أحدث المقالات

فوبيا تجديد الفكر الديني وهواجس الابتداع

سيد جابر علي

منذ قرنين من الزمان والأمة الإسلامية تتوالى عليها ألوان من الخطاب الديني الذي يبحث في النص عن الحبل السري المرتبط بأغراض الوحي ويدعي قدرته على التعبير في الواقع عن روح الإسلام، وقد يمكن إحصاؤها وقد لا يمكن إذا ما أضيف لعددها اجتهادات وخطابات غابت عن بقعة الضوء ولم يكتب لها أن تعلق في أذهان الأمة نظرا لأشكال الإرهاب الفكري الذي حاصرها ولظروف القهر التي طاردتها، أو لأنها من الأساس محبطة وفاقدة لعناصر التعبير والديمومة، ويأتي هذا التوالي من أنماط الخطاب لينطلق تارة من منطلقات فكرية بحتة وأخرى تكون السياسة والمخاضات الاجتماعية سببا في بروزه. فمن خطاب النهضة للأفغاني وعبده إلى الخطاب السلفي الاجتهادي لمحمد رشيد رضا، إلى السلفية الجهادية القطبية، إلى الخطاب الثوري الإيراني إلى الخطاب النقدي المعرفي الجديد، هناك تجارب وتجارب يصنفها البعض من المفكرين ضمن سلسلة مخاضات الولادة الكبرى التي “تحضرها قوانين التاريخ والاجتماع لعالمنا المسلم” وما يجب الوقوف عنده اليوم هو مشروع التجديد في حلته المعاصرة التي ما عادت تفرق في دعوتها بين المذاهب الإسلامية قدر اهتمامها بالخطوط العريضة للإسلام أملا في الخروج بصيغة توافق بين دلالات النص ومتطلبات الواقع بخيوطه المتداخلة، والعثور -بين ركام مفردات الإحباط والنهوض- على خصوص المفردات التي تتألف منها جملة الخطاب الديني المتنور. إن التجديد في الفكر الديني وجد من يقف منه موقفين متناقضين، ففريق عده مناط النهضة والتقدم وراح يفسره بتفاسير متعددة أقواها صدى من تحاشى الاصطدام بالأصول الدينية وعمل على مراعاة مساحات التعبد في النصوص وتجنب استفزاز “المشهور” والمساس بالغرور الديني، وآخر رفض التجديد جملة وتفصيلا وقرنه بالابتداع والتلاعب وصار يتوجس خيفة من كل راية ترفع باسم التجديد حتى ظهرت “فكرة أن الإسلام إلهي لا يجدد” متجاوزة لفارق تجديد الإسلام أو تجديد فهم الإسلام وجاءت مقولة “جاهلية القرن العشرين” والتي ترشح عنها الدعوة للعمل على أسلمة المجتمع الذي عادت إليه “جاهليته” عوض جعل التجديد في الفكر أولوية في سلم النهوض. إن المستنيرين في الأمة يواجهون على الدوام سؤال مشروعية التجديد، ويعتقد البعض أن التجديد لن يخرج بمكاسب حقيقية حتى يتمكن من الجواب على سؤال الشرعية، هذا رغم الاعتقاد بضرورة التجديد وإلحاح واقع المسلمين على ذلك، والانشغال بالسؤال من هذه الناحية له ما يبرره ولكن لا ينبغي تحويله إلى عائق عن مواصلة المسير استجابة للأمر الواقع، بل الذكاء في أن يأخذ المجددون زمام المبادرة في إلقاء السؤال على الطرف الآخر والتحول للفعل بدل التقوقع في مربع الانفعال، على أن يكون السؤال مؤهلا لتحريك الراكد من عصبية القوم وجمود الفكر، بل ويكون محرضا على مراجعة المنهج ليصبح قادرا على الاستجابة لاستغاثات الواقع وصيرورة مشروع التجديد شاغلا وليس منشغلا. وإن هذه المبادرة تحمل في طياتها تحديات كبيرة وشائكة لأنها إن أخطأت الطريق فستتسبب في ردة فعل معاكسة وضارة بمستقبل مشاريع التجديد في الفكر الديني، لأن الهواجس من الابتداع والتلاعب في الدين وبالدين قائمة فعلا قبل المبادرة فإذا أخذ مشروع التجديد طابع التهديد والوعيد فقد أكد تلك الهواجس واستنفر كل القوى المضادة لحماية نفسها من “الغزو الثقافي” والبدعة” والاغتراب” والردة” والمؤامرة” وهذا عكس ما ينتظر من التجديد في الأطر العلمية والشرعية لكي يصبح الفكر الديني حيويا باستمرار وقادرا على حفظ خصوصيته بديمومة التجديد “المنضبط” لأن التجديد اليوم وإن عد مطلبا فمع إنجاز مستوى منه أو معنى من معانيه لا يعطيه صفة القداسة بل يبقي الدائرة مفتوحة ليصبح التجديد قابلا للتجديد. هذا وقد تتهم فرقة رفض التجديد في الفكر الديني مصطلح التجديد نفسه، بداعي ثبات الدين ثم تنقسم على نفسها بين راض بمصطلح الاصلاح الديني كبديل عنه وبين رافض كذلك، بداعي استلزام مصطلح الاصلاح سبق الفساد وهو لازم يتنزه عنه الدين!! ومن ثم يستغني عن مصطلحي “التجديد” والاصلاح” بمفهوم “الاجتهاد” وهي مسألة بحد ذاتها تستوجب الكلام المفصل حول المصطلحات الثلاثة، الأمر أدعه لمقالات آتية إن شاء الله تعالى.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً