أحدث المقالات

د. هيثم مزاحم(*)

 

تمهيد

هو تأليف الدكتور طارق رمضان، وترجمة أمين الأيّوبي، الناشر: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2010م.

والدكتور طارق رمضان هو مفكِّر إسلاميّ سويسري من أصل مصريّ، هو حفيد مؤسِّس «حركة الإخوان المسلمين» المصريّة الإمام حسن البنا من جهة أمّه، ووالده سعيد رمضان أحد قادة الإخوان، الذي هاجر إلى سويسرا بعد اغتيال البنّا واضطهاد الإخوان في مصر. وطارق رمضان هو في الوقت الراهن أستاذ الدراسات الإسلاميّة المعاصرة في كلية اللاهوت في جامعة أكسفورد. وقد تعرَّض رمضان لحملة اتّهامات غربيّة، فقد صدر كتاب أمريكيّ مؤخَّراً ضد رمضان وإصلاحاته ومقارباته، وعنوانه: هروب المثقَّفين، لبول بيرمان (2010م). ويزعم بيرمان أنّ طارق رمضان أصوليّ مستتر، فلا ينبغي الاغترار بنقده الظاهر للأصوليّين، ولا تمسُّكه القويّ بالمواطنة وحقوق الإنسان. وأدلّته على ذلك أنّ رمضان لا يزال مسلماً، وإن يكن غير عنيف!، وأنّه يعتنق منظومة أخلاقيّة إسلاميّة، هي غير المنظومة الليبرالية الغربيّة، وأنّه حليف مخلِصٌ للأصوليّة، يهدف للدفاع عنها، من طريق الحملة على الغرب، بحجّة المظالم والاستعمار والعولمة.

وقد شبَّه بعض الكتّاب الغربيّين رمضان بـ (مارتن لوثر). ففي عام 2002م عنون بول دونلي لحواره مع الدكتور طارق رمضان بـ «مارتن لوثر الإسلام؟». وقد سوَّغوا هذا الربط بين رمضان ومارتن لوثر بأنّ «طارق رمضان يتحدّى الآراء الإسلاميّة السائدة»، وربطوا بين دعوته إلى قراءة القرآن قراءة سياقيّة وبين ما خلَّفه لوثر من ميراث فكريّ.

وكان رمضان قد طالب في العام 2005م بإيقاف تطبيق الحدود الشرعيّة (العقوبات الجسديّة والرجم والإعدام)؛ لأنّ هذه العقوبات بحسب قوله: «لا تطبق غالباً إلاّ على النساء والفقراء، أمّا الأغنياء والأقوياء والظالمون فهم منها في مأمن دائم». وقوبلت هذه الدعوة بالنقد، ورفضتها لجنة البحوث الفقهيّة في الأزهر الشريف؛ باعتبار أن الحدود منصوصٌ عليها، وتعدّ نصوصاً لا تحتمل التعطيل. كما أثارت ردود أفعال غاضبة من قبل بعض العلماء المسلمين.

وقد عبَّر رمضان في مقدّمة كتابه «الإصلاح الجذريّ: الأخلاقيّات الإسلاميّة والتحرُّر»، الصادر باللغة العربيّة مؤخَّراً عن الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بعدما صدر في العام 2009م بالإنجليزية، عن خيبة أمله إزاء هذه الردود، و«نقص الحوار النقديّ الهادئ»، الذي وصفه كـ «أحد الشرور التي تقوِّض الفكر الإسلاميّ المعاصر».

ورمضان كمفكِّر مسلم أوروبيّ حاول من خلال إصدار هذه الدعوة أن يبحث عن مكان للمسلمين الأوروبيّين داخل أوروبا. وردود الفعل الإسلاميّة الغاضبة على هذه الدعوة تبرز المعضلة التي يواجهها المفكِّرون المسلمون، فهم بين قطبَيْ رحى الاتّهام الغربيّ بالإرهاب والتطرّف والاتّهام الإسلاميّ بالاعتدال المفرط، أو الفرنجة. ومن المفارقات الغريبة أن وُجِّه إلى رمضان الاتهامان على السواء.

 

خطاب الإصلاح والاجتهاد

يقول رمضان في مقدّمة كتابه «الإصلاح الجذريّ»: إنّ صحوة الفكر الإسلاميّ تقتضي بالضرورة التوفيق بين بعده الروحيّ من ناحية، والالتزام المتجدِّد والقراءة المتأنّية والتحليليّة (أي الاجتهاد) للمصادر الدينيّة في ميادين الفقه والشريعة من ناحية أخرى. ويرى أنّه وصلنا إلى نهاية الدورة التي تمكّن من التفكير من خلال النهضة بتفسير متجدِّد للمصادر الدينيّة، على أن يتمّ التمييز بين الشريعة (السبيل إلى بلوغ الإيمان بما في ذلك النظام القضائيّ) والفقه، وبين المبادئ العامّة والخاصّة، وبين الأعراف غير القابلة للتغيير (الثوابت) وبين الأعراف القابلة للتغيير (المتغيرات). ولذلك يتعيَّن عليه المضي إلى ما هو أبعد من ذلك، وإثارة مسألة مصادر أصول الفقه، والفئات التي تنقسم إليها، والمنهجيّات الناتجة منها، وأخيراً طبيعة السلطة التي تمنحها هذه العناصر كافّة للعلماء (وخصوصاً الفقهاء). وهذه خطوة جديدة يخطوها رمضان في كتابه الجديد، والهدف منه هو إعادة النظر في أدوات الفقه ومضامينه التاريخيّة الملموسة، فضلاً عن مصادره وتصنيفها، وطرقه في الوقت نفسه، ومدى سلطته، وطبيعة المقاربات التي اعتمدت على مرّ تاريخ هذا العلم (أصول الفقه).

يخاطب رمضان في كتابه المجتمعات الإسلاميّة في الشرق والغرب على السواء، ويدعوهم إلى إصلاح جذريّ قائم على التحوُّل، ويقترح مقاربة منهجيّة جديدة لمصادر الفقه الإسلاميّ؛ بهدف مواكبة التطوّرات الاجتماعيّة والعلميّة. ويوضِّح أنّ هذه المقاربة هي ثمرة عشرين عاماً من القراءة والكتابة والزيارات الميدانيّة، والتأمُّل والتساؤل عن طبيعة الأزمات والصعوبات والعيوب التي أصابت الفكر الإسلاميّ المعاصر بالشلل، إضافةً إلى الخبرات المتراكمة الناتجة عن متابعته الدؤوبة للعلوم الإسلاميّة ومفاهيم الحداثة و«مجتمعات الأغلبيّة والأقلّيّة المسلمة».

يتساءل رمضان: لماذا فشل الرجوع إلى الاجتهاد، وهو الأمر الذي جرت المطالبة به على مدى فترة طويلة من الزمن، في ولادة التجديد المنشود؟ ويتساءل عن الأسباب التي حالت دون تحقيق الاجتهاد للأهداف التي رسمها لنفسه، وتلك التي جعلت الفكر الاجتهادي يترك مكانه للمقاربات الضعيفة المتردِّدة، التي لا تنظر إلى الإصلاح إلاّ من زاوية التكييف مع متطلَّبات عالم اليوم، من دون التسلُّح بإرادة وقوّة تحويل الأشياء وتغييرها.

 

اقتراحات ثلاثة

ويتضمَّن الكتاب ثلاثة اقتراحات أساسيّة، هي:

أوّلاً: يتعيَّن على العالم الإسلاميّ المعاصر، في الشرق والغرب على السواء، إعادة النظر في شروط العمليّة الإصلاحيّة: الإصلاح؛ والتجديد، ووسائلها. يقول رمضان: «من المهمّ التمييز بين «الإصلاح القائم على التكيُّف»، الذي يتطلَّب فكراً دينيّاً وفلسفيّاً وقانونياً لمجرد التكيُّف مع التطوّرات التي تشهدها المجتمعات والعلوم والعالم، و«الإصلاح القائم على التحوُّل»، والمتسلّح بالوسائل الروحيّة والفكريّة والعلميّة للتعامل مع الواقع، والإبحار في ميادين المعرفة كافّة، استعداداً لمواجهة التحدّيات الاجتماعيّة والسياسيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة.

وهو يقترح ثانياً إعادة النظر في محتويات أصول الفقه، وطبيعة مصادره؛ إذ ليس كافياً الاعتماد على المصادر النصّيّة لمعاينة العلاقة بين المعرفة الإنسانيّة (الدين، الفلسفة، العلوم التجريبية والإنسانيّة، إلخ) والأخلاق التطبيقيّة، حيث «يتعيَّن دمج الكون والطبيعة والمعرفة المرتبطة بما تقدّم في العمليّة التي يمكن من خلالها تحديد الغايات السامية والأهداف الأخلاقيّة للإسلام، أي مقاصد الشريعة».

والنتيجة التي ستتمخض عن ذلك مهمة، وتوصل إلى اقتراحه الثالث، وهو «إزالة مركز الثقل (السلطة) عن المرجعيّة الإسلاميّة العلميّة، عبر تصنيف أوضح لمؤهّلات العلماء في الميادين المختلفة وأدوارهم». ويرى رمضان أنّه يتعيَّن أن يتعاون علماء النصوص (علماء الدين) مع علماء الواقع (العلوم التجريبية والإنسانيّة) من الآن فصاعداً، وعلى قدم المساواة؛ من أجل إطلاق عجلة هذا التغيير الذي ننشده.

فالاقتراح الأوّل يعني إعادة قراءة مفهوم الإصلاح ذاته، بحيث يتمّ فهم الإصلاح فقط على كونه «توأمة مع الواقع»، ودعم هذا الفهم الجديد بكلّ الأدوات الروحيّة والعلميّة والثقافيّة المتاحة. وهو لا يستقيم من دون الاقتراح الثاني، وهو إعادة النظر في جغرافيّة أصول الفقه ومصادره وتصنيفاته، والعمل على دمج المعارف الإنسانيّة والأخلاق التطبيقية، التي يمكن من خلالها تحديد غايات الإسلام السامية (مقاصد الشريعة).

 

فقه المقاصد

ويرى المفكِّر رمضان أنّ هذا الأمر يتيح الأخذ بعين الاعتبار الربط بين «فقه الواقع» و«فقه الدين»، واعتماد «فقه المقاصد» كأحد الأركان التي يقرأ بها النصّ القرآنيّ، أي «إعادة النظر في مسألة أولوية العالم الدينيّ على العالم الدنيويّ، والنظر إلى أن العالمين في مستوى واحد من التقدير في ما يخصّ تبنّي الفقه المقاصدي، باعتباره أحد أصول فهم النصوص الدينيّة».

ويضرب رمضان العديد من الأمثلة التي تثبت ما وصفه بالهوس بتفاصيل الحلال والحرام لدى العديد من التيّارات الدينيّة، دون النظر في مقاصد الشرع من التحليل والتحريم. ومن ذلك: علاقة المسلم ببيئته، وخاصّة الحيوانات؛ «فكثير من المسلمين يغطسون في تفاصيل ذبح الأضحية، في حين أن الطريقة التي تعامل بها الأضحية بشكل فعليّ هي إهانة لكرامة الحيوانات التي حثّ الإسلام على صيانتها».

وعمليّة فهم النصوص عن طريق السياق لا تستقيم بالنسبة لطارق رمضان من دون الأخذ بالاقتراح الثالث، وهو تقاسم سلطة فهم النصّ بين علماء النصوص وعلماء الواقع، أي إعادة مراجعة مفهوم «تركّز السلطة المعرفيّة» في يد رجل الدين، إلى تقاسمه والتعاون في تطبيقه بين رجال الدين وعلماء الفيزياء والطبّ والهندسة والجغرافيّا وغيرها من التخصُّصات، وذلك من خلال الرسم الدقيق للكفاءات والتخصُّصات والأدوار المنوطة بهم في مختلف المجالات؛ من أجل تحقيق الإصلاح الجذري، وإعادة تأويل النصوص الدينيّة.

وقال رمضان: إنه وضع نظريّته «الإصلاح الجذريّ للفكر الإسلاميّ» من أجل فهم الواقع، واللحاق بركب التطوّر العالميّ، بعد أن «فشلت» دعوات الإصلاح التي تلاحقت في السنوات العشرين الأخيرة في تحقيق هدفها. وبرَّر رأيه حول «فشل» هذه الدعوات بأنّها لم تتضمَّن «الخلق والقدرة على رؤية المستقبل»، فضلاً عمّا يعترض مفهوم الإصلاح ذاته من اتّهامات بأنّه مصطلح ذو جذور غربيّة مسيحيّة، أو رمي من يريدون الاستعانة بالحداثة الغربيّة في تطبيقه على أرض الواقع بأنّهم يريدون «أسلمة الحداثة». وقد توقَّع أن تثير نظريّته حول الإصلاح الجذريّ للفكر الإسلاميّ، وعلاقة الفقيه بواقعه وببقيّة العلماء التجريبيّين والإنسانيّين، الكثير من الانتقادات له حول أهليّته العلميّة الإسلاميّة لوضعها وطرحها أمام الجميع.

ويقرّ المؤلّف بصعوبة التغيير؛ لأنّ التغيير يفرض مراجعة التصنيفات المعياريّة القديمة، التي أقامها المسلمون، وهو ما يعني بشكل أدقّ مراجعة ما صنَّفه علماء الأصول في مصادر الفقه عبر مختلف المدارس. ينبغي إذاً اعتبار الكون والعلوم المرتبطة به مصادر موضوعيّة وضرورية للفقه الإسلاميّ؛ إذ لا يمكن الاكتفاء بالتفيّؤ القديم، الذي ما زال يحتفظ بعلاقات سلطة وهيمنة تمنع من فرض الإصلاح الذي يفرض نفسه اليوم من خلال تشبُّثه بالإحالة على حقيقة علميّة ومعرفيّة صارت متجاوزة اليوم.

إلاّ أنّ السؤال الذي يتوقَّف عنده رمضان هو: مَنْ الذي في مقدوره أو من صلاحيّته القيام بالإصلاح المنشود؟ ولمحاولة الإجابة عن السؤال يعود المؤلِّف إلى الحديث النبويّ الذي يتَّحدث عن ظهور مَنْ يجدِّد الدين كلّ مائة عام. وفي تأمّله لهذا الحديث يذكر بأنّ مثل هذه الإحالة على الزعامة، وانتظار الزعيم أو الزعماء، غالباً ما تكون له نتائج عكسيّة للمنتظر منه، وهو ما يعني في الوقت ذاته أنّ التشبث بفكرة الزعامة يعكس حالة عجز الأمة، التي لا يمكن الخروج منها إلاّ بحضور هذا «الزعيم»، أو هذا «المثقَّف»، أو هذا «العالم»، وتُبعد الأمة عن تحمل مسؤوليّاتها، وتجرّدها من الثقة في كفاءتها. وينبِّه المؤلِّف إلى أنّ قراءة ذلك الحديث غالباً ما تكون جزئيّة. فالحديث يركِّز على عامل الزمن؛ إذ إن الإحالة على مائة عام تعبِّر عن فكرة التطوُّر والفترات والأزمات التي ستمرّ منها حتماً المجتمعات الإسلاميّة.

وشخَّص رمضان عمليّات الإصلاح والاجتهادات التي يقوم بها العديد من العلماء المسلمين في السنوات الأخيرة بأنّها «إصلاح دفاعيّ غير مبنيّ على إصلاح حقيقيّ ورغبة في تغيير الواقع، ولكنّها تسعى إلى مهادنة الواقع والاندماج فيه، ومواكبة تطوّره، لا أكثر ولا أقلّ، إضافةً إلى تلبية الحاجة والضرورة».

 

أقسام الكتاب

يتألَّف الكتاب من: مقدّمة؛ وأربعة أقسام مختلفة. تعالج الأقسام الثلاثة الأولى الجانب النظريّ، وتحدّد إطار العمل الذي يتمّ التعاطي مع الحالات العمليّة من خلاله في القسم الرابع.

في القسم الأوّل يقوم بمعاينة المصطلحات، وتفسير طبيعة الإصلاح الذي يتحدّث عنه.

في القسم الثاني يقوم المؤلِّف بالتعريف بالمدارس الكلاسيكيّة الرئيسيّة الثلاث التي بيَّنت أصول الفقه، وهي: المدرسة الاستدلاليّة (المذهب الشافعي)، والمقاربة الاستقرائية (المذهب الحنفي)، ومدرسة المقاصد (الجويني والشاطبي).

أمّا القسم الثالث فيتناول «جغرافيّة جديدة لأصول الفقه»، ويقارب أربعة مواضيع في أربعة فصول، هي: «تحديد مصادر أصول الفقه الإسلاميّ»؛ و«الواقع باعتباره مصدراً فقهيّاً»؛ و«التعقيد المتنامي للواقع»؛ ثمّ «التوسُّع بأخلاق إسلاميّة تطبيقيّة».

ويتضمَّن القسم الرابع، الذي خصَّصه المؤلِّف لـ «دراسات حالة»، ستّة فصول، تعالج «الأخلاق الإسلاميّة والعلوم الطبية»؛ و«الثقافة والفنون»؛ و«المرأة: التقاليد والتحرُّر»؛ و«البيئة والاقتصاد»؛ ثمّ «المجتمع، والتعليم، والسلطة»؛ فـ «الأخلاق والعموميّات».

 

تعريف الإصلاح المنشود

يوجِّه رمضان في كتابه جلّ جهوده إلى إشكاليّة تعريف «الإصلاح»، ويتبنّى أحد نماذجه. ويميِّز بين «إصلاح التكيُّف»، الذي لا يعوزه إلاّ بعض الأدوات لمسايرة العصور الحديثة، و«إصلاح التحوُّل»، الذي يزوِّد نفسه بالطرائق المختلفة لإتقان جميع المجالات المعرفيّة، وليتمكَّن من التعامل المسبق مع التعقيدات الناجمة عن التحدّيات. ويعود رمضان إلى مختلف التأويلات التي ناقشت مفهوم الإصلاح، فيذكر أنّ بعض العلماء رفضوا هذه الكلمة؛ لأنّها تنطوي على أخطار ثلاثة. فالبعض يعتبر أنّ الكلمة تعني تغيير طبيعة الإسلام من أجل تكييفه مع الحقبة المعاصرة، والبعض الآخر يرى في «الإصلاح» معطىً أجنبيّاً، ومقاربة مستوردة من التقليد المسيحيّ؛ من أجل أن يكيّف الإسلام مع نفس المسار الذي مرّت منه المسيحيّة، ويصبح فاقداً لروحه وكنهه. وبعضٌ ثالث يستند إلى التعاليم الكونية للإسلام التي لا ترتبط بزمن معيَّن، بل هي صالحة لكلّ زمان ومكان، وبالتالي فالإسلام لا يحتاج إلى «إصلاح».

إلاّ أنّ رمضان يوضِّح أنّ النيّة في حماية الإسلام من التأثيرات الدخيلة لا يبرِّر التخلّي عن المقاربة النقديّة. وفي سياق توضيحه هذا يعرِّج رمضان على مفهوم التجديد في علاقته بالإصلاح ومفهوم «الإحياء»، كما هو عند أبي حامد الغزالي، ويقدِّم «التجديد» على أنّه مفهوم يتواجد بشكل كبير في الأدبيّات الإسلاميّة المعاصرة، وبشكل متكرِّر منذ ما يقارب 150 سنة، وأنّ الكلمة توجد في حديث نبويّ يقول: «إن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة مَنْ يجدِّد لها دينها». والتجديد كما فهمه العلماء الأوّلون هو تجديد قراءة النصوص وفهمها على ضوء مختلف السياقات التاريخيّة الثقافيّة للأمّة والمجتمعات الإسلاميّة. وهو ما يعني، حسب المؤلِّف، أن ليس هناك إخلاص للمبادئ الإسلاميّة عبر الأزمنة دون تطوّر، أو إصلاح أو تجديد للفهم والإدراك. وهو نفس المعنى الذي يحمله مفهوم «الإصلاح»، كما هو في القرآن وفي بعض الأحاديث النبويّة.

وعلى مستوى المناهج المتَّبعة عند مختلف التيّارات والمذاهب يركِّز رمضان على أنّه كما هو الشأن بالنسبة إلى ضرورة توخّي الدقّة في بعض مستويات الجدال مع بعض التيّارات «العقلانيّة» فإنه من الضروري أيضاً التساؤل حول القبليات المنهجيّة المعتمدة عند بعض التيّارات المعاصرة، التي تعتبر نفسها الأحقّ بصفة «السلفيّة»؛ إذ تميل إلى التطرُّف، وتبنّي أحادية التأويل، وحصر جميع مجالات الدراسة والمنهجيّات في مستوى واحد، بدعوى أنّ القرآن باقٍ وأبديّ. ويُطرح كذلك مفهوم «الاجتهاد»، الذي يقضي بالتشجيع على القراءة النقديّة للنصوص عندما تكون هذه الأخيرة قابلة للانفتاح على التأويل. إلاّ أنّ الجدال حول إمكانيّة الاجتهاد ومعناه وحدوده كان، وما يزال، قويّاً، دون أن يحدّ هذا الأمر من التشكيك في المفهوم.

ويعود رمضان ليتعامل مع هذه التوجُّسات من خلال التراث الإسلاميّ نفسه؛ إذ راح يؤكِّد وجود الفكر النقديّ في هذا التراث، وأشار إلى تبنّي علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم لهذا الفكر منذ البداية؛ وأضاف: «إنّ الجدال الذي دار بين هؤلاء العلماء لم يكن عن شرعيّة هذا الفكر بقدر ما كان على قواعد وحدود صياغته في الواقع».

 

ماهيّة الاجتهاد

ويتوقَّف الكاتب عند شروط الاجتهاد، كما عرفت عند العلماء المسلمين. فالاجتهاد لا يمكنه أن يكون إلاّ على ضوء المعرفة بالرسالة الشاملة، وبمختلف مستويات الخطاب، وتصنيفات العلوم والمناهج وقواعد النحو والصرف ومعاني المفردات. فالاجتهاد لم يكن أبداً تأويلاً حرّاً للنصوص من قبل الأشخاص الجاهلين بالعلوم الإسلاميّة، والمعايير التي تفرض نفسها على المتخصِّصين في النصوص. ويبرز هنا الدور الذي قام به الكثير من العلماء المسلمين، الذين حاولوا الاجتهاد لإيجاد الأجوبة المناسبة، وأحياناً الجريئة، على مختلف الأسئلة. واعتبر المؤلِّف أن تجاهل المجهود الذي قام به هؤلاء يدخل في باب عدم الاحترام الواجب لهم، وأنّ التصالح مع هذا الإرث هو أفضل طريق نحو المستقبل.

في تمهيده للحديث عن المذاهب الفقهيّة التي شهدها الإسلام في فترات لاحقة عن الفترة النبويّة يتوقَّف المؤلِّف عند بواعث ظهور هذه المذاهب، والتي لخَّصها في التطوُّر الزمنيّ، الذي باعد المسافة الفاصلة بين المسلمين والعهد النبويّ وعهد التابعين؛ إذ اختلفت التأويلات، وتعدَّدت القراءات، فصار لزاماً على الأئمّة الكبار أن يحدّوا من هذا التنوُّع لمصلحة وحدة وتوحُّد الأصل، والتحكُّم في المعاني.

 

المقاربة الكلاسيكيّة لأصول الفقه

وفي تعريفه لمختلف المذاهب الفقهيّة يأتي رمضان على ذكر العديد من الفقهاء والعلماء والتيّارات الفقهيّة والمدارس التي كان لها دور كبير في بلورة مفهوم «التجديد» عبر الحقب التاريخيّة. فيعرض بعمق نافذ للمقاربات الكلاسيكيّة في أصول الفقه: المقاربة الاستدلاليّة التي قام بها الشافعي في كتابه «الرسالة في أصول الفقه»، ومن ثم المقاربة الاستقرائيّة التي آثرها تلامذة الإمام أبي حنيفة، استناداً إلى مسائل شيخهم الكبير، وأخيراً المقاربة المقاصديّة التي تطوّّرت لدى الفقهاء بين الجويني(478هـ)، والشاطبي(790هـ). بعد هذه القراءة الموجزة، لكن العميقة، للمنظومات الكلاسيكيّة في التأصيل الفقهيّ عرض رمضان منظومته الخاصّة القائمة على ثلاثة مبادئ: الكون المنظور، والكون المسطور (القرآن الكريم والسنّة)، والواقع. ولأن سقف المنظومة لديه أخلاقيّ؛ فإنّ هذا التصوُّر الجديد نجمت عنه تطبيقات أو رؤى لوجوه الإنجاز والقصور في الأعمال الفقهيّة الحديثة والمعاصرة، مرئية في ضوء حركية الأصول القديمة، والاحتياجات والكشوف المعاصرة. لقد درس إذاً موضوعات: الأخلاق الإسلاميّة والعلوم الطبية؛ والثقافة والفنون؛ وقضيّة المرأة، مسلمة وغير مسلمة؛ والبيئة والاقتصاد؛ والمجتمع والتعليم والسلطة. ثم عاد في الخاتمة لوضع تلك القضايا جميعاً تحت السقف الأخلاقيّ لأهداف الدين وغاياته.

 

الإمام الشافعيّ

في سياق المخاوف والهواجس حيال كيفيّة المحافظة على الإرث الإسلاميّ عمد الإمام محمد بن إدريس الشافعي(204هـ/820م) إلى إعداد تصنيف أوّليّ للمصادر الإسلاميّة، وقام بذلك على مراحل عدّة.

ولد الشافعي على الأرجح في غزة في العام 150هـ/767م، وانتقل إلى مكّة وهو في عمر العاشرة. وفي تلك الفترة كان العراق والحجاز مركزَيْ الفقه الإسلاميّ. تأثَّر فقهاء العراق بالإمام أبي حنيفة(150هـ/767م)، وعرفوا بمدرسة أهل الرأي؛ لتبنيهم القياس، في حين تبع فقهاء الحجاز الإمام مالك بن أنس، وعرفوا بأهل الحديث، واعتبروا أنفسهم حماة الدين في وجه ما اعتبروه تفريطاً من قبل فقهاء العراق؛ بسبب استخدامهم المفرط للقياس، أو لتعليل تحليليّ مستقلّ عن النصوص ومتجاوز له (الاجتهاد). ولذلك أصرَّ الإمام مالك بن أنس على تقديم القرآن على سائر المصادر الفقهيّة الأخرى، يليه مباشرة سنّة النبيّ وأقوال صحابته، الذين عاشوا في مكّة أو المدينة. وقد علَّق الإمام مالك، الذي انتقد الفقهاء الأحناف؛ لأنهم في نظره متهاونون بسنّة النبي، أهمّيّة على الشرط المنهجيّ المتمثِّل باتّباع هدي النبيّ وأفعال صحابته، الذين كانوا أكثر قابليّة لفهم معاني آيات الأحكام، وتفسيرها، وتطبيقها بإخلاص.

كان الشافعي تلميذاً للإمام مالك طوال عشر سنوات في المدينة، ودرس كتابه «الموطّأ»، وحفظه عن ظهر قلب. وسرعان ما تبوّأ مركز المدافع عن السنّة في مقابل أهل الرأي وأنصار المقاربة التحليلية. وعندما توفّي الإمام مالك رحل الشافعيّ إلى العراق، مركز أهل الرأي، حيث تعرَّف إلى محمد بن الحسن الشيباني(189هـ)، أشهر تلامذة أبي حنيفة. ودار بين الاثنين نقاشٌ حادّ، انتقد الشافعي مقاربة أبي حنيفة والشيباني وأتباعهما. وما لبث أن غادر الشافعيّ العراق إلى مكة، إثر تعرّضه لضغوط من خصومه، ويرجّح أنّه ألَّف كتابه «الرسالة في أصول الفقه» في أثناء إقامته الأولى في العراق.

فقد شعر بالحاجة إلى الردّ على منتقديه عبر وضع إطار عمل وقواعد ومنهجيّة لتبيان كيفية فهم القرآن والسنّة وتفسيرهما. فقد وضع بذلك القواعد الأساسيّة لأصول الفقه، وحدَّد المصادر الرئيسة للفقه الإسلاميّ، في مسعى لوضع إطار عمل واضح، ردّاً على أنصار المذهب الحنفي. وكان للسنين التي أمضاها مع أتباع مدرسة الرأي أثرٌ حاسم في تطوُّر فكر الشافعي؛ إذ إنه أعاد النظر باجتهاداته عندما استقرّ في مصر في مرحلة لاحقة، وألَّف نسخة ثانية من «الرسالة»، حيث أضحى أقلّ تشدُّداً في الرجوع شبه الحصري إلى النصوص والأحاديث. وفي مكّة التقى بالإمام أحمد بن حنبل(241هـ)، الذي أصبح تلميذه، ثمّ اختلف معه بعد وقت قصير.

لقد كان الإمام الشافعيّ شخصيّة بارزة في جغرافيا المذاهب الفقهيّة وتاريخها، فهو تلميذ الإمام مالك، ومعاصر للشيبانيّ، وأستاذ ابن حنبل، وكان في وضع مثاليّ لصنع توليفة لم تكن مجرّد ردّة فعل لاتّجاه فكريّ واحد، أي أهل الحديث، على اتّجاه فكريّ آخر، أي أهل الرأي. وكانت حياته حبلى بالتكوين الدينيّ والجدال الفكريّ في أصول الفقه بين الحجاز وبغداد، وكانت هذه الفترة غنيّة بالتفاعلات العلميّة، التي تؤكِّد عمق النقاش الفقهيّ الذي ساد في فترات حسّاسة من التاريخ الإسلاميّ.

عرّف الشافعيّ الفقه بطريقة توليفيّة. ومع تتابع القرون ساد ذلك التعريف، وأصبح مرجعاً للمتخصِّصين، يسمو على الاختلافات بين المذاهب الفقهيّة. فهو يعرّف الفقه بأنّه «العلم بالأحكام الشرعيّة المكتسب من أدلتها التفصيليّة»، الواردة في المصادر النصّية. والشيء الذي أثار اهتمام الشافعي في سياق رحلاته والنقاشات الكثيرة التي شارك فيها، سواء مع الإمام مالك وأتباعه، أو مع الأحناف، أو مع أحمد بن حنبل، كانت العمليّة، لا الإنتاج الفعلي للفقه. فلم يعترض على مبدأ استنباط القواعد من خلال قراءة تحليليّة، اعتبرها جزءاً من ممارسة الفقه، لكنّه حدَّد مشكلة كانت تتنامى في ظل غياب القواعد المستنبطة، وغياب منهجيّة واضحة لكيفية قراءة النصوص الدينيّة نفسها، واقتنع بوجود حاجة إلى قراءة تحليليّة في ميدان الفقه. كما أنّ النقاشات التي دارت بينه وبين الفقهاء المخالفين أقنعته بأن إرساء إطار عمل، وهو أصول الفقه ــ أي إرساء منهجيّة وقواعد ــ، أمرٌ ضروري كخطوة أولى. ولذلك شرع في تقديم منهجيّة تنظِّم استنباط الأحكام، وتحدِّد المصطلحات والمستويات المختلفة للتعبير اللفظيّ، فضلاً عن تصنيف لأصول الفقه يراعي طريقة تفسيرها ومضمونها. وبذلك يبرز هذا العمل الأصيل للشافعي كنقطة تحوُّل في تاريخ الفقه الإسلاميّ.

فقد تمسَّك بضرورة الرجوع إلى المصدرين الأوّلين: الكتاب؛ والسنّة. وقسَّم المصادر نفسها إلى فئات، مميِّزاً بين المستويات المختلفة للبيان (مضمون ما ينقل)، مشيراً إلى أنّ العبارة عامّة، ويمكن أن تحمل معاني عدّة.

إنّ مقاصد الإمام الشافعي كانت واضحة؛ إذ شرع في استنباط إطار عمل من المصادر النصّية، مع التمييز بين طبيعتَيْهما ــ القرآن؛ والسنّة ــ، فضلاً عن أهمّيّة بيان الأحكام وطابعها القطعيّ، لكي يتمكَّن من اقتراح رموز للأحكام الفقهيّة. فالمقاربة التي تبناها استدلاليّة، تركِّز في المقام الأوّل على النصوص الأساسيّة، من دون الاهتمام بالمخرجات الخاصّة لأصول الفقه. وهو اقتراح مقاربة مبتكرة ميَّزت بين أساليب التعبير، العامّ والخاصّ، ومضمون العبارات، الصريح والضمني. وهي مقاربة مناسبة لتحديد منهجيّة تعتمد على تمييز ذي شقين لجهة مستويات البيان وطبيعة اللفظ نفسه. فقد ميَّز الإمام الشافعي قبل كلّ شيء بين العامّ والخاصّ في نصوص القرآن الكريم، ثم حدَّد فئات فرعيّة تنتمي إلى النوع الأوّل (العامّ)، مشيراً إلى سياق البيان، أو إلى الطابع الضمني لمعناه، أو إلى الحاجة إلى ربطه بالسنّة؛ للتمكن من فهمه. بعد ذلك تمّ إرساء إطار العمل العامّ والمصطلحات الأساسيّة، وهو ما مكّن الشافعي من تنفيذ ما قد شرع القيام به، وهو استنباط القواعد وترتيبها؛ إذ ركَّز على المصدرين الأساسيّين، اللذين يوجد إجماعٌ حولهما، وأعطى اهتماماً أقلّ لمناقشة المصادر الثانويّة، مثل: الإجماع، والقياس. فإرساء المنهجيّة وإطار العمل وأشكال التعبير وفئات البيان مسبقاً من أجل التعاطي مع النصوص كان الهدف الرئيس للشافعيّ، مما يمكّن كذلك من التعاطي مع القضايا المستجدّة، التي لم يرد فيها نصٌّ قرآنيّ أو من السنّة.

كما تطوّرت مقاربة الشافعيّ لمبدأ الإجماع، من حصر الفقهاء بفقهاء المدينة إلى وجوب توسيعها لتشمل الأمّة ككلّ. لكنّه بقي حذراً من التعليل التحليليّ المستقلّ (الاجتهاد)، الذي يختزله بالقياس بشكل كامل تقريباً؛ إذ كان قصده الأساس الدفاع عن أولويّة النصوص، وتقديم وسيلة قراءة تضمن التمسُّك بجوهر النصوص، وتمسُّكه بالقياس يتلاءم تماماً مع مهمّته. واعترف بالحاجة إلى الاجتهاد؛ إذ تبيَّن أنه لا يمكن الرجوع إلى السياق لفهم المصادر النصّية.

تميَّز الشافعي بمواجهته لحقيقة مجتمعه، والأشخاص الذين يعايشهم في حياته، ومحاولة البحث عن حلول عمليّة على ضوء النصوص، لكنْ مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورات المكان والعادات والمصلحة المشتركة. ومن أجل ذلك كان الفقيه يبحث في علّة الواجبات والممنوعات لغاية تحديد القواعد أو اقتراح الفتاوى الفقهيّة بناء على تشخيص العلل.

 

المذهب الحنفيّ: المقاربة الاستقرائية

ولد الإمام أبو حنيفة النعمان في الكوفة عام 80هـ/699م، وتوفّي في عام 150هـ/767م. وهو أحد أبرز العلماء في المدرسة الفقهيّة العراقيّة، وأحد مناصري أهل الرأي. لكنَّه لم يكتب بنفسه شيئاً عن أفكاره ومنهجه وطرقه. وكلّ ما نعرفه عن منهجيّته وممارساته وصلنا عن طريق تلامذته، وخصوصاً الإمام أبي يوسف، والإمام محمد بن الحسن الشيباني. ولا نعرف شيئاً عن كيفيّة جمعه للأحاديث النبويّة في كتابه «المسند»، لكنْ يبدو أنّ تلامذته جمعوا الكتاب. درس أبو حنيفة على يد فقيه عراقيّ يدعى حماد بن أبي سليمان، والتقى لاحقاً بفقهاء من مذاهب شتى (اتجاهات شيعيّة متنوّعة)، ومن مذاهب فقهيّة أخرى (الإمام مالك، والإمام الأوزاعي، والإمام الثوري)، فضلاً عن بعض أصحاب النبيّ في الفترات التي أقام فيها في مكّة المكرّمة.

عاش أبو حنيفة في عصر سابق لعصر الشافعي، لم يواجه نفس التحدّيات، بل كان عمله امتداداً لمعاصريه وسابقيه، الذين استمروا في بلورة الفقه بعد الصحابة، ثم التابعين. كان في عداد فقهاء الكوفة علماء من الشيعة، مثل: الإمام جعفر الصادق، أحد أساتذة أبي حنيفة، ومن الزيديّة والمعتزلة والخوارج، ودخل في مناظرات معهم. وعلى عكس زمن الشافعي كان زمان أبي حنيفة مفعماً بالأعمال الفقهيّة، لدرجة أنه بات للمكان نفسه أهمّيّة ببعده عن مكّة والمدينة، ما أوجب التوصُّل إلى حلول جديدة للتحدّيات الجديدة. واجه فكره الفقهيّ واقع العادات والتجارة والممارسة الماليّة بشكل مباشر، وصعوبة تجاهل مصالح الناس في الحسبان، إنْ لم نقل استحالته. وأوجبت مقتضيات الواقع عليه قراءة النصوص وتحليلها عندما تكون مفتوحة للتفسير، أي نصوصاً ظنّية، أو عندما تسكت عن الموضوع. وعليه التوصُّل إلى إجابات تبقى وثيقة الصلة بالنصوص مع حلّ مشكلات زمانه. يعرف أبو حنيفة مصادر ثانويّة ثلاثة يجمعها أو يضيفها إلى المصادر الرئيسة الثلاثة المعترف بها في زمانه: القرآن؛ والسنّة؛ والإجماع. ولذلك فهو يقوّي اللجوء إلى القياس، ويشجِّع عليه، مع اعتماده على مبدأ الاستحسان، الذي يلجأ إليه العالم لأخذ مصلحة الناس بالاعتبار، ودمج مرجعيّة العرف في الفقه. على أنّ المزية المشتركة لهذه المصادر الثانويّة كلّها أنّها تأخذ جميعاً البيئة والأوضاع الجديدة والثقافات ومصالح المجتمعات بالطبع بالاعتبار. ولذلك تبقى النصوص المرجع الأوّل، لكن يتعيَّن أخذ السياق الإنسانيّ والاجتماعيّ بالاعتبار؛ لدعم التطوُّر الفقهيّ. وهذا يعني قراءة النصوص مع محاولة استنباط الحقائق المطلقة للبيان؛ من أجل دمج أكثر سلاسة للسياق، مع تطبيق تلك النصوص في بيئة جديدة. فكان أبو حنيفة لا يتردَّد ــ خلافاً للإمام مالك ــ في اقتراح أوضاع غرضيّة، واللجوء إلى الاستقراء، والطلب إلى تلامذته صياغة إجابات محتملة. هذا التطوُّر الفقهيّ الفرضيّ (الفقه التقديريّ) مشوق ما دام الفقيه يحلِّل النصّ مع تخيُّل إمكانات الواقع، أو حتّى المستقبل. وبالتالي فهو يرغم نفسه باستمرار على السعي لإيجاد مسوِّغ، والتعرف إلى علل الأوامر أو النواهي، للبقاء ممتثلاً إليها بقدر الإمكان، أيّاً تكن البيئة أو الوضع الإنسانيّ. كان الإمام أبو حنيفة مهتمّاً بالفقه، ولم يمعن النظر بالفئات الخاصّة باستنباط الأحكام من المصادر النصّية الأولى، أو لم يصرِّح بذلك بوضوح. وسرعان ما ركَّزت مخرجاته الفقهيّة على الناحية العمليّة، وعلى التشعبات الفقهيّة (الفروع)، وعلى الأسئلة الثانويّة المفصَّلة. وطريقته هذه، التي تصرّ على مواجهة الوقائع الإنسانيّة، قادته إلى التوصُّل إلى إجابات براغماتيّة ومفصَّلة.

وتبيَّن لاحقاً أنّ أصول الفقه كما وضعها الشافعي شكَّلت تحدّياً حقيقيّاً لأتباع المذهب الحنفيّ، فكيف لهم أن يفسِّروا الاستنتاجات التي توصَّل إليها أبو حنيفة وأغلب تلامذته المشهورين؟ وكيف يمكنهم تفسير الاختلافات داخل مذهبهم نفسه؟ وكيف يمكن دمج مجموع المخرجات الفقهيّة للأحناف ـــ التي تتبَّعت الواقع عن قرب، ولذلك كانت شديدة التفصيل ـ مع منهجيّة الشافعيّ والفئات شبه المسلَّم بها التي وضعها؟ لذلك توجَّب على الأحناف التكيُّف مع موقف مختلف عن موقف الشافعي في تعاطيهم مع النصوص ومع أصول الفقه. فأعادوا بناء مجموعة أفكار، انطلاقاً من استنتاجات فقهائهم وآرائهم الفقهيّة، واستمرّوا في العمليّة الاستقرائيّة للوصول إلى الدوافع والعلل التي تقف وراء آراء الفقهاء، لتحديد العلل التي تفسِّر الأحكام النصّيّة، كما فهمها علماؤهم. وبالتالي تمكَّنوا من تحديد عدد من قواعد الاستنباط الخاصّة بمذهبهم، فضلاً عن وضع منهجيّة وتصنيف عامّ بناءً على الممارسة المصطلح عليها لدى العلماء.

والمصادر التي اعتمد عليها المذهب الحنفي في استنباط أحكامه سبعة، وهي: القرآن؛ والسنّة؛ وأقوال الصحابة؛ والإجماع؛ والقياس؛ والاستحسان؛ والعرف. وتوجَّب على فقهائهم في سياق محاولة استنباط علل التفسيرات إمعان النظر بالعلاقات بين النصوص وسياقات معيّنة؛ لأنّ ذلك برَّر الآراء الفقهيّة المتنوّعة. وعلى العكس من الشافعي لم ينظر أبو حنيفة إلى الاستسحان على أنّه مجرد امتداد للقياس، الذي كان سيقيِّد استخدامه، ولكنه رأى فيه، كما الإمام مالك، مرجعاً كافياً في حدّ ذاته وأداةً. فدور الاستحسان في نظره مناقض لرأيه المقيّد في تصنيف الشافعيّين، فهو لا يقيِّد الاستحسان من خلال القياس، بل يلجأ ـ على العكس من ذلك ـ إلى الاستحسان لتجنب تطبيق صارم وحرفيّ للقياس، إذا كان يتناقض مع مقاصد الشريعة، التي ترمي في الأساس إلى حماية سلامة الناس وممتلكاتهم، مع تسهيل أمور حياتهم. فالاستحسان عمليّاً يبدو مصدراً ثانويّاً يأخذ بالاعتبار السياق الاجتماعيّ والإنسانيّ بشكل بديهيّ.

وينطبق الأمر نفسه على العرف الذي يُرسي علاقة بالبيئة، علماً أنّ البيئة تؤخذ بالاعتبار لتسليط الأضواء على قراءة المصادر النصيّة، ولتوجيه التطبيق الفعلي للأحكام، وأخيراً لتشريع الممارسات الإيجابيّة المعتادة، والتي لا تذكر النصوص بشأنها شيئاً. وهذا يقتضي من العلماء فهم المجتمع الذي يعيشون فيه لدى صياغة الأحكام الفقهيّة. ويرى الكاتب رمضان أنّه لمّا كان أبو حنيفة أقرب إلى المصدر تاريخيّاً فقد تبنّى بشكل طبيعيّ مقاربة أكثر جرأة، وحاول تطوير تجربة الجيل الأوّل من المؤمنين؛ لتنفيذ الأحكام بإخلاص، والمحافظة على روحيّة النصوص؛ لتسهيل الأمور الحياتية على الناس، وتقديم إجابات براغماتية، تأثَّرت بشكل واضح باعتبارات البيئة الاجتماعيّة، وبعادات الناس وسلوكيّاتهم. كما نتلمّس هذه المرونة في عدد كبير من الميادين في عمل الإمام مالك، الذي عاش في عصره، بتقصّيه المفصَّل عن المصالح المرسلة، وهي القضايا المتعلِّقة بالمصلحة العامّة، والتي لم يرد فيها نصٌّ، أو بلجوئه إلى الاستحسان إذا كان تطبيق القياس يعود بنتائج عكسيّة. وفي كلا الحالين أُخذ السياق بالاعتبار بدرجة كبيرة؛ لأن دوره أساسيّ، ويضطلع بدور تنظيميّ؛ إما في قراءة النصوص؛ أو في تطبيقها. والهدف هو تحديد الباعث أو علّة الأمر أو النهي، لاستنباط القصد من هذه الأوامر أو النواهي.

ويرى رمضان أنّ الطريقتين: الاستدلاليّة؛ والاستقرائية، تتيحان تحديد المصادر الأوّليّة للفقه الإسلاميّ. والقضيّة التي على المحكّ هي معرفة كيفيّة التعامل مع النصوص المرجعيّة في السياقات الجديدة، وعلى مرّ تاريخ البشر، بخلفيّة المحافظة على التمسُّك بالكتاب والسنّة، مع وضع أطر عمل ومنهجيّة وأعراف، والأخذ بالاعتبار العالم والمجتمع والعادات والأعراف كمجالات طبيعيّة في عمليّة التشريع والإفتاء. وعلى الرغم من عودة العلماء إلى التركيز المفرط على النصوص قبل أيّ مصدر آخر، إلاّ أنّه ما من مرحلة حالت فيها هذه الحركة التاريخيّة دون الإنتاج الفقهيّ، ودون اعتبار علل النصوص ومقاصدها.

 

مدرسة المقاصد

وينتقل رمضان إلى دراسة مدرسة المقاصد، فيوضِّح أنّه عبر دراسة مساهمات المذهبيّن الحنفي والشافعي يمكننا ملاحظة بروز الأسئلة المتعلِّقة بأسباب الحكم والمراجع الضمنية والصريحة لعلّة الأمر أو النهي. فالقياس أو الاستحسان ممكنان فقط بعد أن يتمّ تحديد العلّة في المصدر النصّي الأوّليّ. فهذا يتيح استنباط أصل يمكن للعلماء من خلاله فقط إسقاط الباعث الفقهيّ على أوضاع إنسانيّة أخرى مشابهة، وهو ما يعرف بالفروع. ويسري المبدأ نفسه على المصالح المرسلة، وهي القضايا المتعلِّقة بالمصلحة العامّة، والتي سكتت النصوص في شأنها، والتي أرساها في وقت مبكِّر الإمام مالك(179هـ/796م)، والتي تقتضي من الفقهاء، في ظل غياب النصّ، التوصُّل إلى قوانين تتماشى مع توسُّع المصادر النصّية ومنطقها. وهذا المشروع سيكون مستحيلاً من دون الاستنباط المسبق للمقاصد الضمنية والصريحة من النصوص المرجعيّة.

لذلك كان على الفقهاء الأوائل، والأصوليّون لاحقاً، الرجوع باستمرار إلى السبب أو العلّة والقصد أو الحكمة التي تسوِّغ أمراً أو رخصة أو تحريماً، أو تشكِّل الأساس له؛ للتمكن من إصدار فتاوى جديدة، أو وضع منهجيّة تتضمن مبادئ استنباط الأحكام الشرعيّة.

ورأينا كيف أسَّس الإمام الشافعي علماً جديداً هو أصول الفقه، وبعد نحو 250 عاماً على ذلك شرع فقيهٌ شافعيّ المذهب هو الإمام أبو المعالي الجويني(478هـ/1085م) في تأمَّل مبتكر في أصول الفقه، واعتمد على أعمال الشافعيّ، لكنه تمسَّك ببعض النواحي التي لزم فيها الشافعي الحذر، وهي مراد الشرع وعلل الأوامر والنواهي التي تتجاوز القياس الذي أقرّه الشافعي. فقد استنبط الجويني، أستاذ أبي حامد الغزالي، تصنيفاً جديداً في كتابه «البرهان في علم الأصول»، حيث كان السبّاق إلى تصنيف الأحكام بناءً على ما يمكن تصوُّره من قصد المشرِّع الحكيم ــ وعلل الأحكام ــ، لا على حرفية الأحكام ومضامينها فقط؛ إذ اقترح البدء بتوزيعها رأسياً وفقاً لدرجة أهمّيتها وأولويّتها (من الأهمّ إلى الثانويّ)، بتحديد مستويات خمسة. وأضاف إلى هذا التصنيف توزيعاً أفقيّاً يميِّز بين الأهداف التي ترمي إليها الأحكام (الدين، حياة الإنسان، العفّة…). فكان أوّل مَنْ أرسى منهجيّة انطلاقاً من الفقه وتطبيقاته العمليّة، تقوم على البدء بالمراد أو العلّة التي تقف خلف كلّ حكم، من أجل تحديد مقصد المشرِّع الحكيم، بما أنّه يمكن استنباطه بدراسة مجموع الأحكام والشريعة ككلّ.

كما شرع أبو حامد الغزالي في مهمّة توضيح الفئات والمبادئ التي يمكن أن تتضمّنها، وعاد إلى مفهوم الاستحسان الذي قيّد استخدامه الشافعي بدرجة كبيرة، وساند في كتابه «المستصفى من علم الأصول» رأي الإمام مالك ومذهبه في المصالح المرسلة، وفي مبدأ الاستصلاح (الذي يعتمد على المصلحة العامّة في غياب نصوص ذات صلة)، ليضع بذلك نقطة انطلاق مدرسة المقاصد، وصولاً إلى زمن الشاطبي(790هـ/1388م). وقام الغزالي بعمليّة توليف من خلال عمليّة التمييز بين مجموعات المقاصد الثلاث وفقاً لأهمّيتها وأولويّتها، وهي: الضروريات (المقاصد المرتبطة بالحاجات التكميلية)؛ والتحسينات (المقاصد الثانويّة المرتبطة بالتحسين أو التطوير).

أما أبو إسحاق الشاطبي، وهو كان مالكيّ المذهب، فقد تأثَّر بالأدوات التي وضعها صحابة النبيّ والتابعون، والإمام مالك، ودمج في مقاربته جميع الأعمال والمنهجيّات التي أنتجها في زمانه فقهاء المذاهب الأخرى، السنّيّة والشيعيّة المتنوّعة. وهناك اقتراح سائد اليوم بالدور الذي قام به الشاطبي في اقتراح نظريّة جديدة في أصول الفقه بناءً على استنباط «مقاصد الشريعة» وتصنيفها. وكان عمله نقطة تحوّل في التعاطي مع أصول الفقه، بنظريّته ومنهجيّته التي تجاوزت المذاهب الفقهيّة، مع الجمع بين الأدوات المتنوّعة التي استنبطتها تلك المذاهب. فهو لم يخترع شيئاً من خلال مقاربة مقاصد الشريعة، لكن عمله القائم على التوليف والتوضيح مهّد السبيل أمام منهجيّة كاملة ومستقلّة، ترمي إلى تجديد طرق قراءة المصادر النصّية، وتطبيقها بشكل كامل، على مرّ العصور، وفي البيئات الإنسانيّة المختلفة.

وسيكون مستحيلاً على ضوء مقاصد الشريعة دراسة النصوص بمعزل عن علاقتها بسياق تطبيقها العمليّ، الذي ينبغي أن يظلّ مخلصاً لمبادئ حماية الغير ودفع الضرر، مع الأخذ بالاعتبار البيئة ووضع الأفراد والجماعة والعادات والأعراف، كجزء من عمليّة إصدار الفتوى وتطبيقها. فالشاطبي يعتبر أن الحكم الشرعيّ قد تتغيَّر منزلته تبعاً للسياق الذي يُدرس العمل ويحكم عليه فيه. وبالتالي يصبح التقليد الأعمى للسلف الصالح مستحيلاً، ويصبح نطاق احتمالات التوصُّل إلى أحكام وفتاوى منطقيّة ومعتمدة على العقل أوسع بكثير، بما يتجاوز القياس والاستحسان المصحوبين بأوضاع مقيّدة للغاية في تطبيق الفقه.

إنّ قراءة الشاطبي للمصادر النصّية هي الأكثر إبداعاً ــ في نظر طارق رمضان ــ، ويمكن أن تقودنا إلى المرتبة الثانية في التجديد الذي يدعو إليه. ويقوم رمضان بوصف مدرسة المقاصد والتفصيل في قواعدها، فضلاً عن الإضافات التي أتى بها الإمام الشاطبي والجويني في ما يتعلَّق بأصول الفقه، والبحوث التي توسّع فيها أبو حامد الغزالي، الذي استعاد مفهوم الاستحسان كما قال به أستاذه الشافعي، على الرغم من أنّ هذا الأخير حصر المفهوم في حدود معيَّنة، لم يتَّفق معه فيها علماء آخرون.

وكاستنباط لما أنجزه من تحليل ودراسة يقرّ المؤلِّف بمحدودية الاكتفاء بتطبيق مبادئ الفقه، فيدعو إلى ضرورة الاقتداء بمجموع الإنتاج المعاصر من الفتاوى، لأنّها تمكِّن المسلمين من مواجهة التحدّيات الآنيّة؛ لكنّه ينبّه إلى كون هذه الفتاوى تشجِّع على نوع من الإصلاح التكييفي، من خلال خلق مجالات لحماية الأخلاق الإسلاميّة في الحقبة المعاصرة، وهي المجالات التي تتأسَّس داخل النظام أو بموازاة معه، من دون أن يكون لها تأثيرٌ معيَّن عليه، ولا على النقد النظريّ الأساسيّ، ولا على حقيقة المقاومة أو التحوُّل. وتأسيساً على هذا يرى رمضان أنّ الأخلاق الإسلاميّة المعاصرة أصبحت أخلاقاً دفاعية وسلبيّة، و«متأخِّرة» ومنعزلة، لا تشبه في شيء الوعي الدينيّ والإنسانيّ، الذي ينبغي، في إطار الانسجام مع مُثُله الأصليّة، أن ينتج نوعاً من الأخلاق المستبصرة والملتزمة والمنفتحة، التي تتأمَّل العالم ونظامه ومكتسباته وانحرافاته، من خلال التفكير واقتراح الطرق الكفيلة بتغييره.

ويرى رمضان أنّ المشكل يطرح على مستوى يتجاوز القضايا المعروفة المتعلِّقة بالفقه، كما أنّ المشكل ليس مشكل اجتهاد، بل المشكل يطرح على مستوى طبيعة ممارسة التفكير المنطقيّ النقديّ المستقلّ؛ وما يستدعي التساؤل حول موضوعه، وأبعاده، وحول كفاءة النساء والرجال الذين يمكنهم (ويجب) أن يقوموا بذلك. بعد هذه التساؤلات تطرح قضيّة تشخيص المصادر الأولى التي تشرِّع ممارسة الاجتهاد المعاصر: هل يمكن الاعتماد على التقاليد الكلاسيكيّة الفقهيّة الأولى؟ هل يمكن الأخذ بمصادر أخرى أو التفكير في آليّات أخرى؟ فكما كان الأمر زمن الشافعي في القرن التاسع، والشاطبي في القرن الرابع عشر، نجد أنفسنا أمام قضيّة نقديّة حساسة تتعلَّق بعلاقتنا بالمصادر الأولى، طالما العالم من حولنا يضعنا دائماً في موضع شكّ تجاه انسجامنا، وتجاه معنى ذاتنا في علاقتها بالعالم.

 

نحو إصلاح حقيقيّ

وفي ما يتعلَّق بتعامل السلف مع أسس الفقه الأولى يرى المؤلِّف أنّه تعامل معها بكامل الاحترام الواجب. وإذا كانت الإحالة على المحيط التاريخيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ حاضرة دائماً فإنّ وظيفتها كانت تتجلّى في المساعدة على كشف المعنى أو ضبط حدود تطبيق النصوص، بينما لم يعتمد أبداً السياق الاجتماعيّ والإنسانيّ كمصدر مستقلّ، قائم بذاته في الفقه، وفي إنتاجه. وهذا التمييز الكيفي بين سلطة النصّ وسلطة الواقع هو الذي يطرح في نظر الكاتب صعوبة الحسم في قضيّة الاجتهاد. فالعلماء الأوّلون كانت لهم معرفة شاملة بالأماكن التي يشرِّعون فيها، والقواعد التي يستندون إليها، وهو ما كان يمنحهم الثقة والقدرة على الخلق والاجتهاد في ما هم مشرِّعون له، بينما عالم اليوم أصبح معقَّداً، وصارت الممارسات المحلّية أكثر تداخلاً وارتباطاً مع الممارسات الكونية، وأصبح من المستحيل على العلماء فهم هذا التعقيد بكل أبعاده، بنفس الثقة التي كان يشعر بها الأسلاف. فنتيجة لهذه الصعوبة الواضحة بشكل كبير استوطنت الخشية العلماء، فأنتج الخوف فكراً فقهيّاً متردِّداً، هشّاً وتفاعليّاً، يخشى ما لم يعد يقدر على احتوائه، فبات حارساً للمراجع المحاصرة.

ويوضِّح رمضان أنّه كلما عدنا بالزمن إلى الوراء، وزاد اقترابنا من النبيّ وصحابته، زاد شعورنا بأنّ العلماء، الأقلّ قلقاً من التجاوزات المحتملة لنظرائهم، وثقوا بقدرتهم على فهم معاني النصوص، وطرق تطبيقها في بيئتهم، نتيجة معرفتهم المسبقة بمجتمعهم وبيئتهم، ما مكَّنهم من إقامة الروابط، والتوصُّل إلى آليات للتكيّف، وقراءة النصّ بطريقة مختلفة. فالمعرفة العميقة بالعالم وبتعقيداته وبالرهانات العميقة للحاضر والمستقبل هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تردّ للعلماء الثقة المفقودة، ومعها يستردّ هؤلاء القدرة على الخلق. كما يجب القبول بأنّ العالم، وقوانينه والمجالات المتخصِّصة المساعدة على المعرفة بهذا العالم، ليست فقط ملهمةً للنصوص المقدّسة، بل هي مصدر مستقلّ للقانون.

ويركِّز المؤلِّف على أنّ النصّ الإلهيّ لا يعيق العقل الإنسانيّ، كما أنّه يفتح آفاقاً متعدّدة ومتنوِّعة لممارسة عقلانيّة نشيطة ومستقلّة. وبالتالي لا ينبغي الخلط بين الأوامر، ولا فرض قيم ومنهجيّات على مجالات مستقلّة مختلفة تتعارض والمنهجيّات المعروفة في هذه المجالات؛ أي إنه لا ينبغي إخضاع العلوم الحقّة والتجريبية والإنسانيّة لـ «خانة قراءة أخلاقيّة» محدّدة، من شأنها أن تؤثِّر على مناهج التحليل، أو توجِّه الخلاصات والنتائج في اتّجاه معيَّن باسم «الانسجام» مع المعايير المنصوص عليها في النصوص الدينيّة الأساسيّة. بل إنّ كل مجال معرفيّ يعرف ويحدّد منهجيّته الخاصّة وقواعده ومعاييره التحليليّة والتجريبيّة بشكلٍ مستقلّ، وفي علاقة مع موضوع الدراسة.

إنّ ما نحتاج إليه اليوم، بحسب رمضان، هو التزام راسخ، وجهاد، من أجل حرّيّة التشكيك بالتقاليد، ومراجعة الممارسات، وتحدّي ومساءلة سلطة علماء الدين الراسخة (والمحميّة)، وصلاحيّاتهم، بصورة نقديّة. هذا يعني كذلك الذهاب بعيداً في تحليل علاقاتنا بالمعارف، وفي علاقة السلطة والنفوذ والمعرفة والعلاقات بين القوى (الطبقات الاجتماعيّة، الرجال، النساء، إلخ)، وبالهياكل الثقافيّة، وما يمنع الفكر الإسلاميّ من التطوُّر والتحرُّر من أجل مواجهة تحدّيات الزمن المعاصر. يتعلّق الأمر بأن نعود إلى وضعنا كمواضيع في التاريخ، وأن نحقِّق تحرُّرنا على أساس الثقة بالذات وبما نملكه من وسائل، مع القدرة على دمج مختلف مجالات المعرفة في تنميتنا الخاصّة، من خلال جغرافيّة جديدة للعلوم المراجعة، الجامعة لتنوُّع الكفاءات.

 

تأويل «النصّ»: كيف؟ ومَنْ؟

وفي خطوة أخرى إلى الأمام يطأ الدكتور رمضان منطقة شائكة عندما يتحدَّث عن العلاقة بين النصّ الوحيي وبين فهم القارئ لهذا النصّ: «إن وضعية النصّ يمكن أن تكون بالفعل ذات تأثير على شكليّات القراءة، ولكنْ تظلّ عقليّة القارئ الذي يقوم بتفسير هذا النصّ هي المحدّد الأساسيّ في طرح التصنيفات والشكليات الخاصّة بهذا التفسير».

ويؤمن رمضان بديناميّكية التأويل عبر الزمان والمكان، ولكنّه من الناحية الأخرى يضع ضوابط لهذه العمليّة، موضِّحاً أنّ «القضيّة المحوريّة هي تحديد طبيعة وحدود عمليّة التأويل في مقابل النصّ الوحيي».

ويبحث رمضان في معرض إثارته لمثل تلك القضايا الجدليّة عن منهجيّة متوازنة، مؤكِّداً أنّه «فقط داخل هذا الإطار تستطيع عمليّات التجديد والإصلاح أن تكون ذات فعاليّة، وأن تؤتي ثمارها».

إنّ رمضان لا يكرِّس كتابه لمناقشة الطريقة التأويليّة التي ينبغي تبنّيها، ولكنّه أيضاً يقترح المخوِّل شرعاً للقيام بالتأويل والاجتهاد، من ثم يعود مجدَّداً لتناول القضيّة المعروفة بـ «سلطة التأويل»، حيث يؤكِّد أنّ «حقيقة عدم وجود كنيسة في الإسلام هي بكلّ المقاييس حقيقة إيجابيّة، بل هي مصدر للقوّة؛ بيد أنّها تتحوَّل إلى نقطة ضعف إذا لم نحسن التعامل معها».

 

(*) باحثٌ لبنانيّ في الفكر الإسلاميّ والشؤون الشرق أوسطيّة، له الكثير من الدراسات والمقالات ومراجعات الكتب والترجمات.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً