أحدث المقالات

حوارٌ مع: الشيخ يوسف الصانعي(*)

ترجمة: مرقال هاشم

الظلم بين المفهوم العقلي والعرفي

_ لقد قسّموا الظلم إلى: عقلي؛ وعُرْفي؛ فهل ترون هناك اختلافاً بين منشأ الحكم العقلي والعُرْفي للظلم؟

^ على الرغم من أن العقل والعرف ينسجمان ـ في الغالب أو دائماً ـ في مصاديق الظلم ومناشئه، لو أن العُرف ـ على أيّ حال ـ اعتبر شيئاً من مصاديق الظلم، ولكن العقل من خلال عدساته الدقيقة لم يعتبره ظلماً، كان رأي العُرف في تطبيق الأحكام المترتِّبة في الشرع على الظلم هو المتَّبَع، ولا يكون ما يذهب إليه العقل متَّبَعاً؛ لأن لسان أدلة الأحكام هو لسان عرفي. والمسألة المذكورة من الموارد المسلّمة في الفقه؛ إذ يقال: إن رأي العُرف مقدَّم على الدقة العقلية، وعلى هذا الأساس تقوم فتوى الجميع على عدم نجاسة اللون المتبقّي من الدم على الثياب وغيرها بعد غسلها؛ لأن لون الدم ليس دماً من وجهة نظر العُرف، والمعيار في فهم الأدلة هو العُرف، وإنْ كان من المستحيل تحقّق العَرَض من الناحية العقلية دون تحقّق الجوهر؛ إذن فالدم موجودٌ بوجود لونه، وعليه يجب أن يكون نجساً، استناداً إلى الدقّة العقلية، بَيْدَ أن هذه الرؤية العقلية ليست هي المتَّبَعة. وإن الفتوى على طبق الدقّة العقلية، والحكم بنجاسة الثوب المغسول بالماء المطلق بعد بقاء لون الدم، هو من وجهة نظر جميع الفقهاء حكمٌ بغير ما أنزل الله، وعلى خلاف الموازين الفقهية.

_ وفي تقسيمٍ آخر للظلم ـ الأعمّ من العرفي والعقلي ـ يتمّ تقسيمه إلى: تعليقي؛ وتنجيزي، وقالوا بأن الظلم التعليقي هو المقيّد بعدم تجويز الشارع، والظلم التنجيزي هو المطلق من هذه الناحية، ويعارض تجويز الشارع. فهل يُعَدّ هذا التقسيم صحيحاً من وجهة نظركم؟ وبعبارة أخرى: هل للعقل والعرف ظلمٌ تعليقي أم لا؟

^ إن التقسيمات التي تعود إلى عدم حرمة جانبٍ من الظلم، والتي تقول: إن الشارع يجيز الظلم، هي في الأساس غير تامّة عقلاً ونقلاً وفي المعلوم من ضرورة المذهب؛ لأن قبح الظلم قبحٌ ذاتي، وليس بالوجوه والاعتبار، لكي يمكن أن يكون مورداً للجواز الشرعي. إذن فالعقل بدَوْره يحكم بقبح جميع مصاديق الظلم، والأحكام العقلية الذاتية غير قابلة للتخصيص، لا من الشارع، ولا من قِبَله.

أما من قِبَله فواضحٌ؛ للزوم التناقض في حكم العقل ودركه. وهو كما ترى. وأما من الشرع والنقل فلرجوعه إلى تجويزه الظلم القبيح ذاتاً. ومسألة حكم العقل التنجيزي والتعليقي إنما تكون في باب مثل الحجّية وأصل البراءة، فإن حكم العقل بالبراءة ـ مثلاً ـ موقوفٌ ومعلّق على عدم جعل الشارع إيجاب الاحتياط، وكذلك حكمه بحجّية بناء العقلاء الممضاة شرعاً معلّق على عدم ردع الشارع عنها. بل لا يخفى عليك أن حكمه في أمثالها معلّقٌ وموقوف من أوّل الأمر، وليس له في أمثالها إلاّ الحكم التعليقي والموقوف على أمرٍ من الأمور. ففي الحقيقة لا تقسيم في حكمه في أمثالها، كما أن دخالة الشارع ليست دخالة في حكمه، بل بيان للمعلّق والموقوف عليه، والموضوع الذي أناط العقل حكمه بنفسه على ذلك المعلّق والموقوف عليه. ففي الحقيقة بيان الموضوع أيضاً يكون بنظر العقل وتعليقه، فتدبَّرْ جيداً.

_ قلتم: إن المعيار في تشخيص مخالفة حكم الرواية مع القرآن الكريم (كما في آيات النهي عن الظلم مثلاً) هو العُرف. كيف تستنتجون من هذه المسألة أن المعيار في تشخيص كون الحكم ظلماً هو العُرف؟ والأمر الذي يمكن أن يُدّعى هو أنه لا ملازمة بين هذين الأمرين؛ فلربما اعتبرنا العرف معياراً لتشخيص المخالفة مع القرآن، ولكننا نرى المعيار في تشخيص الظلم هو الشرع أو الحكم القطعي التنجيزي للعقل. وعليه فإن وظيفة العُرف في هذا الشأن عبارةٌ عن تطبيق ما يراه الشرع والعقل ظلماً على مفاد الرواية.

^ ليس هناك ـ في تمامية وجهة نظر العُرف في تشخيص مخالفة الروايات للقرآن، والذي هو من الأمور الثابتة والمسلَّمة في حجّية أخبار الآحاد، والتي تمّ الاهتمام بها كثيراً في روايات النبيّ الأكرم والأئمة المعصومين^ ـ أيّ فرق في المخالفة المفهومية أو المصداقية؛ لأن هذه الروايات ـ مثل سائر ألسنة الأدلة ـ تحال إلى رؤية العرف: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: 4). وإن رأيَ العرف ـ تبعاً لسيدنا الأستاذ الإمام& وغيره من المحقِّقين ـ كما هو معتبر في فهم المفهوم معتبرٌ في تشخيص المصاديق أيضاً، وكلاهما يعود إلى فهم الدليل، وأن اللسان هو لسان القوم، وهو معتبرٌ كتاباً وسنّةً وسيرةً وبناءً.

وبالجملة إذا لم نقُلْ: إن المعاني والمفاهيم الكلية قلّما تحتاج إلى العُرف، وأنها واضحة بنفسها، فالذي تمسّ فيه الحاجة إلى العُرف على القطع واليقين هو تشخيص المصاديق بالنسبة إلى ذلك المفهوم الارتكازي؛ وإلاّ إذا لم نقل بأن تشخيص المصداق مرتبط بالعُرف، إذا لم نقُلْ: إنه لا يبقى موضع للعُرف؛ لأن المفهوم الارتكازي واضحٌ، فلا أقلّ من أن الحاجة إلى العُرف سوف تكون في الحدود النادرة والقليلة جدّاً؛ لأن العُرف عادة لا يستطيع بدَوْره أن يكوِّن تعريفاً جامعاً للمفهوم، وإنْ أمكنه تطبيق معناه ومفهومه الارتكازي على المصاديق. ألا ترَوْن أن مفهوم الماء وتعريفه مع ما له من الوضوح في ارتكاز العُرف على النحو الجامع لجميع أفراده، المانع عن غيره، بيِّنٌ وغيرُ بيِّنٍ، ولذلك وقع الشكّ في بعض المصاديق للماء المضاف من أنه ماءٌ أو ماء مضاف.

_ هل تتغيّر مصاديق الظلم في الأعراف المختلفة أو الأزمنة المتفاوتة أم لا؟ إنْ كان الجواب نعم فما هو الزمن الذي يكون هو المعيار في تشخيص مخالفة حكم الرواية للقرآن الكريم (في آيات نفي الظلم والنهي عن الظلم)؟ هناك ثلاثة احتمالات في هذا الشأن:

الأوّل: عُرف عصر الشارع، وفي هذا الاحتمال كيف يكون حكم الصور الثلاثة التالية:

أـ نعلم أن هذا الحكم يُعَدّ ظلماً في عُرف عصرنا، ولكننا لا نعلم هل كان ظلماً في عصر الشارع أم لا؟

ب ـ نعلم أن هذا الحكم لم يكن ظلماً في عصر الشارع، ولكننا نعلم أنه يُعَدّ اليوم ظلماً.

ج ـ لا نعلم ما إذا كان هذا الحكم يُعَدّ ظلماً في عصر الشارع أم لا، ولكننا نعلم اليوم أنه ظلم.

الثاني: إن العُرف في كلّ عصر إنما هو لأهل ذلك العصر. وهذا الاحتمال يعني أنه من الممكن أن لا يكون الحكم في السابق مخالفاً للقرآن، ولكنه اليوم مخالف للقرآن. وفي هذه الحالة لا بُدَّ من الإجابة عن الإشكالين التاليين:

أـ إن ظاهر روايات «عرض الأخبار على القرآن» هو نفي صدور الخبر المخالف للقرآن الكريم، في حين أن هذا الاحتمال الثاني لا ينفي الصدور.

ب ـ بناء على هذا الاحتمال تكون الشريعة تابعة للعرف، وليس العرف تابعاً للشريعة.

الثالث: إن العُرف مشتركٌ بين جميع الأزمنة والأمكنة والثقافات. وعلى هذا الاحتمال إذا علمنا اليوم بأن الحكم في ثقافتنا كان ظالماً، وتَبَعاً لذلك يكون مخالفاً للقرآن، فما هو الطريق الذي يمكن من خلاله إحراز أن هذا الحكم ظالمٌ في جميع الأزمنة، وحتّى في المستقبل؟

^ قبل كل شيء لا بُدَّ من العثور على الاختلاف في مصاديق الظلم، ثم العمل على إصدار الحكم بعد ذلك؛ كي يكون الحكم قائماً على أسس واقعية. ولكن عنوان الظلم في القرآن والسنّة القطعية ـ على أيّ حال ـ هو مثل عنوان الضرر والحرج، حيث وقع مورداً للنفي، ولسانهما حاكمٌ على أدلة الأحكام. وعليه فإن كلّ ما قيل بشأنها في مورد مصاديقها المختلفة يقال بشأن الظلم أيضاً. وكما هو الأمر بالنسبة إلى موضوع هاتين القاعدتين: (لا حَرَج)؛ و(لا ضَرَر)، الحاكمتين على جميع أدلة الأحكام، فإن معيار تحقّق مصداقهما في كلّ زمان إنما يكون لأهل ذلك الزمان، ويمكن لأمرٍ زمني أن يكون مصداقاً للحرج والضرر، وحاكماً على إطلاق دليل حرمة ذلك الأمر، وأن يكون ذلك الأمر وموضوعه جائزاً بالنسبة إلى الشخص الذي يعيش في ذلك الزمن الذي يُعَدّ فيه من الحرج، ويكون حراماً في زمنٍ آخر. ويجري ذات هذا المعنى بشأن الظلم أيضاً. ومعيار التشخيص هو الفقيه. والمعيار أيضاً هو ذلك العصر، حيث يكون مورد الرواية مصداقاً للظلم، ولذلك حيث يشخِّص الفقيه هذا الأمر ـ أي إذا شخّص مخالفة الرواية لحرمة وقبح الظلم ـ لا تكون الرواية من وجهة نظره حجّة، ويُردّ علمها إلى أهلها؛ وفي الوقت نفسه يمكن لفقيهٍ آخر أن يذهب إلى عدم اعتبار مدلول تلك الرواية مخالفاً للكتاب؛ لأنه لا يرى موردها من الظلم، ولا يرى حكم مدلول تلك الرواية ظالماً. وخلاصة انفتاح باب الاجتهاد يقتضي الاختلاف في الآراء والأنظار.

_ يقال في فلسفة الحقوق: إذا كان الحكم عادلاً في الرؤية العامة بالنسبة إلى أغلب الموارد كان تطبيق هذا الحكم ينطوي على مصلحةٍ حتّى في الموارد التي تُعَد من زاوية الرؤية الفردية وغير الغالبة أمراً ظالماً؛ وذلك لأن النظم الاجتماعي والعدالة ـ بمعنى التساوي في الحقوق ـ تقتضي جريان هذا الحكم في جميع الموارد. فهل تمّ لحاظ هذه المسائل في ما يتعلّق بعدالة الأحكام في التشريع الإسلامي أيضاً أم أن الإسلام قد أخذ عدالة الحكم بشأن آحاد المصاديق الخارجي بوصفها قيداً في الجعل؟

^ إن دأب الإسلام في التقنين والتشريع هو دأب المقننين والمشرّعين تجاه العدل والحقّ. كما يمكن أخذ هذا الدأب في التقنين من مصاديق لسان القوم. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: 4). ومن الجدير ذكره أن المفروض في السؤال عدم احتساب الظلم القانوني؛ إذ في القانون يتمّ لحاظ رعاية حال الجميع أو أغلب الأفراد. وخلاصة القول هي: إن الظلم في كل شيء بحسبه.

_ إذا كان الحكم ظالماً من وجهة نظر العُرف، وكانت هناك رواية في ثبوت ذلك الحكم الظالم، فما هو وضع هذه الرواية بالنظر إلى الموارد التالية:

أـ أن تكون دلالة الرواية على ذلك الحكم الظالم على نحو العموم.

ب ـ أن تكون دلالة الرواية على ذلك الحكم الظالم على نحو الإطلاق.

ج ـ أن تكون دلالة الرواية على ذلك الحكم الظالم على نحوٍ صريح ومطابقي.

^ إنها تسقط عن الحجّية بمقدار ما تشتمل عليه من الظلم؛ لأنها على خلاف القرآن؛ كما تسقط الرواية الصريحة عن الحجّية بسبب مخالفتها للقرآن الكريم. وإن الروايات الدالة على عدم حجّية الأخبار المخالفة للكتاب تشمل ـ بحكم إطلاقها وعمومها ـ جميع الموارد المذكورة في سؤالكم. ومن الجدير ذكره أن لسان هذه الروايات يأبى عن التخصيص، وكيف يمكن التخصيص في مثل قولهم^: «ما جاءكم يخالف القرآن فلم أقله»([1])، أو «فهو زخرف»([2])؟

موضوع قاعدة العدالة، وأهمية البحث عنها

إن سماحتكم من الفقهاء الذين عملوا، في أبحاثهم الفقهية وفي كتبهم، على توظيف العدالة بوصفها معياراً لمعرفة صحّة وسقم الروايات. وقد سبق لكم أن أجبتم عن جانبٍ من أسئلتنا، ثم قدَّمنا لكم أسئلةً أخرى في إطار إجاباتكم السابقة.

 

إطلالةٌ إجمالية على مباني قاعدة العدالة

ويبدو أنه للمزيد من تنقيح قاعدة العدالة يجب البحث في مجالين، وهما: أوّلاً: البحث حول مباني هذه القاعدة. وثانياً: البحث حول أدلة هذه القاعدة. ومن بين مباني قاعدة العدالة سوف أشير إلى ثلاثة مبانٍ هامة؛ فإنْ وافقتم على ذلك فسوف نبدأ بحثنا من هذه المباني. وأحد هذه المباني هو: هل مصاديق العدالة متغيِّرة دائماً، أو ثابتة دائماً، أو بعضها ثابت وبعضها متغيِّر؟ والمبنى الثاني: إذا كانت هناك مصاديق متغيّرة للعدالة كيف تكون صلة تغيُّر المصداق بتغيُّر الحكم الشرعي بوصفه ارتباطاً بين عالم الملاك وعالم جعل الأحكام؟ والمبنى الثالث: ما هو مدى قدرة الإنسان على معرفة مصاديق العدالة؟

 

مجمل أدلة قاعدة العدالة

بعد البحث عن المباني، يتمّ تناول البحث عن الأدلة. ومن بين الأدلة التي ذكرتموها في دروسكم وفي كتبكم الفقهية: مخالفة الرواية للقرآن الكريم. وفيما إذا كانت الرواية من الظلم العُرفي، بمعنى أنها كانت ظلماً من وجهة نظر العُرف، قد تحدثتم في أوّل جوابٍ عن أسئلتنا عن بحث حكومة أدلة العدالة على أدلة الأحكام أيضاً، من قبيل: حكومة قاعدتي (لا حَرَج) و(لا ضَرَر). وتحدّث بعضٌ عن دليل آخر أيضاً، وهو تقييد أدلة الأحكام بدليل العدالة اللبّي، وليس الحكومة؛ بمعنى أن الناس يرفضون الظلم على أساس الارتكاز الذهني، وحيثما تتحدّث الرواية عن حكمٍ مطلق فإنهم يعملون بأنفسهم على إخراج مصاديق الظلم منها. فلو سمحتم أن نبدأ هذا الحوار ببحث المباني أو أيّ بحثٍ آخر تفضِّلونه.

^ يمكنكم أن تبدأوا بما ترونه. وإذا وجدت هناك حاجة فسوف أقدّم لكم بعض الإجابات.

_ ما هو مدى تغيّر مصاديق العدالة والظلم؟ وما هو منشأ هذه التغييرات؟

^ بسم الله الرحمن الرحيم. أودّ أن أعبِّر لكم في البدء عن سعادتي وامتناني بما تقومون به من التحقيقات والأبحاث، ولا سيَّما في خصوص هذه المسائل.

ضرورة التحقيقات الجديدة في الحوزة العلمية

وعلى أيّ حال إننا موظَّفون على الدوام بإضافة تحقيق إلى تحقيقات الحوزات العلمية. فاليوم نشهد في جميع المراكز العلمية في العالم إضافة تحقيقات إلى تحقيقاتهم بشكلٍ متواصل ومستمرّ، وتوجد إبداعات قيّمة للغاية في هذا المجال.

وفي الحوزات العلمية على الرغم من الاهتمام في هذا الشأن، إلاّ أن هذا الأمر لم يتمّ التأسيس له بوصفه أصلاً للأسف الشديد، وإنْ كان الإمام الخميني& قد عمل على تأسيس المباني، وقدَّم مباني جديدة، ومن بينها ما كان منه في قاعدة لا ضرر؛ كما قدَّم السيد الخوئي& مباني جديدة في مسألة الشهرة أيضاً، وهكذا في الأبحاث الأخرى.

وهذه المباني جديرةٌ بالتقدير والإشادة، وهي مأخوذةٌ من الشيخ النائيني والآخوند. كما كان الشيخ مؤسّساً لأصل التحقيق أيضاً. وقد اهتم علماؤنا الكبار بهذا الأمر في الحوزات العلمية، وقدّموا تحقيقات جيّدة في هذا الشأن.

عدم الاهتمام الجادّ ببعض المسائل الفقهية الهامة

ومع ذلك فإني أرى أنه لا تزال هناك سلسلة من التحقيقات التي لم تنَلْ حظها من الاهتمام والتحقيق، كما هو الحال بالنسبة إلى مسألتي العدالة ومخالفة الكتاب.

الاستدلال بمخالفة القرآن في مورد قاعدة العدالة

في بحث مخالفة القرآن نشهد في بعض الموارد، حيث تكون الروايات قليلة، عندما يريدون طرح الروايات يأتون ببحث مخالفة القرآن، ولكنْ حيث تكون الروايات كثيرة، وتكون هناك فتاوى في ضوئها، لا يتمّ بحث مخالفة القرآن. ومن ذلك، على سبيل المثال: الكثير من الروايات في باب القصاص، وقد ذكرناها في كتاب القصاص([3]).

نموذجٌ من مخالفة الرواية للقرآن (ردّ فاضل الدية)

ومن بينها: إذا قتل رجل امرأةً، وأراد أولياء المرأة الاقتصاص منه وقتله، وجب عليهم دفع نصف الدية إلى أولياء القاتل، ثمّ الاقتصاص منه بعد ذلك. ويتمّ التأكيد على وجوب دفع [نصف] الدية قبل الاقتصاص. وهذه فروع المسألة. وفي المقابل إذا قتلت امرأةٌ رجلاً أمكن لأولياء الرجل قتلها قصاصاً. والمعروف بين الفقهاء هو الإفتاء بهذه الفتوى، ولا يُقدَّم شيءٌ في المقابل. والروايات بدَوْرها تشير إلى هذا المعنى. وهناك رواية عن أبي مريم الأنصاري تقول: إن المرأة إذا قتلت رجلاً، وأراد أولياء الرجل الاقتصاص من المرأة وقتلها، وجب على أولياء المرأة دفع بقية الدية إلى أولياء الرجل. وعلى الرغم من وجود مثل هذه الرواية فقد تمّ التعرُّض لها في كتاب القصاص (وهي موجودةٌ في تهذيب الشيخ الطوسي)([4]). وعندما يعمل الشيخ على ردّ هذه الرواية يقول: إنها تخالف القرآن، إذ الآية تقول: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ (المائدة: 45)، وبناءً على هذه الآية لا يجب على أولياء المرأة المقتولة دفع شيءٍ آخر.

 

موقفان للشيخ الطوسي في التعاطي مع مخالفة الرواية للقرآن

كما أنه يرى هذه الرواية مخالفةً للسنّة أيضاً([5]). إننا نرى وجود تلك النقطة هناك أيضاً؛ بمعنى أن أولياء المرأة المقتولة إذا أرادوا الاقتصاص من الرجل القاتل لم يعمد الشيخ الطوسي إلى طرح مسألة مخالفة القرآن هناك، ولكنّه يطرحها هنا.

ويمكن أن نستعرض هنا نموذجاً آخر. قال بعض كبار فقهائنا&: إن على الولد الأكبر أن يقضي الصلاة عن والده، حتى إذا كان والده قد ترك الصلاة عناداً وطغياناً. ورد في الروايات أن على أكبر الأولاد أو الوليّ قضاء الصلاة([6]). وقد طرح بعض الفقهاء هذه الشبهة هنا، وقالوا بأن هذا الحكم مخالفٌ لقوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام: 164)([7]). فالأب قد ترك صلاته تمرّداً وعصياناً؛ فلماذا يتعيَّن على الولد أن يتحمّل وزر والده؟! ومن هنا ذهب بعض الفقهاء ـ ومنهم: الإمام الخميني& ـ إلى إجراء هذا الحكم في خصوص المورد الذي يكون فيه الأب قد ترك الصلاة لعذرٍ؛ كأن يكون الأب قد ذهب في سفر([8]) أو مرض ولم يتمكّن من أداء صلاته. وفي ما يتعلَّق بالاصلاة الاستئجارية عن الميت هناك مسائل ذكرها الشهيد الثاني في الذكرى، وكتب السيد ابن طاووس رسالةً تفصيلية في هذا الشأن. ومن بين الإشكالات التي تمّ طرحها هناك هي أن الصلاة الاستئجارية لا تنفع الميّت؛ وذلك لأن الله يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ (النجم: 39). وقدَّموا بعض الإجابات عن هذا الإشكال([9]).

وعلى أيّ حال هناك تدخُّل من الفقهاء في بعض الموارد التي وجدوها مخالفة للقرآن. ولكنْ هناك موارد أخرى ـ ولا أدّعي أنها كثيرةٌ ـ لم يتعرَّض لها فقهاؤنا (رحمهم الله) في ما يتعلق بمسألة مخالفة القرآن أو مسألة العدالة. وبشكلٍ عامّ هذا هو الأصل الذي أستند إليه. يجب علينا أوّلاً أن نقبل أصل المبنى الفقهي، لننتقل بعد ذلك إلى بيان إشكالاته.

هناك عدّة مقدمات للمبنى الفقهي الذي أتبنّاه في قاعدة العدالة:

المقدمة الأولى: عدم حجّية الروايات المخالفة للقرآن والسنّة. وقد تمّ التعبير عن هذه المقدمة في الروايات بمختلف الألفاظ، ومن بينها: «لم نقله»([10])، أو «هو زخرف»([11])، ومنها ما قال: «فاضربوا به عرض الجدار»([12]). وبغضّ النظر عن الروايات الصادرة عن الأئمة الأطهار، وعن النبيّ الأكرم نفسه، والتي تقول: اعرضوا رواياتنا على القرآن؛ فإنْ خالفته فلا تعملوا بها، فإن حديث الثقلين في الأصل يدلّ بدَوْره على هذا المعنى. إن حديث الثقلين يقول: «إن الكتاب والعترة حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»([13])، فهذان مرتبطان ببعضهما، ولا يفترقان. وعليه إذا اشتملت الروايات المأثورة عن العترة على أمرٍ مخالف للقرآن فهذا يعني أن العترة ستنفصل عن القرآن.

وعلى هذا الأساس، ورغم الروايات الكثيرة الموجودة لدينا، والتي ذكرها الشيخ الأنصاري& في الرسائل([14])، والتي ذكرها غيره أيضاً، فإن حديث الثقلين يقول الشيء نفسه أيضاً. وعليه فإن هذا الأصل يقول بعدم حجّية الروايات.

وبطبيعة الحال قالوا: إن المراد من المخالفة هي المخالفة على نحو التباين. وفي الأساس إن دأب وديدن التشريع والتقنين هو بأن يأتي العامّ أوّلاً، ثمّ يتبعه الخاصّ. ومن وجهة نظر التقنين ومقام إثبات الخاصّ والعامّ ليس هناك تخالفٌ بينهما. فعلى الرغم من أن الموجبة الجزئية تعتبر من حيث التكوين نقيض السالبة الكلية، إلاّ أنه قيل في الوقت نفسه: إن العام والخاص يتناغمان، وإنه يتمّ الجمع بينهما من خلال حمل العام على الخاصّ، ويقال بعدم وجود التعارض هنا.

وأما إذا كان هناك تباينٌ عُدّ ذلك مخالفاً، أو إذا كان خاصّاً بحيث أُخذ مع ذلك العام القرآني بنظر الاعتبار نجد أن هذا العام القرآني لا يقبل التخصيص، وكان لسانه آبياً عن التخصيص. ومن ذلك: إن الفقهاء في ما يتعلّق بالرِّبا قد استثنوا ثلاثة موارد، وهي: الرِّبا بين الوالد والولد؛ وربا الذمّي؛ والرِّبا بين الزوج والزوجة؛ إذ قالوا: إن أدلة حرمة الربا في هذه الموارد قد تمّ تخصيصها بالروايات([15]). إن السيد المرتضى& كان في البداية من الذين لم يقبلوا بهذا الرأي([16])، ولكنّه عاد بعد ذلك ليتبنّى القول المشهور، ويقول بجواز الرِّبا في هذه الموارد([17]). ولكني ـ بغضّ النظر عن السند ـ أرى عدم إمكان العمل بهذه الروايات؛ وذلك لأن لسان آيات وروايات الرِّبا لا يقبل التخصيص، وقد تمّ بيان حكمه مقروناً بالشدّة والغلظة، من قبيل: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ (البقرة: 279). وقد نقل السيد اليزدي في ملحقات العروة الوثقى رواية ـ لم أرها بنفسي ـ عن الإمام الصادق×، بسنده الصحيح، تقول: «درهم رباء أعظم عند الله من سبعين زنية، كلّها بذات محرم في بيت الله الحرام»([18]). إن هذا الحكم الذي يتمّ بيانه بهذه الشدّة والغلظة لا يقبل التخصيص والقول، على سبيل المثال: لا إشكال في الرِّبا بين الوالد والولد. فهل يمكن للأب أن يقعد ولده على بساط الفقر والمسكنة؟! وهل يمكن للمرأة أن تجحف في حقّ زوجها وتورثه البؤس والحرمان؟! لأن هذه هي نتيجة الرِّبا. أو في ما يتعلَّق بالمسيحيين الذين يعيشون في أمان وذمّة الإسلام، ويقال: إن الذي يسرق من ماله دانقين يعزّر ـ أو يحدّ، ولا فرق بين التعزير والحدّ؛ لأن التعزير مثل الحدّ ـ للدلالة على حرمة مال الذمّي، ولكنْ يمكن أن تتعامل مع هذا الذمّي بالرِّبا، وأن تعمل على الإضرار به، وأن يغدو بإمكانك أن تفقر مجتمعاً مسيحيّاً بأكمله؟! وأن تجعل عدداً آخر من أصحاب الثراء الفاحش؟ وهذه هي المفاسد المترتِّبة على الرِّبا.

أرى أن لحن أدلة حرمة الرِّبا يأبي التخصيص. ولذلك فإن هذه الروايات من وجهة نظري تخالف أدلة حرمة الرِّبا حكماً على نحو التباين، ولو كان ظاهرها هو العموم والخصوص، ولا يمكن تخصيص أدلة حرمة الرِّبا بها.

المقدمة الثانية: أن تكون المخالفة على نحو التباين؛ إما على نحو التباين الحقيقي؛ أو على نحو التباين الحكمي.

المقدمة الثالثة: المخالفة لظواهر القرآن، بحَسَب فهم العُرف الذي أفاده صاحب الجواهر. وهذا هو الحقّ، وليس مخالفة القرآن بحَسَب فهم الأئمة المعصومين^، وإلاّ فإن هذا لا يمكن أن يكون معياراً؛ إذ إن كلّ رواية يحتمل فيها أن تكون مخالفة لظاهر القرآن، ويحتمل أيضاً أن الإمام قد استفاد من هذه الرواية شيئاً آخر، وأعطى هذا الرأي. ومع هذا المعيار كيف يمكن لنا العثور على روايةٍ مخالفة؟ كما أن نفس عبارة «خالف القرآن» عبارةٌ عن ظاهر؛ فإن العُرف يفهم من «خالف القرآن» هو ما يخالف ظاهر القرآن، وإذا تمّ حمله على «خالف فهم الأئمّة المعصومين^ للقرآن» كان هذا مخالفاً للظاهر. بالإضافة إلى أن هذا النوع من المخالفة لا يمكن له أن يكون معياراً؛ إذ يلزم منه شبهة الدَّوْر.

ولذلك كان هذا من الأخطاء الكبرى التي ارتكبها صاحب الحدائق& أنه توهّم أن مخالفة القرآن تعني مخالفة ما كان الأئمّة الأطهار^ يفهمونه من القرآن([19]). إن صاحب الجواهر في بحث المواسعة والمضايقة قد أشار إلى هذه المسألة بشكلٍ تفصيلي، وقال بأن المراد من مخالفة القرآن مخالفة ظاهر القرآن. وهذا هو الحقّ. وهذا هو المبنى الثالث.

المقدمة الرابعة: لا فرق في مخالفة القرآن بين مخالفة آية خاصّة أو مخالفة آية عامّة، بمعنى أنه لا فرق بين أن يتخالفا في هذا المورد الخاصّ، من قبيل: ما تقدَّم من قضية الرِّبا، التي ذكرت أنها تتخالف فيما بينها في مورد الرِّبا. كما لا فرق فيما لو عثرتم على مطلبٍ في الروايات يخالف آيات العدالة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90)، و﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ (الأنعام: 115)، و﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46). ومرادي من ذلك نصّ الآيات والروايات. «إن الله عادل»، و«إن الله لا يظلم»، و«إن الله ليس ظالماً»، لا في التكوين، ولا في التشريع. وهذه هي عقيدة الإمامية حيث يعدّون العدل واحداً من أصول الدين في التكوين والتشريع.

وسوف أذكر هنا مورداً إما يخالف العدالة بنفسه أو بإطلاقه، حيث يقول هذا المورد: «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق»([20])، هذا حديثٌ نبويّ عامّ يقول: إن للرجل خياراً في تطليق زوجته، ونحن نقبل بأن للرجل ذلك. لنفترض أن المرأة دخلت في مشاكل مع الزوج، بحيث لم تعُدْ تستطيع مواصلة العيش معه، فلو قالت المرأة للرجل: عليك أن تطلِّقني وأن تدفع لي المهر أيضاً، كان في هذا ظلمٌ على الزوج. لا نستطيع القول: إن للمرأة الحق بأن تقول: حيث إنّي أتأذّى فإنه يجب على الرجل أن يطلِّقني، وأن يدفع لي المهر؛ فإن حال الرجل هنا سيكون مثل حال ذلك الرجل المغفَّل الذي سرق كيساً مليئاً بالبصل، فعوقب على ذلك بأن يختار بين أكل كيس البصل كلّه أو يدفع مئة دينار أو يُجلد مئة جلدة، فكان من سوء اختياره أن اختار أكل البصل، ولمّا لم يستطع أن يكمله صار إلى خيار الجلد، ولمّا أوشك الجلد على الانتهاء دفع مئة دينار؛ كي ينجو من السياط الأخيرة؛ فكان أن أكل البصل، وتحمّل الضرب، ودفع المال بأجمعه. وعليه لا يخفى أن هذا ظلمٌ بحقّ الرجل. وأما إذا قالت: طلِّقني وسوف أتنازل لك عن مهري، وتذهب أنت في طريقٍ وأنا في طريقٍ، فلا يتضرَّر أحدٌ منا ـ على حدّ تعبيرنا نحن الإصفهانيين ـ، ففي هذه الحالة ليس للمرأة مثل هذا الحقّ؛ لأن «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق»، وإنه يحقّ للرجل أن يقول لها: بل عليك أن تضيفي إلى المهر عدّة ملايين، أو يقول لها: يجب على أبيك أن يخدمني ثمانية أعوام. فالسؤال المطروح في مثل هذه الحالة هو: هل القول بأن «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق» يشمل هذه الموارد أيضاً؟ وإذا كان شاملاً لها ألا يكون ظلماً؟ أو يمكن القول: إن قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19)، وغيرهما من الآيات الأخرى، تقف بوجه هذا النوع من الروايات؟

ولذلك قلتُ، في موافقة قدماء العلماء من أصحابنا([21]): إذا أرادَتْ المرأة أن تتطلق طلاقاً خلعياً؛ لأنها لم تعُدْ تطيق الحياة مع الزوج، وهي على استعداد في ذلك لأن تبذل مهرها، تعيَّن على الزوج أن يطلِّقها. وقد أفتى فقهاء، من أمثال: الشيخ الطوسي وغيره ـ رُبَما قبل ألف أو تسعمئة سنة ـ، بأن الرجل في مثل هذه الحالة يتعيَّن عليه أن يُطلِّق زوجته. وأنا بدَوْري أقول: إنه يتعيَّن على الرجل أن يطلِّقها، فإنْ أبى أجبرته المحكمة على ذلك؛ وذلك لأن إطلاق قاعدة «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق» لا يشمل هذه الموارد. كما أن هذه القاعدة تشتمل على إشكالٍ آخر أيضاً، وذلك بأن يقول الرجل لزوجته: أريد أن أطلِّقك، وتقول المرأة: أعطني مهري؛ فيقول الرجل: ليس عندي نقودٌ؛ ويمكنك أن تضربي رأسك بالحائط، ولكنّي مع ذلك سوف أطلِّقك، من باب ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ (البقرة: 280). نعم، إنْ حصلتُ في المستقبل على شيء من المال فسوف أعطيك، وأما الآن فليس عندي شيءٌ. ففي مثل هذه الحالة أرى أيضاً أن هذا الطلاق لا يصحّ؛ لأن قاعدة «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق» إنما تجري في الطلاق المتعارف. والعقلاء بدَوْرهم قد أقرّوا بأنه حيث دفع الرجل المهر، وتزوّج من المرأة، أمكنه أن يدفع المهر ويطلِّقها، لا أن يمتنع عن دفع المهر، ومع ذلك يطلِّق المرأة، ويكون حالها كحال القائل: «ليس لي في الوطن إربة، ولا في الغربة سعادة»؛ إذ تحرم من زوجها ومن مهرها. لقد أعطَتْ بضعها في مقابل المهر، والآن يرجع بضعها إليها، وتبقى من دون زوجٍ ومعيل، وهذا لوحده يمثِّل مشكلة في الحياة. إذن قاعدة «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق» تتحدَّث عن الطلاق المتعارف، فإذا أرادت أن تشمل مثل هذا الطلاق فإنها سوف تنطوي على قبيحٍ عقلي وقبحٍ عقلائي. وهنا لا يمكن القول: إن قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ لا يشمل هذا المورد. وبطبيعة الحال إن لهذا المورد بحثه الخاصّ، وهو يتعلَّق بالدَّيْن السابق، لا أن يجعل من نفسه مديناً؛ إذ يمكن له أن لا يطلِّق الزوجة، كي لا يرد قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾.

إشكالات قاعدة العدالة

لقد أشكل عليَّ بعض السادة وقال: إن جميع أعمال الله تقوم على أساس العدل؛ لأنه يضع جميع الأشياء في موضعها؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46)، أو ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ (الأنعام: 115)، أو «إن الله عادلٌ»، بمعنى أننا لا نبدي رأياً، وليس لنا شأن: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90)، فإن صحّ هذا الكلام سوف تكون هذه الآيات بمثابة الأحجية؛ فما الفائدة في أن يقول الله: إن ما أقوم به عدلٌ، في حين أننا لا نفهم ما هو العدل؟ وأيّ أثرٍ يمكن أن يترتَّب على ذلك؟ وأساساً إن هذا مخالفٌ للقرآن. إن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ مشمولٌ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: 4). وإن قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ (الأنعام: 115) مشمولٌ لتلك الآية، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحجّ: 78)، وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ (البقرة: 185)، كلّها مشمولةٌ لتلك الآية القرآنية؛ لأن ظواهر القرآن الكريم معتبرة. وطبقاً لما يقوله هذا الشخص سوف تتحوَّل تلك الآية إلى لغزٍ وأحجية ولن تنفع شيئاً. أن يقول الله: «أيها السادة، اعلموا أن جميع أعمال الله عدل»، فإذا قال ذلك الشخص: أنا لا أفهم ما هو العدل؟ قال الله له: لا بأس بذلك، ولكنْ يكفي أن تعلم أن جميع أعمال الله عدلٌ! ما هي النتيجة والثمرة التي يمكن أن أحصل عليها من هذا الكلام؟ هو قطعاً مخالف لظاهر القرآن. وعليه فإن المعتبر في فهم المخالف لآيات العدل والظلم هو ما يعتبره الناس عدلاً أو ظلماً.

وهنا تَرِدُ هذه الشبهة، وهي أن الناس قد يختلفون في العدل ومصاديقه؛ فقد يكون شيء في يوم عدلاً ولا يكون عدلاً في يومٍ آخر، أو قد يكون الشيء معروفاً في يوم ولا يكون معروفاً في يوم آخر.

إلاّ أن هذه الشبهة تنتقض أوّلاً بنفس آيات القرآن؛ وبقاعدة لا حَرَج؛ وقاعدة لا ضَرَر؛ وقاعدة اليُسْر. وفي يوم كان شيء ما يُسراً، وفي يوم آخر لا يعود يُسراً؛ لأن تلك الشرائط قد تغيَّرت. وثانياً: إن جواب هذا الإشكال هو أنه إذا كان البناء يقوم على كون بعض المصاديق يوماً ما من الظلم فإن الفقيه في مثل هذه الحالة لا يفتي على طبقها، أو أن يكون الحكم برمّته في يومٍ ما ظلماً من وجهة نظر فقيهٍ فإنه لا يفتي على طبقه، كما هو الحال بالنسبة لي حيث اعتبرت الروايات القائلة بردّ نصف الدية ظلماً، وقلتُ بأنه لا ينبغي الإفتاء على طبقها([22]). وعليه فإن هذا الفقيه في ذلك اليوم لا يفتي على أساس هذه الروايات، وأما إذا اختلفت الظروف والشرائط في يومٍ آخر، ورأى الفقيه أنها من العدل، فإنه سيفتي على طبقها. وهذا الاختلاف لا يعود إلى الاختلاف في الأحكام.

إن هذا النوع من الاختلافات في الأحكام هو أساس فقهنا، وإن جميع فقهنا يقوم على أساس هذا الاختلاف في الأحكام. كان الفقهاء قبل العلاّمة الحلّي يقولون: «إن ماء البئر لا يتنجَّس ولا ينفعل»؛ إلاّ أن العلاّمة الحلّي قال بأن «ماء البئر» ينفعل. وقال بعض الفقهاء: إن «الماء القليل» ينفعل، وكتبوا ذلك في رسائلهم أيضاً؛ وقال آخرون: لا ينفعل. وكانوا في يومٍ يقولون بنجاسة أهل الكتاب؛ وقالوا في يومٍ آخر بطهارة أهل الكتاب. ولا مشكلة في هذا النوع من الاختلافات؛ لأن المطروح في فقهنا هو أن يتّجه الفقيه إلى الروايات، أو بعبارةٍ أخرى: يعتمد على نهج صاحب الجواهر والشيخ والمحقّقين والعلاّمة، ثم يُعذر في ما يراه، ويمكنه العمل به. كان هناك في الفقه ما لا يُعَدّ ولا يُحصى من الاختلاف في الموضوع، فكان الفقيه في نفس استنباطه الحكمي يفهم بشكلٍ، بحيث إن الفقيه الآخر يفهمه بشكلٍ مغاير.

أعود وأقول، من باب المثال: في ما يتعلَّق بخيار الحيوان يقول الإمام الخميني: في عصر النبي الأكرم|، قبل أن يغدو النقد شائعاً ـ كما أصبح الحال في عصر الإمام الصادق× فلاحقاً ـ، كان خيار الحيوان ثابتاً للمشتري والبائع على السواء، وقد حمل روايات «لهما» على هذا العصر([23]). والسرّ في ذلك أن التعامل في ذلك العصر كان يتمّ من خلال المقايضة واستبدال بضاعةٍ بأخرى، كأن يعطي أحد المتعاملين بقرة ويأخذ شاة، أو يستبدل شاةً بمعزى، ولذلك تقول الرواية: «لهما». وكان ذلك في عصر يثبت خيار الحيوان لكلَيْهما. أما الروايات التي صدرت منذ عصر الإمام الصادق× فما بعد ـ ولا سيَّما في عصر الإمام الرضا× ـ، حيث شاع سكّ النقد، وكان الحيوان يُشترى بالنقود، أخذت الروايات تثبت خيار الحيوان للمشتري فقط([24]). والفقه في الأساس يعني الاختلاف في الاستنباط، والاختلاف في تشخيص الموضوعات، وأيّاً كان رأي الفقهاء فهم معذورون في ما يصلون إليه من خلال استنباطاتهم.

وعلى هذا الأساس لا يَرِدُ إشكال إذا قلنا: بالأمس كان هذا خلاف العدل، واليوم لا يكون مخالفاً للعدل؛ وكان بالأمس محرّماً، ولم يكن الفقيه يُفتي، وأما اليوم فإن الفقيه يُفتي. أرى أن هذا النوع من الاختلافات لا يمكن أن يَرِدَ إشكالاً على هذه المسألة. ولا فرق في اختلاف المصاديق. وفي الأساس إن جميع عناوين المصاديق تختلف.

_ هناك فرقٌ شاسع بين اختلاف الفتوى بسبب تغيُّر مصداق العدالة، وبين اختلاف الفتوى بسبب اختلاف آراء الفقهاء في فهم الروايات. ففي الوقت الذي ذهب العلاّمة إلى عدم تنجُّس «ماء البئر» عمد إلى تخطئة المتقدِّمين، وقال: إنهم قد أخطأوا، ولكنْ حالياً يرى الفقيه حكماً ما عدلاً ويفتي به، ولكنّه في الوقت نفسه لا يخطِّئ الفقهاء قبل مئة عام، حيث كان الحكم ظالماً، ولم يكونوا يفتون به.

^ وهذا بدَوْره من التخطئة أيضاً.

_ لا يخطّئ، وإنما يقول: إن فتواهم في ذلك العصر كانت صحيحة، وكان لهم كلّ الحقّ في ذلك، حيث تركوا العمل بالرواية؛ بسبب الظلم.

^ إذا لم يخطّئ فهو أفضل، ولا إشكال في ذلك أصلاً. فهو في الواقع يقول: إن فهم ذلك الفقيه كان على هذه الشاكلة، وهو معذورٌ، وهذا هو فهمي أيضاً، وأنا معذورٌ. وشبيه بذلك موجودٌ في أثاث الزوجة أيضاً، وفي قاعدة اليد، حيث ذكر ذلك السيد اليزدي في ملحقات العروة الوثقى([25]). فإذا ماتت الزوجة وكان في بيتها أمتعةٌ وأموال، وأرادوا أن يعرفوا أيّ هذه الأمتعة للمرأة؟ وأيّها لزوجها؟ قال الإمام×: إن الأمتعة النسائية التي جاءت بها المرأة إلى بيت زوجها ملكٌ لها([26]). ومن الممكن بطبيعة الحال أن لا يكون الأمر كذلك في عصرٍ آخر، ولا تقوم الزوجة بنقل الأمتعة إلى بيت زوجها.

وأذكر مورداً آخر ذكره الشهيد الثاني([27])، وقد أشرتُ له بدَوْري في كتاب القصاص([28]). لو اختلفت الزوجة مع الزوج في المهر، وقال الرجل: أعطيت المهر، وقالت الزوجة: لم تعطنيه. فأيّهما المدّعي؟ وأيّهما المنكر؟ في زمنٍ كان الرجل مدّعياً والمرأة منكرة، وفي زمنٍ آخر كان الأمر بالعكس، وكان كلا الأمرين صحيحاً؛ إذ في العصر الذي كان يتمّ فيه إعطاء المهر للزوجة قبل العقد يكون قولها بعدم الحصول على المهر مخالفاً للظاهر، وحيث يكون كلامها مخالفاً للظاهر تكون منكرةً، وفي الزمن الآخر، حيث لم يكن العُرف قائماً على حصول المرأة على مهرها وانتقالها إلى بيت زوجها بعد ذلك، يكون كلام الرجل هو المخالف للأصل، ويكون هو المنكر([29]).

ملاكات معرفة مصداق العدل والظلم

_ هناك بحثٌ آخر يجب إيضاحه بوصفه مبنىً لبحثنا هذا. إن الحُسْن والقُبْح إما ذاتيّ أو عقلي. إن الحُسْن والقُبْح الذاتي ـ الذي تقول به الإمامية والمعتزلة ـ هو أن هناك في الواقع وفي حقيقة الأمر بعض الأفعال الحسنة وبعض الأفعال القبيحة. وأما في ما يتعلَّق بشأن الحُسْن والقُبْح العقلي فيقولون: إن الأمر ليس بأنه يمكن للعقل معرفة حُسْن أو قُبْح جميع الأفعال على نحو الموجبة الكلية، وإنما يمكنه معرفة حُسْن بعض الأفعال وقُبْح بعضها الآخر على نحو الموجبة الجزئية، وهو في ذلك بحاجةٍ إلى وحي وشريعة. وإن حاجتنا إلى الوحي والشريعة في هذا الشأن يقوم على هذا الأساس، وهو أن العقل لا يمكنه معرفة حُسْن وقُبْح بعض الأفعال، وعلى الشرع في مثل هذه الحالة أن يحدِّد ما إذا كان هذا الفعل حسناً أو قبيحاً. فلو قلتم لأولئك الذين يقولون: إن العُرف لا يستطيع معرفة العدل: إن العُرف يمكنه ذلك؛ لأن آيات العدل في غير هذه الصورة ستكون من قبيل: الأحجية، ومن ناحيةٍ أخرى لو قلتم: إن العُرف يستطيع معرفة جميع مصاديق العدل والظلم فإنهم سيجيبون بالقول: إذن لن نكون بحاجةٍ إلى الشرع في مثل هذه الحالة، بمعنى أنه إذا كان في تلك الناحية محذورٌ يكون في هذه الناحية محذورٌ أيضاً. وأما إذا قلنا بالرأي الوَسَط فيجب أن نقدِّم ملاكاً أو ملاكات لنثبت حدود ما يمكن للعُرف أن يفهمه وما لا يمكن له فهمه. فما هو هذا الملاك من وجهة نظركم؟

^ انظروا، إن البحث الذي أشرتم إليه من الأمور التي تنفرد بها الشيعة. إن العقل يعني الإدراك. وقد انفردت الشيعة بالقول بأن الإدراك بمعزلٍ عن الوحي لا قيمة له، وفي الأساس يقوم فقهنا على أساس الإدراك المعتمد على الوحي. ويمكن لي أن أذكر لكم بعض الأمثلة في هذا الشأن: في باب الضمانات لو قلت بأن الشخص إذا أتلف شيئاً وجب عليه أن يدفع أكثر من قيمته فإن العقل ـ بالالتفات إلى الضمان والقواعد الشرعية ـ سوف يعتبر هذا الأمر ظلماً. والمثال الثاني: إن الإمام الخميني& كان يرفض الحِيَل الشرعية في مسألة الرِّبا، ويستند في رفضه هذا إلى العقل؛ حيث كان يقول: إن قول الشارع في موضعٍ: «درهم رباء أعظم عند الله من سبعين زنية»([30])، ثم بيانه بعد ذلك طريقاً للهروب منه، لغوٌ؛ إذ لن يكون هناك شخصٌ يسلك هذا الطريق من الرِّبا المحرَّم، وإنما يسلك الطريق الآخر المحلَّل، دون الحاجة إلى إلقاء نفسه في جهنّم؛ وعليه لو قبلنا بحِيَل الرِّبا فإن ذلك سيؤدي إلى لغوية تشريع حرمة الرِّبا. إن الفقه زاخرٌ بالتمسُّك بالعقل، ومرادنا من العقل هو الإدراك، أي الإدراك إلى جانب الفهم العرفي. ونحن لا شأن لنا بالإدراك العقلي، وإنما مرادنا هو الإدراك العُرفي. والعرف يقول: إن هذا ظلم. ولا شأن لي أصلاً بتلك الأبحاث العقلية.

إما أن تقولوا: إن الآية الكريمة ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46) أحجية، أو يجب أن تقولوا: إنها تحال إلى العُرف مثل سائر آيات القرآن الأخرى. عندما يرى العُرف ظلماً، فإن إدراكنا بدَوْره ـ بالالتفات إلى الأحكام الإسلامية والصفات الربوبية ـ سوف يراه قبيحاً، فكيف نعمل بهذا الحكم الظالم؟! تقولون: إن العقل لا يدرك الحُسْن والقُبْح، وأنا لا أريد القول بأن العقل يدرك جميع مصاديق الحُسْن والقُبْح؛ فإن العقل هنالك يعني العقل بغضّ النظر عن الوحي، وإنما أعني هنا العقل الفطري الذي هو هبة الله والإدراك المستند إلى الروايات. نحن نقول: إن حِيَل باب الرِّبا مرفوضة؛ إذ تلزم منها اللغوية. تقولون: إن تلك المرأة عندما قتلت، إذا أريد أن يقتصّ لها من الرجل الذي قتلها وجب دفع نصف الدية إلى أوليائه، إلاّ أن الرجل إذا أراد أن يقتصّ من المرأة لا يجب عليه أن يدفع شيئاً. هنا يمكن لشخصٍ أن يتساءل: كيف؟ مع أن كلَيْهما إنسانٌ، وكلَيْهما يتمتّعان بحقوق متساوية؟ إن ما قلتموه بحثٌ عقلي في الكلام، ولا ربط له بمحلّ بحثي. إن ما أريده هو العقل بمعنى الإدراك والفهم بالالتفات إلى الأحكام والسنّة والروايات والمسلَّمات الموجودة عنده. ولا شيء منها يبقى على الأرض. ويمكن لكم أن تأتوني بموردٍ لا يمكن تطبيق هذا المعنى فيه.

_ إن ما أريد قوله ـ على أيّ حال ـ هو أنه يجب إيضاح مباني بحثكم.

^ إن مبناه هو ما أستعرضه، ولستُ أنا مَنْ يقوله.

_ العُرف أو العقل؟

^ العقل؛ يعني الإدراك المقرون بملاحظة الروايات والآيات.

دائرة تطبيق قاعدة العدالة

_ هل تقبلون بهذا الفهم والإدراك في جميع مجالات الحياة البشرية؟

^ نعم، أقبل به في جميع مجالات الحياة؛ فهو يجري حيث يكون ظلمٌ وعدل. فتارةً يكون البحث في مجال العبادة، وبحث العبادة في الأساس يعني ثناء الربّ، ونحن في الأساس لا نفهم ثناء الربّ، ولذلك فإننا نضع البناء هناك على التعبّد. رغم أنه حتّى في بحث ثناء الربّ نجد أن المحقّق الأردبيلي قد تدخّل في بعض الأحيان. والمثال على ذلك يتجلّى في بحث الدم إذا كان بمقدار الدرهم البغلي، حيث يكون معفوّاً عنه، وأما إذا طهرت الدم قيل: إن موضعه يبقى متنجّساً، وليس معفوّاً عنه. إلا أن المقدّس الأردبيلي ناقش هنا، وقال بأنه معفوٌّ عنه؛ بحكم العقل من باب الأولوية([31]).

هذا في باب العبادات، وأنا أعترف بأننا لا نستطيع أن نفهم العدل والظلم في باب العبادات. وأما في باب المعاملات أو الحقوق الاجتماعية السائدة بين الناس فإنْ كانت هناك رواية مخالفة لها، أو كان إطلاقها مخالفاً لها، فإننا لا نقبل إطلاقها، أو أن نترك العمل بها ونهملها بالكامل. ونجري ذلك في جميع المواضع دون استثناء، فإذا كان لديك مورد يمكن استثناؤه من هذه القاعدة والضابطة العامّة أرجو أن تدلّني عليه.

_ إذن أنتم تقبلون التفصيل بين العبادات والمعاملات؟

^ بل التفصيل موجودٌ من الأساس، ولا بحث في العبادات أصلاً؛ فالعبادات تعني الثناء على الربّ. وأنا لا أفهم ثناء الربّ. من أوّل كتاب المعاملات بالمعنى العامّ ـ وهذا بدَوْره لا يحتاج إلى قصد القربة ـ وصولاً إلى أبواب من قبيل: الحدود والديات. أما البحث الكلامي فلا تأتوا عليه أبداً. إن الذي أعنيه هو الفهم والإدراك، وليس ذلك العقل الذي تعنونه أنتم. قلتُ: إن الروايات تخالف القرآن، ومخالفة القرآن تعني إدراكنا في ضوء ملاحظتها، وهذا ليس بالشيء الذي منعه الأئمة. وبطبيعة الحال إن الأئمة قد حالوا دون فهمنا غير المستند إلى الوحي، أي بأن يُقال: هذا هو حكم هذا الشيء، وهذا هو حكم ذلك الشيء، ولا شأن لنا بالوحي. هذا هو الذي منع منه الأئمة. ومع أن الشيعة قد انفردوا بمنع العمل بالقياس وتحريمه، إلاّ أن فقهنا زاخرٌ بإلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، ومفعمٌ بمخالفة القرآن للروايات. وعليه إن الذي ذكرتُه واضح، وإنْ كان لديكم موردٌ يضرّ بالفقه وبضرورة الفقه من هذه الناحية فاذكروه لي، حتّى أجيب عنه.

_ إن العُرف في ذهابه إلى اعتبار شيءٍ ما ظلماً أم لا يتأثَّر بالقِيَم والمباني والعقائد وتلك الكلّيات التي يمتلكها. وعليه لو تغيَّرت القِيَم في المجتمع شيئاً فشيئاً، وتمّ تناسي أو إنكار المباني الإسلامية، فكيف يمكن لإدراك العُرف هنا أن يكون هو الملاك؟

^ إذا لم يكن معتقداً بالأصول من الأساس فإن أصل المبنى سيكون خاطئاً بالنسبة له. وأساساً إن عدم الاعتقاد لا يكون سبباً في نفي الظلم العقلائي. إن الذي تقولونه أمرٌ كلّي، ويجب بيانه من خلال مثال، فهل لكم أن تذكروا لي مورداً في هذا الشأن؟

_ المثال الذي يطرح كثيراً يتعلّق بتنصيف الدية، الذي اعتبرتموه ظلماً بدَوْركم. إن هذا الموضوع يرتبط بحكمٍ آخر، من قبيل: وجوب النفقة على الرجل. قيل: إن الرجل حيث يتحمّل النفقة، بينما المرأة تأخذ النفقة، من هنا لو تمّ قتل رجلٍ فإن هذا سيضرّ بالأسرة من الناحية الاقتصادية، بخلاف قتل المرأة. وفي المجتمع الذي يتّجه نحو تكافؤ الرجل والمرأة في العمل وتحمّل أعباء الإنفاق على الأسرة عندها سيؤدّي قتل المرأة إلى الإضرار بالواقع الاقتصادي للأسرة، مثل قتل الرجل. ولهذا السبب نشعر اليوم بأن الحكم القاضي بردّ فائض الدية ينطوي على ظلمٍ، أما الفقهاء المتقدِّمون؛ فحيث لم يكونوا يرَوْن للمرأة ثقلاً اقتصادياً، لم يكونوا يرَوْن ظلماً في هذا المقدار من الدية.

^ أوّلاً: إنكم تتحدثون عن اعتبار، فما الذي يريد هذا الاعتبار أن يصنعه؟ إن هذا الاعتبار في حدّ ذاته ليس تامّاً؛ إذ في باب دية الجنين في بطن أمّه إذا كان ذكراً كانت الدية كاملة، وكذلك دية الإنسان الذي لا يمتلك شيئاً، أو المصاب بالشلل الرباعي، أو الفاقد ليدٍ أو رجلٍ، ديةٌ كاملة أيضاً. إن دية العاطل عن العمل كاملة، وكذلك دية الأعزب وغير المتزوِّج الذي لا يعيل أحداً كاملة أيضاً. وعليه فإن هذا المثال الذي ذكرتموه يمكن لنا أن نورد عليه الكثير من موارد النقض.

وثانياً: إن الجهة التي ذكرتموها غير تامّة، ولم يُشَرْ إليها في أيٍّ من الروايات. والذي أقوله هو أن الدية تكون على الأرواح، وعندما تكون الدية على الروح لا فرق عندها بين روح الرجل وروح المرأة، فكلا الروحين متساويتان. وفي رواية أبان بن تغلب([32]) لم يتعرَّض الإمام× لهذا الوجه الذي ذكرتموه؛ فطبقاً لتلك الرواية ـ وإنْ كنتُ لا أعرف تلك الرواية جيّداً ـ أرى أن هناك وَضْعاً في تلك الرواية. ورد في باب الإرث أنه سُئل الإمام عن سبب أخذ المرأة لنصف سهم الرجل؟ وكان الوجه الذي ذكره الإمام هو «أن الرجل عليه الجهاد والنفقة»([33]). فالذي أريد قوله هو أن الأئمة كانوا ملتفتين إلى هذه الناحية، وإن هذا الجواب من الإمام كان يراعي مستوى تفكير السائل. وأما في باب الدية فإننا لا نجد في صحيحة أبان بن تغلب ـ التي هي من أظهر الروايات في هذا الباب ـ إيّ إشارة من الإمام إلى هذا التوجيه، رغم إصرار أبان في هذا الشأن. وعليه يتّضح أن هذا لم يكن صحيحاً. قلتُ: إن ذلك لم يكن صحيحاً، وأما السبب القائل بأن ذلك لم يكن ظلماً سابقاً فأوّلاً: إن إحصائيات القتلى في المجتمعات كان قليلاً؛ وثانياً: إنه لم يكن يتمّ الالتفات إلى الصغرى. فأنتم لا ترَوْن في عبارات الفقهاء المتقدّمين أن دية المرأة نصف دية الرجل أبداً. وإن روايات أبان واردة في باب الأرش. وقد تمسّك أبان بالعقل وأشكل: كيف تكون دية الأصبع الواحد عشرة، والإصبعين عشرين، والأصابع الثلاثة ثلاثين، حتى إذا بلغت الأصابع أربعة عادت الدية لتكون عشرين؟! فهذا مخالفٌ للعقل. (إني أرى الرواية مضطربةً). وهنا لم يَرِدْ التوجيه الذي ذكرتموه. إن فقهاءنا لم يلتفتوا إلى الصغرى، وحيث لم يلتفتوا إلى الصغرى فإنهم لم يلتفتوا إلى الكبرى أيضاً. وأما اليوم، حيث العالم هو عالم التفكير، وشاع هذا النوع من الأبحاث، وأضحت المسائل موضع نزاعٍ وجدل، صار علينا لزاماً أن نجيب. وعليه فإن عدم بحث الفقهاء المتقدّمين لهذه المسألة، وعدم ذهابهم إلى ما ذهبنا إليه، وتمسّكهم بظاهر الروايات، إنما يعود سببه إلى أنهم لم يلاحظوا إشكال مخالفة القرآن. وإن الفقه في الأساس إنما هو لأن السابقين لم تكن بعض الأمور تخطر في أذهانهم، ثم جاء اللاحقون، وتضافرت الأذهان، وهكذا يستمرّ الوضع في عصر الغيبة على هذه الحال إلى ظهور الإمام المهديّ المنتظر#. إذن لم يتمّ الالتفات إلى الصغرى، ولذلك كان من الطبيعة أن لا يتمّ الوصول إلى الجواب. بمعنى أنه لم يتمّ الالتفات إلى أن هذه الروايات مخالفة للقرآن. وإن الشيخ الطوسي؛ حيث كانت الروايات هناك قليلة([34])، قال: إنها تخالف قوله تعالى: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ (المائدة: 45) من هذه الناحية،([35]) وأما هنا؛ فحيث كانت الروايات كثيرة، وكانت فتاوى الفقهاء حاضرةً، لم يَرِدْ في ذهنه أصلاً أنه إذا كانت تلك مخالفة فإن هذه مخالفةٌ أيضاً، فأيُّ فرقٍ بينهما؟

إشكالاتٌ أخرى على قاعدة العدالة

_ إن من بين الأسئلة المطروحة بشأن الاستدلال بروايات عرض الأخبار على القرآن أن ظاهر روايات عرض الأخبار على القرآن أنها تنفي صدور رواية تخالف القرآن، وأن تعابير من قبيل: «لم نقله»، و«اضربوا به عرض الجدار»، تنكر أصل الصدور، بمعنى أننا لم نقُلْ هذه الروايات أصلاً.

^ بمعنى أننا لم نقُلْها ادّعاءً، وليس حقيقةً. إذن «لم نقُلْه» يعني أنه ليس بحجّة، وإلاّ من الممكن أن يكونوا قالوه، ولكنْ قد سقط منه شيءٌ؛ بفعل التقية والضغوط التي كانت تمارس عليهم. إن التعبير القائل: «لم نقُلْه»، و«اضربوا به عرض الجدار»، يعني أنها غير حجّة. ولذلك يقول الشيخ الأنصاري([36]): لدينا الكثير من الروايات الواردة بتعبير: «لم نقُلْه»، فهل يعني ذلك «لم نقُلْه» على نحو الحقيقة، أو «لم نقُلْه» على نحو الادّعاء؟ أرى أن «لم نقُلْه» من باب المبالغة.

_ كيف يمكن أن يكونوا قد قالوا روايةً ينطوي إطلاقُها على ظلم؟

^ نعمل على تقييد إطلاقها. إن الأصل يقوم على أنها ليست ظلماً، وما كان كذلك يتمّ تقييد إطلاقه، مثل جميع المطلقات. وكما تقيِّدون المطلق بقيدٍ فهذا يتمّ تقييده أيضاً.

_ الإشكال الآخر أنكم شبَّهتم العدالة بقاعدتي (لا حَرَج) و(لا ضَرَر). وإن من بين الإشكالات على أصل قاعدتي (لا حَرَج) و(لا ضَرَر) أن الفقهاء قد أجرَوْا هاتين القاعدتين حتى في بعض الموارد التي يكون فيها دليلٌ آخر أيضاً، بمعنى أن الفتوى واضحة من موضعٍ آخر أيضاً. وعليه لا يكون واضحاً ما إذا كان مستند الفقهاء في ذلك هو قاعدة (لا حَرَج) أو (لا ضَرَر) أم ذلك الدليل الآخر. وهذا هو الإشكال الذي أثاره الآغا ضياء العراقي([37]).

^ رحم الله الآغا ضياء. لقد كانت له حصّةٌ في الفلسفة. لقد كان كبار علمائنا في النجف يخوضون في مسائل فلسفية لا يعرفونها، ومن ذلك أن الشيخ الآخوند قد انكسر قلمه باعترافه، وتحدَّث الآغا ضياء عن الحصّة، وتحدّث الشيخ النائيني عن الجمع بين الضدّين، وصاغ متمِّم الجعل. إلاّ أن السيد الإمام& قد ردّ على ذلك كلّه. ولست أدري، رُبَما كان ناقل كلام الآغا ضياء مخطئاً([38]). لاحظوا كتاب الأطعمة والأشربة، ولا تذهبوا بعيداً، فهذا كتاب الجواهر في باب الطلاق([39]) والفسخ زاخرٌ بالتمسّك بقاعدة لا حَرَج. وهناك قال بعضهم في مورد المرأة التي تنطوي الحياة بالنسبة لها على حَرَج: يمكن لها أن ترفع قضيتها إلى المحكمة وتحصل على الطلاق بموجب قاعدة لا حَرَج. كما احتمل العلاّمة في واحدٍ من كتابَيْه ـ إما القواعد([40]) أو التذكرة ـ أن المرأة تستطيع فسخ النكاح في هذه الحالة. وقال آخرون: ترفع أمرها إلى الحاكم؛ كي يتولى الحاكم أمر طلاقها؛ لأنهم تمسكوا بقاعدة «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق»، وإن الحاكم يعمل على تطليقها من باب لا حَرَج؛ لأن الحاكم وليّ الممتنع. إلاّ أن العلاّمة احتمل أو قال بعدم ضرورة أن ترفع أمرها إلى الحاكم، بل يمكن للمرأة أن تفسخ النكاح بنفسها. وكان للإمام& مثل هذه الفتوى بشأن النساء اللائي يختفي أثر أزواجهنّ إذا لم يستطعْنَ تحمُّل مشقّة الحياة، ولم يكن هناك مَنْ ينفق عليهنّ، قال بجواز أن يتولّين طلاق أنفسهنّ بأنفسهنّ، دون الحاجة إلى محكمة.

_ هل كان مستند السيد الإمام& في ذلك قاعدة «لا حَرَج»؟

^ نعم، كان مستنده في ذلك قاعدة «لا حَرَج». يمكن للنساء تطليق أنفسهنّ، ولم يرَ الإمام& ضرورة لرجوعهنّ إلى المحكمة. وكان العلاّمة يُشكل ويرى حتّى في ذهاب المرأة إلى المحكمة للمطالبة بالطلاق حَرَجاً عليها. ولذلك يرى أن بإمكانها أن تباشر فسخ عقد النكاح، وتنتهي القضية فيما بينها وبين الله سبحانه وتعالى؛ لوجود الحَرَج في هذا المورد.

_ لماذا يكون هناك حَرَج؟

^ لأن الذهاب إلى المحكمة في حدّ ذاته حَرَج. هذا، وإن كلام العلاّمة يعود إلى ذلك العصر؛ أما الآن فالمحاكم عبارةٌ عن صورةٍ أمينة لساحة المحشر؛ فكيف لا يكون في الأمر حَرَج؟! يمكن لك أن ترفع الآن أبسط دعوى إلى المحاكم لتتأكَّد من هذا الحَرَج بنفسك. وهذا هو مكمن الإشكال حالياً في ما يتعلَّق بمحاكم العسر والحَرَج. تذهب المرأة إلى المحكمة وتقول: إنها أصبحت في حَرَج، فتقول لها المحكمة: يجب أن نتحقَّق من ذلك، وسوف نحقِّق في أمرك عندما يحين دَوْرك بعد ثلاثة أشهر، ثم يأتي بعض الأشخاص المنتدبين من المحكمة، ويرفعون تقريرهم، ليقول القاضي بعد ذلك بكلّ بساطة: إن الحَرَج لم يثبت عنده. ولا بُدَّ من إجراء تحقيقٍ آخر تقوم به لجنة اختصاصٍ، ويستمرّ الوضع على هذه الحالة دواليك. وما أعنيه هنا ليس هو المحاكم الجزائية، وإنما المحاكم الحقوقية، حيث تتراكم المستندات والملفّات إلى ما شاء الله، والويل لمَنْ يضطرّ إلى مراجعة المحاكم. ولا أريد القول هنا بأن المحاكم غير كفوءة أو أن القضاة مقصِّرون، وإنما تراكم ملفات الاحتيال والتزوير تسقط ما في يد القاضي. فقد تسفح المرأة الدمع الهتون، ويكون الرجل في الحقيقة هو الأجدر بأن يبكي دماً. وعلى أيّ حالٍ إن العلاّمة يقول ـ والعهدة على القائل ـ: إن في الذهاب إلى المحكمة حَرَج؛ وعليه يمكن للمرأة أن تفسخ عقد النكاح بنفسها. وفي الأساس إن قاعدة «لا حَرَج» تبطل قاعدة «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق»، ولا أستطيع قول المزيد، ولذلك أحيلكم إلى كتاب الأطعمة والأشربة، وإلى كتاب الطلاق([41])، حيث تمّ بحث هذه المسألة هناك بالتفصيل. بل حتّى يمكن للشخص من باب «لا حَرَج»، و﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185)، أن يأكل لحم الميتة. يقول المقدَّس الأردبيلي& ـ نسأل الله أن يمدّ في أعمارنا إلى حين اكتمال الحاشية على مجمعه ـ: إن لدينا قاعدة اليسر قبل قاعدة لا حَرَج، وإن الأحكام الإسلامية تقوم على اليُسْر. فحتى إذا كان هناك عدم يُسر، وقبل أن يصل إلى مرحلة العسر، يمكن لقاعدة اليسر أن تقيِّد الأدلة. قال النبيّ الأكرم|: «إنما بُعثْتُ بالحنفية السهلة السمحة»([42])، وقال لمعاذ بن جبل: «يسِّرْ ولا تعسِّرْ». هذا هو كلام المقدَّس الأردبيلي.

_ وعليه هل مسألة إعراض الناس عن الدين ـ التي أشار إليها الإمام الخميني في كتبه الفقهية كثيراً ـ وجهٌ يمكن اتّخاذه مبنىً في واقع الأمر؟

^ لا يمكنهم الإعراض عن الدين. لا نستطيع تغيير حكم الله للحيلولة دون إعراض الناس؛ فهؤلاء كانوا يقولون في يومٍ: «لو أبيح شرب الخمر فسوف نؤمن بالإسلام»! إن هذا الأمر سوف يكون شبيهاً باختطاف مراسلٍ فرنسي، ومطالبته برفع الحظر عن الحجاب في فرنسا، فما هي علاقة هذا المراسل بالقوانين الفرنسية؟! وعليه إن المعيار الصحيح في هذا الشأن هو أن يشكّل الأمر مشكلة عامة في المجتمع الإسلامي برمّته.

_ لنفترض أن عامّة الناس كانوا كذلك، وليس شخصاً واحداً.

^ لا يمكن لعامّة الناس أن يعملوا على تغيير نصٍّ حتّى إذا أرادوا ذلك. فإذا كان لديكم موردٌ من هذا القبيل اذكروه لنا، ولا تكتفوا بمجرّد إطلاق الأمور بشكلٍ عامّ.

لقد ذكرتم مسألةً بشأن إحياء الموات ضمن أسئلتكم التحريرية، ولا بأس بذكرها هنا، وهي أن الإمام ذكر في رسالةٍ إلى السيد قديري، قائلاً: لا يمكن حلّ المسائل الإسلامية بالقول: حيث يكون لدى الشخص إمكانية مالية وجرّافة إذن يمكنه أن يستولي على جميع الأراضي الموات؛ لمجرد أنه يمتلك إمكانية إحيائها دون غيره؛ إذ إنه في مثل هذه الحالة لن يُبقي شيئاً لغيره؛ إذ لا شَكَّ في أن هذا الأمر محكومٌ لقاعدة لا ضَرَر وقاعدة لا حَرَج؛ فإذا كانت هذه القواعد تجري في الملك الشخصي فإنها تجري في الملك العامّ بالأولوية.

_ هل تجري هنا قاعدة عدم الظلم أو قاعدة لا ضَرَر؟

^ تجري حتّى قاعدة عدم الظلم أيضاً. فقد كانت هذه الشبهة مطروحةً في باب الإرث، وقد ورد السؤال عن هذه الشبهة في الروايات أيضاً. إلاّ أن الإرث نصٌّ، وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي([43]) عن ذلك قائلاً: إنه لا ظلم على المرأة في البين، وإذا كان هناك من ظلم فهو واقعٌ على الرجل. وهذا ما نراه نحن أيضاً.

_ وعليه لو قال العُرف في عصرٍ ما: إن إعطاء المرأة نصف حظّ الذكر من الإرث ظلمٌ لها ـ كما يقول النسويّون ـ وجب عليكم قبول ذلك.

^ لا يمكنه قول ذلك؛ إذ لا نستطيع إنكار النصّ المتواتر. ولا بُدَّ لي من إعادة التأكيد على النصّ المتواتر، وليس الظاهر المتواتر. وأذكر لكم هنا نموذجاً آخر، وهو أن الفقهاء في ما يتعلَّق بقضاء صلاة وصوم الأب المتوفّى قالوا بوجوب القضاء على نجله الأكبر، وفي ما يتعلق بالأمّ أشكل بعض الفقهاء ـ ومن بينهم: السيد الإمام ـ، وتمسَّك بالتعبُّد. في حين من الواضح أن الإسلام عندما يقول بوجوب أن يقضي الابن الأكبر صلاة وصيام الأب الذي تركها نسياناً أو في حالة المرض، وأن هذا الحكم الإسلامي يأتي في سياق الإحسان إلى الأب، فالأمّ أَوْلى بالإحسان؛ لأن الإسلام ـ كما هو واضحٌ ـ قد أَوْلى مزيداً من العناية والاهتمام بالأمّ، فكيف نقول: إن هناك خصوصية في هذا الحكم؟! وفي مسند أحمد: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِﷺ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَﷺ: «بَرَّ أُمَّكَ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: بَرَّ أُمَّكَ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: بَرَّ أُمَّكَ، ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: بَرَّ أَبَاكَ»([44]). وفي القواعد([45]) قال الشهيد الأول ما مضمونه: إذا كان الرجل في صلاة مستحبة، ونادَتْه أمه، قطع صلاته واستجاب لنداء أمّه، وأما إذا دعاه أبوه فلا يقطع صلاته. وهذا كلّه يدل على تغليب الجانب العاطفي والإحسان إلى الأمّ؛ فكيف نقول والحال هذه: إن الوالد وحده هو الجدير بالإحسان في ما يتعلَّق بمسألة قضاء الصوم والصلاة؟!

وأذكر هنا مثالاً آخر على عدم التفات الفقهاء؛ كي تجيبوا عنه: هناك فتوى في كتاب شرائع الإسلام([46])، وقيل: إنه لا أحد من الفقهاء قد أشكل عليها، وقد ذكرها السيد الإمام في تحرير الوسيلة، وقد كتبنا عليها حاشية أثناء مراجعتها في السنة الماضية، وتلك الفتوى هي أن السفيه يمكنه أن يكون وكيلاً. والسفيه هو الذي لا يحسن فعل الشيء. والدليل الذي ذكره أصحاب هذه الفتوى هو أنه لا يوجد هناك دليلٌ يمنع من توكيل السفيه، وعليه يمكن لشخصٍ أن يوكِّل سفيهاً في القيام بعملٍ ما. إن منع السفيه إنما يأتي في التصرُّف بماله، وأما في الوكالة فليس هناك دليلٌ يمنع من توكيله. وإن عموم أدلة الوكالة يقول بإمكان توكيله، فما هو إشكالكم؟ إن الشبهة في هذه الفتوى واضحةٌ. فلو كان هذا الشخص سفيهاً في تأجير البيت، ولا يعرف فرق القيمة بين بيوت الضواحي والبيوت في مركز المدينة، ولا يعرف الفرق بين قيمة البيت المتواضع وبين القصور الفارهة، ولا يعرف قواعد المعاملة، كيف يمكن أن يتولّى هذه المعاملة وكالةً؟! إن إطلاق وظاهر عبارة الفقهاء يقول بإمكان توكيل هذا الشخص في شراء البيت. ولكننا نقول: إن نفس هذه الوكالة سفهيةٌ وغير عقلائية. وبناءً على هذا فإن أدلة عموم الوكالة لا تشمل السفيه، إلاّ أن الفقهاء لم يلتفتوا إلى ذلك وأفتوا بجواز توكيل السفيه.

_ ألا تجري قاعدة الإقدام أيضاً؟

^ لا تجري؛ لأن هذه المعاملة سفهيةٌ. وبطبيعة الحال إذا أراد شخص أن ينفع السفيه ويعطيه شيئاً من المال بهذه الطريقة، دون أن يكون قاصداً في الأصل إلى إجراء المعاملة، فهذا بحثٌ آخر. وسوف يكون الأمر من قبيل: تلك الحكاية التي رواها الشيخ الفلسفي، حيث قال: إن شخصاً استأجر عاملاً لينقل بعض الأحجار من زاويةٍ في بيته إلى زاويةٍ أخرى، ثم استأجره في اليوم الثاني ليعيد الأحجار إلى موضعها الأوّل، فأشكل عليه العامل، واستفهم عن سبب هذه العملية العَبَثية؛ فقال له صاحب البيت: أردْتُ أن أنفعك بشيءٍ من المال! إن هذا في واقعه ليس عقداً، والفرضية هنا تقوم على أن الشخص يريد أن يوكِّل السفيه حقيقة؛ ليستأجر له بيتاً، في حين أنه سفيهٌ في إجراء معاملة الإجارة، وعليه يكون نفس عقد الوكالة سفهياً وغير عقلائي، وإن ذات عمومات العقد لا تشمله؛ لأن العقلاء لا يرَوْن اعتبار العقد هنا، ولكن أيٌّ من الفقهاء التفت إلى هذه النقطة؟! لم يلتفت إلى ذلك سوى المقدَّس الأردبيلي([47])، وهو بدَوْره قفز عليها بجرّة قلمٍ، وقال: رُبَما كان السفيه ليس سفيهاً في عملٍ بعينه، دون مزيدٍ من التوضيح. وتوضيحه هو ما قلناه، من أن العمل الذي لا يكون سفهياً لا بحث لنا فيه، ولا يكون الوكيل فيه سفيهاً. وظاهر عبارة الفقهاء حيث قالوا: «يجوز توكيل السفيه» يعني «في ما يكون فيه السَّفَه»، لا «في ما لا يكون فيه السَّفَه»، وفي مثل هذه الحالة يكون الوكيل عاقلاً، وليس سفيهاً. إلاّ أن الفقهاء لم يلتفتوا إلى هذه الناحية، حيث هناك كلام للعلاّمة([48]) وصاحب الجواهر([49]) وغيرهما في هذا الشأن، ولا تحضرني الآن مواضع كلماتهم. ثم قدّم اللاحقون خدمات مشكورة؛ إذ كما أن للمتقدمين حقّاً علينا؛ حيث بذلوا جهوداً جليلة في هذا الشأن، ومع عدم الإمكانات، ومع الفقر، والعداوات، نجد للمتأخِّرين حقّاً أيضاً، فقد كان للمتأخّرين دقّة لم تكن لدى المتقدّمين، فقد عمد المتأخِّرون إلى توسيع دائرة الفقه، ونحن بدَوْرنا سنواصل العمل على توسيعه إنْ شاء الله، ولكنْ مع الاستناد إلى القرآن والعترة والحفاظ على المناهج المتَّبَعة. فإذا كان يخطر على أذهانكم إشكالٌ موردي فأنا في خدمتكم، وسوف أجيب عنه إنْ إمكن.

_ إن من اللوازم المترتِّبة على كلام سماحتكم أن الأحكام الإسلامية لا تبقى ثابتة. فبأيّ شيءٍ تثبتون استمرار آحاد الأحكام؟ ولا بُدَّ من التدقيق في أن الإطلاق من الظواهر أيضاً. فإذا كنتم تخصِّصون الأحكام الثابتة بالمنصوصات ـ كما هو الحال بالنسبة إلى إرث المرأة لنصف حظّ الذكر ـ فما الذي تفعلونه بشأن الإطلاق الذي هو حجّة، مثل الظواهر؟

^ في ما يتعلق بالنصّ المتواتر؛ حيث يكون لدينا يقينٌ ندرك بما لا مجال معه للشكّ أن فهم العُرف للظلم في هذا المورد كان خاطئاً.

_ إن مرادنا في بعض الأحيان هو أصل الشريعة، حيث تكون مستمرّةً بحكم القاعدة التي تقول: «حلال محمد حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة»([50]). إن أصل الشريعة مستمرٌّ؛ وأما في خصوص هذا الحكم الوارد في القرآن الكريم وفي السنّة المتواترة، وهذا بالنسبة إلى سكّان هذا العصر، فبأيّ شيء تثبتونه؟

^ بالإطلاق، وليس بـ «حلال محمد حلالٌ…».

_ إن الإطلاق من الظواهر، وليس من المنصوصات، وقد ذكرتم أن الإطلاق يتمّ تقييده بالفهم العُرفي للظلم.

^ أذكروا مثالاً كي أجيب عنه.

_ حالياً لا يُقال: إنه من الظلم، ولكنْ لو افترضنا أن هذا سيحدث بعد سنوات، حيث سيُقال: إن الإطلاق في قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ (النساء: 11) يعتبر ظلماً من وجهة نظر هذا المجتمع، فماذا سوف تقولون في مثل هذه الحالة؟

^ أنا أقول: إن هذا ليس ظلماً. فسهم الرجل هو ضعف سهم المرأة، مع أخذ الخصائص التي تقدَّم ذكرها بنظر الاعتبار. وعندما شرحتُ ذلك للصحفيين من الداخل والخارج وجميع الذين كانوا يرَوْن في ذلك ظلماً أقرّوا بشرحي، واعترفوا بأنه ليس ظلماً في مثل هذه الحالة. وعندما أوضحتُ ذلك للسفير السويسري والصحفي الأمريكي بان الرضا والارتياح عليهما. فأنا أقول بعدم وجود ظلمٍ في حصول المرأة على نصف حظّ الرجل في الإرث أصلاً، فلا يكون هناك موردٌ لإشكالكم. إن الذي أقوله هو من قبيل: البديهة الرياضية، وإنْ كنتُ قد قرأتُ مؤخَّراً مقالة تعتبر الرياضيات بدَوْرها نسبية أيضاً. ولكنّي على أيّ حال أقول: إن المسألة رياضية، والرياضيات لا تختلف من زمنٍ إلى آخر. كما أشكل على الروايات، وقد أجيب عنها أيضاً.

_ لو اعتبرتم العدل والظلم أمرين عرفيين، وحدّد العُرف موقفه، وجب عليكم الالتزام بما يحدِّده العُرف.

^ يجب تفهيم العُرف. الذي أقوله هو أنه توجد هنا قواعد رياضية ثابتة وبديهية، وعندنا قانونان رائعان، ولستُ هنا بصدد إطلاق الشعارات: أحدهما: قانون ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾؛ والآخر: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 179).

_ ما نقوله: إن لازم كلامكم يعني أننا نفهم استمرار الأحكام من إطلاقها، وهذا الإطلاق من الظواهر، وليس من النصوص؛ وعليه يجب أن يكون هذا الإطلاق ممكناً كي لا ينتقض بظلمٍ عُرفي في زمنٍ ما.

^ نعم إذا أصبح من الإطلاقات فسوف يغدو من «المعروف». يصف الله سبحانه وتعالى النبيّ الأكرم في القرآن بقوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (الأعراف: 157). لقد كان شيءٌ في يوم ما معروفاً، ثم لا يكون معروفاً في يومٍ آخر. كما أن الله سبحانه يقول: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19). قد يكون أحد المصاديق في يومٍ ما معروفاً ولا يكون معروفاً في يومٍ آخر. نحن لا نستطيع القول: إن المصاديق لا تتغيَّر. بل إن السيد الإمام& كان يقول أكثر من ذلك؛ إذ قال: إن الحكومة تستطيع أن تعطِّل إجراء الأحكام أو ترجئها. إن الإمام يتحدَّث عن الإجراء، وأنا أقول ما يُشبه ذلك. قد يرى فقيهٌ شيئاً في يومٍ ما ظلماً، ويفتي على أساس رؤيته، فما الإشكال في ذلك؟! هو معذورٌ. إلاّ أن الاستمرار بالمعنى الذي تقولونه ليس من البديهيات. إن الذي هو من البديهيات أن كلّ حكمٍ يأتي به النبيّ لا يُنسخ، بمعنى أنه إذا قال: «تجب صلاة الجمعة في عصر الحضور» يكون هذا الحكم مستمرّاً ولا يُنسخ، أما أن تكون لجميع موضوعات وعناوين الأحكام مصاديق ثابتة وعلى وتيرةٍ واحدة فهذا ما لا يكون؛ فالموضوعات تتغيَّر، وبتَبَع تغيُّر الموضوعات تتغيَّر الأحكام أيضاً.

حكومة أدلة العدالة على أدلة الأحكام

_ لقد تمسَّكتم في كتاباتكم بدليلين، وهما: مخالفة الروايات للقرآن؛ وحكومة أدلة العدالة. فهل نتيجة هذين الدليلين واحدةٌ أم مختلفة؟

^ لا فرق. فالحكومة حيث يكون للدليل لسان؛ إذ الحكومة مرتبطة باللسان.

_ قالوا في أصول الفقه: إن الدليل الحاكم يجب أن يكون دليلاً لفظياً؛ في حين أن جميع أدلة العدالة هي أدلة عقلية، وأدلتها اللفظية بأجمعها أدلة إرشادية.

^ ما الذي تعنونه بالإرشادية؟! نقول: إن هناك دليلٌ لفظي: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46)، فما معنى الإرشاد؟! ليس هناك إرشادٌ ومولوية؛ فقد تم بيان إدراكنا العقلي باللفظ؛ فيكون دليلاً لفظياً. إن الاعتبارات العقلية اللبية إذا أضحت في يومٍ ما قانوناً فإنها تغدو لفظية. وإن قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ هو ما تفهمه فطرتنا من أن الله ليس ظالماً. وعليه هناك بيانٌ، ولكنّه ليس تشريعياً. فعندما يكون لدينا دليل عقلي، يكون دليله اللفظي إرشادٌ إلى ذلك الدليل العقلي، فلا أقول: إنه تشريع، ولكنه بيانٌ؛ لأنه يؤسِّس لبناء. وإن ذات عبارة «وما ربّك» عندما تكون لفظاً تكون حاكمةً على الأدلة. وإن قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحجّ: 78) لفظٌ وحاكم. وما تقولونه صحيح، وهو في الأساس ما قاله الإمام&. إن الدليل الحاكم هو دليل اللسان، ومن هنا لا يمكن لبناء العقلاء والإجماعات أن تكون حاكمةً. إن الحكومة هي لسان الدليل، ولسان شرح: «لا شَكَّ لكثير الشكّ»([51])، و«الطواف بالبيت صلاة»([52]). وعليه فإن الحقّ معكم؛ إذ لا يمكن للدليل غير اللفظي أن يكون حاكماً. وأنا أرى أنه قد تمّ بيان ذلك الإدراك العقلي بصيغةٍ لفظية، وما أفيد باللفظ يكون هو الحاكم.

مرجعية العُرف في تشخيص مصداق العدالة وشواهدها

_ لقد ذكرتم بعض الشواهد على أن العُرف يجب أن يحدِّد ما إذا كان هذا الحكم مخالفاً لآيات نفي الظلم أم لا. والإشكال هو أن هذه الشواهد لا يمكن لها أن تثبت مدّعاكم:

الشاهد الأوّل: قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ (إبراهيم: 4). الذي يُفهم أن العُرف هو المعيار في تشخيص ظواهر الألفاظ.

الشاهد الثاني: نزاع صاحب الجواهر وصاحب الحدائق في بحث المواسعة والمضايقة([53]). ويبدو أن النزاع بين هذين العَلَمين كان يدور حول وجوب اتخاذ ظواهر القرآن معياراً في الآيات أم يجب الالتفات إلى الروايات المفسِّرة؟ وفي هذا الشاهد يدور البحث في إيكال ظواهر الألفاظ إلى العُرف أيضاً.

الشاهد الثالث: إن العُرف إذا لم يكن هو المعيار في تشخيص مخالفة الروايات للقرآن لن يكون بالإمكان اعتبار مخالفة القرآن معياراً. وهذا بدَوْره لا يثبت أكثر من أن العُرف يجب أن يعمل على تشخيص ظاهر الألفاظ.

والإشكال الآخر الذي يَرِدُ على جميع هذه الشواهد الثلاثة أن العُرف إذا كان هو المرجع القضائي في تحديد مصداق العدالة والظلم فإن له وظيفةً أكبر من فهم ظواهر الألفاظ؛ إذ يجب أن يعمل على استخدام الكثير من القواعد والمعايير والضوابط؛ كي يتمكّن من تحديد مصاديق الظلم أو العدل، ولا يمكن إثبات هذه الوظيفة للعُرف من خلال هذه الشواهد.

^ في ما يتعلّق بالتقرير العلمي يجب القول بشأن البحث الذي طرحتموه: يبدو أن للشيخ النائيني إشارة إلى هذا الكلام في موضعٍ ما([54])، وعلى الرغم من أن بحثه ليس تامّاً، وهو: هل رأي العُرف حجة في تشخيص المفاهيم فقط أم هو حجّة حتى في تطبيق المفهوم على المصداق أيضاً؟ إن كلامكم يعود إلى هذا النزاع. وإن الحقّ الذي لا يشوبه رَيْب ولا شبهة هو أن رأي العُرف حجّة، سواء في المفهوم أو في تطبيق المفهوم على المصداق. وفي ما يلي نذكر بعض الشواهد عل هذه المسائل:

الشاهد الأوّل: في باب الشبهة المصداقية للمخصّص قالوا: إذا كانت مصداقية المصداق واضحة بالنسبة إلى المخصِّص فإننا نخصِّص العام بها، وإذا لم تكن مصداقيته واضحة، لا من باب الشبهة المفهومية، بل من باب الشبهة المصداقية، تمّ في هذا الشأن طرح آراء مختلفة، من ذلك: أننا ـ على سبيل المثال ـ لا نعلم ما إذا كان زيد فاسقاً أم لا؟ وليس لدينا حالة سابقة نستصحبها؛ قال بعض العلماء: يجوز التمسُّك بالعام في الشبهة المصداقية المخصّصة؛ وقد قال السيد في العروة الوثقى بعدم التمسُّك، وإليك عبارته إذ يقول: «والحقّ في المقام عدم الوجوب؛ لأنه راجعٌ إلى الشبهة المصداقية، ولا يجوز التمسُّك بالعمومات فيها»([55])؛ وفي مقابل هذه الجماعة ذهب آخرون ـ ومن بينهم السيد الإمام& ـ إلى ادّعاء([56]) عدم جواز التمسُّك بالعام في الشبهة المصداقية المخصّصة.

الشاهد الثاني: يبدو في الرسائل في بحث ظواهر الكتاب وهل أن ظواهر الكتاب حجّة أو هي حجّة مع الورود من الأئمة؟ يطرح الشيخ بحث مخالفة الكتاب([57]).هناك يتمّ طرح بحث الإطلاق والعموم، ويقول الأخباريون: إن الروايات قد بيّنت كل شيء، إلاّ أن الشيخ يقول: إنه لم يتمّ البيان في بعض الموارد.

وفي الأساس إن جميع النزاعات في الفقه إنما تدور حول المصاديق، وقلَّما يدور نزاعٌ حول المفاهيم. إن النزاع حول المفهوم يتم حلّه في الأصول بشكلٍ عام؛ من قبيل: هل للأمر ظهور في الوجوب أم لا؟ وهل الجملة الخبرية في مقام الإنشاء آكد من الجملة الإنشائية أم لا؟ وهل العام حجّة أم لا؟

وأما تشخيص المصداق فإن الفقه في الأساس قائمٌ على تشخيص المصداق، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: تشخيص مصاديق الاستطاعة؛ إذ يقول الله تعالى في القرآن: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: 97). وقد بحث العلماء في أن هذه الاستطاعة هل تصدق على المدين أيضاً أم لا؟ وهل الذي يمتلك نقوداً تكفيه للزواج فقط يُعَدّ مستطيعاً إلى الحج أيضاً؟ هناك آراء للفقهاء مختلفة في هذا الشأن؛ فقال بعضٌ: إن هذا من مصاديق الاستطاعة؛ وقال آخرون: إنه ليس من مصاديق الاستطاعة؛ وقال بعضٌ: إن الذي يريد الزواج يكون ذهابه إلى الحجّ من مصاديق «الحَرَج»، وإن قاعدة «لا حَرَج» تمنع من وجوب الحج؛ وقال فقيهٌ آخر: إن هذا ليس من مصاديق الحَرَج، ولا يمكنه أن يحول دون وجوب الحجّ. وعليه هناك بحثٌ عن المصداق في (لا حَرَج)، و(لا ضَرَر)، وفي جميع مواطن الفقه.

أذكر مورداً أوضح: إن «الماء» من المفاهيم الواضحة، ولكنْ احتدم النزاع في الماء المضاف، وأخذوا يتساءلون: ما هو الماء المضاف؟ وما هو الماء المطلق؟ إن بعض المصاديق يصعب تشخيص ما كان يصحّ السلب فيها أم لا؟ إن أصل بحث صحّة السلب يرتبط بالمصاديق. وفي الأساس تدور كل الأبحاث في مجموع الفقه وفي جميع العلوم عن تطبيق المفهوم على المصداق. وعليه فإن جميع المشاكل تكمن في المصاديق. وحيث يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: 4) فإنه يشير إلى أسلوب الكلام، وإلى تطبيق المفهوم على المصداق، وإلاّ فإنه لا يَسَع المفهوم «بما هو هو» أن يفعل شيئاً. لو كنا نعرف مفهوم «الماء» فإن هذا لن يحلّ لنا شيئاً في الفقه، إلاّ إذا قصدنا العُرف في المصاديق المشكوكة؛ لنرى ما إذا كان يُعَدّ هذا المورد مصداقاً أم لا.

ومن بين الشواهد الأخرى بحث حلق اللحية؛ إذ يراه بعض الفقهاء حراماً. وقد ورد البحث هنا في أنه هل يُعَدّ الحلق بالماكينة الدقيقة ـ التي لا تبقي على شيء من الشعر ـ مصداقاً للحلق المحرَّم أم لا؟ هل يجب «الحلق» في الحج بالموسى حتماً، كما كان عليه الأمر في السابق، أم يكفي الحلق في منى بالماكينة الدقيقة التي تبقي للشعر على الرأس أثراً. وبناء على أن الحلق في الصرورة أو في غيرها معتبرٌ تكون المشاكل في جميع هذه المسائل في المصاديق. وأما في بحث المفاهيم فإن جميع المفاهيم واضحة إجمالاً؛ فإن مفهوم «الماء» ومفهوم «العدل والظلم» ـ على سبيل المثال ـ واضحٌ في الجملة. وإنما المشكلة تكمن في أنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه المفاهيم من السَّعَة بحيث تشمل جميع المصاديق.

وعلى أيّ حال فإن العُرف في الأصل حجة في تشخيص المفهوم، وكذلك في تطبيق المفهوم على المصداق. وذكرتُ بعض الشواهد على ذلك. وفي الأساس إن إطلاق ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ يريد إثبات هذا الشيء؛ بمعنى أن قوله: ﴿إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ في فهم المفهوم هل مفهوم الأمر هو الوجوب أو مطلق الرجحان؟! إن هذا البحث مفهوميّ. وهل الصعيد هو مطلق وجه الأرض أو هو خصوص التراب؟ هذا البحث مفهوميّ أيضاً. إلاّ أن المشكلة في أغلب الأبحاث تكمن في المصاديق، وإن رأي العُرف في المصاديق حجّة، كما هو حجّة في المفاهيم أيضاً.

لو كنا نعتمد على العُرف في تشخيص المصداق، وقلنا بأنه لا شأن للفقه في تشخيص المصداق، عندها لن تكون هناك حاجةٌ إلى الفقه؛ لأن المفاهيم معلومة، ويتمّ بحثها في الأصول، ولن يبقى هناك بحثٌ للفقه. وبذلك ستكون جميع الفروع الإجمالية الخمسون، التي ذكرها السيد اليزدي في ذيل بحث الخلل([58])، أو الخاتمة التي ذكرها في الخمس([59])، خارجةً عن الفقه. أو في «لا سهو في السهو…»([60])، و«لا سهو في النافلة»([61])، السهو بمعنى الغفلة والذهول، ولكن هل يتّسع هذا المفهوم ليشمل الشكّ أيضاً؟ كان السيد البروجردي يقول: إنه يشمل الشكّ أيضاً. إن الغفلة والذهول يكون في بعض الأحيان منشأ للشكّ، ويكون منشأ للنسيان أحياناً. وعليه فإن السهو يشمل كلا المعنيين. إن البحث في تشخيص المصداق في الفقه كثيرٌ، ولا يمكن لكم أن تأتوا ببحثٍ فقهيّ أو علميّ ولا يكون بحث المصداق مطروحاً فيه.

وعلى هذا الأساس إن المفاهيم واضحةٌ في الجملة؛ وإنما محلّ البحث يكمن في أن هذا المفهوم هل يصدق على هذا المصداق أم لا؟ وهنا يكون رأي العُرف متَّبعاً.

_ إذا كان العنوان ـ الذي يقع موضوعاً للحكم ـ من العناوين العُرفية كان العُرف معياراً لتشخيص مصداقه. والسؤال هنا: هل العدالة أو الظلم في الشريعة ـ بحيث تشمل جميع الأحكام العادلة أو الظالمة ـ وقعت موضوعاً للحكم، وقال الشارع بأنه قد اعتبر عنوان الظلم حراماً، وعنوان العدل واجباً؟ وهل أُلقي تشخيص مصاديق العدل والظلم ـ كما هو الحال في الموضوعات العُرفية ـ على عاتق العُرف أيضاً؟

^ أجل، إن الإسلام ـ طبقاً لآيات القرآن الكريم وضرورة فقه الشيعة ـ لا يحتوي على أحكام ظالمة: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46)، كما ورد في الإسلام الأمر بالعدالة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (النحل: 90)، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ (الأنعام: 115). إن جميع أحكام الله عادلة، وليس لدينا حكمٌ ظالم أصلاً. ومن هنا لو توصّلنا إلى أن هذا الحكم يُعَدّ في موضعٍ ما ظالماً، أو أن إطلاق الدليل حكمٌ ظالم، فإن الفقيه يعمل على تقييد ذلك الإطلاق بحكم تلك الآيات أو يجعله محكوماً للآيات؛ لأن اللسان صاحب حكومةٍ من وجهة نظري؛ أو لو أن فقيهاً توصَّل في موضعٍ إلى أن العُرف يرى هذا الحكم ظالماً وجب عليه التصرّف في دليل ذلك الحكم، وأن يترك العمل بتلك الرواية؛ لأنها على خلاف القرآن، وقد أمر الأئمّة^ بضرب الرواية المخالفة للقرآن عرض الجدار.

_ هل هناك ضابطةٌ في هذا الوصول أم هو أمرٌ ذوقي؟

^ يجب على الفقيه أن يدرك ما إذا كان العُرف يعلم أو لا يعلم. يقول الميرزا القمي: إن الفقيه كلّما كان أكثر عُرفية كان هو الأفقه([62]). إن من بين امتيازات الإمام الخميني& هو أنه كان في الفلسفة فيلسوفاً، وفي بحث الأمور العُرفية كان رجلاً عُرفياً. كلّ فقيه يقول: إن العُرف يفهم من الأمر الوجوب، وإن العُرف يفهم من كلمة الصعيد مطلق وجه الأرض، أو إن العُرف يفهم أن هذا الشيء معروفٌ أو لا. وعليه فإن الفقيه يعمل أوّلاً على نسبة فهمه إلى العُرف، ثم يبيِّن رأيه وفتواه. ومن ذلك أنه ـ على سبيل المثال ـ يقول بشأن اعتبار دية المرأة نصف دية الرجل: إن العُرف يرى هذا الأمر ظالماً، وعلى هذا الأساس تكون هذه الرواية مخالفةً لقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46)، وعليه فإني أترك العمل بهذه الرواية. وفي الأساس فإن الفقه برمّته على هذه الشاكلة.

ومن هنا يمكن لي أن أجيب عن شبهةٍ أخرى، وهي أن نقول: إذا كان العُرف هو الملاك يكفي أن نطرح هذه العناوين على العُرف. يمكن توجيه هذا الإشكال إلى مجموع الفقه، والقول: «أيّها الناس، لقد أمر الله بزكاة الفطرة، أو صلاة الليل، فاعملوا بما تفهمونه من هذا الأمر».

إلاّ أن هذه الشبهة غير واردةٍ؛ لأن الناس لا يستطيعون فهم الكثير من الأبحاث العلمية، ومن ذلك ـ مثلاً ـ أن العُرف لا يستطيع أن يفهم المعارض. إن هذا الكلام يشبه قول الأخباريين حيث يقولون: إننا نقرأ الروايات بأنفسنا ونعمل بها، ولا نقبل التقليد؛ وجوابُنا لهم: إنكم تقلِّدون حتّى في فهم كلمات الرواية؛ إذ إنكم عندما تقرؤون الرواية تقولون: إن هذا هو معنى هذه الرواية في اللغة العربية، طبقاً لما يقوله علماء اللغة العربية، وهذا هو التقليد بعينه. إن الفقهاء في جميع مواضع الفقه يقولون: إن العُرف يفهم الأمور على هذه الشاكلة، وإن كل فقيه معذورٌ في فهمه. فمثلاً: في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19) أمر الله بأمرٍ، والفقيه يقول: إن للأمر ظهوراً في الوجوب، وإن المعروف في مقابل المنكر. ثم يستنتج من ذلك أن عودة الرجل إلى البيت في ساعةٍ متأخِّرة من الليل أمرٌ منكَر؛ لأن العُرف لا يرى هذا معروفاً، وإنما يراه منكراً، ويعتبره نوعاً من الظلم. وعليه حيث يرى الناس هذا التصرُّف في الحياة الزوجية قبيحاً فإن الفقيه بدَوْره يراه مخالفاً لقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويحكم بحرمته. ولكنْ يمكن لفقيهٍ آخر تختلف ثقافته أن يقول: إن تصرُّف هذا الرجل ليس على خلاف المعروف، فلا يكون حراماً.

وبعبارةٍ أخرى: إن الثقافات تختلف، وإن كلّ فقيه إنما يفتي في ضوء ما يفهمه من ثقافة المجتمع؛ فيقول فقيهٌ: إنه يفهم الوجوب من الأمر؛ ويقول فقيهٌ آخر: إن العُرف يفهم من مطلق الأمر الاستحباب، ومن هنا يحكم أحدهما بالوجوب، ويحكم الآخر بالاستحباب.

نعم، هناك مسألة أشَرْتُ إليها في حاشية العروة الوثقى. يتعيَّن أحياناً في بعض الموضوعات الرجوع إلى العُرف بعد تعيين الموضوع، ولكنّ الفقيه يكون قد تدخَّل أيضاً. وعلى أيّ حالٍ إن الفقيه جزءٌ من العُرف أو نائباً عنه.

والخلاصة هي أن وضع الهيئات في جميع اللغات مشترك، ووضع المواد في كلّ لغة من خصائص ومختصّات تلك اللغة. وعندها يعمل الفقيه ـ بالالتفات إلى لغة وأدبيات العرب وفهم العُرف ـ على إصدار حكمه، ويكون معذوراً في ذلك. ويأتي فقيهٌ آخر ويقول: إن العُرف يفهم هذا الشيء المختلف، ويكون بدَوْره معذوراً أيضاً. وكل الاختلافات الفقهية تكمن في هذه المسألة. يقول الميرزا القمّي: «الفقيه متَّهم في حدسه»([63])، وكلما كان الفقيه أكثر عُرفية كان حكمه هو الأقرب إلى الواقع.

_ وعليه فإن الفقيه يقول: إن العُرف ـ من وجهة نظري ـ يرى هذا الحكم ظالماً، ولكنّ السؤال يقول: ما هو المعيار الذي يستند إليه العُرف في اعتبار هذا الحكم ظالماً؟ فهل يمكن للعُرف أن يجعل كلّ شيء معياراً؟

^ إن العُرف ذاته يعرف الظلم.

_ أليس للشرع تدخُّل في تعيين المعيار؟

^ كلاّ، إن كون الشيء ظالماً موضوعٌ يقع تشخيصه على عاتق العُرف.

أجل، يمكن للشارع في بعض الموارد أن يضيف مصداقاً إلى المصاديق العرفية، أو أن يُخرج مصداقاً، شريطة أن لا تمنع أدلّة ذلك الحكم من التخصيص. فمثلاً: ورد في باب الرِّبا قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275)، بمعنى أن هؤلاء قالوا: ما هو الفرق بين البيع والرِّبا؟ ففي البيع ربحٌ، وفي الرِّبا ربحٌ أيضاً. ويمكن لنا أن نذكر مثالاً أوضح: يمكن للشارع أن يقول في البيع الغرري: «البيع الغرري لا بيع»، بمعنى أن الشارع يمكنه أن يجعل ويدّعي بعض المصاديق، ويقول بأن هذا المورد مصداق أو ليس مصداقاً. أو يقول مثلاً: «الطواف في البيت صلاة»([64])، أو يقول: «إن التراب طهور»([65]). إذن مع أن العُرف لا يعتبر «التراب» مطهّراً، ويعتبر «الماء» هو المطهِّر، يمكن للشارع أن يُضيف مصداقاً للمطهِّر. وأما في باب الظلم والعدل فهذا الطريق مغلق؛ لأن لسان آيات العدل والظلم يأبى عن التخصيص، ولكنْ لو لم يكن لسانها آبياً عن التخصيص أمكن للشارع أن ينظر إلى الشيء الظالم ولا يعتبره ظلماً. وفي الأساس إن هذا الإشكال لا يختص بموردٍ معيّن، وإنما يشمل جميع الموضوعات الفقهية. وإن قاعدة «لا حَرَج» و«المعروف» من هذا النوع أيضاً. إن العُرف يفهم الظلم، والظلم ليس شيئاً مجهولاً. في ما يتعلق بأخذ المرأة نصف دية الرجل يذهب فقيه إلى اعتبار ذلك ظلماً، ويقول: إن دية المرأة مساوية لدية الرجل؛ ويذهب فقيهٌ آخر إلى عدم اعتبارها ظلماً، ويفتي بأن للمرأة نصف دية الرجل، وكلاهما معذورٌ.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أحد مراجع التقليد في إيران اليوم. تلميذ الإمام الخميني والسيد البروجردي، وعضوٌ سابق في مجلس خبراء القيادة. له آراءٌ فقهيّة عديدة مخالفةٌ لمشهور العلماء، ولا سيَّما في فقه المرأة.

([1]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار 2: 242 ـ 244.

([2]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 111؛ (كتاب الله) بدلاً من (القرآن)، وعن النبيّ الأكرم|؛ الكليني، أصول الكافي 1: 69، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح3 و4.

([3]) انظر: يوسف الصانعي، فقه الثقلين في شرح تحرير الوسيلة، كتاب القصاص، قصاص الحرّ بالحرّة: 162 فما بعد.

([4]) عن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر×، قال: في امرأة قتلت رجلاً؟ قال: تقتل ويؤدّي وليها بقية المال. (تهذيب الأحكام 10: 183، ح717).

([5]) انظر: الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام 10: 183، ح717: وهي مع هذا [أي تكرّرها في الكتب] مخالفة للأخبار كلّها… والروايات كلّها صرَّحت بأنه لا يجني الإنسان على أكثر من نفسه…

([6]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 10: 329، الباب 23 من أبواب الصوم، ح13527.

([7]) وانظر أيضاً: الإسراء: 15؛ فاطر: 18؛ الزمر: 7. وانظر أيضاً: النجم: 38.

([8]) هكذا ورد في المصدر.

([9]) انظر: السبزواري، ذخيرة المعاد: 387 ـ 388؛ الشهيد الثاني، ذكرى الشيعة 2: 80.

([10]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 69.

([11]) انظر: المصدر السابق.

([12]) المازندراني، شرح أصول الكافي 2: 343.

([13]) المجلسي، بحار الأنوار 29: 620.

([14]) انظر: الأنصاري، فرائد الأصول 1: 243 ـ 252.

([15]) النجفي، جواهر الكلام 23: 378 ـ 384.

([16]) رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى: 182 ـ 183.

([17]) المرتضى، الانتصار: 441 ـ 443.

([18]) اليزدي، العروة الوثقى (الملحقات): 302.

([19]) البحراني، الحدائق الناضرة 6: 346 ـ 355.

([20]) النوري، مستدرك الوسائل 15: 306.

([21]) انظر: الكافي في الفقه: 307؛ النهاية: 529؛ غنية النـزوع: 375.

([22]) انظر: يوسف الصانعي، فقه الثقلين، كتاب القصاص: 162.

([23]) انظر: الخميني، كتاب البيع 4: 181.

([24]) انظر: مسند الإمام الرضا× 2: 310.

([25]) انظر: اليزدي، تكملة العروة الوثقى 2: 119.

([26]) انظر: المصدر السابق.

([27]) انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 8: 291 ـ 301.

([28]) انظر: يوسف الصانعي، فقه الثقلين، القصاص: 574.

([29]) هكذا ورد في النصّ. ولا يخفى أن المدّعي هو الذي يخالف قوله الأصل أو الظاهر، كما حقق في محلِّه، ولذلك فإنه يحتاج إلى دليلٍ يثبت مدّعاه، بخلاف المنكر. انظر: القواعد الفقهية، للسيد الموسوي البجنوردي. المعرِّب.

([30]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 2: 274، باب الرِّبا، ح3992.

([31]) انظر: الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 1: 317.

([32]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 29: 352، ح35762.

([33]) انظر: المصدر السابق: 17: 436 ـ 437، الباب 2 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، ح1 و3.

([34]) إشارة إلى رواية ابن مريم.

([35]) انظر: الطوسي، تهذيب الأحكام 10: 183.

([36]) انظر: الأنصاري، فرائد الأصول 1، 248 ـ 250.

([37]) لقد ذكر الآغا ضياء هذا الكلام في قاعدة لا ضَرَر، ولم يذكره في قاعدة لا حَرَج. (انظر: مقالات الأصول 2: 311). وقد أجاب الأستاذ المحترم عن الإشكال على أساس الإشكال على قاعدة لا حَرَج.

([38]) إن هذا الاستناد ـ كما قال الأستاذ ـ كان خطأً في قاعدة لا حَرَج، وأما في قاعدة لا ضَرَر فهو صحيح.

([39]) انظر: النجفي، جواهر الكلام، ج32.

([40]) انظر: العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام 3: 111 ـ 112.

([41]) انظر: النجفي، جواهر الكلام، ج32، كتاب الطلاق ص36.

([42]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 8: 16، الباب 14 من أبواب بقية الصلاة المندوبة، ح1؛ الكافي 5: 494، ح1؛ المرتضى، الناصريات: 46. وفي الكافي 5: 494 بصيغة: (بعثني بالحنفية السهلة السمحة).

([43]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 207 ـ 233.

([44]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي 1: 234؛ مسند أحمد بن حنبل 2: 391.

([45]) انظر: الشهيد الأول، القواعد والفوائد 2: 48.

([46]) انظر: المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام 2: 156.

([47]) انظر: الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 10: 195 ـ 196.

([48]) انظر: العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية 3: 28؛ العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام 2: 352.

([49]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 27: 394.

([50]) المجلسي، بحار الأنوار 86: 148؛ الكليني، الكافي 1: 58.

([51]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

([52]) النوري، مستدرك الوسائل 9: 41.

([53]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 13: 98؛ البحراني، الحدائق الناضرة 6: 346 ـ 355.

([54]) انظر: محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول 4: 494 ـ 495.

([55]) محمد كاظم اليزدي، منجزات المريض: 8.

([56]) انظر: الخميني، كتاب البيع 1: 52؛ تهذيب الأصول: 16 ـ 21.

([57]) انظر: الأنصاري، فرائد الأصول 1: 139 ـ 148.

([58]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 1: 641، فصل في الخلل الواقع في الصلاة.

([59]) انظر: المصدر السابق 2: 214.

([60]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 8: 243، الباب 25 من أبواب الخلل، ح2 و3.

([61]) انظر: المصدر السابق: 241، الباب 24 من أبواب الخلل، ح8 ؛ النوري، مستدرك الوسائل 6: 414، الباب 16، ح2.

([62]) القمّي، قوانين الأصول 1: 6.

([63]) انظر: القمّي، قوانين الأصول: 14.

([64]) انظر: سنن الدارمي 2: 44؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ 2: 167؛ النوري، مستدرك الوسائل 9: 410.

([65]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 3: 385، الباب 23 من أبواب التيمّم، ح1.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً