أحدث المقالات

نظرية منع استغلال الحق في المدارس الحقوقية العالمية

«خلافاً لما كان يعتقد في السابق، فإن صاحب الحق ليس حراً في الاستفادة من ذلك الحق؛ إذ من شأن مراعاة حقوق الآخرين أن تفرض على كل شخص قيوداً معينة. إذا كان جميع أفراد المجتمع متساوين، فإن ذلك يعني وجوب احترام حريات الآخرين من جهة، وتطبيق حق الفرد وفقاً لما تقتضيه مستلزمات حقوق الآخرين من جهة أخرى… أما النتيجة المهمة التي يمكن أن نحصل عليها من هذا التحليل فتتمثل في الحيلولة دون وقوع ضرر ما للآخرين. وليس من حقّ أي أحد الإضرار بالآخرين تحت ذريعة الانتفاع بذلك الحق أو بحجة أنه إنما يريد تطبيق الخيار الذي منحه إياه القانون»([1]).

إن التدقيق في الرأي المذكور آنفاً ودراسة الأمر من جوانبه المختلفة، يقودنا إلى حقيقة تتمثل في وضع قيود معينة وضوابط محددة ومعقولة لكل حق من الحقوق في سبيل إيجاد توازن مع الحقوق الأخرى، وبشكل لا يتسبّب في تضييع حق آخر، وهو ما سمّي فيما بعد بمنع استغلال الحق، على الرغم ـ بالطبع ـ من أن تلك الحالة لم تسر بعد في كل أعضاء جسد النظام الحقوقي بالقدر المطلوب؛ وهي حقيقة أشار إليها ـ كما رأينا ـ صاحب الرأي المذكور، حيث يقول: «تعتبر نظرية «منع استغلال الحق» أو «منع سوء استخدام الحق» إن صح التعبير، نظرية حديثة العهد في النظام الحقوقي الأوروبي؛ فبُعيد الثورة الكبرى وبسبب التأثير الذي ولده أتباع الحقوق الفردية، كان التقليد المتبع آنذاك هو السماح لصاحب الحق بتطبيق حقه بحرية تامة! فكان صاحب الحق مخيراً في تطبيق ذلك الحقّ بالصورة التي يريدها أو بحسب الفكرة التي يحملها، شرط أن لا يتجاوز حدود القانون ولا تلك الخاصة باختياراته. ووفقاً للنظرية المذكورة، ليس من حقّ أحد بأيّ حال من الأحوال مؤاخذة من يروم تطبيق حقه، ولا حتى مطالبته بأية خسائر في حال تسبّب تطبيقه لحقه المشروع بأضرار على الآخرين! وتجدر الإشارة إلى أن هذه النظرية ما زالت تطبّق في كل من النظاميْن الحقوقييْن: الإنجليزي والأميركي»([2]).

وخلاصة القول: انطلاقاً من تعلّق الأمر بالقاعدة الأخلاقية في الالتزامات المدنية، فإن نظرية «منع استغلال الحق» تصرّح بما يلي: «يطلق مصطلح «استغلال الحق» على حالة يقوم فيها شخص ما بتطبيق عمل مباح له ضمن حدود حقّه لكن يبقى الهدف من وراء تطبيقه لذلك العمل هو الإضرار بالآخرين وليس قضاء حاجته»([3])؛ لذا فسريان هذه النظرية إلى النظام الحقوقي في أوروبا الغربية أو المدرسة التشريعية المدونة، وبالنظر إلى التناقض الموجود في مضمون هذه القاعدة من جهة، وبين روح الثقافة والحضارة اللتيْن ورثتهما الثورة الفرنسية وتأثيرات الآراء التي حملها أتباع مذهب الحقوق الفردية، ذلك السريان يمثل حالة جديدة لم يكتمل بعدُ.

أما المدرسة الحقوقية الثالثة، ونقصد بها مدرسة الحقوق في الدول الشيوعية، فمقتبسة من آراء كارل ماركس وإنجلز، حيث قام لينين بعد ذلك بتطبيقها والعمل بموجبها، فعرفت حينئذ بالماركسية ـ اللينينية. هذا، ولم يبق من مطبّقي تلك النظرية اليوم بعد انهيار المعسكر الشرقي ودوران الصين في فلك آخر، سوى كوبا. وعلى هذا الأساس، ورغم أنه ليس بوسع أحد منّا اليوم اعتبار تلك المدرسة واحدة من المدارس الحقوقية الناشطة ـ لأنّها لم تعر أيّ اهتمام يذكر للحقوق الفردية ـ لم يعد هناك أيّ مكان للحقوق الفردية يمكن لصاحب الحق فيه الاستناد إلى قاعدة سوء الاستخدام.

أما المجموعة الحقوقية الرابعة، فتشمل أقطاراً متعدّدة لا تربط بينها مشتركات واضحة وذلك لتميز الحقوق في دول مثل الهند الصينية واليابان بخصائص معينة عديدة، وبذلك فلا يمكن جمعها في بوتقة مدرسة حقوقية واحدة أو نسبتها إلى أسرة حقوقية محددة. إلا أن الحقيقة المتمثلة باستقلالية تلك الأقطار عن أربعة أنظمة أخرى تحتّم علينا تصنيفها ضمن إطار واحد. والحق أن البحث في الحقوق المتعددة الجوانب لتلك المجموعة من الأقطار يلزمه أيضاً إجراء تحقيق مستقل ومقالة منفردة لا مجال هنا لذلك؛ لكنها نقطة لا مناص من الإشارة إليها والتأكيد عليها، فتأثر الحقوق في بعض الأقطار داخل تلك المجموعة بحقوق بعض الدول كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وغيرهما، إضافة إلى السمة التقليدية المتعايشة مع الاتجاه الحر للفكر الحقوقي في دولة مثل الهند؛ يمكننا من خلال ذلك التأكيد على تنامي التصور القائل بوجود أرضية مناسبة لنفوذ نظرية منع سوء استخدام الحق وتطبيقها. ورغم ذلك، لابد من الإشارة إلى أن ذلك التصور يبقى في إطار الفرضية حتى يتحقّق على أرض الواقع.

وتشكل الحقوق الإسلامية المدرسة العالمية الخامسة للحقوق، وهي المدرسة التي تقرأ مقولة الحقوق داخل إطار قاعدة «لا ضرر».

المدرسة الحقوقية الإسلامية والتأطير القانوني لمنع استغلال الحقّ (قاعدة لا ضرر)

تعتبر المدرسة الإسلامية للحقوق أكبر مدرسة حقوقية، وهي مدرسة مارست أعمالها وبادرت بتنفيذ خطط تشريعاتها منذ تولّيها سدة الحكم تحت شعار قاعدة «لا ضرر»، وذلك قبل أن تولد نظرية منع سوء استخدام الحق بأكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان. ولإيضاح وتأكيد ذلك، لابد لنا ـ ولو بشيء من الإيجاز ـ من رصد هذه القاعدة في المصادر الأصلية وأمهات الكتب الخاصة والمشتركة بين المذاهب الإسلامية المختلفة، بما فيها الشيعة والسنّة، ونقصد بالمصادر القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة والإجماع والعقل. وقبل الدخول في خضم تلك المصادر، لا بأس بالإشارة إلى المعنى الذي تحمله قاعدة لا ضرر؛ لكي نعطي حديثنا حقّه.

لعلّ أكثرنا يعلم أن القاعدة المذكورة مقتبسة من العبارة الشهيرة: «لا ضرر ولا ضرار…» والتي ذكرت بدورها في الحديث النبوي الشريف. أما ما يتعلق بمعنى حرف النهي (لا) في عبارتيْ: (لا ضرر) و(لا ضرار)، فقد خضع هذا الحرف للعديد من البحوث المفصلة والدراسات الدقيقة، ولو قمنا بجمع كل تلك البحوث والدراسات معاً لأصبح لدينا عدد غفير من المجلّدات الضخمة. لذا نكتفي بإلقاء نظرة عابرة على تلك البحوث والدراسات؛ لاستحالة احتوائها بمقالة محدودة، ولعلنا لا نبالغ إذا صرحنا بأن أكثر تلك الآراء شيوعاً وسيادة هو رأي الشيخ مرتضى الأنصاري، الذي يقدّر كلمة «حكم» بعد حرف النهي، ونتيجة ذلك نفي الحكم الضرري في الإسلام.

والمهم هنا تحليل كلمتي: ضرر وضرار؛ فإذا أسهبنا النظر وأمعنّاه في مواطن استخدام كلمة (ضرر) في مصادر الحقوق الإسلامية، والتي سنشير إلى بعضها بالتأكيد، نجد أنّها تشمل كل أذىً دون أيّ دخل لا للتعدد ولا لوحدة العامل أو المعمول. في حين تستخدم كلمة (ضرار) في الموارد التي يتسبّب فيها الشخص ـ أيّ شخص ـ بإيقاع الضرر والأذى على الآخرين تحت غطاء إقامة أو تطبيق الحق أو التكليف وبرخصة شرعية، وهو ما يعبّر عنه بسوء استخدام الحق، وبإيجاز بالغ «وبالاستناد إلى النظريات كافّة التي مرّت يبدو أن المعنى الذي أراده حديث (لا ضرر) هو افتقار الضرر إلى أية مشروعية في الإسلام، لكنّ عدم مشروعيته تلك تشتمل على مرحلة التقنين إضافة إلى احتوائها مرحلة تطبيق القانون على السواء»([4]).

وتحتل قاعدة (لا ضرر) في الفقه الإسلامي مكانةً مرموقة دفعت بجمهورية إيران الإسلامية إلى تخصيص البند الرابع من دستورها المدوّن على أساس الحقوق الإسلامية، إلى تخصيص البند المذكور لها؛ فقد نصّ ذلك البند على أنه: «لا يحقّ لأي فرد التذرع باستخدام حقه كوسيلة وأداة للإضرار بالآخرين أو الاعتداء على المصالح العامة»، ولا يخفى أن تطبيق القاعدة المذكورة يشمل حتى القوانين العادية، وهي قوانين كثيرة ومتشعّبة لا يسعنا الخوض هنا في تفاصيلها خشية الاستطراد والإطالة.

قاعدة «لا ضرر» في القرآن الكريم وتأصيلها لمبدأ منع سوء استخدام الحقّ

تطرّق القرآن الكريم مراراً وتكراراً إلى شرعية تطبيق قاعدة لا ضرر، ويمكننا الإشارة بهذا الصدد إلى الآيات: 231، 233، 282، من سورة البقرة، وهي آيات تناولت بالترتيب موضوع نهي الرجال عن إمساك نسائهم ضراراً بهدف الاعتداء على حقوقهنّ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا}، ومنْع الوالديْن من استغلال أولادهما أو الإضرار بهم بقطع الرضاعة: {لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، وأخيراً حظر على الشاهد والكاتب الجنف في كتابة الكتاب وتدوينه بحيث يمكن لطرف من الأطراف أن يتضرّر أو يساء استخدام الحق ضدّه: {وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}. وكذلك الآية الشريفة الثانية عشرة من سورة النساء تؤكد على ضرورة تنفيذ الوصية وأداء الديْن حتى لا يتم فرض تعهّد غير متوقع أو غير منطقي على طرف ما، وأن تكون كتابة الوصية الحقيقية مصحوبة بحسن النية لا بنية فاسدة ينتج عنها الإضرار بالورثة: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}.

وهكذا نرى أن القرآن الكريم نهى عن جعل تطبيق حقّ ما وسيلة للإضرار بالآخرين، وهو عين المعنى الذي تضمّنته نظرية منع سوء استخدام الحق، والتي بدأ الاهتمام بها يتزايد في الآونة الأخيرة. وبعبارة أوضح: «هناك شبه وتطابق كامليْن بين مضمون قاعدة لا ضرر وبين مفهوم نظرية منع سوء استخدام الحق».

قاعدة «لا ضرر» في السنّة الشريفة

لم يلج القرآن مجال التفاصيل والجزئيّات وأوكلها إلى السنّة الشريفة([5]) وعلى العكس من ذلك نرى السنّة تقوم بتنقيح الدوافع والخصوصيات التي تصاحب مصداق الأحكام أو المواضيع، بحيث تزيل كل شبهة وتمنع أي شك، فيغدو الأمر دليلاً قاطعاً وحجّة دامغة.

وقد تم استخدام مفاد حديث «لا ضرر ولا ضرار…» في الحقوق الإسلامية على أساس عنوان لحكم ثانوي أو فرعي في جميع الأبواب الفقهية بما فيها العبادات والمعاملات، حتى أضحى تدريجياً بشكل قاعدة فقهية ـ حقوقية اشتهرت فيما بعد بقاعدة (لا ضرر)، وشاع تداولها والاستناد إليها بشكل دخلت معه إلى صميم الكتب الفقهية([6]). إضافة إلى أنها أصبحت قاعدة مستقلة في معظم كتب القواعد الفقهية([7])، ولكونها تعتبر حكماً ثانوياً فبالإمكان الإحساس بوجودها في البحوث الفقهية ـ الحقوقية المفصّلة وسيادتها على جميع الأحكام الأوليّة بشكل واضح لا لُبس فيه.

وقد ازداد الاهتمام بقاعدة «لا ضرر» في النظام الحقوقي الإسلامي مما شجّع الكثيرين على تأليف كتب مستقلة ومجلدات متعدّدة اقتصرت جميعها عليها([8])، وللاهتمام بها سببٌ آخر يتمثل في التطبيقات الكثيرة لها والتي أفضت إلى تكوين مفهوم منع سوء استخدام الحق في الحقوق الإسلامية، حيث دخلت العديد من الأحكام والبحوث ضمن إطار تلك النظرية. وبالنظر إلى دخول تلك القاعدة مجال الأنظمة الحقوقية المختلفة وحصولها على عنوان جديد، إضافة إلى طرح بحوث جديدة وبروز حالة فقهية تطبيقية حديثة لها كالبحث في هل تشمل الأمور العدمية أم لا؟ فمثلاً لو تعرّض شخص ما إلى الضرر بسبب غياب الحكم، فهل يمكن الاستناد إلى قاعدة «لا ضرر» لرفع الحيف والضرر عنه وملء الفراغ الحاصل أم لا؟ وبهذا الخصوص، ومع بيان وعرض المطالب والوثائق الدالة على شمولية القاعدة المذكورة لمثل تلك المسائل، تتواصل المقارعة بالبحوث العلمية بين المؤيد والمعارض([9])، ولا شك أن قبول الرأي المذكور سيزيد من الرقعة الجغرافية لتطبيقات القاعدة أكثر من ذي قبل، وهي أمور ستؤدي جميعها إلى البرهنة والتأكيد على أهمية ووجوب الاهتمام بالمؤلّفات المستقلة بهذا الموضوع وإجراء بحوث أكثر دقة وأوسع شمولية.

ومن الأمور الجديرة بالذكر قيام جميع المذاهب الإسلامية بنقل حديث «لا ضرر» ولو بدخول بعض التغييرات الطفيفة عليه والتي لا تشكل عائقاً في مضمون الحديث إجمالاً، ولهذا حصل الإجماع على قبول قاعدة «لا ضرر» ومن ثم نفي الضرر: «فكل عمل فيه مصلحة غالبة أو دفع ضرر أو مفسدة يكون مطلوباً شرعاً»([10])، بل ذهب الكثيرون إلى أبعد من ذلك حيث ادّعوا تواتر الحديث المذكور([11])، والحديث المتواتر هو الحديث الذي يبلغ عدد رواته في كل طبقة حداً يستحيل معه في العادة اتفاقهم جميعاً على الكذب، وغالباً ما يؤدي إلى إيجاد العلم فيما يتعلق بمضمون الخبر([12])، وقد اعتبر بعض المتأخرين من المحققين تواتر الحديث المذكور تواتراً إجمالياً نظراً لنقله بثلاث عبارات هي «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن»؛ و«لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»؛ و«لا ضرر ولا ضرار»([13]). وعلى هذا فهؤلاء يعتقدون بتواتر جزء معين من الحديث، وهو: «لا ضرر ولا ضرار<، وبذلك فإن المتواتر الإجمالي يمثل رواية تنقل مضامينها بألفاظ متعددة وأشكال مختلفة مع دلالة واسعة أو محددة، بشرط أن تتضمن علماً إجمالياً بحيث تكون بعض ألفاظه صادرة عن المعصوم×، وعندما يرى بعضٌ حجية خبر الثقة، فيما يرى آخرون أن خبر المؤمن العادل هو الحجة، فهذا في غير المتواتر، فعندما يصل رواة الرواية إلى حد التواتر، يحصل لدينا العلم بصدور الخبر عموماً، فإنّ ما أضيف مثل عبارة (في الإسلام) أو (على مؤمن) لا يمكنه أن يشكل أغلالاً تقيد مضمون القاعدة في مقام التشريع، بل على العكس يمكن اعتبار تلك الإضافات بمثابة تأكيدات على أصالة القاعدة وإسلاميتها. والقاعدة عامّة لا تختصّ ببلد دون بلد؛ الأمر الذي يؤدّي بها أن تكون عالمية. يضاف إلى ذلك المنطلق العقلي والعقلائي للقاعدة، مما يعطيها قدراً من الشمولية، والاتساع العالميين، ويؤكّد عالمية الإسلام أيضاً.

وما أكثر الأخبار والأحاديث الدالة على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، على الرغم من أن بعضهم لم ينقل سوى 11 حديثاً([14])، ومن المسلم وجود أحاديث أخرى إلى جانب الأحاديث الأحد عشرة المشهورة المذكورة، كلّها تناولت عبارة «لا ضرر ولا ضرار»([15])؛ وبهذا كلّه تثبت القاعدة بالقرآن والسنّة والعقل، ولا مجال للمناقشة في أصل ثبوتها ومصداقيّتها.

المستند العقلي والإجماعي لقاعدة لا ضرر

ولم تحظ قاعدة لا ضرر بإجماع علماء المذهب الشيعي فحسب، بل تعدتهم لمختلف المذاهب والاتجاهات الإسلامية، لكنّه إجماع مدركي لوجود أدلّة نقلية في التراث الحديثي؛ فلا يمكن الاستناد إليه بأيّ شكل من الأشكال؛ على الرغم من إمكانية طرحه بوصفه مبدءاً في الحقوق، وهو موضوع لا نروم خوض أهواله فعلاً.

ونستنتج مما مر بنا أن قاعدة «لا ضرر» متفقٌ عليها بين جميع البشر، بل جميع المدارس الحقوقية المعروفة إما تطبقّها بالفعل أو تتجه نحو ذلك بشكل أو بآخر؛ وعليه تمسي دلالة العقل عليها أمراً واضحاً يتعذر اجتنابه، ورأي العقلاء الذي يصاحبه تأييد الشارع حجّة قاطعة، وبعد الثبوت العقلي يستند أيضاً إلى قانون الملازمة بين العقل والشرع([16]).

مناسبات صدور قاعدة لا ضرر، والاتصال بمبدأ منع سوء استخدام الحقّ

تشير النصوص الإسلامية إلى أن معرفة ملابسات صدور الحكم من أشكال حُسن فهمه ودقته، وقد اقتصر في تطبيق هذا الأمر غالباً على النص القرآني، وأطلق عليه: شأن النزول([17]). ولممارسة الأمر نفسه في حديث لا ضرر نسعى لمدّ جسور العلاقة بين الحديث والحدث الخارجي الذي اتصل به.

جاءت الحادثة التي صدر فيها حديث لا ضرر على الشكل التالي: «إن سمرة بن جندب كان له عذق وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيئ ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري. فقال له الأنصاري يوماً: يا سمرة! لا تزال تفاجئنا على حال لا نحبّ أن تفاجئنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن. فقال: لا أستأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي. قال: فشكا الأنصاري إلى رسول الله’ فأرسل إليه رسول الله فأتاه فقال له: إن فلاناً قد شكاك وزعم أنك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل. فقال: يا رسول الله! أأستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله: خلّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا. فقال: لا. قال’: فلك إثنان. قال: لا أريد. فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق؛ فقال: لا. فقال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا، فأبى. فقال: خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنة. قال: لا أريد. فقال له رسول الله’: إنك رجلٌ مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. قال: ثم أمر بها رسول الله فقلعت، ثم رمى بها إليه وقال له رسول الله’: انطلق فاغرسها حيث شئت!»([18]).

هكذا نرى أن الحديث المنقول يدل دلالة صريحة على «منع سوء استخدام الحق»، لأن سمرة كان يدخل دون استئذان إلى منزل الأنصاري بحجة استخدامه لحقه، وهو تصرّف يبدو أنه كان يخالف العرف آنذاك، فشمله النهي؛ وعلى الرغم من كون قاعدة «لا ضرر» تدخل ضمن إطار الأحكام الثانوية إلا أنها كانت مقدّمة على الأحكام الأولية، بل هي سائدة على جميعها حتى العبادات؛ فعندما يصبح الوضوء عاملاً ومسبباً للضرر للمتوضئ، فإن التيمم يكون مجزئاً عن الوضوء، أو إذا كان الصيام مضرّاً بالصائم عندئذ يرفع وجوبه ويحرم على المرء الصيام في حال تعرّضه للضرر، وإذا بقيت حاله كذلك حتى ورود شهر رمضان من السنة القادمة يسقط عنه التكليف جملة وتفصيلاً. وعلى هذا، فقاعدة «لا ضرر» التي تسمّيها المدارس الحقوقية «منع سوء استخدام الحق»، يمكن تطبيقها حتى على ما يعرف بـ (حق الله)؛ وكما لاحظنا في وقائع الحادثة المذكورة بين سمرة بن جندب والأنصاري، فقد كان أساس الخلاف بينهما حول كيفية الاستفادة من الحق، حتى أودت لجاجة سمرة وإصراره على سوء استخدام حقه في النهاية إلى منعه من استخدامه لذلك الحق، وترجيح تطبيق قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة >الناس مسلّطون على أموالهم<([19]).. ومن ثمّ منع سوء استخدام الشخص لحقه وتطبيق العقوبات عليه([20]).

الاستنتاج

لقاعدة «لا ضرر» تطبيقات واسعة وكثيرة في الحقوق الإسلامية، بل هي داخلة في كل عضو من أعضاء النظام المذكور. وقد نتج عنها قوانين وأحكام شرعية جمّة، وبرهن عليها بالكتاب والسنّة والعقل والإجماع، بل غدت أمراً تنحوه المدارس الحقوقية غير الإسلامية أيضاً، وهي في نمو وتعاظم يوماً بعد آخر، ويتوقع أن تصبح خلال فترة قصيرة قاعدة حقوقية مشتركة تربط بين جميع المدارس الحقوقية الناشطة، رغم الاختلاف في نسبة تطبيقاتها داخل هذه المدارس.

من هنا؛ توصّلنا إلى شمولية قاعدة لا ضرر وكونها منطلقاً لتشابه كبير مع نظرية منع سوء استخدام الحق أو منع استغلال الحق؛ فمنع استخدام الحق ثابت في الإسلام قبل قرون من طرحه في المدارس الحقوقية العالمية الحديثة.

الهوامش

(*)أستاذ مساعد في الجامعة الإسلامية الحرة، من إيران.

([1]) ناصر كاتوزيان، مقدمة في علم الحقوق ودراسة في النظام الحقوقي الإيراني: 312.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) السيد مصطفى محقق داماد، قواعد الفقه: 150.

([5]) زين العابدين قرباني، علم الحديث ودوره في معرفة وتهذيب الحديث: 24 ـ 25.

([6]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 37: 409؛ وابن إدريس، السرائر: 285، بحسب ج14 من مجموعة الينابيع الفقهية. وأغلب المصادر الحقوقية، السيد حسن إمامي، الحقوق المدنية 1: 501؛ ومصطفى عدل (منصور السلطنة)، الحقوق المدنية: 275؛ وآغا محمد سنكلجي، ضوابط وقواعد المعاملات وكليات عقود الإيقاعات: 340.

([7]) ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 28؛ والسيد محمد الموسوي البجنوردي، القواعد الفقهية: 51. مفصّلة الشرح.

([8]) محمود شهابي، رسالتين: وضع الألفاظ وقاعدة لا ضرر؛ وروح الله الموسوي الخميني، الرسائل 1: 5.

([9]) السيد مصطفى محقق داماد، قواعد الفقه 1: 158.

([10]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته 4: 2861؛ وابن قدامة، المغني 4: 77، 465؛ وعبد الرحمن المقدسي، شرح المغني الكبير 3: 25.

([11]) فخر المحققين، إيضاح الفوائد في شرح القواعد 2: 48.

([12]) كاظم مدير شانه جى، علم الحديث ودراية الحديث: 144؛ ومحمد رضا المظفر، أصول الفقه 3: 48.

([13]) محمود الشهابي، قواعد الفقه: 77.

([14]) رسالتيْن: 2 ـ 4.

([15]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 17: 145؛ والكليني، فروع الكافي، باب الشفعة، ح4؛ والميرزا حسين نوري، مستدرك الوسائل 3: 150.

([16]) علي محمدي، شرح أصول الفقه 2: 78 ـ 90.

([17]) علي رضا فيض، مبادئ الفقه والأصول: 40.

([18]) أبو الحسن محمدي، قواعد الفقه: 155، نقلاً عن الكليني.

([19]) البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 176 ـ 208 .

([20]) أبو الحسن محمدي، قواعد الفقه: 156.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً