أحدث المقالات

أ. بدر بن سالم بن حمدان العبري(*)

يمرّ العالم العربيّ والإسلاميّ بمرحلة متغيِّرات ما بعد العولمة، ولقد كُتِبَ في ذلك الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات، وأغلبها يركّز على الجانب السياسيّ وتقلُّبات المنطقة، وأثر الربيع العربيّ وسقوط أنظمة عربيّة، ونشوء الصراع مع الإسلام السياسيّ ـ إنْ صحّ التعبير ـ، وعلى الجوانب الاقتصاديّة والإعلاميّة وأثرها على الفرد، ودَوْر الرأسماليّة التي أرخَتْ ذيولها على العالم، وتأثيرها الإعلاميّ والثقافي على الفرد والمجتمعات عموماً.

وفي هذا البحث المتواضع أرى أن نقرأ الحالة المعاصرة وبُعْدها المستقبليّ للعالم العربيّ من خلال بُعْدين: إحياء الهويّة؛ ومشترك الأنسنة، حيث قد يظهر شيءٌ من التناقض بين الهويّة، وهو مكوّنٌ ضيّق، وبين الأنسنة، وهو مكوّنٌ واسع منفتح على الآخر. لهذا قيّدت الهويّة بالإحياء، والأنسنة بالمشترك.

إحياء الهُويّة وعلاقته بالمتغيِّرات

الهُويّة لغةً واصطلاحاً

الهُويّة بضمّ الهاء مصطلحٌ حديث، لم يستخدم سابقاً، لهذا لا نجد له تأصيلاً واضحاً في اللغة. وأقرب معجم حدَّده هو المعجم الوسيط، واعتبره من «الهُويّة في الفلسفة حقيقة الشيء أو الشخص التي تميّزه عن غيره، وبطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيّته ومولده وعمله، وتسمّى البطاقة الشخصيّة أيضاً»([1]). وأرجعه بعضهم إلى المفهوم الصوفي المشتقّ من الضمير هو هو، حيث اعتبر «الهُويّة في الّلغة مشتقّة من الضمير هو، أمّا مصطلح «الهوَ هو» المركَّب من تكرار كلمة هو، فقد تمّ وضعه كاسم معرّف بـ (ال)، ومعناه الاتّحاد بالذات. ويشير مفهوم وتعريف ومعنى الهُويّة إلى ما يكون به الشيء «هو هو»، أي من حيث تشخُّصه وتحقُّقه في ذاته، وتمييزه عن غيره؛ فهو وعاء الضمير الجمعيّ       لأيّ تكتُّل بشريّ، ومحتوى لهذا الضمير في الوقت نفسه، بما يشمله من قِيَم وعادات ومقوّمات تكيّف وَعْي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها»([2]). «والهَويّة ـ بفتح الهاء ـ كغنيّة، بعيدة القعر»([3]).

  والهُويّة اصطلاحاً بالنسبة للفرد «بناء عقليّ يؤشِّر على تصوّرات الفرد عن ذاته عبر الماضي والحاضر والمستقبل، وتتفاعل الذات مع الآخرين في ضوء هويّتها الفرديّة»([4])؛ وبالنسبة للمجموع إنّها «تقوّم العلاقة في إطار العلاقة بين الفاعل والبناء الاجتماعيّ… فالفاعل يظلّ دائماً منخرطاً في شبكة علاقات اجتماعيّة تضع سلوكه في إطار بناءٍ اجتماعيّ معين، ويضفي هذا البناء على الفعل خصائص معينة تجعل له سَمْتاً خاصّاً، وصبغةً خاصّة؛ بل إنّه يعزز أنماطاً بعينها من الشخصيّة الفرديّة»([5]). لهذا يرى أحمد زايد (معاصر) أنّ «لتحديد مفهوم الهويّة الوطنيّة على نحوٍ دقيق يجب أن نستبعد الفهم الخاطئ للهويّة الوطنية بوصفها أداةً لتحقيق شكلٍ من أشكال الوحدة القسريّة في الحياة الاجتماعيّة، أو فرض إرادةٍ بعينها على شعب من الشعوب، كما يحدث في النزعات الشيفونيّة والنازيّة، أو كما يحدث من جانب بعض الأيديولوجيات ذات الصبغة الدينيّة، التي تميل إلى إقصاء وتهميش الجماعات المخالفة لها، وتلغي مفهوم التعدُّديّة من قاموسها السياسيّ»([6]).

الهُويّة العربيّة، من الحداثة إلى العولمة فالمواطنة

  وظهرت الهويّة في الغرب مرتبطةً بالحداثة، بينما تأخّرت في العالم الإسلاميّ والعربيّ إلى نهايات القرن العشرين كارتباطٍ بالحداثة وانفتاحٍ لها. ويرجع محمد أركون(2010م)، في كتابه الإنسانيّة والإسلام، تأخُّرها إلى «أنّ السبب الأساسيّ في إخفاق ديناميكيّة التحديث العربيّة يرجع إلى حاجز الدفاع عن الهويّة الذي أنتجته أيديولوجيا الكفاح ضدّ الاستعمار والهيمنة الغربيّة، فهذه الأيديولوجيا وإنْ كانت مشروعة سياسيّاً فإنّها شكّلت عائقاً جوهريّاً دون تحديث المجتمعات الإسلاميّة، بتحويلها الحداثة إلى خصمٍ حضاريّ، تتعين محاربته ثقافيّاً وفكريّاً، مثلما تمّت محاربة المستعمر عسكريّاً وسياسيّاً»([7]).

  إلاّ أنّ الهويّة ظهرت بعد أحداث الربيع العربيّ بقوّةٍ؛ لما في الإعلام الجديد من خلال شبكات وسائل التواصل الاجتماعيّ من دَوْرٍ كبير في رفع مستوى التدافع الفكريّ والدينيّ والمدنيّ، بكلّ حرّيةٍ وأريحيّة، وهذا سيؤثِّر بشكلٍ طبيعيّ على المجتمع وهويته، إيجاباً أم سلباً. لهذا انتقلت الهويّة من ارتباطها بالحداثة إلى الارتباط بالعولمة أو الكوكبة والأصالة في نهاية القرن العشرين إلى ارتباطها اليوم بالمواطنة والدولة المدنيّة والأنسنة والحرّيات.

الهُويّة بين النقد والقبول

  وقد كانت الهويّة تتصارع بين اتجاهين: «اتجاه نقديّ أيديولوجيّ للهيمنة الثقافيّة الغربيّة، من حيث هي إحدى دوائر السيطرة والاستعمار والإمبرياليّة، والمطالبة باستقلال الذات التاريخيّة، والتحرُّر الثقافي»([8])؛ «واتجاه نظريّ فلسفيّ يدافع من منطلق النظريات النقديّة للحداثة عن استقلاليّة المجال التداوليّ العربيّ الإسلاميّ، وعن حداثةٍ بديلة تتشكّل بحَسَب الخصوصيات الحضاريّة المحلِّية»([9]). وأتصور أنّ العقل المجتمعيّ تجاوز المرحلة الأولى، حيث لم يصبح فقط يؤمن بضرورة الحداثة، بل بتحقيق المشاركة الشعبيّة في صنع الحداثة. ولا تقتصر الحداثة عند الجانب الاجتماعيّ والتقنيّ والمهنيّ فحَسْب، بل تشمل الجوانب السياسيّة والمواطنة والعقد الاجتماعيّ. فلم يَعُدْ ذلك الخطاب الدينيّ المتشدِّد ضدّ الحداثة، والمستكين للسلطات المستبدّة، سواء السياسيّة أو الاجتماعيّة أو القبليّة المناطقيّة، من باب النظرة الضيّقة للهويّة، وخطر التغريب عليها، فتصوّر أنّ الحفاظ على هويّته مربوطٌ بهذه السلطات المستبدّة؛ حيث لم يَعُدْ هذا الخطاب حاضراً، والذي تمثَّل بقوّةٍ مع تصاعد تيار الصحوة، أو ثورة الكاسيت.

  وفي المقابل كشف النقاب عن الخطاب الثقافي المبرّر لاستبداد السلطة باستخدام أدوات الحداثة والتحديث وقِيَم الثقافة. وهنا يكمن «الخطر في خلط العامل الثقافي بالسياسيّ، لا لأنّ هذين العاملين يشتغلان بآليّتين مختلفتين وحَسْب، ولا لأنّهما يتحرّكان في مستوياتٍ قد تتداخل أحياناً…، بل لأنّ استراتيجيات الثقافة شيءٌ ومناورات السياسة شيءٌ آخر»([10]).

الدولة الدينية المطلقة في مراجعاتٍ داخليّة

  ومع تجاوز الخطابين السابقين في ظلّ المتغيِّرات المعاصرة بدأ الخطاب أيضاً يتجاوز مرحلة الدول الدينيّة المطلقة أو الدولة العلمانيّة المطلقة؛ ففي الأديان، ومنها: دين الإسلام، كما يرى علي عبد الرازق(1966م) في كتابه الإسلام وأصول الحكم، ترجع الخلافة أو الدولة في جملتها إلى «أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة»([11]). ومع ظهور الإسلام السياسيّ من جديدٍ في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد سقوط الخلافة العثمانيّة 1922م، وتبعها سقوط الإمامة الدينيّة الإباضيّة بعد حرب الجبل الأخضر في عُمان عام 1959م، ثمّ الإمامة الدينيّة الزيديّة في اليمن عام 1966م، إلاّ أنّ الإسلام السياسيّ استمرّ تحالفه في المملكة العربيّة السعوديّة باسم السلفيّة أو الوهّابيّة، وكان خصماً للدّولة الناصريّة في مصر، ومن ثمّ حزب البعث في العراق وغيره. إلاّ أنّ نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران 1979م في ظلّ ولاية الفقيه، وبداية الصحوة الإسلاميّة، وثورة الكاسيت، ونشاط الإخوان المسلمين، وتمكّنهم فترةً في السودان، إلى نجاحهم المعاصر في تركيا، وبعد أحداث الربيع العربيّ صعد تيار الإخوان المسلمين من جديدٍ في مصر لفترةٍ، ونجح في تونس والمغرب العربيّ، وهكذا حزب الدعوة في العراق؛ هذه التجربة أعطَتْ مراجعات للدولة الدينيّة من الداخل، وإعادة بلورة للكثير من التشريعات والأحكام، والانفتاح على النظريّات السياسيّة المعاصرة، والقبول بالتعدُّديّة والدولة المدنيّة، والشراكة مع باقي طوائف المجتمع، ورفض العنف والاستبداد، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، فأصبحت تمارس ما كان يعتبر سابقاً كفراً بواحاً مخرجاً من الملّة.

 

الدولة العلمانيّة في أقسامها الخمسة

  وأمّا الدولة العلمانيّة فيرى السيد ولد أباه (معاصر) أنّ «العلمانيّة ـ على عكس مقولتَيْ: التنوير؛ والحداثة ـ مصطلحٌ غائم، يحجب أكثر ممّا يبين، وهو عاجزٌ عن إبراز الرهانات المعقّدة للمسألة السياسيّة ـ الدينيّة في السياقين الإسلاميّ والغربيّ»([12]).

وهنا بالجملة لسنا في صدد التعريف، إلاّ أنّه من المهمّ الإشارة أنّ العلمانيّة في العالم الإسلاميّ خصوصاً فُهمت في خمس نظريات مهمّة: العلمانيّة المشوّهة، والعلمانيّة المستبدّة، والعلمانيّة الشاملة، والعلمانيّة الجزئيّة، والعلمانيّة الثالثة. أمّا العلمانيّة المشوَّهة فهي ردّة فعلٍ متسرّعة من العديد من الكتّاب الإسلاميّين والدينيّين عموماً، حيث تصوَّروا أنّ «العلمانيّة [بالجملة] هدفها إخراج الإنسان العربيّ من ذاتيّته [ودينه] وقِيَمه، ومزاجه النفسيّ، وتركيبه الاجتماعيّ كلّه، لتقذف به في أتون العالميّة والأمميّة»([13])؛ وأمّا العلمانيّة المستبدّة فقد ظهرت «صيغتها التطبيقيّة الأولى في الاتّحاد السوفياتيّ بعد ثورة 1918م بقيادة لينين(1924م)…، ثمّ انتشرت في صيغ مختلفة إلى حدٍّ ما في أوروبا الشرقيّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة»([14])، وقد أدَّتْ هذه العلمانيّة إلى «إلغاء دَوْر الدين من كلّ مجالٍ من مجالات الحياة العامّة، تشريعاً وتعليماً وتوجيهاً»([15]). وهذه الصورة من العلمانيّة ساعدَتْ في إضفاء صورةٍ مشوّهة، خصوصاً إذا استغلها السياسيّ مقابل خصومه الدينيّين، وبرّر لها المثقَّفون والمصالحيّون لمقاصد آنيّة؛ وأمّا العلمانيّة الشاملة فهي «فصل لكلّ القِيَم الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة المتجاوزة لقوانين الحركة المادّية والحواسّ عن العالم…، بحيث يصبح العالم مادّةً نسبيّة لا قداسة لها»([16])، وهذه أقرب إلى العقلانيّة التجريبيّة، وتدخل في النوع الثاني، أي العلمانيّة المستبدّة إذا تحوّلت من جانبٍ معرفي عامّ إلى مشروعٍ سياسيّ يفرض هيمنته على الجميع؛ وأمّا العلمانيّة الجزئيّة ـ كما يراها عبد الوهّاب المسيريّ(2008م) ـ فهي «أقرب إلى فصل الدين عن الدولة، لكنّها تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، أي لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكلّيات أخلاقيّة وإنسانيّة، ورُبَما دينيّة، أو وجود ماورائيّات وميتافيزيقا…. فهي لا تسقط الواحديّة الطبيعيّة أو المادّية على الإنسان، بل تترك للإنسان حيِّزه الإنسانيّ يتحرّك فيه إنْ شاء. ويرى كثيرٌ من المفكِّرين المسلمين والمسيحيّين أن لا تعارض بين هذا النوع من العلمانيّة والإيمان الدينيّ»([17])؛ وأمّا العلمانيّة الثالثة فقد أطلقها عصام القيسيّ (معاصر)، حيث يحصرها في العالم الإسلاميّ الذي يتزامن في العديد من أقطاره مع تعدُّديّة مذهبيّة تنضوي تحت دائرة الإسلام، إلاّ أنّها تختلف في بعض التفسيرات الكلاميّة والعمليّة، فيرى الانطلاق من الخيوط المشتركة في الدولة، وهو القرآن فقط، «وإنّ معظم الخطاب القرآني ينصرف إلى القصص والأخبار (العقائد)، والنسبة الباقية منه موزّعة على توجيهاتٍ أخلاقيّة لضمير الفرد والجماعة، وأحكامٍ قانونيّة للفرد وللجماعة. وأمّا النسبة الكبيرة من خطاب القصص والأخبار فلا علاقة له ـ مباشرةً ـ بسياسات الدولة وقانونها الدستوريّ. ويسري هذا الحكم ـ أيضاً ـ على الخطاب الأخلاقيّ للقرآن. وأمّا القسم الثالث من الخطاب القرآنيّ (الأحكام القانونيّة) فالأمر فيه على تفصيل: ما كان منه قطعيَّ الدلالة يمضي بوصفه قانوناً شرعيّاً ملزماً بحكم الدستور الذي سلّم بالمرجعيّة العليا للدين الإسلاميّ؛ وما كان منه قابلاً للتأويل على أكثر من دلالةٍ يبقى نصّاً ملزماً على وجه الإجمال فقط، ويختار المشرع المدنيّ بعد ذلك التأويل الذي يراه مناسباً، على أن يعدّ التأويل المختار منتجاً وضعياً لا قداسة له»([18]). وبهذا يحاول القيسيّ الجمع بين العلمانيّة كمفهومٍ إنسانيّ واسع وبين هويّة العالم الإسلاميّ تحت مظلّة المقدّس المشترك من جهةٍ، والقطعيّ أصوليّاً من حيث الثبوت والدلالة من جهةٍ ثانية، مع ترك مساحة للمشرِّع في التأويل الظنيّ، وتداول السلطة بعيداً عن الطائفة والحدود المذهبيّة الضيّقة.

الدولة المدنيّة والكرامة الإنسانيّة

  وبغضّ النظر عن الصراع بين الإسلام السياسيّ والعلمانيّة، إلاّ أنّه بعد المتغيّرات جرّاء أحداث الربيع العربيّ، وبعد سَوْءات هذين المشروعين، أصبح الجيل الجديد يهفو إلى دولةٍ مدنيّة، يتحقَّق فيها «التطابق بين السياسيّ والاجتماعيّ، بين الدولة والأمّة»([19]). هذه الدولة مرتبطةٌ بهويّة الفرد، بمعنى حقّه الإنسانيّ، قبل حقّه الوطنيّ والمدنيّ. فليست الهويّة هنا بالمفهوم الضيِّق المقتصر عند فكرٍ أو أيديولوجيا معينة، قد تستخدم لمصلحة السلطة والرأسماليّة المتحكِّمة، وإنّما متوافقة مع حقّ الفرد في المجتمع، كإنسانٍ ينتمي إلى هذه الأرض، والتحرُّر من سلطة «مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد» إذا استُخدمت كقاعدةٍ استبداديّة، أي الجماعة مرهونة بالسلطة، أو أُسَر معيّنة [سياسيّة أو ماليّة أو قبليّة].

  والجيل الجديد بالجملة ليس خصماً للإسلام السياسيّ، ولا للدولة العلمانيّة، فأصبح لا تهمّه هذه الشعارات بقدر ما يهمّه تحقيق الكرامة الإنسانيّة، وارتفاع نسبة الحقوق والحرّيات. لهذا أرى أن تكون هويّة الأمّة [العالم الإسلاميّ والعربيّ] في التداخل الإيجابيّ بين الدول، ونقل التجارب الإيجابيّة بينها، وإحياء الذات الإنسانيّة بين هذه الدول، مع صيانة الحقوق والحرّيات، وفي المقابل وقف التدخُّل السلبيّ في شؤون الغير، مع وقف أيّ شكلٍ من أشكال الحروب والعنف والتطرّف. وبطبيعة الحال لا يمكن ذكر بعض الطرق العمليّة في ذلك في مبحثٍ صغير كهذا، لكنْ لا بُدَّ من وجود قوّةٍ تحمي هذه الهويّة، سواء كانت سياسيّة أم عسكريّة أم ثقافيّة. والمقصود بالقوة هنا القوّة الجمعيّة المشتركة من جميع هذه الدول، تنطلق من استراتيجيات ومشتركات، هدفها الأوّلي الإحياء، وتحقيق الكرامة الإنسانيّة، بحيث يصبح أيّ فردٍ في هذه المنطقة معزّزاً مكرّماً بانتمائه إلى هذه الهويّة، والتي تحافظ على دينه ومذهبه وفكره وإنسانيته على حدٍّ سواء، دون تفريقٍ بين أحد.

  وأمّا هويّة الدولة فهي الانطلاق إلى الدولة المدنيّة، والتي تقترب من الدولة العلمانيّة الجزئيّة كما عند المسيريّ، أو العلمانيّة الثالثة كما عند القيسيّ، حيث تكون مدنيّةً تتحقّق فيها الشراكة الشعبيّة من خلال فصل السلطات الثلاثة، ومع وجود عقدٍ اجتماعيّ يساهم في «تعزيز المشاركة الشعبيّة، واحترام الرأي والرأي الآخر، والانفتاح، ووجود آليّات المحاسبة، والشفافيّة، وتوفير الاحتياجات الأساسيّة للمواطن؛ كلّها عناصر تسهم بشكلٍ أساسيّ في تحقيق شرعيّة النظم السياسيّة، وتكوين رابطة قويّة بين الشعوب والحكّام، ومن ثمّ تؤدّي إلى وجود مجتمعات متماسكة محصّنة، قادرة على الصمود والمقاومة، ومواجهة كلّ التحدّيات والتهديدات، والتصدّي لها بجدارةٍ واقتدار»([20]). «وإذا كانت فكرة المدنيّة قديمةً إلى هذا الحدّ فإنّ مفهوم الدولة المدنيّة مفهومٌ ألصق بالمجتمعات الحديثة، حيث حاول فلاسفة التنوير تهيئة الأرض فكريّاً لنشأة دولةٍ حديثة تقوم على مبادئ المساواة، وترعى الحقوق، وتنطلق من قِيَم أخلاقيّة في الحكم والسيادة، مع استبعاد النزعات المتطرّفة أو الاستبداديّة من السيطرة على مقدّرات الدولة»([21]).

  ووجود دولة مدنيّة لا يعني بالضرورة تحجيم دَوْر المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة، ولكنّ هذه المؤسّسات داعمةٌ في حفظ الدولة المدنيّة من جهةٍ، وفي حفظ صيرورتها التنمويّة والتقدُّميّة والتطوُّريّة، لا أن تكون أداةً قمعيّة تحفظ الطبقات المتنفّذة لأجل مصالح أفرادها الشخصيّة، بحيث تحفظ القانون العادل، وتحافظ على الشراكة الطبيعيّة من خلال المؤسّسات المدنيّة، ومؤسّسات العمل المدنيّ. وما تمارسه هذه المؤسّسات في بعض الدول العربيّة والإسلاميّة من حماية «الاستبداد المحلّي، الذي يفرض نفسه رغم إرادة الشعب على المستوى الوطنيّ، ويعتمد على ما يمتلكه من أسباب القوّة لفرض إرادته، وممارسة إجراءاته، لا يصلح أن يكون هو المرجعيّة التشريعيّة… وإنّ استخدامه للعنف في قمع الشعب وقهر إرادته هو بحدّ ذاته شكلٌ من أشكال الإرهاب الذي تجب إدانته ومقاطعته»([22]).

  ومع إحياء الهويّة الفرديّة والجماعيّة في العالم الإسلاميّ والعربيّ خصوصاً، وما يدخل فيه من إصلاحٍ سياسيّ وثقافي واجتماعيّ وقانونيّ وأمنيّ، لا بُدَّ من الإصلاح الاقتصاديّ، وأداء حقّ الفرد بما يحقِّق كرامته كإنسانٍ، ليس على مستوى إقليمه فحَسْب، بل على مستوى أمّته؛ بل لا أجازف على المستوى الإنسانيّ ككلّ، بحيث يكون الفقر جريمةً بحقّ الأفراد، أيّا كان هذا الفرد، وأيّا كان دينه وتوجُّهه، حيث يجب على المجتمع الإنسانيّ محاربة كلّ ما يؤدّي إلى أكل خيرات الشعوب، وابتزازهم، والاتّجار بالبشر. «فالانتخابات الحرّة، والتعدُّديّة السياسيّة ليستا كافيتين لإيجاد الديمقراطيّة؛ إذ ينبغي أن تكون المساواة الاقتصاديّة متاحةً، أو أن تكون الحكومة ملتزمةً بمبدأ تضييق الهوّة الاقتصاديّة بين أفراد الشعب»([23]). ولعلّي اقترح هنا وجود محاكم دوليّة، أو على الأقلّ على المستوى العربيّ والإسلاميّ، تكون متعلِّقةً بالأفراد، ولها فروعها، وللأفراد حقّ التقاضي لأيّ مظلمةٍ، وتكون مستقلّةً، ومرتبطة بخيط الشعوب ككلّ، حيث يكون من حقّ الفرد التقاضي في ما يتعلّق بالمساس بالحقوق الإنسانيّة لأيّ فردٍ من قِبَل المؤسّسات الكبرى في أيّ مجتمع، وبهذا ينخفض معدل اللجوء، الذي يحدث أضراراً أكبر، ويكوّن جماعات متطرّفة في الخارج، أو يضطرّ الشخص للتنكُّر لذاتيّته ودينه ومجتمعه وجماعته، بل وتأريخه.

  فخلاصة ما سبق أن الهويّة هنا ليس بالمعنى الضيق المتنكّر للعدالة والحداثة، وليس بالمعنى التغريبيّ المطلق والعلمانيّ الاستبداديّ، ولكنّها هويّة تحفظ حقّ الفرد وتعدُّديته وواجباته. لهذا يكون عالم الدين أو المثقف حافظاً على هذه الهويّة، لا أن يكون مصالحيّاً، وهذا ينطبق بشكلٍ طبيعيّ على مؤسّسات العمل المدنيّ، والمؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة.

  وإذا لم تقدّم الهويّة بهذا المفهوم الإحيائي والإصلاحيّ فمن الطبيعيّ انتشار الأمراض التصوُّريّة والمجتمعيّة، بدءاً من الإلحاد، وهو ردّة فعلٍ للمجتمع الدينيّ والقبليّ المحافظ على استبداد فئةٍ، وحمايتها باسم الدين، فضلاً عن الأمراض المجتمعيّة بما فيها الاقتصاديّة، التي أشَرْنا إلى بعضها سلفاً.

مشترك الأنسنة، وأهمّيته في ظلّ المتغيِّرات([24])

الأنسنة لغةً من أنس، والإنس إمّا من النسيان؛ لرواية ابن عباس: «إنّما سُمِّي إنساناً لأنّه عهد إليه فنسي»([25])، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ (طه: 115)؛ أو من الأُنْس، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ (القصص: 29).

   وعادةً يستخدمون من مصدر الإنسان الإنسانيّة. أمّا اليوم؛ نتيجة تأثير الدراسات الغربيّة، شاع مصطلح الأنسنة والإنسانويّة. وجاء في موقع مجمع اللغة العربيّة، فتوى رقم 527: «الأَنْسَنَة لفظ اشتقَّ من الإنسان، وبُنيَ على بناء الفَعْلَلَة، وهو بناءٌ مصدريّ يُراد به تحويل قضيّةٍ ما إلى قضيّةٍ إنسانيّة. والأنسنة نزعةٌ فلسفيّة أخلاقيّة غربيّة تركِّز على قيمة الإنسان وكفاءته، وتنتهج التفكير العقلانيّ، والمنهج التجريبيّ. أمّا الإنسانويّة فهي لفظٌ مبنيّ بناءً مصدريّاً صناعيّاً، وزيدت عليه الواو كما زيدت في الأصل اللاتيني للتعبير عن ادّعاء الشيء، أي ادّعاء النزعة الإنسانيّة»([26]). لذا يرى المجمع «أنّ الأَنْسَنَة تثير لبساً؛ لأنّها لفظ غير مشهور، وغير متداول بكثرةٍ، ويفضّل عليه: النزعة الإنسانيّة؛ إلاّ إذا أُريد به تحويل قضيّةٍ ما إلى قضيّةٍ إنسانيّة، فهذا مقبولٌ. أمّا الإنسانويّة فهي لفظٌ مركّب تركيباً غريباً من حرف مقحم هو الواو، والأفضل منه التعبير عن المعنى بما يفيد ادّعاء الإنسانيّة»([27]).

  «والأنسنة اسمٌ أطلقه شيلر(1805م) على المذهب الذي استخدمه في مؤلَّفاته، ويرتبط بحكمة بورتاغوراس(411ق.م): الإنسان هو المقياس لكلّ الأشياء، وتعني كما جاءت في موسوعة لالاند الفلسفيّة: مركزيّة إنسانيّة متروّية. تنطلق من معرفة الإنسان. وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه، واستبعاد كلّ ما يمكن تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لحقائق ولقوى خارقة للطبيعة البشريّة أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالاً دونيّاً دون الطبيعة البشريّة»([28]).

والأنسنة وإنْ ظهر بقوّةٍ مع فلاسفة التنوير، ثمّ ارتبط بالفردانيّة، وحقّ الفرد كإنسانٍ؛ إلاّ أنّه رجع مؤخّراً، وبشكلٍ كبير، وخصوصاً في العالم الإسلاميّ، وفي الدراسات العربيّة، ولا سيَّما بعد تصاعد الإمبرياليّة الغربيّة على العالم، أو «هيمنة القويّ على الضعيف، والغنيّ على الفقير، أو هيمنة الغرب على الشرق، وأعلى من هذا الهيمنة الأمريكيّة على العالم»([29]). وهذا النداء تصاعد حتّى عند العديد من الغربيّين، «فلا بُدَّ للبشر من أن يكونوا دائماً موضوعات حقوق، يجب أن يبقوا غايات، لا وسائل على الإطلاق، لا أشياء قابلة للتسليع والتصنيع والاتّجار في ميادين الاقتصاد والسياسة ووسائل الإعلام، في معاهد البحوث والمؤسّسات الصناعيّة»([30])، «فكلّ كائنٍ بشريّ، دونما تمييز على أساس السنّ والجنس والعرق والبشرة واللون والقدرة البدنيّة أو الذهنيّة واللغة والدين ووجهة النظر السياسيّة أو الجذور الاجتماعيّة، يتمتَّع بكرامةٍ ثابتة لا يمكن المساس بها»([31])، «ومن غير الأخلاقيّ حقّاً إقصاء تطلّعات وطموحات العالم الثالث لمجرّد المحافظة على ما يوفّره نمط خاصّ من العمل الغربيّ من راحةٍ»([32]). «وأطير فرحاً حين أقف على طموحات فقراء العالم الثالث وأحلامهم، على رغبتهم في تحقيق الثروة والازدهار والحرّية»([33]).

ولقد وحّد الأقاليم العربيّة والإسلاميّة أمران: الأوّل: البُعْد المناطقيّ، ممّا يولد نظرةً محدودة للتصوّرات من جهةٍ، ويبعد عناصر التنافر والصراع من جهةٍ ثانية؛ والثاني: في القرن المنصرم كان العدوّ المستعمر واحداً، ممّا جعل الجميع على اختلاف أديانهم وطوائفهم يشتغلون على طاولةٍ واحدة للتحرُّر من المستعمر الخارجيّ من جهةٍ، وللتحرُّر من التخلُّف من جهةٍ ثانية. فلمّا استقلّ العالم العربيّ والإسلاميّ في جملته، عدا أرض فلسطين، وكان الإعلام المقرّب، صحافةً وتلفزة وإذاعة، فضلاً عن انتشار الكتاب وتحقيق التراث مع انتشار الكاسيت، هنا بدأ البعيد يقرب، والمخفيّ يظهر، والخلاف يسطع. كما أنّ الحوزات والجامعات الدينيّة في جملتها انغلقت على تيار واحد، فخرَّجت صوراً واحدة متعصِّبة لمذهبها وطائفتها، فكانت الفضائيات في التسعينات، والتي ظهرت بسببها الطائفيّة بشكلٍ أكبر، إمّا لمصالح تجاريّة أو سياسيّة، فسقط هذا على الشبكة العالميّة، ومن ثمّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، فظهرت تيارات تحمل اسم الإسلام وتراثه، كبوكو حرام وداعش، وأظهرت الأديان من جديدٍ أنّها أفيون التطوُّر والنماء، وزاد الأمر سوءاً بالنسبة للدين الإسلاميّ، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من ديسمبر.

محاولاتٌ في مراجعة النصّ الدينيّ

كلُّ هذا ولَّد دراساتٍ حاولت مراجعة النصّ الدينيّ، والبُعْد عن القراءة السلفيّة والتراثيّة. وليس المراد القراءة الظاهريّة فحَسْب، بل حتّى عند المقاصديين والإصلاحيين في الجملة. فظهر المنهج القرآنيّ المطلق، حيث «يقدّم القرآن على أيّ نصٍّ عداه. وهو مذهبٌ قديم، استقرّ عند البعض في الاعتقاد، وتوسّعوا في الفقه. ثمّ ظهر المذهب القديم عند القرآنيّين، وعند أحمد صبحي منصور (معاصر) خصوصاً، كما في كتابه (القرآن وكفى). وهناك مَنْ يقدّم النصّ القرآني في تحكيم الرواية مطلقاً، وإنْ كان هذا المنهج قديماً، وقال به أهل الحديث. إلاّ أنّ محمود أبو ريّة(1970م) أعاد صياغته من جديدٍ، كما في كتابه (أضواء على السنة النبويّة)، وكذا الحال مع محمد الغزاليّ(1996م)، كما في كتابه (السنّة بين أهل الفقه وأهل الحديث)، ومن المتأخِّرين: طه جابر العلوانيّ(2016م). وفريقٌ آخر يعمِّق الجانب الدلاليّ في القرآن، كما عند أبي القاسم حاج حمد(2004)، وعالم سبيط النيليّ(2000م)، ومحمد شحرور(2019م)، وعدنان الرفاعيّ (معاصر)، وخالد الوهيبيّ (معاصر). وهناك منهج يحاول الملائمة والموافقة بين التراث والتغريب، وإعادة قراءة العقل العربيّ قراءةً معاصرة، كما عند محمد عابد الجابريّ(2010م). وفريقٌ آخر يرى تأريخيّة النصوص مطلقاً بما فيها القرآن، فيستخدم المنهج التفكيكيّ الواحد، كما عند محمد أركون(2010م). وغيرها من المناهج»([34]). إلاّ أنّه بدأ يظهر منهجٌ آخر لا يقول بمراجعة النصّ الروائيّ فحَسْب من خلال القرآن، أو قراءة النصّ قراءةً تفكيكيّة، أو القول بظرفيّة وتأريخيّة النصّ؛ وإنّما مراجعة قدسيّة النصّ القرآنيّ ذاته، والتفريق بين الوَحْي الإلهيّ والوَحْي المحمّديّ، وأنّ القرآن لفظٌ محمّديّ، وليس وَحْياً إلهيّاً من حيث اللفظ والتراكيب واللغة، وما يتبع ذلك من صلاحيّة النصّ القرآني لعالمنا اليوم، كما عند عبد الكريم سروش (معاصر)، ومحمد مجتهد شبستري (معاصر)، وأحمد القبّانجي (معاصر)، وسعيد ناشيد (معاصر)([35]).

وهنا لا نتحدَّث عن القراءات الإصلاحيّة، كما عند محمد عَبْدُه(1905م)، وقراءته الإصلاحيّة التجديديّة، وقيام قراءات إصلاحيّة أخرى، كالبيوضيّة [نسبة إلى الشيخ إبراهيم بيوض(1980م) في الجزائر مثلاً، بجانب كتابات الشيخ محمد الغزاليّ(1996م)، والسيد محمد حسين فضل الله(2010م) فيما بعد مثلاً؛ وإنما نتحدَّث هنا عن قراءاتٍ في صلاحيّة النصّ الدينيّ ذاته، ممّا يولّد حالةً من التشظّي في الفكر الدينيّ بشكلٍ عامّ، حيث العالم الإسلاميّ؛ نتيجة الإعلام الجديد، ومرحلة ما بعد الصحوة، قادمٌ على قراءاتٍ جديدة. ولسبب كونها أحاديّة، وعدم انطلاقها من مؤسّسات، قد يحدث شيءٌ من الضبابيّة، ممّا يولّد ـ مع الصورة السلبيّة للتراث والتديُّن وقمع الحرّيات ـ زيادة حالات الإلحاد في العالم الإسلاميّ، أو على الأقلّ زيادة معدّلات الربوبيين أو اللاأدريّين، أو حتّى النفاق الدينيّ والعقائديّ.

لهذا على المؤسّسات الدينيّة، وخصوصاً في الحوزات والجامعات المختصّة بالفكر الدينيّ وشرائعه، فتح أكبر بابٍ لمراجعة التراث والنصّ الدينيّ الذي يتولّد من خلال الأنسنة([36])، بدءاً من أنسنة التأريخ؛ فتأريخ هذه الأمّة تأريخٌ بشريّ إنسانيّ يحوي النجدين: الخير والشر، الصواب والخطأ، الإيجاب والسلب، كتأريخ أيّ أمّةٍ في الأرض، وليس هو تاريخاً ملائكيّاً مميزاً، وليس حيوانيّاً شهوانيّاً. وأنسنة التأريخ أي رفع القداسة عنه، فليس نصّاً تشريعيّاً مغلقاً، ولا مفتوحاً، بل هي تجربةٌ بشريّة، تدرس بشكلٍ أكاديميّ لا أكثر. فلا داعي للصّراع حول رموز مرجعها إلى باريها، وهو العدل الذي لا يظلم أحداً، ويَسَع في هذا قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 134). والأنسنة في التأريخ مرتبطةٌ بالظرفيّة، أي يقرأ في ظرفه الزمنيّ، ولا يربط بالمقدَّس.

ثمّ أنسنة الخلاف الكلاميّ والعقائديّ؛ لأنّ هذا الخلاف شيءٌ طبيعيّ تكوينيّ من أهمّ أسبابه أنّ النصّ القرآني بطبيعته نصٌّ مفتوح. ولكونه مفتوحاً فهو قابلٌ للتأويل. فأنسنتها هنا أي جعلها في قدرها الإنسانيّ الطبيعيّ. وهي حالةٌ صحيّة، لا يترتَّب عليه تكفيرٌ ولا تفسيق؛ لأنّه كلّما كان التأويل واسعاً كانت التعدُّديّة حاضرةً. وعليه يرتفع الحكم على المختلفين في البيت الإسلاميّ بالجنّة والنار، وترك الحكم لله وحده. ويتّسع هذا مع باقي الطوائف من باب التعدُّديّة المرتبطة بالإنسان، ومراجعة الأحكام الظرفيّة في ذلك، كالجزية وحدّ الردّة والولاء والبراء وغيره([37]).

وهكذا في ما يتعلّق بتقديس وإطلاق التراث، حيث يعتبر التراث بنصوصه وتطبيقاته، بأساطيره وواقعيّته، الشفويّ منه والمادّي، ملكاً للجميع. وتراث مجتمع البيت الإسلاميّ تراثٌ إنسانيّ مفتوح، وهو تجربةٌ بشريّة في مختلف فنون المعرفة الإنسانيّة والتجريبيّة. إلاّ أنّ الإشكاليّة الّتي تؤثِّر على مجتمع البيت الإسلاميّ هو جعل التراث جملةً نصّاً مطلقاً، والتعصُّب له، وتحريم نقده، والبحث في سَوْءات الآخرين عن طريق قصاصات الكتب الصفراء. وعليه الأصل أن يُقْرَأ التراث قراءةً إنسانيّة طبيعيّة، فهو ظرفيٌّ مرتبطٌ بفترةٍ زمنيّة، فقراءته لا تكون مطلقةً، وإنّما يراعى الزمان والمكان الذي وضع فيه، فيُستفاد من حسناته، وتنقد سيّئاته، ولا يتعصَّب له.

كما أنّ على المؤسّسات والجامعات الدينيّة أن تنفتح على بعضها، دراسةً وبحثاً وحواراً، وأن تشجّع على التعدُّديّة والحوار والنقد، وإلاّ سيتجاوزها الزمن، كما تجاوز غيرها؛ فالجيل الجديد كما أشَرْنا آنفاً في مبحث الهويّة أصبح يبحث عن نظامٍ ودولة تحقِّق له مكانته وحرّيته كإنسان، لا أن يعيش في صراع الماضي، وأوهام الحاضر، وأماني المستقبل الخادعة.

وإذا كان على الخطّ الدينيّ أن يراجع الأنسنة في تراثه وخطابه الدينيّ فكذلك في الجانب الثقافي أيضاً. فلا داعي إلى اللغة العُلْويّة المبالغ فيها، وعدم الاستماع للآخر، سواء في الكتابة أو الخطاب أو في النظرة للآخر. «ويقع فيه بعض المثقفين حين تدور مناقشتهم حول قضايا فلسفيّة أو شبه فلسفيّة مقطوعة الصلة بواقع الحياة اليوميّ وواقع مجتمعاتهم»([38]). فغاية الثقافة هو التنوير والإصلاح والأنسنة، وهذا لا يتحقَّق إلاّ باحترام المختلف، والاستماع إليه، وإنْ رأيته متخلِّفاً رجعيّاً ماضويّاً؛ فهذه إسقاطاتٌ علاجُها باحترام ذاته، ثمّ الحوار معه. «فمجال الثقافة ليس مجال التنافس وإثبات الأسبقيات، بل هو مجال التعاون والحوار المثمر»([39]).

وهذا ذاته ما يتعلّق بمؤسّسات العمل المدنيّ، والسلطة، والمؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة؛ فنظام الدولة من حيث الأنسنة يؤدّي إلى «احترام حقوق الإنسان، وصيانة حرّياته الأساسيّة، وتحرير إرادته من القيود. هي ضرورةٌ أساسيّة لتحرير المواطن، وبعث الحياة في الأمّة، وتطوير النظم السياسيّة والاقتصاديّة. هو أمرٌ مطلوب لتنمية المجتمعات العربيّة، والتفاعل مع العالم»([40])؛ «حيث يتطلّب العمل في مجال حقوق الإنسان بناء وإعادة تصوُّرات جديدة في موضوع الإنسان والطبيعة والعقل والتاريخ والحرّية والاجتهاد»([41]).

فالأنسنة في جملتها تقوم على أسس: إقرار التعدُّديّة الدينيّة والمذهبيّة والفكريّة والعرقيّة والإثنيّة في المجتمع، ثمّ حقوق الفرد الذاتيّة وكرامته الإنسانيّة، وتحقيق الحدّ المعيشيّ الحافظ لكرامته ومكانته في المجتمع، ثمّ أنسنة القانون، بحيث يكون حافظاً لكرامة الفرد الإنسانيّة، ومن جهةٍ أخرى محقّقاً للعدل والاستقلاليّة، ثمّ أنسنة مؤسّسات الدولة، بحيث تبنى على الكفاءة الذاتيّة للبشر، لا على أساس التوجُّه الدينيّ أو المذهبيّ أو القبليّ أو المناطقيّ، فأنسنة المؤسسات أكبر وسيلة لاستقرار الدول وتطوّرها ورقيّها ونمائها، ثمّ تحقيق العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق الفرديّة بناءً على الأنسنة والقيمة الذاتيّة للفرد، وأخيراً تحديث الدولة وأنظمتها ودستورها وهيكلها بما يعزّز القيمة الإنسانيّة في المجتمع، ويحافظ على الحرّيات والحقوق الذاتية للمجتمع ومواطنيه ومَنْ يقيم فيه.

وخلاصة ما سبق أنّ المتغيِّرات الفكريّة والدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في عالمٍ أصبح مفتوحاً ومكشوفاً، تداخلاً وإعلاماً، وذا مركزيّةٍ ومؤسّسات مدنيّة، يتطلب هذا أنسنة الدولة والمجتمع، ومراجعة الفكر الدينيّ والثقافيّ والمجتمعيّ بما يحقِّق هذه الأنسنة، ويحفظ الحرّيات الفرديّة في المجتمع، ويحمي الحقوق الجماعيّة فيه.

 

الهوامش

(*) باحثٌ وكاتبٌ. من عُمَان.

([1]) إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيات وآخرون، المعجم الوسيط 2: 998، المكتبة الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع، تركيا ـ استانبول، لا تأريخ.

([2]) موقع موسوعة كلّه لك، تأريخ الزيارة: الأحد، 3 نوفمبر 2009م، الساعة الخامسة والنصف عصرا، صفحة تعريف ومعنى الهُويّة.

([3]) الفيروزآبادي، القاموس المحيط: 1347، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسّسة الرسالة، بإشراف: محمد نعيم العرقسوسيّ، مؤسسة الرسالة، لبنان ـ بيروت، ط6، 1419هـ ـ 1998م.

([4]) أحمد زايد، الهويّة الوطنيّة والمسؤوليّة الاجتماعيّة: 136، دار العين للنّشر، مصر ـ القاهرة، ط1، 1439هـ ـ 2018م.

([5]) المصدر السابق: 17.

([6]) المصدر السابق: 142 ـ 143. بتصرُّفٍ بسيط.

([7]) السيد ولد أباه، الدين والهويّة: إشكالات الصدام والحوار والسلطة: 55، جداول للنشر والتوزيع، ط لبنان ـ بيروت، ط1، 2010م.

([8]) المصدر السابق: 62.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) سعد محمد رحيم، أنطقة المحرم وشبكة علاقة المثقّف بالسلطة: 20، دار ميزوبوتاميا، بغداد ـ العراق، ط1، 2013م.

([11]) عليّ عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم: بحثٌ في الخلافة والحكومة في الإسلام: 13، المطبعة السلفيّة، مصر ـ القاهرة، ط2، 1925م. [النصّ المقتبس نقلاً من: كتاب الدولة الوطنيّة المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكّك: 35، مركز دراسات الوحدة العربيّة، لبنان ـ بيروت، ط1، 2008م].

([12]) السيد ولد أباه، الدين والهويّة: إشكالات الصدام والحوار والسلطة: 35.

([13]) أنور الجنديّ، سقوط العلمانيّة: 13، دار الكتاب العربيّ، ومكتبة المدرسة، لبنان ـ بيروت، لا تأريخ.

([14]) محمد مهدي شمس الدين، العلمانيّة: 155، الدوليّة المؤسّسيّة للدراسات والنشر، لبنان ـ بيروت، ط3، 1996م.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) عبد الوهاب المسيريّ، مصطلح العلمانيّة، منشور في كتاب العلمانيّة تحت المجهر: 121، دار الفكر، سوريا ـ دمشق، ودار الفكر المعاصر، لبنان ـ بيروت، ط1، 1421هــ ـ 2000م.

([17]) المصدر السابق: 120، بتصرُّفٍ بسيط.

([18]) عصام القيسيّ، مقال العلمانيّة الثالثة: خارطة طريق إسلاميّة، مجلّة ذوات الإلكترونيّة التابعة لمؤسّسة مؤمنون بلا حدود، المملكة المغربيّة الهاشميّة، العدد 10.

([19]) عبد الإله بلقزيز، بحث الدولة في الوطن العربيّ وأزمة الشرعيّة، منشور ضمن كتاب أزمة الدولة في الوطن العربيّ: 308، مركز دراسات الوحدة العربيّة، لبنان ـ بيروت، ط1، 2011م.

([20]) عبد الفتاح عليّ الرشدان، معالم التغيير المتوقّعة في المنطقة العربيّة بعد احتلال العراق، منشور ضمن كتاب مستقبل العالم الإسلاميّ: تحديات في عالمٍ متغيِّر: 139 ـ 140، ط1، 1425هـ ـ 2004م.

([21]) أحمد زايد، الهويّة الوطنيّة والمسؤوليّة الاجتماعيّة: 66، بتصرُّفٍ بسيط.

([22]) نبيل شبيب، بحث معالم الموقف الإسلاميّ بين الإرهاب والاستبداد، منشور ضمن كتاب مستقبل العالم الإسلاميّ: تحدّيات في عالم متغيِّر: 30.

([23]) نجيب الغضبان، التحوُّل الديمقراطيّ والتحدّي الإسلاميّ في العالم العربيّ [1980 ـ 2000م]: 20، دار المنار، الأردن ـ عمّان، ط1، 1423هـ ـ 2002م.

([24]) للمزيد يُنْظَر: بدر بن سالم العبريّ، مقال أنسنة التأويل، مقدّمة في العلاقة بين الأنسنة والتأويل، مجلّة شرق وغرب، العدد 20، أكتوبر 2019م. بعض التعريفات أدناه نُقِلَتْ منه.

([25]) محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازيّ، مختار الصحاح: 19، دار الفكر العربيّ، لبنان ـ بيروت، ط1، 1997م.

([26]) موقع مجمع اللغة العربيّة على الشبكة العالميّة، فتوى رقم 527، تأريخ الزيارة: الاثنين 8 يوليو 2019م، الساعة السابعة والنصف مساء.

([27]) الموقع والزيارة نفسها.

([28]) محمد سالم النعيميّ، القراءة الحداثيّة للنصّ القرآنيّ وأثرها في قضايا العقيدة: 134، مصر العربيّة للنشر والتوزيع، مصر ـ القاهرة، ط1، 2015م.

([29]) بدر بن سالم العبريّ، مقال الأخلاق والعولمة: وخطوط الإنسان والقِيَم والخُلُق، مجلّة الفلق الإلكترونيّة، العدد 95، 13 مايو 2018م.

([30]) هانس كونغ، أخلاق عالميّة أساس لمجتمعٍ عالميّ، منشورٌ ضمن كتاب العولمة الطوفان أم الانقاذ؟ الجوانب الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة: 88، تحرير: فرانك جي وجون بولي، ترجمة: فاضل جكتر، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت ـ لبنان، ومركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت ـ لبنان، ط1، 2004م.

([31]) المصدر نفسه.

([32]) بيتر مارتن، ما يسوّغ العولمة أخلاقيّاً، منشور ضمن كتاب العولمة الطوفان أم الانقاذ؟ الجوانب الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة: 32.

([33]) المصدر نفسه.

([34]) بدر بن سالم العبريّ، حوارٌ فكريّ حول التراث والتجديد: 74 ـ 75، أجراه: حسن المطروشي، مجلّة التكوين، العدد 47، محرّم 1441هـ ـ سبتمبر 2019م.

([35]) يُنْظَر مثلاً: سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، التنوير للطباعة والنشر، تونس ـ تونس، ولبنان ـ بيروت، ومصر ـ القاهرة، ط1، 2015م.

([36]) ذكرتُ نماذج عديدة من المعوّقات التي يعانيها البيت الإسلاميّ والعربيّ في ورقتي: الحوار الثقافيّ ودَوْره في تعزيز التماسك الاجتماعيّ، المقدَّم للمشاركة في ورشة عملٍ شبه إقليميّة حول تعزيز الحوار والتماسك المجتمعيّ في إطار العمل الثقافيّ الإسلاميّ المشترك بدولة الكويت، من 15 ـ 17 سبتمبر 2019م، تنظيم منظمة الإيسسكو. وهنا أشير إلى ما يتعلَّق بموضوع الأنسنة.

([37]) لنا بعض المراجعات في هذا في كتابنا فقه التطرُّف نحو: التكفير، والولاية والبراءة، وآية السيف، وروايات الخوارج وقتل الناس، وتقسيم الناس ثلاثة، والجزية، واستعباد البشر وسَبْيهم، والكفاءة في الزواج، والدولة المدنيّة، والقانون المدنيّ، وغيرها. طبع الجمعيّة العُمانيّة للكتاب والأدباء، ودار مسعى، 2018م.

([38]) أسامة خيري، مهارات الحوار: 40، دار الراية للنشر والتوزيع، الأردن ـ عمّان، 2014م.

([39]) ناديا أنجيليسكو، الاستشراق والحوار الثقافيّ: 25، دائرة الثقافة والإعلام، الإمارات العربيّة المتحدة ـ الشارقة، ط1، 1999م.

([40]) عبد الفتاح عليّ الرشدان، معالم التغيير المتوقّعة في المنطقة العربيّة بعد احتلال العراق، منشورٌ ضمن كتاب مستقبل العالم الإسلاميّ: تحدّيات في عالمٍ متغيّر: 139.

([41]) كمال عبد اللطيف، أسئلة النهضة العربيّة: التاريخ، الحداثة، التواصل: 69، مركز دراسات الوحدة العربيّة، لبنان ـ بيروت، ط1، 2003م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً