أحدث المقالات

محتملاتها ومضمونها

الشيخ ذو الفقار عبد الرسول عواضة(*)

تمهيد

تعتبر قاعدة نفي السبيل من القواعد الفقهية المهمّة والمشهورة بين الفريقين، والتي يمكن أن يستند إليها في مقام الاستدلال في أبواب مختلفة من الفقه، سواء في العبادات أو المعاملات. وهي تتعلق بتنظيم العلاقات بين المسلمين والكافرين بالخصوص، وأما تنظيم العلاقات بين المسلمين أنفسهم فتتكفّلها قواعد فقهية أخرى. فيمكن الاستفادة منها على الصعيد الداخلي في المجتمع الواحد، والخارجي بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية على مستوى العلاقات والاتفاقيات الدولية المختلفة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وغيرها؛ لتكون معياراّ في الصحة والفساد. فهذا كلّه يكشف عن البعد القانوني والمعنوي التي يمكن أن يكون قد هدف إليه الشارع، وهذا ما أشار إليه الإمام الخميني&([1]). وإنما سُمّيت القاعدة بهذا الاسم باعتبارها مستمدّة من الآية الكريمة التي يستدلّ بها عليها. نعم، في بعض الأحيان يطلق عليها قاعدة الإسلام يعلو ولا يعلى عليه؛ نسبة منهم إلى الحديث المذكور([2]).

وثمرة مشروعية هذه القاعدة هو المنع من كل مورد يكون فيه للكافر علوّ وسبيل على المسلم بالمعنى الذي سيأتي إنْ شاء الله. وفي حال عدم ثبوت مشروعيتها ففي كلّ مورد يشكّ بالصحة والفساد إنْ كان هناك أدلة خاصة مانعة تمسّك بها، وإلاّ يتعيّن الرجوع إلى عمومات الأدلة أو أصالة الصحة.

وهذه القاعدة على تقدير ثبوتها لا يُراد منها إلاّ جذب الناس إلى الإسلام، وإظهار علوّ المسلم وشرفه على غيره من أصحاب الديانات الأخرى.

وفي هذا البحث سوف نتعرّض لمدرك القاعدة، ومضمونها، ومحتملاتها. هذا، مضافاً إلى بعض الأمثلة والموارد التي طبقت عليها القاعدة من قِبَل الفقهاء، مع المناقشة في كلٍّ منها إنْ شاء الله تعالى.

مضمون القاعدة

 وأما مضمون هذه القاعدة فهو أن الله تعالى لم يجعل ولن يجعل في عالم التشريع أيّ حكمٍ بحيث يكون سبباً ومقتضياً لعلوّ الكافر على المسلم، وإثبات سبيل له عليه، فتكون حاكمةً على إطلاقات وعمومات الأدلة الواقعية، وبالتالي تخصِّصها وتصرفها إلى الموارد الأخرى التي لا يكون للكافر فيها علوّ على المسلم.

أدلّة القاعدة ومدركها

استدلّ الفقهاء على حجّية هذه القاعدة بعدّة وجوه من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. والبحث فيها كما يلي:

 

الوجه الأوّل: الإجماع

استدلّ بعض الفقهاء على مشروعية هذه القاعدة بالإجماع. وبيان الاستدلال به أنه قام الإجماع المحصَّل القطعي على عدم وجود أيّ حكم شرعي مجعول بحيث يكون موجباً ومقتضياً لسلطة الكافر على المسلم، بل تتّفق جميعها على علوّ المسلمين على الكافرين. وهذا يظهر من خلال تتبُّع موارد القاعدة. ونذكر على سبيل المثال، لا الحصر، مسألة عدم تزويج المسلمة من الكافر، وعدم بيع العبد المسلم على الكافر، وعدم ولاية الكافر على المسلم، وغيرها من الموارد الأخرى التي لا تخفى على مَنْ له اطّلاع على الأحكام الشرعية. فمَنْ تتبَّع هذه الموارد لا محالة يستنتج منها أنهم متسالمون على عدم وجود السبيل للكافر، ويرسلونه إرسال المسلَّمات من دون نكير([3]).

ولكنْ يمكن أن يلاحظ على ما أفيد:

إن حجّية الإجماع ليست حجّية تعبدية حتّى إذا ثبت كشف عن الحكم الشرعي، وإنما حجّيته بما له من كاشفية عن وجود ارتكاز على الحكم الشرعي لدى المتشرّعة في زمن المعصوم×. وهناك عوامل أخرى متعدّدة تؤثّر سلباً أو إيجاباً في تراكم الاحتمالات في عملية الاستكشاف. ولو سلّمنا بوجود الإجماع المذكور فإن أقلّ ما يقال فيه كونه محتمل المدركية؛ لاحتمال أن يكون الفقهاء قد استندوا إلى الأدلة الأخرى. وهم يصرِّحون بذلك.

ويكفي مجّرد الاحتمال ليسقط عن الحجّية. وعليه لا قيمة له من هذه الناحية. ونبقى أمام الأدلة الأخرى التي استند إليها في المقام؛ فإنْ تمّت فبها؛ وإلاّ تسقط هذه القاعدة عن المشروعية.

نعم، ترقّى السيد البجنوردي& إلى القطع بمدركية هذا الإجماع، قائلاً: «إن القول بكاشفية الإجماع عن قول المعصوم في غاية الإشكال، بل معلوم العدم؛ لأن الظاهر من المتّفقين أنهم يعتمدون على هذه الأدلة»([4]). ويريد بذلك أن ذكرهم الإجماع في عرض الأدلة الاخرى كاشفٌ عن استقلاله في الكشف، وإلاّ لا معنى للتنصيص عليه طالما أن منشأه قد ذُكر.

 ولكنْ أنّى لنا الجزم بمدركية الإجماع المذكور، وأنه ناشئ من استظهاراتهم من الأدلة المذكورة؛ فلعلّ إجماعهم في الفتوى قد نشأ عن وجود ارتكازٍ متشرعي في زمن المعصوم بالخصوص. بل هناك مجالٌ للمناقشة في بعض الأمثلة التي ذُكرت؛ إذ من المحتمل أن المنع فيها قد نشأ من دليلٍ خاصّ غير نفي السبيل، كما سيأتي التعرض له في موارد تطبيق القاعدة إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾

وتقريب الاستدلال بالآية أن يقال: إنها ظاهرة في مقام الإنشاء والجعل، بمعنى أن الله تعالى لن يجعل حكما شرعياً يكون مقتضياً وسبباً لعلوّ الكافر على المسلم، بل جميع الأحكام قد لوحظ فيها علوّ المسلم على غيره. وعليه تكون الآية حينئذٍ حاكمة على جميع الأدلة الأوّلية الخاصة حكومةً واقعية، فتكون من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحجّ: 78). فكما أن آية نفي الحَرَج حاكمة على الأدلة الأوّلية الخاصة، فتنفي وجود أيّ حكم شرعي في أيّ موقف حَرَجي، وتصرفها إلى المصاديق الأخرى التي لا حَرَج فيها، كذلك آيةُ السبيل تكون حاكمةً على الأدلة الأوّلية، فتصرفها إلى الموارد الأخرى التي لا يكون فيها سبيل للكافر على المسلم. مثلاً: هناك بعض الأدلة الأولية العامة التي تفيد عموم إرث الولد والأقارب بحَسَب اختلاف الطبقات وقربها، وولاية الأب على الولد، سواء كان مسلماً أو غيره، فتأتي هذه الآية لصرفها إلى الموارد الأخرى التي لا يكون فيها سبيل للكافر على المسلم، كما لو كان الولد كافراً، وهكذا.

نعم، في المقابل تردَّد الشيخ الأنصاري هناك([5]) في حكومتها على بعض العمومات، مثل: عموم قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ (البقرة: 275).

وقد أجابه المحقِّق النائيني (وهو الحقّ) بأنه لا مجال للاستثناء في المقام؛ لأنها من قبيل: قاعدة نفي الضَّرَر والحَرَج الحاكمتين على الأحكام الأوّلية، فكما لا يصحّ الاستثناء هناك كذلك لا يصحّ هنا. ويريد بذلك أن الاستثناء لا يتنافى مع لسان الآية الآبي عن التخصيص.

إلاّ أن هناك احتمالات أخرى في الآية، نقتصر على ذكر الأهمّ منها:

منها: إن المقصود من السبيل المنفي في الآية هو الحجّة في يوم القيامة، أي إن الله تعالى لن يجعل للكافرين على المؤمنين حجّة، وإنما الحجة للمؤمنين، حيث تظهر الحقائق وينكشف الواقع، فلا يبقى مجالٌ للإنكار والمعاندة في ذاك اليوم من قِبَل الكافرين.

 ومن الواضح أن أصحاب هذا الرأي لم يذهبوا إليه اعتباطاً، وإنما أقاموا قرينة على مدّعاهم، وهو قوله تعالى، قبل هذه الآية: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وبمقتضى قرينية سياق ما قبلها تكون الآية ظاهرةً في النظر إلى يوم القيامة؛ لوضوح أن الحكومة الإلهية بين العباد إنما تكون يوم القيامة، وهناك تكون الغلبة للمؤمنين؛ لانتفاء الظلم. هذا، مضافاً إلى حرف الاستقبال فيها ـ وهو «لن» ـ، فتكون ظاهرةً في نفي الجعل التكويني، لا الجعل التشريعي.

وأيَّدوا كلامهم بما رواه الطبري، في تفسيره، عن ابن وكيع، بإسناده عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×، قال: قال رجلٌ: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ قول الله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ×: «ادنه، ثمّ قال×: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ يوم القيامة».

 وروى أيضاً، بإسناده عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، قال: ذاك يوم القيامة، وأما السبيل في هذا الموضع فالحجّة. ورُوي عن السدّي ذلك أيضاً بأنه الحجّة([6]).

فهذه الآية قرينةٌ على أن المقصود من الآية هو عدم جعل الحجّية والغلبة على المؤمنين يوم القيامة؛ حيث إن الله تعالى في ذاك اليوم يظهر الحقائق ويكشف الواقع بالمقدار الذي يرتفع به الشكّ، ولا يتمكّن معه الكافر من الإنكار والنفي والعناد، وبذلك تكون الحجّة آنذاك للمؤمنين لا غير.

وهذا ما ذهب إليه كلٌّ من: الشيخ الأنصاري([7])، والسيد الحكيم([8])، والسيد الخوئي([9])، وآخرين أيضاً.

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد:

أوّلاً: إن الآية سيقت مساق الكبرى، ولا معنى لتخصيصها بيوم القيامة. وسبق الآية المذكورة وتقدُّمها عليها لا يعني تخصيص الآية بها، وتحديد المعنى من خلالها وانصراف اللفظ إليها؛ لما هو معروف من أن المورد لا يخصِّص الوارد، وإنما من شأنه التوسعة والتعميم. وفي المحصلة الآيةُ عامّة، فيكون مفادها حينئذٍ نفي جعل السبيل للكافر على المؤمن في الآخرة؛ لوضوح البراهين والحجج بانكشاف الحقائق، وكذا لا تعلو حجّة الكافر في الدنيا؛ لعدم نهوض أدلته في مقابل أدلّة المؤمن؛ إما لضعفها الواضح في حّد ذاتها أو لوجود خللٍ فيها مع قوتها([10]).

ثانياً: إن تفسير السبيل في الآية بالحجّة في يوم القيامة لا يتنافى مع ما استظهر منها؛ باعتباره تفسيراً لها، لا أنه ظاهرٌ من اللفظ. ومن المعلوم أن التفسير ببعض ببطونها لا يعني بالضرورة حصر المعنى فيه، وعدم صحة تفسيرها ببطون أخرى؛ لأن للقرآن سبعة أبطن([11]).

إلاّ أن هذه الملاحظة ليست تامّةً؛ لأن حمل الرواية على أنها واردة في مقام ذكر بطن من بطون الآية يحتاج إلى قرينة تدلّ عليه، وهي منتفيةٌ في المقام؛ فإنها ظاهرة في مقام بيان معنى الآية، لا الكشف عن بعض بطونها. ولذلك لا يُصار إلى ما ذُكر؛ لكونه خلاف الظاهر.

ثالثاً: وأما الروايات التي ذكروها كمؤيّد لمدّعاهم فأقلّ ما يمكن أن يقال فيها: إنها ذكرت بعض المصاديق لمفهوم الغلبة، وليست في مقام البيان من جهة تحديد مفهوم السبيل، بل هي ظاهرةٌ في مقام البيان من جهة نفي السبيل التكويني الذي تصوّره السائل. وهذا المقدار يتأتّى بذكر بعض أفراد المعنى القريبة إلى الفهم العرفي، ولا يتنافى مع عموم اللفظ وشموله لأفراد أخرى من الغلبة، وهي الغلبة على مستوى الجعل التشريعي([12]).

رابعاً: لا معنى لحمل الآية على عدم جعل الحجّة للكافر على المؤمن يوم القيامة؛ وذلك لأن الإنسان يدرك بفطرته ـ مع اختلاف معتقداته ـ بأن الخالق سوف يحكم بالعدل، ويأخذ بيد المظلوم؛ لانتفاء الظلم في ساحته الإلهية. فلن يفيد المنكر إنكاره؛ لأن الله يحكم بحَسَب الواقع، لا بحَسَب الظاهر، كما كان عليه الحال في الدنيا. وهذا أمرٌ واضح لا يختلف عليه اثنان. فبمجرّد أن تفارق الروح الجسد، وتتخلّص من العوالق المادية، ينكشف الحقّ والحقيقة، ولا مجال للشكّ والعناد؛ لعدم الفائدة منه، كما تشير الآية الكريمة: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق: 21 ـ 22). بل نرى الكافرين أنفسهم يعترفون بهذه الحقيقة، ويقرّون بها، كما يخبرنا الله تعالى في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 12). فمَنْ ينكر طلوع الشمس في رابعة النهار؟ فذلك لا يحتاج إلى التأكيد عليه وتدخلٍ جديد، وخاصةّ أنه لا يتناسب مع لسان الآية الظاهر في الحاجة إلى تدخّل آخر وجديد من الشارع، وهي قوله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ…﴾؛ فهي ظاهرةٌ في معنى جديد غير الحكم الذي تضمّنه صدر الآية. فالتأكيد على المعنى الواضح وإنْ كان أمراً متصوّراً، ولكنه يتنافى مع هذا اللسان، واستخدام حرف النفي «لن» التي تفيد التأبيد. ومن أجل تقريب الفكرة نمثِّل لذلك بما لو اختلف رجلان على طلوع الشمس وعدم طلوعها، فجاء طرفٌ ثالث ليحكم بينهما، وأزاح الستار عن النافذة، فظهرت الشمس ساطعةً في رابعة النهار، فذلك بنفسه كافٍ في فضّ النزاع بينهما، ولا حاجة لينطق بالحكم، بل مجرّد انكشاف الواقع كافٍ في المقام لفضّ النزاع، بل هو الحكم بنفسه، دون الحاجة إلى النطق به. فيوم الحساب ليس إلاّ انعكاساً لامتثالٍ أو عصيان لما هو موجود في لوح التشريع.

إلاّ أنه لا بُدَّ من الإشارة إلى أن ابن عربي نقل عن القاضي مناقشته وردّه لاحتمال أن يُراد من الآية نفي وجود الحجّة يوم القيامة، فردّه ورماه بالضعف، معلّلاً ذلك بعدم فائدة الخبر فيه([13]).

ولكننا لا ندري ما هو مقصود ابن عربي من عدم الفائدة في الخبر! فهل يقصد ما ذكرناه من أن لسان الآية يأبى الحمل على الأمر الواضح، أم أن مقصوده شيءٌ آخر، وهو نفي مطلق الفائدة؟ فإذا كان مقصوده ما ذكرناه فبها ونعمت؛ وإنْ كان مقصوده عدم الفائدة مطلقاً فلا يكون كلامه تامّاً؛ لأن نصرة المظلوم وإنْ كانت أمراً واضحاً، ولكنْ لا مانع من حمل الآية على تطمين المظلومين، وتسليتهم، وتذكيرهم بوجود المحكمة الإلهية التي قد يغفل عنها المظلوم؛ لشدّة الظلم الذي يلحق به أحياناً. وإلاّ بماذا يفسّر الآيات الكثيرة التي يخبر فيه الله تعالى بأنه مع المظلومين والصابرين؟

وذكر ابن عربي ثلاثة أوجه محتملة في معنى الآية:

الوجه الأوّل: إن الله لن يمحو دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما جاء في الحديث: «دعوتُ ربّي أن لا يسلّط عليهم عدوّاً من غيرهم، يستبيح بيضتهم، فأعطانيها».

الوجه الثاني: إن الله لن يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين، إلاّ إذا تواصوا بالباطل، وتقاعسوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الوجه الثالث: هو نفي جعل حكم شرعي يسلّط من خلاله الكافر على المسلم.

ويُلاحظ على ما أفيد:

أوّلاً: إن الوجهين الأوّل والثاني يرجعان في روحهما إلى حقيقةٍ واحدة، كما هو واضح، أو فقُلْ: هما متمِّمان لبعضهما البعض، فيتقيَّد حينئذٍ الأول بالثاني، أي إن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، بحيث يذهب آثارهم، إلاّ إذا تواصوا بالباطل، وعطّلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكنّ هذه الملاحظة ليست تامةً؛ فهناك فرقٌ بين الوجهين؛ فإن الوجه الأول ناظرٌ إلى أن معنى السبيل هو زوال الكيان الإسلامي، فلا يبقى للمجتمع صورة الإسلام؛ والوجه الثاني إلى سلطنة الكافرين على المسلمين، وإنْ بقي كيان المجتمع الإسلامي وصورته.

ثانياً: يُلاحظ على ما أفيد من الوجوه أن ما ذُكر لا يستفاد من الآية نفسها؛ لعدم وجود قرينة تدلّ عليه. نعم، استفيد ذلك من خارج الآية. هذا، مضافاً إلى أنه لا معنى للالتزام بشمول الآية لهذه الوجوه جميعاً، إلاّ على سبيل بطون الآية ولوازم معناها.

ومنها: إن المقصود بالسبيل الحجّة، أي نفي الحجّة للكافرين على المؤمنين، كما ذكر بعض المفسّرين([14]). وهذا ما جاء أيضاً في الخبر الذي رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا×، من جواب الإمام أبي الحسن× على مَنْ زعم أن المقصود منها نفي تقدير الله تعالى بمقتضى الأسباب العادية تسلّط الكفّار، فوصل بهم الأمر إلى إنكار قتل الإمام الحسين، وإنما رُفع كعيسى إلى السماء، فقالوا: «إن الحسين بن عليّ× لم يقتل، بل شُبِّه لهم، ورفع كعيسى×، فأجاب الإمام: وأما قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ…﴾ فإنه يقول: ولن يجعل الله لكافرٍ على مؤمن حجّة…»([15]). فتكون الآية حينئذٍ من قبيل: قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة: 21). وفي النتيجة يكون المقصود من السبيل الغلبة في مقام الاحتجاج.

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد أنها ضعيفةٌ سنداً.

فمن ناحية السند هذه الرواية غير تامة؛ لوقوع تميم بن عبد الله القرشي الحميري في الطريق إليها، ويكنّى بأبي الفضل، وهو ضعيفٌ، وإنْ كان من مشايخ الصدوق، وقد ذكره مترضّياً عليه؛ لما قرِّر في محلّه من أن مشيخة الإجازة لا تفيد التوثيق، وهو ليس من المشايخ المعروفين الذين تشدّ الرحال إليهم؛ ليقال بأن ذلك يفيد الوثاقة؛ لأنه شيخ للصدوق، دون غيره. وكذلك الحال بالنسبة للترضّي، فهو لا يكشف عن التوثيق؛ لعدم وجود ملازمة بينهما. ولم يذكر في كتب التراجم. وقد ضعَّفه كلٌّ من: ابن الغضائري في رجاله([16])؛ والعلاّمة في خلاصة أقواله([17]).

وأما من ناحية الدلالة فهي تامّة ودالة على المدّعى؛ فإنها ظاهرة في مقام تحديد مفهوم السبيل، وذلك بقرينة أنها وردت ردّاً على ما فهمه مَنْ زعم أن الإمام الحسين× لم يقتل، حيث توهَّموا أن معنى السبيل في الآية الكريمة هو الغلبة المادّية بالقتل والأسر ونحو ذلك، فنفى الإمام× هذا المعنى، وأثبت أن المراد بنفي السبيل نفي الغلبة في مقام الاحتجاج. وما حصل من قتلٍ لأنبياء بني إسرائيل^ أو دسّ للسمّ لأوليائه المعصومين خيرُ شاهد على ما نقول.

ومنها: إن كلاًّ من كلمتي الكافرين والمؤمنين، اللتين وردتا في الآية، جمع محلّى باللام، وهما يفيدان العموم، فيكون معنى الآية حينئذٍ أن الله تعالى لم يجعل لكلّ فردٍ من أفراد الكافر على كلّ فردٍ من أفراد المؤمن سبيلاً، فهي دالّة على سلب العموم، لا على عموم السلب؛ كي يتمّ المدّعى. وهذا لا يتنافى مع وجود السبيل لبعض أفراد الكافر على بعض أفراد المؤمن، أو لكلّ فردٍ من أفراد الكافر على بعض أفراد المؤمن.

ويلاحظ على ما أفيد:

أوّلاً: إن هذه الآية ظاهرةٌ في دلالتها على عموم السلب، لا سلب العموم؛ بلحاظ أن موضوع النفي هو العموم الاستغراقي، فكأنه قال: لن يجعل لأيّ كافر سبيلاً على أيّ مؤمن. وموارد العموم الاستغراقي ينحلّ الحكم فيها إلى الأفراد بعدد أفراد الموضوع. فتبقى هذه المسألة استظهارية راجعة إلى مقتضى الفهم العرفي.

ثانياً: لو سلّمنا أن الجمع المحلّى باللام يفيد العموم، وأن النفي إذا دخل عليه يفيد سلب العموم، لا عموم السلب، فإننا لا نسلِّم بذلك في خصوص هذا المورد؛ إذ عدم الجعل منصبٌّ على تسلّط الكافرين على المؤمنين بلحاظ الكفر من حيث هو كفر؛ فإن مقتضى مناسبة الحكم للموضوع أن لا يجعل الشارع السبيل للكافرين على المؤمنين مطلقاً؛ فالكفّار بما هم كفّار لن يجعل لهم السبيل على المؤمنين؛ لوجود حزازة ومبغوضية لدى الشارع المقدّس في تسلّط الكفر على الإيمان. وهذا المحذور، الذي هو محلّ المبغوضية، يتحقَّق حتى في فرض تسلُّط بعض أفراد الكافر أو جميعهم أو كلّ فرد منهم على بعض أفراد المؤمنين أو جميعهم أو على كلّ فرد فرد. وأيّ فرق بين جميع هذه الصور؟ كلّها مصداق ومورد ومحلّ للحزازة. والنتيجة أن المستفاد من الآية عموم السلب، لا سلب العموم؛ ببركة خصوصية المورد، وهو الكفر.

ثالثاً: أضِفْ إلى ذلك أن من المستبعد جدّاً أن يكون لكلّ واحد من الكافرين سبيل على كلّ واحد من المؤمنين خارجاً، حتّى يخاف المؤمنون من تحقّقه، وبالتالي يحتاج الأمر إلى تدخّل من الشارع بالنفي، كما هو واضح. وهو قرينةٌ متصلة توجب انصراف الآية عن هذا المفاد.

الوجه الثالث: قوله×: «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. والكفّار بمنزلة الموتى، لا يحجبون ولا يرثون»([18])

والكلام في هذا الحديث سنداً ودلالة:

أما من ناحية السند فهو حديث مرسل؛ باعتبار أن الصدوق قد أرسله إلى الإمام×.

 ولكنّ هناك مَنْ حاول علاج مشكلة الإرسال؛ فذهب بعض الفقهاء إلى دعوى انجباره بعمل الأصحاب واستدلالهم به في موارد متعدّدة، وكونه مشهوراً بين الفريقين. وهذا مما يوجب الوثوق بصدوره، فيكون من المراسيل المعتبرة التي يمكن الاستناد إليها في مقام الاستنباط والعمل بمضمونها([19]).

 هذا، مضافاً إلى أن الصدوق نسبه إلى الإمام جازماً بذلك؛ فهناك فرقٌ بين أن يقول: (رُوي) وبين أن يقول: (قال الإمام)؛ فالتعبير الثاني ظاهرٌ في اعتقاده وجزمه بالصدور، وإلاّ لما صحّ منه نسبته وإسناده إلى الإمام على هذا النحو.

ولكنْ يمكن أن يلاحظ على ما أفيد عدّة ملاحظات:

أوّلاً: إنه لا فرق بين نقل الخبر بلفظ (قيل) و(رُوي) وبين نقله بلفظ (قال)؛ لأن غاية ما يثبت وثوق الصدوق بصدوره وصحّة نسبته إلى الإمام، إلاّ أنه يبقى السؤال عن مدرك حجّيته في ذلك، فقد يكون حجّة عند الصدوق، بمعنى أن الرواة الواقعين في سلسلة السند ثقات عنده، ولكنهم ليسوا ثقات عندنا؛ لاختلاف المبنى. مضافاً إلى أن حجية الخبر عند المتقدّمين هي عبارة عن الوثوق بالصدور، ومن المحتمل أيضاً استناده إلى بعض القرائن الحدسية التي أوجبت الوثوق له بالخصوص، دوننا. بل نجد الشيخ الطوسي يعبِّر عن الحديث في موارد متعددة ومختلفة؛ فتارةً يعبِّر عنه بقوله: «بما روي عن النبيّ| أنه قال»([20])، وأخرى بقوله: «ولقول النبيّ|»([21])، ممّا يبعد أن يكون التعبير بـ (قال) دالاًّ على وثاقة الرواة أو توافر القرائن الحسّية الموجبة للوثوق.

ثانياً: لو سلّمنا بأن المشهور قد عمل به، ولكنّه لم يعمل بمتن الحديث بأكمله بما فيه الذيل، وهو قوله|: «والكفّار بمنزلة الموتى، لا يحجبون ولا يرثون». ويظهر ذلك لمَنْ تتبّع الموارد التي استدل به الأصحاب، إذ إنهم اقتصروا على ذكر الصدر، وذلك من باب التبعيض في المداليل، ممّا يعني عدم انجبار ضعفه؛ لانتفاء العمل به من قِبَلهم.

وهنا استدراكٌ من الشيخ اللنكراني، حيث قال: «إلاّ أن يقال: إن فهم الفقهاء منه ذلك دليلٌ على اعتبارهم لذيل الرواية أيضاً»([22]).

إلاّ أن هذا الملاحظة ليست تامة؛ فإن الصدوق روى الخبر كاملاً في كتابه مَنْ لا يحضره الفقيه، بمعنى أنه رواه مشتملاً على الصدر والذيل معاً مرّةً واحدة فقط، ولم يَرْوه بدون الذيل مطلقاً. ولكن صاحب الوسائل قام بعملية تقطيع للرواية؛ فتارة اقتصر على ذكر الصدر فقط([23])؛ وأخرى ذكرها كاملة كما هي([24]).

 وبناء عليه يمكن القول بأن عدم تعرّضهم للذيل لا يكشف عن وجود خلل فيه؛ وذلك لأنهم إنما لم يتعرضوا له بالذكر لعدم توقّف الاستدلال عليه في نظرهم، فيكون استشهادهم بالصدر من باب الاقتصار على مورد الحاجة. وهذا له نظائر في الفقه، وليس بعزيز، بل هو ممّا دأب عليه الفقهاء.

ولكنّ الإنصاف أن هذا لا يفيد؛ لأننا نريد إحراز عمل المشهور بتمام فقرات الرواية، فإذا اقتصر عمل المشهور في مقام الاستدلال على الفقرة الأولى لم يحرز عملهم بالثانية. وحجّية الفقرة الثانية مؤثّرة في تحديد معنى الرواية. ومجرّد احتمال أنهم لم يتعرّضوا للفقرة الثانية لعدم توقّف الاستدلال عليها يبقى احتمالاً، فلم يحرز بالنتيجة عملهم بها، وبالتالي الملاحظة التي ذكرها الشيخ اللنكراني& واردةٌ.

وأما من ناحية الدلالة ففي مضمون الخبر احتمالان: أوّلهما: إنه وارد في مقام الإنشاء والجعل؛ وثانيهما: إنه وارد في مقام الإخبار.

ومن الواضح أن دلالته على القاعدة متوقّفة على الاحتمال الأول. ويمكن تقريب الاستدلال به بالقول: إن الجملة الأولى، وهي قوله: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، مجملة من ناحية المقصود منه، فهل هو الإسلام أو المسلمون؟ هذا فيما لو لوحظ منفصلاً عن الذيل. أما لو لوحظ الذيل، وهو قوله: «والكفار بمنزلة الموتى، لا يحجبون ولا يرثون»، فيعتبر قرينةً على تحديد معنى العلوّ في الصدر، وأن الخبر في مقام الإنشاء لا الإخبار، وأن المراد من الإسلام هو المسلمين؛ وذلك بمقتضى قرينة المقابلة. وإلاّ لما كان للذيل ربطٌ بالصدر، وكان أجنبياً عنه بالكلية. فلا معنى لأن يخبر النبيّ| عن علوّ الإسلام بجميع محتملات الحديث، وبعد ذلك يعقِّب بحكمٍ إنشائي يتعلق بالكفار. فيكون معنى الخبر حينئذٍ أن الأحكام التي جعلت في ما تتعلق بعلاقة المسلمين والكفّار لوحظ فيها علوّ المسلمين ولصالحهم، دون العكس.

هذا كلّه فيما لو لوحظ ذيل الحديث، فتكون دلالته على القاعدة تامة. إلاّ أن الفقهاء عندما تعرّضوا لمناقشة الحديث اقتصر نظرهم على الصدر بالخصوص، دون الذيل. وبناءً عليه يقع الكلام في تمامية دلالة الصدر على القاعدة وعدمها.

وقد نوقش في دلالته على المدّعى، حيث انقسم الفقهاء إلى: مثبتٍ؛ ونافٍ. ومضمون تلك المناقشة كما يلي:

في هذا الحديث إذن احتمالان: فهل أنه ورد في مقام الإنشاء، كما تقدّم، أم أنه واردٌ في مقام الإخبار؟

الاحتمال الأوّل: إنه وارد في مقام الإخبار. وعليه يحمل إما على الإخبار بأن الإسلام يعلو خارجاً على غيره من الأديان، وذلك بقوّة براهينه وحججه([25])؛ وإما أنه إخبارٌ عن غلبته في آخر الزمان على يد صاحب العصر والزمان، واضمحلال سائر الأديان واندراسها.

الاحتمال الثاني: ما إذا كان جملةً خبرية واردة في مقام الإنشاء؛ فإما أن يحمل حينئذٍ على عدم تشريع الأحكام الموجبة لعلوّ الكافر؛ وإما أن يحمل على وجوب بذل الجهد ليعلو الإسلام على غيره، بحيث ينتشر في أصقاع المعمورة، ممّا يعني أن المقصود حثّ المسلمين على الجهاد وتحريم التقاعس والتراخي في بذل الجهد في سبيل تلك الغاية السامية، كما أشار إليه الإمام الخميني([26]).

وقد استظهر منه المعنى الأوّل الإمام الخميني([27])، وكذلك كلٌّ من: السيد الخوئي([28])، والسيد الحكيم([29])، والشيخ الأنصاري([30])، فذهبوا إلى أنها واردة في مقام الإخبار عن أن المراد من علوّ الإسلام علوّ براهينه وحججه من خلال إرسال الرسل؛ ليتمّ الله الحجة على العباد، فلا يبقى لهم ما يعتذرون به. ونفى أن يكون المقصود منه علوّ المسلمين على الكفّار؛ لأن هذا مخالفٌ للوجدان، حيث نرى غلبتهم علينا وقهرهم لنا على مرّ التاريخ.

وقد قرّب الاستدلال به على القاعدة بظهوره في مقام الإنشاء وتشريع الأحكام؛ بمقتضى قرينة الحال، أي إن الأحكام التي شُرِّعت إنما جعلت في صالح المسلم وعلوّه على الكافر؛ وذلك لعلوّ شرفه ومبادئه السامية التي توصل الإنسان إلى السعادة في الدنيا والآخرة. وإنْ شئتَ قلت بأنه لا يمكن أن يكون هناك تشريعٌ يقتضي علوّ الكافر على المسلم؛ فإنه موجب لنقض الغرض من دعوة الناس إلى الإسلام وجذبهم إليه، وإنما الأمر على العكس تماماً. وهذا هو مفاد الجملة بشقَّيْها: الموجب؛ والسالب. وهو ما ذهب إليه كلٌّ من: المراغي([31])، والسيد البجنوردي([32]).

نعم، قام المراغي بمحاولة للاستدلال بالحديث بعيداً عن الذيل، ومحاولته تتألف من شقّين:

أوّلهما: نفيه لحمل الخبر على الإخبار؛ بدعوى أن حمل هذا الخبر على الإخبار عن حال الإسلام بعلوّ مقامه وزيادة شوكته وغلبته على سائر الأديان والمذاهب، من خلال كثرة الناس المعتقدين له، ليس من وظيفة الشارع ـ بما هو شارع ـ؛ إذ ليس من شأنه الإخبار عن المستقبل، كيف ذلك ونحن نرى علوّ الكفر ومقهورية المسلمين ومظلوميتهم وكثرة المعتنقين لغيره من الأديان؟!

ثانيهما: نفيه لاحتمال كونه ناظراً إلى آخر الزمان، حيث تنطفئ شعلته. فقد استبعده، وأقام قرينة على ذلك، فقال: إن الخبر مؤلَّف من جملتين: موجبة؛ وسالبة، فالجملة الموجبة، وهي قوله: الإسلام يعلو، وإنْ كانت قاصرة الدلالة على عدم علوّ غيره في المستقبل، غير أن الجملة الثانية السالبة تنفي علوّ غيره عليه في جميع الأزمنة؛ لأن حذف المتعلَّق في سياق النفي يفيد عموم النفي دائماً.

فخلص إلى تعيين حمل الخبر على أنه وارد في مقام الجعل والإنشاء، وأن المراد منه عدم جعل أيّ حكم شرعي موجب لعلوّ الكافر على المسلم.

كما استبعد الشيخ اللنكراني حمل العلوّ في الخبر على علوّ الإسلام بحججه وبراهينه على ما سواه من الأديان؛ بدعوى عدم مساعدة معنى العلوّ والغلبة على الخصم في مقام الاحتجاج. والنكتة في نظره أن التسلُّط والغلبة بالحجّة لا توجب التسلّط على الخصم([33]).

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد عدّة ملاحظات:

أوّلاً: إن ظاهر الحال لا يساعد على ما ادُّعي؛ فمجرد عدم إمكانية كون الحكم الشرعي موجباً لعلوّ الكافر على المسلم لا يشكّل ظهوراً للحديث في الإنشاء ونفي هذا النوع من الأحكام؛ لاحتمال ثبوت ذلك بدليل آخر، كالآية مثلاً. بل الحديث ظاهرٌ في الإخبار في نفسه. وأيضاً إن كثرة استعمال هذا التعبير عرفاً في مقام بيان أهمية الشيء وقيمته يوجب انصرافه إليه.

ولكنْ استبعد هذا الاحتمال السيد اليزدي؛ بدعوى كونه خلاف الظاهر جدّاً([34]). وكيف ذلك مع كثرة استعماله في الخارج؟

والتزم السيد الخوئي بإجمال النصّ في محلٍّ آخر، وجعل هذا المعنى من المعاني المحتملة من الحديث([35]). وكذلك فعل السيد اليزدي([36]).

نعم، قد يُدعى أن الارتكاز القائم على أن الحكم الشرعي لا يمكن إلا أن يوجب علوّاً للمسلم على الكافر ارتكازٌ واضح جدّاً، وهو بمثابة القرينة المتصلة بالحديث الموجبة لظهوره في النظر لذلك أو لشموله له.

مضافاً إلى أن الأحكام الشرعية توجب علوّ المسلم على الكافر، فهذا علوّ حقيقي للإسلام، وليس علوّاً مجازياً؛ لأن الإسلام هو عبارة عن تشريعات وقوانين، وهذه التشريعات توجب علوّه؛ لأنها تؤدّي إلى علوّ مَنْ اعتنقه…

ثانياً: ما أفاده المراغي من أن الشارع بما هو شارع ليس من وظيفته الإخبار صحيحٌ. ولكنّ هذا لا يتناقض مع صدور الإخبار عنه إذا كان المخبر عنه شأناً من شؤون الدين؛ فإن الإخبار عن الأمور المتوقَّع بيانها من المشرِّع كثير. وكلامه إنما يتمّ فيما لو لم يكن الحديث ظاهراً في الإخبار بالتقريب الذي تقدّم، فيكون شأنه شأن كثير من الآيات التي يخبر بها عن انتصار الإسلام على غيره بقوّة براهينه وسموّ مبادئه التي تضمن سعادة الدارين.

ثالثاً: إنه افترض مسبقاً كون العلوّ بمعنى الغلبة والتسلّط في جميع الموارد، حتى الغلبة في مقام الاحتجاج على الخصم. وهذا أوّل الكلام، وممّا لا دليل عليه؛ بل حتّى لو سلّمنا بذلك يمكن تصوّره في المقام؛ لأن علوّ كلّ شيء بحَسَبه.

والإنصاف أن هذا الخبر ظاهرٌ في علوّ الإسلام في براهينه وعلوّ مبادئه وقيمه السامية التي نادى بها؛ وذلك بمقتضى الفهم العرفي، فهو من قبيل: قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصفّ: 9). ولو تنزّلنا عن الظهور في ما ذكرنا فلا أقلّ من الإجمال، لا ظهوره في الجعل والإنشاء.

مضافاً إلى أن الاستدلال بالخبر والآية يواجه إشكالا هامّاً، وهو أنه إذا كان مفادهما نفي السبيل للكافر على المسلم مطلقاً ينقض عليه بثبوت السبيل على المسلم في كثيرٍ من الموارد المختلفة، كما لو اقترض منه، أو أتلف ماله، أو ابتاع منه، فإنه يتسلَّط عليه بسداد دينه وضمان ماله وهكذا. فإنّ هذا الإشكال يصادم المعنى الذي استفيد منهما على فرض تمامية الحديث. وهذا الإشكال سجّله كلٌّ من: الشيخ الأنصاري([37])؛ والسيد الخوئي([38]).

وقد حاول الحسيني المراغي الجواب عن هذا الإشكال بجوابين:

أوّلهما: إنه لا مانع من الالتزام بالتخصيص. وهو أَوْلى من اللجوء إلى التأويلات والمجازات، وذلك بأن نلتزم بنفي السبيل مطلقاً، إلاّ في ما أخرجه الدليل.

ثانيهما: عدم الحاجة إلى التخصيص؛ لخروج هذه الفروض عن مفاد الدليلين؛ حيث إن الشارع لم يجعل للكافر سبيلاً على المسلم في أصل الشرع، ولكنْ لو أقدم المسلم على فعلٍ يكون موجباً لتسليط الكافر عليه يكون قد تسبَّب بذلك بسوء اختياره، ولا مدخلية للشارع في المقام.

وأشكل على ما أفيد أن كلا الجوابين غير تامٍّ:

فالجواب الأوّل ـ وهو القول بالتخصيص ـ لا مصير إليه؛ لأن لسان الآية آبٍ عن التخصيص، حيث جاء فيها كلمة (لن)، وهي تفيد النفي والتأبيد في الحاضر والمستقبل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخبر.

وأما الجواب الثاني فهو محاولةٌ غير موفَّقة من قبله؛ إذ يصدق التسليط من قِبَل الشارع مطلقاً، سواء كان التسليط ابتداءً أو بالواسطة؛ وذلك لأن النكتة والملاك واحد في كلَيْهما؛ حيث إن الشارع في الفرض الثاني قد شرع تسليط الكافر على المسلم في تلك الموارد وأمضاه، ولا يضرّ إقحام المسلم نفسه في هذه الأفعال في نسبة التشريع إلى الشارع.

هذا، مضافاً إلى ما ذكره الشيخ محمد الفاضل اللنكراني، من النقض عليه بالحكم بعدم تزويج المسلمة، فإن المرأة المسلمة لا يجوز لها التزويج من الكافر مطلقاً، وعلى هذا الجواب يصحّ تزويج نفسها منه إذا أقدمت على هذا الفعل([39]).

والصحيحُ في الجواب أن يقال: إن الآية واردة في مقام الامتنان على المؤمنين، وهذا يتناسب مع رفع الذلّ عنهم. ولا يشمل مثل هذه الموارد التي نقض بها؛ لخروجها تخصُّصاً عن مفاد الآية؛ لعدم صدق مفهوم السبيل وعلوّ للكافر على المسلم، وإنما يلزم المؤمن بالقيام بالعمل بمقتضى الإجارة، وهكذا بالنسبة إلى غيرها. وأيّ سبيل في مثل هذه الموارد؟ بل هي في صالحهم ونفعهم. وسدّ هذا الباب بالالتزام بعدم إرجاع ما استقرض إليهم يعود بالمفسدة والضرر عليهم، بل يكون في صالح الكافرين الذين يصحّ استيجارهم، كما لا يخفى.

وأما في خصوص المنع من تزويج المؤمنة نفسها من الكافر فيمكن الجواب عنه بأن ثبوته بدليلٍ آخر غير آية نفي السبيل، بحيث يكون الملاك فيه مختلفاً عن الملاك في مثل الضمان والاقتراض والإجارة. وقد لاحظت أن الشيخ اللنكراني قد أجاب بهذا الجواب أيضاً([40]).

الوجه الرابع: مناسبة الحكم والموضوع

والمقصود بذلك أن شرف الإسلام وعزته يعتبر علّة تامة لعدم جعل وتشريع أيّ حكم من شأنه ذلّ المسلم والحطّ من قيمته، وخاصّة أن الله تعالى قد أرشد في كتابه المجيد إلى حصر العزّة بنفسه ورسوله والمؤمنين، حيث قال: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 8). فمع هذا هل يتصوّر تشريع حكم في الإسلام يكون موجباً لعلوّ الكفار على المسلمين، ويلزم المسلمون بامتثال تلك الأحكام، فيكون الكفّار أعزّة، في حين أن المسلمين هم الأذلّة الصاغرون؟ وبعبارةٍ ثانية: ألا يتنافى ذلك مع مفاد الآية المتقدّمة؟ وليس هذا من قبيل: العمل بالظن، كي يقال بأنه لا يغني عن الحقّ شيئاً، بل هو استظهار من الأدلة اللفظية، فيدخل في صغرى حجّية الظهور.

 بل هذا كلّه مما يورث القطع بعدم جعل حكم يوجب هوان المسلم. وأضاف: «وعندي أن هذا الوجه أحسن الوجوه استدلالاً على هذه القاعدة؛ لأنه مما يركن النفس إليه، ويطمئن الفقيه به»([41]).

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد أنه من المسلَّم أن الله تعالى لم يجعل حكماً يوجب هوان المسلم وذلّه. ولكنّ هذا شيءٌ وجعل حكمٍ يوجب علوّ الكافر على المسلم شيءٌ آخر؛ ولذلك لعدم وجود ملازمة بينهما. وببيانٍ آخر: ليس كل علوّ ظاهري يساوي المهانة على مَنْ يعلى عليه، فقد يكون هناك علوٌّ ولا يوجد هوان، ممّا يعني أنه لا يوجد ملازمة بين الأمرين حتّى يقال بأنه متى ما ثبت أحدهما ثبت الآخر، بل قد يجتمعان وقد يختلفان. ويمكن تصوّر هذا المعنى في بعض الموارد التي طبّقوا القاعدة عليها، كالمنع من علوّ دار الكافر على دار المسلم، ومن قبيل: عدم ثبوت حقّ الحضانة للأمّ الكافرة، فجعلوه شرطاً ينتفي الحقّ بانتفائه، فأيّ مذلّةٍ للولد إذا احتضنته أمّه؟ أليس ذلك يصبّ في مصلحته؟

وإن شئتَ قلتَ: إن هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ لأن ما يريد إثباته السيد البجنوردي& هو نفي كلّ ما فيه علوّ، كما هو مقتضى مفاد قاعدة نفي السبيل. والدليل الذي ساقه وأورده غاية ما يثبته نفي ما فيه مهانة للمسلم. وأما ما كان فيه علوّ، ولكنه خلا من المهانة، فالدليل المذكور قاصرٌ عن إثباته. والسيد وإنْ تعرض للجانب السلبي الخاصّ بنفي كلّ حكم يقتضي المهانة، إلا أن المقصود هو إثبات عدم جعل يوجب علوّاً للكافر على المسلم مطلقاً.

والنتيجة أنه ليست هذه القاعدة المذكورة قاعدةً مطّردة، بحيث تنعكس على جميع الموارد، بل قد نجد بعض الموارد ما لا ينطبق عليها الملاك والحيثية المتقدّمة التي أسّس عليها الاستدلال.

ولذلك لا يصار إلى القول بأن السيد& لم يدَّعِ الملازمة بين الأمرين، وإنما غاية ما قاله بأن المستفاد من آية العزّة عدم جعل حكم من قبل الشارع يوجب هوان المسلم، ولم يقُلْ بأن مفادها جعل حكم يفيد علوّ الكافر على المسلم. فهناك فرقٌ بين المطلبين كما ترى.

الوجه الخامس: الاستناد إلى ما دلّ على وجوب تعظيم الشعائر وحرمة الإهانة من العقل والنقل

وبيان ذلك: إن الشارع إذا منع من إهانة الشعائر وأوجب تعظيمها فإن الملاك في تعظيمها تعظيم الإيمان والإسلام، لا لخصوصية في الشعائر ذاتها. وحيث إن المنظور تعظيم الإسلام فمن المصاديق الواضحة، بل من أهمّها، كرامة الإنسان المسلم، فهل يرضى بعلوّ وتسلط الكافر عليه، مع ما فيه من المذلّة والهوان؟

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد: إنه وإنْ كنا نسلِّم بالكبرى، ولكنْ يمكن المناقشة في صدق الصغرى في المقام. فالعقل لا يحكم بقبح علوّ الكافر على المسلم مطلقاً وفي جميع الفروض، وإنما يحكم بذلك فيما لو استلزم مهانةً وذلاًّ للمسلم. وهذا إنما يتصوّر مثلاً فيما لو أخذ في الحكم بعلوّ الكافر حيثية الكفر، أي لوحظ الكفر بما هو كفرٌ، ففي مثل هذا الفرض لا شَكَّ ولا رَيْبَ أنه يحكم بالقبح. أما أنه يحكم بعدم علوّ الكافر مطلقاً، بدعوى مخالفته لتعظيم الشعائر واستلزامه للهوان، فهو أوّل الكلام.

وقد تبين من خلال تقييم الأدلة المتقدّمة تمامية الاستدلال بآية السبيل على قاعدة نفي السبيل. ويمكن تطبيقها في كلّ مورد وموقف يوجب علوّ الكافر على المسلم. وهذا كافّ في إثباتها. ونحن بغنىً عن الاستدلال بالأدلة الأخرى؛ لما فيه من عنايةٍ زائدة لا يساعد عليها ظاهر الدليل.

 

حدود القاعدة ومَدَياتها

من الملاحظ أن الفقهاء قد طبَّقوا هذه القاعدة على مواردة متعدّدة ومختلفة؛ كان بعضها محلّ اختلاف بينهم؛ وبعضها الآخر محلّ اتفاق. وبدَوْرنا سنقتصر على ذكر جملةٍ منها، على سبيل الاختصار لا الحصر؛ كي لا يطول بنا المقام.

منها: إجارة المسلم الحُرّ نفسه من الكافر، أو إجارة العبد المسلم. وقد وقع الكلام في صحّة الإجارة وعدم صحتها. وانقسم الفقهاء إلى أقوال أربعة:

الأوّل: عدم الجواز مطلقاً([42])؛ الثاني: الجواز مطلقاً([43])؛ الثالث: القول بالتفصيل. وهنا تفصيلان في المقام؛ تفصيل بين وقوع الإجارة على الذمّة فتكون صحيحة، وبين وقوعها على العمل الخارجي فتكون باطلة([44]). وتفصيل آخر بين العبد والحُرّ، فتصحّ في الأوّل دون الثاني([45]). والملاك في المنع في فرض كون الإجارة على أمر خارجي ـ كما لو استأجره الكافر على خياطة هذا الثوب المعيّن ـ والجواز في فرض كون متعلّق الإجارة على فعلٍ كليّ في الذمة هو أنه يصدق في الفرض الأول السبيل للكافر على المؤمن، بخلاف ما لو كان الفعل المستأجر عليه في الذمّة؛ لكونه من قبيل: الدين من الكافر، ولا مانع منه، غاية ما هنالك أن ذمّة المسلم تصبح مشغولة للكافر بالقيام بالفعل.

ولا يخفى أن منشأ الاختلاف بين الأقوال هو صدق عنوان السبيل والعلوّ وعدمه. فمنهم مَنْ يرى تحقق السبيل في جميع الموارد؛ لوجود الملازمة بين الأمرين؛ ومنهم مَنْ ينفي الصدق مطلقاً، في مقابل مَنْ يفصّل؛ لعدم كون الصدق مطّرداً في جميع الصور والفروض.

والمختار في المسألة هو الرأي الثاني، أي الجواز مطلقاً؛ حيث إن الإجارة لا يصدق عليها بحالٍ من الأحوال علوّ الكافر على المسلم وإثبات السبيل له، بحَسََب ما تقدّم من أن آية السبيل واردةٌ في مقام الامتنان على المسلمين، ومن الواضح عدم صدق السبيل على المسلم، فغاية ما هنالك أن الكافر يستحقّ على الأجير المسلم القيام بما استؤجر عليه من العمل، وهذا هو مقتضى الإجارة، فلا فرق في ذلك بين أن يستأجره لبعض منافعه أو تمام منافعه، وبين أن يستأجره على كلّي في الذمة أو على أمر خارجي (كما لو استدان منه وكذا لو رهنه)، ولا فرق بين أن يكون حرّاً وبين أن يكون عبداً؛ وذلك لوحدة الملاك في جميع الفروض. وليس هناك أيّ سبيل وهوان ومذلّة، وإلاّ لانسدّ باب المعيشة أمام المسلمين في جميع أبواب المعاملات، كما لا يخفى، وخاصّة أن سيرة المسلمين جَرَت على إجارة أنفسهم من الكافرين، على مرّ العصور، كما صرَّح غير واحد من الفقهاء.

ومنها: عدم وكالة الذمّي على المسلم. وقد منع مشهور الفقهاء من توكيل الذمّي على المسلم، سواء كان توكيلاً للذمّي على المسلم أو للمسلم على المسلم([46])، بل ادّعى ابن زهرة الحلبي([47]) والعلاّمة الحلّي الإجماع على ذلك([48]). وقد نسب المحقّق الحلّي هذا القول إلى المشهور([49]). والوجه في البطلان، مضافاً إلى الإجماع، استلزام الوكالة السبيل للكافر على المسلم، وذلك مخالف لمقتضى الآية، كما صرّح كثير منهم([50]). وهم وإنْ منعوا من توكيل الكافر الذمّي إلاّ أنه يعمّ غيره أيضاً بطريق أَوْلى. وفي المقابل هناك مَنْ أجاز وكالة الذمّي في الصورتين المذكورتين مطلقاً، من دون تفصيل([51]). كما منع السيد اليزدي من صدق السبيل في جميع هذه الفروض، والتزم بالجواز، ولكنه قال: إنْ كان ولا بُدَّ من المنع فلا بُدَّ من التفصيل بين الموارد التي تكون الوكالة فيها استيفاءً للحقّ وبين الموارد الأخرى التي يتحقّق فيها السبيل للكافر على المسلم، كما في الدعاوى التي يُراد إثباتها بالمرافعة، فمنعها في الفرض الثاني دون الأوّل؛ وذلك باعتباره القدر المتيقّن من الإجماع والآية، كما أن القدر المتيقّن منهما في نظره هو الحرمة التكليفية، لا بطلان الوكالة([52]). وأشكل عليهم أيضاً، مضافاً إلى عدم صدق السبيل في التوكيل، أنه لو التزمنا بالمنع للزم محذورٌ من ذلك، وهو لزوم المنع من مطالبة الذمّي بنفسه أخذ دينه أو حقّه من المسلم فيما لو كان له حقٌّ أو دَيْن، مع أنه لا إشكال في الجواز؛ كي لا يجب عليه أن يوكل المسلم.

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد:

أوّلاً: إنه لا مجال للاستدلال بالإجماع؛ لاحتمال مدركيته. ومن الملاحظ أن الشهيد الثاني قد فهم من عبارة المحقق الحلّي أن المقصود من المشهور ما كان في مقابل القول غير المشهور؛ حيث قال تعليقاً على حكم صور توكيل الذمي: «فمنها صورتان لا تصحّ الوكالة فيهما عندنا، وهما ما نسب المصنّف الحكم فيهما إلى المشهور، وفي التذكرة ادّعى الإجماع عليهما، وهما: وكالة الكافر على المسلم لكافرٍ أو مسلم…»([53]). وهذا اشتباهٌ منه&؛ لأن عبارة المحقق الحلّي ـ وهي كما يلي: «ولا يتوكّل الذمي على المسلم للذمّي، ولا للمسلم، على القول المشهور»([54]) ـ ظاهرةٌ في أن مقصودَه من المشهور القولُ المعروف، وهذا الإطلاق ليس بعزيزٍ في كلمات الفقهاء، كما يظهر لمَنْ تتبَّع كلماتهم، وخاصّة أنه نقل عن العلاّمة قوله بالإجماع على المنع في تذكرته، فتكون قرينة على ما ذكرناه من فهمه&.

ثانياً: عدم صدق السبيل المنفي في الآية على المسلم حتّى في فرض المرافعة مطلقاً، سواء كان الموكل مسلماً والوكيل ذمياً أم كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً؛ لكون سبيل الوكيل الذمي على المسلم يرجع في حقيقة الأمر إلى كونه سبيلاً للموكل لا أكثر، وإلاّ فليس هو إلا طريق وواسطة في تحقيق مراد المسلم والوصول إلى حقّه. ففي المرافعة غاية ما يقوم به الوكيل هو عرض أدلة الموكّل بطريقة واضحة توصل إلى الحقيقة لا أكثر، حيث إنه الأقدر والأجدر بذلك؛ لكونه من أهل الخبرة في هذا المجال عادةً. ولذلك وقع توكيله. هذا الجواب في صورة ما لو كان الموكل مسلماً.

وأما في الفرض الثاني فلا يتصور وجود سبيل للذمّي على المسلم مطلقاً، كما لو كان الموكّل ذمياً، فلا يخلو الفرض من أحد أمرين؛ إما ان يكون الذمي صادقاً في دعواه وصاحب حقّ؛ أو متعدّياً. فإنْ كان محقّاً في دعواه فهذا استيفاءٌ لحقّه، ولا فرق في ذلك بين أن يوكل ذمياً أو مسلماً؛ لأن هذا المورد ليس إلاّ صغرى من صغريات علوّ الحق على الباطل وإزهاقه، والذمّي ما هو إلاّ طريق ووسيلة وواسطة في الكشف عن الحق وإثباته على المسلم، وبالتالي لا خصوصية للموكل. وأما إذا لم يكن الذمي صاحب حقّ ومتعدياً في دعواه فلا تصح وكالته مطلقاً، وهي وكالةٌ باطلة في نفسها؛ لأنها متعلقة بإنجاز عمل محرّم وغير محترم في نفسه، سواء كان الوكيل مسلماً أو ذمياً، فيكون هذا المورد حينئذٍ صغرى من صغريات حرمة الظلم ومصداقاً من مصاديقه، وهو قبيحٌ شرعاً وعقلاً. فهذا هو الملاك في بطلان الوكالة، وليس البطلان من باب استلزامه علوّ للكافر على المسلم ووجود سبيل له عليه…

ثالثاً: على فرض تسليم الصغرى فلا وجه لما ذكره السيد اليزدي من التفصيل بين الحرمة التكليفية والوضعية، والاقتصار على الحرمة التكليفية دون الالتزام ببطلان الوكالة؛ لأن الوكالة هي مثالٌ ومصداق من مصاديق الولاية للكافر على المسلم. فالمسلم قام بتسليط الكافر على المسلم عندما قام بتوكيل الذمّي، وبالتالي تكون مشمولةً للنهي والنفي، ومقتضى ذلك بطلان الوكالة. كما أن مقتضاه بطلان الإجارة إنْ كان أجيراً ولا يستحقّ على فعله ـ فيما لو قام بالمرافعة ـ الأجرة مطلقاً، سواء كانت الأجرة المسماة في متن عقد الوكالة أو أجرة المثل. وإنْ شئتَ قلتَ: إن الفعل الذي قام به الكافر من المرافعة هو فعلٌ محرّم في ذاته في نظر الشارع؛ لكونه سبيلاً للكافر على المسلم، ومشمولاً للآية، فلذلك لا يستحقّ عليه الأجرة باعتباره عملاً غير محترم. ولتقريب الفكرة نمثِّل بما لو وكّل رجلٌ مسلم شخصاً لضرب رجل مسلم فإنه مأثومٌ في توكيله إيّاه، ولكنْ لو أقدم ذاك الرجل على ضرب المسلم فهل يستحقّ الأجرة باعتبار أنه قد عمل بمقتضى الإجارة مثلاً؟ وجوابه: إنه لا يستحق الأجرة لحرمة ذات الفعل، وهو الضرب، عقلاً. وما نحن فيه من هذا القبيل، حذو القذّة بالقذة([55]). والنتيجة أن وكالة الذمّي على المسلم محرَّمة شرعاً.

 نعم، قد يقال في مقام الدفاع عن السيد اليزدي بإمكان تصوير التفكيك بين الحرمة التكليفية والوضعية في المقام؛ وذلك بدعوى أن ما نحن فيه من قبيل: النهي عن البيع وقت النداء يوم الجمعة. فكما أنه لا يوجد ملازمة بين النهي التكليفي والصحة في هذا المورد كذلك في المقام، بأن يقال: إن نفس المرافعة هي أمرٌ جائز في حدّ ذاتها، ولكنْ بما أنها مرافعةٌ لكافرٍ على مسلم كانت محرَّمة لأمر عارض عليها، فإذا خالف المسلم ووكّل الكافر في المرافعة فإن غاية ما في الأمر أنه ارتكب حرمةً تكليفية، ولكنّ الوكالة صحيحة؛ لعدم وجود ملازمة بين الحرمة التكليفية والوضعية وإمكان التفكيك بينهما.

ولكنّ ما قيل ممنوعٌ؛ لأن متعلّق النهي هو نفس الوكالة في مرافعة الكافر على المسلم؛ لكونها مصداقاً ومثالاً للسبيل المنفيّ في الآية الكريمة. ولذا تكون مبغوضة لدى الشارع المقدّس، كما لا يخفى. وهذا بخلاف النهي عن البيع وقت النداء؛ فإن البيع شيء والبيع وقت النداء شيء آخر، فالنهي إنما تعلّق بالبيع في زمن معيّن، وهو وقت النداء، إلاّ أن البيع جائز ومستحب في حدّ نفسه، وبعبارةٍ أخرى: إن متعلق النهي البيع بما هو فعلٌ مزاحم لحضور الجمعة، لا بما هو بيعٌ في نفسه؛ كي يكون فاسداً، لذا أمكن تصوّر التفكيك بين الحرمة التكليفية والوضعية. بخلاف ما نحن فيه بالتقريب المتقدِّم. فليس متعلّق النهي هو النسبة الصدورية فحَسْب، بل الوكالة على نحو الاسم المصدري. فالمبغوض لدى الشارع نفس العلوّ والسبيل الخارجي، وإلاّ فنفس التوكيل في بعض الصور ليس إلاّ للحيلولة دون تحقيق العلوّ في الخارج، وكي يسدّ بذلك باب العلوّ أمام الذمّي.

ومنها: عدم ثبوت حقّ الشفعة للكافر فيما لو كان المشتري مسلماً. ولا فرق في ذلك بين أن يكون البائع كافراً أو مسلماً؛ لأن الالتزام بإثبات الحقّ له، ومنع المسلم من الشراء، وقهره على انتزاع الملك منه، من أظهر مصاديق الغلبة والسبيل والعلوّ للكافر على المسلم. ومن هنا نجد أنهم جعلوا الإسلام شرطاً في الشفيع في فرض كون المشتري مسلماً. وقد استدلّ على ذلك بالإجماع، كما صرّح الشيخ الطوسي، مضافاً إلى آية نفي السبيل، حيث قال: «دليلنا إجماع الفرقة المحقّة، وقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى…﴾»([56]). ولم أجِدْ مَنْ خالف في ذلك من فقهاء الإمامية. واختاره الإمام أحمد، ولكنْ لا لقاعدة نفي السبيل، وإنما استند إلى أدلّةٍ أخرى([57]).

ويلاحظ على ما أفيد: إن الإجماع الذي استدلّ به على نفي ثبوت حقّ الشفعة لكافرٍ في الفرض المذكور لا مجال للاستدلال به؛ لاحتمال مدركيته؛ حيث من المحتمل أن الفقهاء قد استندوا في فتواهم إلى آية نفي السبيل، فيسقط حينئذٍ عن الحجّية من هذه الجهة. ويبقى الاستدلال بالآية، وهو تامٌّ؛ لصدق السبيل والعلوّ للكافر على المسلم بالتقريب المتقدِّم.

ومنها: عدم ولاية الكافر على المسلم. وقد منع الفقهاء من ثبوت ولاية الكافر على المسلم مطلقاً، وحصروا الولاية على المسلم في المسلم، فجعلوا الكفر من مسقطات ولاية الأب على الولد المسلم. وهذا ممّا لا خلاف فيه عندنا([58])، بل عليه الإجماع، كما صرّح الفاضل الهندي، واستناداً منهم إلى قاعدة نفي السبيل وحديث نفي العلوّ. وقد طبَّقوا هذه القاعدة في جميع أنواع الولايات، بل ادّعى الفاضل الهندي الإجماع([59]). ونحن بدَوْرنا نقتصر على ذكر البعض منها:

أـ عدم اعتبار إذن الوالد الكافر في نفوذ نَذْر ولده المسلم، ولا قدرة له على حلّ نَذْره أيضاً. هذا كلّه بناء على اعتبار إذن الوالد في نفوذ نَذْر ولده المسلم وصحته، وقدرته على حلّ نَذْره. ولا يثبت للكافر الولاية في هذين الفرضين؛ لأن اعتبار الإذن في النفوذ والحقّ في الحلّ مصداق لسبيل الكافر على المسلم، وهما منفيّان بمقتضى عموم نفي السبيل والعلوّ.

ب ـ منع ثبوت الولاية للوالد الكافر على البكر الرشيدة المسلمة في عقد النكاح([60]). هذا بناءً على القول بثبوت الولاية للوالد المسلم على بنته الباكرة([61]). والظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الإسلام في الولاية، كما صرّح المحدِّث البحراني([62])، بل الأمر فيه واضحٌ، والحكم به إجماعيّ، كما صرّح الشهيد الثاني([63]).

بل نجد أن السيد محسن الحكيم يناقش في جميع الأدلة التي استدلّوا بها على نفي ثبوت الولاية للكافر على ولده المسلم، من الآية والحديث، مضافاً إلى الأحاديث الأخرى([64])، حيث يرى أن الآية غير دالّة على نفي السبيل مطلقاً، كما تقدَّم، بل يقول بإمكان انصراف السبيل عليه عمّا يكون لمصلحته وخدمته.

ولكنّه لم يتعرض لمناقشة الإجماع الذي ذكر في عداد الأدلة على نفي ولاية الكافر. ويمكن المناقشة في حجّيته باحتمال مدركيته؛ حيث من المحتمل جدّاً أنهم استندوا في مقام الفتوى إلى آية نفي السبيل؛ وحديث الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وحينئذٍ نبقى وهذه الأدلة؛ فإنْ كانت تامّة الدلالة فبها ونعمت، وإلاّ فلا مصير إلى نفي ولاية الكافر.

نعم، قد يقال في مقام توجيه كلام السيد الحكيم&: إن عدم المناقشة من قِبَله لا يعني القبول؛ فلعلّ عدم مناقشته لوضوح مدركيّته.

كما أن السيد الخوئي ناقش أيضاً في تمامية هذه الأدلة، وردّها، ومن ثمّ أقام دليلين على نفي ولاية الكافر على المسلم، وهما العمدة في نظره:

الأوّل: انصراف الأدلة عن مثل ذلك، بدعوى أن المتفاهم العرفي منها أن منشأ الولاية من جهة احترامهم وأداء حقوقهم. ومن الواضح أنها لا تشمل الكافر الذي قام الدليل على عدم موادّته، بل الابتعاد عنه.

الثاني: قاعدة الإلزام. فبما أن الكفار لا يلتزمون بالولاية على بناتهم الأبكار مطلقاً، وهذا ما يعرف عنهم من الخارج، فمقتضى القاعدة سقوط ولايتهم وإلزامهم بذلك.

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد: إنه لو كان منشأ ثبوت الحقّ للوالد على الولد في ولايته على تزويج البنت البكر، واشتراط إذنه في نفوذ نذره، وقدرته على حلّه، هو احترام الوالد لكان ذلك مطّرداً وفي جميع الحالات، أي حتّى فيما لو كانت البنت ثيّباً؛ وذلك لوحدة الملاك في الصورتين. ولا معنى لحصر الإذن في خصوص البنت البكر.

ثانياً: إن عدم وجوب احترام الوالد الكافر، فضلاً عن وجوب عدم موادّته، أول الكلام؛ لما دل من الذكر الحكيم على مطلوبية معاشرتهما بالمعروف، وهو قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا…﴾ (العنكبوت: 8)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ (لقمان: 15)، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

وأما النهي عن المودّة فهو خاصٌّ بمَنْ حادّ الله ورسوله، لا مطلق الكافر، كما صرّحت الآية الكريمة: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ…﴾ (المجادلة: 21).

ج ـ عدم جعله قيِّماً على صغار المسلمين. فقد منع الفقهاء من جعل الكافر قيّماً على صغار الملسمين ومجانينهم وسفهائهم، بل لا ولاية له على تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه فيما لو كان الميت ولداً أو والداً، فيكون حاله حال الأجنبي؛ والملاك في ذلك صدق عنوان السبيل على المسلمين في جميع هذه الأمثلة.

د ـ عدم تولية الكافر على الأوقاف الإسلامية، من قبيل: المعاهد العلمية والمدارس التي جعلت وقفاً على طلاب العلوم الدينية، والمستشفيات التي جعلت وقفاً على مرضى المسلمين، ونحو ذلك. والسرّ في عدم الجواز هو أن من طبيعة الولاية والسلطنة على الموقوف عليهم، من خلال تحديد زمن الخروج والدخول للموقوف عليهم، فيكون ذلك بإذنه واختياره، وهذا قهرٌ لهم وسبيل له، وهو منفيٌّ بالآية والرواية بلا إشكال([65]).

ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن هذه المسألة تنطبق على أمثلةٍ أخرى، ولا تنحصر في وقتنا الحاضر بالأوقاف، من قبيل: توليته المناصب في الدولة، من قبيل: الوزارة والنيابة وقيادة الجيش ورئاسة الجمهورية وغيرها من المناصب الأخرى.

ويمكن أن يلاحظ على ما أفيد: إن التولية هي عبارة عن أمرٍ نظامي بَحْت، وإلاّ فأيّ فرقٍ بين الطبيب الذي يعالج المسلم، ويجري له العملية الجراحية، وبين أن يكون متولّياً للأوقاف؟! أليس يصدق السبيل في هذا الفرض؟! أليس الجميع من باب واحد؟! بل في هذا الفرض السبيل يبدو أكثر وضوحاً وانطباقاً، مع أنه لم يتوقَّف أحد من الفقهاء في الجواز، بل جَرَت به سيرة المسلمين، على مرّ العصور، وعلى مرأى ومسمع من النبيّ والأئمة، ومع ذلك لم يردعوا عنه. إن غاية ما يقوم به الطبيب هو أنه يقرأ واقع حال المريض وما تتطلّبه حالته بمقدار خبرته وكفاءته، من دون أن يدخل بالحسبان الأمور الشخصية في تشخيصه للمرض، بل تخضع هذه الوظيفة للموضوعية، وقد يعتمد في بعض الأحيان على الحَدْس. وكذلك ما نحن فيه، فإن المتولي غاية ما يقوم به هو التصرُّف بما يتناسب مع مصلحة الوقف والموقوف عليهم من تحقيق الهدف المرجوّ لدى الواقف، من قبيل: تحديد وقت الدخول والخروج وغيرهما، فهو يقرأ لوح الواقع بما أوتي من خبرة، ولا فرق بين المسلم والكافر في ذلك.

إن الولاية على الوقف العائد للمسلمين هو تفويضٌ إما من المالك المسلم أو من الحاكم الشرعي، فمرجعه لولاية المسلم، لا ولاية الكافر. مضافاً إلى أن الولاية إجراءٌ نظاميّ؛ بغرض حفظ الوقف وتنميته، فهو سبيلٌ للمسلمين، وليس سبيلاً عليهم.

 وخلاصة ما نريد قوله: إن التولية عبارةٌ عن طريق ووسيلة تنظيمية لتحقيق الهدف والمصلحة التي لأجلهما أقدم الواقف على تسبيل ووقف العين على المسلم. وإلاّ فلا يحقّ للوليّ إدارة أمور الوقف بالنحو الذي يريد، ولو تشهياً منه، انطلاقاً من شخصانيته، كما لو كان لا يتوافق مع بعض المسلمين في السياسة وغيرها فلا يحقّ له منعه من الاستفادة من الوقف؛ لما هو معلوم من أن المعيار في تشريع أيّ نظام لا بُدَّ من أن يتناسب مع غاية الواقف. هذا، مضافاً إلى أنه لا يقال في نظر العرف: إن للكافر الوليّ سبيلاً وعلوّاً على المسلم في هذا الفرض، بل يقال: العلوّ والسبيل لنفس القانون الذي يضمن الحفاظ وتحقيق مصلحة المسلمين.

نعم، لا يقال: هذا ينسحب على سائر الولايات، كولاية القضاء والمرجعية الدينية وولاية الفقيه؛ لوحدة الملاك بينهما، لا يقال ذلك أوّلاً: لأن ظاهر الأدلة الخاصة اعتبار الإسلام في هذه الولاية؛ ثانياً: إنها ولاية في الشؤون الدينية، فلا يصحّ قياسها بالولاية في الشأن الدنيوي، كالولاية على الأوقاف؛ لاننا نعلم أن هذا لا يتناسب مع ذَوْق الشارع وأحكامه، وخاصّة بعد الاطلاع على أدلته: «مَنْ كان من الفقهاء، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلِّدوه»؛ ومقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله× ـ في حديثٍ طويل في رجلين بينهما منازعة في دين أو ميراث ـ قال: «ينظران إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضَوْا به حَكَماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادٌّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»([66]). فمن هذا كلّه نعلم بأنه لا يرضى بتولية غير المسلم لهذه الولايات، والله العالم بحقائق الأمور؛ لكونها خاصّة بالأمور الدينية.

هـ ـ الحضانة. منع الفقهاء من ثبوت حقّ الحضانة للأمّ الكافرة على الولد إذا كان مسلماً. واستدلّوا على ذلك، مع اعترافهم بعدم وجود نصّ فيه، بدليلين:

 أوّلهما: عموم آية نفي السبيل، باعتبار أن الحضانة ضربٌ من الولاية على الولد، بل حتّى على القول بأن الحضانة حقٌّ لا ولاية؛ لعموم نفي علوّ الكافر على المسلم، كما هو مفاد الحديث([67]).

 ثانيهما: إنه ينشأ على ما يألفه منها، لذلك لا حظّ لها في تربيته. ومن هنا جعل الفقهاء الإسلام شرطاً في ثبوت حقّ الحضانة. وهذا ما عليه الفريقان. نعم، خالف في ذلك الإمام مالك([68]). لذا قال الشيخ الطوسي: «وإنْ كان أحدهما مسلماً فالمسلم أحقّ به، عندنا وعند أكثرهم» ([69]).

إلاّ أنه يمكن أن يلاحظ على ما أفيد:

 أوّلاً: إن الآية واردةٌ في مقام الامتنان على المسلمين، وهم يلتزمون بذلك، فنجدهم يجوِّزون إجارة المسلم نفسه من الكافر وغير ذلك، مثل: القرض، بدعوى أن شمولها لهذه الموارد خلاف الامتنان([70]). وهنا أيضاً نقول: إن شمول الآية لمحلّ البحث خلاف الامتنان، أي إن فصل الولد عن أمّه ليس في صالحه. وبعبارةٍ أخرى: إن الموردين من باب واحد؛ لوحدة الملاك، فإمّا أن نمنع مطلقاً أو نجيز مطلقاً. ولا بُدَّ حينئذٍ من الالتزام بالتفصيل بين الولايات، لا المنع مطلقاً، فنقول: ما كان منها فيه مصلحة للمسلم فلا مانع منه، وأما ما لا مصلحة للمسلم فلا تثبت للكافر. وخلاصة الكلام: إن قرينة الامتنان تقتضي عدم شمول نفي السبيل لحضانة الكافر على الولد المسلم، لا شموله له بالنحو الذي يقتضي النفي والمنع.

ثانياً: إن الخوف من أن ينشأ على ما يألفه منها يمكن الحيلولة دونه؛ وذلك بأن يضمّ إليها امرأة مسلمة تعيش معهما، وتمنعها من ممارسة طقوسها الدينية أمام الولد، كي لا تنعكس في شخصيته.

وكيف كان فإنْ كان هناك ثمّة إجماع تعبّدي في المسألة، أو كانت من ضروريات الدين، فلا بُدَّ حينئذٍ من الالتزام بعدم ثبوت ولاية الكفّار على المسلمين، وإلاّ فلا مجال للمنع من ذلك. نعم، مع هذا كلّه لا يترك الاحتياط بالتصالح بين الطرفين.

خاتمةٌ واستنتاج

وقد ظهر لك ممّا تقدَّم من المناقشة في الأدلة التي ذكرت في مقام الاستدلال على القاعدة عدم نهوض أكثرها في إثبات المدّعى، باستثناء آية نفي السبيل، التي تفيد عدم جعل أيّ حكمٍ شرعي بحيث يكون موجباً وسبباً لعلوّ الكافر على المؤمن، بل لوحظ في عالم التشريع علوّ المسلم على الكافر. وأمّا الأدلة الأخرى فلم تنهض في إثبات المدّعى؛ إما لقصور في السند؛ وإما لقصور في الدلالة.

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلميّة. من لبنان.

([1]) الخميني، كتاب البيع 2: 725.

([2]) النجفي، جواهر الكلام 21: 136.

([3]) المراغي، العناوين الفقهية 2: 253.

([4]) البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 191.

([5]) الأنصاري، كتاب المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3: 575.

([6]) ابن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن: 487 ـ 488.

([7]) الأنصاري، كتاب المكاسب 3: 585.

([8]) الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 14: 483.

([9]) الخوئي، مصباح الفقاهة 5: 82.

([10]) اللنكراني، القواعد الفقهية 1: 242.

([11]) الآملي، المكاسب والبيع (تقرير بحث المحقق النائيني) 2: 345؛ البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 190.

([12]) البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 189؛

([13]) ابن عربي، أحكام القرآن 1: 640.

([14]) الكاشاني، تفسير الصافي 1: 406.

([15]) عيون أخبار الرضا× 1: 219، باب 46، ح5.

([16]) رجال ابن الغضائري: 45؛ حيث قال: «تميم بن عبد الله القرشي الذي يروي عنه أبو جعفر بن بابويه ضعيفٌ». وراجِعْ: معجم رجال الحديث 4: 285.

([17]) العلاّمة الحلّي، خلاصة الأقوال: 209

([18]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 334، باب ميراث أهل الملل، ح5719. وقد رواه البخاري في الصحيح 2: 96، ولكنْ من دون ذكرٍ للذيل.

([19]) الأنصاري، المكاسب 3: 582؛ البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 190.

([20]) الطوسي، المبسوط 8: 71.

([21]) الطوسي، الخلاف 4: 24.

([22]) اللنكراني، القواعد الفقهية 1: 243 ـ 244.

([23]) الحُرّ العاملي، الوسائل 26: 14، باب 1 من أبواب موانع الإرث من الكفر والقتل والرقّ، ح11.

([24]) المصدر السابق: 125، باب 15 من أبواب أن الأخ الكافر لا يحجب ولا يرث، ح2.

([25]) النووي، شرح مسلم 11: 52، كتاب الفرائض؛ المباركفوري، تحفة الأحوذي 6: 241؛ العظيم أبادي، عون المعبود 8: 86.

([26]) الخميني، كتاب البيع 2: 725 ـ 726.

([27]) المصدر نفسه.

([28]) الخوئي، مصباح الفقاهة 5: 82.

([29]) الحكيم، المستمسك 14: 483.

([30]) الأنصاري، كتاب المكاسب 4: 143، قاعدة نفي السبيل.

([31]) المراغي، العناوين الفقهية 2: 353.

([32]) البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 190.

([33]) اللنكراني، القواعد الفقهية 1: 245 ـ 246.

([34]) اليزدي، حاشية المكاسب 1: 31.

([35]) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 752، حيث جعله الاحتمال الثالث، فقال: «علوّ حجّته وسموّ برهانه، لأن حقيقة الإسلام مستندة إلى الحجج الواضحة والبراهين اللائحة، بحيث يفهمها كلّ عاقل مميّز حتّى الصبيان، ويتّضح ذلك جليّاً لمَنْ يلاحظ الآيات وكيفية الاستدلال على المبدأ والمعاد وغيرها، ببيان واضح، دون حاجة إلى مقدّمات بعيدة، بخلاف سائر الأديان؛ فإنها تبني على خيالات واهية، وتوهّمات بارزة تشبه أضغاث أحلام».

([36]) اليزدي، حاشية المكاسب 1: 31.

([37]) الأنصاري، كتاب المكاسب 4: 143.

([38]) الخوئي، مصباح الفقاهة 5: 82.

([39]) اللنكراني، القواعد الفقهية 1: 246.

([40]) المصدر السابق 1: 242.

([41]) البجنوردي، القواعد الفقهية 2: 119.

([42]) ابن العلاّمة، إيضاح الفوائد 1: 413.

([43]) نهاية الأحكام في معرفة الأحكام 2: 415.

([44]) كما في: الشهيد الثاني، المسالك 3: 167؛ الكركي، جامع المقاصد 4: 63؛ الأنصاري، كتاب المكاسب 3: 5 88.

([45]) كما في: الشهيد الأول، الدروس الشرعية 3: 199، كتاب البيع ـ في شرائط المتعاقدين.

([46]) اليزدي، العروة الوثقى 6: 210.

([47]) ابن زهرة الحلبي، غنية النـزوع: 268.

([48]) العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 2: 117.

([49]) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام 2: 432.

([50]) المفيد، المقنعة: 817؛ الطوسي، النهاية: 317؛ ابن إدريس، السرائر 2: 91؛ سلاّر بن عبد العزيز، المراسم العلوية: 204.

([51]) النجفي، جواهر الكلام 27: 396؛ البحراني، الحدائق الناضرة 22: 61؛ الخوانساري، جامع المدارك 3: 487.

([52]) اليزدي، العروة الوثقى 6: 210.

([53]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 5: 269 ـ 270.

([54]) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام 2: 432.

([55]) حذا: حذوت النعل بالنعل حذواً إذا قدرت كلّ واحدة على صاحبها يقال: حذو القذّة بالقذة. انظر: الجوهري، الصحاح 6: 231. يضرب هذا المثل في مقام بيان المساواة بين أمرين.

([56]) الطوسي، المبسوط 3: 106؛ المرتضى، الانتصار: 45 2؛ سلاّر بن عبد العزيز، المراسم العلوية: 184؛ العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 12: 212.

([57]) النووي، المجموع 14: 303 ـ 314؛ ابن حجر، فتح الباري 4: 360؛ عبد الكريم الرافعي فتح العزيز 11: 400؛ الشرح الكبير 5: 543.

([58]) الكركي، جامع المقاصد 12: 106.

([59]) الفاضل الهندي، كشف اللثام 7: 67.

([60]) ابن البرّاج، المهذب البارع 2: 194؛ ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 300، العلاّمة الحلّي، التذكرة 2: 115؛ قواعد الأحكام 3: 578؛ ابن العلاّمة، إيضاح الفوائد 4: 554؛ الخوئي، كتاب النكاح 2: 311.

([61]) الطوسي، المبسوط 7: 289؛

([62]) البحراني، الحدائق الناضرة 23: 267.

([63]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 7: 166 ـ 167.

([64]) الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 14: 482 ـ 483.

([65]) اللنكراني، القواعد الفقهية 1: 256؛ البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 205.

([66]) الحُرّ العاملي، الوسائل 1: 34، باب 2 من أبواب مقدّمة العبادات، ح12.

([67]) النجفي، جواهر الكلام 31: 412.

([68]) الإمام مالك، المدونة الكبرى 2: 356.

([69]) الطوسي، المبسوط 6: 40.

([70]) الحكيم، نهج الفقاهة: 316.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً