أحدث المقالات

في ختام سلسلة الدروس الأصوليّة لهذا العام، وعند الانتهاء من استعراض تاريخ المقاصد الشرعيّة، أبدى الأستاذ حبّ الله ملاحظةً مهمّة تعدّ ـ في نظره ـ مفتاحاً أساسيّاً لاتخاذ موقف من قضيّة المقاصد، وكلّ المسائل الأصوليّة التي تحمل روحاً مقاصديّة أو تسعى لقراءة ما هو خلف سطور النصوص، مثل مناسبات الحكم والموضوع وتنقيح المناط والعلّة المستنبطة وروح الشريعة ومذاق الشارع وإلغاء الخصوصيّة عرفاً وغير ذلك، هذه الملاحظة هي ضرورة البحث في معنى القياس ومفهومه الذي قصدته نصوص النهي عن القياس في كلمات أهل البيت عليهم السلام، فالبحث في حقيقة القياس المقصود بالنهي لم يعد ـ برأي الشيخ الأستاذ ـ بحثاً في الفقه الخلافي والمقارن بين المذاهب الإسلاميّة، بل هو موضوع (داخل ـ مذهبيّ)، يشكّل ضرورة للدخول في أشكال فهم النصّ؛ لأنّ مجرّد كون الطرق المعتمدة اليوم المشار إليها أعلاه عرفيّةً لا يعني أنّها غير منهيّ عنها بنصوص القياس، بل قد فهم بعض علماء الإخباريّة من نصوص القياس نهياً عن بعض أشكال ما ربما يعتبر اليوم فهماً عرفيّاً، وبهذا يمكن أن تكون نصوص النهي حاملةً لنوع من الردع عن التعامل ببعض أشكال الفهم العرفي مع النصوص الدينيّة، فمرجعيّة العرف لم تعد تكفي لخوض تجربة تفسير للنصوص قبل البتّ في الموقف من القياس ومعناه، وهل يشمل مطلق أشكال التعدّي عن النصّ أو بعضها أو يخرج منه الفهم العرفي أو هو منهيّ عن بعض أشكالها ولو كانت عرفيّةً؟

وقد مثّل الشيخ الأستاذ فقال بأنّه إذا جاءت رواية ـ وهذا مجرّد مثال ـ تأمر شخصاً عربيّاً بفعل معيّن، فلماذا لا يكون التعدّي إلى غير العربيّ قياساً في نفسه؟ ولو جاءت رواية تأمر بتطهير اليد المتنجّسة بكذا وكذا، فلماذا لا يكون التعدّي عن اليد إلى حالة تنجّس الرِّجل قياساً؟ من الممكن أنّنا اعتدنا على هذه التعدية باسم مناسبات الحكم والموضوع أو إلغاء الخصوصيّة عرفاً، وكانت عادة خاطئة.. فكيف عرفنا أنّ مثل هذه الأشكال البسيطة من التعدّي عن حرفيّة النصّ ليست مشمولة لنصوص القياس؟ ألا يلزمنا بحثٌ عميق وتاريخي في ظاهرة القياس عصر صدور نصوص النهي عنه، فربما يكون المنهيّ عنه ـ كما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين ـ خصوص إعمال العقل في كشف علل الأحكام مع وجود نصّ قائم، فيكون القياس ضرباً من الاجتهاد في مقابل النصّ لا غير، لا ضرباً من الاجتهاد حيث لا نصّ أو أمارة، بل هذا المعنى يلوح من السيد السيستاني احتمال أنّ بعض المتقدّمين ربما يكون مال إليه، وهو معنى يقلب كلّ التصوّرات الشيعيّة السائدة حول القياس.

من هنا، طالب الشيخ حبّ الله بإعادة فتح بحث القياس في أصول الفقه الإمامي بشكل جادّ، لا لغرض المحاججات المذهبيّة، أو للمرور السريع عليه، بل لغرض فهمه ودراسة تأثير نصوصه على طرائق فهمنا وتفسيرنا للنصوص الشرعيّة، خاصّة بعد أن تطوّر القياس عند أهل السنّة بعد القرن الثاني تطوّراً مذهلاً.

وفتحُ بحث القياس بشكل مفصّل مجدّداً يمكن ـ عند الشيخ حبّ الله ـ أن يُنتج تضييقاً في عمليات فهم النصوص، كما يمكن أن ينتج تحرّراً من بعض أشكال الحظر المضروب على التعدّي عن النصّ واكتشاف مناطاته، فالموقف من القياس والتوليفة المحيطة به تمثل أحد معالم هويّة الاجتهاد الإمامي، فلا يجوز تركه واعتباره مسلّمة ناجزة على مستوى حدوده ومعناه، ولو كان مسلّمةً على مستوى أصل الموقف منه، بل كلّ طُرق الفهم هذه ـ مناسبات الحكم والموضوع وغيرها ـ لم تُفرد عند المتأخّرين ـ مع الأسف ـ ببحوث مستقلّة في الكتب الأصوليّة إلا نادراً.

وأخيراً فقد طالب الشيخ حبّ الله الباحثين بجمع كلّ النصوص الحديثيّة التي تعطي موقفاً من القياس عند السنّة والشيعة، ودراستها في مصادرها ومجموعاتها وأسانيدها ودلالاتها ومعارضاتها، وهي عملية ندر أن قام بها أحد إلى اليوم، وهو يتمنّى أن ينجزها بنفسه في العام الدراسي القادم إذا وفّق الله تعالى.

الشيخ حسن الخرس

الخميس 9/مايو ـ أيّار/2019م

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً