطن الضعف فيها وتعزيز مواطن القوة منها في المستقبل. وكلي أمل في أن تخضع مقالتي هذه للفحص والنقد، وأن يمنّ عليّ الأصدقاء من حملة الأقلام بذلك؛ حتى تمضي قافلة العلم قدماً، وتتطلع في مسيرتها إلى الأمام.

 ولما كان آخر من كتب في هذا الباب هو السيد محمد باقر هاشمي نيا، حيث نشر مقالاً في صحيفة كيهان، بتاريخ 30/1/1383هـ ش، لذلك سأبدأ بحثي من كلماته. وأحب التنويه هنا قبل كل شيء إلى أنّ أسماء الشخصيات التي سنذكرها في هذا البحث إنما هي لبيان آرائهم وتفكيك البحوث والأقوال عن بعضها، ولا نروم من ورائها تأييداً أو تكذيباً لأحد.

نقد فتوى المنتظري، دراسة السيد هاشمي نيا في صحيفة كيهان بتاريخ (30/1/1383هـ ش)

 إن المقربين من الخصائص الفكرية والأسلوب الفقهي للشيخ المنتظري يدركون جيداً أنه يجنح أحياناً في استنباطه للأحكام الشرعية. وقد أثار جدلاً من خلال ابتداعه بعض النظريات الفقهية؛ من خلال استناده إلى الفتاوى الشاذة، وروايات العامة، وتجاهل إجماع فقهاء الشيعة، وتجاوز الأسس المتفق عليها في عملية الاستنباط، مما يجعل من الصعب إدخالها في دائرة الشريعة. وإذا تجاوزنا ذلك فإن أصغر طالب علم لم يكن ليتصور أن يصل الأمر بـ (الفقيه الجليل) ليتخذ الساسة في الداخل والخارج أفكاره الفقهية جسراً للوصول إلى مآربهم المشؤومة.

وقفات مع النقد

 كان يجدر بالسيد هاشمي نيا أن يوضح معنى (الجنوح) بشكل أفضل، فهل الاستناد إلى الفتاوى الشاذة وروايات العامة يعد جنوحاً، أو أن الجنوح هو الفتاوى التي يصعب إدراجها في دائرة الشرع، أو هو استغلال المنحرفين للفتاوى، أو هو مجموع هذه الأمور، أو أن للجنوح في الفقه معنىً آخر لم يُشِرْ إليه؟

 يبدو أن الموارد التي ذكرها لا يمكن وصفها بالجنوح، لا منفردة ولا مجتمعة. ومن المستبعد أن يقوم هو أو غيره باستعمال هذه المفردة في الموارد المشابهة.

 فمثلاً: إن إباحة الشطرنج التي أفتى بها الإمام الخميني& شاذة ومخالفة للإجماع، ولا توجد أية رواية تؤيدها في مصادر الشيعة. وقد أساء المنحرفون الاستفادة منها، حتى أضحت مثاراً لاعتراض البعض. ومع ذلك لم توصف بالجنوح، ولم تكن لتستحق هذه الصفة؛ لكونها مجرد استنباط قام به فقيه جامع للشرائط، وإن خالف فيها جميع الفقهاء.

 من المستبعد أن نتصوّر السيد هاشمي نيا أو أيّ شيعي آخر يتهم السيد المرتضى (علم الهدى) أو العلامة الحلي بالجنوح؛ إذ إن السيد المرتضى كان يجيز الوضوء منكوساً، ويرى طهارة المتنجس بمجرّد زوال عين النجاسة ولو من دون صبّ الماء عليها. وهذه الفتاوى تتفق تماماً مع ما عليه أهل السنة، أما بين الشيعة فهي في غاية الشذوذ، ولا تزال كذلك. كما رفض العلامة الحلي حكم المنزوحات، رغم كونه إجماعياً حتى ذلك الحين، وقد دلت عليه الكثير من الروايات، إلا أنه أفتى بخلاف الإجماع؛ اعتماداً على رواية واحدة لـ (محمد بن إسماعيل بن بزيع)، وبعد ذلك سار الجميع على نهجه، وأخذوا بفتواه.

 وفي عصرنا هذا خالف السيد الخوئي الإجماع في الكثير من فتاواه، ولم يتهمه أحد بالجنوح.

وبالالتفات إلى ما تقدم يبدو أن مفردة (الجنوح) هي بذاتها من جنوح القلم، فإنّ الجنوح إنما يستعمل لمن ينحرف ويخالف سنة متواترة، أو يقف أمام صريح آية قرآنية. وأما من كان مثل ابن إدريس الحلي أو السيد المرتضى، من الذين لم يعملوا حتى بالخبر الصحيح، فلا يطلق الجنوح والانحراف بحقهم، حتى من خلال النظر في كتاب «مختلف الشيعة»([1])، وما صدر عنهما من الفتاوى الشاذة، ولا يمكن لأحد من الشيعة أن يصفهما بالجنوح والانحراف. ومن هنا يتضح جنوح القلم بشكل واضح.

 كما أن (دائرة الشريعة) من العبارات المبهمة أيضاً، فهناك من الفقهاء من يذهب إلى حرمة صلاة الجمعة، بينما يرى آخر وجوبها تخييراً، ويذهب ثالث إلى وجوبها العيني. وهناك من يجيز الوضوء منكوساً، بينما يذهب آخر إلى أن رجوع قليل من الماء إلى الأعلى مضرٌّ بصحة الوضوء، وجميع هذه الأحكام تدخل في (دائرة الشريعة).

 وفي فترةٍ زمنية كانت نساء الشيعة يخرجن بعباءة وخمار، وهنَّ يخرجن حالياً بالشكل الذي نراه جميعاً، وكلا المجموعتين ترى نفسها من الشيعة. ومن المستبعد أن يذهب فقيه في الوقت الراهن إلى خروج الأكثرية من الشابات والجامعيات عن دائرة التشيع، أو يحكم بفسقهنّ أو فجورهنّ؛ بسبب إظهار شعرهنّ.

 وإذا رجعنا إلى فتاوى الفقهاء السابقين والمعاصرين لوجدنا فيها ما يوافق فتوى الشيخ المنتظري. وكلها داخلة في ( دائرة الشريعة)، بل وأدخلوا في هذه الدائرة ما هو أكثر شذوذاً من هذه الفتاوى، ابتداءً من نجاسة المشركين إلى طهارتهم، وابتداءً من حلية ذبيحة أهل الكتاب إلى حرمتها، وما إلى ذلك.

الشيخ المنتظري والإجماع

 وبعد أن نسب السيد هاشمي نيا للشيخ المنتظري تجاهله لإجماع فقهاء الشيعة نرى من المناسب إيضاح مبناه ومبنى الآخرين في هذا المجال.

 يُعدّ الشيخ المنتظري من تلامذة السيد البروجردي، الذي يعتقد أن فتاوى الفقهاء الأوائل مطالب ممهورة، وقد تمّ تناقلها من المعصوم جيلاً بعد جيل حتى وصلت إلى الأجيال اللاحقة، وكان يقول: «لم يكن قدماء الفقهاء من القائلين بالقياس والاستحسان واعتماد الأمور العقلية، بل لم يكونوا ليتجاوزوا حتى ألفاظ الروايات، فلو أنهم أجمعوا على فتوى فلابد أن يكون قد بلغهم كلام من الإمام في ذلك المورد ولم يبلغنا». ولذلك كان يعتمد فتاوى مشهور الفقهاء الأوائل، بل ويقدِّمها على الرواية الصحيحة. وقد نقل الشيخ المنتظري هذه المطالب عن أستاذه من أكثر كتبه الفقهية([2])، وقد التزم الشيخ المنتظري بمضمونها أيضاً([3]).

 إلا أن الذي يميِّز هذا الفقيه عن غيره، ودعا الإمام الخميني إلى منحه لقب (الفقيه الجليل)، هو أنه كان يسعى؛ من خلال التتبع والتدقيق والتفكير وجمع القرائن، إلى قراءة الخلفية الذهنية للمشهور، والكشف عن خباياه ومكنوناته، والعمل على تحليل المسائل في ضوء ذلك، الأمر الذي دعا الإمام الخميني ـ حتى في الموارد التي أفتى بشأنها ـ إلى إرجاع مقلِّديه والمسؤولين لفتاوى الشيخ المنتظري([4]). فمثلاً: كان الإمام يرى الاحتكار في الغلات الأربعة والزيت الحيواني والزيتون([5])؛ لوجود النص وفتوى المشهور بذلك، إلا أن الشيخ المنتظري قد توصل إلى ملاك ومعيار حرمة الاحتكار، وهو عبارة عن «حبس المواد الضرورية التي يكون الناس في مسيس الحاجة إليها»([6]).

أجل، إن ما رآه السيد هاشمي نيا انحرافاً وجنوحاً قد وجده الإمام الخميني علوّاً وتكاملاً، حتى عمد إلى إرجاع مقلِّديه إليه.

 ولو ظهر كتاب في هذه الإرجاعات لاتّضح الشأن والمقام العلمي للشيخ المنتظري واعتبار فتاواه عند الإمام الخميني.

 ومن المعروف أن الفقيه إذا أرجع مقلِّديه في احتياطاته إلى فقيه آخر كان ذلك دليلاً على أنه يراه أعلم الفقهاء من بعده، وإذا أرجعهم إليه حتى في فتاواه دل ذلك على كونه مساوياً له في العلمية أو أعلم منه. وقد أرجع الإمام الشعب والمسؤولين إليه. وما رآه السيد الهاشمي نيا نقصاً وجنوحاً وجده الإمام كمالاً وحسناً ورفعة. ولتوضيح هذه الحقيقة ونظائرها يمكنكم الرجوع إلى كتابنا «شريعت وسازوكارهاى بويائي آن».

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يتهم أحد حتى الآن الإمام الخميني برفع يده عن مبانيه مجاملة لشخص أو تواضعاً أو ما شاكل ذلك، أو أنه ساوم على دينه. وعليه فإن الإرجاع في الفتاوى إلى هذا (الفقيه الجليل) مسألة شرعية، وقد تقدم معناها، ولذلك كان الشيخ الأيزدي إمام جمعة نجف آباد الراحل ـ وقد كان محققاً ومدققاً ـ بعد أن وقف على تلك الإرجاعات في حيرة من أمره، فهل يرشد الشباب البالغ حديثاً إلى تقليد السيد الإمام أو الشيخ المنتظري، وكان يقول: «لست أدري أيهما هو الأعلم».

استغلال المغرضين فتاوى المنتظري

 وأما ما قاله السيد هاشمي نيا من «استغلال الساسة في الداخل والخارج واتخاذهم أفكار الشيخ المنتظري الفقهية ذريعة للوصول إلى مآربهم الشيطانية» فلا بد من بحثها في مقامين:

المقام الأول: لو توصل فقيه إلى فتواه بشكل قاطع، وعلم أو احتمل أن جماعة سيسيئون استغلالها، فهل يجب عليه كتمانها، أو يجوز له ذلك، أو عليه أن يصدع بفتواه مهما كلف الأمر؟

المقام الثاني: هل هناك من استغل فتواه بجواز مصافحة الأجنبية وأساء الاستفادة منها؟

أما في ما يتعلق بالمقام الأول (مقام الثبوت) فقد يتراءى للوهلة الأولى وجوب كتمان الفتوى التي يسيء الأعداء والساسة الاستفادة منها، إلا أن أدنى تدقيق ورجوع إلى الآيات والروايات يثبت خلاف ذلك؛ إذ لا ينبغي لنا أن نجعل من العلم والتحقيق تابعاً للسياسة، فنصدر الفتاوى مجاملة لأحد أو إغاظة له تبعاً للظروف، بل يجب للفتاوى أن تنطلق من المباني العلمية فقط.

مثلاً: نحن نؤمن بأن اسم نبينا‘ وصفاته كانت مذكورة في التوراة والإنجيل، فلو سأَلْنا أهل الكتاب عن سبب كتمانهم ذلك، وأجابوا: خشينا أن يُسيء ساسة المسلمين الاستفادة من تصريحنا بهذه الحقيقة، فهل يكون هذا الجواب مقنعاً ومسوغاً لصحة كتمانهم؟!! وهل كان موقف عبد الله بن الزبير في عدم ذكر اسم النبي‘ في خطبة صلاة الجمعة خشية أن يسيء بنو هاشم الاستفادة منه صحيحاً؟!!  ولو علم القاضي بأن وجيهاً قد سرق أو أفسد أو نازع رجلاً مغموراً بغير حق وقام بظلمه فهل يتعين على القاضي أن يحكم لصالح الوجيه مخافة أن تغدو سنة ويسيء المغمورون استغلالها؟!! فهل المعيار هو العدل والحق، أو سوء الاستفادة وعدمها؟!!

 إن سيرة الإمام علي× حافلة باتباع الحق وإقامة الحدود وبسط العدل. وقد أساء معاوية وأذنابه الاستفادة من هذه السجية في أكثر المواطن، بل وكشف عمرو بن العاص سوأته ليستفيد من حياء الإمام وينجو بنفسه؛ فيخطط في ما بعد للكثير من المؤامرات ضد الإمام علي× وضد المسلمين، وما زالت الأمة الإسلامية تنوء تحت وطأة تلك المؤامرات، فهل كان الإمام علي مخطئاً في نهجه وسيرته؟!!

 ولا زلنا نتذكر نصيحة الإمام الخميني للسيد القديري ـ الذي أشكل على تحليل الشطرنج في ظروف خاصة؛ مستدلاً بأن المتربصين يسيئون استغلالها، وأن العلماء لا يتحملون مثل هذه الفتاوى ـ حيث قال: لا تنظروا لغير الله، ولا تتأثروا بالمتقدسين والفارغين من المعمِّمين؛ إذ لو كان هدفنا من بيان أحكام الله أن نبلغ الحظوة لدى أمثال هؤلاء فمن الأفضل أن لا نبلغ هذه الحظوة أبداً([7]).

 ثم انظروا إلى آيات القرآن في ما يتعلق بـ (كتمان الحق)، حيث قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ} (البقرة: 140)، وقال: {وَلا تَلْبِسُواْ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42).

ولسنا هنا بصدد إثبات صحة فتوى الشيخ المنتظري أو عدم صحتها، وإنما البحث في الكبرى الكلية التي ذكرها السيد هاشمي نيا، أفليست هذه الآية صريحة في حرمة كتمان الحق؟ وهل يمكن إلباس الحق بباطل سوء استغلال الأعداء، والمصير إلى كتمان الحق؟!

وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران: 71).

وهل هناك فرق بين أهل الكتاب والمسلمين في كتمان الحق، فيكون حراماً عليهم وجائزاً لنا؟!

من الواضح أن قول الحق وإبرازه وبيانه من القيم الإنسانية التي تثبت بحكم العقل والفطرة قبل الدين، وهو في ذلك مثل العدل، بل إن كتمان الحق من مصاديق الظلم، وإن قول الحق من مصاديق العدل. وهناك آيات كثيرة تـنهى عن الظلم مجاملةً لأحد، ومنها:

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152).

و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} (النساء: 135).

و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ} (المائدة: 8).

 و{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالعَدْلِ}  (النساء: 58).

 أجل، إن آيات العدل كثيرة، وإن العقل يحكم به قبل الشرع ومستقلاً عنه، وإنما ذكرنا هذه الآيات الأربع لدفع توهم إمكان تجاوز العدل في الدفاع عن حقوق الفقراء أو الوالدين أو اليتامى أو بغضاً للأعداء أو مخافة عدم إيمانهم، فإن الله يحذر من تجاوز العدل في جميع هذه المواطن.

وخلاصة القول: إنه قد يبدو للذهن في الوهلة الأولى جواز كتمان الحق في الفتوى في الموارد التي يسيء الأعداء الاستفادة منها، إلا أن الرجوع إلى سيرة النبي‘ والإمام علي× في ممارسة الحكم، والرجوع إلى آيات حرمة كتمان الحق، ووجوب العدل وحرمة الظلم، تجعلنا نطمئن إلى حرمة كتمان الفتوى المطابقة للحق، وحرمة إظهار الدين مشوّهاً حفاظاً على مصالح بعض الجماعات. نعم، جاء في كلمات الإمام علي× أنه يخفي التكتيكات العسكرية أثناء الحرب لوجود مصلحة في ذلك، إلا أن هذا لا ربط له بالفتوى وبيان حكم الله، ويجب الفصل بين الموضوعات الخارجية والضرورات وبين الأحكام الأولية. ومما تقدم يظهر أن الفتوى بالحق وكتمانها من مصاديق العدل والظلم مما يعدّ حسنه وقبحه ذاتياً.

 ولو أن شخصاً لم يقبل هذا الكلام منا، وسايرناه على ذلك، فلا أقل من أن الفتوى بالحق وكتمانها بمنزلة الصدق والكذب، والصدق يقتضي الحسن، والكذب يقتضي القبح، وكما قيل: «النجاة في الصدق»، وعندها يكون الصدق حكماً غالبياً، وليس دائمياً، وفي أحيان قليلة يكون الكذب للإصلاح أفضل من الصدق الذي يؤدي إلى الفتنة والفساد.

 ولو طالب شخصٌ صاحب فتوى أن يكتم فتواه رعاية للمصالح الدنيوية أو غيرها، أو عدم بيانها تقيةً؛ لأن بيانها يعطي الذريعة للمتربصين في إساءة الاستفادة منها، نصل إلى المقام الثاني من البحث (مقام الثبوت) وهو: هل تقدم الفتوى بجواز مصافحة الأجنبية ذريعة للمتربصين في إساءة استغلالها أم لا؟

هذا، ومن خلال الرجوع إلى الروايات والخلافات بين الشيعة والسنة يتضح أن السنة كانوا على الدوام يظهرون الدين على أنه صعب ومستصعب، في حين يؤكد الأئمة الأطهار^ على يسر الدين من خلال قولهم: «دين الله أوسع من ذلك»، أو «إن الخوارج قد ضيقوا على أنفسهم جهلاً»، أو حين أوجب أهل السنة عدّة أذكار أخرى في التشهد فاعترض الإمام على ذلك بصعوبته على الناس، مما يثبت أن إظهار صعوبة الدين مخالف لمنهج الأئمة الأطهار^.

 وقد قال النبي الأكرم‘ مراراً: «لقد بعثت بالشريعة السهلة السمحاء»، وقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وقد جمعت هذه الموارد كلها في مقالة([8]).

 وعليه يبدو أن المتربصين من الساسة في الماضي كانوا يرمون إلى إظهار الدين صعباً؛ بغية تنفير الناس منه، علماً منهم بذلك أو جهلاً، وبذلك يحولون دون إسلام الكفار أيضاً. وكان النبي الأكرم‘ والأئمة^ يعارضون هذا النهج، وهذا خط عام لا بد من أخذه بنظر الاعتبار.

 أما في العصر الحاضر فما هي مخططات وأهداف ساسة العالم؟ نستبعد أنهم جعلوا لي أو للسيد هاشمي نيا أو لأمثالنا دوراً في ألاعيبهم السياسية، فإنهم قد يوظفون بعض الأشخاص لشتمهم، ومرادهم من ذلك هدفٌ آخر، فيروِّجون في الظاهر لشيء ويريدون منه في الواقع شيئاً آخر؛ حيث نلاحظ أنهم يعملون على تقسيم البلدان الإسلامية إلى دويلات، ويثيرون الحروب بينها من أجل أمور تافهة، في حين يحتفظون لأنفسهم بالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، ويرفعون الحواجز والجمارك، ويروجون لتوحيد النقد وتوحيد المجالس، وفي المقابل يوسِّعون من هوّة الاختلافات بين البلدان الإسلامية، ويقسمون الساسة في البلد الواحد إلى يمين ويسار متصارع، يمكنه التصالح مع العدو الأجنبي، ولا يمكنه أن يتصالح مع نفسه.

 ويعملون في داخل البلدان الإسلامية على اغتيال العلماء جسدياً ومعنوياً، أو يقاطعونهم، وينشرون علومهم القديمة بكل بساطة عبر الإنترنت والكتب والمجلات بأسعار مخفَّضة، ويجعلونها في متناول الجميع.

 وعندما يرون أننا نعمل على تنظيم سياستنا وفقاً لسياستهم، فنعمل مثلاً على نحو مخالف لما يقولون، يطالبون بالسلام؛ لنعمل على تشديد الحرب، فنقضي على شيعة العراق وإيران بأيدينا، وعندما يعلن إمام الأمة قبول الصلح فتصطدم السياسة الأمريكية القائمة على قتل الشيعة بمثل هذه العقبة تتَّبع سياسة أخرى، فتحمل العراق للهجوم على الكويت، سعياً منها لإضعاف العرب، فتثير العراق ومجلس التعاون الخليجي ضد بعضها.

 ولكن عندما ترفض هذه الدول أن تواجه العراق، وتضطر الكويت إلى استصراخ الولايات المتحدة؛ لتقوم هي بنفسها بالدفاع عنها، تنهج أسلوباً آخر، فترفع تارة لواء العدل والحرية؛ لتحظى بوجهة عالمية، ولكي تستولي على النفط، وتحاصر إيران، وتبادر إلى الإطاحة بصدام، ويبدو أنها تتابع هذه الغايات؛ لتحتفظ بمنصب الرئاسة لمرحلة ثانية بأغلبية مطلقة، وبعد بلوغها بعض المنافع يقوم خصمها بالاستيلاء على منصب الرئاسة بإثارة شاب غرّ ليعلن في الظاهر حرباً ضد الولايات المتحدة، وما هي في واقعها إلا شقّ عصا المسلمين، وإضعاف الشيعة، وقتل الآلاف المؤلفة منهم، فيسرق البترول، وتتداول الأحزاب السلطة، وتتَّحد في معاداتها لنا، ويتركوننا في دنيا البؤس نعادي بعضنا بعضاً.

خلاصة القول: إنه ليس بالإمكان معرفة ألاعيب الساسة في هذا العالم المعقد بسهولة، وهل يمكن القيام بإعطاء الذريعة لهؤلاء الساسة من خلال القول بجواز مصافحة المرأة أو عدم جواز ذلك.

إن المتَّفق عليه، ويقع في سلم أولوياتهم، هو بثّ الفرقة بين العلماء، وتهريب العقول والأفكار، وإظهار الدين بمظهر القسوة والخشونة. ويتخذون من حركاتنا العملية وهمزاتنا ولمزاتنا وزلات أقلامنا وألاعيبنا أدوات لتمرير هذه الأولويات. ولذلك نوَّهنا في بداية المقال إلى انتهاج بحث علمي بمعزل عن التأثيرات السياسية والحبّ والبغض الفردي والاجتماعي.

 ولو أننا أردنا الحيلولة دون استغلالنا من قبل الأعداء فليس أمامنا سوى الحفاظ على شخصياتنا العلمية في الحوزة والجامعة؛ لأنها ذخائر يستحيل تعويضها أو الاستغناء عنها. وإذا حافظنا على علمائنا سنجد أن لكل واحد منهم رأياً مخالفاً لرأي غيره. لذا علينا أن نرفع من قدراتنا وقدرات المجتمع على تحملّ الآخر؛ لنتمكن من سماع كلامه وتمحيصه واستيعابه والأخذ به أو رفضه، مع تجنب الإهانات والسباب والشتائم، وجنوح الأقلام، واغتيال الشخصيات روحيّاً وجسدياً. وعندها سنشهد ثمار ذلك في تقدمنا واتحادنا. وعلى أمل أن نرى ذلك اليوم.

هل هناك حاجة لفتوى جديدة في مسألة المصافحة؟

قبل مواصلة البحث ونقد أدلة الطرفين لنقف هنيئة ونقول: لو أننا بدلاً من المواجهة العنيفة لفتوى الشيخ المنتظري كان لنا منها نفس الموقف الذي اتخذناه من فتوى الاحتكار، لاستفاد منها الشعب والنظام على نحو أفضل.

 إن الذي يجري حالياً في إيران، وخاصة في طهران، ومراكز المحافظات، وفي الجامعات، هو اختلاط الكثير من الفتيان والفتيات، فيتَّحدثون ويضحكون ويتبادلون الكتب والكراسات العلمية ويتعاونون في النشاطات العلمية وغيرها، إلا أنهم يتخذون جميع الاحتياطات اللازمة؛ بسبب خوفهم من العسس ولجان الرقابة، فلا يقومون أمامهم بأية مصافحة أو تماس، ولكنهم ما إن يختلوا ببعضهم، ويأمنوا الرقيب، حتى تجدهم أحرص على القيام بما منعوا منه، فيتجاوزون في التّماس حد المصافحة البريئة، التي لا يقصد منها الشهوة.

 في حين لو طبقت هذه الفتوى لما وصل الوضع إلى ما وصل إليه، ولأصبح أفضل مما هو عليه الآن؛ إذ حينها ستحظى اللجان الرقابية وقوى الدرك ولجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإمكانات كثيرة، ولما أنفقت الأموال في المحسوبيات لإطلاق سراح المحتجزين، ولتم صرفها في جهات أخرى، من بينها: توفير فرص الزواج للشباب. ولما أصيب الشباب بالحرص على ما منع منه. ولما ابتلي الشباب بالنفاق، حيث أخذت سلوكياتهم في خلواتهم تختلف عنها في الأجواء العامة. وبما أن الحرام والحلال ينحصر بحالات الشهوة فإن ذلك سيخلق رادعاً داخلياً يكمن في وجدان الشباب، الذين سيجدون أنفسهم في موقع المسؤولية تجاه هذا الرقيب الذي يصحبهم حتى في خلواتهم.

 يجب في الحقيقة إجراء إحصاء في بلدنا للوقوف على حجم الالتزام بالموارد الكثيرة التي شملتها (الفتوى بالحرمة) وبقية الموارد المشمولة لـ (الاحتياط الوجوبي والاستحبابي للمنع).

 يبدو أن للتشدد أثراً معكوساً. ولعلّه لهذا السبب أكد الله ورسوله بشكل عام على يُسْر الدين وسماحته، كي يقضي على التبعات العكسية للتشدد.

دعم البعض لتيارات مشبوهة!!

يذكر السيد هاشمي نيا أنه قد أخذ التبرير والدفاع الفقهي للشيخ المنتظري عن المجدِّدين والمنفِّذين لمخططات الاستكبار العالمي والصهيونية وتيرة متصاعدة في السنوات الأخيرة. ونشير هنا إلى موردين منها:

الأول: دفاعه عن السيد اليوسفي الإشكوري، وهو من بين المدعوّين إلى مؤتمر برلين، والذي أنكر حكم الحجاب الثابت بالقطع واليقين. فقد بعث الشيخ المنتظري برسالته الجوابية عن سؤال إذاعة الحرية حول الاتهامات الموجهة ضد اليوسفي الإشكوري، من خلال تقسيمه الأحكام الإسلامية إلى ثابتة ومتغيرة، وقد أشار فيه بشكل غير مباشر إلى أن الحجاب ليس من الأحكام الثابتة في الإسلام…

 الثاني: بعد المواقف المفسدة التي قامت بها السيدة شيرين العبادي (المرشحة لنيل جائزة نوبل للسلام)، والتي صدرت عنها في جامعة أمير كبير، حيث صافحت بكل جرأة ووقاحة حبيب الله بيمان، وهو رئيس حركة المسلمين المجاهدين؛ ومحمد الملكي، وهو من العناصر الوطنية الدينية، وبعد أن كشفت صحيفة كيهان النقاب عن ذلك، وجّه الذين يتخذون من فتاوى هذا الفقيه ذريعةً للوصول إلى ميولهم وأهدافهم السياسية استفتاء مثيراً للشيخ المنتظري، فأجاب عنه بفتوى غريبة وغير مسبوقة، وأصل الاستفتاء وجوابه كالآتي…

مناقشة ودفاع

 لم نعرف مراده من (السنوات الأخيرة)، فهل هي سنوات ما بعد انتصار الثورة، أم سنوات ما بعد تـنحّيه عن منصب نائب القائد، أم سنوات فرض الإقامة الجبرية عليه وحبسه في داره، أم سنوات رفع الحصار عنه واستعادته حرّيته ثانية؟

 فإن إعطاء مثال عن أي واحد من هذه الفترات الأربع قد يوضح نمط التحول والتغير في آرائه، أو يؤكد ـ بالعكس من ذلك ـ ثبات مبانيه الفكرية.

 1ـ بعد انتصار الثورة الإسلامية وإلقاء القبض على رؤوس الفساد في النظام السابق، ومن بينهم من كان يمارس التعذيب بحق المجاهدين من أجهزة السافاك، وخاصة من كان يقوم بتعذيبه شخصياً، طالب السلطة القضائية قائلاً: حذار أن تنتهجوا أسلوباً منافياً للعدل؛ بسبب تعذيبه إياي، فلا تظلموه أو تجحفوا بحقه، بل المناسب أن تشملوه بالعفو والرحمة الإسلامية.

 وأراد منهم في هذا الشأن العمل بقوله تعالى، حيث يأمر النبي الأكرم‘ بالقول: {لا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 24).

 ولا يخفى أنه في طلبه هذا لم يكن ليتوقع دعماً من السافاك، ولم يكن لأحد أن يتصور ذلك، بل كان الجميع يثني على سعة صدره، حيث كان يهدف إلى دعوة أشدّ أعداء الإسلام وخصومه من خلال إظهار الرأفة والرحمة الإسلامية.

 2ـ وبعد ذلك بسنتين، حيث قام المنافقون الضالّون بقتل حشاشة كبده الشهيد محمد المنتظري مع الكثير من الأبرار والصالحين في حادثة السابع من تير، وحينها كان يحق لأي إنسان عادي أن يتصور بأنه سيلبس لامة حربه، ويعلنها حرباً شعواء على المنافقين، ويأمر باستئصال شأفتهم؛ انتقاماً منه لولده، غير أن إيثاره العدل والتمسك بالأصول الأخلاقية حال دون سلوك الطريق الخاطئ، بل كان يدأب على توصية المسؤولين بعدم أخذ الآخرين بجريرة بعض المنافقين، وكان يعمل باستمرار على إرسال وفود للتحقيق والكشف على السجون؛ ليتأكد من عدم تعرض بريء إلى ظلم. وقد شكَّل ذلك أحد المشاكل الكبيرة بينه وبين القائمين على إدارة السجون. وليس هذا المقام مناسباً لبحث هذه النقطة.

وهناك من رأى في دفاعه عن الأسس والمبادئ الدينية، وقوله بأن للمنافق مثل الآخرين حقوقاً، وإذا صدر حكم بحق أحدهم وسجن لذلك لا تجوز محاكمته على نفس التهمة وإصدار حكم آخر بحقه، دفاعاً عن المنافقين، إلا أنه لم يُصغِ إلى كل هذا الضجيج، بل وانتقد أمر إمام الأمة بعد عمليات المرصاد القاضي بتوجه ثلاثة أشخاص، وهم عبارة عن: شخص من الاستخبارات، والمدعي العام، والقاضي، إلى السجن؛ ليتبينوا ما إذا كان المنافقون لا يزالون على مواقفهم أم لا، فإن ثبت عند أكثرهم أن أحدهم لا يزال متمسكاً بموقفه حكم عليه بالإعدام، رغم أنه أولاً: قد حوكم وحكم عليه بالسجن، ولم يقترف جريمة أخرى في محبسه. وثانياً: يشترط في من يصدر الحكم أن يكون عادلاً، عارفاً بالمباني الفقهية، ولا تتوفر هذه الشروط إلا في القاضي، فلو تشكلت الأكثرية من المدعي العام وعنصر الاستخبارات لم يكن الحكم صحيحاً. وثالثاً: يجب الاحتياط في الدماء. ومن هنا بدأ النزاع بينه وبين الإمام&.

 وعليه تعيّن على والد الشهيد محمد المنتظري أن يعضّ على جراحه، وأن يحول دون التجاوز على حقوق المجرمين والمدانين، وأن لا يسمح بإنزال الظلم بحق السجناء.

 أما الذين فسروا الدفاع عن المبادئ الأصولية ـ جهلاً أو عمداً ـ بأنه دفاع عن المنافقين، والذين شهدوا عند إمام الأمة أن مكتب الشيخ المنتظري أضحى مأوى للمنافقين، ثم اعترفوا بمختلف الطرق بأن شهادتهم كانت كاذبة، وسألوا سماحته الصفح عنهم، فعليهم أن يتحملوا تبعات سلوكياتهم، وعذاب الآخرة على المفاسد التي ترتبت على شهادة الزور التي نطقت بها أفواههم؛ لأنهم أثاروا الزوابع وفقاً لما يشتهي الأعداء، وشقّ صف المجتمع، واغتيلت شخصية عالم كبير، ولم يكن هذا بالأمر الهين الذي يمكن علاجه بحصول الصفح من قبل ذلك الفقيه.

 وبعد التنحية عن منصب النيابة، ورحيل الإمام&، أدرك أن تذكيره بهذه الأسس لا يعطي إلا نتائج معكوسة، فقلل من التذكيرات العامة وعلى فترات متباعدة. وعليه فإن قول السيد هاشمي نيا: «أخذت وتيرة الدفاع والتبرير تتصاعد في السنوات الأخيرة» غير صحيح، بل إن هذه الوتيرة أخذت بالتضاؤل والتناقص. كما أن هذا الدفاع دفاع عن قيم الدين والأخلاق وسيرة النبي‘ والأئمة^. فقد كان يسعى جاهداً للدفاع عن المظلومين والسجناء منذ السنوات الأولى لانتصار الثورة وحتى عام 1368هـ ش، حيث كان جزءاً من النظام، ولم تَخْفَ جهوده في إرسال المبعوثين إلى السجون وبعث الرسائل إلى الإمام والمسؤولين على أحد، إلا أنه بعد سنوات الاعتزال والإقامة الجبرية أخذت جهوده في هذا الإطار بالتناقص الشديد؛ وذلك لعدم قدرته التنفيذية، وعدم وجود من يستمع إلى كلماته المخلصة ونصائحه الصادقة والمبدئية.

أما الدفاع عن اليوسفي الإشكوري، الذي قال السيد هاشمي نيا بأنه «أحد المدعوين إلى مؤتمر برلين، وهو الذي أنكر حكم الحجاب الثابت بالقطع واليقين»، فإننا نسأل السيد هاشمي نيا: هل أنكر السيد اليوسفي الإشكوري آيات الحجاب وقال بعدم وجودها في القرآن الكريم، أو أنه يعترف بوجودها ويذهب إلى نسخها، أو أن له رأياً مخالفاً لرأي الآخرين في تفسير الآيات؟

 يعلم الجميع بأنه لم يذهب إلى الشقّ الأول والثاني. وعليه لو جاء أحد بتفسير جديد لآية أو عدة آيات مع رعاية جميع القواعد التفسيرية واللغة العربية فهل يُعدُّ (منكراً لحكم الحجاب)؟! وهل هناك من يذهب إلى كون آيات الحجاب نصّ في معانيها، أو أن الجميع قد اختلفوا في المراد من (إظهار الزينة) و{يُبْدِينَ} و{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، والمراد من {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}، وتعليل هذا الحكم في الآية 59، ولجأوا إلى الظنون بعد عجزهم عن تحصيل اليقين؟

وبإلقاء نظرة على تفسيرات هذه الآية، أو في الأقل مقالاتنا الفقهية في مجلة (كاوشي نور فقه)، يتضح عددٌ من هذه الاختلافات([9]).

وبعد كل هذه الاختلافات، التي ستتضح في ما يلي بشكل أكثر، هل يصح التعبير بأنه (أنكر حكم الحجاب الثابت بالقطع واليقين)؟ فأيُّ قسم من (الحجاب الثابت بالقطع واليقين) قد أنكره السيد اليوسفي الإشكوري؟

إن هذه الآية تثبت مسألة الحجاب في الجملة، وجميع المسلمين متفقون على الحجاب، إنما النزاع في بعض شروطه وقيوده، وإذا حصل اختلاف كثير حول مسألة أو آية لا يكون الثابت منها إلا المقدار الذي يتفق عليه الجميع. فمثلاً: إن ستر الجيب والفخذين، مضافاً إلى العورتين، هي الأجزاء المتفق عليها في حكم الحجاب، فهل ينكر السيد اليوسفي هذا المقدار؟! واضح أن وجوب الحجاب ليس كوجوب الصلاة والصيام. فمثلاً: لو تجاهر شخص بالإفطار في نهار شهر رمضان فقد نصت بعض الروايات الصحيحة على تعزيره ثلاثاً أو أربعاً، وبعده يحكم عليه بالإعدام، فهل للتجاهر بعدم الحجاب مثل هذه الأحكام؟

 هل هناك رواية واحدة تقول بإكراه المرأة على ارتداء العباءة والحجاب، أو أن الأمر على العكس من ذلك؟ فإن الروايات تقول: «يجوز النظر من دون ريبة أو لذة إلى اللائي إذا نُهين لا ينتهينَ»([10])، وقد فهم البعض من هذه الروايات أن الحجاب حق يعود للمرأة نفسها، فإن تنازلت عن هذا الحق جاز النظر إليها من دون إدانتها وتعزيرها.

فهل ينكر السيد اليوسفي الإشكوري هذا المقدار من الحجاب الذي هو حق خاص، ويمكن للشخص أن يعمل به أو لا يعمل، ولا يجوز للدولة إكراه المرأة على ارتدائه، وإقامة الحّد عليها فيما لو رفضت الانصياع لهذا الإكراه؟!

 إننا نحتمل بل نطمئن إلى أن بعض هذه الكلمات قد صدرت عن زلة من القلم، وإلا فإن شخصاً مثل السيد هاشمي نيا ـ الذي يتضح من خلال مقاله وهوامشه أنه شخص فاضل ـ لا يمكنه أن يذهب إلى اتهام شخص بإنكار حكم الحجاب بهذه الصراحة؛ لأنه يعرف تبعات كلامه، ويعلم أن قول مثل هذه الأمور من دون دليل غير صحيح، بل حرام أيضاً.

 كان النبي الأكرم‘ والأئمة الأطهار^ يجهدون في إظهار الناس على أنهم مسلمون، وكانوا يكتفون في ذلك بمجرد إظهار الشهادتين، في حين تصب جهودنا في الاتجاه المعاكس، حيث نصّر على اتهام شخص بإنكار الحكم الثابت، ثم نقول: إن منكر الحكم الثابت والضروري كافر. ونكون بذلك قد سلكنا منهجاً مغايراً لمنهج النبي الأكرم‘ والأئمة الأطهار^.

خاطرة

ذهبت ذات يوم من أيام السنة الجارية إلى مكتب الإعلام في إصفهان، فوجدت طالباً فاضلاً من طلاب الحوزة جالساً في ناحية من غرفة الحاسوب، وكانت تشغل الناحية الأخرى سيدة إيرانية قالت: إنها تقيم في السويد، وكان البحث دائراً بينهما حول مسألة الحجاب ووجوب ستر المرأة لشعر رأسها.

 كانت السيدة تقول: إنني والحمد لله مسلمة، ومؤمنة بالقرآن، ومع ذلك لا أغطي شعر رأسي؛ لعدم ورود حكمٍ بذلك في القرآن، وكان الطالب يقرأ لها الآية 31 من سورة النور، والآية 59 من سورة الأحزاب. فأجابته قائلة: أنا ملتزمة بمضمون هاتين الآيتين؛ فإن الأولى تقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وها أنا ضربت بلفاعي حول عنقي وصدري، والثانية تقول: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}، والجلباب يحتمل معاني عديدة، ومنها: الثوب الكامل، والمقنعة الكبيرة، والثوب الواسع، وقد ذهبت إلى المعنى الثالث، واتخذت لنفسي ثوباً واسعاً، وقد أغلقت أزراره، وهذا هو الذي تريده الآية الكريمة.

 فأخذ الطالب يسوق بعض القرائن، فقامت بردّها، وأقامت قرائن غيرها، واستنتجت منها صحة فعلها.

 ما أريد قوله: إن الآية إذا كانت تحتمل عدة وجوه، وكان أحد الوجوه أقوى من الوجوه الأخرى وأظهر، فلا يجوز لنا اتهام الذي يميل إلى الوجه الضعيف بمخالفة القرآن والحكم الثابت؛ لأن ورود الاحتمال مع عدم القدرة على إبطاله بشكل كامل يقطع الطريق أمام الإعلان عن كونه حكماً ثابتاً، وإذا أبيتَ إلا القول بظهور الآية في أحد المعاني، نقول: إنك تعلم أن الأخباريين لا يرون حجية ظواهر القرآن، وذهب صاحب المعالم إلى حجية القرآن على الصحابة فقط، أما غيرهم فتثبت حجيته عليهم بالإجماع. وأيّا كان الأمر فأنت تعلم إنه إذا وقع اختلاف بين المراجع في مسألةٍ ما لا يكون بمقدورنا القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشأنها؛ لعدم اتضاح المعروف بعد وقوع الاختلاف بين الفقهاء. فمثلاً: لا يحق لنا أن نأمر شخصاً بالذهاب إلى صلاة الجمعة؛ لأن هناك من الفقهاء من يذهب إلى حرمتها، وهناك من يرى عدم إجزائها عن صلاة الظهر، وعليه لا يمكنك القول بأن منكرَ صلاة الجمعة منكرٌ لضروري من ضروريات الدين. وهكذا بالنسبة إلى قصر الصلاة.

 إن المعروف هو الذي يثبت حسنه عند الجميع، والمنكر هو الذي يثبت قبحه عند الجميع، وعليه لا يكون تارك الجمعة مرتكباً لمنكر؛ لورود الفتوى واحتمال الخلاف. وهكذا الأمر بالنسبة إلى حكم الحجاب في موارده الاختلافية.

 ويتضح مما تقدم أن السيد هاشمي نيا قد خرج عن الإنصاف في مستهل كلامه، حيث قال: «دفاعه عن اليوسفي الإشكوري، وهو أحد المدعوين إلى مؤتمر برلين»، حيث توحي هذه العبارة أن دعوة السيد اليوسفي إلى ذلك المؤتمر تعدّ واحدة من جرائره، في حين أن الدعوة قد صدرت من المؤتمر، ولم يصدرها السيد الإشكوري، فإذا كان هناك من ذنب فهو يقع على من وجَّه الدعوة.

 نعم، ما قام به السيد الإشكوري هو تلبية تلك الدعوة؛ وعندها لا بد لنا أن نقول: هل تحرم تلبية دعوة مجموعة وإن كانت منحرفة، أو يجوز الذهاب إلى مكان الدعوة، فربما أمكنه قول حق ينفع الآخرين ويؤثر فيهم؟ ولو فرضنا عدم إمكان ذلك، وأن هناك من يرتكب الأعمال المحرمة، بل حتى إذا كان الذهاب إلى ذلك المكان حرام، وأن من يذهب إليه يعد مذنباً، فهل الذي يقترف الذنب يحرم من جميع حقوقه الاجتماعية، ولا يحق لأحد أن يدافع عنه وعن زوجته وأولاده وآرائه الصحيحة والمنشورة له؟

ألم يُقِمْ الإمام علي× الحد على سارق ثم أطعمه من بيت المال كي يبرأ؟ ألم يغلظ الإمام علي× القول لغلامه قنبر؛ لأنه أهان شخصاً قاده ليقيم عليه الحد؟!

وخلاصة القول: إن ارتكاب الذنب ـ لو سلَّمناه ـ لا يشكل مانعاً شرعياً وقانونياً من الدفاع عن الشخص خارج نطاق ذلك الذنب، بل إن هذا الدفاع يظهر النفسية الواسعة والشخصية الكبيرة التي يتمتع بها المدافع، حيث يتمكن من الفصل بين مختلف حيثيات الشخص، فهناك وراء حيثية اقتراف الذنب حيثيات كبيرة أخرى، منها: حيثية كون المذنب إنساناً، أو مسلماً، أو مواطناً، إلى غير ذلك من الحيثيات. ولو أن المسؤولين في جهاز القضاء قد أخذوا ـ في الأقل ـ بهذا المقدار من الحيثيات في ما يتعلق بزوجة المذنب وأولاده، ولم يضيقوا على أسرة المذنب وأولاده بسجنه، وحافظوا على حقوقهم، لما تفشّى الفساد وانتشر من مجرم واحد إلى أسرة كاملة، ومنها إلى مجتمع بأسره، انتشار النار في الهشيم.

وخلاصة القول: إن دفاع الشيخ المنتظري عن سائر حيثيات اليوسفي الإشكوري يعد من جملة مناقبه، وليس منقصة له.

الحجاب ومسألة الثابت والمتغيّر

 قال السيد هاشمي نيا في هذا الخصوص: «إن الشيخ المنتظري ضمن تقسيمه الأحكام الشرعية إلى ثابتة ومتغيرة أوحى بشكل غير مباشر بأن الحجاب ليس من الأحكام الثابتة في الإسلام».

 هناك مصطلحان يختلفان عن بعضهما اختلافاً يسيراً: أحدهما عبارة عن الأحكام الثابتة والمتغيرة؛ والآخر عبارة عن الأحكام القطعية وغير القطعية.

 والأحكام الثابتة من قبيل: الصلاة، والصيام، والوضوء، والغسل، والتيمم، والحج، وما إلى ذلك، فهي ثابتة على الدوام. وفي صورة العجز ينتقل المكلف في وظيفته إلى مرحلة أخرى من ذلك الحكم وما يشابهه.

 والأحكام المتغيرة هي الأحكام التي توضع في ظل ظروف وشروط قابلة للتحول والتغير، بحيث تتغير بتغير تلك الظروف. فمثلاً: أوجب الله تعالى الزكاة، وقال النبي الأكرم‘ في توضيح ذلك: «إن الله جعل في أموال الأغنياء للفقراء ما يكفيهم»([11]). وأضاف بعد ذلك موضحاً: «ولو علم أن الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم»، مما يعني أن النسبة المئوية التي فرضها وأوجبها على الأغنياء كافية لإشباع حاجة الفقراء.

 وعليه يكون مقدار الزكاة تبعاً لحجم الفقر والثراء وعدد الفقراء في المجتمع. وعندما بدأ النبي الأكرم‘ بأخذ الزكاة في المدينة المنورة كان الأغنياء عبارة عن المزارعين والرعاة وأصحاب الذهب والفضة، وكان النصاب الذي فرضه النبي الأكرم متناسباً مع حاجة الفقراء في ذلك المجتمع، وكان الذين يؤتون الزكاة ويدفعونها من أغنياء ذلك العصر. أما في الوقت الحاضر، حيث يُعدُّ الرعاة والمزارعون من الطبقات الفقيرة في المجتمع، ويعيشون على دعم الحكومة لهم لإقامة أودهم، فإن حكم وجوب دفع الزكاة لا يشملهم، وإنما يتوجه لأولئك الذين يشيدون الصروح والقصور.

 ولكي لا نذهب بعيداً كان الناس في مجتمعنا هذا ـ قبل مئة عام ـ لا يزوِّجون إلا الفلاح، ويقولون عن غيره: إنه فقير، وليس له مورد يعيله. أما حالياً فالذي يُمنع من الزواج هو الفلاح؛ لأنه لا يستطيع القيام بإعالة زوجته.

 وعليه فإن حكم الزكاة تبع للفقراء والأغنياء، ومقدار الحاجة. وهي أمور متغيرة على الدوام. وعلى المفتين أن يشرعوا قانوناً للزكاة يستند إلى دراسة يقوم بها الخبراء في خصوص العصر الحاضر، كما أن للأزمنة الأخرى قوانين تخصها.

 وأما مصطلح القطعي وغير القطعي فهما مصطلحان آخران؛ فالقطعي هو الحكم المنصوص في القرآن والسنة، ولا يمكن تأويله أو الاختلاف بشأنه، مثل: جميع الأمثلة التي ذكرناها للأحكام الثابتة والمتغيرة. وأما الحكم غير القطعي فهو الذي لم يقطع بصدوره ووجوبه في الدين، إذ ربما يكون قد صدر بداعي الاحتياط، وربما كان حكماً عرفياً، فتوهموه حكماً شرعياً دينياً. ويبدو أن الكثير من الأحكام الإمضائية من هذا القبيل.

 ومهما كان فإن الدين قد نزل من جهة في محيط يعيش قوانينه وتقاليده الخاصة في المعاملات والأحكام والآداب. وقد التزم النبي الأكرم‘ والأئمة الأطهار^ بتلك الأعراف والتقاليد، إلا ما كان منها مخالفاً للشرع. وعليه ليس من المعلوم كون جميع هذه التقاليد جزءاً من الدين، كاعتمار الرجال للحطة والعقال، ودفع الجمل في الدية، والمبالغ المحددة في الدية، وضمان الجريرة، والأشهر الحرم، وما إلى ذلك.

 ومن جهة أخرى نجد أحياناً أن السلاطين والحكام قد استحسنوا أمراً، ثم فرضوه على الناس بوصفه حكماً شرعياً، وجعلوه جزءاً من الدين، من قبيل: التكفير الذي يقوم به أهل السنة بوضع باطن الكف اليمنى على ظاهر اليسرى في قيام صلاتهم؛  والشهادة بالولاية للإمام علي× التي نضيفها نحن الشيعة في الأذان([12]).

 وأحيانا تؤدي الاحتياطات إلى صدور الفتاوى، من قبيل: الحكم بنجاسة المشرك والكتابي. وقد تبين لأكثر الفقهاء المعاصرين عدم صحة هذه الفتاوى، فأفتوا بطهارة أهل الكتاب. كما ذهب بعضهم إلى عدم نجاسة المشركين أيضاً. وقد بحثت أدلة ذلك في مجلة «كاوشي نو در فقه»([13]).

 والخلاصة: إن الأحكام الثابتة والمتغيرة شيء، والأحكام القطعية وغيرها شيء آخر. والثاني يرتبط بوجود دليل الحكم القطعي الذي لا يقبل الشك والترديد؛ والأول يرتبط بتبعية الأحكام ـ بعد الفراغ من قطعيتها ـ للأمور المتغيرة أو تبعيتها للأمور الثابتة.

وقد بحث الشهيد المطهري حول الأحكام الثابتة والمتغيرة. وقد أحصيتُ بعض معايير الثابت والمتغير في مجلة (كاوشي نو در فقه). بل إن مؤتمر دور الزمان في الاجتهاد كان يقوم على أساس الأحكام الثابتة والمتغيرة والقطعية وغيرها، ويدور حول محورها.

 وأما ما قاله السيد هاشمي نيا من أن الشيخ المنتظري «ألمح إلى عدم كون الحجاب من الأحكام القطعية في الإسلام» فهو مردود؛ إذ لو كان المراد من (الحجاب) هو (العباءة) فإن نصف المجتمع الحالي في إيران يرتدي (الجلباب)، ولم يلتزم أحد بخروجهنّ من الدين، أو يذهب إلى كون العباءة العربية أو الإيرانية من القطعيات.

 وأما إذا كان (الحجاب) يعني ستر البدن ولو بالحد الأدنى فليس هناك من ينكره. وعليه فإن مراد الشيخ المنتظري أن التفاصيل المتعلقة بالحجاب غير قطعية؛ ليكون منكرها منكراً لحكم الحجاب. وقد قال في توضيح المسائل: «إن أصل وجوب الحجاب على المرأة من ضروريات الإسلام، وإن كانت بعض تفاصيله ليست من الضروريات». ولست أدري أين موضع الإشكال في هذا الكلام؟ فهل يذهب السيد هاشمي نيا إلى أن الحجاب في آيات القرآن والروايات صريح وقطعي، بحيث لا يقبل الشك والشبهة في أيٍّ من أقسامه وتفاصيله؟! نستبعد أن يذهب من له مسكة وكان من ذوي الاختصاص إلى مثل هذا الرأي.

 ثم نسأله: إذا كان الحجاب قطعياً فهل هو العباءة العربية أو الإيرانية؟ وأيهما كان هو المراد في العرف الذي نزل فيه حكم الحجاب؟ وحيث ترتدي النسوة في مجتمعنا العباءة الإيرانية دون العربية فهل يرتكبن حراماً؟ وهل ينبغي أن يكون الحجاب مصنوعاً من الصوف أو وبر الإبل والسخال، أو أن المراد أن يكون ساتراً فحسب؟ فإذا كان المراد الساتر فهو حاصل في الجلباب، كما هو حاصل في العباءة؟! وهل يجب تغطية الرأس والوجه، أو يكفي تغطية الرأس فقط؟ الأكثر على عدم الالتزام بالقسم الأول، وأما في القسم الثاني فهل يدخل أسفل النحر وانتهاء الحنك في أجزاء الرأس أو أنها من أجزاء الرقبة؟ ولماذا لا تقوم القيامة على النساء في القبائل المترحِّلة اللاتي لا يُعِرْن انتباهاً لمثل هذا الكلام، والنسوة الشماليات اللاتي يعملن في حقول الأرزّ كاشفات عن أرجلهن، دون أن يخضعن للاعتقال والمحاكمة والإدانة؟ ولماذا لا يفتي مراجع التقليد بتحريم العمل عليهن في المزارع على هذا النحو؟ وعشرات الاستفهامات الأخرى التي تشكك الإنسان في المقدار المتيقن من الحجاب، وتجعله يحجم عن إبداء الرأي بضرس قاطع.

 وأما الأمر الثاني الذي اعترض فيه السيد هاشمي نيا على الشيخ المنتظري، حيث قال: «الثاني: بعد السلوك المشين الذي قامت به شيرين عبادي في جامعة أمير كبير، حيث صافحت الغرباء بكل جرأة ووقاحة، مما يعتبر قضاءً على الشرع، ثم كشفت صحيفة كيهان النقاب عن ذلك…، إلا أنه أجاب عن ذلك بفتوى عجيبة وغير مسبوقة…»، فلابد من بحثه في عدة مقامات:

الأول: هل كل مصافحة من امرأة لرجل تعتبر قضاءً على الشريعة؟

الثاني: هل تجوز إشاعة مثل هذا الخبر بين الناس؟

الثالث: هل كانت فتوى الشيخ المنتظري صادرة حول هذه القضية، أم أنها صدرت قبلها بفترة؟

الرابع: هل هي فتوى مطلقة أم مقيدة بشروط خاصة؟

هل في الفتوى الجديدة قضاء على الشرع؟

عبارة (القضاء على الشرع) إنما تستعمل في مورد ارتكاب محرم بعد العلم بحرمته؛ إصراراً وجرأة على الله، وبهدف إشاعته والترويج له. وبعبارة أخرى: إشاعة الحرام والفحشاء في المجتمع.

 ولكن ليس من المعلوم اعتبار عدم الحجاب، أو مصافحة سيدة لها من العمر ستون سنة أو شيخ بهذا العمر، من المنكرات الواضحة البديهية؛ إذ يمكن عدّ مثل هؤلاء الأشخاص من جملة (القواعد من النساء) اللاتي تحدث القرآن بشأنهنّ قائلاً: {وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} (التوبة: 60).

 وقد عدّت بعض الروايات اليائسات من النساء واللائي لا يحضن من مصاديق (القواعد من النساء).

وقد أراد القرآن من خلال ذلك التخفيف عن السيدات المتقدِّمات في السن، وهذا التخفيف يختص طبعاً بالساتر، كالعباءة والخمار وأمثالهما، وليس فيه ظهور في جواز مصافحة الرجال.

 وقد استثنى الفقهاء جواز النظر إلى هؤلاء النسوة من دون شهوة. ولكن هذا المقدار من التخفيف يحول دون القول بحرمة المصافحة بضرس قاطع ومن دون أية شبهة. وأما مصافحة الشابات فسنبحثها في ما بعد.

وعلى أية حال إذا لم تثبت حرمة الشيء لا يمكن عدّ ارتكابه قضاءً على الشريعة.

 ولا يخفى طبعاً أنني أرى حرمة مصافحة مثل هذه المرأة. ولكن قد تكون هناك آراء أخرى. وربما استفاد شخص من جواز النظر إليها التخفيف في سائر الأبعاد الأخرى. وهذا ما سنبحثه في ما بعد. وعليه فإن أحد شروط القضاء على الشرع غير متحقق في البين.

إذاعة الفاحشة

يبدو لنا أن الذي يستحق تسمية (القضاء على الشريعة) هو إذاعة هذا الخبر في المجتمع؛ إذ إن الذين يرومون فعل المنكرات إذا أدركوا أن شخصاً يرتكب المنكر علناً دون أن يتعرض له المسؤولون في أجهزة القضاء وغيرها سيعتبر ذلك دعوة مفتوحة للجميع لارتكاب ذلك المنكر وما هو أسوأ منه. وقد علمت صحيفة كيهان أن السلطة القضائية لا تقوم بإجراء في تلك الظروف، فما الذي دعاها إلى نشر مثل هذا الخبر؟! وصحيح أن المتعاطفين مع الاتجاه الديني والإسلامي يغضبون من فعل هذه المرأة، إلا أن هناك أيضاً من يجد في سلوكها مبرِّراً لتقليده.

نقل الشيخ الكاشاني في خطبة من خطب الجمعة حديثاً مفاده: إن رجلاً مّر بخربة فوجد فيها رجلين يفعلان منكراً، فأخبر النبي‘ فقال له النبي: هلا أسدلت دونهما ستاراً، فلا يراهما أحد… ثم استنتج من ذلك أن الكشف عن الفاحشة يؤدي إلى شيوعها.

 فما الذي يدعونا إلى إشاعة المنكر، ونحن نعلم أن الظروف لا تساعد على مكافحته، ومع ذلك نعتبر أنفسنا، إذ نقوم بإشاعة هذه الفاحشة، من المصلحين؟!

 ألم يرِدْ في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور: 19).

 إن شأن نزول هذه الآية يتعلق باتهام بعض نساء النبي‘، فتوعد القرآن من أشاع هذه التهمة والقذف بالعذاب الدنيوي والأخروي.

ولا يخفى أن لشيوع مثل هذه الأمور تبعات كارثية. ولو أن صحيفة كيهان وغيرها أرادت القيام بعمل صالح لكان عليها أن تخبر الأجهزة القضائية والجهات المعنية؛ لأنها أعرف من غيرها بتحديد المنكر ومجازاة المذنبين، والبحث حول الموضوع في دائرة الخبراء والمختصين، وليس بين الدهماء والجماهير الغفيرة.

 ولماذا لم يعمل بمضمون الحكمة التي تقول: «الباطل يموت بترك ذكره»؟!

دفاع عن الحقيقة، متى صدرت الفتوى بالضبط؟ وما هو نصّها؟

الأمر المهم والملفت للانتباه هو أن فتوى الشيخ المنتظري قد صدرت قبل حوالي سنة ونصف من حدوث هذه القضية، جواباً عن استفتاء لأحد الجامعيين الإيرانيين يقيم في بلد أوروبي، وذلك بتاريخ 28/2/1381هـ ش، حيث لم تحصل شيرين عبادي على جائزتها آنذاك، ولم تصافح الدكتور بيمان، ولم تعمد صحيفة كيهان إلى إثارة هذه الضجّة، وقد نشر ذلك الاستفتاء وجوابه في كتاب «ديدگاهها»([14])، والذي طبع قبل حصول (شيرين عبادي) على جائزتها.

 وإليك نص الاستفتاء:

إنني طالب إيراني أقيم وأدرس في أحد البلدان الأوروبية، وبسبب حرصي على الثورة فقد رحبت السفارة الإيرانية وغيرها من المؤسسات الإيرانية لأكون على صلة وثيقة بها، وأن أقدم لها العون بقدر استطاعتي. وبسبب هذا الارتباط عشت مشاهد عديدة دعتني إلى كتابة هذه الرسالة والاستفهام عن هذه المسألة: تعلمون أن الموظفين هنا في السفارة الإيرانية لا يصافحون النساء، ويُرجِعون ذلك إلى أسباب دينية وشرعية، ولكنني كشخص مسلم موالٍ للثورة لم أجد ذلك مقنعاً، فقد شهدت الكثير من المواقف المصحوبة بالاستهزاء ببلدنا، بل وحتى بالإسلام؛ بسبب الإحجام عن مصافحة السيدات، وتعود جذور هذا الاستهزاء إلى أن المسلمين الآخرين، وحتى الشيعة، في مختلف مناصبهم لا يجدون حرجاً في هذه المصافحة، بل لا يمكن القول بأن الإحجام عن المصافحة مقتصر على الإيرانيين فقط، فهناك الكثير منهم، بل وحتى الذين تم تنصيبهم من قبل الحكومة الإيرانية، لا يرون إشكالاً في مصافحة النساء، بل شهدت شخصياً بعض المتشرِّعين من الإيرانيين الذين لا يرون بأساً في هذه المصافحة، والاستثناء الوحيد في البين ينحصر في الدبلوماسيين الإيرانيين، مما أدى إلى ظهور الوهن، وخاصة أن التصور يذهب إلى أن هؤلاء الدبلوماسيين إنما يحجمون عن مصافحة السيدات خشية أن يضر ذلك بمناصبهم وسقوطهم سياسياً، وهناك من يقوم بحركات عجيبة للفرار من هذا الوضع المحرج. فأرجو من سماحتكم بيان ما إذا كان هذا الأمر معضلة تحتاج إلى حلول. وقد ناقشتُ هذه المسألة مع بعض الإيرانيين، إلا أن جوابهم كان أشبه بخطة العمل الحكومية.

وكان الجواب:

 أولاً: يستفاد من كثير من روايات باب النظر أن حرمته من جهة احترام المنظورة. وعليه إذا كانت المنظورة لا تجد في ذلك هتكاً لحرمتها، وكانت لا تستر نفسها، كان النظر لها جائزاً طبعاً، إلا إذا أدى إلى الوقوع في الفساد، خاصة في ما يتعلق بغير المسلمات، حيث لا يذهبن إلى حرمة النظر، بل ويجدن في عدمه ما ينافي احترامهنّ.

ولا يبعد وجود نفس الملاك في المصافحة.

 كما أن روايات مصافحة الأجنبية تنصرف إلى خصوص المسلمات.

أجل، إذا كان النظر أو المصافحة تؤدي إلى فساد أخلاقي، أو كان بقصد الشهوة، فهو حرامٌ بلا إشكال.

 وثانياً: إذا كان النظر أو المصافحة في بعض الأجواء والظروف ضرورة عرفية، وكان الإحجام يؤدي إلى الوهن، جاز ذلك بمقدار الضرورة، إلا إذا استتبع فساداً أخلاقياً، أو قصد منه الالتذاذ. ولو أمكنت المصافحة من وراء الثوب أو القفاز فهو أدنى من الاحتياط.

28/2/1381هـ ش

حسين علي المنتظري

والملفت للانتباه أنه وصل استفتاء آخر للشيخ المنتظري بتاريخ 8/8/1382هـ ش، وهذا الاستفتاء وجوابه هو الذي استشهد به السيد هاشمي نيا، ولكن جاء في صدر هذا الاستفتاء: «صدرت عنكم في الآونة الأخيرة فتوى في خصوص مصافحة الرجل الأجنبية..»، مما يؤكد أن هذا الاستفتاء يعود إلى أزمنة سابقة، ولا ربط له بالسيدة شيرين عبادي، ولم يتضح لنا سبب غفلة السيد هاشمي نيا عما ورد في صدر هذا الاستفتاء.

 ربما لم تنشر الصحف صدر الاستفتاء، فلم يطلع عليه، وإلا كان خطأً علمياً كبيراً أن يتخذ من كلام صدر قبل سنة ونصف بشأن حادثة أخرى وسيلةً للهجوم على الشيخ المنتظري، ويتهمه بألفاظ من قبيل: «فتوى عجيبة وغير مسبوقة».

 وبعد هذه البحوث التمهيدية حان الوقت لدراسة الاستفتاء وأدلته.

نص الاستفتاء

صدرت عنكم مؤخراً فتوى في خصوص المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية، وفيها إبهامات في ما يتعلق بالمسلمات، وعليه نطرح الأسئلة الآتية:

 1ـ لو كانت المسلمة مؤمنة بفروع الدين من الصلاة والصيام وأصل الحجاب وما إلى ذلك، ولكنها ترعرت وما زالت تعيش في أجواء ثقافية تفرض عليها إذا خاطبها رجل أن ينظر في وجهها (من دون ريبة)، أو أنها تجد في شخصيتها نقصاً إذا لم يصافحها، فما هو حكم النظر إليها ومصافحتها في هذه الصورة؟

 2ـ ما هو حكم اللائي لا يعتقدن بالحجاب؟

 3ـ ما هو المتَّبع في تحديد الضرورة العرفية في ما يتعلق بالنظر أو المصافحة؟

مع الشكر والامتنان

8/8/1382هـ ش

وكان الجواب:

 ج1ـ إن عدم مسّ الأجنبية والنظر إليها إنما هو من أجل الحفاظ على حرمتها واحترامها، فإن لم تَرَ هذه الحرمة لنفسها، بل وذهبت إلى كون عدم النظر إليها وعدم مصافحتها عدم احترام لها، ففي هذه الصورة لا مانع من مصافحتها، مع عدم قصد الشهوة وعدم حصولها.

ج2ـ لا مانع من ذلك مع عدم حصول الشهوة وعدم قصدها.

ج3ـ المناط هو عرف المحلّ.

9/8/1382هـ ش

قال السيد هاشمي نيا: «لما كانت هذه الفتوى مخالفة لمسلَّمات الفقه، وما كانت تنطوي عليه من المفاسد الكبرى؛ بسبب اتخاذها ذريعة من قبل أهل الفساد، كان من الواجب نقدها وبحثها».

موقف فقهاء الإسلام من لمس المرأة، الاستناد إلى الإجماع

 يجمع الفقهاء من الشيعة والسنة على حرمة مسّ الأجنبية والنظر إليها. قال صاحب الجواهر: «لا ينظر ـ أي الرجل ـ إلى جسد الأجنبية ومحاسنها أصلاً، إلا لضرورةٍ؛ إجماعاً، بل ضرورة من المذهب والدين»([15]).  ثم قال: «ثمّ لا يخفى عليك أنّ كلّ موضع حكمنا فيه بتحريم النظر فتحريم اللمس فيه أولى، كما صرّح به بعضهم، بل لا أجد فيه خلافاً، بل كأنه ضروري على وجهٍ يكون محرَّماً لنفسه»([16]).

 كما أشار فقهاء آخرون إلى أولوية حرمة اللمس، بالقياس إلى النظر([17]).  «وبما أن مسّ جسد الأجنبية حرام، فقد ذهب فقهاء الشيعة إلى حرمة مصافحتها، حتى أنك لا تجد فقيهاً أجاز ذلك».

وقفة مع دليل الإجماع

أـ الإجماع وحجيته

 نقلت صحيفة «كيهان» عن السيد هاشمي نيا كلامه حول الإجماع على وجوب الحجاب على النساء وحرمة النظر إليهنّ وحرمة لمسهنّ من قبل الأجانب.

والذي نرومه هاهنا هو بحث الأدلة وبيان نقصها أو تماميتها، ولا شأن لنا بالعالم الخارج عن الذهن، أي إننا نريد معرفة ما إذا كانت فتواه والشروط التي ذكرها فيها تنسجم مع القواعد الفقهية، أو هي كما يقول السيد هاشمي نيا (غريبة عما اتفق عليه في الفقه الإسلامي). وأما إمكان تحقق الشروط الموضوعة في نص الفتوى فهو بحث آخر. وبعبارة أخرى: قال الشيخ المنتظري: «لا مانع من المصافحة مع عدم قصد الشهوة وعدم حصولها». أما في عالم ما وراء الذهن فقد لا يقصد شخص الشهوة، بأن يكون المصافح زاهداً ورعاً، إلا أن عدم حصول الالتذاذ يبدو محالاً في العادة، فعندما يحصل تماس بين الرجل والمرأة لا تكون هناك مندوحة من حصول اللذة. إذاً لا يوجد لهذه المسألة من موطن سوى ذهن الفقيه. فهي مجرّد نظرية. وإذا أمكن تطبيقها فإنما يكون عند وقوع كارثة مأساوية، كالزلزال مثلاً، حيث يقوم الرجل على إخراج امرأة من تحت الأنقاض، وحينها فإن نفس الاضطرار يسوِّغ النظر واللمس، حتى مع حصول اللذة.

 إلا أن نفس هذا البحث العلمي جيد في حّد ذاته، كما صنع السيد الخوانساري قبل سنوات عندما كانت لعبة الشطرنج تمارس بوصفها قماراً، حيث أفتى بارتفاع حرمتها عند ارتفاع وصف القمارية، ولم تكن هذه المسألة آنذاك سوى نظرية في ذهن الفقيه، إلا أن الذين يمارسون الشطرنج حالياً بوصفه رياضة فكرية كثيرون.

 وعليه قد تنفع فتوى هذا الفقيه في زمان ومكان آخر لا يستشعر الناس فيه لذّة بلمس جسد المرأة. ولذلك ينبغي بحثها دون إثارة الضجة حولها بحجة الخوف من اتخاذها ذريعة من قبل المفسدين.

ب ـ قيمة الإجماع

يذعن جميع فقهاء الشيعة ـ وقد ذكروا ذلك في كتبهم الأصولية، كما تعرضتُ له في عدة مقالات ـ بأن الإجماع لا يعدّ دليلاً برأسه عند الشيعة، بل الأصل عندهم هو القرآن والسنة والعقل. إلا أن الشيعة لما وجدوا أهل السنة يتمسكون في استدلالاتهم بالإجماع أخذوا يدعمون أدلتهم بالإجماع أيضاً. واشترطوا فيه شروطاً تعود به إلى السنة، فقالوا مثلاً: إذا أجمعت الأمة، ومنها: الإمام المعصوم طبعاً، على حكم اعتبرناه حجّة؛ لدخول المعصوم فيه، وأعلنوا بأن قيمة الإجماع تعود في الحقيقة إلى اشتماله على رأي المعصوم×([18]).

 هذا هو المبنى الأساس عند الشيعة في ما يتعلق بالإجماع. وفي الحقيقة إذا اكتشفنا رأي المعصوم من أيّ دليلٍ آخر كان ذلك الدليل حجّة لمكان كشفه عن رأي المعصوم، وليس مهمّاً بعد ذلك أن يكون إجماعاً أو أيّ دليل آخر. فمثلاً: ذهب السيد البروجردي ـ وتبعه الشيخ المنتظري ـ إلى أنه لو اتفق قدماء الأصحاب، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى وأبي الصلاح الحلبي وابن حمزة وغيرهم من كبار الشيعة، ممن لا يقول بالقياس والاستحسان، وقد كانوا يحرصون على استخدام نفس ألفاظ الروايات، بل ويتورعون عند استعمال ما يرادفها من الألفاظ، فإن اتفقت كلمة هؤلاء على فتوى كان ذلك كاشفاً عن قول المعصوم، وكان حجة عندنا، وإن لم يبلغ حدّ الإجماع([19]).

ولذلك لم يكن هذا الأستاذ وتلميذه ليتجاوزا فتاوى الأقدمين من الأصحاب بسهولة، وكانا يريانها أصولاً متلقاة عن المعصوم×، إلا أنه لو شك هؤلاء العظام وسائر فقهاء الشيعة؛ لأيّ سبب من الأسباب، في كاشفية الإجماع عن قول المعصوم لم يعد ذلك الإجماع حجة عندهم.

 فمثلاً: إذا اتضح لهم أو احتملوا أن الفقهاء الذين اتفقوا على مسألة خاصة، وأفتوا بشأنها، قد استندوا إلى رواية بعينها لم يعد إجماعهم معتبراً، واصطلحوا عليه بالإجماع المدركي، الذي يجب فيه الرجوع إلى الروايات والآيات التي استند إليها المجمعون.

وبناءً على ذلك فإن نقل السيد هاشمي نيا للآراء، وإن كان جيداً، ويمكننا أن نتعرف من خلاله على تطور البحث من الناحية التاريخية، ولكنه لا يحتوي على أي دليل مقنع للفقيه.

 ولذلك تجدون الإمام الخميني يقف بوجه الإجماع، ويفتي بجواز الشطرنج طبقاً لبعض الشروط. ويذهب الشيخ المنتظري إلى الحكم بتعميم الاحتكار، ولا يحصره في بعض المواد الغذائية. ويحكم آخرون بطهارة الإنسان الذاتية، وحلية ذبيحة أهل الكتاب، دون أن يواجهوا اعترضاً من أحد، مع إن الإجماع في هذه الموارد أقوى من الإجماع في اللمس والنظر.

تصحيحات وتصويبات

 تجدر الإشارة هنا إلى بعض الأمور التي ذكرها السيد هاشمي نيا، والتي تحتاج إلى شيءٍ من التصحيح، فأولاً: يبدو أن العبارة الأولى التي نقلها عن «جواهر الكلام» لم تترجم بشكل دقيق؛ إذ يحتمل أن يفهم منها شخص أن حرمة النظر إلى الأجنبية من ضروريات مذهب التشيع، بل ومن ضروريات الدين الإسلامي، في حين أن العبارة تعني غير ذلك، أو هي في الأقل مجملة وتحتمل الوجهين. ولإيضاح المطلب يجب التذكير قبل كل شيء بأن «جواهر الكلام» شرح لكتاب «شرائع الإسلام»، للمحقق الحلي، وإن صاحب الجواهر قد اتبع في ذلك أسلوب الشرح المزجي، وذلك بوضع كلام المحقق الحلي بين هلالين، وما كان خارج الهلالين فهو من كلام صاحب الجواهر. وبعد اتضاح ذلك نراجع نص العبارة من جواهر الكلام، قال: «(ولا ينظر إلى) جسد (الأجنبية) ومحاسنها (أصلاً إلا لضرورة)؛ إجماعاً، بل ضرورةً من المذهب (و)الدين. نعم، (يجوز) عند جماعة (أن ينظر إلى وجهها وكفيها) من دون تلذذ ولا خوف ريبة…([20])، (على كراهية مرة) واحدة، (و)حينئذٍ فـ(لا يجوز معاودة النظر) في مجلس واحد»([21]).

والسؤال الذي يرد هنا: هل هذا الإجماع المدعى يعود إلى أصل الحكم، الذي هو عبارة عن المستثنى والمستثنى منه، أو يعود إلى خصوص المستثنى، أو خصوص المستثنى منه؟ كلُّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة واردٌ.

وعلى الاحتمال الأول يكون الحكم بحرمة النظر إلى الأجنبية إجماعياً ومن الضروريات. وكذلك جواز النظر عند الضرورة.

وعلى الاحتمال الثاني يكون الحكم بجواز النظر اضطراراً من الضروريات، ولكن لم يبيّن أي دليل على أصل الحكم، وهو حرمة النظر.

وعلى الاحتمال الثالث هناك دليل على حرمة النظر، وهو إجماعي، ومن البديهيات، ولكن لم يذكر دليلاً للاستثناء.

 وعلى أية حال فإن وجود الاحتمال الثاني يحول دون أن ننسب لصاحب الجواهر القول بكون حرمة النظر من ضروريات المذهب، بل ومن ضروريات الدين.

غير أن الترجمة التي انتقاها السيد هاشمي نيا لا تفيد سوى الاحتمال الثالث، والحال أن الاحتمالين الأول والثاني أقرب إلى العبارة؛ بدليل أن صاحب الجواهر يعبر عن اللمس، الذي هو أقوى وأولى من النظر في الحرمة، بعبارة: «لا خلاف فيه» و«كأنه ضروري»، وهذا يعني أن حرمة اللمس ليست ضرورية. وعليه لا تثبت الحرمة للنظر، ولا تكون ضرورية من طريق أولى. كما ورد التعبير في «الشرائع» و«الجواهر» بلفظ (لضرورة) بصيغة التنكير، فتشمل الضرورات اليسيرة والجزئية، خلافاً لما إذا كان التعبير بلفظ «للضرورة» أو «للاضطرار». وأيّاً كان فمن وجهة نظر «الشرائع» و«الجواهر» إذا كانت هناك ضرورة، وإن كانت قليلة، جاز النظر، في حين أفادت ترجمة السيد هاشمي نيا المعنى على هذا النحو: (إلا في حال الضرورة)، مما حال دون إبراز المعنى الكامن في تنوين التنكير في كلمة (ضرورةٍ)، فأشكل الحكم على المكلَّفين.

 ثم قام السيد هاشمي نيا بنقل موارد الاستثناء عن صاحب الجواهر على النحو الآتي: «الوجه واليدان إلى المعصمين، وغيرهما، للعلاج الضروري..».

ويتضح من هذه العبارة أن المورد الثاني من موارد جواز النظر هو (النظر من أجل العلاج الضروري)، فإذا لم يكن العلاج ضرورياً لم يجز النظر. وطبقاً لهذه الترجمة يجب أولاً معرفة ما إذا كانت معالجة المريض ضرورية، وبعد إحراز ذلك يجوز للطبيب أن ينظر، في حين أن عبارة «الشرائع» وصاحب «الجواهر» لا تفيد هذا المعنى، فقد قال المحقق الحلي: «ويجوز عند الضرورة»، وقال صاحب «الجواهر» في توضيحها: «يجوز نظر كلّ من الرجل والمرأة إلى الآخر ولمسه، بل وغيرهما مما تقتضي الضرورة به»، ثم ساق روايات للتدليل على ذلك، ومنها: روايات تتحدث عن الجراحات والكسور والمعالجة.

 وبين هذين الكلامين بون شاسع. فطبقاً لترجمة السيد هاشمي نيا لا يحل النظر لسائر الضرورات. كما أن ضرورة العلاج إنما تجوّز النظر إذا كان نفس العلاج ضرورياً. في حين أن النص العربي يفيد جواز النظر عند كل ضرورة.

 كما أن السيد هاشمي نيا فسّر الرؤية بالنظر. وكان من اللازم أن يوضح الفرق بين الرؤية والنظر، فإن الفرق بينهما كالفرق بين السماع والاستماع. فالنظر عبارة عن الرؤية الفاحصة، خلافاً للرؤية التي تعني الرؤية المجردة.

 وعليه فالحرام هو الرؤية النافذة والفاحصة والمدقِّقة، وإلا فلا تثبت الحرمة لمجرد الرؤية العابرة من العبارات السابقة.

 هل تدل حرمة النظر على حرمة اللمس دائماً؟

نقل السيد هاشمي نيا عن صاحب الجواهر قوله: «لا يخفي أن كل موضع حرَّمنا النظر إليه من جسد المرأة يحرم مسّه من طريق أولى».

ولابد من القول: إنّ عبارة «من جسد المرأة» إضافة توضيحية من السيد هاشمي نيا حصرت كلام صاحب الجواهر في إطار خاص، أما نصّ كلام صاحب الجواهر فلا وجود فيه لعبارة «جسد المرأة»، بل العبارة هي «كل موضع»، وهي تشمل نظر الرجل إلى عورة الرجل أو الخنثى، ونظر الخنثى إلى عورة الرجل والخنثى.

 وثانياً: هناك نقاش مع صاحب الجواهر في هذه الأولوية، فهل هي أولوية قطعية ويقينية، أم هي قابلة للتشكيك والترديد؟

 لو فرض أن بإمكان الطبيب تشخيص مرض المرأة بمسّ جسدها، كما يمكنه تشخيص المرض من خلال النظرة الفاحصة المدقِّقة والطويلة، فهل يمكن القول: إن النظرة الفاحصة، وإن كانت طويلة، مقدَّمة على اللمس، وإن لم يستغرق مدّة طويلة؟ فمثلاً: لو تمكن الطبيب من التعرف على نبضه من خلال الضغط على أوردة اليد، كما يمكنه ذلك من خلال النظر إلى أسفل العنق وتحديد وضع الغدة الدرقية ونشاطها، فعلى ذلك هل يمكن القول بتقديم حرمة اللمس على حرمة النظر بقول مطلق؟

 أو في ما يتعلق بإيفاد المسؤولين في الجمهورية الإسلامية إلى خارج البلاد، حيث يفاجأون أحياناً باستقبال الكثير من الشخصيات والصحفيين وغيرهم من الرجال والنساء والمسلمين وغيرهم، فلو ارتأى مسؤول أنه سيحول دون وقوع نزاع أو جدل بمصافحة الجميع، إلا أنه إذا لم يصافح النساء فعليه أن يتحمل إحراجات؛ بسبب أسئلة الصحافة والتحديق في أعينهم، فهل تكون حرمة اللمس في هذا المورد أشدّ من حرمة النظر أيضاً؟

يظهر أن كلام صاحب الجواهر غير صحيح على إطلاقه.

هل حكم مصافحة الأجنبية واضحٌ شرعاً أم لا؟

 وآخر ما ذكره السيد هاشمي نيا قوله: «وليس هناك فقيه يجيز مصافحة الأجنبية».

 ونحن نتفق معه على ذلك. فأنا شخصياً لم أعثر على فقيه أفتى بجواز مصافحة الأجنبية. ولكن سبق أن قلنا: إن هذه الإجماعات وعدم وجود الخلاف بين الفقهاء إنما يصلح لإقناع المقلِّدين، ولا يصح الاستدلال به أمام الفقيه؛ لأنه يعلم مدرك هذه الفتاوى، وربما لم تثبت صحته عنده.

فإن مدرك الحكم بحرمة مصافحة المرأة الأجنبية روايتان فقط، عن أبي بصير وسماعة، عن الإمام الصادق×، سألاه فيهما عن حكم مصافحة الرجل للأجنبية، فقال× في جوابهما: «كلا، إلا إذا كان من وراء الثوب، وأن لا يشدّ على يدها»([22]).

 والسؤال الذي يفرض نفسه بشأن هاتين الروايتين هو أنه إذا كانت مصافحة الأجنبية حراماً واقعاً، وكانت حرمتها من الوضوح بحيث تسوغ إثارة الضجيج حول الفقيه الذي يفتي بخلافها، ويفضحون أمره في الصحف، وتكتب بالقلم العريض (فتوى مفعمة بالإشكالات)، أو (تبرير الابتذال باسم الفقه)، فلماذا غفل عنها كبار الفقهاء وخواصّ الصحابة، كأبي بصير وسماعة؟ وهل مضيّ قرن من الزمن على نزول القرآن، وورود آيات سورة النور والأحزاب، ووجود الأولوية القطعية ـ على حدّ تعبير صاحب الجواهر ـ بين النظر واللمس، تبقي موضعاً للتساؤل حول حكم مصافحة الأجنبية؟! وهل ورد أنه قد سأل هؤلاء العظام عن حكم شرب الخمر أو الزنا أو السرقة؟ ولكنهم مع ذلك سألوا عن حكم مصافحة المرأة، مما يعني أن حكم هذه المصافحة لم يكن بتلك البداهة، وأن المسألة تحتاج إلى تحقيق أكثر. وهذا ما سنقوم ببيانه لاحقاً.

حظر عرفي أو منع شرعي؟

 قد يستقبح العرف كثيراً من الأمور، ولا يجيز ارتكابها، وتبعاً لذلك ينهى الشارع عنها، دون أن تكون حراماً في الواقع، فإذا تغير مزاج العرف ورفع ذلك الحظر لا يجد الشارع بأساً في ذلك.

 وقد تكون مسألة الحجاب والثياب والنظر واللمس من هذا القبيل. فقد يرتكب البعض؛ بسبب الغيرة أو العصبية القبلية، أموراً أو يحظِّرها، ثم يتخذ هذا الحظر صبغة شرعية. وقد بلغنا حتى في عصرنا الحاضر أن الكثير من العرب إذا سمعوا وشاية عن ابنتهم بارتكاب فاحشة بادر إلى قتلها، في حين أنه على فرض ارتكابها وثبوتها بشهادة أربعة عدول فليس حكمها القتل، وإنما هو الضرب مئة جلدة، إلا أن العصيبة والغيرة تؤدي بالعرف العربي أن لا يسمح لشخص بالنظر إلى ابنته أو زوجته أو مصافحتهما، ولما رأى الأئمة^ أن ترك النظر واللمس مستحسنٌ أمضوه وأقروه في أحاديثهم، إلا أن مجموع هذه الإمضاءات والبيانات لم تنجح في تثبيته كحكم شرعي، ولذلك نجد بعض الفقهاء العظام، مثل: سماعة، الذي يذهب العلماء إلى حجية مضمراته، وأبي بصير، وأضرابهما، يسألون عن حكم المسألة، وربما أرادوا بذلك إماطة اللثام عن حقيقة الأمر، وإثبات أن الحظر إنما كان عرفياً، ولم يكن شرعياً. وربما لهذا السبب نجد الإمام يستخدم أسلوباً ملائماً في جوابه، ولم يعنِّف السائل ويُغْلِظ له القول بأن الحكم معروف من القرآن، بل تجاوزه بنهي مجرَّد، مبيِّناً مورد الجواز والإباحة بما لو كانت المصافحة من وراء الثوب، ولم يذكر عذاباً أخروياً على مرتكب هذا الفعل.

 ولذلك ذهب البعض إلى أن هذه النواهي بشأن النظر واللمس ذات جنبة أخلاقية، ولا يستفاد منها أمورٌ فقهيةٌ أو تكليفيةٌ.

 وبناءً على هذا الاحتمال لا يمكن الحكم بحرمة النظر واللمس بضرس قاطع، واعتباره من المسلَّمات القطعية.

 فمثلاً: قام الشهيد الثاني في «مسالك الأفهام» بنقد الحكم بحرمة النظر إلى النساء مطلقاً. كما نقد أدلة هذا الحكم، وما يدَّعى من اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، ولو كان النظر إليهنّ حلالاً لصارت النساء بمنزلة الرجال([23])، وقال: «لجواز استناد منعهنّ إلى المروءة والغيرة، بل هو الأظهر، أو على جهة الأفضلية؛ إذ لا شكّ فيها»([24]).

 وخلاصة القول: إذا منع الإجماع والاتفاق والروايات العديدة من النظر واللمس، أو أمرت بالحجاب للمرأة، دون أن يكون هناك أدلة صحيحة تتوعد من يخالف ذلك بعذاب الآخرة، أمكن حمل هذه النواهي والأوامر بأجمعها على المروءة وغيرة الرجال، وأفضلية الحجاب على عدمه، وأمثال ذلك، ولا يمكن القول بأن الحجاب حكم شرعي، أو أن النظر إلى الأجنبية أو لمسها حرام شرعاً، فربما كانت هذه الأمور حقوقاً للمرأة، وكان عدم مراعاتها تضييعاً لحقوقها، لا أنه يستتبع عذاباً أخروياً.

 إذاً يحتمل أن يكون بين مسألة الحجاب ومسألة الخمر أو القمار اختلاف ماهوي؛ لعدم دخل الغيرة والمروءة فيهما، فيكون نهي الشارع عنهما صادراً بداعي حرمتهما، وأما في ما يتعلق بما نحن فيه فهي أمور أخلاقية، وإن للمروءة والغيرة والعصبية ـ غير المذمومة ـ دخل فيها. وعليه فإن تمييز الأمر والنهي الشرعي من العرفي والأخلاقي في غاية الإشكال، ولا يمكن إثبات شرعيته إلا من خلال توعُّد المخالف بعذاب الآخرة.

 وربما كان الحجاب أمراً حكومياً، بمعنى أن النبي قال للنساء: إن كنتنّ ترِدْنَ مني أن أدافع عنكنّ في مواجهة أراذل المدينة فعليكنّ أن تميِّزْن أنفسكنّ باتخاذ الجلباب من سائر النساء اللاتي لا يحترمن شخصيتهنّ. وعليه لا يكون الحجاب فرضاً إلهياً، وإنما هو من الشؤون الحكومية. وربما أمكننا استفادة ذلك من الآيتين 59 ـ 60 من سورة الأحزاب. ولنا عودة إلى هذا البحث.

 ثم قال السيد هاشمي نيا: «ما هو مستند الشيخ المنتظري في تجويز مصافحة الأجنبية في فرض السؤال؟ مع أن إجماع فقهاء الشيعة على خلاف ذلك، وليس هناك أيّة آية أو رواية تثبت مدعاه».

 وكأن السيد هاشمي نيا قد فرغ من حكم الحجاب وحرمة النظر والمصافحة، واعتبرها أحكاماً قطعية، وبقيت على ما كانت عليه منذ صدر الإسلام، وقد ظهر مؤخراً من يريد تغيير ذلك الحكم القطعي؛ بسبب تغير الشروط وتغير الموضوع، فأجاز لنفسه أن يتساءل: ما هو التغيُّر الذي طرأ على الموضوع أو الشرائط الخارجية فدعا إلى تغير الفتوى؟ ولكن لو أننا طرحنا نفس هذا السؤال على السيد هاشمي نيا ببيان آخر، فربما اتضح الموضوع أكثر، وأصبح أقرب إلى البحث العلمي، فنقول: ما هو الدليل على أن الحجاب للمرأة حكمٌ إلهيٌّ؟ وما هو الدليل على حرمة النظر من دون ريبة أو شهوة ومن دون حصول اللذة؟ وما هو الدليل على حرمة مصافحة الأجنبية من الناحية الشرعية، من دون قصد الشهوة، ومن دون حصولها؟ وبعبارة أخرى: يجب أولاً إثبات أن الحجاب مسألة تعبدية فقهية، لا دور فيها للشهوة وعدمها، وسوء قصد الأفراد وعدمه، وإشاعة الفساد بين الناس وعدمها. ويجب إثبات حرمة النظر واللمس مطلقاً لكل فرد بوصفها مسألة تعبدية، حتى لو لم تحصل لذة أو قصد إلى حصولها، وحتى إذا لم تؤدِّ إلى نتائج سلبية في المجتمع. ويجب أن يثبت أن هذا هو الحكم الواقعي بمعزل عن الغيرة والعصبية العربية. وبتعبير آخر: يجب أن يرد في الآيات والروايات وعيد صريح بالعذاب على ترك الحجاب أو النظر من دون ريبة، بل وحتى من دون حصول الشهوة، أو اللمس من دون قصد الشهوة أو حصولها، وإلا فمن المشكل إثبات شرعية الأمور لمجرد احتضان العرف لها وتأكيده عليها.

تتمة ونظر

قال: «بنظرة فاحصة في متن الجواب عن السؤال الأول يحتمل أن إعادة النظر في هذا الحكم الفقهي قد استفيدت من أحد طريقين: الأولى: كشف الملاك؛ الثانية: قياس المصافحة على…».

 فقد ذهب إلى أن حكم الحجاب شبيه بحكم الشطرنج والاحتكار في كونها من الأحكام القطعية الثابتة التي لا تتغير إلا بتغير الموضوع أو الشرائط، في حين أن تغيير الفتوى هنا في الواقع شبيه بتغيير الفتوى في منزوحات البئر، حيث كان جميع الفقهاء قبل عصر العلامة الحلي متفقين على نزح مقدار من الماء؛ بهدف تطهيره لدى سقوط كل واحد من النجاسات أو موت كل واحد من الحيوانات، على ما هو مبيَّن في الروايات الصحيحة، حتى توصَّل العلامة الحلي إلى أن حكم الماء الجاري فوق الأرض والماء الجاري تحت الأرض واحد، كما تدل صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع على ذلك أيضاً، حيث تقول: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلا أن يتغير ريحه أو طعمه»([25])، ثم غيَّر فتواه، ومنذ ذلك الحين رفع الجميع يدهم عن إجماع القدماء، بمن فيهم السيد البروجردي، رغم اعتباره فتوى الأقدمين أصولاً متلقاة عن المعصومين^.

أو شبيهة بتغيير الفتوى بنجاسة المشركين التي كانت اتفاقية بين الفقهاء تقريباً منذ عصر الشيخ الطوسي إلى يومنا هذا، وقد صرَّحوا بذلك في كتبهم، حتى توصَّل بعض الفضلاء من الشباب في عصرنا شيئاً فشيئاً إلى عدم نجاسة أي إنسان، وتراجع بعض الفقهاء عن فتاواهم السابقة([26]).

 أو نظير تغيير الفتوى في ما يتعلق بمسألة إرث الزوجة، حيث تثبت الآية القرآنية إرثها من كل ما ترك زوجها، بيد أن الأئمة الأطهار^؛ وللحيلولة دون وقوع بعض المشاكل، قالوا بأن المرأة لا ترث من عين الأرض وأمثالها، وقد كان مرادهم أنها ترث قيمة الدار والبساتين، ولكن لا تبقى في الدار، فتأتي بزوجها الجديد إليه. وقد فهم الكثير من الفقهاء من هذه الروايات أن الزوجة ترث من الأعيان فقط، من قبيل: البناء، والشجر، وأمثالها، دون أصل الأرض، حيث لا ترث منها شيئاً إطلاقاً. ولكن اتضحت حقيقة المسألة في عصرنا، من خلال إعادة النظر والبحث فيه من جديد([27]).

وكذلك شبيه بالبحث في حلية ذبيحة أهل الكتاب بشرط التسمية عليها. وقد كان إجماع الفقهاء على حرمتها، ولكن تمّ الكشف في عصرنا عن أن الفقهاء إنما ذهبوا إلى حرمتها احتياطاً منهم في نظرهم إلى الأدلة، والاحتياط مهما كان أفضل من عدمه([28]).

 وشبيه أيضاً بحق الحضانة، حيث ظنّ العديد من الفقهاء أن حق حضانة الذكر للأب، ويستمر حق الأم في حضانة البنت إلى سبع سنوات، وقد نقدتُ هذه المسألة بشدة في مقال نشرته مجلة (پيام زن)، حيث اتضح أن مستندها بضع روايات ضعيفة، وتحتمل وجوهاً عديدة، ولم يكن للفقهاء في إجماعهم مستند غيرها، فلا ينبغي أن نؤخذ بمثل هذا الإجماع([29]).

 وعليه لا يصح الاحتمال المترسّب في ذهن السيد هاشمي نيا، وتبعاً لذلك لا يصلح الطريق الذي سلكه ـ مع كامل احترامنا لمجهوده البحثي ـ جواباً عما أفاده الشيخ المنتظري.

المقاربة الفقهية لمصافحة الأجنبية

 توصلنا في مقال نشرناه في العدد 23 من مجلة (كاوشي نو در فقه)، في هامش تحليل الحجاب، إلى أنه في البداية كان حقاً أقرّه الله للمرأة الحرة. وقد طبق هذا الحق أولاً على نساء النبي الأكرم‘، وأمر الرجال أن يكلموهنّ من وراء حجاب([30]). ثم أجيز للأقارب من المحارم أن يكلِّموهن من دون حجاب([31]). ثم أُمر النبي‘ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59). ثم هدد السفهاء بأنهم إن لم ينتهوا عن إيذائهم لن يكون لهم مقام في المدينة، وسوف يتم طردهم منها([32]).

 إلى هنا ثبت أن الحكم بالحجاب أُقِرَّ إما لكونه حقاً؛ أو أن الأوامر المتعلقة به إرشاد إلى بيان فوائد الحجاب، التي لو عمل العقلاء بها لتوصلوا إلى ثمارها، كقوله تعالى: {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أو {يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}.

 ويبدو أن آيات سورة النور ليست تكليفية بحتة؛ إذ إنها بينت الأسباب الدنيوية والطبيعية لهذا الحكم، وعليه يواجه الحكم التكليفي للحجاب عقبة كبيرة.

 وقد ذكرتُ في مقال تفسير آيات الحجاب أنه لا محذور في كون الشيء حقّاً، ومع ذلك يقع مورداً للتكليف. وعليه لا إشكال في أن تكون آيات الحجاب، وخاصة الآية 59 من سورة الأحزاب والآية 31 من سورة النور، بياناً لحكم تكليفي. ولكن يبدو لي هنا وجود عدة إشكالات على هذا الكلام:

 الأول: لو كانت هذه الأوامر مولوية لكان من الأجدر توعُّد المخالفين بالعقاب، ووعد المطيعين بالثواب، في حين لا يوجد شيء من ذلك في هذه الآيات، وإنما يكتفي فيها ببيان بعض الفوائد الدنيوية.

الثاني: بما أن الحجاب من الأمور التي تنسجم مع طبيعة المرأة([33])، وتوافق المروءة وغيرة الرجل([34])، وليس هو كالصيام والصلاة والخمس والجهاد مما يحاول الإنسان التهرب منه، فحتى لو فرض أن الأمور التي تخالف الطبع يمكن لأوامرها أن تكون مولوية، وحتى لو فرض عدم ورودها في سياق الوعد والوعيد الأخروي، مع ذلك نقول: إن الأوامر والنواهي التي توافق الطبع لا يمكنها أن تكون مولوية، إلا إذا صرح فيها بمعاقبة المخالفين في الآخرة.

وخلاصة القول: إن هناك أموراً تطابق الرغبة والطبيعة، من قبيل: تناول أنواع الفواكه، وخاصة في مواسم نضجها، أو أكل اللحوم الطرية وسائر الأطعمة الطازجة، والسفر والسياحة في الأرض، وبناء القصور الفارهة، وما إلى ذلك، فإذا وردت أوامر في مثل هذه الموارد، كما في قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ}، أو {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ}، وغيرها، فلا يمكن أن تكون مولوية. وعليه فكون الحجاب مطابقاً لرغبة المرأة ومنسجماً مع غيرة وحمية الزوج أو الأب، يحول دون حمل هذه الأوامر على المولوية.

 الثالث: إن الكثير من آيات سورة النور، وخاصة من الآية 26 إلى الآية 32، تتحدث في غالبها عن الأمور الأخلاقية والإرشادية. وعليه يبعد أن تشذ الآية 31، الواقعة في سياق هذه الآيات، ويكون الأمر فيها مولوياً. فيشكل اعتبار الحجاب حكماً تكليفياً إلهياً قطعياً، وإنْ لم يكن إشكال في حسنه شرعاً وعرفاً، بل إن العرف ليرحب بوضع قوانين جزائية ضد السفور، وخصوصاً في المجتمع الذكوري، دون أن يكون لذلك علاقة بالتديُّن.

الآيات القرآنية والملاك في تشريع الحجاب

لنفترض أن القرآن قد أوجب الحجاب على المسلمات، وألزمهن بستر أنفسهن من الأجانب، إلا أن الأسباب المذكورة في الآية تخرج وجوب الحجاب عن كونه تكليفاً عبادياً صرفاً لا نعرف ملاكاته وأسبابه؛ إذ يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32)، وقال في موضع آخر: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب: 53)، وقال في موضع ثالث: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59)، وفي موضع رابع: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور: 31).

ومن الواضح أن هذه الآيات قد نزلت بحسب التسلسل الزمني على نحو ما ذكر([35]). فقد تعرضت سورة الأحزاب في ثلاثة مواضع لعدم التكلم واللمس بين الرجال والنساء من الأجانب، مع ذكر الأسباب في جميع هذه المواضع، وفي الموضع الرابع اكتفى بذكر السبب فقط، فقال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، ولم يبيِّن النتائج المترتبة على إظهار زينتهنّ، في حين أنه بيَّنه مراراً في مواضع أخرى، من قبيل: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، فيتمادى في إيذائه.

 فيتضح أن الحفاظ على سلامة المجتمع وطهارة المسلم والمسلمة هو الملاك الوحيد لتشريع الحجاب، وإلا لو كانت هناك ملاكات تعبدية أيضاً لوجبت الإشارة إليها ولو مرة واحدة، أو عدم ذكر الملاكات الدنيوية ولو لمرة واحدة أيضاً.

إذاً من خلال الأسباب المذكورة في هذه الآيات تتضح علّة وجوب الحجاب وحرمة النظر، وهي الحفاظ على نقاء فطرة المسلم والمسلمة، وعدم طمع ذوي النفوس المريضة.

وعليه فإنه؛ بمقتضى هذا التعليل المنصوص والصريح، يكون كلُّ ما يؤدي إلى تدنيس المسلم، أو يوجب طمع المرضى والذين يتبعون الشهوات، حراماً، وكل ما لا يؤدي إلى ذلك فهو حلالٌ.

 فتكون الأفلام المثيرة جنسياً حراماً، وإن كان الممثلون فيها مجهولين، أو من المشركين، أو من أهل الكتاب الذين يجوز النظر العادي إليهم. كما يحرم النظر إلى الأخت والأم وسائر المحارم إذا أوجب شهوة. ولكن لا إشكال في مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية المسنّة إذا لم تكن لشهوة، كما لا إشكال في مصافحة العارف والعارفة المتفانين في ذات الله، ولا وجود لهما في عالم الشهوة أصلاً.

 وهنا أضاف الشيخ المنتظري شرطاً آخر؛ رعايةً للاحتياط، وهو عدم قصد الشهوة.

وبهذا البيان يبدو أن السيد هاشمي نيا لم يدخل إلى البحث من طريقه الصحيح، وإن كانت مقدماته صحيحة؛ فإنه يذعن بحجية القياس المنصوص العلة، ومثَّل له بـ(لا تشرب الخمر؛ لأنه مسكر)، ثم أشكل بأنه لا توجد في محل بحثنا آية أو رواية تقول: «لا تنظر إلى المرأة؛ لأنها محترمة»، ليستنتج من ذلك أن المرأة إذا رأت حرمتها بالنظر إليها أو مصافحتها جاز النظر والمصافحة.

وجوابنا هو أن الآيات قد صرحت بعلة وجوب الحجاب وحرمة النظر، والعلة ـ كما يقول الأصوليون ـ تعممّ وتخصّص. فلو قال الطبيب: «لا تأكل الرمان؛ لأنه حامض» ندرك أن كل حامض مضرّ، وعليه يجوز أكل الرمان الحلو، ولا يجوز شرب الخلّ. وفي موضوع بحثنا تعلِّل الآية وجوب الحجاب للمرأة، وحرمة النظر على الرجل، بعدم إثارة الذين يتبعون الشهوات وأصحاب النفوس المريضة. وعليه لو لم يكن هناك مَنْ في قلبه مرض، ولم تحصل إثارة، لما كان هناك إشكال في النظر إلى الأجنبية، كالرمان الحلو لمن يضرّه الحامض. ومن جهة أخرى يحرم النظر إلى الصور والأفلام والمحارم من النساء على المغتَلِم الذي ينظر إلى كل هذه الموارد بشهوة.

ويحتمل أن يكون خطأ السيد هاشمي نيا ناشئاً من تركيزه على الحرمة والاحترام، الأمر الذي شتَّت انتباهه عن (عدم قصد الشهوة، وعدم حصولها) في جواب الاستفتاء.

والحقيقة أنه فسَّر فلسفة الحكم الذي أفاده الشيخ المنتظري على أنها علة للحكم، ما أدّى به إلى الغفلة عن العلة الحقيقية تماماً، ومن ثمّ رتب على ذلك إشكاله على الحكمة، وقال: إنها غير منصوصة، وليست جارية في جميع المواطن. وهو محقّ في ذلك، إلا أنه لم يلتفت إلى العلة وطرفها المقابل المنصوص عليهما، والجاريتان في جميع المواطن.

وخلاصة القول: لو اعتبرنا وجوب الحجاب وحرمة النظر تكليفاً شرعياً، وسلكنا طريق ملاك القياس المنصوص العلة على نحو ما قام به السيد هاشمي نيا، تكون فتوى الشيخ المنتظري صحيحة أيضاَ، ويمكن تصويبها، شريطة تحديد الحكمة والعلة بشكل صحيح، وأن نعلم أن الحكمة في حرمة النظر إلى المرأة هو مراعاة مكانتها واحترامها، وأن العلة هي عدم قصد الشهوة، وعدم حصولها.

 وعندها إذا تجردت المصافحة من هذين الأمرين كانت جائزة، وإذا لم يكن النظر من وراء الثياب، أو النظر إلى الأفلام أو الأجنبيات خالياً منهما كان محرَّماً؛ لأن العلة تعمِّم الحكم إلى خارج موضوعه مما تتوفَّر فيه العلة ولم يصرح بها في لسان الشارع، أي إنها تأخذ الحكم بحلية النظر من دون قصد الشهوة وحصولها وتطبِّقه على المصافحة وأمثالها.

وينعكس ذلك في مورد قصد الشهوة أو حصولها، فالحكم هو الحرمة وإن لم يكن النظر موجَّهاً إلى الأجنبية، وإنما إلى صورتها الفوتوغرافية، أو كان النظر إلى المحارم أو الرجال، فجميع هذه الصور محرمة إذا كانت بقصد اللذة والشهوة، أو مع حصولها.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحث وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في مدينة أصفهان.

([1]) راجع كتاب؟؟؟ حيث اشتمل هذا الكتاب على عدد كبير من الفتاوى الشاذة لفقهاء الشيعة. كما يحسن الرجوع إلى كتاب «مختلف الشيعة» للعلامة الحلي، حيث جمع فيه الفتاوى المختلفة بين علماء وفقهاء الشيعة إلى عصره، الأمر الذي يبين مدى الاختلاف بين فقهاء الشيعة في الإفتاء، وقد طبع مكتب الإعلام الإسلامي هذا الكتاب في عشرة أجزاء.

([2]) راجع: البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 18 ـ 20.

([3]) وطبعاً لدي إشكال على هذا المبنى، وقد ذكرتُه له، حيث إن قدماء الفقهاء كانوا يحتاطون كثيراً، ولا يبعد أن تكون تلك الفتاوى صادرة بدافع من الاحتياط.

([4]) صحيفة الإمام؟؟؟؟

([5]) راجع: تحرير الوسيلة 1: 501.

([6]) المنتظري، توضيح المسائل: 37، المسألة رقم 2084.

([7]) صحيفة النور 21: 35.

([8]) مجلة (كاوشي نو در علم فقه)، العدد 39.

([9]) راجع: مجلة (كاوشي نو در فقه)، العدد 23 و24.

([10]) راجع: وسائل الشيعة.

([11]) وسائل الشيعة، أبواب الزكاة، الباب 1.

([12]) توضيح المسائل، بحث الأذان والإقامة.

([13]) مجلة (كاوشي نو در فقه)، العدد 7ـ 8.

([14]) ديدگاهها: 571.

([15]) جواهر الكلام 29: 75، المكتبة الإسلامية، طهران.

([16]) المصدر نفسه: 100.

([17]) جامع المقاصد 12: 43، مؤسسة آل البيت، قم.

([18]) الأنصاري، فرائد الأصول 1: 184.

([19]) نهاية الأصول 1: 541؛ دراسات في المكاسب المحرمة 1: 92؛ البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 18 ـ 20.

([20]) جواهر الكلام 29: 75.

([21]) المصدر نفسه: 80.

([22]) وسائل الشيعة، ج 14، الباب 15 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1 و 2.

 ([23]) مسالك الأفهام 7: 47.

([24]) المصدر نفسه.

([25]) وسائل الشيعة 1: 105، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحديث 10 و12.

([26]) راجع: مجلة (كاوشي نو در فقه)، العدد: 7 ـ 8؛ وكذلك رسائل: الشيخ الصانعي ومكارم الشيرازي والمنتظري.

([27]) (كاوشي نو در فقه)، العدد 15.

([28]) المصدر نفسه، العدد 6.

([29]) راجع: مجلة (پيام زن)، الأعداد: 130، 131، 134.

([30]) الأحزاب: 53.

([31]) الأحزاب: 55.

([32]) الأحزاب: 60.

([33]) إن مراجعة كتب علم النفس تميط اللثام عن هذه الحقيقة، فلا يعد من تلقينات المسلمين لأطفالهم.

([34]) يمكن العثور على هذا الكلام في الكتب الفقهية والقرآنية، ومنها: مسالك الأفهام 7: 47.

([35]) وقد ذكرت شواهد هذا المطلب في مقال (سيري در آيات حجاب)، راجع: مجلة (كاوشي نو در فقه)، العدد23.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً