أحدث المقالات

عند الشيخ معرفت

د. محمود مرويان(*)

ترجمة: حسن الهاشمي

مقدّمة

لقد كان تفسير القرآن الكريم توأم القرآن منذ ولادته، والغاية منه بيان المراد الإلهي من خلال نزول الآيات القرآنية. وإن المفسِّر الأول للقرآن الكريم هو الله سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 19).

ومن بين البشر كان النبيّ الأكرم‘ هو أوّل مَنْ اطّلع على الفهم الحقيقي لتعاليم الوحي، وكما أمر بتبليغ هذه التعاليم إلى الناس، فقد أمر أيضاً ببيانها لهم، وفي ذلك قال الله جلَّ جلاله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44).

وبعده تكفّل الأئمة المعصومون بالقيام بأعباء هذه المهمة والرسالة المقدّسة.

لقد كان علم التفسير في بدايته قد ظهر بين المسلمين على شكل روايات متفرّقة حول شأن النزول، أو معاني المفردات، وشيء قليل بشأن مفاد الآيات، لينتقل عبر الأفواه والصدور، حتّى وصل الدَّوْر إلى بعض المؤلِّفين، ليؤلِّفوا كتباً تحت عنوان «غريب القرآن» في شرح بعض الألفاظ المشكلة في القرآن الكريم، وقام بعضٌ بجمع الروايات التي تتحدّث عن شأن النزول.

وقد استمرّ الوضع على هذه الحالة إلى نهاية القرن الهجري الثالث.

ومنذ القرن الهجري الرابع بدأت التفاسير تأخذ طريقها إلى التكامل.

وكان من أبرزها تفسير «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، تأليف: أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، حيث استوعب هذا التفسير جميع آيات القرآن الكريم.

إن هذه التفاسير كانت تتناول الآيات القرآنية آية آية على ترتيب سور المصحف الراهن، وتتعرَّض في الأثناء إلى مختلف المسائل الأدبية والمضمونية المتنوّعة ممّا تناولته الآية الكريمة. وهكذا ظهر التفسير الترتيبي.

إن المفسِّر ينساق في التفسير الترتيبي مع تسلسل الآيات والسور، ويعمل على تفسير مختلف أجزاء القرآن بالأدوات والطرق التي يراها ناجعةً في إظهار مضمون الآية، وكذلك من خلال الاستعانة بالروايات، والأخذ بنظر الاعتبار سائر الآيات الأخرى التي تشترك مع الآية مورد البحث من حيث المنطوق أو المفهوم.

إن الغاية في التفسير الترتيبي هي بيان المراد من الآية، من خلال الالتفات إلى سياق الآية وحدودها.

وإن فائدة هذا الأسلوب والمنهج تكمن في استيعابه لجميع سور القرآن بالتدريج جزءاً جزءاً، حتّى تتبيَّن في ظلّ الظهورات المترابطة بين الآيات القريبة من بعضها من حيث الألفاظ والمعاني، ممّا يُصبح ـ بمرور الزمن ـ بحاجةٍ إلى بيان وتوضيح.

معضلات التفسير الترتيبي

1ـ إن هذا المنهج التفسيري يخرج بعددٍ كبير من المفاهيم والمضامين القرآنية المتفرّقة وغير المترابطة ببعضها، دون أن نتمكَّن من العثور على ربط بين الأجزاء المتفرّقة لهذه المجموعة الفكرية؛ للحصول في نهاية المطاف من هذه الجولة القرآنية المستوعبة على فكرةٍ منسجمة وقرآنية بالنسبة إلى كلّ مسألةٍ من مسائل حياتنا([1]).

2ـ إن الاقتصار على هذا المنهج التفسيري يؤدّي إلى ظهور الكثير من أنواع الاعتراض والجَدَل المذهبي في فكر وعمل الأمة الإسلامية، ويكفي في ذلك أن يعمل المفسِّر [أيّاً كان مذهبه] إلى إثبات وجهة نظره من خلال الاستناد إلى آيةٍ من القرآن.

وعلى هذا الأساس فإن التفسير في مساره التاريخي وتوفُّر المقتضيات الجديدة قد وصل إلى مرحلة التفسير الموضوعي.

التفسير الموضوعي

إن التفسير الموضوعي يعني الجمع المنهجي للآيات ذات الصلة بموضوعٍ محدَّد، والعمل على تبيينها واستنطاقها؛ للخروج برأي القرآن الكريم بشأن ذلك الموضوع.

لقد عمد سماحة الأستاذ الشيخ معرفت في كتبه إلى إيلاء أسلوب التفسير الموضوعي أهمّية كبيرة، وعمل بشكلٍ مستقل وضمني على بيان بعض الأمور في هذا الشأن. وفي ما يلي نستعرض تلك الأمور على النحو التالي:

أـ التفسير الموضوعي أسلوبٌ عريق في الأساليب التفسيرية

يُعَدّ التفسير الموضوعي أسلوباً قديماً من الأساليب التفسيرية. وقد تمّ توظيفه من قبل المفكِّرين وعلماء المسلمين؛ لبيان الموقف القرآني، إلى جانب التفسير الترتيبي، منذ القِدَم.

وقد ذهب الأستاذ معرفت إلى اعتبار الفقهاء هم الطليعة في ابتكار وإبداع التفسير الموضوعي، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ من خلال بُعْده المتمثِّل بآيات الأحكام، حيث عمد الفقهاء إلى استخراج الآيات ذات الصلة بكلّ بابٍ من أبواب الفقه من جميع سور القرآن؛ بغية التدقيق بشأنها واستنباط الحكم الشرعي المستفاد من مجموعها. وقال سماحته بأن هذا الأسلوب لم ينتهجه غير العلماء الشيعة الذين كتبوا في آيات الأحكام، أما فقهاء العامة فقد ساروا على نهج التفسير الترتيبي فقط([2]).

وكان أوّل كتاب تمّ تأليفه في آيات الأحكام، أو فقه القرآن، أو أحكام القرآن، هو الذي ألَّفه محمد بن السائب الكلبي(146هـ)، وهو من أصحاب الإمام الصادق×([3]). وقد تمّ تدوين هذا الكتاب في مجلدين تناول فيهما الآيات المرتبطة بالطهارة بالطهارة والصلاة والزكاة والصوم وما إلى ذلك، ووضع كلاًّ منها على حدةٍ، وبحث بشأن كلّ واحدة منها باختصارٍ.

تلا ذلك أحكام القرآن، لمؤلِّفه: محمد بن إدريس الشافعي(204هـ)؛ وأحكام القرآن، لمؤلِّفه: أبي بكر أحمد بن علي الجصّاص(370هـ)؛ وفقه القرآن، لمؤلِّفه: القطب الراوندي (من فقهاء الإمامية في القرن الهجري الخامس)؛ وأحكام القرآن، لمؤلِّفه: القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله الحافظ المالكي، المعروف بابن عربي(523هـ)؛ والجامع لأحكام القرآن، لمؤلِّفه: أبي عبد الله القرطبي(671هـ)، وهو من فقهاء المالكية؛ وكنز العرفان في فقه القرآن، لمؤلِّفه: جمال الدين المقداد بن عبد الله السيوري، المعروف بالفاضل المقداد(826هـ).

هذا وقد ذكر السيد شهاب الدين المرعشي النجفي(1411هـ) 57 كتاباً في موضوع آيات الأحكام، وكان 23 مؤلَّفاً منها من نصيب علماء المذاهب الأربعة، وخمسة منها من نصيب علماء الزيدية، و29 منها من تأليف فقهاء الإمامية([4]).

ومن بين هذه الكتب يمتاز «كنز العرفان» بتوظيف أسلوب التفسير الموضوعي في بيان آيات الأحكام بشكلٍ كامل؛ إذ إن الذين سبقوه إنما تناولوا الموضوعات الفقهية الواردة في القرآن طبقاً لترتيب السور، أما الفاضل المقداد فقد عمد أوّلاً إلى جمع كافة الآيات المرتبطة بباب «الطهارة»، ثم «الصلاة»، وهكذا، على الترتيب المعهود في أبواب الفقه في مجال العبادات، ليصل بعد ذلك إلى أبواب «المعاملات»، ويصل في نهاية المطاف إلى باب «القضاء والشهادات»، ليتناول آياته بالبحث والتنقيب في مجموع القرآن الكريم، ويعمل ضمن كلّ باب من أبواب الفقه بذكر جميع الآيات الفقهية ذات الصلة بذلك الباب.

إن هذا الأسلوب الذي انتهجه الفاضل المقداد (في تبويب وتصنيف آيات الأحكام على أساس ترتيب الأبواب الفقهية) كان هو الأنفع والأنجع، وهو الذي سار على نهجه علماء الإمامية من بعده.

إن هذا الكلام القائل بأن الفقهاء هم أوّل مَنْ ابتكر أسلوب التفسير الموضوعي من خلال تأليفهم في آيات الأحكام لا ينسجم مع الكلام الذي أفاده العلاّمة الطهراني في كتاب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة»؛ إذ يذكر ـ في مقام فهرسة مصنَّفات الشيعة([5]) ـ موارد تعود إلى عصر الأئمّة من أهل البيت^، إلى القرون الأولى (في عهد سابق أو مقارن لظهور الكتب المؤلَّفة في موضوع آيات الأحكام)، قد تمّ اختيارها على أساس المنهج والأسلوب الموضوعي في الآيات، ويمكن لها أن تكون من بين المصاديق الأخرى للتفسير الموضوعي في مذهب التشيُّع.

ونذكر منها على سبيل المثال:

ـ ما نزل من القرآن في أعداد آل محمد‘. وقد عدَّه ابن شهرآشوب من الكتب مجهولة المؤلِّف.

ـ ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين×، لمؤلِّفه: أبي موسى هارون بن عمر بن عبد العزيز (من أصحاب الإمام الرضا×).

ـ ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين×، لمؤلِّفه: أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(283هـ).

ـ ما نزل من القرآن في أهل البيت^، لمؤلِّفه: أبي حامد بن العباس بن علي بن مروان، وكان معاصراً للشيخ الكليني&.

ـ ما نزل من القرآن في الخمسة^، لمؤلِّفه: أبي أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد الجلودي(332هـ).

ـ ما نزل من القرآن في صاحب الزمان×، لمؤلِّفه: عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحسن بن عيّاش(401هـ).

ب ـ أولوية وأهمّية التفسير الموضوعي لدى المفسِّرين المعاصرين

رغم القول باعتبار أسلوب التفسير الموضوعي من الأساليب التفسيرية الضاربة في القِدَم، إلاّ أن القرن الهجري الرابع عشر شهد إقبالاً كبيراً من قبل المفسِّرين على هذا المنهج التفسيري؛ إذ إن اتساع رقعة الارتباط والتواصل بين الناس، وازدياد حجم الأسئلة الفكرية والشبهات العقائدية، قد أدّى بالمفكِّرين وعلماء الإسلام إلى استشعار الضرورة الماسّة للعمل على إعادة صياغة الأمور ثقافياً واجتماعياً على أساس التعاليم الدينية. وقد تبلور هذا الشعور في محورين:

الأوّل: التغيير في فهم الدين وتفسير المفاهيم الأخلاقية والعقائدية.

الثاني: التغيير في بنية طرح المفاهيم الدينية وعرضها على المجتمع.

إن الرؤية الجديدة للمفاهيم والتعاليم الدينية؛ من أجل الاستفادة الناجعة من حضور الدين في الساحة الاجتماعية من جهةٍ، كانت بحاجةٍ إلى تحرير الذهن من الانغلاق على نفسه، والتخلُّص من النظرة المجتزأة والسطحية في ما يتعلَّق بفهم الدين؛ كما أنها من جهةٍ أخرى تحتاج إلى الرؤية الشمولية، والنظرة الشاملة، والتعرُّف على الضرورات العصرية في فهم الأمور الدينية وأسئلة الجيل المعاصر. كلّ هذه الأمور تتبلور في إطار التفسير الموضوعي، وهكذا كان أن أثمرت فروع التفسير الموضوعي وتبرعمت أغصان ما كان ينشده علماء الدين من التكامل في القرن الهجري الرابع عشر.

قال الأستاذ الشيخ معرفت&، بوصفه محقِّقاً معاصراً في الشأن القرآني: «إن هذا الأسلوب ـ ولا سيَّما في الوقت الراهن ـ يُعَدّ ضرورة؛ لأن العالم المعاصر يتوقع الحصول على الخطاب القرآني، وهو متعطِّشٌ للوصول إلى المسائل المطروحة في هذا الكتاب السماوي المقدَّس؛ للوصول إلى ما يحمله إلى البشرية والخلود من الشذرات واللآلئ الساطعة، وما هي الكوّة التي تفتح السعادة أمام الإنسان؟ من هنا يتعيَّن على المفسِّرين الأكفاء أن يُشَمِّروا عن سواعدهم، ويلبّوا هذه الحاجة الإنسانية المحقّة، وأن يبيِّنوا الخطابات والتعاليم القرآنية السامية للعالَم، بأسلوبٍ سلس، وبيانٍ قشيب»([6]).

ج ـ خصائص أسلوب التفسير الموضوعي

إن أسلوب الفهم والطرح الموضوعي لمسائل القرآن الكريم ليس مجرَّد تفنُّن في مسار التفسير، بل على الرغم من التعقيدات والتحدِّيات الماثلة في هذا المسار، والاعتراضات المثارة ضدّه، يتمتَّع بخصائص لا يمتاز بها إلاّ هذا الأسلوب التفسيري، على ما صرّح به الكثير من الباحثين المعاصرين في الشأن القرآني؛ إذ يرَوْنه الأسلوب التفسيري الوحيد القادر على تلبية حاجة الإنسان المعاصر في ما يتعلَّق بأسئلته القرآنية.

ويمكن بيان بعض هذه الخصائص على النحو التالي:

1ـ إثبات منهجية التعاليم القرآنية

إن التفسير الموضوعي ـ خلافاً للتفسير الترتيبي ـ يضع جميع التعاليم القرآنية ضمن منظومة عامّة، ويحول دون تفرُّق المطالب القرآنية وتشتيتها، وهو التوهُّم الباطل الذي يروم بعض المستشرقين تأكيده، حيث يصرّون على اتّهام القرآن بعدم وجود الترابط بين تعاليمه ومفاهيمه.

ومن ذلك: ما ذكره المستشرق الألماني (ثيودور نولدكه)، في مقالةٍ له في دائرة المعارف البريطانية قال فيها: «رغم أن هذا الكتاب يحتل السلَّم الأعلى من الناحية الجمالية والفنية، إلاّ أنه في الغالب يفتقر إلى الترابط اللازم، سواءٌ في التعبير أو في بيان تسلسل الأحداث!»([7]).

في التفسير الموضوعي للقرآن، سواء كانت دائرة التفسير سورة بعينها ـ وهو ما يُطلق عليه في الغالب مصطلح التفسير الموضوعي ـ أو كانت دائرته مجموع القرآن، يتّضح ارتباط وتناغم الآيات فيما بينها بشكلٍ متسلسل، بحيث يكون الموضوع السابق مقدّمة لإدراك الموضوع اللاحق بشكلٍ أفضل وأعمق.

ويمكن تشبيه التعاليم القرآنية في التفسير الموضوعي بالنهر الجاري الذي كلّما مرّ على مجموعة من التعاليم جرفها معه، متشبِّعاً بها نحو المرحلة التالية، ليتشبَّع بمفاهيمها، وهكذا يتكرَّر الأمر بالنسبة إلى المراحل الأخرى، ليستوعب في نهاية المطاف جميع التعاليم والمعارف القرآنية([8]).

هناك بشأن التفكير المنهجي للتعاليم القرآنية عدّة نظريات قابلة للإثبات على أساس التحقيق الموضوعي في القرآن الكريم. ويمكن بيانها على النحو التالي:

أـ نظرية الارتباط المنهجي في مفاهيم القرآن.

ب ـ نظرية الوحدة الموضوعية لكلّ سورة.

ج ـ ربط المطالب القرآنية المتفرّقة بشأن موضوعٍ بعينه.

أـ نظرية الارتباط المنهجي في مفاهيم القرآن

1ـ وفي هذا المسار تعمل بعض عناوين الفصول الرئيسة للتعاليم القرآنية على تنظيم الموضوعات والربط بينها، وتعمل على بيان الموضوعات الرئيسة في القرآن من الناحية العملية. ومن ذلك: ما ذكره العلاّمة الطباطبائي ـ على سبيل المثال ـ، حيث قال: «إن القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية وما يتفرّع عليها من الفروع، من أخلاق، وأحكام في العبادات، والمعاملات والسياسات والاجتماعيات، ووعد ووعيد، وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوّة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم وعقباهم»([9]).

ويذهب الشيخ مصباح اليزدي إلى اعتبار «معرفة الله» هي المحور الرئيس، ويتناول في ضوئها المسائل التالية: معرفة الله، ومعرفة الكون، ومعرفة الإنسان، ومعرفة السبيل، ومعرفة الهادي، وبناء الإنسان، والبرامج العبادية، والأحكام الفردية والاجتماعية([10]).

وقد ذكر الأستاذ رشيد رضا تقسيماً آخر في هذا الشأن، يمكن بيانه ضمن الأهداف العشرة التالية:

ـ أركان الدين (الإيمان بالله والمعاد والعمل الصالح).

ـ النبيّ ومهام ّالنبوّة.

ـ الإصلاح الاجتماعي والسياسي.

ـ النظام السياسي في الإسلام.

ـ الحرب والجهاد.

ـ مكافحة الاستعباد([11]).

ـ خصائص الإسلام.

ـ التكاليف الفردية.

ـ النظام الاقتصادي في الإسلام.

ـ الحقوق الإنسانية والاجتماعية للمرأة.

2ـ يذهب سعيد حوّى إلى القول باعتبار الوحدة المفهومية للسور القرآنية في سورة البقرة([12])، حيث يرى سماحته أن سورة الحمد تمثِّل مقدّمة للقرآن، وأن سورة البقرة سورة فذّة، تشتمل على: مقدّمة، وثلاثة فصول، وخاتمة. ومن هذه الزاوية تشتمل سورة البقرة على جميع المضامين القرآنية، وقد تتكرَّر فيها بعض المسائل أحياناً.

فعلى سبيل المثال: تمّ توضيح هذه السورة 24 مرّة في مجموع القرآن الكريم. فالآيات الخمسة الأولى من سورة البقرة التي تتحدَّث عن التقوى قد تمّ بحثها في سورة آل عمران، وهكذا الموارد التالية:

ـ الآية 26 ـ 27 من سورة البقرة، واللتان تتحدّثان حول الفسق وآثاره، تمّ بحثهما في سورة المائدة أيضاً.

ـ الآية 38 من سورة البقرة، المرتبطة بالهداية، قد تمّ تناولها في سورة الأعراف.

ـ الآية 1 من سورة البقرة، في خصوص عدم الرَّيْب في القرآن، تمّ الحديث عنها وبحثها في سورة يونس.

ـ الآية 30 ـ 38 من سورة البقرة، بشأن تعرُّض آدم لغواية الشيطان واستعاذته منه، تمَّتْ الإشارة إليها في سورة الفلق والناس.

3ـ الارتباط المنهجي للقرآن في ما يتعلَّق بمعرفة المفاهيم المحورية في القرآن.

وبالالتفات إلى المفردات الرئيسة في القرآن يقول (توشيهيكو إيزوتسو): «إن لكلّ دائرة مفهومية مركزاً تدور حوله الكلمات الأخرى»([13]).

فعلى سبيل المثال: إن كلمات من قبيل: «الله» و«التصديق» و«الإسلام» و«الشكر» و«التكذيب» و«العصيان» و«الكفر» تتمحور حول مفهوم الإيمان، وفي الحقيقة فإن مفهوم الإيمان يشكِّل محوراً مركزاً في هذه الدائرة المعرفية.

ب ـ نظرية الوحدة الموضوعية لكلّ سورة

عمد كلٌّ من: العلامة الطباطبائي في (الميزان في تفسير القرآن)، ومحمد عبده في (تفسير المنار)، وسعيد حوّى في (الأساس في التفسير)، وسيد قطب في كتابه التفسيري (في ظلال القرآن)، وعبد الله درّاز في (النبأ العظيم)، وعبد الله محمود شحاتة في (أهداف كلّ سورة ومقاصدها)، ومحمد البهي ومحمود شلتوت في كتاب (إلى القرآن الكريم)، إلى بيان أهداف كلّ سورة على حدة، رغم وجود بعض الاختلافات في هذا الطرح، كأنْ يرى (سعيد حوّى) أن الوحدة الموضوعية في سورة النساء تكمن في التقوى، إلاّ أن محمد البهي وسيد قطب يذهبان إلى القول بأن الوحدة الموضوعية في هذه السورة تكمن في الأسرة والمجتمع، وبطبيعة الحال لا نريد إخفاء مخالفة أمثال أمين الخولي، الذي أنكر هذا التوجّه.

ج ـ ربط المطالب القرآنية المتفرِّقة بشأن موضوعٍ بعينه

وبعبارةٍ أخرى: الربط بين الموضوعات القرآنية المتفرّقة التي تتعلّق بموضوعٍ واحد. وفي هذا الشأن يقول الشيخ جوادي الآملي: «إن القرآن كله شفاء؛ بالالتفات إلى قوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ (الزمر: 39)، فإن صفة الشافي بالنسبة إلى القرآن تعني أن الربط بين آيات القرآن هو من نوع الربط والإشراف المتبادل، بمعنى أنها ناظرة إلى بعضها، وتميل إلى بعضها، وتعمل على إيضاح بعضها، ويلجأ بعضها إلى بعض. وهذا خير دليلٍ على الانسجام والتناغم الكامل فيما بينها»([14]).

2ـ الوصول إلى مقاصد ومفاهيم القرآن الكريم

رغم وجود حكمة خاصّة في النزول الترتيبي للقرآن الكريم طيلة 23 سنة، وإن التدوين الترتيبي للقرآن في المصحف يُعتبر خير مبيِّن للإعجاز البياني والمصالح الأخرى للقرآن، بَيْدَ أن دراسته الموضوعية يمكن لها أن تكون خير دليل معرفي للمخاطَبين بالوحي القرآني. إن عمق الرؤية والفكرة في تلبية الحاجة الراهنة للمخاطَبين بالقرآن إنما تتحقَّق في التفسير الموضوعي([15]).

إن العالَم المعاصر، بعد وصول المذاهب والنظريات البشرية في قوانينها الوضعية إلى طريق مسدود، متعطِّشٌ إلى فهم الحلول التي يقدِّمها الإسلام لحلّ مشاكل الإنسانية.

وإن الطريق الوحيد الذي يمكنه بيان رأي الإسلام بوضوحٍ هو أسلوب التفسير الموضوعي؛ ففي هذا الأسلوب يتمّ اكتشاف معاني المفردات والعبارات القرآنية من صُلْب القرآن نفسه، ويغدو القرآن هو المبنى للنظرية القرآنية، دون أن تكون هناك للقرآن أدنى تَبَعيّة للغة والتاريخ وثقافة الأدب العربي([16]).

3ـ تلبية القرآن لحاجة المخاطَبين في حوار فعّال

يرى الأستاذ معرفت في أسلوب التفسير الموضوعي تلبية المسائل المطروحة. وبطبيعة الحال قد تنبثق المسألة أحياناً من القرآن، ويكون جوابها من نفس القرآن؛ وتارةً تكون المسألة من صلب واقع الحياة والحاجة الاجتماعية، ويكون جوابها من القرآن. وفي هذا الأسلوب يعمل القرآن كطبيبٍ حاذق وكفوء في معالجة أمراض العصر على المستوى الفردي والاجتماعي.

وقد أطلق الأستاذ معرفت على هذه الأسلوب الثاني مصطلح «الاستنطاق»، وقال: «إن هذا الأسلوب تماماً هو الذي تحدَّث عنه الإمام عليّ× حيث قال: «ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ، أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ»([17]).

وإن التعبيرَ بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن أروعُ تعبير عن عملية التفسير الموضوعي، بوصفه حواراً مع القرآن الكريم، وطرحاً للمشاكل الموضوعية عليه؛ بقصد الحصول على الإجابة القرآنية عليها»([18]).

د ـ منزلة أسلوب التفسير الموضوعي في كلمات أهل البيت^

إن البحث في التفاسير المأثورة عن النبيّ الأكرم‘ والأئمّة الأطهار^ يثبت أن تفسير القرآن بالقرآن، وكذلك البحث الموضوعي في القرآن، كان هو الشائع والغالب عندهم.

ومن هنا يمكن القول: إن رسول الله‘ هو المؤسِّس الأول للتفسير الموضوعي، وإن أهل البيت^ هم الحصون المتقدِّمة في الدفاع عن مدرسة النبوّة.

ومن هذا القبيل الحديث التفصيلي المروي عن النبيّ الأكرم‘، في خطابه لابن مسعود في موضوع الدنيا([19])، أو حديث أمير المؤمنين×، في بيان أقسام الكفر([20]) والشرك.

وفي هذا المورد الثاني، رُوي عن الإمام عليّ× أنه قال: «وأما الكفر المذكور في كتاب الله تعالى فخمسة وجوه، منها: كفر الجحود، (والجحود ينقسم على وجهين)، ومنها: كفر فقط (الكفر المطلق)، ومنها: كفر الترك لما أمر الله تعالى به، ومنها: كفر البراءة، ومنها: كفر النعم.

فأما كفر الجحود فأحد الوجهين منه: جحود الواحدانية، وهو قول مَنْ يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار ولا بعث ولا نشور. وهؤلاء صنف من الزنادقة، وصنف من الدهرية، الذين يقولون: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ (الجاثية: 24).

وذلك رأيٌ وضعوه لأنفسهم، استحسنوه بغير حجّةٍ، فقال الله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ (الجاثية: 24؛ البقرة: 78).

وقال تعالى [أيضاً]: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 6)، أي لا يؤمنون بتوحيد الله.

والوجهُ الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيقته.

وقال تعالى [في هذا الشأن]: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ (النمل: 14)، وقال سبحانه [في آية أخرى]: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 89)، أي جحدوه بعد أن عرفوه.

وأما الوجه الثالث من الكفر فهو كفر الترك لما أمر الله به، وهو من المعاصي، قال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ـ إلى قوله تعالى ـ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، فكانوا كفاراً؛ لتركهم ما أمر الله تعالى به، فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر، دون الباطن، فلم ينفعهم ذلك لقوله تعالى: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ إلى آخر الآية.

وأما الوجه الرابع من الكفر، فهو ما حكاه الله تعالى عن قول إبراهيم×: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة: 4)، فقوله: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ أي تبرّأنا منكم. وقال سبحانه في قصة إبليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس إلى يوم القيامة: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ﴾ (إبراهيم: 22) أي تبرّأت منكم، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ (العنكبوت: 25).

وأما الوجه الخامس من الكفر وهو كفر النِّعَم، قال الله تعالى عن قول سليمان×: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ (النمل: 40)، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم: 7)، وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة: 152).

إن هذه الرواية نموذجٌ مناسب لكلام الأستاذ معرفت، إذ يقول: «إن أسلوب التفسير الموضوعي هو الأسلوب المنشود للشرع وأئمّة الدين»([21]).

هـ ـ نسبة وموقع التفسير الترتيبي في التفسير الموضوعي

إن من بين الغموض الذي يكتنف التفسير الموضوعي، أو الاعتراض المثار حول هذا الأسلوب في التفسير، ينشأ من تصوُّر أن نظرية التفسير الموضوعي تحشر التفسير الترتيبي في الزاوية.

وفي الحقيقة هم يتصوَّرون أن التفسير الموضوعي يقع في عرض التفسير الترتيبي، في حين أن المنظِّرين في أسلوب التفسير الموضوعي يذهبون إلى القول: «إذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو أفضل الاتجاهين في التفسير، إلاّ أن هذا لا ينبغي أن يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي (الترتيبي)، هذه الأفضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه طرح التفسير التجزيئي رأساً والأخذ بالتفسير الموضوعي، وإنما إضافة اتجاه إلى اتجاه؛ لأن التفسير الموضوعي ليس إلاّ خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي، ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي بالاتجاه الموضوعي»([22]).

وعليه فإن العلاقة بين التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي علاقة طولية وتكاملية، بمعنى أننا في التفسير الموضوعي ندرس الآيات في ظهورها الارتباطي من خلال الالتفات إلى عنصر السياق والقرائن اللفظية واللبية، المتّصلة والمنفصلة، ونعرض الأفهام الترتيبية للآيات المنشودة في موضوعٍ خاصّ على بعضها؛ لاستنباط النظرية القرآنية.

وقال بعض المفسِّرين العظام في هذا الشأن: «يقع التفسير الموضوعي بعد التفسير الترتيبي في الرتبة؛ إذ يتعيَّن على المفسِّر في التفسير الموضوعي أن يدرس القرآن قبل كلّ شيء من أوله إلى آخره، وأن يكون له حضورٌ ذهني وعلمي، بحيث لو تمّ طرح آيةٍ لا يكون بعيد الذهن عنها، ومن ثمّ بعد الاطّلاع على مضمون الآيات، وما يتمتَّع به من رصيد التفسير الترتيبي يتوجَّه إلى التفسير الموضوعي، حيث يختار موضوعاً ويجمع الآيات ذات الصلة بذلك الموضوع، ويعكف على دراستها»([23]).

و ـ أنواع التفسير الموضوعي

إن الموضوعات التي يتمّ الاهتمام بها في التفسير الموضوعي في الدائرة الشيعية ـ ولا سيَّما في إيران ـ تميل كفّتها في الأغلب إلى المباحث الفقهية والمعرفية الشاملة للعقائد والأخلاق والمجتمع.

يعمد الأستاذ الفقيه الشيخ معرفت، في الفصل الرابع عشر من كتابه (تفسير ومفسِّران) ـ الذي عقده لبحث التفسير الموضوعي ـ، إلى انتقاد عدم اشتمال مؤلَّفات التفسير الموضوعي على المواضيع اللفظية والفنّية في القرآن الكريم، ويرى أن السبب في ذلك يعود إلى التأثُّر بالتعريف الجديد للتفسير الموضوعي.

يذهب سماحته إلى الاعتقاد بأنه طبقاً للمصطلح الجديد بشأن التفسير الموضوعي فإن الكتب التي تعنى بالناحية اللغوية (من قبيل: تفسير غريب القرآن)، أو الناحية الأدبية (نحواً وبلاغة)، وكذلك الكتب ذات العلاقة بمتشابهات القرآن، أو ردّ الشبهات، تخرج بأجمعها عن دائرة التفسير الموضوعي، وإنْ كانت طبقاً للتعريف الأجمع (المصطلح القديم للتفسير الموضوعي) تعتبر بأجمعها داخلةً ضمن حدود هذه الدائرة([24]).

ومن الجدير بالذكر أن المصطلح القديم والجديد بشأن التفسير الموضوعي يشكّل في حدّ ذاته مسألةً بديعة، ليست لها سابقة في المصادر المعتبرة. وعلى هذا الأساس فإن المساحة المحدودة للتفاسير الموضوعية اللفظية لا تعني الخروج عن المصطلح.

إن التفسير الموضوعي ـ بالالتفات إلى معطياته ـ على أربعة أنواع:

1ـ التفاسير الموضوعية اللفظية

إن كتب المفردات وغريب القرآن والأشباه والنظائر تُعَدّ من مصاديق التفاسير الموضوعية. ففي هذا الأسلوب يقوم المفسِّر، بعد اختيار كلمة من كلمات القرآن الكريم، وجمع الآيات التي استعملت فيها تلك الكلمة ومشتقّاتها، بدراسة معاني استعمال القرآن الكريم لها؛ للوصول إلى العلاقة فيما بينها([25]).

وقد رأى الأستاذ أمين الخولي أن الدراسة الموضوعية لآيات القرآن تمثِّل شرطاً في الوصول إلى المقاصد والمفاهيم من ألفاظ القرآن الكريم، إذ يقول: «إن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع، لم يلتزمها مطلقاً، وقد ترك الترتيب الزمني لظهور الآيات، لم يحتفظ به أبداً، وقد فرَّق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعدِّدة ومقامات مختلفة، ظهرت في ظروف مختلفة، وذلك كلّه يقضي في وضوحٍ بأن يفسّر القرآن موضوعاً موضوعاً، وأن تجمع آيه الخاصّة بالموضوع الواحد جمعاً إحصائياً مستقصى، ويعرف ترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحاقّة بها، ثم يُنْظَر فيها بعد ذلك؛ لتفسر وتفهم، فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تحديده»([26]).

وقد ذهبت الكاتبة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ـ مضافاً إلى المفردات والمصطلحات القرآنية ـ إلى القول بأن الكشف عن غرض ومراد القرآن من البنية الأدبية، مثل: بنية القَسَم، أو بنية الاستغناء عن الفاعل، رهنٌ بدراسة الآيات ذات الصلة دراسة موضوعية، حيث قالت في هذا الشأن: «الأصل في منهج هذا التفسير ـ كما تلقّيته عن أستاذي ـ هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كلّ ما في القرآن منه، ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب، بعد تحديد الدلالة اللغوية لكلّ ذلك… وهو منهجٌ يختلف والطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورة وسورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه، مقتطعاً من سياقه العامّ في القرآن كلّه ممّا لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه، أو لمح ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية… وقصدتُ بهذا الاتجاه إلى توضيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير ومنهجنا الاستقرائي الذي يتناول النصّ القرآني في جوِّه الإعجازي، ويقدِّر حرمة كلماته بأدقّ ما عرفت مناهج النصوص من ضوابط، ويلتزم دائماً قولة السلف الصالح: (القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً)…، ويحرِّر مفهومه من العناصر الدخيلة والشوائب المقحمة على أصالته البيانية»([27]).

وعلى أساسٍ من هذا الأسلوب التفسيري ذهبت الكاتبة بنت الشاطئ ـ من خلال البحث الموضوعي للآيات ذات الصلة ـ إلى الاعتقاد بعدم وجود المترادف في القرآن الكريم.

فعلى سبيل المثال: نجد القرآن الكريم يعبِّر عن العلاقة القائمة بين آدم وحواء بالزوجية، بينما يعبِّر عن العلاقة بين نوح ولوط وفرعون وعزيز مصر وبين نسائهم بكلمة «امرأته». فالزوجية إنما تستعمل إذا كان هناك انسجامٌ تامّ بين الرجل والمرأة. إن المحور والمعيار الرئيس للكلام في الآية، التي تشتمل إما على بيان حكمة وآية، وإما في مقام تشريع وبيان حكم ما، ولكنْ كلّما انحسرت آية وعلامة الزوجية من الهدوء والصلاح والتناغم؛ بسبب الخيانة أو عدم الانسجام في العقيدة، لا يكون هناك موضعٌ للزوجية، وإنّما هي مجرّد «امرأة»، أو عندما تزول فلسفة الزواج، المتمثِّلة باستمرار الحياة من طريق التوالد والتناسل؛ بسبب عقمٍ يصيب أحد الزوجين، تستعمل كلمة «امرأة»، دون «الزوج»([28]). إن التفاسير الموضوعية اللفظية قد شكلت تراثاً قرآنياً عظيماً([29]).

لقد قدَّم الأستاذ معرفت، في نهاية الفصل الرابع عشر من كتاب «تفسير ومفسِّران»، فهرسة بالتفاسير اللغوية واللفظية، مع توضيحاتٍ مناسبة بشأن كلّ واحد منها.

2ـ التفاسير الموضوعية لسور القرآن

إن المفسِّر في هذا الفهم للتفسير الموضوعي يعمل على دراسة مجموع السورة مرّة واحدة؛ ليرسم لها صورة شاملة ومتكاملة. إن هذه الصورة تأخذ بداية السورة ونهايتها بنظر الاعتبار. ومن خلال معرفة الروابط الخفية التي تربط بين جميع أجزاء السورة وتشدّها إلى بعضها تجعل بداية السورة بمثابة المقدّمة لنهايتها، ونهاية السورة بمثابة الشاهد والمؤيِّد لبدايتها.

وقد عبَّر الزمخشري عن هذا النوع من التفسير بالوحدة الفنّية لسور القرآن، أو الوحدة الموضوعية للسور([30]).

وقد ذهب برهان الدين البقاعي إلى الاعتقاد بأن العلم المناسب للقرآن إنما يتبلور في ظلّ هذا النوع من التفسير الموضوعي، وسوف تظهر في ضوئه البلاغة القرآنية بأجلى صورها، ويتّضح الغرض والهدف الذي نزلت السورة من أجله([31]).

يذهب المفسِّرون في هذا النوع من التفسير إلى الاعتقاد بأن لكلّ سورة رسالة تجري في جميع آياتها مجرى الروح من الجسد، ومن خلال إضاءتها على مجمع الآيات تمنحها الانسجام ووحدة المسار. ومن خلال هذا المسلك العام تتّضح السورة وأهدافها ومفاهيمها الرئيسة، ويتّضح الترابط بين أجزائها، وتتجلى الهداية القرآنية من الآيات المتنوّعة ضمن السورة.

لقد تمّ تعريف التفسير الموضوعي في العالم العربي في الغالب من هذه الناحية، وقد كتبت فيه الكثير من الكتب، من قبيل: «النبأ العظيم»، للشيخ محمد عبد الله درّاز؛ و«نحو التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم»، لمحمد الغزالي؛ و«أهداف كل سورة ومقاصدها»، لعبد الله شحاتة؛ و«المجتمع الإسلامي كما تنظّمه سورة النساء»، لمحمد مدني؛ إلى غير ذلك من الكتب التي أُلِّفت في خصوص هذا الموضوع.

3ـ التفسير الموضوعي لموضوعات القرآن

ضمن تعريفه ببعض التفاسير الموضوعية عمد سماحة الأستاذ معرفت إلى فهرسة بعض المحاور للموضوعات المطروحة في هذا النوع من التفاسير الموضوعية، من قبيل: «تعاليم القرآن»، و«الأخلاق في القرآن»، و«السنن الإلهية في القرآن»، و«الآيات العلمية في القرآن»، و«أهل البيت في القرآن»، و«التوحيد والشرك في القرآن»، و«المرأة في القرآن»، وما إلى ذلك.

لا شَكَّ في أن تنوُّع حاجات البشر، والظرفية المذهلة وغير المتناهية للقرآن الكريم في تلبية هذه الاحتياجات والإجابة عن المسائل البشرية، تخوِّل هذا الأسلوب في التفسير؛ بما له من القابلية والإبداع، أن يلعب ـ ضمن الدفاع عن حياض المعارف الإسلامية ـ دوراً هامّاً في الكشف عن النظريات الإسلامية في مختلف المحاور التربوية والإرشادية.

وبطبيعة الحال علينا أن لا نغفل عن حقيقة أننا في أسلوب التفسير الموضوعي ـ بالإضافة إلى اكتشاف النظرية القرآني ـ يجب أن نراجع الأبواب ذات الصلة في المصادر الروائية في ما يتعلَّق بالموضوع محلّ البحث، فلربما كان في الروايات المأثورة عن أهل البيت^ تقييداً أو تخصيصاً أو بياناً أو تأويلاً لذلك الموضوع، كي نضمّه إلى الرؤية القرآنية، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44)، حتّى تكون النظرية القرآنية تامّة ومتكاملة. ولا يخفى أن هذا المقدار من الرجوع إلى المصادر القرآنية لا يخرج الموضوع عن دائرة البحث القرآني، بل يعمل على إثراء الموضوع، وزيادة وضوحه.

وهذا هو ما قام به الأستاذ معرفت من خلال توظيفه لهذا النوع من التفاسير، حيث بحث في المسائل وطرح الرؤية الإسلامية بشأنها في بعض مؤلَّفاته، من قبيل: «جامعه مدني» (المجتمع المدني)، و«ولايت فقيه» (ولاية الفقيه)، و«معارفي أز قرآن» (مفاهيم القرآن).

إن هذا النوع من التفسير الموضوعي يمكن تقسيمه إلى قسمين، وهما:

التفسير الموضوعي الاستقرائي، حيث يُؤخَذ من الحكم والموضوع من القرآن، من قبيل: الشفاعة في القرآن، والتوحيد في القرآن، والتربية في القرآن، ورسالة القرآن، لمؤلِّفه: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

والتفسير الموضوعي الاستنطاقي، الذي يكون حكمه مأخوذاً من القرآن، وأما موضوعه والسؤال بشأنه فيُؤخَذ من خارج القرآن، من قبيل: «السنن الاجتماعية»، و«فلسفة التاريخ في القرآن»، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر.

كما يتمّ في هذا النوع من التفسير الموضوعي بحث موضوع واحد على نحو مستقل تارةً؛ ويتمّ تناول موضوعين ـ أو أكثر ـ يجمع بينهما رابط من الناحية المفهومية تارةً أخرى، من قبيل: «الصلاة والزكاة في القرآن»، و«الإيمان والعمل الصالح في القرآن». ويطلق على هذا النوع من التفسير الموضوعي تسمية التفسير الموضوعي الارتباطي أو المتسلسل.

4ـ التفسير الموضوعي التطبيقي

يسعى المفسِّر في هذا النوع من التفسير الموضوعي إلى دراسة القرآن من خلال إجراء المقارنة بينه وبين الكتب السماوية الأخرى أو الثقافات المعروفة في العالم؛ ليبيّن الآفاق السامية للقرآن في ما يتعلَّق بذلك الموضوع المنشود، من قبيل: كتاب (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم)، للكاتب الفرنسي: موريس بوكاي.

ز ـ تقسيم الآيات من الناحية الموضوعية

مع اتّساع رقعة أسلوب التفسير الموضعي أخذت المصادر التي تعمل على تبويب وتقسيم آيات القرآن الكريم من الناحية الموضوعية تكتسب أهمّية خاصة؛ إذ إن هذه التقسيمات وإنْ لم تعتبر في حدّ ذاتها من التفسير الموضوعي، ولكنّها توفر المادة التمهيدية للمفسِّر في عملية التفسير الموضوعي، وبذلك فإنها تُعَدّ مظهراً بارزاً للموضوعات القرآنية المتنوّعة.

يرى الأستاذ معرفت أن الموسوعة الحديثية التي جمعها العلاّمة المجلسي في كتاب (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار) تمثِّل فهرسة أو تبويباً موضوعياً لآيات القرآن، بل أدقّها وأكثرها شمولاً. وقال في هذا الشأن: «ومنه المصدّر في كلّ بحثٍ إسلامي، ومكلّلاً كلّ مجال من مجالاته بلُمّةٍ من آياتٍ مترابطة ومرتبطة بصميم البحث، ممّا تعارفت عليه الكتب الباحثة عن المعارف والأخلاق والآداب والسنن، وحتّى الكتب الفقهية، يتجلَّل مطالع أبوابها وفروع مسائلها بآيةٍ أو آيات ذات صلة بالبحث، والتي تموّن البحث في مادته الأولية الأصلية.. وأفضل نموذجٍ لذلك ـ مثلاً ـ هو كتاب بحار الأنوار، للمجلسي العظيم، فقد صدَّر كلّ باب منه بآيات مرتبطة، قبل عرض الروايات»([32]).

وبطبيعة الحال هناك مصادر أخرى تمّ تأليفها في هذا المجال، تُعَدّ في تبويب آيات القرآن ـ بشكلٍ متوسط أو تفصيلي ـ وفقاً للمنهج الموضوعي، من قبيل: المعجم المفهرس لمعاني القرآن الكريم، لمؤلِّفه: محمد بسام رشدي الزين؛ وفرهنگ قرآن، لمؤلِّفه: الشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني وآخرين.

ح ـ نماذج من التفسير الموضوعي للأستاذ معرفت

كلّما تعرّض الأستاذ معرفت، في مختلف كتاباته القرآنية، إلى موضوعٍ قرآني عمد إلى توظيف أسلوب التفسير الموضوعي. فقد كان المنهج الغالب في مؤلَّفات سماحته ـ سواء في ما يتعلق ببيان الألفاظ والمفردات القرآنية أو توضيح متشابهات الآيات وغوامضها، أو في بيان الرؤية الإسلامية بشأن الموضوعات المطروحة في المجتمع ـ هو منهج التفسير الموضوعي. وفي ما يلي نذكر مثالين على ذلك:

1ـ النسيان أو التناسي

سؤالٌ: هناك آيتان في القرآن الكريم ظاهرتان في عروض النسيان على الله سبحانه وتعالى، وهما قوله تعالى:

ـ ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ (الأعراف: 51).

ـ ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ (التوبة: 67).

في حين هناك آيات أخرى تنفي عروض صفة النسيان على الله سبحانه وتعالى، من قبيل قوله تعالى:

ـ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ (مريم: 64).

ـ ﴿لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ (طه: 52).

فهل يمكن الجمع بين هذه الآيات؟

الجواب: إن كلمة النسيان في الآيتين الأوليين ليستا بمعنى النسيان، وإنما هما بمعنى التناسي، بمعنى التجاهل وعدم الاهتمام. وأما النسيان المنفيّ في الآيتين الأخريين فهو بمعنى الغفلة. وقد ورد النسيان في الكثير من موارد القرآن بمعنى التناسي، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ (طه: 115)، بمعنى أن آدم قد تناسى العهد، ولم يأخذه بجدّية، لا أنه نسيه حقيقةً، وإلاّ لو كان قد نسيه حقيقة لكان معذوراً، ولم يكن مستحقّاً للمؤاخذة.

وأما معنى النسيان في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر: 19) أنهم تجاهلوا حضور الله في الدنيا، وبالتالي فإنهم قد تجاهلوا بذلك كرامتهم أيضاً، من هنا فإن معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ (طه: 126) أنك حيث تنكَّرْت لآيات الله، ورميتها وراء ظهرك، ولم تأخذها بجدّية، فاليوم في المقابل سوف تُنْسى، ولن تكون مشمولاً لرعاية الله وعنايته.

وفي الحقيقة فإنّ محتوى هذه الآية هو من قبيل: قوله تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ (آل عمران: 187).

ومن الواضح أن هذا الأمر يمثِّل نوعاً من التفاضل والتساهل، ولا يعبِّر عن غفلةٍ ونسيان حقيقي.

وقد سُئل أمير المؤمنين× بشأن معنى قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ (الأعراف: 51)؟ فقال×: إن ذلك يعني أنهم نَسُوا الله في الدنيا، فلم يطيعوه، ولذلك فإنّ الله سوف ينساهم في الآخرة، بمعنى أنه لن يرصد لهم مكافأةً، وأنه لن يشملهم بنعمته الإلهية. والعرب تقول: «قد نسينا فلان فلا يذكرنا».

وأما معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ (مريم: 64) فهو أن الله لا يخفى عليه شيءٌ، ولا يغفل عن شيءٍ؛ لأنه هو الحفيظ والعليم([33]).

2ـ الهداية والتوفيق

الهداية في الأصل تعني الدلالة والإرشاد. غاية ما هنالك أن الهداية تختلف حَسْب نوعيّتها ومرتبتها في التأثير والبلوغ. إن الذي يدلّ غيره على طريق يؤدّي إلى مقصده فقد هداه، وكذلك الذي يأخذ بيد شخصٍ آخر، حتّى يوصله إلى مقصده، يكون هادياً له أيضاً، ولكنْ في النوع الأول يُحتمل الضلال، خلافاً للنوع الثاني. وإن الهداية في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ (فصّلت: 17) هدايةٌ من النوع الأول، وأما الهداية في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ (الزمر: 37) فهي هدايةٌ من النوع الثاني.

هذا وقد استعملت «الهداية» في القرآن في أنحاء ودرجات مختلفة، يمكن لنا أن نلخصها على النحو التالي:

1ـ الهداية الفطرية الكامنة في جِبِلّة الأشياء، الأعمّ من الحيوان والنبات والجماد:

ـ ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: 50).

ـ ﴿الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ (الأعلى: 3).

ـ ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافّات: 23).

ـ ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ (الأنعام: 97).

2ـ الهداية بواسطة قوّة العقل والفكر لدى الإنسان:

ـ ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد: 7 ـ 10).

3ـ الهداية بواسطة الأنبياء والرسل:

ـ ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان: 3).

ـ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ (الأنبياء: 73).

ـ ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (الأعراف: 181).

ـ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 9).

4ـ الهداية التوفيقية:

يُعَدّ التوفيق الإلهي، وإيجاد المانع دون الوقوع في الخطأ، والتشجيع على الصواب، نعمةً إلهية خاصة، يمنّ الله بها على الساعين في طريق الهداية:

ـ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ (التغابن: 11).

ـ ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 18).

ـ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69).

ـ ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ (مريم: 76).

ـ ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر: 3).

إن الهداية من النوع الرابع هدايةٌ يمنحها الله لمَنْ يشاء، ويمنعها عمَّنْ يشاء، ولا يهبها إلاّ لأولئك الذين يجاهدون في سبيله، ويسعَوْن من أجل الحصول على الهداية الكاملة، ويواصلون السير حثيثاً من مرحلة «علم اليقين»، حتّى يصلوا إلى مرحلة «عين اليقين».

5ـ الهداية بالعصمة:

وهذا النوع من الهداية مكافأةٌ يمنحها الله لخاصّة المؤمنين؛ بسبب ثباتهم على الهداية الفطرية، وعبر مراحل سابقة. ومن ذلك قوله تعالى:

ـ ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ (فصّلت: 30 ـ 31).

ـ ﴿وَأَنْ لَوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾ (الجنّ: 16).

ـ ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ...﴾ (الأنعام: 84).

ـ ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...﴾ (الأنعام: 89).

ـ ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ...﴾ (الأنعام: 90)([34]).

كانت هذه نماذج من التفسير الموضوعي في مؤلَّفات الأستاذ محمد هادي معرفت&.

الهوامش

(*) عضو اللجنة العلميّة في الجامعة الرضويّة للعلوم الإنسانيّة.

([1]) كما أن بعض التفاسير الترتيبية تعمد إلى الاستعانة بسائر الآيات الأخرى أيضاً؛ للوصول إلى البيان والتبيين الكامل لمضمون الآية. وبذلك تعمل في الحقيقة على تفسير القرآن بالقرآن، حيث يتمّ الحصول على نوع من التفسير الترتيبي ـ الموضوعي، من قبيل: تفسير الميزان، للعلاّمة محمد حسين الطباطبائي، الذي تعرَّض فيه لبحث ما يربو على 800 مسألة قرآنية. فإنّ سماحته، من خلال تبنّيه رؤية جديدة إلى القرآن، يعمل على تفسير آياته من خلال الاستعانة بالتدبُّر والاستنطاق المفهومي للآية ضمن مجموع الآيات ذات الصلة. وقد عرَّف العلامة الطباطبائي بهذا المنهج التفسيري بوصفه ثمرة تعليم النبيّ الأكرم وأهل البيت^. (انظر: محمد حسين الطباطبائي، قرآن در إسلام (القرآن في الإسلام): 61).

([2]) انظر: محمد هادي معرفت، تفسير ومفسِّران 2: 530.

([3]) انظر: آغا بزرگ الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 1: 300.

([4]) انظر: شهاب الدين المرعشي النجفي، نهج الرشاد في ترجمة الفاضل الجواد.

([5]) انظر: الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 1: 47.

([6]) انظر: معرفت، تفسير ومفسِّران 2: 527.

([7]) انظر: عبد الكريم بي آزار شيرازي، قرآن ناطق: 378.

([8]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، معارف قرآن 1: 12.

([9]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 38.

([10]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، معارف قرآن 1: 14.

([11]) رشيد رضا ومحمد عبده، تفسير المنار 11: 206.

([12]) انظر في هذا الشأن: سعيد حوّى، الأساس في التفسير 1: 61 ـ 64.

([13]) انظر: توشيهيكو إيزوتسو، خدا وإنسان در قرآن (الله والإنسان في القرآن): 5.

([14]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي 1: 129.

([15]) انظر: معرفت، تفسير ومفسِّران 2: 528 ـ 529.

([16]) انظر: عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، الإعجاز البياني للقرآن الكريم.

([17]) نهج البلاغة، الخطبة رقم:158.

([18]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب 2: 527 ـ 528، نقلاً عن: السيد الشهيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 19 ـ 21.

([19]) انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 74: 92.

([20]) انظر: المصدر السابق 72: 100 ـ 101.

([21]) انظر: معرفت، تفسير ومفسِّران 2: 528.

([22]) الصدر، المدرسة القرآنية: 42.

([23]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، زن در آيينه جلال وجمال: 49.

([24]) انظر: معرفت، تفسير ومفسِّران 2: 526.

([25]) انظر: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسِّرون 1: 148.

([26]) أمين الخولي، التفسير: نشأته، تدرُّجه، تطوُّره: 80.

([27]) بنت الشاطئ، الإعجاز البياني في القرآن: 17.

([28]) انظر: المصدر السابق: 244 ـ 245.

([29]) من هذا القبيل: أحمد حسن فرحات، الأمّة في دلالتها العربية والقرآنية؛ د. ناصر العمرو، العهد في القرآن؛ د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، التفسير والتأويل في القرآن.

([30]) انظر: جار الله الزمخشري، الكشّاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 1: 98.

([31]) انظر: برهان الدين البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 1: 12.

([32]) معرفت، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب 2: 1041.

([33]) انظر: محمد هادي معرفت، نقد شبهات: 330 ـ 331.

([34]) انظر: محمد هادي معرفت 3: 200 ـ 204 (باختصار).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً