أحدث المقالات

د. علي رضا شجاعي زند(*)

ترجمة: السيد خالد سيساوي

المناهج النظرية في تعريف الدين

 لقد تناولنا حتّى الآن ثلاث مجموعات من العوامل المؤثِّرة في تنوُّع تعريف الدِّين:

العامل الأوّل: هو تأثير المجالات المختلفة للدراسات الدينية ووجهات النظر المتفاوتة في تنوُّع التعاريف الدينية وتعدُّدها.

والعامل الثاني: هو ما أورثته عدم دقّة التمييز بين الدين والمفاهيم المرادفة له والقريبة منه عن غير قصدٍ في بروز معضلّة التعدُّد.

وأما العامل الثالث والأخير فهو الالتفات إلى أهمّية اتخاذ المبادئ والمقاصد المختلفة، التي من شأنها تقديم أُطُر مختلفة لتبنّي تعريفٍ ما.

وسنشير في القسم الأخير من هذا التحقيق إلى أهمّ عاملٍ مؤثِّر في تنوُّع تعريف الدين وتعدُّده، ألا وهو «المناهج النظرية».

 وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين تعريف موضوعٍ ما وبيانه النظري علاقة وثيقة ومحكمة، بحيث يمكننا بالتحليل الدقيق التوصُّل إلى أحدهما من خلال الآخر. ومع أن الشرط الأوّل لتلاقح الأفكار المختلفة واحتمال تضاربها والطعن فيها هو وجود مجموعة من المفاهيم والمبادئ المشتركة حول موضوع معيَّن، والوقوف على تعريف متَّفق عليه، إلا أننا نجد كثيراً من تعاريف الدين لم تقع مورداً للاتّفاق؛ لكونها في غاية الشذوذ، وتحمل بين طيّاتها خلفيات المعرِّف وذوقه الشخصي.

 وسنسعى في هذا القسم، ومن خلال تقديمنا لإطلالةٍ سريعة على أهمّ المناهج النظرية المعروفة في الدراسات الدينية، إلى وضع اليد على محور اهتمام تلك المقاربات المنهجية، والذي كان سبباً في إيجاد الهوّة بين مرحلة التعريف ومرحلة التبيين.

المنهج الاختزالي (Reductionism)

 تُعَدّ الاختزالية إحدى الاتجاهات الشائعة في تعريف الظواهر الاجتماعية والثقافية المعقّدة وتبيينها؛ إذ يميل هذا الاتجاه إلى اعتبار موضوع البحث تجلّياً ومظهراً لعوامل أساسية مسلَّم بمعرفتها لدى العلماء، وليس كظاهرةٍ أصيلة ومهمّة. لذا تكون محاولة تعريف ظواهر كهذه وتبيينها منصبّةً على إزالة كدورات الظاهرة مورد التحقيق وصورها الظاهرية؛ بغية العثور على كُنْهها وأساسها المتجذِّر في ظواهر أخرى، ومن ثمّ الكشف عن العلاقة الكامنة بين تلك «الجذور» وهاته «الفروع». ومن هنا يسعى الاتجاه الاختزالي في دراسته للدين نحو تفسير المعتقد الديني بإرجاعه إلى مبادئ غير دينية، من قبيل: «الحالة النفسية للأفراد»، و«الظروف الاجتماعية»، و«الظروف الاقتصادية»، و«النفوذ السلطوي»، وغيرها([1]).

 تعود تعريفات المنهج الاختزالي للدين إلى بداية المرحلة الأولى للدراسات الدينية في الغرب، والتي كانت متأثِّرة بأفكار المدرسة «الوضعانية». وبما أن الاتجاه الإثباتي لا يقيم أيَّ وزنٍ واعتبار لميول الإنسان الإلهية، مستنداً في ذلك إلى الفرضيات العلمية الجافة، فإنه يرى أن أيّ شكلٍ من أشكال التوجُّه الديني هو نحوٌ من أنحاء الانحراف ورجوعٌ إلى مرحلة «طفولة الإنسان». وفي بحثه عن أسباب استمرار الاعتقاد الديني، وعلل انتشاره في المرحلة الإثباتية لحياة الإنسان، ينتهي هذا الاتجاه بأن التديّن ظاهرةٌ مَرَضية غريبة، يحسن الكشف عن أسباب تولُّدها في مصادر أخرى.

إن الاختزالية قبل أن تكون مدرسةً نظرية بالمعنى الدقيق للكلمة، أو تُعرف كمقاربةٍ ذات أصول موضوعية، وأساس مشخَّص ومقبول يتبنّاه أصحابه عن وعيٍ مسبق، لها في الواقع حكم المقوّم النوعيّ للظواهر، ممّا أوعز لمتبنّيها إطلاق نظرية عليها. ومن هنا لا يمكننا الظفر بأيّ تصريحٍ من عالم ـ مهما كان المجال الذي ينتمي إليه ـ يدّعي فيه الانتساب الطوعي للاختزاليين، أو أن يقبل إطلاق هذا الوصف على نظريته. وفي الوقت نفسه يمكننا العثور على كثيرٍ من المؤلَّفات التي تتّهم الآخرين بانتسابهم إلى المنهج الاختزالي في تعريف ظاهرةٍ ما وتفسيره. كما أن البعض وبتوسُّعه في مفهوم المنهج الاختزالي قد حمَّل كلّ اتجاهٍ معتقدٍ بتجذّر الاعتقاد الديني بمعزل عن حاجات الإنسان الفطرية وِزْرَ تبنّيه هذا المنهج. ووفقاً لهذا الطرح فإن جميع المباحث المطروحة من قِبَل الباحثين الدينين حول «جذور الدين»، والمشيرة إلى عوامل من قبيل: «الخوف» و«الجهل» و«الشعور بالذنب» و«العُقَد النفسية» و«موهبة الرمزية» لدى الإنسان، تندرج بنحوٍ من الأنحاء تحت هذا المنهج الاختزالي.

إن هذا التشتُّت في انتماء التعاريف والتفسيرات المختلفة للدين أو عدم انتمائها إلى المنهج الاختزالي ينبئ عن أن هذا الأخير منهجٌ للاتّهام أكثر منه إلى التوصيف. وفي الواقع إنّ أصحاب هذا الاتجاه متَّهمون، من خلال إحالتهم تفسير ظاهرةٍ ما على ظاهرةٍ وعوامل أخرى، بوقوعهم في نوعٍ من الاختزال والتحويل غير قابلين للدفاع، وبدلاً من ايجاد حلٍّ لمسألة التعريف بادروا إلى مَحْوها.

 اجتناباً منّا للاطناب أكثر في هذا المجال، وتأسِّياً بالدَّيْدَن السائد في كتابة المقالات، سنكتفي بإلقاء نظرةٍ على اتجاهين معروفين ينتسبان لهذا المنهج، وهما لـ «فيورباخ» و«كارل ماركس».

الاتجاه الإسقاطي (Projectionism)

يعتقد أصحاب الاتجاه «الإسقاطي» بأن الدين في الأساس حصيلة النتاج البشري، مدَّعين أن حقيقة الإله والآلهة ما هي إلاّ أمانيّ الإنسان الواسعة وإحساسه بالعظمة. ووفقاً لهذا الطرح فالحقيقة الإلهية لا تمثِّل سوى نفس الذات الإنسانية وصفاتها التي تحرَّرت من التقيُّدات الشخصية والتعيُّنات الجسمانية، وتسامت في موجودٍ مستقلّ عن الإنسان، حتّى صارت موضعاً للتبجيل والتجليل. فإبداع إلهٍ شبيه بالانسان متَّصف بالصفات البشرية النبيلة المتعالية هو في الحقيقة خلقٌ للحقيقة الإلهية بواسطة العقل البشري، الذي أطلق عليها أيضاً اسم الخالق.

يدّعي «فويرباخ»، مؤسِّس هذا الاتجاه، أنه لا بُدَّ من البحث عن أسرار «معرفة الإله» في «معرفة الإنسان». فبِعَدِّه الدين أمراً وَهْمياً رأى أن الدين علامةٌ لانعزال الإنسان وانفصاله عن ذاته، حيث يقول: «وجود الدين يعني اغتراب الإنسان عن ذاته، فمن خلال الدين يقع الناس تحت تأثير وتبعية ما يخلقونه في اللاوعي»([2]). كما يذعن فويرباخ في الوقت نفسه بأن علّة نشوء هذا الدين البشري راجعةٌ إلى افتقار الإنسان للسند المتعالي في حياته الاجتماعية والفردية. فيقول: «الإله هو مقولةٌ يحتاج إليها الإنسان في حياته»([3]). وعلى الرغم من أن «فويرباخ» حاول جاهداً عرض تعريف للدين، إلاّ أنه اكتفى في المقام العملي بالكلام عن ماهية الجواهر والذوات التي تعرِّفها الأديان باسم «الإله»، حيث نقل عنه «مك كويير» التعريف التالي حول الدين: «الدين ـ على الأقلّ في المسيحية ـ هو تعلُّق الإنسان بنفسه، أو بتعبيرٍ أصحّ: هو تعلُّقه بذاته»([4]).

إن الرؤية الإسقاطية لفويرباخ حول الدين تشبه إلى حدٍّ كبير نظرية «دوركايم» حول أصول الأديان البدائية، مع اختلاف بين الرؤيتين يتمثَّل في أن «فويرباخ» قد أشار إلى الجذور الفردية للاعتقاد الديني في الإنسان، أما «دوركايم» فقد تناول العوامل الاجتماعية لظهوره، فكانت النتيجة الطبيعية للمنهج الإسقاطي هي ظهور دعوى «موت الإله» من قِبَل «فريدريك نيتشه». وعليه تكون دعوى نيتشه في الحقيقة نحواً من التأييد الضمني لدعوى فويرباخ، القاضية بأن على الإنسان الجديد من الآن فصاعداً التفكير بنفسه لنفسه، ومن ثمّ اختيار طريق وأسلوب حياته.

ووفقاً لهذا الطرح ينبغي أيضاً إدراج مقاربة «يونغ» النفسانية ضمن المقاربات الإسقاطية؛ لاعتقاده بأن المرجع الحقيقي والواقعي لجميع المعتقدات الدينية هو أمرٌ نفساني، والإله الموجود في عالم الماوراء ما هو إلاّ إسقاط على تلك الصورة الإلهية المتواجدة في نفوسنا([5]).

مقاربة أفيونية الدين (Opium Theory)

 ترى مقاربة أفيونية الدين أو تخديريته أنّ الدين عبارةٌ عن أيديولوجية وظيفتها الأساسية هي تبرير الظلم والقمع الذي يمارس على الطبقات الاجتماعية الضعيفة. فالدين هو ذاك الأفيون الاجتماعي (Social Opium) الذي يحول دون ازدياد القدرات الثورية والعدوانية للمجموعات المحرومة في المجتمع، ويعمل على تخفيفها، من خلال اصطناع صورةٍ من الانسجام الاجتماعي، في غياب التواصل المشترك بين الشرائح والطبقات المختلفة للشعب، ومن ثمّ إضفاء المشروعية على النظام الحاكم.

 رفض كلٌّ من: «كارل ماركس» ومَنْ سانخه فكراً «فردريك إنجلز» أن يكون للدين والمعتقد الديني أصالةٌ واعتبارٌ مستقلٌّ؛ وذلك لوقوعهما تحت تأثير أفكار «فويرباخ»، حيث فسَّرا الدين ضمن أُطُر الروابط الطبقية الاجتماعية، واعتبراه ظاهرةً سطحية وتبعية من الدرجة الثانية([6]). كما رأى كلٌّ منهما نفسه بمنأىً عن تقديم تعريف للدين. لذا عزما في تأليفاتهما المختلفة على النيل من شأنيّته، والخدش في أهمّيته. وأما ما نقل عنهما أحياناً كتعريف للدين فيمكن حصره في التالي:

«الدين هو الوعي الذاتي والشعور الإنساني الذي لم يكتشفه الإنسان بعد أو أنه قد افتقده. الدين هو «التحقُّق الخيالي» (Fantastic Realization) للذات الإنسانية؛ لأنّ الذات الإنسانية ليس لها واقعيةٌ حقيقية». ويظهر جليّاً من خلال هذا التعريف خلفية النسق الاختزالي لفويرباخ. كما أننا نلحظ في المقولة المشهورة المنقولة عن ماركس «الدين أفيون الشعوب»، والتي يصعب التعاطي معها على أساس أنها تعريف للدين، حاكمية المنهج الوظيفي. فماركس عند تعريفه الدين بأفيون الشعوب (Opium of people) كان في الواقع ناظراً لاستخدامه من قِبَل الطبقة الحاكمة بغرض الحفاظ على الوضع السائد. وعليه عُدَّ تفسيره الأوّلي للدين اختزالياً، حيث ذهب إلى التنقيب في الظواهر الأجنبية عن الدين والعوامل الخارجة عنه، غاضّاً الطرف عن تواجد أيّ شكلٍ من أشكال التعدُّد والتنوّع في تعاليم الأديان العالمية المختلفة وتجاربها التاريخية، موظّفاً ذلك في دعم فكرة المادّية التاريخية وتثبيتها، ومن ثمّ تبنّي نظرية الصراع الطبقي.

إن التعريفات الأفيونية للدين ـ والتي قامت في الأساس على تبنّي تصوُّر خاصّ عن الدين [المسيحية] في فترةٍ تاريخية معيّنة من القرن الثامن عشر؛ وضمن التطلُّعات الأوروبية ـ لعاجزةٌ عن تفسير المصاديق المتعدّدة للاعتقاد الديني في الحقبات التاريخية والمجتمعات المختلفة، التي لا تتوفّر على مثل هذه الخصوصيات المشار إليها في هذا المنهج([7]).

المنهج الوظيفي (Functionalism)

 الوظيفية هي منهجٌ ينبغي البحث عن جذوره في «النفعانية» (Utilitarianism)([8])، حيث يرى «راسل» أن المَهْد النظري لهذا الأخير يتمثّل في شكاكية «بيرهو»(275ق.م.)، الذي أسرى التشكيك من واجهة «الحواس» إلى «المنطق» و«الأخلاق». ومع الأخذ بقوله عن استحالة ترجيح فعلٍ على فعلٍ آخر من خلال البراهين العقلية والتقييم الأخلاقي سيكون الدليل الوحيد على الترجيح والخروج من هذا الإرباك منحصراً في كشف «الفوائد» (Utilities) المترتِّبة على الفعل في مقام «العمل» (Practice)([9]).

تعتبر الوظيفية من المدارس المتلائمة والمنسجمة مع تفسيرات علم الاجتماع، ممّا جعلها من وجهة نظرٍ اجتماعية تتجاوز حدود المدرسة والمنهج النظري، حيث يمكننا اقتفاء آثارها في الخلفيات النظرية لأغلب النظريات الاجتماعية. وقد ساهم دافعان مختلفان في تشكيل نطاق المنهج الوظيفي وتوسيعه في ما يختصّ بالدراسات الدينية، وهما:

1ـ العلاقة النظرية للباحث عن الدين بالمنهج الوظيفي.

2ـ ترجيح أهل الاختصاص ورغبتهم الواعية في اختيار أسئلةٍ سهلة عن الدين، والتي قد تمّ طرحها والإجابة عنها من خلال هذا المنهج.

إن معرفة التعقيدات المتعلّقة بمسألة جوهر الدين ومعناه بالنسبة إلى الباحث عن الدين، ومدى اطّلاعه على المساعي التي بُذلت في هذا المجال للظفر بجوابٍ شافٍ عن «ماهية» الدين، يقضي بكون المنهج الوظيفي ليس خياراً نظرياً فحَسْب، بل هو منفذٌ للانصراف عن سلوك الطرق الصعبة في هذا البحث. وضمن الإطار النظري لهذا المنهج قد طُرحت أسئلة حول الوظائف الفردية والاجتماعية للدين، وكذا أسبابه، من الأيسر تحصيل أجوبة عنها. ففي جوابهم عن السؤال الأوّل تطرّق أتباع المنهج الوظيفي للبحث عن الآثار المترتِّبة عن الدين وعلاقته بالمجالات الاجتماعيّة الأخرى. وفي جوابهم عن التساؤل الثاني أبدَوْا مَيْلهم إلى البحث عن العلل الغائية، التي هي بمثابة العَوْد عن بدء أو «الرجوع العكسي» إلى الوظيفية الدينية، بَدَل البحث عن منشأ الدين وعلله الموجدة.

يُعَدّ كلٌّ من: «براون» و«مالينوفسكي» من علماء الأناسة الوظيفيين، الذين عارضوا البحث والتنقيب عن جذور الدين وأصوله. يقول «رادكليف براون»: «نحن لا يهمّنا البحث عن مناشىء الدين، إنما ينصبّ نظرنا فقط على وظائفه الاجتماعية، أي إننا نريد معرفة دَوْر الدين في تشكيل النظام الاجتماعي والمحافظة عليه»([10]). ويمكننا رصد المصداق الواضح لمثل هذا التوجُّه في كتابات بعض الباحثين التقليديين في مجال الدين. فالتلقّي القاضي بأن الدين هو نتاجٌ بشري يُعْزَى في تكوُّنه إلى احتياجات الإنسان الاجتماعية والفردية هو منهجٌ معروف يتعلَّق بمفكِّرين تقليديين، من قبيل: «فويرباخ» و«ماركس» و«دوركايم» و«فرويد»، باعتبارهم الوجوه البارزة لهذا الاتجاه، حيث آثروا البحث عن علل الدين الغائية، بدلاً من السعي في كشف علله الموجدة. وعليه من الطبيعي تواجد فئةٍ أخرى قد تبنَّت المنهج الوظيفي في دراستها للدين. وبدون إقحام نفسها في خوض غمار البحث عن منشأ الدين وغايته قد سلَّطت الضوء على وظائفه الاجتماعية. ومن جملة هؤلاء يمكننا إدراج كلٍّ من: «ماكس فيبر» و«تالكوت بارسونز»، حيث يقول «فيبر»: ليس مهمّاً بالنسبة إلينا معرفة جوهر الدين، المهمّ عندنا هو دراسة الآثار المترتِّبة على نوعٍ معيّن من السلوك الاجتماعي([11]). كما يمكننا إيجاد طائفةٍ ثالثة لها موقفٌ مختلف تماماً عن الطائفة الأولى في ما يتعلَّق بالبحث عن أساس الدين ومنشئه؛ مع أنهم يذعنون بالوظائف الفردية والاجتماعية للدين، ويؤكِّدون على أهمّيتها في المحافظة على الدين([12]).

إن تنوُّع المنشأ بين القائلين بالمنهج الوظيفي للدين يمثِّل في حدّ ذاته تجاوز مقاربة الوظيفية لحدود المنهج والمدرسة في علم الاجتماع الديني. لذ يتعين علينا الإقرار بأنه لا يمكن عدّ التعريف والتفسير الوظيفي للدين ملاكاً شاخصاً لتمييز الاتجاهات المختلفة ضمن مجال الدراسات الدينية.

 

التعريفات الوظيفية للدين

 «وليام رابرتسون سميث» إناسيّ انتقل منهجه الوظيفي في مجال الدين إلى مجال علم الاجتماع الديني عبر آراء علماء الإناسة الفرنسيين، وبالتحديد على يد «دوركايم»، حيث شكَّل في الأخير تياراً فاعلاً في مجال دراسة الدين. فكان من بيانه عن الدين قوله: «لا ينبغي لنا عدّ الدين وسيلةً لتكريم الأرواح وخلاصها، بل يجب أن يكون طريقةً للحفاظ على المجتمع ورفاهيته. فالأديان القديمة كانت جزءاً من النظام العامّ للمجتمع التي كانت تتعاطى مع الإله والإنسان كتوأمين»([13]).

أما «أوغست كونت» فمع أنه قد رأى، من خلال مقاربته حول مراحل تطوّر المعرفة الثلاث، أن التديُّن والاعتقاد الديني يتعلّقان بمرحلة الطفولة الإنسانية. إلاّ أنّه كان يذعن أيضاً بدَوْر وظائف الدين الاجتماعية في تحقيق «الوفاق الجمعوي» و«إضفاء المشروعية» على التنظيمات الاجتماعية. ولأجل ملء هذا الخلأ في المرحلة الوضعيّة التي واكبت انسحاب الدين من الحياة الاجتماعية بادر إلى ابتكار دينٍ جديد يكون أنبياؤه وحملة لوائه هم العلماء. فعلى الرغم من رواج مقاربة الوظيفية للدين في وسط المفكِّرين قبل دوركايم، إلاّ أنها بمجيئه قد رأَتْ رَوْنقها وعمقها، وصارت تقليداً عامّاً.

لقد كشف دوركايم عن جذور الدين من خلال تمييز الإنسان بين المقدَّس (Sacred) وغير المقدَّس (Unsacred) أو العرفي والعلماني (Profane ـ Secular)، ورأى أنّ افتراض قدسية بعض الأمور يبتني على «التصويب الاجتماعي». ثمّ يذهب قُدُماً في تحقيقه عن أصل الدين، مثله مثل مفكِّري المنهج الاختزالي، معتبراً الدين صورةً مثالية ورمزية لنفس القدسيّة التي يقول بها أفراد مجتمعٍ ما. وحَسْب وجهة نظره فإن الدين لا يُعَدّ ظاهرة جماعية صرفة، ولا نتاجاً اجتماعياً، بل هو عين المجتمع المتقدِّس الواقع مورداً للعبادة.

عمد دوركايم، مضافاً إلى سَعْيه في تعريف الدين على أساس حقيقته الواحدة والأصيلة وتجلِّياته المتعدّدة، إلى استحكام تعريفه وفقاً لوظائف الدين الاجتماعية، بمعنى أنه إضافة إلى معالجته لـ «ما هو الدين؟» قد عالج أيضاً «لِمَ الدين؟». وفي محاولته هذه قد أكَّد على الجانب «الرمزي»([14]) و«النُّسُكي»([15]) للدين، جاعلاً مقاربته «الوظيفية الاجتماعية» تقع في مقابل الاتجاهات «المعرفية» و«الفردانية» للدين.

كما يعتقد دوركايم أن التجمُّعات الشعائرية والطقوس النُّسُكية في الفترات الفاصلة بين النشاطات العُرْفية لأفراد مجتمعٍ ما من شأنها تعزيز تضامنهم وانسجامهم الاجتماعي الذي قد أخذ منحىً تنازلياً؛ بسبب الطبيعة النفعية الحاكمة على مثل هذه الأعمال، فضلاً عن سائر وظائف الدين، في ما يرتبط بتوفير الانضباط، وحفظ التراث الاجتماعي للجماعات ونشره، وإيجاد الإحساس بالسعادة بين المؤمنين([16]). لهذا عرَّف دوركايم الدين في كتاب «الصور البدائية للحياة الدينية» كما يلي([17]): «الدين نظامٌ موحّد من المعتقدات والأعمال المتعلّقة بالأمور المقدّسة ـ الأمور المحايدة والمقدّسة ـ، وهو الاعتقادات والأفعال التي توحَّدت في مجتمعٍ أخلاقي واحد باسم الكنيسة، ومن ثمّ تبعها الموالون». والملاحظ على هذا التعريف المشهور لدوركايم أنه لا يمكننا العثور فيه مباشرةً على أثرٍ لمقاربته الوظيفية؛ إذ حاول دوركايم من خلال هذا التعريف إبراز جانبين للدين، هما من وجهة نظره أساسيان ومهمّان: أوّلاً: قصده من خلال الإتيان بقيد «الأمور المقدّسة» في التعريف حذف اشتراط الماورائية في الدين؛ وثانياً: تمييز الدين عن ما يشابهه، ولا سيَّما السحر «جادو»، من خلال فرضه وجود مجتمعٍ أخلاقي للدين. وعليه لا يتعيَّن علينا قصر البحث في مقاربة دوركايم عن الصبغة الوظيفية في التعريف فحَسْب، بل علينا التحقيق أيضاً في فحوى آرائه، وخاصّة التي تؤكِّد على «الشعائر الدينية» التي يعدّها عاملاً أساسياً في تحقيق الانسجام الاجتماعي.

 لقد سلك دوركايم في تعريفه السابق منهج المفكِّرين الذين يسعون للظفر بتعريف شامل غير قابل للنقض؛ وذلك من خلال الكشف عن العنصر أو العناصر الأساسية المشتركة في المصاديق المختلفة لظاهرةٍ ما([18]). ووفقاً لما يعتقده دوركايم يكون الأمر القدسي هو العنصر الأساسي المحدِّد لماهية الدين، والذي يمكن الظفر به في جميع الصور الدينية للمجتمعات البدائية، وحتّى عصرنا الحاضر. لذا أقام تعريفه للدين معتمداً على ما يحكيه هذا المفهوم في الواقع. وطبقاً لما أورده فإن التمييز بين «الأمور المقدّسة والعُرْفية» بعنوانها جوهراً للتعاليم الدينية يُعَدّ معياراً شاخصاً وشاملاً إذا ما قيس إلى الفارق بين الأمور «الطبيعية والماورائية» التي تختصّ فقط بتقاليد الأديان الإلهية. ومع ذلك فإن محاولة دوركايم في الوصول إلى هذا العنصر الجوهري والشامل في تعريف الدين قد وقعت مورداً للنقد والنقض من قِبَل مفكِّرين، كـ «جي كودى» و«إيفانز بريتشارد»؛ حيث قدّما مصاديق ينطبق عليها عنوان الدين، مع أنها أجنبيةٌ عن مفهوم «المقدّس».

يصرّح «كودى» قائلاً: «إن تصنيف الممارسات المذهبية للإنسان، بناءً على التصوّر العالمي للأمر القدسي، ليس أكثر دقّةً وصحّة من تقسيم العالم إلى مجالَيْ: الطبيعة؛ وما وراء الطبيعة، الأمر الذي يرفضه دوركايم نفسه»([19]).

أما «اسبيرو» فقد ذهب، ضمن محاولته للخروج من الإشكالات الواردة على شمولية تعريف دوركايم، إلى البحث عن مفهومٍ بحَسَب تصوُّره أكثر شموليةً، وهو «الكينونات الثقافية الفوق إنسانية». وعلى هذا الأساس عَرَّف الدين بأنه عبارة عن «كيان يشمل التفاعل الثقافي مع الكينونات الثقافية الفوق إنسانية»([20]). ويعرِّف «الكينونات الفوق إنسانية» (Superman Being) بالقوى الأكبر والأقوى التي يمكن أن تكون فاعلةً في خيريّة الانسان وشرّيته. وحَسْب «هاميلتون» فإن محاولة «اسبيرو» المشفوعة بمفهوم «الكينونات الثقافية الفوق ـ بشرية» لم تحلّ بعد مشكلة الجامعية في تعريف الدين؛ فضلاً عن تورّطه أيضاً في إشكالٍ جديد، وهو الخدش في مانعية التعريف([21]).

وهذا ما جعل «رابرتسون» يبادر إلى محاولةٍ أخرى لرفع القصور الذي يكتنف مفاهيم من قبيل: «ما وراء الطبيعة» (Supernatural) و«القدسية» (Sacredness) و«فوق بشري» (Superman)، والتي استعملها مَنْ سبقه من الباحثين الدينيين في تعريفهم لماهية الدين، وذلك من خلال الاستعانة بمفهومٍ محايد أكثر استساغة للفهم، بحيث يكون له صبغةٌ ثقافية وقِيَمية أقلّ، وبالطبع يتمتّع بشموليةٍ أوسع، فوقع اختياره على مفهوم «ما وراء التجربة» (Super ـ Empirical)، وكان تعريفه للدين كما يلي: «تطلق الثقافة الدينية على مجموعةٍ من المعتقدات والمظاهر التي تتضمَّن التمييز بين الأمر التجريبي وما وراء التجريبي أو الواقعية المتعالية. وهنا تكون الأمور التجريبية أقلّ أهمّيةً من الأمور غير التجريبية».

ويضيف «رابرتسون» قائلاً: «إن التفاعل الديني هو فعلٌ ينشأ من خلال الإقرار بوجود تمايزٍ بين الأمر التجريبي وما وراء التجريبي»([22]). ومن خلال مفهومٍ أقرب إلى ما ذهب إليه «رابرتسون» رأى «إدي» أن جوهر الدين هو: «تجاوز التجربة اليومية»([23]).

 لقد أَبْعَدَنا بحث مقاربات الثنويين حول تعريف الدين، ومساعيهم المتعاقبة إلى تصحيح قراءات أسلافهم وتكميلها، عن متابعة التعاريف المطروحة من قِبَل المفكِّرين المنتمين إلى المنهج الوظيفي. فلنعاوِدْ بحثنا بدءاً بنظرية «بارسونز»، وإنْ كان ـ وفقاً للتقليد السائد في أوساط الوضعانيين ـ يرى الدين محمَّلاً بالخرافات والجهل، ومتضمّناً لعناصر الرجعيّة وبدائية الحياة الإنسانية؛ لكنّه يُقِرّ في الوقت نفسه بدَوْره المؤثِّر في النظام العام للأفعال، كما أنه يقول بهيمنة الثقافة ـ بما فيها الدين ـ على نظام الفعل، ويعتقد بأن الدين يمكنه خلق «القِيَم»، وتقديم المعايير، وتنظيم الأدوار، والهداية العامة للأنظمة الاجتماعية، وتقويم الشخصية والسلوك ([24]).

حينما ننظر إلى تعريف الدين من خلال بُعْده الوظائفي([25]) نجد أنه، فضلاً عن وظائفه الاجتماعية، من قبيل: تحقيق التكافل الاجتماعي، والمساعدة في التنمية الاجتماعية، والتعريف بـالقِيَم والمعايير الاجتماعية، وتحقيق النظم الأخلاقي، وتثبيت العواطف المشتركة، وتقوية أسس الرقابة الاجتماعية، وإعطاء المشروعية للتنظيمات الجمعوية، وتوجيه المؤسّسات الاجتماعية، وتنظيم الإجراءات الاجتماعية، وأخيراً دعم المثالية في الحركات السياسية ـ الاجتماعية، يؤكِّد أيضاً على الوظائف الفردية ـ النفسانية للدين.

لقد أكَّد علماء النفس الديني على وظيفة الدين في «تسكين الآلام»([26]) والتخفيف من حدّة الإحباط واليأس في الحياة الاجتماعية للإنسان، و«زيادة قابلية التحمُّل»([27])، والانقياد المقترن بـ «طيب الخاطر» و«التغلّب على الخوف من الموت»([28])، وتعزيز أهلية الاعتماد على النفس والالتزام»([29])، وأخيراً الظفر بنوعٍ من الراحة النفسية وتكوين «شخصية متوازنة»([30]).

يرى «ماكس فيبر» ـ الذي يعتبر بحقٍّ من المؤسِّسين لعلم الاجتماع الديني ـ في ما يرتبط بأسس هذا المنهج أن الدين يمثِّل ملجأً وملاذاً للإنسان؛ إذ بإمكانه إضفاء معنىً ما على حياته وتوجيه مسارها. ومن وجهة نظره بإمكان الدين تقديم المبرِّر والمغزى الحقيقي لما يبدو في العالم من تعسُّفية وتعاسة وعدم إنصاف. وباختصارٍ: وظيفة الدين هي التبرير الإلهي (Theodicy) للشقاوة والسعادة.

أما «جون ميلتون يينغر» فقد وقع تحت تأثير هذه الفكرة، معتبراً الدين نظاماً مستمدّاً من الاعتقاد والسلوك؛ إذ يتمّ من خلاله مواجهة مجموعة من الناس للمسائل الغائية التي تعرض حياة البشر، مثل: مسألة «الموت» و«الألم» ووجود «الشيطان والشرور»، و«فقدان العدالة» في العالم([31]). ويقول أيضاً: «إن الدين؛ بتقديمه تفسيراً عن العالم، يساعد الفرد في التغلُّب على اليأس والإحباط، والتخلُّص من الحيرة»([32]).

إن التعاريف الوظيفية، بما في ذلك الاجتماعية والنفسية منها، تواجه باستمرارٍ مشكلة التوسُّع والشمول غير المبرَّر، والتي تفضي إلى اندراج أنواع مختلفة من تعاريف شبه الدين في دائرتها؛ وذلك بسبب اتّكائها على البُعْد الوظيفي للدين، بَدَلاً من وقوفها على جوهريته ومنشأه. يُعَدُّ «يينغر» من جملة مفكِّري الدين المنتمين للمنهج الوظيفي، والذين وقفوا على عدم تمكُّن التعاريف الوظيفية من التمييز بين الدين وشِبْهه. وبدركه لهذه الحتمية توصَّل إلى نتيجةٍ مفادها أن موضوع علم الاجتماع ليس مجموعة من الاعتقادات الخاصّة، إنما هو عين «الايمان» (Believing)»([33]). والإشكالية الأخرى على التفسيرات الوظيفية هي اعتمادها وإصرارها بدون مبرِّر على واقعية ما يدركه المعتبر ويفسِّره، وقولها بخطأ الفاعل في ما يعرضه من تبريرات لتفسير أفعاله ودوافعه.

المنهج المعرفي (Cognitive)

رتّب «إيفانز بريتشارد»(1965م) التفسيرات المطروحة عن الدين ضمن مجموعات خاصّة، من شأنها أن تكون مدخلاً مناسباً لهذا البحث؛ إذ اعتقد أنه بإمكاننا التمييز والفصل بين مجموع النظريات النفسية حول الدين من خلال تقسيمها إلى اتجاهين: الفكري (Intellectualistic)؛ والعاطفي «الوجداني» (Emotionalistic).

يُعَدُّ الدين في الاتجاه المعرفي مقولةً فكرية، يتمّ من خلالها تسليط الضوء على دائرة الإشكالات الوجودية الجوهرية، والإجابة عن أسئلة البشر الأساسية، حيث تؤيِّد العديد من التحقيقات في علم النفس هذا الطرح، وتصوِّر الإنسان في حالةٍ من الخوف والقلق جرّاء الفراغ المعرفي في تفسير الموضوعات والمسائل التي تدور في فلكه، لذا يسعى باستمرار في ايجاد وسيلة للتغلُّب على إبهامه وحيرته([34]).

إن الاعتقاد بروحانية الأشياء «امتلاك الأشياء للروح» (Fetishism)، وروحانية المادّة «الإحاطة بالأرواح» (Animism)، والإيمان بـ «وجود إله أو آلهة» (Polytheism/Monotheism)، هو في حكم الفلسفة والنظرية التي تنهض بتفسير الوجود وتبرير التدفق الكينوني. وكذا الإجابة عن التساؤلات المتعلِّقة بـماهية العالم ومنشئه. فمفكِّرو هذا المنهج يعتبرون الدين أمراً يتجاوز حدود المدرسة النظرية والنحلة الفلسفية، إلاّ أن جوهره والقسم الأكبر من أدبياته وتعاليمه المنتزعة من ثنايا فكرته المحورية تمثِّله المعرفة العقدية الكونية والانسانية.

لقد اختزل أغلب الفلاسفة العقليين في عصر التنوير الدين في الاعتقاد الفلسفي بنظرية الخلقة والنظم، وبالتالي استُبعدَتْ أبعاده غير المعرفية، أو عُدَّت أموراً كاذبة([35]). وهذا ما يُفسِّر انحصار الكمّ الهائل من أفكارهم حول الدين في ما يتعلَّق بالأبحاث المتعلّقة بالوجود ودَوْر العلّة المفيضة «الإله». ففي هذا المنهج تعتبر مقولة «الإله» فرضيةً لتفسير وجود الكائنات والنظم الجاري في الكون، وليست ناظرةً بالضرورة لذلك الوجود المطلق الذي يجب إطاعة أوامره التشريعية والأخلاقية، وعبادته بعشقٍ خالص من أجل الفلاح. بالطبع لم يكن هذا الدَّيْدَن الوحيد عند العقلانيين في تفسيراتهم البرهانية عن الله والدين، كما أنهم لم يتوصَّلوا بشأن ذلك إلى نتائج مشتركة.

لقد بدأ هذا التيّار بأفكار مَنْ يؤمن بالكتاب المقدّس والكنيسة الكاثوليكية، من قبيل: غاليلو؛ وباسكال([36])؛ وديكارت؛ ونيوتن، الذين اعتقدوا بالإله الفعّال. واستمرّ إلى مفكِّرَيْن جريئين، وهما: «هوبكنس»؛ و«لايب نيتز»، اللذَيْن نفيا «الفعلية» عن الله الخالق، وصوَّراه على أنه صانعُ ساعةٍ ماهر، بإمكان صنعه الاستمرار دون تلاعبٍ فيه، والبقاء دون دخالة الغير.

لقد اهتمّ عقلانيّو عصر التنوير، ومن خلال سبل مختلفة، بإبراز دين عقلاني لا تكليف فيه ولا تكلُّف، بَدَلاً عن الأديان السائدة، التي يعتقدون انطواءها على عناصر الخرافة. وتعدّ «الربوبية» (Deism) بعنوانها إيماناً حرّاً غير وحيانيّ وفاقداً لشريعةٍ هي النتيجة الغائية لمثل هذا المنهج.

من بين علماء الاجتماع الكلاسيكيين الذين تبنّوا المنهج المعرفي في بحثهم عن المعتقدات الدينية وسط الشعوب البدائية «كُنْت» و«اسبنسر»؛ إذ يرى «كُنت»، وفقاً لنظرية المراحل الثلاث في تطوُّر المعرفة البشرية، أن الدين يرتبط بالمرحلة «الربّانية» من حياة البشر، التي كان دَوْرها الأساس هو تفسير الواقعيات السائدة. فكلٌّ من: «الروحانية» و«تعدُّد الآلهة» و«الوحدانية» تُعَدُّ صُوَراً للمعتقدات الدينية التي قد تكاملت تدريجياً في هذه المرحلة. وفي الحقيقة هي تفسيراتٌ مختلفة للكون والحوادث والمسائل الدائرة في فلك الإنسانية، والتي حاول الإنسان الوصول إليها في مسيرته المعرفية. ومن هذه الجهة ـ أي السعي المعرفي للإنسان ـ لا يوجد فرقٌ بين التفسير الفلسفي في المرحلة «الميتافيزيقية» والتفسير العلمي في المرحلة «الوضعانية»([37]).

أمّا «اسبنسر» فقد رأى أن بناء الأديان البدائية على الإيمان بـ «الأرواح» و«السحر» يعتبر سَعْياً معرفياً أيضاً، وإنْ كان قد بُني على التوهُّمات والاستنتاجات الخاطئة، باعتبار القدرات المعرفية المحدودة لدى الإنسان البدائي. فاسبنسر يفسِّر مساعي الإنسان البحثية لأجل تهدئة ما يختلج في ذهنه من خلال هذا التفسير الذي قدَّمه عن الأديان البدائية([38]).

إن إخراج التعاريف المبتنية على البُعْد المعرفي لكثيرٍ من الأديان النُّسُكية البدائية عن دائرة شمولها لم يقِفْ حائلاً دون رواجها بين علماء الأنثروبولوجيا، الذين حقَّقوا في دراسة الشعوب البدائية، حيث يُعَدّ تايلر عالم الأنثروبولوجيا البريطاني ـ الذي بذل جهوداً مثمرة في سبيل التعرُّف على أصول المعتقدات الدينية لدى المجتمعات البدائية، ومراحل تحوُّلها ـ من جملة الذين تبنّوا إعمال هذا المنهج المعرفي في رؤيته لمقولة الدين والإيمان الديني عند الإنسان البدائي. وحَسْب رؤية «تايلور» فإن «الأنيميسم (الأرواحية)»([39]) هي أولى الصور البدائية للدين في حياة الإنسان، وبمعنى أدقّ: إن التصوُّر المعرفي لانسان ذلك العصر هو نتاج الوقائع والأحداث المحيطة به. ولتايلور في كتاب (Primitive Culture) تعريفٌ موجز عن الدين، يبيِّن من خلاله هذا التصوُّر بشكلٍ أوضح، فيقول: «الدين هو الاعتقاد بالموجودات الروحية»([40])، وبعبارةٍ أخرى: الدين يعني الاعتقاد بوجود الأرواح.

كما قدَّم «جيمز فريزر» أيضاً طرحاً آخر؛ لتوضيح تطوّر المعرفة البشرية انطلاقاً من المبادئ المعرفية نفسها التي استعان بها «كنت» في نظريته التطوُّرية، وهي: «السحر» و«الدين»، و«العلم»، حيث يرى أنه بوسعنا القول: إن جذور السحر والدين ـ اللذين يتعلّقان بمراحل المعرفة البشرية الأكثر بدائيّة ـ يمكننا إرجاعها إلى جهل أفرادها وتفكيرهم العُرْفي؛ لا إلى عدم عقلانيتها. أما «لوي برول»، فمع قبوله لدعوى «كنت» حول تعلُّق الدين بالمرحلة الطفولية للإنسان، إلاّ أنّه يعتبر «التفكير ما قبل المنطقي» (Aelogica Thinking) لدى الإنسان البدائي هو الموجد للدين([41]). وباستثناء النظرة السلبيّة ـ نوعاً ما ـ لهؤلاء العقلانيّين الكلاسيكيّين تجاه الدين، والتي تشكّلت غالباً من خلال تأثُّرهم بأجواء عصر التنوير، هناك مقاربةٌ أخرى أكثر تفهُّماً تنتمي لهذا المنهج، وتتعلَّق بالمرحلة المتأخِّرة، يُعَدّ سكوروبسكي أحد وجوهها البارزة. وحَسْب اعتقاد هذا الأخير فإن المنهج المعرفي في قوّة النظرية المطروحة عن الأنظمة الثقافية، ولا سيَّما تلك الأبعاد التي تظهر بَدْواً غير مألوفة وغير عقلانية، من قبيل: الأساطير والشعائر. ويرى أن هذه الصور الرمزية لن تكون غير عقلانية إنْ فُهمت بشكلٍ صحيح؛ إذ هي مصاديق للتفكُّر والعمل العقلاني، قد تجلَّت في أطوار زمنية مختلفة، وابتنَتْ على وجوهات نظر متفاوتة، ومع ذلك فهي مرتبطةٌ بهذا العالم([42]). ويرى «رابين هورتون» ـ وهو من العقلانيين المعاصرين ـ أنه من ناحيةٍ نظريّة توجد مماثلةٌ بين الاعتقاد بالأرواح في الأديان البدائية الإفريقية وبين المعتقدات العلميّة للغرب بشأن الذرّات غير المرئيّة([43]).

وكيفما كان فالعقلانيون المتأخِّرون ـ وعلى خلاف أسلافهم الوضعانيين، الذين وقعوا في أسر جذّابية الإنجازات العملية للعلوم الحديثة، واعتقدوا بالعلاقات التعاقبية بين أنواع المعارف البشرية ـ ادَّعوا؛ بالاعتماد على التحقيق المعنائي للممارسات والمعتقدات الغريبة في الأنظمة الدينية، أن الدين نظامٌ نظريّ «ذو معنى» (Meaningful)، يقع في عرض النظام العلمي، ويمايز العلوم المتطوِّرة في الشكل فقط([44]). ومضافاً إلى ذلك فإن هؤلاء؛ تأسِّياً بآراء «ليفي شتراوس»، الذي أكَّد على تعقيد مفهوم الأساطير ووظائفها الفعّالة جدّاً في المجتمعات البدائية، قد وضعوا حدّاً لتصوُّرات الكلاسكيين التي لا تتلاءم مع الإيمان الديني للإنسان البدائي، ونشوئه عن ذهنيته البدائية.

فضلاً عن انطواء المنهج المعرفي في الدراسات الدينية على الاتجاه «الفكري» (Intellectualism)، فإنه قد تجلّى أيضاً في اتّجاهين آخرين؛ وهما: «الرمزية» (Simbolism)؛ و«البنيوية» (Structuralism). ويتحدَّد وجه التمايز الأساس بين هاته الاتجاهات الثلاثة في ما ذهبوا إليه من نوع التركيب بين الالتزام «التبييني» و«التفسيري» للقضايا الدينية. فالاتجاه الفكري يؤكِّد فقط على تبيين (شرح وتوضيح) الرموز الأسطورية والقضايا الدينية، بينما يصرّ اتجاها الرمزية والبنيوية على ضرورة فكّ الرموز وتفسيرها.

وفي خطوةٍ متقدِّمة على الرمزيّين يعتقد البنيويّون بأننا، ومن خلال تفسير المعنى الأسطوري للرموز بين مجموعة من الناس، لا نسعى فقط للكشف عن كيفية بيان هؤلاء للكَوْن، إنما نريد دَرْك آلياتهم وفهم مقولاتهم الذهنية التي كانوا ينظرون بها إلى العالم([45]).

اللاعقلانيون (Nonrationalists)

يمكننا التعرُّف على عديدٍ من المقاربات المتمايزة تحت ظلّ هذا المنهج غير العقلاني، والتي تشترك في خصوصيتين أساسيتين: الأولى: القول بنحوٍ من التنافر بين العقل والدين، بل قد يصل إلى التنافي في بعض الموارد؛ الثانية: التأكيد بدرجةٍ أولى على الجوانب غير المعرفية للدين. وسنعرض فيما يأتي ـ وفقاً لتصنيفٍ فئوي جديد نسبياً ـ الأقسام المختلفة لهذا المنهج:

اللا أدريون (Agnosticists)

ليس المراد من اصطلاح اللاأدرية الإلحاد Atheism)) كما قد يفسِّره البعض، إنما هو نحوٌ من الشكّاكية والإقرار باستحالة درك المقولات والقضايا الدينية. يقع اسم إمانويل كانط على رأس قائمة اللاأدريين الدينيين؛ وذلك باعتبار عدم اعتقاده بعقلانية «ما بعد الطبيعة»، وإقامته لسدٍّ منيع بين الدين والمعرفة، حيث ادّعى أنّ المعرفة ما دامت تتعلَّق بالأشياء المتحيِّزة في قالب المكان والزمان فقط فلا يمكننا من خلالها اقتناص المفاهيم والمقولات الدينية التي وراء الزمان والمكان. وفي ردِّه لجميع محاولات توليد إلهيات برهانية شدّد على نقطةٍ مهمّة، وهي وجوب عزل العقل والمعرفة حتّى يتجلى الإيمان في القلب([46]).

لا ينبغي للشباهة الظاهرية بين مدّعى كانط وبين ما يُعْرَف بالمنهج العرفاني في أوساط أتباع الأديان المختلفة، وعلى وجه التحديد مع مشرب أوغسطين في المسيحية، أن تجعلنا نعتقد بوحدة سنخهما، فهما منهجان متعاكسان قُدِّر لهما الالتقاء عند نقطة تقاطعٍ، والتقاؤهما في هذه النقطة لا يعني بتاتاً اتّحادهما في المنشأ والآثار، واشتراكهما في المسار والغاية. فما رام كانط بيانه من خلال قراءته غير المعرفية للمقولات الميتافيزيقية هو عملية استنقاذ وحفظ للنتاجات العقلية من دخالة المقولات الدينية، أما ما كان يسعى إليه أمثال: أوغسطين فهو صيانة حريم العقيدة والإيمان الديني من قياسات العقل في القضايا الدينية.

على الرغم من أن اللاأدرية الدينية بدأت بآراء كانط، إلاّ أن رواجها كان ببركة الوضعانيين، الذين رأَوْا أن كلّ قضيةٍ لاتقبل الإثبات أو الإبطال التجريبي فهي قضيةٌ لا معنى لها. ومن منظور كانط إن كمال الدين وتماميته تختزل في المنظومة الأخلاقية، وحاجة الناس إلى التحلّي بالسلوك الأخلاقي الذي يمكِّنهم من معرفة الدين والإله. ومن هذا المنظور لا مكان لمفهوم العبادة، والكنيسة، والعبادة، والإلهيات، في دين كانط الأخلاقي. إلى جانب كانط هناك فلاسفةٌ آخرون ـ بدون أن يحسبوا على اللاأدريين الدينيين ـ قد أصرّوا على البُعْد الأخلاقي المَحْض للدين. فهيغل اعتبر أن غاية وروح جميع الأديان الحقيقية، ومن جملتها: المسيحية، هو التربية الأخلاقية للإنسان، وبعبارةٍ أدقّ: رأى أنّ جميع تعاليم المسيحية تدعو لتحقيق هذه الغاية([47]). كما نلمس بوضوحٍ تأثير آراء كانط على مقاربة «آلبرت ريتشل»، الذي أكَّد على تأصّل المعنى الأخلاقي في المفاهيم الدينية.

العاطفيون (Emotionalists)

 إنّ النقد الذي أورده كانط على مسألة إمكان تحصيل المعرفة بـ «ما وراء الطبيعة»، وسدّ من خلاله الباب أمام العقل النظري في معرفة الأمور الخارجة عن دائرة الطبيعيات والرياضيات، قد دفع بمَنْ يشعر بالقلق إزاء فقدان مصداقية الدين من المفكِّرين إلى التنقيب عن أسسٍ أخرى لبناء أساسٍ دينيّ قويّ. فمع سلب جوهر الدين المعرفي، وإنكار البنية التحتية للمعرفة الإيمانية، سيكون أفضل اختيار ـ لو كان هناك اختيارٌ أصلاً ـ هو العودة إلى موطن الدين الأوّل، ألا وهو القلب. ووفقاً لكثيرين إن عودة الدين والإيمان إلى مكانته الأولى وموطنه الأصلي حَدَثٌ مهمّ يرجع الفضل فيه بالدرجة الأولى إلى شكّاكية كانط([48])؛ لأنه ينبئ عن الإخفاق الذريع للمنتمين إلى أصالة العقل، وكذا نظرة الوضعانيين السلبية تماماً للدين. ومع ذلك فقد استفاد هؤلاء المفكِّرون الدينيون (علماء اللاهوت الجُدُد) كثيراً من الظروف المواتية لكسر هاجس المنهج الأكويني، والعودة إلى المشرب الأوغسطيني.

توجد ثلاثة اتجاهات متقاربة ومتداخلة إلى حدٍّ كبير، وهي: «التديُّن القلبي»، و«الإيمان الشهودي» و«التجربة الدينية». فعلى الرغم من انطوائها على مبانٍ مشتركة ومبادئ تدخل تحت النطاق الواسع للتيار اللاعقلاني، وتأكيدها على البُعْد الفرداني في الدين، إلاّ أن بينها اختلافاً أيضاً. فلكلٍّ منها وجهٌ مائز في ارتباطه بمقولة الدين، وتعريفه يجانب به الآخر. ونحن سنحاول من خلال إطلالة على الاتجاهات الثلاث والحديثة نسبياً، وبيان بعض أوجه تمايزها، الإشارة إلى تركيز كلٍّ منها على مسألة تعريف الدين.

يعرَّف «إراسموس» على أنه أوّل مَنْ أوقد المصباح الذي لا يطفأ للديانة القلبية، وذلك في أوائل القرن السادس عشر. حيث دافع في كتابه «مدح الجنون» عن هذه النظرية، التي راجت أكثر في أوساط البروتستانت فيما بعد. واعتبر إراسموس أن الإلهيات قراءةٌ زائدة عن الدين، فالديانة الحقيقية هي التي تنطلق من القلب، لا من العقل([49]).

أما هيغل وبول تيليخ وكيركيجارد فيُعتَبَرون من دعاة الدين العِشْقي. فهيغل قد رأى أن الاعتقاد بالوجود الإلهي الذي يتَّصف بالمحبّة والعفو، بَدَلاً من الغضب والقهر، كما هو إله المسيحية، من لوازم الإيمان العشقي.

بينما يحيل تيليخ علاقة العشق بين الإنسان والإله إلى المرحلة الثالثة من الحياة البشرية، أي مرحلة «حاكمية الله» (Theonomy)، التي تعقب مرحلة «حاكمية الغير» (Heteranomy)، و«حاكمية الذات» (Autonomy).

واعتقد كيركيغارد بأن الإنسان يصل إلى «عالم العشق» بعد عبوره من عالمَيْ: «الحسّ»؛ و«العقل»، وهذه هي المرحلة الدينية نفسها التي تطلّ على مراحل «معرفة الجمال» و«معرفة الأخلاق». وفي الأساس هناك أربعة جوانب للدين:

أـ العقيدة الدينية، وهي الجنبة المعرفية للدين؛

ب ـ المناسك الدينية، وهي الجنبة الشعائرية والعبادية للدين؛

ج ـ المؤسّسات الدينية، وهي الجنبة الاجتماعية والعضوية الكنائسية للدين؛

د ـ التجربة الدينية، وهي الجنبة المعنوية والشخصية للدين.

يشير مصطلح «التجربة الدينية» إلى كلّ ما يشغل الفرد ذهنياً وروحياً في علاقته بالذات المتعالية، والأمور المقدّسة. ورغم أن هذه التجربة شخصانيةٌ وخاصّة، إلاّ أنها تكتسب لوناً اجتماعياً عندما تتجلّى في الأبعاد الأخرى للدين. وبالتأكيد فإن البُعْد «المعرفي» و«الشعائري» و«الاجتماعي» للدين يُعَدّ أرضيةً مناسبة ومهيّأة لتشكّل التجربة الدينية.

يعتقد «فردريك شلايرماخر» ـ وهو فيلسوفٌ وعالمُ دينٍ ذاع سيطه أوائل القرن التاسع عشر ـ بأن التعاليم الدينية والسلوكات تحكي وجود عنصر أصيل، واستقلال تجربة الإنسان الذاتي وعدم قابليتها للنقل والانتقال؛ وهذا ما يجعلها تأبى الاختزال في مجرّد عقيدةٍ أو عمل؛ إذ يرى أن هذا العنصر الباطني عبارةٌ عن «إحساس التعلّق بالمطلق»، وافتقار الإنسان في اتّكائه إلى ذاتٍ متعالية. وهذا الإحساس بالتعلُّق هو شعورٌ متفاوت لايمكن دركه إلاّ بواسطة الشهود، وعن طريق الأنس والمؤانسة مع المعبود المتعالي.

يُعْرَف شلايرماخر في الغرب بمنقذ الدين؛ نظراً لمنهجه الشهودي حول الدين؛ وذلك لأن ما بذله في سبيل تحرير الدين من هيمنة الفلسفة والعلم، وجعله متّكئاً على القلب والإحساس، بَدَل الفكر والعمل، كان سبباً في عزل مجال الدين ومعايير تشخيص حقّانيته عن باقي المجالات. وبالتالي جعل الدين في مأمنٍ من أيادي النقّاد الجرئيين، الذين لم يتوانوا لحظةً عن التعرُّض لساحة الدين القُدْسية. وعلى الرغم من خلاص الدين المعرّف من قِبَل شلايرماخر من الحصار المحكم المضروب عليه، والذي قد تعرَّض فيه مراراً لهجمات بغيضة من قِبَل الوضعانيين الملحدين، إلاّ أنه قد وضعه دون قصدٍ في مسارٍ يؤدي به تدريجياً إلى الزوال والاضمحلال.

إن شلايرماخر هو المؤسِّس للبُعْد الباطني الديني، حيث برزت بعده الخلفيات الفكرية لمنهج التجربة الدينية في أوساط الباحثين الدينيين؛ إذ اعتقد أن الدين ينبغي أن يُؤخَذ على أنه تجربةٌ شخصية باطنية حتّى نتمكَّن من فهمه. وبعد قرنٍ من شلايرماخر نجد من جملة مَنْ أيَّد فكرته حول الإيمان الشهودي وتجربته الشخصية كلاًّ من: «ويليام جيمس»؛ و«رودولف أوتو»، وقد سارا على منهجه في دراساتهم الموسّعة للتقاليد الدينية المختلفة.

إنّ جيمس وأوتو، اللذين وقعا تحت تأثير شلايرماخر، قد تناولا البحوث المفصلية لمقاربة التجربة الدينية في الأديان المختلفة بالتحقيق والتفصيل؛ إلاّ أنهما قد توصّلا إلى نتائج مختلفةٍ في ما يخصّ نوع «الإحساس». فجيمس، وخلافاً لما رآه شلايرماخر، قد اعتقد أن الدين رغم وقوعه موضوعاً ومتعلّقاً للإحساس، إلاّ أن هناك شعوراً دينياً مستقلاًّ ومتمايزاً. وأما أوتو فإنه ـ تَبَعاً لشلايرماخر ـ رأى أن التجربة الدينية تنطوي على عنصرٍ متمايز لا يقبل النقل والانتقال، ولا يمكن ببساطةٍ اعتباره نفس الشعور المتعارف([50]).

الرمزيون (Symbolists)

 نعرض هنا فئةً أخرى من التعريفات التي تختصّ بالتعبير الرمزي للدين. فالرمزيّون؛ باعتبار تبنّيهم لمنهجٍ تلفيقي في ما يرتبط بالدين، وأخذهم بعين الاعتبار البُعْد المعرفي والعاطفي له، قد احتلّوا منزلةً وسطى بين أتباع أصالة العقل وأصالة العاطفة([51]). فمفهوم الرمز الذي كان في فترةٍ سابقة مورد نظر بحوث الفلاسفة والأدباء والإناسيين هو بمثابة العنصر المختزن في داخله لمعانٍ كثيرة متراكمة ومغلقة، لا يمكن الظفر بمفادها وكُنْهها إلاّ من خلال فكّ ذلك الرمز، ومن ثمّ تفسيره، حيث يؤكِّد الرمزيون في مقاربتهم على أصلين أساسيين هما:

1ـ إن التعبير بالرموز آليّةٌ منحصرة في الإنسان، يتمكّن من خلالها من تشفير القِيَم والعلاقات والعواطف التي يحبِّها في قالبٍ رمزي.

2ـ إن النظام الرمزي ليس كاشفاً بالضرورة عن الواقعيات، إنما هو تجلٍّ غير تامّ الوضوح للمواقف النفسانية والاجتماعية في مجتمعٍ ما.

عند هذه النقطة تبرز الاختلافات المهمّة بين الرمزيين من جهةٍ وبين الاتجاهين المذكورين سابقاً من جهةٍ أخرى؛ إذ ينتهج العقليون في مواجهتهم لمفاهيم الدين ومقولاته منهج «أصالة الصورة» (Literalistic)، ومن ثمّ محاولة دَرْكها والتعامل معها بطرقٍ تحليلية، أمّا الرمزيون فتجذبهم صيغة النصوص (text paradigm)، ويعتقدون بأن النظام الثقافي ينبغي أن يُقرأ ويُفسَّر على أساس أنه نصٌّ.

ونظراً لتأكيدهم على المباني النظرية لعلم الكونيات الديني فإنهم في الوقت نفسه يُعزلون عن قراءة منهج أصالة العاطفة الذي ينفي أيّ جوهرٍ نظري ومعرفي للدين؛ أو على الأقلّ لا يقول بمكانته الذاتية والأساسية. كما أنهم؛ بلحاظ تأويلهم للأمور العينية والواقعيات إلى عناصر وأجزاء ذات معنىً خاصّ ضمن نظامٍ رمزي، يقعون في الطرف المقابل والنقيض لأتباع أصالة الاختزال، ويقتربون في الوقت نفسه من منهج «السلوكية»؛ لاهتمامهم وتأكيدهم على «العمل» و«السلوك الشعائري» باعتبارهما عناصر رمزية. بل إنّ اهتمام بعض الرمزييين بتوظيف عنصر الرمزية في حياة الانسان، وبغضّ النظر عمّا يختزنه من معانٍ ومفاهيم، يجعلهم أيضاً قريبين من الوظيفيين. مع ذلك فإن الخصوصيات المهمّة لكلٍّ منهما تجعلهما متمايزين ومفصولين عن بعضهما البعض، ومن جملتها: تجاهل الوظيفيين بل تشكيكهم في معرفة الجهات الفاعلة لسلوكهم الديني، وفي المقابل تقدير الرمزيين واحترامهم ـ وبعبارةٍ أخرى: أصحاب مقاربة المعنى([52]) ـ لما تعطيه المقاربة والتفسير الاجتماعي للدين.

 يُعَدّ «كليفورد غيرتز» أحد أبرز المحقِّقين الدينيين المنتمين إلى المنهج الرمزي، والذي اعتقد أن افتراض جوهرٍ انتزاعيّ لمفاهيم الدين ومقولاته قد جعلنا نضطرّ إلى استخدام الوسائل الرمزية. وحَسْب رأيه فإن الرموز الدينية، من قبيل: الأماكن المقدّسة والسلوكات الشعائرية وسيرة القدّيسين، عبارةٌ عن رموز مشفَّرة تساعد الفرد على تفسير معنى حياته. ويرى غيرتز أن الدين عبارةٌ عن نظامٍ رمزي، يوجد من خلال مفاهيمه نظماً عمومياً، ويولِّد في الناس أخلاقاً ودوافع خالدة، يضفي عليها هالةً من الحقيقة كما لو أنها الواقعية الفريدة الممكنة. كما أنّ غيرتز قد تناول أيضاً وظيفة الرموز الدينية بالدراسة، فقام بتقييم مدى نجاح الرؤية الكونية الدينية في التغلُّب على ثلاث من التحدّيات المفضية إلى تحريف معنى الحياة:

1ـ التغلُّب على تحدّي التبيين، الذي يفضي إلى تشكيك الإنسان وحيرته في العالم.

2ـ المغزى من تحمُّل الآلام والصعوبات في حياة الإنسان.

3ـ تبرير وجود الشيطان والظلم، والوعد بغَلَبة الخير والعدل وسيادتهما في العالم.

زيادةً على ذلك اعتقد غيرتز أن الرموز، وعلى الخصوص العبادية منها، بإمكانها خلق فضاءٍ خاصّ يسمح للمؤمنين تحت ظلّه من الظفر بمعرفةٍ أكثر عمقاً للواقع، معرفةٍ تفوق مصداقيتها بكثيرٍ التصديقات التجربية، وتصير أساساً متيناً في تعزيز القِيَم الاجتماعية.

لقد بنى الرمزيّون، من أمثال: «غيرتز» و«برغر»، آراءهم على فرضيات مسبقة حول معنائية العالم والنظم الجاري فيه، وفي الحقيقة لا يمكن تثبيت أصول الرمزية إلاّ على هذين الأساسين([53])؛ لذلك يقول برغر: الدين هو محاولةٌ جريئة لجعل العالم بأسره ذا مغزىً لدى الانسان. ومن ثمّ يتغلَّب الدين على الانحرافات والعوائق، من قبيل: الموت، والألم، والظلم، والشرّ([54]).

يوجد في أوساط الرمزيين اتجاهٌ آخر باسم «الرمزية الواقعية»، حيث اقترن ظهوره باسم «روبرت بِلا». وقع «بِلا» تحت تأثير آراء گيرتز، فرأىkأ أن الدين هو مجموعة من الصور الرمزية والأعمال التي تربط الإنسان بغايات الوجود([55]). ويقول: مع أن هذه الرموز تكشف عن الواقع، إلاّ أنها لا تقبل الاختزال في قضايا تجريبية([56]). فوفقاً لهذا الاتجاه يكون الدين واقعاً في نفسه، وأمراً حقيقيّاً يحكي دَوْر الدين، ويؤكِّد على أهمّية الرموز والسلوك الديني في حياة الإنسان.

إن الرمزية الواقعية تُعَدّ في الواقع حلاًّ حديثاً لتسكين مصيبة «موت الإله» التي وقعت في القرن التاسع عشر، والتي اعتبر على أساسها الدين أمراً زائفاً، مع القول بضرورته أيضاً([57]). لهذا حاول «روبرت بِلا» أن يطرح الدين كحقيقةٍ وجودية بغضّ النظر عن حقّانيته، ومن ثمّ الدفاع عن طرحه. وبشكلٍ موجز: قد توصّل إلى هذه النتيجة، وهي: «مات الإله»، «عاش الدين». فالدين لدى «بِلا» يُعَدّ أمراً مهمّاً، وفي الوقت نفسه واقعية فريدة من نوعها، ولا مثيل لها.

إنّ ارتقاء قيمة الدين الاجتماعية، والتأكيد على دَوْره في جلب الطمأنينة للفرد، هو وسيلة لخلاص الدين من المجادلات التي لا طائل لها، المتعلِّقة بصحّة المعتقدات والمدَّعيات الدينية وسقمها. وما الرمزية الواقعية إلاّ مبرّرٌ لمقولة الدين في نفسه، مع قطع النظر عن محتواه([58]). كما أن العبادة والسلوك الديني في غياب المعتقدات التوحيدية بالنسبة لمَنْ يعتقد بالرمزية الواقعية هما اللذان يخلقان حسّ التعلّق الديني. وعليه يكون هذا الاتجاه شبيهاً إلى حدٍّ كبير بمقاربة «السلوكية»؛ لتركيزه على عنصر السلوك الديني، بدون النظر إلى المعتقدات.

السلوكيون (Behaviorists)

»السلوكيون» أو «الشعائريون» فئةٌ أخرى من الباحثين في الدين، قد اعتقدت أن العنصر المميِّز للدين هو البُعْد النُّسُكيّ الشعائري، وليس أبعاده الاعتقادية والمعرفية والعاطفية. بالطبع لم يسدّ حتّى الإفراطيون منهم الباب تماماً أمام الأبعاد الأخرى للدين، بل كلُّ ما في الأمر أنهم، وأثناء تحقيقهم عن العنصر الجوهري والمميِّز للدين؛ لإسناد الدَّوْر الأساس إليه، رأَوْا أن الجانب السلوكي في الدين هو الأكثر أهمّيةً. مع أنهم في الوقت نفسه قد أقرّوا بعدم انطواء جميع الثقافات الدينية على هذه الجنبة النُّسُكيّة. وكما يقول «مارت»، أحد الباحثين الدينين الذين يميلون إلى هذا الاتجاه: «يتجلّى الدين لدى كثير من الثقافات في الرقص، أكثر من تجلّيه في الفكر والمعرفة»([59]).

لقد شكَّك السلوكيّون في تقدُّم العقائد على الشعائر، واعتقدوا بأن المعتقدات هي التي تنشأ لاحقاً، فيكون لها حكمُ التدليل والتبرير للأعمال المناسكية. فتأكيد السلوكيين على دراسة النماذج الشعائرية في الأديان المختلفة دراسةً معمّقة راجعٌ إلى الأصالة والأولوية التي يولونها للبُعْد العملي والسلوكي الديني بالقياس إلى أبعاده الأخرى. فها هو «سام جيل» يتوصَّل أيضاً، عبر دراسته للأديان المحلّية في أمريكا، إلى هذه النتيجة، وهي: «إن هذا النوع من الإيمان يبين عادةً من خلال الرقص، والحركات، والطقوس. فالموضوعات والمقولات الدينية لم تكن يوماً وليدة التعصُّب والمجادلات الكلامية»، مدّعياً أنه هكذا كان حال المسيحية الصادقة التي كانت من قبلُ تركِّز على السلوك أكثر من اتّكائها على العقائد والأفكار([60]).

 إن الانجذاب إلى هذه الجَنْبة السلوكية والشعائرية للدين، وأهمّية ذلك عند الفرد المؤمن، يمكن إرجاعه إلى أسباب ومواقف ثلاثة متفاوتة:

1ـ تأثير رؤية كانط غير المعرفية للدين؛

2ـ تعرُّف علماء الأنثروبولوجيا على الأديان الشعائرية في المجتمعات المحلّية والبدائية؛

3ـ محاولة المتكلِّمين الجُدُد العودة إلى الجوهر الخالص غير اللاهوتي للمسيحية.

يقول «آلبرت ريتشل»، مؤسِّس الإلهيات العملية: «يبدأ الدين بهذا السؤال: «ماذا ينبغي أن أفعل لكي أتحصَّل على الخلاص؟»([61]). ومن هذا المنطلق يؤكِّد على الالتزام بالأخلاق العملية كتجلٍّ رمزيّ للإيمان.

الوجوديون (Existentialists)

 إن تأكيد المقاربة الوجودية على عنصر حياة المؤمنين أكثر بكثيرٍ من تأكيدها على تحقيق المعرفة العقدية، لهذا ينبغي إدراجها تحت المنهج اللاعقلاني. فالوجودية تتجاوز حدود الاتجاه نظري؛ إذ تحمل أحياناً خصوصيات مدرسة ذات اتجاهين: إلحادي؛ وإلهي. فكيركيجارد ـ الوجه البارز لهذا الاتجاه ـ؛ باعتباره وجوديّاً مسيحيّاً، يعتقد بأن الله والإنسان عبارةٌ عن تجلِّيات للوجود، لذا لا ينبغي التعامل معهما كما نتعامل مع الأشياء الأخرى، وعليه لا يتيسَّر الاعتماد في دراسة الدين على المنهج السائد في العلوم، والذي على أساسه يُخاض في دراسة عينيّة الحقائق وكلّيتها بمعزلٍ عن أيّ بُعْدٍ عاطفي ووجداني. ومع إنكار كيركيجارد لإدراك الحقائق حيادياً وبنحوٍ كلّي؛ أي غير مصداقيّ، إلاّ أنّه ادّعى أن هدف الدين الأصلي هو إلزام الإنسان بنَمَطٍ خاصّ من العيش، وسوقه نحو السعادة الأبدية والمثالية. فالحماسة والرغبة والإرادة التي وقعت مورد اهتمام كيركيجارد لا تتحقَّق من خلال «الوعي»، إنما تزهر من خلال «الطفرات الإيمانية» للإنسان. كما أن إزهار وجود الإنسان بالإيمان لا يتسنّى بتمامه عبر اختيار الفرد المؤمن؛ بل هو موكولٌ لفيض الله وعنايته.

إنّ مشرب كيركيجارد الديني، ونظراً لعدم اعتماده على التفكير المَحْض، يوحي بنظرته السلبية تجاه الفلسفة والإلهيات النظرية، والقول بالتعارض بين البرهان والإيمان، ممّا جعل الكثيرين يقارنونه بقساوسة الكنيسة الأوائل، أمثال: أوريجنس وترتوليانوس، اللذين اعتقدا بضرورة تحقُّق الإيمان، ومن ثمّ تعلُّمه؛ ليتيسر التوصّل إلى حقيقة المسيحية. وبهذا الصدد يقول كيركيجارد أيضاً: «حينما نتقبَّل «التعليم»، ونسير في حياتنا على أساسه، ونعرِّض أنفسنا للخطر من أجله، عندها تثبت حقيقته… وهذا هو تحمُّل المخاطر، وبدون ذلك يستحيل أن يكون لنا إيمانٌ»([62]).

 

الهوامش

(*) عالمُ اجتماعٍ، وأستاذٌ جامعيّ معروفٌ في مجال الدراسات الدينيّة من منظور الفكرَيْن: الاجتماعيّ؛ والسياسيّ.

([1]) لقد خالف ويبر، في محاولته، نظرية «الاختزاليين»، الذين رأَوْا أن أساس الدين في العوامل الخارجة، فقال: إن العوامل الاجتماعية، وإنْ كان لها تأثيرٌ نافذ على الشعائر الدينية، إلاّ أن هذه الأخيرة تنبع في الأساس من مشربها الديني. راجع:

Hamilton,M.B. sociology of religion P.137.

([2]) زندگي وأنديشه ماركس (فكر وحياة ماركس): 115.

([3]) فردريك كابلستون، فرديريك نيتشه فيلسوف فرهنگ، (فردريك نيتشه فيلسوف الثقافة): 291، ترجمه إلى الفارسية: علي رضا بهبهاني، وعلي أصغر حلبي، طهران، بهباني، 1371هـ.ش.

 ([4])McGuire, p.9.

([5]) دان كيوبيت، درياي إيمان (بحر الإيمان): 105، ترجمه إلى الفارسية: حسن كامشاد، طهران، طرح نو، 1376هـ.ش.

([6]) «ماركس»، وعلى خلاف الانطباع السائد، قد رأى أن الدين كما أنه يمثِّل الأداة الأيديولوجية للطبقات الحاكمة، فإنه يمثِّل أيضاً مصدر المواساة والطمأنينية للطبقات الدنيا. وفي الوقت نفسه اعتبر ماركس أن للدين وظيفةَ تشكيل حركات الاحتجاج، وإنْ لم يعتقد بجدواها. راجع:

Hamilton, M.B. Sociology of Religion (P.84)

([7]) حول النظرة الأفيونية إلى الدين، راجع:

Turner B.S. Religion and Social Theory (pp. 63 ـ 86).

([8]) لا يمكننا تحديد مصدرٍ واحد للوظيفية. ونحن هنا قد أشَرْنا إلى جذورها من خلال تأكيد هذا المنهج على بُعْد أصالة الفائدة (المنفعة)، الذي يبدو جليّاً في تعريف للدين. وفي الحقيقة إن أهمّ أصل نظري لهذا المنهج هو «الكينونيّة» (Organisism).

([9]) برتراند راسل، تاريخ فلسفة غرب (تاريخ الفلسفة الغربية): 339، ترجمه إلى الفارسية: نجف دريابندري، طهران، برواز، 1345هـ.ش.

([10]) Hamilton, op.cit p114.

([11]) Robertson, op. cit, p. 34.

([12]) ينبغي تصنيف العديد من الكلاميين المسلمين والمسيحيين الذين ينظرون إلى الدين بالنظرة الاجتماعية ضمن هذه المجموعة. وكمثالٍ على ذلك: إن الأستاذ مطهّري قد تعرّض إلى الوظائف التالية للدين: «تكوين المعرفة» و«إيجاد القِيَم»، و«تحديد الاتجاه»، و«الرقي الأخلاقي»، والقدرة على «التغيير السياس والاجتماعي». للتفصيل راجع: همايون همتي، جامعة شناسي دين أز ديدگاه أستاذ مطهري ودكتور شريعتي.

([13]) Tunner, op.cit. p.44.

([14]) يعتقد دوركايم أن الدين يبيِّن الحقائق بشكلٍ «رمزي». للتفصيل حول الموضوع راجع:

Hamilton, M.B. op.cit. p.113.

([15]) إن فكرة دوركايم هذه قد تبلورت من تأثُّره بأفكار رابرتسون اسميت، حيث اعتقد هذا الأخير أنّ «المناسك» تتقدَّم في الأساس على «المعتقدات» الدينية، وما العقائد إلاّ دلائل مؤيِّدة على مثل تلك السلوكات الشعائرية. راجع:

Hamilton, M.B. op. cit. p.13.

ولأجل بيان المناهج المؤكِّدة على البُعْد السلوكي للدين سنبسط الكلام لاحقاً حول منهج «السلوكية».

([16]) إن التفاسير الوظائفية في علم الاجتماع وعلم النفس تميل في الأساس إلى استناد مدّعاها على الأبعاد والنتائج الخفية والبعيدة عن رؤية الفاعل الاجتماعي. ودوركايم يُحْسَب أيضاً على الذين يعتقدون بدَوْر هذه الوظائف الخفية للدين في إيجاد التكافل الاجتماعي وصيانة المجتمع، كما يقول بأن الوظيفة الأساسية للشعائر الدينية ليست تلك الأهداف المعلنة من قِبَل المتدينين والمشتركين في إقامة تلك الطقوس. للتفصيل حول الموضوع راجع:

Hamilton, op.cit.pp. 3 ـ 102.

([17]) نقلاً عن كتاب:

McGuire, op.cit. p 9.

([18]) وإنْ كان دروكايم عبر تقديم هذا التعريف يصنَّف ضمن الباحثين في مجال الدين الذين سعَوْا إلى تعريف الدين طبقاً لـ «ماهيته» و«جوهره»، إلاّ أنه؛ بسبب تأكيده على وظائف الدين وما تقدَّم من تعريفات باعتبار هذا البُعْد الديني، لا يزال يُدْرَج ضمن زمرة الباحثين الدينين الوظيفيين.

 ([19])Hamilton, op. cit. p.14.

 ([20])Ibid.

 ([21])Ibid.

([22]) Robertson, op. cit. p.47.

([23]) Hamilton, op. cit. p 121.

([24]) مرسيا إلياد، مصدر سابق 2: 266.

([25]) يصرّ «نيدل» على أن يستعمل كلمة «الوظيفة» (Function) بَدَل من كلمة الكفاءة (Competence)، حتّى يتجنّب الدلالات التي تفيد بأن الدين أداةٌ وظائفية بالذات. في هذا الخصوص يراجع:

Robertson, op. cit. p.230

([26]) يعتبر «مالينوفسكي» الدين منفِّساً وعامل اطمئنان ومحقِّقاً للتكافل، راجع:

Hamilton, M.B. p. 49.

([27]) إن العديد من الوظيفيين لا يرَوْن أيّ حقيقة وفائدة للدين، سوى مساعدته الفرد في تغلُّبه على الألم، وارتقاء درجة تحمُّله للمصاعب، ومن ثمّ الظفر بملجأٍ يلجأ إليه عند طلب التشافي. كما يصرّح «كيوبيت» قائلاً: «يحتاج كلّ فردٍ في تغلبه على الألم والشرور إلى تنمية مكنوناته الدينية الباطنية. فأنا أردتُ الاستنجاد بمنابع الإيمان، لا للظفر بعلل الواقعيات، بل لتجهيز قواي الباطنية في مواجهاتها… الإله ليس نظريةً تنتزع فكراً، إنه الملجأ». راجع: كيوبيت، دان درياي إيمان: 49.

([28]) يرى مالينوفسكي أن أساس الدين هو الخوف والاضطراب الحاصل من تذكُّر الموت. راجع:

Hamilton, M.B. p.49.

([29]) يعتبر «رادكليف براون» الدين نوعاً من إحساس التعلُّق بالقدرة الخارجة عن الذات، بينما يعتبره «شلاير ماخر» الإحساس بالتعلُّق المطلق. راجع:

Hamilton, M.B., p. 114.

([30]) وقد أكّد «يونج» على وظيفة الدين في بناء الشخصية المتوازنة. راجع: دان كيوبيت، درياي إيمان (بالفارسية): 105.

ويُعَدّ «إدي» من الوظيفيين المعتدلين؛ وذلك أنه ضمن عدّه الوظائف الفردية والاجتماعية للدين أبرز شكوكاً جادّة حول ضرورة وعمومية تلك الوظائف. إنه بعد بيان ثغرات هذا المنهج أشار إلى بعض الوظائف السلبية للدين نحو الفرد والمجتمع. راجع:

Hamilton, op. cit. p.120.

([31]) Roberts, p.7.

([32]) Ibid.

([33]) Ibid.

([34]) McGuire, 1981.

([35]) لتفصيل أكثر راجع:

Hamilton, pp. 28 ـ 44.

([36]) يعتقد «جان لوك» بأن العقائد الدينية التي تخالف العقل تفقد الحقيقة الوحيانية أيضاً، ومن القطع أنها قضايا كاذبة. راجع: همتي، دين شناسي تطبيقي عرفان (بالفارسية): 2 ـ 121.

([37]) Hamilton, p.p.21 ـ 27.

([38]) Ibid.

([39]) مذهب حيوية المادّة.

([40]) إن «باسكال»؛ حيث يعتبر مؤمناً استثنائياً في وسط العقلانيين، فهو كاثوليك ملتزم. وعلى خلاف سائر العقلانيين كان يعتقد بالإدراك الشهودي والإذعان القلبي لله، وكان يدّعي أنه لا بُدَّ من معرفة الله بواسطة عيسى المسيح والكتاب المقدّس، وكان يعترض على هؤلاء الذين يبحثون عن المعرفة الإلهية عبر البراهين الفلسفية. راجع: براون، فلسفية وإيمان مسيحي (بالفارسية): 54.

 ([41])Ringgren and Strom, 1967:XXVI.

 ([42])Lawson and McCauley, 1990:33 ـ 4.

([43]) Ibid.

 ([44])Ibid:35.

([45]) A believe in Spiritual Beings.

Ibid: 3  ـ42.

([46]) انظر: إمانويل كانت، نقد العقل المَحْض: 39. (الطبعة الفارسية).

([47]) هيغل / برهام: 7 ـ 36، 1369.

([48]) من هنا يصرح كيركيجارد، الذي يُعَدّ واحداً من أبرز دعاة الإيمان الشخصي، بأن كانت من أحبّ الفلاسفة إليّ. (مرسيا إلياد، الدين والثقافة: 141).

([49]) راسل، دريابندي: 712، 1365.

([50]) لا يؤمن هنري هوبرت ومارسيل هوس بشيءٍ مستقلّ باسم الإحساس الديني، وإنما يرَوْن أن العاطفة الدينية عبارةٌ عن واحدة من العواطف التي تتعلّق بالدين، ليس أكثر.

([51]) يقول هاملتون، مشيراً إلى جيرتز: لقد تشكّل هذا المذهب تحت تأثير المذهب العقلي والمذهب العاطفي. انظر:

Hamilton M. B., p.161.

([52]) يدرج هاملتون في كتابه علم اجتماع الدين هؤلاء الفلاسفة تحت عنوان: «فلاسفة المعنى».

([53]) لمزيدٍ من التفصيل انظر:

Hamilton M. B., p.p. 157 ـ 164..

([54]) Hamilton, p.161.

([55]) Robertson, 1969: 262.

([56]) Hamilton, 1995: 8.

([57]) يُعَدّ القرن التاسع عشر قرن المقابلة العقلانية مع الدين؛ وذلك أنه بعد انحسار موجة إنكار الدين، وعدم الاهتمام به، عاد جمعٌ من المفكِّرين واعترفوا بأن الدين أكذوبةٌ لا مفرّ منها، وتتمتَّع بفوائد مهمّة. فأوغست كونت مثلاً، مع إيمانه بأن الدين أمرٌ مرتبط بعهد الطفولة البشرية، إلا أنه آمن في الوقت نفسه بالحاجة إليه؛ لأنه يؤدّي إلى حفظ الانسجام الاجتماعي… وهكذا رأى ماركس في الدين نوعاً من العزاء للطبقة المسحوقة. وسار فرويد ويونج على الخط نفسه تقريباً. ولكنّ هؤلاء جميعاً، مع هذه الاعترافات المشار إليها، لا يرَوْن له بقاءً في المستقبل الآتي من حياة الإنسانية.

([58]) Turner, p.57 ـ 58.

([59]) Roberts, 1969:3.

([60]) Ibid, pp. 3 ـ 4.

([61]) هوردرن، المصدر السابق: 42.

([62]) براون، المصدر السابق: 129.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً