أحدث المقالات

تجتاح العالم العربي موجة مستمرة من الاحتجاحات بدأت تأخذ طريق الفوضى العشوائية، بعضها تلبس القناع الديني وتؤججها الفتاوي المختلفة والمتناقضة والتي تدعو بعضها إلى ممارسة القتل والفتن والاضطرابات والأحقاد في النفوس وممارسة الرذيلة.

والتأييد والاستجابة التي تجدها تلك الفتاوي من مجموعات متباينة من الناس، على اختلاف مذاهبها، هو نتاج سياسات اتبعت في أجزاء عديدة من العالم العربي، تفاوتت بين تعليم رديء أدى إلى سيادة مفاهيم لا يمكن مناقشتها وسياسات مائعة تجاه التيّارات الدينية المتشددة التي فتح لها المجال الإعلامي والتعليمي. وكانت النتيجة اتجاه الناس إلى أقرب البدائل لنفوسهم وأقلها احتياجًا إلى التفكير أو الجهد العقلي.

والمشكلة ليست سهلة ولا سيما أنّ العملية لها امتدادات تاريخية، فبعد قفل باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري، تراكمت الهوة الرهيبة بين أحكام الفقه التي صبغت وبين الواقع الحي المتغير، ونسى عدد كبير من الفقهاء أن أحكام الدين الحنيف كان القصد منها علاج شرور المجتمع الجاهلي، وكان الواجب يحتم على الأجيال اللاحقة أن تقوم بتطويرها على هدى روح الإسلام وأهدافه السامية البعيدة المدى، والتمييز بين ما هو وقتي عارض وبين ما هو خاضع للتغيير والتطوير ولكن يبدو وربما لأهداف سياسة أو مصلحية معينة، غلبت على بعض الفقهاء الرغبة على التمسك بنفوذهم المستمد من إحاطتهم ببعض أحكام الفقه، وتأثيرهم العاطفي على الناس. و بسبب ذلك لم يتمكن الاتجاه العقلي أن ينمو، فكان أن تجمّد الفقه في قوالب جامدة بعد أن تمّ تجاهل المشاكل المتعاظمة، وحدث اختلاط شديد بين السياسة والفقه وانطلق بعض الناس إلى نوع من النفاق الذي ما زال يلازمنا حيث تتم مناقضة مسلك كثيرين لأحكام الفقه الأصلية أو إيجاد مواجهة صريحة لأصول المشكلة وجذورها وكانت النتيجة أن دخل العرب والمسلمون في منطقة استعصاء ما زالوا محشورين فيها..

 

والحركات الإسلامية المعاصرة على اختلاف مذاهبها، ورثت ثقافة فقه الجمود تلك وبدأت تنشر حالة الجهل بين انصارها وتظهر لها أنّها قادرة على الرد على جميع التساؤلات وعلى إيجاد الحلول لكل المشاكل، وانصارها يتقبلون ما يردد لهم ظاهريًا بسبب الافتقار إلى ثقافة التغيير أو بسسب نقص الثقافة العلمية في مجتمعاتنا. وعبارات الحركات الإسلامية التي تنتقل من جيل لآخر والمحفوظة في قوالب جامدة تسري بين الكثيرين مسرى الحقائق المطلقة التي لا تقبل جدلا أو منافشة. ولا سبيل للخروج منها إلا عن طريق نشر المفاهيم العلمية في المجتمع، بحيث تكون الأفكار ليست تدفقًا من طرف مرسل إلى طرف مستقبل يتلقاها من دون نقاش، بل يكون حوارًا مبنيًا على اطلاع وفكر مستنير, بهذه الطريقة نتمكن أن نغير أحوالنا ونعبر الجسر الفاصل بين ثقافة الجمود إلى ثقافة التغيير.

 

بعض هذه الحركات تردد عبارات ذات تأثير عاطفي هائل على البسطاء، وكنتيجة لذلك تمر هذه العبارات من دون مناقشتها وتتناقلها الألسن محتفظة بمحتواها الهلامي، وتشيع بين الناس وكأنّها حقائق نهائية ثابتة مع أنها في ضوء التحليل العقلي، عبارات مليئة بالغموض والخلط.

 

الحقيقة الصارخة التي أمامنا هي أن الإنسان كائن متغير، ولذلك ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيرة، حقيقة التغير تلك لا يستطيع أي إنسان يحترم عقله وعلمه أن ينكرها. وحقيقة التغير هذه تحتم أن تكون القوانين التي يخضع لها متغيرة، ما دام الإنسان تختلف احتياجاته منذ أن يأتي إلى الأرض مهدا ويذهب إليها لحدا، وما دام الإنسان ذاته قد طرأت عليه تغييرات أساسية في الزمان والمكان، منذ العصور الحجرية حتى عهد الصواريخ، و ما بين حياة الغابات البدائية وحياة الصحراء القاحلة إلى بيئة المدن الكبيرة بكل تعقيداتها.

 

العقل الذي توصل بعلمه ومشاهداته وخبراته واكتشافاته إلى أن الإنسان كائن جوهره التغير ليس من صنع الشيطان، بل العقل الذي وهبه الخالق للبشر، والعلم الذي حضهم عليه ودعاهم إلى التزود فيه من (المهد إلى اللحد)، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة التغير الأساسية التي لا تفلت منها ظاهرة بشرية.

 

إنّ كثيرا ما ينقل إلينا وتردده الألسن ليس من بين معالم الإسلام الإصلية بل هو من بين الزيادات التاريخية التي أضيفت إليها، ولذلك فإننا بحاجة إلى دعوة تأخذ بعين الاعتبار أنّ الكثير مما يعتبر من الشريعة هو من إنتاج اعتبارات تأريخية واجتماعية وسياسية أي من إضافات البشر للبشر من حقب متعاقبة. وبسبب عوامل عديدة تمكنت تلك الاعتبارات والإضافات أن تسدل حجابا كثيفا على جوهر الدين الأصلي وحقائقه الأساسية الخالدة. ومن الجدير بالذكر أن كل عالم ينهي فتواه بعبارة صغيرة ولكنها شديدة المغزى: ” والله أعلم ” أي أن الفتوى في الأخير محدودة برأيه ودرجة علمه واجتهاده و قد تكون ملزمة له فقط، وأنها تحتمل الخطأ والصواب، ومثلما يقول الإمام الشافعي: ” قولي صحيح يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب”.

 

وأي فقه، الذي هو ليس الدين، عبارة عن تفسيرات بشرية التي لا تنشأ في فراغ، وإنما تظهر في مجتمع معين، ويحكم ذلك الفقه عاملي الزمان والمكان اللذين يؤثران على منطلقاته. والتراث الذي يرثه ذلك الفقه تكون له تأثيرات متباينة، فيتراكم عليه المزيد مما هو محلي محض أو إرث حضارات أخرى سادت ثم بادت وكل الأشياء الإضافية و ما تحدثها من تراكمات هي من صنع التطور التأريخي، وليس من صميم الدين ولاصلة أحيانًا بجوهره.

 

وإذا كان الأمر كذلك فإنه يستدعي إيجاد الملاءمة بين الإرث والتقاليد، وبين الحياة التي نعيشها بكل تعقيداتها وبذل جهد للتوفيق بين ما هو مدون في كتب الفقه القديمة وبين مطالب الحياة التي نعيشها وهذا الأمر يحتاج من علماء الدين أن يمدوا ببصرهم ليلقوا نظرة على ذلك الإرث وما أفرزه من التقاليد والموروثات ليدركوا ما هو الأصل وما هي الإضافة، ما هو الخالد وما هو الزائل، ما هو الصالح لكل زمان ومكان وما هو عارض ووقتي، ما إذا كان متعلقًا بتعليمات إلهية، ومذ أن كان مرتبطًا بالسياسة والدنيا والجاه والمنصب جهد لمحاولة النفاذ إلى حقيقة الدين وتنقيته مما علق عليه من الشوائب. وبعد ذلك أن يجمعوا ما استخلصوه من جوهر ثمين ويعرضونه على مجتمعاتهم، ربما ساعد انصراف عدد متزايد من أفرادها عنه وانشغالهم بغير ما ينقل لهم.

 

نحن بحاجة إلى فقه لا يطمس الوقائع و لا يخترعها، وإلى العودة إلى كتابة التاريخ الإسلامي ليس ببطولاته وأمجاده فقط، وإنما أيضا إلى صراعاته وتناقضاته وإلى إلقاء نظرة إلى التراث لا باعتباره وسيلة للهرب للماضي من المشكلات والتحديات والإحساس بالوهم الزائف، وإنما كوسيلة للتصدي لمشكلات الحاضر والمستقبل، وإلى غرس إيمان بأبنائنا قائم على حقهم بالتكيف مع متغيرات الحياة، بعيدين عن الخرافات ما داموا متمسّكين بالقضايا الجوهرية للدين الحنيف، تلك الخرافات التي ظلّت دائمًا ولا تزال من دواعي حيرة كل من ينال حظًا يسيرًا من الفهم والإدراك أو قدرة على النقد والتحليل. جهد لصرف طاقاتهم الذهنية الخلاقة لا إلى الخلافات الفقهية العقيمة وإنما إلى محاولة لزرع بذور السعادة على الأرض وبناء مفهوم المواطنة الحقة وإلى زياده الثروة وتعميم الرخاء عن طريق الاهتمام بالعلوم والفنون الجميلة وكل العلوم الإنسانية.

 

علينا أن نساهم في حل مشكلات الحاضر وتمتين أواصر الوحدة الوطنية وإلقاء نظرة إلى الغد والتطلع نحو المستقبل ونمد بصرنا لنصل إليه ولا نبقى أسرى للماضي والحاضر أو أن يظل بصرنا معلقًا أسيرًا محجوزًا في الماضي والحاضر ولا يتمكن أن يتجاوزهما ولو بالنظر.

 

المستقبل أولى بالاهتمام وأحق بالرعاية. وإذا كان الماضي حياة آبائنا وأجدادنا والحاضر حاضرنا فإنّ المستقبل هو لأبنائنا وأحفادنا. ماذا نريد لهم أو نعمل من أجلهم. والعالم المتغير يمكن أن يتغير وأن يتقدم لأنّ الناس فيه يستطيعون الإطلال بالفكر على المستقبل وإدراك احتمالاته وتوخى مفاجآته وبلوغ غاياته وذلك يستحق التضحية وتحمل المشاق المحسوبة، لقد عاش أجدادنا حياتهم فلنعش نحن أيضًا حياتنا

 

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً