أحدث المقالات

حيدر حبّ الله([1])

 

تمهيد

تنوّعت الكتابات المسيحيّة التي حاولت شرح العقائد المسيحيّة العامّة وكذلك القراءة الخاصّة لهذه العقائد وفقاً لتصوّرات هذا المذهب المسيحيّ أو ذاك، وقد تنوّعت أيضاً أساليب التصنيف في شرح وتثبيت هذه العقائد أو التصوّرات الدينيّة العامّة.

ومن بين هذه المساهمات، نستطيع ـ بكلّ وضوح ـ أن نلمس المصنّفات التي كتبتها الطائفة الإنجيليّة([2]) في هذا الصدد، عارضةً رؤيتها للاهوت المسيحي المتمايز عن هذا الفريق في المسيحية أو ذاك.

ولعلّه يمكن القول بأنّ من أشهر الكتب وأهمّها في هذا الصدد هو كتاب (نظام التعليم في علم اللاهوت القويم) أو (علم اللاهوت النظامي)([3])، للقس جيمس أنِس (James Anas)، فقد سعى المؤلّف لتقديم رؤية ممنهجة وسهلة وتعليميّة لمكوّنات اللاهوت المسيحي الإنجيلي، وهو ما نريد في هذه الوريقات أن نرصد فيه ـ بشكل مختصر ـ بعض الجوانب المتصلة بالمنهج وآليات المعرفة ومصادرها وطرائق الفهم، كما سوف نُجري بشكل عابر وسريع بعضَ المقارنات بين بعض ما يقدّمه الكتاب وبعض ما هو موجود في التجربة الإسلاميّة.

البُنية العامّة للكتاب وميزاته

يفتتح القس جيمس أنِس كتابه بفاتحة يصرّح فيها بأنّه صنّف هذا الكتاب لمدرسة اللاهوت الإنجيليّة للمرسلين الأميركيين في مدينة بيروت، معوّلاً فيه على النقل من أشهر المؤلّفات القديمة والحديثة، خاصةً كتاب الدكتور القس (كارلوس) تشارلز هودج، أستاذ اللاهوت في مدينة برنستون الأمريكيّة([4]).

إنّه كتاب يهدف لتقديم عصارة مركّزة للفكر الإنجيلي (الإصلاحي) خاصّة، والمسيحي عامّة في تلك الفترة، حيث دوّن الكتاب ـ كما يقول القس عبد النور في مقدّمة ترجمته له ـ في سبعينيّات القرن التاسع عشر، في فترة حسّاسة جداً من تاريخ الفكر الأوروبي والغربي عموماً.

يقسّم القس جيمس أنِس كتابه إلى أربعة أجزاء تسبقها مقدّمة، حيث يستعرض في المقدّمة ـ التي يمكن تصنيفها بالغة الأهميّة على صعيد سؤال المنهج ـ مطالعةً عامّة في علم اللاهوت النظامي والآراء حوله، فيما يخصّص الجزء الأوّل للثيولوجيا أو معرفة الله، والجزء الثاني للأنثروبولوجيا أو الكلام في الإنسان، والثالث في السوتيريولوجيا أو الكلام في الخلاص، فيما يجعل الجزء الرابع في الاسخاتولوجيا أو الكلام في الآخرة.

إنّ ترتيب الكتاب يبدو منطقيّاً جداً؛ إذ ينطلق من الله ليمرّ بالإنسان، منتهياً إلى النهاية والآخرة، فحركته من المبدأ إلى المعاد، مروراً بالإنسان والدنيا وقضاياهما.

ويمتاز الكتاب بعدّة ميزات في تصنيفه، من أبرزها:

1 ـ بساطة لغته نسبيّاً، وقد ذكر المترجِم أنّه حاول جعل لغة الكتاب معاصرةً، مما يدلّ على أنّ لغة الكتاب ـ الأصل تحاكي المرحلة السابقة.

2 ـ الكتاب منظّم تنظيماً رائعاً، يصلح لمتن دراسي في مراحل الدراسات العليا، وهو مرجع تعليمي مهمّ في معرفة العقيدة المسيحيّة عموماً، والإنجيليّة بشكل خاصّ.

3 ـ لَفَتَ نظري في الكتاب أنّه استخدم ـ وبشكلٍ مرتّب وممنهج ـ أسلوب السؤال والجواب، ليوصل القارئ لكلّ القضايا عبر هذا الأسلوب، دون أن يُشعرك بالتشتّت.

4 ـ رغم مرجعيّة الوحي الحاسمة من وجهة النظر الإنجيليّة، إلا أنّ الكتاب مليء بالتنوّع في مقاربة الموضوعات، ففي كثير جداً من مواضعه إحالات على الكتاب المقدّس، وفي كثير آخر من مواضعه إحالات على الأدلّة العقليّة والمقاربة الفلسفيّة والمنطقيّة، غير أنّه نادراً ما يوثق المعلومات التي يأتي بها من خارج الكتاب المقدّس.

وفي هذا السياق، وجدنا المؤلّف يصحّح فكرةً أو يُبطلها على أساس موافقتها للكتاب أو معارضتها لمعطياته، فيجعل نصّ الكتاب المقدّس حَكَماً، فمثلاً ـ وهذا مجرّد مثال من عشرات الأمثلة ـ عندما يتحدّث عن موضوع الفداء والكفارة، ويستعرض في حديثه الرسم الأغسطيني بشأن قضاء الله تعالى المعروف بعام الكفارة، يرى أنّ من أدلّة صحّة هذا الرسم هو موافقته لكلّ تعاليم الكتاب مستعرضاً إيّاها في هذا الصدد([5]). وهكذا عندما يتكلّم عن أنّه هل يجوز جعل غير المسيح وسيطاً بيننا وبين الله، فهو يرفض هذه الفكرة بشدّة لأنّ ذلك ـ حسب تعبيره ـ mمخالف تمام المخالفة للكتاب المقدّسn([6]).

فكلّ شيء يُعرض على الكتاب المقدّس، فما وافقه يمكن أن يؤخذ به، وما خالفه يُطرح ولو كان من معطيات العقول، كما سيأتي الحديث عن هذا الموضوع بالتحديد.

وفكرة العرض على الكتاب المقدّس الراسخة في منهج المؤلّف هنا، تذكّرنا بالنظريّة الموجودة بين المسلمين في عرض السنّة والحديث على القرآن الكريم فما وافق القرآن يمكن الأخذ به وما خالفه يُطرح ويترك، وهي نظريّة انتصر لها العديد من العلماء المسلمين خاصّةً في القرن الأخير، فيما تجاهلها كثيراً فريقٌ آخر، ويبدو من فريقٍ ثالث التحفّظ عليها، حتى أنّ بعض علماء الحديث من أهل السنّة اعتبروا روايات العرض على القرآن من وضع الزنادقة.

5 ـ يحاول الكتاب في مواضع كثيرة أن يقرّب أيّ فكرة لاهوتيّة من زاوية عملانيّة، فيسأل عن الفائدة في هذا الموضوع العقائدي مثلاً أو ذاك، وعلى سبيل المثال فقط ـ والأمثلة كثيرة جداً ـ نجده عندما يتحدّث عن قضيّة معقّدة ونظريّة بحجم مسألة التجسّد، يسعى لمقاربة الموضوع من زاوية الفوائد العمليّة لهذا التجسّد، وأنّ هذا التجسّد هو حاجة إنسانيّة من نوع القدرة على مخاطبة الله وجهاً لوجه([7]).

وهذه المحاولة يشبهها في التجربة الإسلاميّة ما طرحه مؤخراً بعض العلماء ـ خاصّةً السيد محمّد باقر الصدر ـ حول البُعد الاجتماعي للعقيدة وأصول الدين، فالعقائد ليست طروحات نظريّة مجرّدة انتزاعية تحليليّة، بل يمكن تحويلها لطاقة إيجابيّة في الفعل الاجتماعي والروحي، وفهمها فهماً اجتماعيّاً ونفسيّاً.

6 ـ رغم احترام الكتاب للآخر، ودعوته لمعاملة إيجابيّة مع المختلف معهم في الرأي، غير أنّه يتعامل مع بعض التيارات المختلفة معه بنفيٍ وإقصاء وهجوميّة عالية، ويبدو رغم المنحى الإصلاحي في الكنيسة الإنجيليّة ما زال محكوماً بشدّة لقرارات المجامع المسكونيّة منذ مجمع نيقية (325م) وما بعد، فيتعامل بشدّة مع التيارات الموصوفة بالهرطقة والبدعة، مثل المذهب الآريوسي والنسطوري وغيرهما، وعلى سبيل المثال فقط، يمكن مراجعة الفصل الرابع من الباب الثالث من الجزء الثالث المخصَّص للسوتريولوجيا، حيث عنونه بـ (التعاليم الضلاليّة في شخص المسيح)، متعرّضاً بالنقد للأبيونيّين والغنوصيّين والأبوليناريين والنسطوريين وغيرهم([8])، رغم أنّ بعض هذه المذاهب ما يزال لها حضور في عند بعض المسيحيّين اليوم في العالم.

وهكذا في مواضع متفرّقة يصف التيارات الفكريّة المعاصرة له بكلمات التكفير والعنف اللغوي، فانظر ـ على سبيل المثال ـ ما كتبه في الجزء الثاني المخصَّص للأنثروبولوجيا عند الحديث عن نظريّة النشوء وأصل الأنواع الداروينيّة، وغير ذلك([9]).

7 ـ يشتغل الكتاب على جبهتين:

أ ـ الجبهة الخارجيّة، وهي التي يردّ فيها على التيارات والمدارس التي تقع خارج الإطار المسيحيّ، وفي الغالب هو ينتقد العقليّين المتطرّفين والتجريبيّين والماديين والحسيّين والملحدين وأمثالهم.

ب ـ الجبهة الداخليّة، وهي تقوم في الغالب على مناقشة أفكار الكنائس التقليديّة الكاثوليكيّة والكنائس الشرقيّة، وفي هذه الجبهة تبدو الصورة الإنجيليّة أكثر وضوحاً.

والشيء الملاحظ هنا أنّنا قلّما وجدنا دراسات مقارنة في الكتاب لسائر الديانات، خاصّة الإسلام! رغم أنّ الكتاب ـ كما تقدّم ـ قد دُوّن لبعض الإرساليّات المسيحيّة الأميركيّة في بيروت، ويبدو هذا الأمر متعمّداً في الكتاب، حيث لا يريد أن يخوض سجالاً بين الأديان.

هويّة علم اللاهوت ونظامه

يقدّم القس أنِس لدراسته هذه مقدّمةً في ثمانية أبواب، يستعرض فيها هويّة نظام علم اللاهوت، فهو يرى أنّ هذا العلم يدرس الله وصفاته وشرائعه وإعمال عنايته والتعاليم التي يجب اعتقادها وما يلزم القيام به ([10]). وبهذا فهو يكرّس التمايز بين علم اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الإسلامي، من حيث إنّ علم اللاهوت يبدو أوسع من نطاق الاعتقادات ليشمل الشرائع والسلوكيّات أيضاً، وهو ما يكشف عن أنّ المرادفة بين علم الكلام الإسلامي وعلم اللاهوت المسيحي تبدو غير منطقيّة، كما يؤكّد ذلك الدكتور شهرام بازوكي([11]).

لكنّ الخطوة الأبرز أنّ علم اللاهوت يقوم بأخذ تلك العقائد والتصوّرات من الكتاب المقدّس، ومن ثمّ فوظيفة اللاهوتي أن يجمعها وينظّمها ويبيّن نسبة بعضها إلى بعض، وهذا يعني أنّ الكتاب المقدّس ليس هو كتاب علم اللاهوت بل هو مصدر هذا العلم([12])، وبهذا يميّز جيمس أنِس بين النصّ الديني الأصلي وبين العلوم الناتجة عن هذا النصّ بفعل الجهود البشريّة التنظيميّة.

لكن أنِس في الوقت عينه يشير لنا بذلك ـ فيما يبدو لي ـ إلى أنّ مصدر المعرفة اللاهوتيّة منحصرٌ في الكتاب المقدّس، ولعلّه بذلك يريد أن يدفع فكرة وجود مصدر معرفي لاهوتيّ آخر غير الكتاب المقدّس، وأنّ وجود علم اللاهوت ليس أمراً بديلاً عن الكتاب المقدّس، بل هو نوعٌ من فهمه وتنظيم معطياته، مكرّساً بذلك الانحياز الإنجيلي الواضح لمرجعيّة الكتاب المقدّس في المعرفة الدينيّة عموماً، كما سوف نرى بعد قليل إن شاء الله.

لكن لماذا يقوم الإنسان بعمليّة التنظيم المعلوماتي للعقائد المبثوثة في الكتاب المقدّس؟ ولماذا لا يتركها كما هي بلا تكلّف صياغتها ضمن نظام هَرَمي شامل؟

سؤالٌ يثيره أنِس ويبدو في غاية الأهميّة؛ إذ قد تُتهم الدراسات اللاهوتيّة في الأديان بأنّها قائمة على إعادة إنتاج المعتقدات بطريقة مختلفة عما جاء في الكتب المقدّسة، وبالتالي فأنِس يريد أن يدافع عن عمليّة تكوين علم اللاهوت من خلال تحليله الخاصّ.

إنّه يقول بأنّ العقل الإنساني يحتاج لهذا الترتيب وإيضاح النسب بين الأفكار والمعتقدات، والمعرفةُ الأوضح بهذه الأفكار تتجلّى في سياق تنظيمها وترتيبها وجمعها وتنسيقها، بل هناك هدف أداتي وهو أنّ هذه الخطوة اللاهوتيّة مقدّمة لشرح العقائد للناس وإقناعهم بها، فكيف لنا أن نُفحم الخصوم في ظلّ عدم وجود هذا التناسق داخل النظام الاعتقادي والفكري([13]). وبهذه الطريقة سيكون علم اللاهوت شرعيّاً وضروريّاً في الوقت عينه.

إنّ ما يذكره أنِس يُشبه ما يُعرف في الدراسات القرآنيّة عند المسلمين بنَظم الآيات والسور، فقد اهتمّ المفسّرون وعلماء القرآنيّات بتبرير هذا الترتيب القائم بين السور والآيات، وإيجاد مخرج لكيفيّة فهم هذا التنقّل القرآني من الغَيبة إلى الحضور، ومن موضوع لموضوعٍ آخر، فهل هو بَعْثَرَة مقصودة؟ ولماذا؟ وما هي فلسفتها؟ أو أنّه ليس بعثرة أبداً؟

إنّ الشيء الذي طرحه أنِس هنا ممتاز، لكنّه لم يشرح لنا لماذا لم تَقُم الكتب المقدّسة نفسها بهذه المهمّة ما دامت هي حاجة لوعي العقائد ولفهم سائر الأمور اللاهوتيّة؟ فهل أنّ هذه الضرورة التنظيميّة قد تخلّت عنها الكتب المقدّسة؟! وهل أنّ هذه الضرورة هي ضرورة نخبويّة فقط لأهل العلم والنظر فيما هي ضررٌ وفساد عندما تقدّم لجمهور الناس أم ماذا؟ وهل تخلّي الكتب المقدّسة عن هذا التنظيم المفاهيمي لقضايا الدين يرجع إلى طبيعة العناصر الزمكانيّة التي احتفّت تاريخياً بنزول هذه الكتب المقدّسة أو تدوينها، خاصّةً من حيث طبيعة المخاطبين بها آنذاك؟

كان من المناسب لأنِس أن يشير لنا هنا إلى مفارقة ضرورة التنظيم مع تخلّي الكتب المقدّسة عن هذا التنظيم.

إنّ اللاهوتي عند أنِس ينطلق من المبادئ الأوليّة التي ينطلق منها الفيلسوف الطبيعي وغيره، مراعياً الاحتراس عن الخطأ، وساعياً لجمع كلّ الحقائق المتصلة بموضوع بحثه، ثم القيام بترتيبها، لكنّه يرى مرجعيّته في الكتاب المقدّس، فلا يفرض الفهم الطبيعيّ والعقليَّ عليه، بل يرى اللاهوت مأخوذاً من مصدرٍ وحيد هو النصّ الديني([14]).

بهذا يكشف لنا أنِس عن الهويّة المنهجيّة التي يؤمن بها في تكوين علم اللاهوت، إنّها هويّة (كتاب مقدسيّة) تنطلق من النصّ مستخدمةً العقل بهدف التنظيم والترتيب والدفاع والفهم، إنّه يُبدي لنا نفسه هنا على أنّه تفكيكيٌّ إلى حدّ بعيد، هذا على الأقلّ في الشعار العام الذي يحمله، منسجماً مع توجّهه الإنجيلي.

إنّ التوجّه الإنجيلي واضح في رفض التأويل التعسّفي للكتاب المقدّس انسجاماً مع معطيات الفهوم والعلوم البشريّة، إنّ قوّة المرجعيّة المعرفيّة تكمن في الكتاب المقدّس، فهو المركز الأعلى للسلطة (authority)، وليس خاضعاً لمراكز سلطة معرفيّة أخرى. وهذا ما يُشبه عند المسلمين التوجّهات التي مال إليها الكثير من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين، المعارضين لمناهج التأويل المعتزلي من جهة، والعرفاني الصوفي من جهة ثانية.

ومن هذه النقطة بالذات، يشير أنِس لبعض الأمور ذات الصلة بالمنهج، فهو يرى أنّ علم اللاهوت الطبيعي ـ ويعني به الرؤية الكونيّة والسلوكيّة المنطلقة من خارج الكتاب المقدّس ـ جيّد وضروري؛ لكنّه لا يكفي، بل نحن بحاجة ماسّة لعلم اللاهوت الوحييّ، وفقاً لتعبيره، وإن كان علم اللاهوت الطبيعي يُثبت الوحي ويرجّحه([15]).

1 ـ أنِس ونقد مذاهب العقليّين: الوحي والعقل، الضرورة والعلاقة

وفي سياق حديثه المنهجيّ الهام هنا، يفنّد أنِس المدارس التي حملت مناهج خاطئة من وجهة نظره في دراسة الدين، ليتوصّل إلى تصحيح المنهج الإنجيلي الذي يختاره، فيبدأ بالمذهب العقلي الذي يختلف معه.

إنّ العقليّين ـ كما يصوّرهم أنِس ـ آمنوا بأنّ العقل هو السلطان الأوّل في أمور الديانة والدين، ولهذا فهم:

أ ـ يرون امتناع الوحي وحصر المعرفة بالعقل.

ب ـ فيما يرى بعضهم إمكان الوحي غير أنّ حقائق النصّ الموحى به كلّها عقليّةٌ، بمعنى أنّ العقل بإمكانه الوصول إليها أيضاً.

ج ـ بينما يتنازل فريقٌ ثالث من العقليين عن هذه المواقف لصالح القول بوجود بعض ما هو فوق العقل في النصّ الوحييّ غير أنّ للعقل الحقّ في الوقوف عليه وتفسيره وقدرة فهمه، فليس هناك إيمانٌ متعالٍ عن التعقيل.

وهنا يخوض أنِس حواراً مع هذه التيارات، منطلقاً من التيار الأوّل، فيقدّم سلسلة أدلّة لإثبات ضرورة الوحي من خلال مقولات عجز العقل عن المعرفة التامّة، محاولاً الاستعانة بالأدلّة الخمسة التي قدّمها القدّيس أغطسين في كتابه (مدينة الله) حول هذا الموضوع، وبهذا يصل أنِس ـ بعد مناقشة هذه الاتجاهات ـ إلى أنّ العقل غير قادرٍ على رفض معطى نصيٍّ من الوحي عندما يعجز عن فهمه وإدراكه؛ فمحدوديّة المعرفة العقليّة تفرض توقّفاً من العقل في ملفّات تحتاج معرفتها إلى إدراك الكثير من الأمور التي ما يزال العقل غير قادرٍ عليها([16]).

والمفصل الذي يقف عنده أنِس هنا هو: ماذا لو حَكَمَ العقلُ باستحالة شيءٍ ورد في النصّ؟ إنّ جيمس أنِس يرى تقدّم العقل، لكنّه يحاول الالتفاف بذكاءٍ عالٍ هنا، حيث يرى أنّ المعركةَ كلّ المعركةِ تكمن في تحديد: ما هو المستحيل من غيره؟ ومن ثمّ فإنّ ما يبدو لك مستحيلاً ربما يكون في واقع أمره غير ذلك، فيفترض الجزم باستحالة الشيء قبل الحكم وتقديم مُفاده على الوحي.

بهذا التأصيل المنهجي يستعين أنِس لاحقاً في معالجته لقضيّة التثليث، فهو يركّز في الفصل الأوّل من هذا الكتاب على هذا الموضوع، وأنّ قضيّة التثليث ثابتة بالوحي، ومن ثمّ فعدم قدرة العقل على استيعابها لا يعني أنّها باتت غير صحيحة أو أنّها مستحيلة([17]). إنّ رهان أنِس هنا على التشكيك في الاستحالات، وافتراض أنّ عجز العقل عن تصوّر شيء لا يعني استحالته، ومن ثمّ فسرّ التثليث يمكن أن يجتمع فيه الإمكانُ مع التعالي عن العقل.

ولكي يُبعد التثليث المذكور في الكتاب المقدّس عن التعقيل والفهم العميق، اهتمّ أنِس أيضاً بنفي أيّ علاقة بين التثليث والثقافات القديمة، واعتبره من مختصّات الكتاب المقدّس، دون أن تكون له صلة بأي مُنْتَج بشري سابق مثل بعض آراء فلاسفة الهنود في برْهَم، وهم يعتقدون أنّه جوهر إلهي بسيط غير شاعر بنفسه خالٍ من الصفات، صدر منه ثلاثة آلهة تنوب عنه وتفوق غيرها من الآلهة مقاماً، اسم الأول برهما وهو الخالق أصل كلّ شيء، واسم الثاني شنو وهو الحافظ لكلّ شيء، واسم الثالث سيفا وهو المجرِّب. وكذلك مثل ما جاء عند أفلاطون من افتراضات عقلية من جهة اللَّه تشبه قليلاً تعليم الكتاب المقدس، وكذلك الثالوث المصري القديم أوزيريس وزوجته إيزيس (وهي في نفس الوقت أخته) وابنهما حورس. وقد كان هناك زمن لم يكن فيه الابن حورس موجوداً مع والديه. إنّ أنِس يؤكّد على تمايز تامّ بين التثليث المسيحي وبين كلّ هذه الآراء الوثنيّة القديمة، ومن ثمّ فهي لا تفسّره ولا تؤيّده، فاللَّه واحد مثلث الأقانيم في المسيحيّة، أما ثالوث الوثنيّين فهو ثلاثة آلهة.

وبهذا يخرج أنِس بنتيجة وهي أنّ العجز عن إدراك حقيقةٍ ما لو كان مانعاً من الاقتناع بها، فإنّ حقيقة الله نفسه والحياة الأبديّة والتجسّد والكفارة وحلول الروح القدس وغير ذلك كلّه سوف يكون كذلك([18]).

ومن هنا، يرفض أنِس المقولة الثانية من مقولات العقليّين، والتي ترى أنّ ما في الكتاب المقدّس يؤخذ به بنحو الإيمان من قبل عوام الناس، أمّا أهل العلم فإنّهم يحاكمون ما في الكتاب المقدّس وفقاً لنتائج العقول، ومن ثَمّ فلا إيمان إلا بما يدركه العقل، ويَنسب أنِس هذا القول لكثيرٍ من مفكّري أوروبا وفلاسفتها منذ القرن السابع عشر مثل هيوم وفولتير وروسّو وهوبز وغيرهم([19]).

وبهذا يواجه أنِس في حواره مع العقليّين الأصول التي تقوم عليها بعض الاتجاهات اللادينيّة المعاصرة، عنيت المذهب الطبيعي أو الربوبيّ (Deism)، إنّه يتوقّف قليلاً عند إمكان الوحي تارةً، ورجحان وقوعه أخرى، واللافت هنا أنّ أنِس يعتبر أنّ ظهور الوحي وتجلّي الله واقعاً أكبُر دليلٍ على إمكانه، إنّه يرى أنّ اعتقاد جماهير البشر بالظهور الإلهي ـ خاصّةً في تاريخ الكنيسة ـ دليلٌ كافٍ لإبطال فكرة إنكار الوحي([20]).

لكنّ هذه المقاربة التي يقدّمها أنِس تعتمد الإثبات التاريخيّ للوحي، في الوقت الذي يشكّك فيه الطرف الآخر بهذا الإثبات من جهة، بل وبتفسير الظواهر التي وقعت وقال عنها المؤمنون بأنّها وحي الله للخلق من جهة ثانية، إنّ الطريقة التي يُعالج بها أنِس هذا الموضوع هنا تبدو سطحيّةً بعض الشيء، فلم تعد قادرة على إثبات ظاهرة الوحي، لهذا يترك بحث الإثبات إلى الخطوة اللاحقة، ليركّز على تفنيد المنطلقات التي اتخذها العقليّون لإنكار الوحي، من نوع استلزام الوحي ومخاطبة الله للبشر نوعاً من المحدوديّة في الله غير المحدود، أو من نوع استلزام الوحي نوعاً من الإعجاز، والمعجزة مستحيلة أو بعيدة الوقوع، ليستند أنِس في ردّ مثل هذه المقولات إلى مفهوم القدرة الإلهيّة المطلقة([21]).

وبتجاوزه معضلة استحالة الوحي، يُحاول أنِس أن يرجّح فرضيّة وقوع الوحي عبر ثنائيّة: الضعف الإنساني المحتاج في المعرفة والسلوك إلى مصدر معرفي متعالٍ، والجود الإلهي والحبّ الربوبي للبشر؛ فبهذا الثنائي نرجّح أنّ الله يُقدم على الوحي والظهور لخلقه([22]).

وهذا الترجيح يكاد يتطابق في مضمونه مع مساهمات علماء الكلام المسلمين الذين بحثوا في ضرورة الوحي.

الدين بين الهويّة الإيمانيّة والهويّة العقليّة الفلسفيّة

يحدّثنا القس أنِس ـ في سياق الكلام عن المقولة الثالثة من مقولات العقليّين ـ عن المقارنة التي شهدتها أوروبا في عصور الأنوار والحداثة بين العلم والإيمان، إنّه يخبرنا عن أنّ تياراً عقليّاً كان يعتبر العلم أفضل من الإيمان؛ لأنّ العلمَ جهد الفلاسفة بينما الإيمان جهد العوام البسطاء، وهذا يعني أنّه إذا أردنا بناء الدين على أسسٍ قويمة فلابدّ من ترحيله من الإيمان العوامي إلى العلم الفلسفي، وبهذا يكتسب هويّةً علميّة فلسفيّة محكمة.

إنّ نقد أنِس هنا يبدو لي مهمّاً جداً؛ إذ يكشف عن الهواجس والمآلات التي ينتهي إليها الدين لو قرّرنا منحه هويّةً عقليّة فلسفيّة، إنّها تكمن في:

أ ـ نقل الديانة من شهادة الله إلى شهادة العقل، والنسبة بين الشهادتين كالنسبة بين الله والإنسان، فإذا أثبتنا سابقاً أنّ العقل غير قادر على استيعاب بعض حقائق الوحي؛ لأنّها فوق سلطانه مثل التثليث والتجسّد والقيامة والفداء، فهذا يعني التضحية بالعديد من الأصول الدينيّة نتيجة عجز العقل عن تعقيلها، الأمر الذي يُضعف الدين من رأس ويخلخل دور الكتاب المقدّس.

ب ـ إنّ تحويل الدين من إيمان إلى فلسفة يضعه في مهبّ أمواج الأفكار البشريّة التي تتغيّر على الدوام، وتضعف وتقوى بفعل المتغيّرات المعرفيّة والإنسانيّة.. إنّنا بحاجة لتحرير الدين من متغيّرات الإنسان، فأَنْسَنَةُ الدين بهذا المعنى تقزّمه وتضعه في حدود أيّ معرفة بشريّة أخرى يمكن أن تتعرّض للاهتزاز يوماً ما.

ج ـ التجربة التاريخيّة، حيث يعتبر أنِس أنّ الذين حاولوا تعقيل الدين خاب مسعاهم في كلّ تجربة؛ لأنّ التعقيل أدّى إلى نقض اللاحقين للسابقين([23]).

من هنا، اعتبر أنِس أنّ علم اللاهوت يعلو على علم الفلسفة؛ لكون مصدر التلقّي فيه هو الله، إضافة إلى مستوى القطعيّة والحسم في معطيات علم اللاهوت نسبةً إلى معطيات الفلسفة التي لا تتّسم باليقينيّة ذاتها، بسبب كثرة التبدّل والاختلاف فيها، لكنّ هذا لا يعني مخاصمة اللاهوتيّين للفلسفة أو لأيّ علمٍ آخر إلا بقدر ما تخاصم هذه العلوم المعطيات المؤكّدة في الوحي والكتاب المقدّس([24])، وبهذا حاول أنِس أن يوجد نوعاً من العلاقة الإيجابيّة النسبيّة بين اللاهوت والفلسفة والعلوم، مع ضمان تقدّم اللاهوت على البقيّة.

لقد لاحظنا في ثنايا هذا الكتاب كيف أنّ أنِس كان مهتماً كثيراً بمخاطبة العقليّين، وكان يحمل هاجس التيّارات الفلسفيّة العقليّة كثيراً، ولهذا كنّا نجده يحاول أن يجادل المختلفين معه في بعض الأحيان بالاستشهاد بنصوص الفلاسفة، ممّا يعني أنّ التيارات التي كانت تعنيه كثيراً هي تيّارات ترى مرجعيّة العقل والفلسفة والعلم في الحقيقة، وعلى سبيل المثال راجع ما كتبه في أدلّة إثبات وجود الملائكة، حيث حاول الاستعانة بمقولات فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو([25]).

أين يكمن بالضبط دور العقل في الديانة؟

أثناء رحلة النقد التي سلكها جيمس أنِس مع العقليّين، كان لابدّ له من مواجهة السؤال التالي: إذا كنتم تختلفون مع العقليّين في مقولاتهم السابقة، فأين ترون بالضبط دور العقل؟ وهل للعقل دورٌ أساساً في الديانة؟

يُشبه جواب جيمس أنِس هنا ما ارتآه بعض علماء الحديث والإخباريّين من المسلمين، حيث يقول بأنّ العقلَ يمكنه أن يحكم في الجواب عن السؤالين التاليين: هل تكلّم الله؟ وما الذي تكلّم به؟

هذا يعني أنّ أنِس يرى أنّ العقل هو الحَكَم حتى يثبت الوحي، فإذا ثَبَت الوحيُ صار دور العقل تفسيريّاً فقط، ومن ثمّ لم يعد يقدر على ممارسة دوره النهائيّ في الحكم في ظلّ وجود الوحي؛ والسبب في ذلك عند أنِس أنّ هناك فرقاً بين المعرفة والإدراك؛ فالمعرفة هي نوعٌ من الاطّلاع على الشيء للتثبّت من أصل وجوده، فيما الإدراكُ وعيٌ لحقيقته وهويّته وسرّه؛ فالبشر يعرفون أنّ الله موجود لكنّهم لا يدركونه، ووفقاً لهذا التمييز الذي يضعه أنِس تصبح حقائق الكتاب المقدّس معروفةً لنا، لكنّها ليست بالضرورة مُدْرَكَة، وليس إذا لم نُدرك شيئاً فينبغي أن نتخطّى معرفتَه وننكر أصل وجوده([26]).

هذه هي المقاربة التي فكّ بها أنِس والإنجيليّون عقدة العلاقة بين الوحي والعقل، وحدّدوا من خلالها المساحات التي يساهم العقل في الحكم النهائي فيها تارةً أو في الحكم التفسيري أخرى.

لكنّ أمام القس أنِس الكثير من الأسئلة التي يجب عليه أن يقدّم لها جواباً هنا، فكيف كان العقل ذا قيمة في إثبات الله والوحي فيما صار ـ وفجأةً ـ عاجزاً عن الإثبات والبرهنة في القضايا التي يُدلي فيها الوحي بدلوه؟ هل تغيّرت بُنية العقل حتى صار اتّباعه اتّباعاً للأمور الخلافيّة التي تكون عرضةً للتبدّل؟ فلماذا لا يكون إثبات العقل للوحي من نوع الإثبات الفلسفي الذي يمكن أن يعرض عليه التغيّر، وبالتالي يكون أساس الإثبات العقلي للدين عرضةً للخطر أيضاً؟!

إنّ من حقّ العقليّين هنا أن يسألوا: لماذا وافق اللاهوتيّون على دور العقل في إثبات الوحي والله، ورفضوا دوره في إثبات سائر الأمور عندما يعارض الوحي؟ فهل هذان عقلان (عقل الإنسان قبل ثبوت الوحي ـ عقل الإنسان بعد ثبوت الوحي) حتى يكون أحدهما معترفاً به دون الآخر، أو عقلٌ واحد فلا معنى للاعتراف به هنا دون الاعتراف به هناك؟ ولماذا هذه الإزدواجيّة في التعامل مع العقل؟وما تفسير ذلك؟ أليس هذا مجرّد توظيف واستغلال للعقل لخدمة اللاهوت، وليس في جوهره اعترافاً بالعقل نفسه؟!

هذه أسئلة كان يفترض أن يخوض فيها أنس لفكفكتها أكثر في تقديري المتواضع.

وعلى أيّة حال، ولكي نستكمل هذه النقطة التي يرى فيها أنِس أنّه يمكن أن يلعب العقلُ دوراً في إثبات أصل وجود الله، يقدّم لنا بنفسه سلسلة من الأدلّة على وجود الله تعالى، إنّ هذه الأدلّة ـ لو حلّلناها معرفيّاً ومنهجيّاً ـ تنتمي إلى الاتجاه الكلاسيكي العام في الفكر الديني لإثبات مسألة وجود الله؛ إذ هي تستعين بالجهود العقلية النظريّة والفلسفيّة للإثبات. ويناور أنِس كثيراً على موضوع البُعد الفطري والغريزي العام عند البشر في قضيّة الله، وهو يرى أنّ هذه القضيّة لا تُدرس إلا بهذه الطريقة العقليّة والفطريّة المعمّقة.

من هذه الزاوية، يعتبر أنِس ـ كما هي الحال عند مختلف الإلهيّين في الديانات المختلفة ـ أنّ إثبات وجود الله أو إنكاره لا يكون من خلال المحاسبات الماديّة ولا من خلال العلوم الطبيعيّة، بل من خلال العقل والوجدان والضمير والفطرة والغريزة وغير ذلك؛ لهذا يعيب بشدّة على أهل عصره من اللاأدريّين والملحدين ـ مسمّياً أمثال جون ستيورات ميل وهربرت اسنبسر ـ عدم أخذهم الأدلّة المذكورة بجديّة، واتكائهم كثيراً على العلوم التجربيّة والحسيّة لقضيّة (الله).

بهذا يكشف لنا جيمس أنِس أنّه ينتهج في الغيب (السابق على الوحي) مسلك العقل الفلسفي، وليس العقل المادي التجريبي بالمعنى الذي كان سائداً في تلك الفترة.

وظائف معلّم الدين تجاه الآراء (الكفريّة)

بهذا العنوان يقدّم أنِس جدولاً بالوظائف التي يلزم على علماء الدين أن يقوموا بها تجاه انتشار الآراء الناقدة للدين والكتاب المقدّس بعد نموّ العلوم الطبيعيّة والمنهج العقلي، إنّه يبدو هنا متكلّماً من الطراز الثقيل، وفي الوقت عينه يبدو داعيةً دينيّة ناشطة، فمن جهة يطالب بوجود جماعة من علماء الدين تتصدّى للإشكاليّات التي تواجه الدين والإيمان في عصره، لكنّه يرفض أن يستهلك الجميعُ وقتَهم بهذا، بل يرى أنّ المهمّة الرئيسة تكمن في توضيح الدين وتعليمه للناس بشكل جيّد.

لهذا يقدّم أربعة نصائح، أجد من المناسب الإشارة إلى اثنتين منها:

أ ـ التسلّح بالشجاعة والثقة بثبات الحقّ، وإدراك أنّ العلمَ الحديث ليس كفراً، وأنّ علم اللاهوت هو أشرف وأرقى العلوم.

ب ـ الكشف عن مُفادات الكتاب المقدّس دون مواربة أو كتمان، والهروب من التأويلات الغريبة التي تريد التوفيق التعسّفي بين الكتاب المقدّس والعلم الحديث([27]).

يبدو لي أنّ القس جيمس أنِس هنا يكشف عن وجود حالة من فقدان الثقة في أوساط اللاهوتيّين إزاء معتقداتهم ونوعاً من الهزيمة النفسيّة التي كانت سائدة، والتي تحاول دوماً استخدام آليّات التأويل للهروب من مآزق المعرفة النقيضة التي يولّدها العقل والتجربة. إنّه يريد التأكيد على تقدّم اللاهوت ويقينيّته وحفظ سلطانه على سائر العلوم، في الوقت الذي يبدي إيجابيّة أخلاقيّة تجاه سائر العلوم البشريّة.

2 ـ الغنوصيّة الباطنيّة ومعضلة المرجعيّة المعرفيّة

بعد الانتهاء من المنهج العقلي ومناقشته، قام أنِس في المرحلة الثانية بالتعرّض النقدي باختصارٍ شديد([28])، للمنهج الباطني الغنوصي ـ المسمّى بحسب تعبيره بالعربية بالصوفيّين ـ إنّ الغنوصيّة تدّعي مرجعيّتها المعرفية بالحقّ عبر النفس والروح، لا عبر العقل ولا التجربة، بل هي تتخطّى الكتاب المقدّس نفسه، فالمعرفة في داخلنا، وليست في خارجنا، والروح القدس هو الذي يقوم بإرشاد باطننا إلى الحقّ بمعرفةٍ شهوديّة كشفيّة.

إنّ الملاحظة التي يُبديها القس أنِس هنا تكمن في أنّ التعاليم الباطنيّة تتخطّى الكتاب المقدّس، فضلاً عن أنّها لا تملك ما يؤكّد شرعيّتها من الكتاب نفسه، فلا يوجد في الكتاب المقدّس ما يدلّ على أنّ الروح القدس يُعطى لكلّ إنسان.

ويتخطّى أنِس الإشكاليّة الوحييّة في شرعيّة التوجّه الغنوصي نحو إشكاليّة إيبستمولوجيّة معرفيّة، حين يرى أنّه لا يوجد ما يؤكّد أنّ هذه المعرفة التي حصل عليها (الصوفي) هي من الله أو من الشيطان، ولهذا نجد أنّ هؤلاء يتجاهلون الطقوس والشرائع والمراسيم التي جاء بها الكتاب المقدّس نفسه!([29]).

أعتقد بأنّ أيّ باحث مسلم يقرأ ما قدّمه أنس هنا من مقاربة نقديّة سيجد نفسه وكأنّه يقرأ ما يكتبه بعض الفقهاء والمحدّثين المسلمين من نقدٍ على الصوفيّة الإسلاميّة، إنّها أوجه الشبه المنهجيّة بين الديانات.

3 ـ التقليديّون المسيحيّون: الأخطاء والإصلاحات

الرحلة النقديّة المنهجيّة الثالثة التي خاضها أنس في هذا الكتاب ـ بعد العقليّين والغنوصيّين ـ كانت مع المسيحيّة التقليديّة، التي يختلف معها الإصلاحيّون الإنجيليّون.

التقليديّون في مصطلح القس جيمس أنِس([30]) هم الذين ينكرون المنهجين العقلي والباطني، لكنّهم يرون الله قد أعلن للناس ما هو مكتوب وغير مكتوب (التقاليد)، وحيث إنّ الناس لا تقدر على التمييز بين ما هو من عند الله وما ليس من عند الله، كما وحيث إنّ جمهور الناس غير قادرين على تفسير الكتاب المقدّس، فإنّ الله أقام الكنيسة معلّمةً معصومة، وحُكمها قطعيٌّ معصوم يشكّل أساسَ الإيمان.

من هنا، يشرع أنِس بتشريح عناصر الاتفاق والافتراق بين العقيدة الإنجيليّة والعقيدة التقليديّة، ويلخّص عناصر الاختلاف في:

1 ـ الاعتقاد بقانونيّة أسفار الأبوكريفا.

2 ـ الاعتقاد بأنّ بعض التعاليم الضروريّة ليست واضحةً في الكتاب المقدّس بالكفاية، وبعضها جاء فيه تلميحاً فقط، وبعضها لا وجود له مطلقاً فيه.

3 ـ الاعتقاد بأنّ الكتاب المقدّس صعبٌ ومبهَم، لا يمكن فهمه بدون مفسّر منظور معصوم من الخطأ، هو الكنيسة.

أمّا الإنجيليون، فيعتقدون أنّ الجميع يمكنه أن يفهم من الكتاب، بإرشاد الروح القدس، كلّ ما يحتاجه لخلاصه؛ لأنّه منزَل لكلّ إنسان، وأنّ لهم الحقّ أن يقرؤوه ويفحصوا عن معناه الحقيقي، بل يجب أن يفعلوا هذا.

وبهذا يختلف الإنجيليّون عن التقليديّين المسيحيين فيما يزعم التقليديون أنّه بحاجة لإثبات من التقليد مثل: قانونيّة الأسفار، وإلهام كاتبيها، وتعليم التثليث، والتعليم عن الروح القدس، ومعموديّة الأطفال، وإبدال السبت بالأحد، ودرجات الإكليروس، ورياسة الأساقفة، ودوام الرسوليّة، وحلول الروح القدس عند رسامة رجال الدين، وأنّ العشاء الرباني ذبيحة، والأسرار السبعة، والمطهر([31]).

بهذا يظهر أنّ النزاع المركزي يرجع إلى نقطتين: الأولى في وجود مصادر إضافيّة على العهدين، والثانية في مرجعيّة تفسير العهدين، ففيما ينكر الإنجيليّون المصادر الإضافيّة ويفتحون مجال التفسير للناس، يسعى التقليديّون لتوسعة دائرة المصادر لتشمل التراث الكنسي نفسه وغيره مع حصر حقّ التفسير بالكنيسة. إنّه النزاع عينه حول أنّ النصوص المنقولة عن رجالات المسيحيّة الأولى في القرون الأولى يمكن أن تمثل مرجعاً للإيمان، أو أنّ النص القانوني الحصري والوحيد هو الكتاب المقدّس الرسمي حالياً؟

وهذا بالضبط ما يشبه في الإسلام خلافين مشهورين هما: حجية السنّة من جهة والتي تستوعب سنّة النبيّ وسنّة أهل البيت وسنّة الصحابة، وحجيّة الإجماع وما اشتهر بين الفقهاء الأوائل من جهة ثانية، وما يستتبع هذه الجهة الثانية من الحديث عن نظام المرجعيّة والتقليد وعن المفسّرين الرسميّين للدين.

يخوض جيمس أنِس في نقاشٍ طويل؛ ليفنّد مزاعم التقليديّين في صحّة ما قالوه، وليفنّد أيضاً فكرة عصمة الكنيسة، التي تتواشج مع فكرة الخلافة عن الرسل الاُوَل، إنّ فكرة خلافة الكنيسة عن الرسل فكرة بالغة الخطورة من وجهة نظر الإنجيليّين؛ لأنّها تريد احتكار التمثيل في الإيمان والدين، فليس من قراءة رسميّة تعبّر عن الكتاب المقدّس ولا من مرجعيّة معصومة غيره([32]).

لكنّ الجانب السلبي من العقيدة الإنجيليّة لا يُعفيها من العمل لإثبات الجانب الإيجابي، وهو: كيف عرفنا قانونيّة العهدين؟ وهل كلّ نصوص وأسفار العهد الجديد تقع على حدّ سواء؟ وما علاقة فكرة الوحي والإلهام بصدقيّة العهد القديم والجديد؟ وهل يُثبت الوحيُ نفسه؟ وهل الوحي والتأييد بروح القدس الذي حصل لكَتَبَة العهد القديم والجديد كان يشمل الألفاظ أو يختصّ بالمعاني؟ هذه كلّها أسئلة مُجْهِدَة في أجوبتها، حاول جيمس أنِس أن يتناولها بعقليّة كلاميّة، باستناد إلى نصوص العهدين في الوقت نفسه([33]).

وثمّة سؤال ثقيل ذو صلة هنا يتعرّض له أنِس أيضاً، وهو أنّه لنفرض أنّ الكتاب المقدّس قانوني ولا مشكلة فيه، لكن كيف نعرف كماله بحيث لا نحتاج إلى سائر نصوص الأنبياء والرُّسل والأوّلين؟ إنّ أنِس هنا يحاول أن يستشهد بنصوص الكتاب المقدّس نفسه على ذلك، وبنصوص المسيح أيضاً، وبالغاية المقصودة من وراء هذا الكتاب، وبمراقبة مضمونه من حيث اشتماله على مجموع التعاليم، فلسنا بحاجة لمصادر إضافيّة حتى لو كانت المصادر الإضافيّة تحتوي الكثير من الحقّ في حدّ نفسها.

دعوني أتوقّف قليلاً عند تحفّظ القس جيمس أنِس على ما طرحه بيلارمينوس من أنّ نصوص الكتاب المقدّس زمكانيّة، وبالتالي فربّ تعليمٍ ما صدر ينفع في كنيسةٍ ما في وقتٍ ومكان معيّن، لكنّه غير نافع لسائر الكنائس في مختلف العصور والظروف. إنّ القس أنِس يرفض هذه الفكرة، ويعتبر أنّ كون تعليم ما قد صدر لمصلحةٍ في زمن معيّن لا ينفي أن تكون المصلحة بعينها موجودة في سائر الأزمنة، ولهذا لا يمكن الاعتراض على كمال الكتاب المقدّس بمثل هذه الكلمات، ولا يحتاج الكتاب المقدّس ليكون كاملاً أن يكون على هيئة قوانين منظّمة ومدوّنة بطريقة جامعة متعارفة([34]).

ومن إثبات قانونيّة وكمال الكتاب المقدّس، إلى إثبات ركنٍ إنجيليٍّ آخر، وهو وضوح الكتاب، حيث يؤكّد الإنجيليّون الإصلاحيّون على إمكانيّة الفهم العمومي للكتاب المقدّس وأنّه ليس بحاجة إلى مفسّر، ونصوصه صريحة في ذلك، ومن الطبيعي في هذا الوضع أن يكونوا مدافعين عن ترجمة الكتاب المقدّس ونشره بين آحاد الناس، تلك القضيّة التي كانت محرّمةً لقرون طويلة في حياة المسيحيّين إلى عصور الإصلاح الديني نهايات القرون الوسطى.

ولهذا نجد أنِس هنا يعتبر أنّ اللغتين الأصليّتين (اليونانية والعبرانيّة) لم تعودا معروفتين اليوم، فلهذا لزم ترجمة العهدين إلى لغات مفهومة للناس، لكي تحلّ كلمة الله فيهم على حدّ تعبيره([35]).

شروط تفسير الكتاب المقدّس عند الإنجيليّين

لكنّ هذا لا يسمح لنا بتفسير الكتاب المقدّس دون رعاية معايير وضوابط، وأهم هذه الضوابط عند أنس والإنجيليّين هي:

1 ـ فهمه كما يفهمه أهل زمانه بمعناه البسيط المشهور.

وقد رأينا أنّ أنِس يستخدم هذه الطريقة في ثنايا الكتاب لاحقاً، وعلى سبيل المثال رأيناه لدى بحثه في روحانيّة الله في الجزء الأوّل من الكتاب، يرى أنّ فهم كلمة (الله روح) يفرض علينا معرفة معنى كلمة (روح) عند العبرانيّين واليونانيّين([36]). إنّه بهذه الطريقة يحيلنا على المرجعيّات المولِّدة لدلالات الكلمات في الثقافات المحيطة بالنصّ الديني، وهي قضيّة مهمّة، ومن أكثر قضاياها حساسيةً تحليلُ معنى كلمة (الأب ـ الابن) عند العبرانيّين واليونانيّين والرومانيّين، الأمر الذي يمكنه أن يلعب دوراً خطيراً في إعادة اكتشاف قضيّة الأقانيم الثلاثة وهويّتها.

بل إنّنا نجد القس أنِس في غير موضعٍ من كتابه يهتمّ بالمراجعة اللغويّة للكلمات، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما تحدّث به عن شرح كلمة (ملكوت) في الكتاب المقدّس وجذورها اليونانيّة، وكذلك كلمة (القانون)([37]).

وعلى أيّة حال، إنّ هذا الشرط الذي يضعه الإنجيليّون هنا لتفسير الكتاب، يقترب كثيراً، بل يكاد يتماهى مع المنهج الفقهائي عند المسلمين في تفسير النصوص الدينيّة، حيث كان علماء أصول الفقه على الدوام يركّزون على مسألة مرجعيّة الظهور العرفي واللغوي في عصر النصّ وصدوره أو نزوله، لتكون حَكَماً في فهم مراداته.

2 ـ تفسير الكتاب المقدّس لنفسه، بملاحظة أجزائه وباستخدام نظام المقاربة والمقارنة بين النصوص واعتماد بُنيات السياق والقرائن والشواهد.

وهذه الفكرة ـ أي تفسير آيات الكتاب المقدّس ببعضها ـ يعتبرها أنِس أصلاً ويسمّيه بـ (القانون المعصوم)، حيث يرى أنّ أيّ مشكلة في فهم آيةٍ يمكن حلّها ومعرفتها من خلال الآيات الأخَر الأوضح([38]).

إنّ فكرة أنِس تكاد تتطابق مع فكرة المحكم والمتشابه في الأدبيات الإسلاميّة القرآنيّة، فالنصّ المحكم هو الذي يقوم بتفسير النصوص المتشابهة، كما يقول المتكلّمون وعلماء القرآنيّات والتفسير، والنصّ / القرينة هو الذي يشكّل شارحاً للنصّ /ذي القرينة، كما يقول علماء أصول الفقه الإسلامي، ونظام العلاقات بين النصوص هو نظام تعاون، بحيث لا يمكن الخروج بأيّ فهم للكتاب من دون أخذ حصيلة هذا التعاون وضمّ معطياته إلى بعضها.

3 ـ ملاحظة الصفة الرمزيّة في العهد القديم وعدم تجاهلها.

4 ـ التمييز بين الحقيقة والمجاز في النصّ، وعدم الخلط بينهما.

وهذا المبدأ الذي يذكره أنِس مهم؛ لأنّ خلط المجاز بالحقيقة وفهم المجازيّات والاستعارات والرمزيّات والتشبيهات بنحو الحقيقة أو العكس، يؤدّي إلى نتائج صادمة للنصوص الدينيّة، تماماً كمن يريد تحليل كلمات الشعراء والأدباء وكأنّه يقرأ نصوصاً فلسفيّة أو رياضيّة!

5 ـ ضرورة استرشاد الروح القدس في فهم الكتاب([39])، وهذا مبدأ إيماني تديُّني، كما هو واضح.

بين الإصلاح الإنجيلي والمسيحيّة البابويّة

يفتح القس جيمس أنِس ملفّاً مهمّاً بالنسبة إلينا، وهو ملفّ الإصلاح الديني، فبعد حديثه عن الانقسامات الفكريّة الكبرى في القرون الأولى، والتي وضعها ضمن ثلاثية: النظام الأغسطيني، والنظام البيلاجي، والنظام الشبيه بالبيلاجي([40])، يفتح الكلام عن الإصلاح الديني في القرن السادس عشر.

الشيء الذي يهمّنا رصده في مقاربة أنِس للإصلاح الديني، يمكنني أن اُضيء عليه ـ باختصار ـ ضمن النقاط التالية:

1 ـ الإصلاح الديني في القرن السادس عشر من أعظم الحوادث التي عرفتها المسيحيّة بعد حادثة قيامة الدين المسيحي في القرون الأولى، إنّه إصلاح عميق جداً يتخطّى مجرّد الرجوع إلى العصر الأغسطيني.

2 ـ إنّ هذا الإصلاح رغم ظهوره في القرن السادس عشر، لكنّ مصادر إلهامه هي الديانة المسيحيّة الأولى نفسها، فهو يتخطّى القرون الوسطى، لكنّه لا يحتقر كنيسة تلك القرون، غير أنّه يلاحظ عليها إفراطها في التشبّه اليهودي عبر إغراق المسيحيّة بالطقوس والشرائع والكهنوت، ومبالغتها في التسلّط الديني المطلق والظالم.

3 ـ إنّ الإنجيليّة الإصلاحيّة ليست مجرّد نفي أو رفضٍ للبابويّة، أو هي طاقة سلبيّة فقط، إنّها هدمٌ وبناء معاً([41]).

4 ـ تتلخَّص أوجه الاختلاف المركزيّة بين الإنجيليّة والتقليديّة البابويّة في الآتي:

أ ـ الكتاب المقدّس: يعتقد الإنجيليّون بسلطان الكتاب المقدّس المطلق وأنه القانون الوحيد المعصوم للإيمان والعمل. ويعتقد التقليديّون أنّ الكتاب والتقليد هما معاً قانون الإيمان. ولا يرفض الإنجيليّون كلّ التقاليد على الإطلاق، بل ينكرون منها ما يتعارض مع الكتاب المقدّس.

ب ـ التبرير([42]): وهو جوهر الديانة الداخليّة، فالإنجيليّون يعلّمون أنّ التبرير بنعمة اللَّه المجانية، بالإيمان الحي بالمسيح على أنه المخلّص الوحيد الكافي، فيُحسَب بر المسيح الفادي للنفس المؤمنة. ويقول التقليديون: إنّ التبرير يتمّ بالأعمال الصالحة أكثر من الإيمان. ويعتقد الإنجيليّون بضرورة الأعمال الصالحة على أنّها ثمار التبرير وبرهانه، لا أنها وسائله أو شروطه.

ج ـ الكهنوت: فعند الإنجيليّين كلّ المؤمنين كهنة لله (بمعنى اصطلاح العهد الجديد لا القديم). وعند التقليديّين يُحصَر الكهنوت في الكاهن([43]). وهكذا تحرَّر الإنجيليّون من العبوديّة لتعليم الكهنة وسياستهم، وصارت للإنجيليّين مشاركة في مصالح كنيستهم.

د ـ في الغالب، فإنّ الإنجيلية هي كنيسة الحرية، والتقليديّة هي كنائس الخضوع للسلطان الإكليريكي. والأولى هي على الخصوص ذاتية تجعل الدين من الأمور الشخصية، والثانية كنسيّة تجعل الكنيسة تنوب عن أفرادها([44]).

هـ ـ الكنيسة الإنجيلية كنيسة الإنجيل على بساطته الروحية، والكنيسة التقليدية كنيسة الناموس والنُّسك والكهنوت والطقوس. فالإنجيلي يلجأ للإعلان الإلهي والعقل والضمير، والتقليدي يلجأ للكنيسة وآرائها، ولهذا فالإنجيلية هي كنيسة شركة النفس مباشرة مع المسيح بواسطة الإيمان الشخصي، والتقليدية هي الشركة بواسطة الكنيسة، التي تعارض معاشرة المؤمن مع مخلّصه لأنها تقيم وسطاء ثانويين. فالإنجيلي يصلي مباشرة للمسيح، والتقليدي غالباً لا يقترب إليه إلا بشفاعة القدّيسين، ولهذا يعتقد الإنجيليّون بأنّ كنيستهم تضع المسيح قبل الكنيسة وتحسب الاقتداء به دليلاً على التقوى الصحيحة، بينما تضع الكنيسة التقليديّة الكنيسة قبل المسيح، وتحسب الأمانة لها شرط التقوى وقياسها([45]).

ويختم أنِس ـ وهو يشرح لنا جوهر التمايز بين الإصلاح والتقليد ـ بقوله: mومع ذلك ينبغي ألا ننسى أنّ بين البابويّة والبابويّين أي بين النظام البابوي وتابعيه فَرْقاً، وأنّه يليق بل يجب على الإنجيليّين أن يكونوا كرماء صابرين طويلي الأناة وعديمي التعصُّب على قدر الإمكان مع الجميع، حتى مع أشدّ الباباويّين تعصّباًn([46]).

هذه هي نقاط الاختلاف المركزيّة، لكنّ أنِس لا يُلغي الحديث عن نقاط الاشتراك الكثيرة الموجودة بين الكنائس الشرقيّة والبابويّة والإنجيليّة، فيستعرضها في قوائم يشرح فيها بعض النقاط الافتراقيّة التفصيليّة أيضاً([47]).

كلمة أخيرة

عبر هذه الجولة المختصرة في المعالم المنهجيّة للبحث الديني التي يطرحها هذا الكتاب، نلاحظ حجم أهميّة الملفّات التي يعالجها، كما نلاحظ انحيازه الواضح لمرجعيّة النصّ الأوّل (الكتاب المقدّس)، ونكتشف أيضاً حجم التشابه الكبير في الملفّات والمواقف بين ما هو موجود في كلمات الإصلاحيّين الإنجيليّين وكلمات بعض المواقف الفكريّة والدينيّة لبعض الاتجاهات في الداخل الإسلامي.

إنّه بالفعل كتابٌ جميل متنوّع، يعطينا صورةً واضحة نسبيّاً عن المشهد المسيحي والإنجيلي لا أقلّ حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

_________________________

([1]) مقالة قدّمت بوصفها دراسة فصليّة جامعيّة، لمرحلة الدكتوراه، في مقارنة الأديان واللاهوت المسيحي، وذلك في جامعة الأديان والمذاهب في إيران، عام 2017م.

([2]) الإنجيليّة حركة دينية مسيحيّة تُحسب على محافظي البروتستانت المختلفين مع البروتستانتيّة الليبراليّة، وهي تؤكّد على محوريّة الكتاب المقدّس بشكل منضبط جداً. وقد ظهرت الإنجيليّة في أوروبا وأمريكا خلال القرن الثامن عشر، ويقال بأنّه تقدّر أعداد الإنجيليّين اليوم بحوالي 300 مليون نسمة، ويستوطنون في الغالب قارات: أميركا وآسيا وأفريقيا.

([3]) هذا الكتاب طبع مرّتين: مرّة في القاهرة تحت عنوان: علم اللاهوت النظامي، وقد راجعه ونقَّحه وأضاف إليه القسّ منيس عبد النور، وذلك تحت إشراف ورعاية الكنيسة الإنجيليّة بقصر الدوبارة، ومرّة ثانية طبع في مطبعة الأميركان، في بيروت، عام 1888 ـ 1890م، في مجلّدين. وبين هاتين الطبعتين والترجمتين اختلافاتٌ كثيرة في الجمل والفقرات، وقد قارنتُ بينها فوجدت الكثير من التفاوت الذي قد لا يضرّ بالمعنى في كثير من الأحيان، بينما يؤثر في المعنى في بعض الأحيان.

([4]) جيمس أنِس، نظام التعليم في علم اللاهوت القويم 1: 3.

([5]) انظر: المصدر نفسه 2: 169.

([6]) المصدر نفسه 2: 208.

([7]) انظر: المصدر نفسه 2: 189.

([8]) المصدر نفسه 2: 201 ـ 205.

([9]) المصدر نفسه 2: 9 ـ 22، و ج1: 148 ـ 149.

([10]) المصدر نفسه 1: 2.

([11]) بازوكى، مقدمه اى در باب الهيات، مجلّة أرغنون، العدد 5 ـ 6: 7 ـ 10.

([12]) نظام التعليم في علم اللاهوت القويم 1: 2 ـ 3.

([13]) المصدر نفسه 1: 3.

([14]) المصدر نفسه 1: 4 ـ 6.

([15]) المصدر نفسه 1: 7 ـ 10.

([16]) المصدر نفسه 1: 13 ـ 25.

([17]) المصدر نفسه 1: 209 ـ 210، 216، والملاحَظ أنّ أنِس هنا عند بحثه عن التثليث، يناقش بالتفصيل المذاهب (الخاطئة) من وجهة نظره في فهم التثليث كالمذهب الآريوسي والمذهب السابليوسي وغيرهما، ويصرّح بأنّ العجز عن فهم التوفيق بين التثليث والتوحيد لا يعني أننا غير قادرين على نقد المذاهب الخاطئة في تفسير التثليث، وكأنّه يقول بأنّنا قادرون على إبطال تصوّرات متعدّدة حول التثليث، حتى لو لكم نكن قادرين على فهم جوهر التثليث بشكلٍ حقيقيّ، فانظر: المصدر نفسه: 216 (1 ـ 2 ـ 3).

([18]) المصدر نفسه 1: 208 ـ 209، 212.

([19]) المصدر نفسه 1: 20 ـ 21.

([20]) المصدر نفسه 1: 17.

([21]) المصدر نفسه.

([22]) المصدر نفسه 1: 17 ـ 18.

([23]) المصدر نفسه 1: 22 ـ 23.

([24]) المصدر نفسه 1: 29 ـ 30.

([25]) المصدر نفسه 1: 276.

([26]) المصدر نفسه 1: 23 ـ 25، 27 ـ 28.

([27]) المصدر نفسه 1: 30 ـ 32.

([28]) أحتمل أنّ الاختصار الشديد للمنهج الغنوصي عند أنِس، يعود لعدم كونه يشكّل تحدّياً كبيراً في عصر المؤلّف، على خلاف العقليّين الذي يشكّلون تهديداً قويّاً في القرون الخمسة الأخيرة، والتقليديّين (الكاثوليك و..) الذي يشكّلون المنافس الحقيقي الداخلي للمذهب الانجيلي الإصلاحي.

([29]) نظام التعليم في علم اللاهوت القويم 1: 34 ـ 40.

([30]) غالباً ما يكون هدف جيمس أنِس في حواره مع التقليديّين كلّاًً من الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الشرقيّة.

([31]) نظام التعليم في علم اللاهوت القويم 1: 41 ـ 44.

([32]) المصدر نفسه 1: 45 ـ 64.

([33]) المصدر نفسه 1: 65 ـ 86.

([34]) المصدر نفسه 1: 86 ـ 88.

([35]) المصدر نفسه 1: 67.

([36]) المصدر نفسه 1: 174.

([37]) المصدر نفسه 1: 67 ـ 68؛ و 2: 276.

([38]) المصدر نفسه 1: 67.

([39]) المصدر نفسه 1: 88 ـ 94.

([40]) المصدر نفسه 1: 97 ـ 106.

([41]) المصدر نفسه 1: 106 ـ 108.

([42]) يُشار إلى أنّ أنِس قد فصّل الكلامَ في التبرير وإثبات نظريّة الإنجيلييّن، في القسم المخصّص للسوتيريولوجيا، فانظر ـ لمزيد من الاطّلاع ـ المصدر نفسه 2: 354 ـ 365.

([43]) لمزيد من الاطّلاع حول قضيّة الكهنوت واستمراريّة الكهانة في الكنيسة، ونقد هذه النظريّة عند الإنجيليّين، راجع: القسم المخصّص للسوتيريولوجيا، في الفصل المخصّص لوظائف المسيح النبويّة والكهنوتيّة والملكيّة، في المصدر نفسه 2: 214 ـ 227.

([44]) أسهب جيمس أنِس في شرح مفهوم الكنيسة، والموقف منها، ومن وظائفها، وأسرارها والرؤى التي يحملها الإنجيليّون اتجاهها، وقضايا المعموديّة والعشاء الربّاني وذبيحة القدّاس، وغير ذلك.. في القسم المخصّص للسوتيريولوجيا، فانظر ـ لمزيد من الاطّلاع ـ المصدر نفسه 2: 412 ـ 465.

([45]) المصدر نفسه 1: 108 ـ 109.

([46]) المصدر نفسه 1: 109.

([47]) المصدر نفسه 1: 110 ـ 118.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً