أحدث المقالات

كشف مغالطات سروش

 

أ. محمد صدر زاده(*)

ترجمة: السيد حسن الهاشمي

1ـ مقولة سروش في تنافي الإمامة والخاتمية ــــــ

إنّ العبارة الآتية مقتطفة من كلام للدكتور سروش منشور على شبكة الإنترنت، وقد وجهه إلى الشيعة. وها هو راقم هذه السطور ينقله؛ بغية تحليله والإجابة عنه.

سروش: «كيف يمكن أن يأتي بعد خاتم الأنبياء أشخاص يتحدّثون بالاستناد إلى الوحي والشهود بأحاديث ليس لها شاهد من القرآن والسنة النبوية، وفي الوقت نفسه تكون تعاليمهم وتشريعاتهم وإيجابهم وتحريمهم في رتبة الوحي النبوي، وأن تثبت لهم عصمة النبي وحجية سنته، ومع ذلك لا يحدث من جرّاء ذلك أيّ خلل في مفهوم الخاتمية؟ فما هو الشيء الذي تنفيه الخاتمية وتحول دونه؟ وما هو المستحيل وقوعه وتحققه بحكم الخاتمية؟».

 

مطالعة نقدية في رؤية سروش ــــــ

1ـ تتلخص رسالة النبي الأكرم| في إبلاغ النداء الإلهي إلى الناس، وتعليمهم ما نزل إليهم بواسطته على شكل كتاب. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وإنّ كلّ كتاب علمي يحتاج إلى معلم خبير برموزه العلمية.

2ـ من خلال التدقيق والتدبّر في الحديث المتفق عليه بين المسلمين، المعروف بحديث المنزلة، والمروي عن رسول الله|، أنه قال: «يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، والتدبّر في شأن ومقام هارون ونسبته إلى موسى×، تكون شراكة الإمام علي× مع رسول الله| في إبلاغ الرسالة الإلهية إلى الناس، وفي تزكيتهم وتعليمهم العلوم القرآنية، أمراً مشهوداً وواضحاً على نحو كامل.

3ـ إنّ اللازم من الشراكة في أمر الرسالة وإبلاغها أن يكون شريك النبي عالماً بموضوع الرسالة مثل النبي سواء بسواء، وإلا لن يستطيع أن يفعل شيئاً ذا نفع في إبلاغ الرسالة.

وقد جدّ النبي| شخصياً في إثبات هذه الحقيقة للناس، بمعنى بيان هذه الشراكة القائمة بينه وبين الإمام علي× في خصائص النبوّة وتبليغ الرسالة، والمسؤولية في مواصلة تعليم الأمة وتزكيتها، في الكثير من الأحاديث، من قبيل: «أنا صاحب التنزيل، وأنت صاحب التأويل»، والاستمرار في تطبيق نظام التشريع، إذ يقول: «مَنْ كنت مولاه فهذا علي مولاه». وعليه فإنّ الولاية الثابتة للإمام علي× هي ذات الولاية الثابتة لشخص النبي الأكرم| من قبل الله تبارك وتعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.

4ـ وفقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فإن كل صفة ثبتت لرسول الله|، وأوجبت طاعته على الناس، وجب أن تثبت لأولي الأمر؛ لوجوب طاعتهم. ومن أهمّ تلك الصفات: العلم، والعصمة، والولاية، فإنها تعدّ شرطاً ضرورياً لمواصلة تعليم الأمة وتزكيتها، واستمرار تطبيق نظام التشريع. وإنّ وجود مثل هؤلاء الأفراد، كمعلمين في النظام التشريعي، لازم لتكميل الخاتمية، وتمامية نظام التشريع، لا أنه ناقض له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ. وعليه فإنّ لازم إتمام إبلاغ الرسالة الإلهية هو تعريف الأمة على شخص يتمتع بنفس خصوصيات النبي وصفاته، وأن يكون لذلك واجب الطاعة، مثل رسول الله|. وإنّ هذا التعريف موجب لإكمال الدين، وإتمام المسؤولية الملقاة على عاتق شخص رسول الله|، لا أنها ناقضة ونافية للخاتمية.

فهل يكون الرجوع إلى أهل البيت بأمر رسول الله|، الذي هو أمر الله تعالى؛ بحكم قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى، نقضاً للخاتمية أو استمراراً وتعزيزاً لها؟!

5ـ إنّ تطبيق النظام عملية تدريجية، مصحوبة بتربية الناس على مراعاة أسس النظام المدوّنة، أي تزكيتهم وتعليمهم ما تمّ تشريعه لهم في ذلك النظام، ودعوتهم إلى التمسّك بالعمل على طبق تلك التشريعات والقوانين، لما في ذلك من ضمان تقدم الخلف على أمة السلف.

6ـ هل المراد من (تبليغ الرسالات)، التي ينسبها المولى أمير المؤمنين× لنفسه، غير الرسالات التي أمر شخص رسول الله| بتبليغها؟! هل كان الهدف من هذا التعليم والإبلاغ هو تطبيق برنامج مثل: أداء تبليغ الرسالات من قبل رسول الله|، أو هو مجرّد بيان لكيفية إبلاغ الرسالات، دون الإذن في الاستفادة منها؟! إذا كان لمجرّد التعليم، دون الاستفادة والإذن في العمل والتوظيف، أي من دون إذن في تبليغ الرسالات، إذاً يكون علماً عبثياً لا فائدة منه، إلا أنّ مقام رسول الله| ومقام المولى أمير المؤمنين× أجلّ من أن يكونا قد بادرا إلى تعليم علم غير مفيد، ولا يمكن الاستفادة منه. وإنْ كان ذلك العلم هو استمرار لذات نهج التزكية والتعليم الذي أُمر رسول الله| بالقيام به من قبل الله تبارك وتعالى؛ إذ قال: ﴿يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، إذاً يكون لازم ذلك إتمام الرسالة والخاتمية، وليس نقضها وإبطالها.

 

تشريح علمي لمعنى الخاتمية ــــــ

7ـ إنّ عدم فهم معنى الخاتمية قد أدى إلى هذا النوع من الأخطاء. ماذا تعني الخاتمية؟ تعني نهاية تدوين نظام التشريعات في نظام تشريعي حديث اسمه الإسلام بوصفه آخر الأنظمة التشريعية. وحيث إنّ كلّ نظام تشريعي يتمّ إبلاغه عبر إرسال الرسل وإنزال الكتب فإن الرسول الذي بعث لإبلاغ النظام التشريعي الأخير من طريق وحي السماء والقرآن الكريم سيكون هو آخر الرسل، وكتابه آخر الكتب السماوية المنزلة. لقد ذهب التصوّر بسروش إلى اعتبار الخاتمية انقطاعاً لتطبيق النظام التشريعي، في حين أنّ النظام الإسلامي، الذي هو خاتم الأديان، والدين الظاهر على جميع الأديان، والذي هو للناس جميعاً، والدين الخالد الذي يجيب عن جميع متطلبات الإنسان في جميع مراحل الحياة، لا بدّ أن يتوفر على برنامج ومشروع صالح للتطبيق في جميع المراحل، وإلى يوم القيامة.

8ـ ما هو الطريق للوصول إلى تعلم علوم الوحي السماوي ومعارفه؟ «نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً»، و«ما من شيء تطلبونه إلا وهو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني». فلو سألنا الإمام علي× عن مسألة لم يسأل عنها رسول الله|، وأجاب عنها بما أودعه رسول الله من العلوم، فهل يكون جوابه ناقضاً للخاتمية أو متمِّماً لها؟!

وعليه فإنّ الطريق الوحيد للوصول إلى علوم ومعارف وحي السماء النازل على رسول الله| منحصر بأهل بيته^.

إذاً ستكون الإجابة عن السؤالين التاليين كما يلي:

السؤال الأول: ما هو الشيء الذي تنفيه الخاتمية وتحول دونه؟ وما هو المستحيل وقوعه وتحققه بحكم الخاتمية؟

الجواب: نفي تدوين وسيادة نظام تشريعي آخر غير الإسلام، واستحالة قيام أي نظام غير النظام الإسلامي. قال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ.

السؤال الثاني: ما هو الفرق بين وجود وعدم هذه الخاتمية، التي تعطي جميع شؤون النبوة لغير النبي؟

الجواب: بالالتفات إلى ما تقدم من معنى الخاتمية ثبت أنّ وجودها يعني المجيء بنظام تشريعي جديد، وأنّ عدمها يعني عدم وجود مثل هذا النظام التشريعي الجديد.

 

2ـ مقولة سروش في استمرار النبوّة عند الشيعة، قراءة نقدية ــــــ

سروش: «إنّ اعتبار أئمة الشيعة شارحين ومفسِّرين للقرآن والسنة النبوية لن يحلّ هذه العقدة المستعصية؛ وذلك لأن الكثير من كلمات وأحكام الأئمة جديدة ومستحدثة لا أثر لها في النصوص المتقدّمة، وليس فيها أيّ إرجاع إلى القرآن والسنة النبوية، وليس فيها أدنى إشارة تعليقية وبيانية، إلا إذا تصرفنا وتوسعنا في معنى (الشرح والبيان) حدّاً يفضي بنا إلى الوحي والنبوّة، ولن تكون مهمّة الأئمة منحصرة بالشرح والتفسير، بل هي استمرار للنبوة، وهو النهج الذي سار عليه غلاة الشيعة، وأسسوا لإمامة غير متناغمة مع الخاتمية».

1ـ أقول: إنّ الدعوى التي لا تقوم على مستند ودليل تسمى كذباً وافتراءً.

وإنّ القول بعدم إرجاع الأحكام الصادرة من قبل أهل البيت^ إلى الكتاب والسنة، وإنكار ذلك بمثل هذا الأسلوب القاطع، دون ذكر مثال واحد على ذلك، لدليل على ابتلاء قائله بالعمى في بصيرته، الذي قد يظهر على الفرد بعد تجاوز الحدود الإلهية؛ إذ يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ المُعْتَدِينَ. علينا أن نكون أحراراً، وأن نقيم كلامنا على الحقائق والأدلة، ثم نطرحها كمدَّعى. إننا نطالب صاحب المقال بأن يأتي بأمثلة من كلام أهل البيت^ ليس فيها إحالة إلى القرآن الكريم أو السنة النبوية، كما يدّعي؛ ليخرج ادعاؤه عن دائرة الكذب والافتراء، ويكون جديراً بإنفاق الوقت على التحقيق في صحته وسقمه.

2ـ وأضيف إلى ذلك أنّ النبوة تعني حمل النبي لنظام تشريعي. وهو كعلم أفضل من سائر العلوم المتداولة في كلّ أمّة من الأمم. وإنّ تطبيق هذا النظام رهن بالتزكية والتعليم في جميع الأمم. وهو أمرٌ يواجه الكثير من السدود والموانع وردود الأفعال التي تعقِّد مهمة الأنبياء، بل وتجعلها مستحيلة أحياناً، كما حصل ذلك بالنسبة إلى أمة نوح. إنّ تطبيق هذا النظام على الشعوب يتوقف على تعليم الناس عبر مراحل متدرّجة، وبالتالي فهو بحاجة إلى مدّة زمنية طويلة. وعليه ففي تطبيق نظام التشريع تكون مسؤولية أوصياء الأنبياء من أولي العزم هي ذات مسؤولية الأنبياء في تزكية وتعليم الأمة ما جاء في النظام التشريعي من تعاليم لهدايتهم، دون أن يحدث ذلك خللاً في أمر رسالة الأنبياء من أولي العزم.

 

3ـ مقولة سروش في ثبوت خصائص النبي للإمام ــــــ

سروش: «إنّ الناس إما أن يحصلوا على معلوماتهم مباشرة، أو بواسطة الاجتهاد والاكتساب، وإنّ علم النبي من القسم الأول. وإن هذا العلم المباشر إما أن يكون مقروناً بالعصمة أو لا، وعلم النبي من القسم الأول. وإن علم النبي المباشر المقرون بالعصمة إما أن تثبت حجيته على الآخرين؛ أو لا. وعلم النبي من القسم الأول. وهنا يقوم غلاة الشيعة بإثبات جميع هذه المراتب الثلاث لأئمتهم، غافلين عن أن مثل هذا الاعتقاد لا ينسجم مع الخاتمية».

1ـ في الإجابة عن هذه العبارة القائلة: «وهنا يقوم غلاة الشيعة بإثبات جميع هذه المراتب الثلاث لأئمتهم» نقول: هل يمكن لصفة أخرى غير العصمة أن تجعل من الشخص واجب الطاعة على الآخرين؟! لولا العصمة لم يأمن الشخص من اقتراف الذنوب، وإن وجوب الطاعة لغير المعصوم غير قابل للتحقق؛ إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». إنّ النبي الأكرم| إنما غدا واجب الطاعة بأمر الله لكونه معصوماً. إنّ صدور أمر واحد بشأن وجوب طاعة النبي الأكرم| وأولي الأمر يحكي عن وجود العصمة فيهم. قال تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ. وعليه نجد أنفسنا في غنىً عن أن نسأل الدكتور سروش: هل يؤمن بانطباق عنوان أولي الأمر على أهل البيت^ أم لا؟ وعلى أية حال يجب على الدكتور أن يعلن بأنّ العصمة لا تنحصر بوجود النبي الأكرم|. إنّ جميع الخصائص والصفات المتوفرة في النبي الأكرم|، التي أوجبت صلاة الله وجميع ملائكته على النبي|، وتبعاً لذلك يأمر الله المؤمنين بالصلاة عليه؛ إذ يقول: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، مع الأخذ بعين الاعتبار لزوم الصلاة على النبي وآله معاً، وعدم الفراغ من الصلاة اليومية إلا بعد الصلاة على النبي وآله، لدليل واضح على تمتُّع الأئمة بنفس خصائص وصفات النبي الأكرم|. وهو ما يقرّ به أهل السنة أيضاً، فقد قال النيسابوري في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى: «كفى شرفاً لآل الرسول وفخراً ختم التشهد بذكرهم، والصلاة عليهم في كلّ صلاة».

2ـ بعد الإيمان بتوفر العصمة في أهل البيت^ لا يمكن تطرق الكذب إلى ساحتهم. قال الإمام أمير المؤمنين علي×: «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبّنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة». ولازم إشراك أهل البيت^ مع النبي الأكرم| في أمر تبليغ الرسالات أن يتوفَّروا على نفس ما يتمتع به رسول الله| من الصفات التي تؤهله لتبليغ الرسالة، دون أن يكون هناك أدنى مساس بخاتميته|.

3ـ إنّ الخاتمية لا تعني انقطاع أنوار الهداية الإلهية، ومشروع تزكية الأمة وتعليمها، وعدم تطبيق النظام التشريعي، وإنما يعني عدم إرسال الرسل، وعدم إنزال تشريع جديد غير الإسلام. ويكفي في الوصول إلى هذه الحقيقة التدبّر في معنى الخاتمية، ومن ثمّ التدقيق في حديث المنزلة المتفق عليه من قبل جميع المسلمين. إذا آمنا بعصمة أهل البيت^ فإنّ لازم قول الإمام أمير المؤمنين×: «أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة»، وقول رسول الله|: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى…»، هو العلم بعلوم الوحي التي نزلت على النبي الأكرم بالأصالة، وقد تعلمها الإمام تبعاً لتعليم النبي، واختصاصه إياه بتعلمها.

 

4ـ مقولة سروش في نقد الأحكام الصادرة بعد النبي‘، تعليق وتفنيد ــــــ

سروش: «ما دام الكون مشعّاً بنور وجود خير البشر لم تكن هذه الأحكام ظاهرة، ولم تصِلْ إلى الناس من قبله، حيث لم يرد لها ذكر من قبل النبي الأكرم|؛ إذ لم يكن المورد ابتلائيّاً في عهده، وأما بعد رحيله وانقطاع الوحي الإلهي فلا يمكن للحكم الشرعي أن يستجد، فكيف يمكن توجيه مثل هذه الأحكام الشرعية؟ وما هو الطريق إلى العلم بها؟».

1ـ إنّ القرآن الكريم كتاب يشتمل على جميع العلوم التي يتوقف عليها نظام التشريع الخالد. وإنّ لازم الخلود أن يشتمل هذا الكتاب على كل ما يحتاج إليه الإنسان، سواء الساكن في البادية في عصر نزول القرآن، أو المتحضِّر في العالم المعاصر، وآخر إنسان على وجه الأرض. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ، وقوله تعالى: ﴿ولاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ. وفي ما يتعلق بالروايات نكتفي بذكر مثالين مرويين عن الإمام أمير المؤمنين× إذ يقول: «ما من شيء تطلبونه إلا وهو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني». فهل المخاطب بهذا الكلام هو خصوص المسلمين في صدر الإسلام، أم هو خطاب لجميع الناس إلى يوم القيامة؟ فما أكثر مسائل القرآن الكريم التي يتم فتح مغاليقها إلى اليوم؛ لأحد الأدلة التالية: 1ـ عدم حلول الوقت المناسب لتطبيق هذا الجزء من النظام. 2ـ غياب الإمام المعصوم#، وهو العالم بكلّ ما في القرآن الكريم. ولهذا السبب تمّ التأكيد من قبل الأئمة على عدم جعل الدين موضوعاً للسياسة؛ إذ من الممكن أن تطرح مسألة ولا تكون علومنا القرآنية كافية للإجابة عنها.

وكلا الموضوعين بيان لحقيقة ورد ذكرها في القرآن الكريم، ولكن حيث لم يحِنْ زمان تطبيقها لم يتمّ بيانها: ﴿يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ، ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وحيث حان وقت بيانها هل يكون هذا البيان باطلاً؛ لأنكم تذهبون في تفسير الخاتمية إلى انتهاء عصر التشريع؟! لقد كان مولانا أمير المؤمنين علي×، الذي تربى في حجر النبي الأكرم|، مطلعاً على الوحي، وكان تبعاً لذلك عالماً بمضامين القرآن الكريم، وما أراده الله تبارك وتعالى بشكل كامل، وهو علم لا يختص بزمن الوحي. وبرحيل النبي الأكرم لا يتوقف مشروع الهداية ونظام التشريع، وإنما يبقى ما بقيت السماء والأرض. فقد تمّ تطبيق مراحل منه في حياة النبي|، وقد تمّ تطبيق مراحل أخرى بعد رحيله. وقد ذكرنا أن هذا التطبيق كان يتمّ تبعاً لمواجهة أفراد المجتمع للمسائل المستحدثة، وبيان الإجابات عن هذه المسائل طبقاً للنظام الجديد، دون حاجة لنزول وحي جديد؛ لكونه مبيّناً في القرآن الكريم. وإنّ الشرط الوحيد لبيانها هو العلم بالمعارف الواردة في هذا الكتاب السماوي، وهو الذي توفَّر في الإمام علي× في حياة النبي|، وأورثه الأئمة^ من بعده.

2ـ إنّ الفرق الوحيد بين رسول الله| والإمام علي× يكمن في كون النبي الأكرم حاملاً وعالماً بالوحي والنظام التشريعي، في حين لا يكون الإمام إلاّ عالماً به. وهو ما يدل عليه كلام رسول الله في خطبته يوم الغدير، عند تنصيب الإمام علي إماماً على الناس، إذ يقول: «ما من علم إلا وقد علمته علياً، وهو الإمام المبين». وعليه فإنّ علوم ومعارف القرآن الكريم، الذي ﴿َنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ، قد حصل عليها الإمام علي× بشكل كامل وغير منقوص.

3ـ هل المراد من كون القرآن الكريم ﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ هو اقتصاره على بيان الأمور والمسائل الخاصة بعصر نزول القرآن الكريم، أم أنه بيان لخلوده وبقائه كتاباً لجميع الأزمنة والعصور؟! وعليه فإنّ تطبيق نظام التشريع وتعليم الأمة لا يتوقف على حياة النبي، أو نزول وحي جديد، بل يكفي العلم بمضمون المعارف القرآنية الواردة في القرآن الكريم، مع العصمة، وهما شرطان متحققان في أهل البيت^. ومن هنا كان تأكيد النبي الأكرم| على وجوب التمسك بالثقلين، المتمثلين بالقرآن وأهل البيت^؛ إذ يقول: «إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب الله؛ وأهل بيتي».

4ـ وأما الإمامة والولاية في مدرسة التشيّع الخاصّة بأهل البيت^ فهي كالرسالة، لا تكون إلا باصطفاء من الله تعالى. قال رسول الله‘ في تعريف الإمامة: «سُمّي الإمام إماماً لأنه قدوة للناس، منصوب من قبل الله تعالى ذكره، مفترض الطاعة على العباد». فالإمام هو شخص منصوب من قبل الله للإمامة، وكونه مفترض الطاعة يقتضي تحلّيه بالعصمة، وإلا لم تكن الإمامة متحقِّقة. وروى الإمام الرضا× في إمامة المولى أمير المؤمنين×: «إنّ الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه، ولا بفعل من الناس فيه اختيار أو تفضيل أو غير ذلك، إنما تكون بفعل من الله عز وجل فيه في علي×، كما قال لإبراهيم×: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً، وكما قال عز وجل لداوود×: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ. فالإمام إنما يكون إماماً من قبل الله باختياره إياه، و«إنّ الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح لسواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم»، و«ليس على الإمام إلا ما حُمِّل من أمر ربّه».

5ـ إنّ لازم تحقق الولاية المطلقة المدّعاة هو العصمة. وهي صفة وخصوصية منحصرة بأهل البيت^. ولا ينبغي تحميل الدين وزر سلوك أهل العرفان ومدعياتهم. قلنا: إنّ الخاتمية تعني ختم وإنهاء جميع التشريعات والأديان السابقة على الإسلام، ونسخها بكتاب سماوي أخير هو القرآن الكريم، دون أن يكون هناك انقطاع للصلة بين الله تعالى وعباده. ففي هذا النظام التشريعي الجديد تستمر هداية كافة الناس من قبل الله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، و﴿يَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى، دون الحاجة إلى وساطة من رسول أو نبي لأخذ هذه الهداية على شكل وحي من السماء: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، و﴿فَالهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وهو إلهام مباشر دون وساطة من نبي أو رسول. إنّ السير على الصراط المستقيم، والتمتع بجميع النعم والآلاء الإلهية؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، رهن بامتثال جميع أحكام نظام التشريع النازل والمدوّن في القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ.

 

5ـ مقولة سروش في الغيبة وتأخير الخاتمية، ردّ ونقد ــــــ

سروش: «إنّ الشيعة من خلال طرحهم نظرية الغيبة عمدوا إلى تأخير الخاتمية لقرنين ونصف، وإلا فإنّ ذات الآثار المترتبة على الغيبة متفرعة عن الخاتمية أيضاً، مع فارق أنّ بالإمكان العثور على تبرير عقلي مقبول لخاتمية الرسول الذاتية، خلافاً للغيبة العرضية والمفاجئة وغير المتوقعة للإمام المنتظر».

1ـ إنّ هذه العبارة تنطوي أيضاً على نفس الفهم الخاطئ لمعنى الخاتمية. إنّ الخاتمية تعني المجيء بآخر نظام تشريعي للبشر، وهو نظام تشريعي تام وكامل، يحتوي على دستور شامل ومناسب للناس، ويجب العمل به إلى قيام يوم الدين. إنّ تطور البشر المتصاعد قد اقتضى عدم تطبيق النظام في مرحلة واحدة، وهي عصر نزول التشريع، أي زمن نزول القرآن الكريم.

2ـ من الذي يستطيع القيام بأعباء تطبيق هذا النظام بشكل كامل مطابقاً للتشريع المنزل؟ إنه شخصية تتوفر على نفس ما توفَّر عليه رسول الله|، من العصمة، والعلم الكامل بمحتوى القرآن الكريم، وهو علم لا يناله إلا من اختاره الله لذلك: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، مع التمتع بالولاية المطلقة على جميع الناس؛ بغية التمكن من تطبيق النظام والدفاع عنه؛ إذ «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن». لو كان تطبيق هذا النظام في عصر رسول الله| ممكناً ألم يكن تأخيره وحرمان البشرية من ذلك النظام الكامل ظلماً للعباد؟! ولو تمّ بيان قانون من قوانين ذلك النظام ـ لم يكن قد تمّ بيانه في عصر رسول الله| ـ من قبل أحد الأئمة من أهل البيت^، مع كونه مبسوط اليد، فذلك لعدم توفر الظروف الملائمة لبيانه؛ فإنّ أهل البيت^ لم يعمدوا أبداً إلى قول شيء من عند أنفسهم. وهذه حقيقة يدلّ عليها قول الإمام الصادق×: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، لكن لا تبلغه عقول الرجال»، وكلامه الصريح الآخر؛ إذ يقول: «إنا لو كنا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله| كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم». هل من الممكن لأولئك الذين وصفتهم بقولك: «لا شك في جلال شأنهم ولا خلاف» أن يعملوا خلافاً لما يقولون؟! وهل تطبيق النظام بشكل كامل، الذي يقتضي هداية الناس نحو الكمال، يعدّ نقضاً للخاتمية أو تتميماً لها؟! وعليه فإنّ الفوائد المترتبة على الغيبة، من بلوغ البشرية، وبالتالي توفر المناخ لتطبيق نظام التشريع بشكل كامل وتام، من جملة آثار الخاتمية ومتمِّماً لها، وليس ناقضاً ومبطلاً لها بتاتاً.

 

6ـ النبوّة والعقل وعلاقة التحرّر!! ــــــ

سروش: «إنّ (تحرير العقل الإنساني) و(إيكال الإنسان إلى نفسه)، الذي اعتبرته من بركات الخاتمية، لا يعني أنّ العقل كان حبيساً في قفص الديانة، كما تصوّرتم ذلك، وأنّ الأنبياء كانوا أعداء التعقل والتفكير، وأنه بانتهاء عهد النبوات يبدأ عرس الحريات. بل معناه أنّ الناس بعد وفاة النبي وخاتم الرسل قد تُرِك لهم فهم كل شيء، وخاصة فهم الدين، ولم تعد هناك من حاجة لأن تمدّ إليهم يدٌ من السماء؛ ليتعكزوا عليها في فهم الدين، ومن الآن فصاعداً لن يقرع أسماعهم نداء من السماء، وتفسير صحيح ونهائي للدين؛ ليعصمهم من سوء الفهم».

1ـ إنّ الإنسان لم ولن يوكل إلى نفسه أبداً، سواء قبل بعثة رسول الله| أم بعدها. وإنّ الذي أوجب مثل هذا الرأي الباطل هو الخطأ في فهم معنى الخاتمية. إنّ الله تعالى لم يقطع سلطته وهيمنته ومالكيته على نظام الوجود حتى يكون الإنسان بدعاً من الكائنات، ويكون قد أوكل إليه أمر نفسه. قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. فالإنسان وإنْ كان مختاراً في القيام بفعل الشيء وضده أو تركه، ولكن ذلك لا يكون إلا بإذن الله تبارك وتعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ. فأنّى لكم القول: «إنّ الناس بعد وفاة النبي وخاتم الرسل قد ترك لهم فهم كل شيء، وخاصة فهم الدين»؟! لقد كان شخص رسول الله| حامل رسالة للناس من قبل الله تعالى؛ لبناء نظام تشريعي جديد، وإبلاغه للناس في عصره مباشرة، ولمن يأتي من بعده بواسطة. فهو مأمور بتوريث هذه التركة للأجيال اللاحقة، والتعريف بمن يستطيع بيانها لهم؛ إذ قال: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تركها غرق»، وهو حديث متفق عليه بين الشيعة والسنة. وهناك الكثير من هذه الأحاديث الشريفة.

2ـ لو تم إيكال الناس إلى أنفسهم في كلّ شيء، وخاصة في أمر الدين، لم يكن هناك مبرِّر لتشريع كلّ هذه الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وأمر الناس بوجوب اتباع التعاليم الواردة في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ، وقال أيضاً: ﴿وأن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. هل كان النبي الأكرم| قادراً على التواجد عند جميع المسلمين في عصره؛ كي يعلمهم مفردات الدين الإسلامي واحدة واحدة؟ حتى تشعروا بعد رحيله بمثل هذه الحاجة: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ. إنّ الهداية إنما تكون من الله سبحانه وتعالى، دون حاجة إلى حضور النبي الأكرم| أو الإمام بجسده: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وإنّ وجود النبي أو الإمام إنما هو لغاية التربية والتعليم. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ. وعليه فإنّ الهداية السماوية لا يمكن لها أن تنقطع، فهي في تواصل مستمر، وإنّ الحصول عليها منوط بإرادة الإنسان، ولو أصيب الإنسان؛ لسبب من الأسباب بعمى القلب: ﴿وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، و﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ، لن يكون هناك أمل لأن تنفذ أنوار الهداية السماوية في قلب هؤلاء الناس، حتى مع وجود النبي الأكرم| أو الإمام المعصوم×: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء.

سروش: «من الآن فصاعداً لن يقرع أسماعهم نداء من السماء، وتفسير صحيح ونهائي للدين؛ ليعصمهم من سوء الفهم… وإن أسلوب التدين منذ الآن فصاعداً، كنهج للحياة، يمر في طريقه إلى التكامل والاستقامة عبر الصدامات والنزاعات، دون التدخل الغيبي من حين لآخر، بل من خلال تنازع وتعاون العقول الأرضية الخيّرة والحرّة في فهمها ونقدها وتفسيرها للدين، والمتحرِّرة من قيود التقليد».

إنّ التدين شيء والإيمان شيء آخر، قال تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ. من المحتمل أن أدين بدين عبادة العجل، أو البقر، أو الوثن، أو الوجود، إلا أنني في هذه الحالة لن أكون مشمولاً للهداية الإلهية؛ لأنني قد جعلت لله شريكاً، وارتكبت ذنباً لا يغتفر، وبذلك ران على قلبي: ﴿طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ. وحيث لا منفذ لأنوار الهداية السماوية إلى قلبي فإنه لن يكون هناك أثر للإيمان الحقيقي والورع والتقوى في مَنْ هو على شاكلتي. ولكنني لو انتميت إلى النظام التشريعي الذي أنزله الله تعالى لهداية الناس أكون قد عرّضت نفسي لسطوع أنوار الهداية السماوية، وبهذا الإيمان سأكون مهتدياً: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ. ونتيجة للهيمنة الإلهية والولاية الربانية، التي لا تشمل إلا المؤمنين بالله تعالى، دون المؤمنين بكلّ ما سواه، لن أبقى أسير الظلمات، ولن تغلق دوني الأبواب: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ. إذاً الهداية على كلّ حال منحصرة بالهداية السماوية النازلة من قبل الله تعالى: ﴿إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَىَ. وإذا توصَّلنا إلى أمر من طريق آخر، وتصورناه هدايةً، فهو من تسويلات الشيطان وإملاءاته على نحو الجزم واليقين: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. وعليه فإن رحيل النبي الأكرم| والخاتمية لا تعني انقطاع الهداية السماوية، بل إنّ المؤمنين بهذا النظام التشريعي الجديد، المتمثل بالإسلام، سيلتحقون بالصالحين، من خلال تزكية أنفسهم، والسعي وراء العمل الصالح، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ.

سروش: «إنّ الشيعة بدأوا ممارسة هذه الحرية على نحو مباشر دون تدخل من السماء منذ بداية عصر غيبة الإمام المهدي».

إنّ كلّ دعوى لا تستند إلى شاهد أو دليل أو سند تعدّ تهمة وافتراء، فما هو السبب الذي يدعو الدكتور سروش إلى اتهام الشيعة والافتراء عليهم بكلّ هذه البساطة؟!

إنّ الشيعة هم أتباع أهل البيت^ والسائرون على نهجهم وتعاليمهم، فهل هناك شاهد لديكم من كلام أهل البيت على هذه الفرية والتهمة؟! رغم أنّ أهل البيت^ قد أكدوا مراراً وتكراراً على عدم الرجوع إلى مصدر آخر غير القرآن الكريم، ومن ذلك قولهم: «من طلب الهدى في غير القرآن أضله الله»، و«لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك». فمن هو الشيعي الذي رفض تدخل السماء المباشر منذ غيبة الإمام المهدي المنتظر#؟ نرجو أن نسمع منكم الإجابة عن هذا السؤال.

سروش: «أدرك جيداً أنّ ختم النبوة عبارة عن مفهوم قيّم وثر، وإنّ الكلام الشيعي لم يطرقه حتى الآن بشكل صحيح ومنصف؛ لما فيه من الألغام والموانع، ولم يوفِّه حقه بالبحث والتحقيق، ولم يدرك حسناته وفضائله، ولم يشهد بها، وفي المقابل تكلَّف وتفلسف في بيان تفسير وتبرير الغيبة، وأخفق في ذلك، وحال دونه ودون تبيين معنى الخاتمية، وكأنه يعتبر الإيمان بالخاتمية سيئة يجب الاستغفار والتكفير عنها».

إنّ معنى الخاتمية هو ما تقدَّم من أنها تعني إرسال رسول من قبل الله تعالى؛ ليحمل للناس آخر الأنظمة التشريعية، ولما كان هذا النظام التشريعي خالداً، ولن يأتي أي نظام تشريعي بعده، يكون إرسال الرسل قد ختم بمَنْ حمل ذلك التشريع. إلا أنّ نفس عنوان الخاتمية لا يعني حرمان الناس من الإفادة من شركاء النبي في موضوع الخاتمية. ألم يكن من الأجدر بصاحب المقال أن لا يكتفي من هذا المفهوم الفاخر الذي أوجده للخاتمية بمجرّد الادعاء، وأن يظهر عنه شيءٌ ليمكن التدبّر فيه؟ ما هو المانع الذي أوجده الشيعة في طريق الانتفاع بالخاتمية؟! لا شكّ في أنّ هذه المسألة لا تختلف عن العشق والتولُّه الذي اخترعه عرفاء الصوفية لأنفسهم، فعبدوا وثناً، وأطلقوا عليه اسم الوجود، بالابتعاد عن الله، أي حفلة طرب يقيمها الشيطان، فيشغل العرفاء بالعشق، وأمثالكم بالخاتمية، قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾، حتى لا تعود تنفع الذكرى: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ.

7ـ الإمامة ونظرية الذاتي والعرضي في الدين ــــــ

سروش: «إنّ ما يشكل جوهر الدين وذاتيّه هو شخص النبي وتعاليمه القيّمة، وأما الباقي فمهما كانت صبغته التاريخية وغير الجوهرية فهو عرضي وسطحي، أي واقعة وحكم كان من الممكن أن يكون على نحو آخر، ولذلك فإنه لا يدخل في نطاق الإيمانيات».

1ـ إنه من النبي الأكرم| نفسه وتعاليمه الأولى تم تأسيس جامعة لتدريس كتاب باسم القرآن الكريم في تلك الحوزة العلمية. وبعد أن فارق رسول الله| الدنيا هل يجب إقفال تلك الحوزة العلمية الإلهية، أو يجب مواصلة التعليم والتعلُّم فيها؟ إنّ ولاية رسول الله| تحكي عن علمه الكامل بهذا الكتاب التعليمي النازل، ومنهجه في تعليم الأمّة وتزكيتها. هل حصل الناس على كلّ ما يحتاجون إليه من المعلِّم والكتاب في حياة النبي الأكرم|؟ وهل تخرّج الجميع واستوعبوا كلّ ما جاء في هذا الكتاب من العلوم والمعارف السماوية: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، و﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ، وهل تمكنوا من أن يتولوا أمر تعليمه للآخرين؟ إنّ وجوب وجود معلِّم لهذا الكتاب السماوي الذي كان ﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ أمر لا يمكن إنكاره، وعليه لا يمكن للناس أن يستغنوا عن وجود معلِّم للقرآن الكريم. وهذا ما أشار إليه القرآن نفسه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وكفى هذا الموضوع أهمية أن يعدّ عدم تبليغه مساوقاً لعدم النبوّة، وعدم رسالة شخص بحجم النبي الأكرم|. فإذا كنت تشّك أحياناً في صدور آية شريفة بشأن الإمام علي× فما عليك إلا أن تراجع كتاب الغدير؛ لتقف على حقيقة الواقعة من لسان أهل السنة.

2ـ إنّ بداية الرسالة، التي تعني افتتاح مؤسسة علمية وجامعة إلهية لتعليم الإنسانية، ليست بمعنى اختزالها في شخص النبي الأكرم|، حتى يلزم من رحيل النبي إغلاق تلك المؤسسة العلمية الإلهية بوجه العالم. كلا، فقد تم الإعلان عن بقاء باب هذه المؤسسة العلمية الإلهية مفتوحاً إلى يوم الدين، من خلال التعريف بأسماء المعلِّمين المخوَّلين بالتدريس في هذه المدرسة بعددهم وأسمائهم حصرياً؛ إذ يقول النبي الأكرم|: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً». ويجب الوقوف طويلاً عند كلمة (أبداً) الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف.

سروش: «إنّ النزاع الذي يدور حول الغيبة، التي ـ بحسب رأي الشيعة ـ لم يكن بالإمكان أن تحدث في ظروف تاريخية أخرى، وإمام كان يمكنه أن لا يغيب، ويبقى ليرحل عندما يحين أجله الطبيعي، ويأتي بعده إمام آخر، ليس له أدنى تأثير على التدين، ولا يزيد أو ينقص من إيمان الشخص، ولا يتوقف عليه إسلام الشخص وعدمه».

1ـ لابدّ أولاً من التعرف على معنى التدين، ومن ثمّ يتمّ البحث عن أسباب ظهوره وزواله وضعفه وقوته. إنّ التدين يعني معرفة الإله، أيّاً كان ذلك الإله الذي قد يتصوّره الإنسان، عجلاً أو بقرة أو صنماً أو وجوداً وما إلى ذلك، أو (الله) المبيَّن في القرآن الكريم بهذا اللفظ الجليل. لقد كان إرسال الرسل، وإنزال الكتب، في سياق التعريف بالإله الحقيقي، من خلال تزكية الإنسانية وتعليمها. إنّ البحث عن الإله غريزة مودعة في جبلة الإنسان، فإذا لم تشبع هذه الغريزة بتعاليم الأنبياء عمد الإنسان إلى صنع إلهه بيده، طبقاً للثقافة التي ترعرع فيها. وعليه فإنّ إشراف المعلمين الإلهيين، وولايتهم المستمرة على الناس، وتربيتهم على ضرورة ووجوب اتباعهم لتعاليمهم، والتمسُّك بها، أمرٌ قطعيٌّ لا يقبل المراء والجدل، وإلا انتكست الأمم، وارتدّت عن عبادة الإله الحقيقي، ووقعت في حضيض عبادة الأوثان والشرك بالله عز وجل.

2ـ كيف يمكن الحفاظ على الارتباط بين النبي والأمة، والإشراف على عقيدة الناس، وضمان عدم نكوص الناس بعد رحيل النبي| على أعقابهم، والعودة إلى معتقدات أسلافهم: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ إنما يكون ذلك من خلال وجود معلمين لهذا القرآن الكريم، يتمّ اختيارهم من قبل الله تعالى، والتعريف بهم بواسطة النبي الأكرم، بوصفه آخر المرسلين من قبل الله وخاتم الأنبياء، ومواصلة التزكية، ومنها: تربية الأمة على وجوب التمسك بهؤلاء المعلمين المنتخبين، وتعلم واستيعاب القرآن الكريم من طريقهم، لكونهم المصدر الوحيد الذي يمكن الوثوق به لضمان عدم الانحراف والميل والزلل.

3ـ ماذا يعني النزاع بشأن الغيبة؟ النزاع بين مَنْ؟ ومع مَنْ؟ فإنّ الغيبة مسألة متَّفق ومُجمع عليها، وقد اعترف بها الكثير من علماء أهل السنة. ألم يكن بالإمكان تطبيق النظام التشريعي الذي جاء به النبي الأكرم| بوصفه ختام الأنظمة التشريعية دون الحاجة إلى هذا التأخير؟! إنّ اختلاف مستويات البشر في مختلف المراحل والعصور وتدرّج الإنسان في حياته، وارتقائه من مرحلة إلى مرحلة أعلى، وتفوّقه على أسلافه في هذا الشأن أمر ملحوظ وظاهر لا يخفى على العيان. إنّ اجتياز المراحل واستيعاب الدروس فيها؛ بغية التمكن من فهم الدروس والمناهج المقررة في المستويات العليا، أمر لا يمكن اجتنابه. وهذا هو السبب في تأخير وصول الإنسان إلى الحضارة التي ينعم بها حالياً، ومنها: غزوه للفضاء.

4ـ هل كان بإمكان النبي الأكرم| أن يرتقي بمستوى عرب الجاهلية في عصره إلى مستوى الإنسان المتحضر الراهن؟! وهل كان المستوى الفكري للإنسان العربي في بداية الرسالة هو نفس مستواه الفكري عند رحيل رسول الله|؟! وهل كان بالإمكان بيان الآيات التي نزلت في أواخر الحقبة المدنية في بداية الحقبة المكية مثلاً؟!

5ـ وهل كان بالإمكان بيان مداليل آيات من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، و﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، و﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، في عصر نزولها؟! وهل هناك من اعتراض على تأخير بيانها إلى العصر الراهن؟ إنّ الإنسان في عصر نزول هذه الآيات لم يكن ليفهم معنى هذه الآيات إلا بعد مسيرة تعليمية تمتد لأكثر من ألف سنة. وما أكثر آيات القرآن الكريم التي تنطوي على الكثير من أسرار هذا الكون: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ. وهي أسرار لا تخطر ببال حتى الإنسان المعاصر، ولازم ذلك بيانها من قبل شخص يتمتع بنفس خصائص وصفات النبي الأكرم| من العلم، والعصمة، وارتقاء الإنسان إلى المستوى المناسب الذي يساعده على فهم هذه الأمور، وما إلى ذلك.

إنّ مفاد قوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً كمال بالقوة، وإن بلوغ هذا الكمال مرحلة الفعلية رهن بتطبيق هذا النظام تطبيقاً كاملاً. وإنّ لازم ختم هذا النظام لجميع الأنظمة التشريعية، ولازم قوله تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، كونه تاماً وكاملاً، بحيث مهما بلغ الإنسان في تقدّمه وتطوره وحضارته كان ذلك النظام التشريعي كافياً لإدارة المجتمع، بشرط تطبيقه بشكل كامل وغير منقوص.

6ـ من أين تأتي المطالب المنسوبة إلى عقائد الشيعة؟ وهل هي عقائد مقتبسة من مدرسة أهل البيت^؟ فلماذا لم تأتوا بمثال واحد من ذلك المصدر؛ ليشهد على صدق مقالكم؟!! إنّ هذا الكلام من قبيل: أن يقال: إنّ الله تعالى كان يمكنه أن يسكن جميع الخلق في عالم ما بعد هذا العالم، دون أن يخلق هذا الكون. وعليه فإنّ عالم الخلق الذي كان يمكن أن لا يكون، ولا يخوض الإنسان فيه تجربة الموت والحياة، لا يمكن له أن يكون شاهداً على فلاح أو عدم فلاح شخص في عالم الآخرة. أجل، إنّ بإمكان الله عز وجل أن يفعل ما يشاء: ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ولكن لكي ندرك سرّ أفعال الله الربوبية علينا التربع على عرش الإله. وربما كان السبب في ذلك يعود إلى استحالة سكنى الإنسان في عالم الآخرة دون خوض التجربة في هذه الحياة الدنيا. وقد ثبت في الدين الإسلامي ومذهب أهل البيت^ أنه كما لا يكون لنا طريق إلى التعرف على ذات الله تعالى كذلك ليس لنا طريق إلى معرفة أفعاله: «ولم تجعل للخلق طريقاً إلى معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك». ولكن بالنسبة إلى فئة اسمها العرفاء و(الصوفية)، التي ورثت تركة الثقافة الإيرانية القديمة، حيث يمكن الوصول إلى درجة الألوهية، حيث يقولون: «صحّ له التأله»، يمكن الوصول إلى هذا النوع من المعارف من خلال الفناء في ذات الله. إنّ وجود كل واحد من أئمة أهل البيت^ في مذهب التشيّع هو بمنزلة وجود رسول الله| في حياته: «الأئمة بمنزلة رسول الله|، إلا أنهم ليسوا بأنبياء».

2ـ بما أنّ الإمامة تعني إتمام الدين وإكمال النعمة ونظام التشريع؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، فهي من ذاتيات الدين، وليست من أعراضه وتوابعه التاريخية. إنّ رحيل رسول الله| إذا فسّر بمعنى انقطاع كلّ شيء أحاطت بنا الظلمات من كلّ الجهات؛ إذ إنّ الشخص الذي رُبط تفسير وبيان الآيات القرآنية بوجوده لم يعد موجوداً. وإنّ نسبة ما بيّنه النبي الأكرم| مما يحتويه القرآن، وفقاً لما يحتاجه عرب الجاهلية، لم يكن إلا كنسبة القطرة إلى المحيط. ولكن الشيعة، وعلى أساس من الأحاديث والروايات الكثيرة المتَّفق عليها بينهم وبين أهل السنة، ومن بينها حديث المنزلة القائل: «يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، يذهبون إلى أنّ النبي الأكرم| قد ترك بيان علوم الوحي من بعده إلى الإمام علي بن أبي طالب×؛ إذ قال له: «يا علي، أنت الذي تبيّن لأمتي ما يختلفون فيه من بعدي، وتقوم فيه مقامي، قولك قولي، وأمرك أمري، وطاعتك طاعتي، وطاعتي طاعة الله». وعليه فإنّ الشيعة لم يفتقروا إلى كلّ شيء بعد رحيل رسول الله|، بل واصلوا؛ بإذعانهم لأمر رسول الله بولاية الإمام علي× وأولاده^، مسيرة النبي الأكرم| في تزكية وتعليم أنفسهم بهدي أهل البيت^.

3ـ إنّ نفس الاعتقاد بوجود ولي وإمام مشرف على جميع الأمور، كما كان رسول الله| في حياته، عنصر مهم في الإبقاء على حيوية العلوم والمعارف الإسلامية المبيّنة في مدرسة أهل البيت^، وعامل ردع من انقلاب الأمة على أعقابها، وعبادة أشياء من قبيل: عجل السامري، وما إلى ذلك. مع فارق أنّ الولاية الخاصة بأهل البيت لم يكن بالإمكان فصلها عنهم في صدر الإسلام؛ إذ لم يكن هناك من يطمع في نيلها، وأما حالياً فإنّ فصلها عنهم بفعل التقدم الفكري يبدو أيسر من السابق. وبهذه الرؤية تغدو ولاية الولي وإشرافه على جميع الأمور وكافة الناس وسلوكياتهم أمراً محقَّقاً.

 

8ـ صفات الأئمة ــــــ

سروش: «يجرّنا الكلام إلى تساؤل عن سمة وصفة حماة علم النبي والمستحفظين على الشريعة، وهو ما أعطيتموه لأئمة الشيعة، واعتبرتم الإمامة لذلك واجبة، واعتبرتم الإمام الغائب هو المستحفظ المعاصر، ولذلك ذهبتم إلى حجية حضوره الغائب. لا شك ولا كلام في عظم شأن هؤلاء العظماء».

1ـ إنهم لا يتدخلون أبداً في أمر التشريع، الذي يرونه من مختصات الله عز وجل؛ لأنّ هذا التدخل هو شرك صريح، وذنب لا يغتفر، وإذا رأوا لأئمتهم المعصومين مقاماً ومنزلة فهي منزلة ممنوحة لهم وثابتة من قبل الله تعالى، وأمر نبيه| بإبلاغها إلى الناس.

2ـ إنّ الحدّ الأدنى من الآثار الثابتة للقول بعدم الشك في عظم شأنهم وجلالة قدرهم، كما تقولون، هو بعدهم عن القول بما يخالف الحقيقة والواقع. ولذلك فإننا في بيان هذا المقام نكتفي بما جاء عن الإمام الرضا×: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه| حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه كملاً، فقال عز وجل: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ، وأنزل في حجّة الوداع، وفي آخر عمره|: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً، وأمر الإمامة في تمام الدين، ولم يمضِ| حتى بيّن لأمّته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد الحقّ، وأقام لهم علياً× علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلا بيّنه. فمن زعم أنّ الله عز وجل لم يُكمل دينه فقد ردّ كتاب الله عز وجل، ومن ردّ كتاب الله تعالى فهو كافر. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم؟! إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم. إنّ الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل× بعد النبوّة، والخلة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال عز وجل: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً، فقال الخليل× سروراً بها: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي؟ فقال الله عز وجلّ: ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثمّ أكرمه الله عز وجل بأن جعل ذريّته أهل الصفوة والطهارة، فقال عز وجل: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ، فلم يزل في ذريته يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتى ورثها النبي|، فقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ﴾، فكانت له خاصة، فقلدها| علياً بأمر الله عز وجل على رسم ما فرضها الله عز وجل، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ، فهي في ولد علي× خاصّة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد|، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟».

3ـ وقال الإمام الرضا× في بيان إمامة المولى أمير المؤمنين×: «إنّ الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه، ولا بفعل من الناس فيه، اختيار أو تفضيل أو غير ذلك، إنما يكون بفعل من الله عز وجل فيه، كما قال لإبراهيم×: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً، وكما قال عز وجل لداوود×: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ. فالإمام إنما يكون إماماً من قبل الله تعالى باختياره إياه». وما إلى ذلك من الأحاديث الكثيرة المروية عن الأئمة المعصومين^ الذين قلت عنهم: «إنه لا شك ولا كلام في عظم شأنهم». وكلما سُئل الأئمة عن المراد من (القربى) في قوله تعالى: ﴿قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى كان جوابهم: هم الأئمة المعصومون. ويمكن الوقوف على هذا النوع من الروايات المتواترة بالرجوع إلى كتاب «بحار الأنوار»، باب (كتاب الإمامة)، وباب (الآل والعترة)، التي نكتفي منها بالمروي عن الإمام محمد الباقر× في قوله تعالى: ﴿قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى، قال: هم الأئمة.

4ـ وما أكثر الروايات الواردة بشأن أهل البيت^ في هذا الخصوص. أعود وأكرر القول: إنّ الحد الأدنى من الخصوصية التي ادعيتموها لأهل البيت^ من عظم الشأن هو أن لا يصدر منهم من الكلام ما يخالف الحقيقة والواقع. وعليه فإن أهل البيت الواجدين لعلم الكتاب، الذي قال الله عنه: ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾، بإمكانهم تطبيق النظام التشريعي وفقاً لهذا العلم وتقدم الإنسان في مختلف أدواره، وهذا هو معنى الإمامة: «إنه ليس على الإمام إلا ما حمّل من ربّه»، وعليه فإنّ الشيعة لم ينتخبوا إماماً وحافظاً للدين، وإماماً غائباً لأنفسهم؛ لأنّ هذا النوع من الأمور من اختصاص المؤسِّس لنظام التشريع، والتدخل فيه من الشرك المحض. فإذا كان هناك من يشك في أوامر الله وانطباقها على أهل البيت^، وصدق كلامهم، وقد ذكرت أنه «لا شك ولا كلام في عظم شأن هؤلاء العظماء»، فعليه أن يشك أولاً في عظم شأنهم، ومن ثمّ يعيد النظر في وجوب أو عدم وجوب طاعة أمر الله تبارك وتعالى، حيث يقول: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، و﴿قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى، و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، و﴿وَاتُواْ البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا.

 

9ـ ماذا قدّم الأئمة للشيعة؟! ـــــــ

سروش: «إلا أنّ النظرة الباحثة والفاحصة تحتاج إلى سابق تجربة صادقة، وعليه لابد أن تبينوا لنا ما هو الشيء الذي احتفظ به هؤلاء الحفظة، وخصّوا به الشيعة، من أمور يفتقر إليها سائر المسلمين؟!».

1ـ إنّ طرح هذا السؤال يثبت أنّ النظرة الفاحصة تشك في جدّ النبي وجهده في منح المسلمين ما حُرم منه سائر الأمم!

من المستحيل أن يقع في الكون ما يخالف النظام التكويني؛ إذ في حصوله ووقوعه الفساد والفناء. وأما بالنسبة للنظام التشريعي فإنّ الإنسان مختار في فعل أو ترك ما ينطبق على هذا النظام، وليس هناك إكراه وإجبار، كما هو الحال بالنسبة إلى النظام التكويني. قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، رغم أنّ التمرد على قوانين هذا النظام يؤدي إلى الفساد والهلاك التدريجي للإنسان. وهذه حقيقة تشهد لها القوانين الوضعية في العالم المعاصر والمتحضر، فكلما كان أفراد المجتمع أكثر احتراماً للقانون كان ذلك المجتمع أكثر تطوراً وتقدماً من المجتمعات الأخرى.

2ـ إنّ الانتفاع بالإسلام رهن بالتزكية والإيمان الحاصل إثر التربية والتعليم. ولا أثر لأي واحدٍ من هذين الأمرين في أي مجتمع من المجتمعات الإسلامية الراهنة. إنّ حصول الإيمان إنما يكون إثر التعرّف على المعطيات الإسلامية، ولا يكون الإيمان مثمراً إلا إذا اقترن بالعمل الصالح. فهل يمكن العثور على فئة يتوفر فيها هذان الشرطان المتلازمان في واحد من المجتمعات الإسلامية الراهنة؟! قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَليماً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً. من أيٍّ من هاتين الفئتين تتكوّن المجتمعات الإسلامية: 1ـ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾؛ و2ـ ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ؟ وهل يمكن العثور على أثر من الفئة الأولى في المجتمعات الإسلامية؟! لا يمكن لمثلكم أن يشك في اعتبار آيات القرآن الكريم نوراً، قال تعالى: ﴿جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، ولكن هل يمكن لجميع الناس أن يستضيئوا بهذا النور على حدّ سواء؟ وهل يؤثر هذا النور في كافة الناس على وتيرة واحدة؟ إنّ شرط الانتفاع بالإسلام هو الإيمان، على أساس استيعاب علومه ومعارفه، والعمل طبق قوانين النظام التشريعي.

ما هو سبب التخلف في العلوم التجريبية المعاصرة؟ إنه القصور في تعلم واستيعاب العلوم ذات الصلة بهذا الفرع العلمي.

ما هو سبب عدم انتفاع المسلمين بنعمة الإسلام؟ إنه عدم تعلم واستيعاب مفردات الوحي الإسلامي، وعدم أخذها من مظانها ومصادرها الموثوقة.

3ـ وهذه الحقيقة أكثر صدقاً على الشيعة من غيرهم؛ وذلك لعدم اختتام كلّ شيء عندهم برحيل خاتم الأنبياء، وإنما كان من المفترض أن يتواصل المشروع الإسلامي في الهداية من خلال التمسك بالقرآن الكريم وأهل البيت^، رغم أنّ السياسة منذ الصدر الأول للإسلام قد حولت حكومة القرآن إلى ملك وسلطان، كما عبّر الإمام أمير المؤمنين× عن هذه المرحلة، قائلاً: «فلما مضى× تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده| عن أهل بيته، ولا أنهم منعوه عني من بعده!». ومع ذلك لم يقصّر أهل البيت^ في أداء مسؤولياتهم في مواصلة تبليغ الرسالة، وتزكية الأمة، وتعليمها بمقدار ما تسمح لهم الظروف القاهرة بذلك. وقد كانت الحياة القاسية والمفعمة بالعناء، التي عانى منها أئمة أهل البيت، إلى حدّ سجنهم ومطاردتهم واستشهادهم، من تبعات تحمُّلهم لهذه المسؤولية. لو أنّ الشيعة وعلماء الشيعة قد تمسكوا بأهل البيت، واستلهموا منهم تعاليم الوحي، لكان هناك موقع للتدقيق والتساؤل: «ما هو الشيء الذي احتفظ به هؤلاء الحفظة، وخصّوا به الشيعة، من أمور يفتقر إليها سائر المسلمين؟!»، ولكن مع عدم التمسك بأهل البيت^، واللجوء إلى ثقافة الأجانب وحضارة الغرب، هل يبقى هناك موقع لطرح مثل هذا التساؤل؟! لو تم التأسيس لحوزة علمية أو جامعة، واستمرت جهودها التعليمية لسنوات، وشوهد فيها نشاط ملحوظ في توظيف أفضل الأساتذة، وتعلم فيها أذكى الطلاب وأكثرهم نشاطاً في الانكباب على التعليم، عندها يمكن التساؤل عن نسبة نجاح هذه المؤسسة التعليمية، والحديث عن معطياتها ومكتسباتها، وأما من دون ذلك فلا يمكن لنا أن نسأل عن النتائج والمكتسبات. وهكذا هو الحكم بالنسبة للإسلام والتشيع.

4ـ يجب علينا قبل كل شيء أن نتعرف على التشيّع، بمعنى مذهب أهل البيت^، والشروط اللازمة لكون الإنسان شيعياً أو غير شيعي، وأسباب الدخول في التشيع أو الخروج منه، ومن ثمّ يمكن لنا أن نجري مقارنة بين هاتين المدرستين. قال أئمة الشيعة المعصومون^ في وصف الشيعة: «شيعتنا المسلّمون لأمرنا، الآخذون بقولنا، المخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منا». وعليه إذا فقد شخص واحداً من هذه الصفات كان خارجاً عن دائرة التشيّع. إذاً فإن العلوم والمعارف الإسلامية المبيّنة في مدرسة أهل البيت^ إنما يمكن تطبيقها على مَنْ توفرت فيه هذه الشروط والمواصفات بأجمعها.

5ـ إنما يمكن اعتبار تفسير وبيان آيات القرآن الكريم تفسيراً إذا كان مستنداً إلى روايات وأقوال وتعاليم أهل البيت^، فقد جاء عنهم أنهم قالوا: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن». وعليه فإن تفاسير علماء السنة والشيعة إذا لم تكن مقتبسة من تعاليم أهل البيت^ فإنها لن تبعد عن التفسير بالرأي، ومن كان كذلك فهو كافر؛ بحكم قول الإمام×: «من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر».

إنّ وصفك للعرفاء والمتكلمين بأنهم من القائمين على صيانة الدين في قولك: «إذا كان أكبر المفسرين والعرفاء والمتكلمين والمدافعين عن الدين» حاكٍ عن عدم الفهم الصحيح للدين الإسلامي المبيّن من قبل أهل البيت^؛ لأن منهج العرفاء على وجه الخصوص في تناقض تامّ مع الإسلام. وعليه فإنّ حكم العرفاء، الذين تبجّحتم بهم في ما يتعلق بالإسلام، هو حكم عبدة البقر والشمس والقمر وما إلى ذلك. وإنّ العرفان هو تلك الثقافة الإيرانية البائدة التي ليس لها أية علاقة بالإسلام.

6ـ وأما أهل الكلام فهم جماعة طالما حذر أئمة أهل البيت^ أتباعهم من مجالستهم: «إياك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالسهم؛ فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه، وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه، حتى تكلفوا علم السماء.. فإنّ الكلام والخصومات تفسد النية، وتمحق الدين». إذاً فالعرفاء والمتكلِّمون يعملون في الدفاع عن دينهم، وليس لهم أية علاقة بالإسلام، مهما بالغوا في ادعاء الإسلام. فالمعوَّل على الطاعة والعبودية. وقد تكون العبودية للبقر والعجل والشمس والقمر والوجود وما إلى ذلك.

7ـ إنّ الإسلام يرى أنّ أساس الدين هو معرفة المعبود. قال الإمام علي×: «أول الدين معرفته». وإنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب إنما كان لغاية هداية الإنسان إلى معبوده الحقيقي. فهل تم الحديث عن ماهية المعبود الذي عرفه الإسلام؟ وهل أذن للمسلمين بالتفكير والتحدث عن الذات؟! وعليه فإنّ ما توصل إليه العرفاء باسم المعبود، أي الوجود، إنما هو اختيار أسلافهم، دون مراعاة شرط واجب الاتباع، فكان الذي توصلوا إليه من دون دليل، ولم ينزل به سلطان. وعليه فإنّ معبودهم هو غير المعبود الذي دعت إليه التعاليم الإسلامية. إنّ عدم التمسك بأهل البيت^ أخرج عرفاء الشيعة بالاسم عن ربقة الإسلام والتشيع. وإنّ الخضوع لمحيي الدين إنما يعود سببه إلى انتماء العرفاء إلى تقاليد ما قبل الإسلام. إذاً يجب عدم تحميل الإسلام أخطاء وسلوكيات هؤلاء المنحرفة، واعتبارها معياراً ومقياساً للحكم على إنجازات مدرسة التشيّع.

سروش: «إذا كان تفسير الأئمة للشريعة وشرحها وبيانها وحفظها وصيانتها يعود إلى ظاهر الشريعة فهذا ليس له كبير وزن في ميزان التاريخ والتجربة، وأما إذا كان يعود إلى الولاية الباطنية فهو شيء آخر، لا يمكن تفسيره إلا في ضوء (بسط التجربة النبوية)، فيمكن لكل فرد من أفراد الإنسانية، والسالكين في طريق القرب الإلهي، طبقاً لسعته وظرفيته، أن يغترف من ورده، وينهل من معينه».

1ـ إذا كان الملاك والميزان هو التاريخ والتجربة فإنّ كفة الشرك كانت على الدوام أرجح من عبادة الله والتوحيد، قال تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ، و﴿قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، و﴿إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ. وإذا كان هناك نزر من الموحدين فإنّ إيمان أكثرهم مشوب بالشرك، قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ.

وإنّ هذا النزر القليل، الذي بلغ مرتبة الفلاح، هم الذين أسلموا قيادهم لله تعالى، ونالوا معرفة نسبية بأنفسهم وخالقهم، من خلال تعلم معارف الوحي من المصادر الموثوقة.

2ـ إذا كانت هذه الفئة قليلة فهل يعود السبب في ذلك إلى قصور في مشروع الأديان في التزكية والتعليم أو أن السبب في ذلك هو تنكر الإنسان للتعليم والتزكية والعمل على طبق القوانين الإلهية؟! ما هو نصيب السالكين من القرب؟ هل هو القرب من عجل السامري، أو الأصنام، أو هو الله سبحانه وتعالى؟ إنّ العارف الذي يجهل نشاط جسده ووظائفه الحيوية، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه سلطان النوم، وأذى البعوض والذباب، ولا يمكن له أن يعدّ مدّة عمره شيئاً بالقياس إلى عمر الكون، يسوقه الغرور إلى الضلال، فينصِّب نفسه والآخرين إلهاً من دون الله، ويُبيح للجميع أن يرفعوا شعار «صحّ له التألُّه»، ويتصوّر أنّ العالم والعالمين ليس سوى وهم وخيال، وهذا هو تراث الحضارة الإيرانية القديمة، التي ليس لها أدنى صلة بتعاليم الوحي السماوي. إنّ إزاحة جميع الأديان والمذاهب بمجرفة الإنكار لدليل على إسقاط الشعور الباطني بالمملوكية والعبودية، وربما إحساس الإنسان بكونه هو الله. إنّ اعتبار التاريخ معياراً في صحة العقائد وسقمها يحكي عن حالة التنكر والهروب من حقيقة العبودية والمملوكية.

 

10ـ هل يمكن التحصيص في الحضارة الإسلامية؟ ــــــ

سروش: «إذا كانت الحضارة حضارة إسلامية فعندها ستكون هذه الحضارة بأجمعها تجسيداً للإسلام، وإنّ الإسلام هو الذي منحها اسمها، ونفخ فيها روحها. ولا يمكن اللجوء إلى المحاصصة في هذا المجال، فنعدّ محاسن تلك الحضارة من الإسلام، ونذهب في الوقت نفسه إلى اعتبار مساوئها نتاج مؤامرة قام بها أعداء الإسلام».

1ـ هل عثرتم على أمّةٍ متحضِّرة بالحضارة الإسلامية القائمة على أسس علوم الوحي؟! إنّ الدعاوى كثيرة. هل حصلتم على معرفة بموارد هذه الدعاوى؟ وهل تعرفتم على مدى انطباق تلك الدعاوى أو عدم انطباقها على مورد الادعاء، كي تتمكنوا من الحكم عليها بالصحة والسقم؟! إنّ التاريخ هو الحكم عندكم. هل كانت حكومات بني أمية وبني العباس قائمة على أساس علوم الوحي والنظام الإسلامي؟! وطبعاً إنّ الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تتوقف على معرفة علوم الوحي وحقيقة النظام الإسلامي، وسلوكية بني أمية وبني العباس. وقد كان من المناسب جداً أن تذكروا أيضاً بعض العبارات التي تصرح بمرادكم من (بسط التجربة النبوية).

لقد رميتم بكرة الحكم في شأن التاريخ إلى ساحة الناس، الذين لا علم لهم بمعطيات وحي الإسلام، ولا يبدو عليهم أثر من العمل على طبق مشروع النظام التشريعي.

2ـ في ما يتعلق ببيان موارد من نظام التشريع نجد أنّ الله تعالى يحذرنا من التعدي على هذا النظام التشريعي؛ إذ يقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا، و﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا، و﴿مَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، و﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. فمع عدم مراعاة حدود نظام التشريع، الذي يؤدي إلى ظلم تعود آثاره وتبعاته السيئة على الفرد والمجتمع، هل يُعزى ذلك إلى نظام التشريع، ويحكم عليه بعدم الكفاءة، أو إلى الإنسان والمجتمع نفسه الذي: 1ـ لم يَسْعَ إلى التعرف على حدود النظام التشريعي، فلم يتمكن من مراعاة ذلك النظام؛ أو الذي لم يراعِه حتى بعد معرفته بشكل نسبيّ؟! لقد عرّف الإسلام المعرفة بوصفها أهمّ سرّ في بلوغ الحقائق. قال الإمام علي×: «يا كميل، ما من حركة إلا وأنت تحتاج فيها إلى المعرفة». فهل تأخر الوصول إلى حقيقة قوانين نظام التكوين؟ وبالتالي هل يعود عدم التمكن من غزو الأجرام السماوية إلى عدم كمال نظام التكوين، أو إلى تأخر الإنسان في التعرّف على حقائق التكوين؟!

3ـ إنّ علوم الوحي في الإسلام قد أخبرت الأمة الإسلامية بحقيقة إمكان بلوغ الأجرام السماوية، في الوقت الذي لم يكن هذا الأمر ليخطر بالبال؛ إذ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. فلو أنّ الأمة الإسلامية سعت إلى الوصول هذه الحقائق لكُتب لهم الوصول إلى غزو الفضاء والتعرف على حقائق التكوين قبل غيرهم. فهل كانت التعاليم الإسلامية التي نزل بها وحي السماء هي السبب في تخلف الأمة الإسلامية عن سائر الأمم في بلوغ حقائق التكوين، وتخلفهم عن الاستفادة من أسرار نظام الخلق، أو أن السبب في ذلك يعود إلى أعمال المسلمين، وعدم أخذهم هذه الحقائق بجدية، وانشغالهم بثقافات ما قبل الإسلام؟! هل ينبغي ترك الحكم في مثل هذه الأمور إلى التاريخ أو يجب أولاً أن نتعرّف إلى علوم الإسلام التي جاء بها الوحي، ومن ثمّ دراسة سلوكية وممارسة الأمة الإسلامية، ومدى انسجامها مع تعاليم الإسلام؟ يجب علينا؛ للتعرف على الحضارة الإسلامية، أن نعمد أولاً إلى التعرُّف على تعاليم الإسلام من مصادرها الموثوقة، ودراستها وتحليلها بدقّة، ومن ثمّ علينا النظر في سلوكيات الشعوب المسلمة؛ للتأكد من مطابقتها أو عدم مطابقتها وانسجامها مع تعاليم الإسلام ووحي السماء.

4ـ إنّ الاقتصار على تحكيم التاريخ في مثل هذه الأمور يحكي في واقعه عن التهرّب من الحقائق، واعتبار تعريف الناس بالمجهول على أنه من الأمور السلبية. وفي ما يتعلق بعنوان الولاية، الذي أتعبكم وآلمكم كثيراً، لو أنكم التزمتم بشرط المعرفة لبلوغ الحقائق لأدركتم أنه أمر عرفاني لا ربط له بالإسلام؛ إذ لا وجود لهذا النوع من الولاية دون شرط العصمة. وإنّ ما يثبته التاريخ والعلم من عدم انصياع الناس للأديان السماوية، وعدم تطبيق الأنظمة التشريعية بين الأمم، هو سعي تلك الأمم للحفاظ على موروثها الثقافي وتقاليد الأسلاف. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً. وإنّ تأثير هذا العامل كان من القوّة بحيث كان يستمر حتى بعد التظاهر بالدخول في الدين السماوي؛ إذ يتم إظهار سنن الأولين وتراث الأسلاف على أنه من جملة ما دعا إليه ذلك الدين السماوي، كما هو الحال بالنسبة إلى موضوع العرفان (التصوّف) في الأمة الإسلامية.

ونكتفي بهذا المقدار في ما يتعلَّق بمسألة الخاتمية، وأما المسائل الأخرى فنترك الإجابة عنها إلى فرصة أخرى.

(*) كاتب في علوم العقيدة الإسلامية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً