أحدث المقالات

الشيخ أحمد عابديني(*)

 

مقدّمة

من المسائل المبتلى بها في عصرنا الحاضر مسألة نجاسة الكلاب؛ إذ للأوروبيين؛ لعللٍ ليس هنا مجال ذكرها، كلابٌ تمشي معهم في الشوارع والأسواق. وكثيراً ما نرى أن الكلب يدخل في الماء، أو تمطر السماء عليه، ثم يحرّك الكلب نفسه، ويرشّ الماء إلى مكانٍ بعيد، ويصيب أفراداً كثيرين. وأوّل سؤال يرد في الذهن هو: هل كلّ الكلاب أنجاس ذاتاً؟

وعلى فرض كونها جميعاً نجسةٌ ذاتاً فمعلومٌ أنّ لعاب فمها أيضاً نجسٌ بلا رَيْب، ولكنْ يمكن أن نسأل: هل شعرها وظفرها ونحوهما أيضاً نجسٌ، أو بما أنّها لا تحلّها الحياة فهي طاهرةٌ؟

وأمّا إذا شكَّكنا في نجاستها الذاتيّة كلِّها فنسأل: هل أنّها طاهرةٌ كسائر الحيوان، أو أنّ لعابها نجسٌ؟

فهنا موارد من البحث يلزم أن نتعرّض لها واحداً بعد آخر.

أوّلها: هل الحكم بالنجاسة لكلّ الكلاب أو يمكن التفصيل بين الكلاب، فنفرّق بين الكلب الهراش والعقور وبين الكلاب المفيدة، ككلب الصيد والحائط والبستان؟

والذي يلزم أن نتعرّض له في الابتداء هو ماذا يلزم أن نعمل في تعارض الإطلاقين أو تعارض العموم والإطلاق. فإذا كان عندنا عمومٌ بأنّ كلّ شيء طاهرٌ إلاّ الكلب والبول والروث من غير مأكول اللحم و…. وكانت الأدلة مطلقةً بالنسبة إلى الكلب، وليس لها عمومٌ، فشككنا في أنّه يشمل كلّ الكلاب أو الكلاب الهراش أو العقور أو ما شابههما، فهل يُقدّم عموم الطاهر في المستثنى منه، بحيث يشمل كلب الصيد ونحوه، أو يُقدّم إطلاق المستثنى، فيُحكم بنجاسة جميع الكلاب، أو نسكت في مورد التعارض؟ وعندها هل نرجع إلى العامّ الفوق؟ وما هو العامّ الفوق؟

 

قاعدة الطهارة

الذي لا شكّ فيه ولا ريب أنّ القاعدة الأوّلية هي الطهارة، فكلّ شيء طاهرٌ واقعاً إلاّ ما أخرجه الدليل. فالذي يدّعي الشيعة إقامة الدليل على نجاسته عشرة موارد أو أكثر، ولكنّ أهل السنّة يرَوْن نجاسة أربعة منها، ويختلفون في بعضٍ آخر، ولكن لا يصل كلّ ما يعدّونه نجساً إلى السبعة، فضلاً عن العشرة أو الأكثر.

وفي بداية المجتهد ما ملخَّصه: اتّفق العلماء من أعيانها على أربعة:

1ـ ميتة الحيوان ذي الدم…

2ـ لحم الخنزير.

3ـ الدم المسفوح.

4ـ بول ابن آدم ورجيعه([1]).

«وقال الشوكاني: النجاسات هي غائط الإنسان مطلقاً، وبوله، ولعاب الكلب وروثه، ودم الحيض، ولحم الخنزير. وفي ما عدا ذلك خلافٌ»([2]).

وفي الفقه على المذاهب الأربعة: أمّا الأعيان النجسة فكثيرةٌ، منها: ميتة الحيوان البرّي غير الآدمي، ومنها: أجزاء الميتة التي تحلّها الحياة، ومنها: الكلب، والخنزير([3]).

وفي هامشه تحت الخطّ قال: المالكية قالوا «كلّ حيٍّ طاهر العين ولو كلباً. ووافقهم الحنفية على طهارة عين الكلب ما دام حيّاً، إلاّ أنّهم قالوا بنجاسة لعابه حال الحياة»([4]).

إذن فأهل السنّة مختلفون في نجاسة الكلب وعدمه، وفي نجاسة لعابه وعدمه. ولكنّ الشيعة متّفقون إجمالاً على نجاسته.

ولكنّ الصدوق&([5]) قال بطهارة كلب الصيد، والسيد المرتضى وجدّه قالا بطهارة ما لا تحلّه الحياة منها([6]).

إذن فنجاسة الكلب مختلَفٌ فيها بين المسلمين، ونجاسة كلّ أصناف الكلاب وكل أعضائها مختلَفٌ فيه عند الشيعة خاصّة.

فإنْ وجدنا دليلاً على نجاسة الكلاب كلّها فنقول بها، ولكنْ إذا لم نجد دليلاً تامّاً فبمقتضى قاعدة الطهارة نقول بطهارتها. وإنْ وجدنا دليلاً على نجاسة الكلب إجمالاً، أو بعض الكلاب بصورةٍ احتملنا أنها قضية شخصية، أو وجدنا دليلاً على نجاسة مطلق الكلاب بصورة احتملنا أنّها قضية شخصية، أو وجدنا دليلاً على نجاسة مطلق الكلاب ولكن احتملنا أن يكون الدليل موسميّاً، لا مطلقاً شاملاً لكلّ عصر وزمان، أو لم يكن إطلاقه يشمل كلّ الكلاب، ففي كلّ هذه الصور فالمحكَّم هو قاعدة الطهارة أو أصالتها.

 

الأدلّة الدالّة على نجاسة الكلب، ومدى دلالتها

من الواضح أنّ العقل لا يدلّ على هذه الأمور الجزئيّة. ولو دلّ لدلَّ على طهارة الكلب بقياس الأولوية؛ إذ لو كان الذئب وابن آوى والثعلب والأسد و… طاهرةً فطهارة الكلب أَوْلى؛ لأنّه قابلٌ للتربية والتدريب، وله وفاءٌ خاصّ، وأيضاً هو موجود في حياة الناس لصيدهم وبستانهم وبيتهم، وغير ذلك، وليس بسبع ضارٍ، بل مؤدّب معلّم، فالشريعة السهلة السمحة تعطي طهارته، لا نجاسته.

وكتاب الله ليس فيه شيء يدلّ على نجاسة الكلاب، بل فيه مدحٌ لبعض الكلاب، كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ (الكهف: 18)، وعدّها كما يُعدّ غيرها، كقوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ (الكهف: 22).

وفي سورة المائدة ما يشمّ منها طهارة بعض أصناف الكلب؛ إذ قال: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 4)؛ إذ لو كانت كلّ الكلاب أنجاساً، ويشمل كلب الصيد أيضاً، لكان عليه أن يقول: كُلُوا ممّا أمسكْنَ عليكم بعد غسله، فكما ذكر «اسم الله»، ولم يتركه لوضوحه، كان عليه أن يذكر نجاسته، ولا يتركه لوضوحه. فقول بعضهم: (لا إطلاق) قابلٌ للنقاش. فالقرآن أيضاً لو دلّ لدلَّ على طهارة الكلب إجمالاً.

أمّا الإجماع فقد ادُّعي الإجماع في الكتب الفقهية الشيعية على نجاستها، بحيث ادَّعى صاحب الجواهر أنّ نجاستها من ضروريّات المذهب، حيث قال: وللإجماع المحصَّل، بل ضرورة المذهب، والمنقول في الخلاف، وعن غيره على الكلب([7]).

وفي مستمسك العروة: «إجماعاً، كما عن الغُنْية والمعتبر والمنتهى والتذكرة والذكرى وكشف اللثام وغيرها»([8]).

وفي تنقيح العروة: «وأمّا الكلبُ فلا إشكال في نجاسته عند الإماميّة في الجملة»([9]).

فوجود الإجماع ممّا لا شكّ فيه. ولكنْ هل الإجماع منعقدٌ على الكلاب، حتّى كلب الصيد، وعلى كلّ الحالات حتّى مثل يومنا هذا، الذي نرى فيه تنظيف الكلاب وغسلها، ولها دكاترة خاصّة، وأغذية خاصّة؟ وأيضاً ـ وهذا هو المهمّ لدى الفقيه ـ هل الإجماع تعبُّديّ أو مستنده الأخبار التي بأيدينا؟

الذي نظنّه بل نطمئنّ به ـ وإنْ كان احتماله أيضاً يكفي، فضلاً عن ظنّه ـ أنّه ليس عندهم شيءٌ آخر غير هذه الأخبار الموجودة في كتبنا الروائيّة. فالإجماع لا يكون دليلاً مستقلاًّ تعبُّدياً، بل ناشئٌ عن الأخبار، أو إنّ للأخبار في انعقاده دوراً أصليّاً.

فالإجماع مدركيّ. وعلينا أن نلاحظ مدركهم. وأيضاً نحن شاكُّون في إطلاق الإجماع؛ لأنّه دليلٌ لبّي لا إطلاق له؛ إذ من المحتمل أنّ إجماعهم كان على الكلب العقور والهراش، والكلاب الوسخة المسبِّبة للأمراض، دون الكلاب النظيفة المربّاة اليوم. فدلالة الإجماع بمفرده على نجاستها غير تامّة.

 

الأخبار

الأخبار ـ وهي العمدة في نجاسة الكلب ـ على طوائف، فيلزم أن نتكلَّم حولها بالتفصيل.

 

الأولى: ما يدلّ على أنّه رجسٌ نجس

1ـ الفضل أبو العبّاس البقباق قال: سألتُ أبا عبد الله× عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع، فلم أترك شيئاً إلاّ وسألته عنه، فقال: لا بأس به، حتّى انتهيت إلى الكلب؟ فقال: رجسٌ نجسٌ، لا تتوضّأ بفضله، واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أوّل مرّة، ثم بالماء([10]).

2ـ معاوية بن شريح قال: سأل عذافر أبا عبد الله×، وأنا عنده، عن سؤر السنّور والشاة والبقر والبعير والحمار والفرس والبغال والسباع، يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال: نعم، اشرب منه وتوضّأ، قال: قلتُ له: الكلب؟ قال: لا، قلت: أليس هو بسبعٍ؟ قال: لا، واللهِ إنّه نجسٌ، لا، واللهِ إنّه نجسٌ([11]).

ونظيره عن معاوية بن ميسرة، عن أبي عبد الله([12]).

أقول: الروايات كالصريحة في نجاسة سؤر الكلب، وبالتالي في نجاسته، ولا سيّما عندما نرى أنّ الإمام× صرَّح بالتفاوت بين سؤر الكلب وغيره، وبما أنّ سؤر سائر الحيوانات نظيفٌ شرعاً فسؤر الكلب نجسٌ شرعاً، ولو لم يَرَه العُرْف نجساً.

ولكنْ أوّل ما في الذهن هو أنّ الأصحاب لماذا سألوا عن نجاسة الكلب بهذه الصورة؟ ولماذا أجاب الإمام× بالقَسَم باسم الجلالة؟ وهل هو من المسائل المهمّة المحتاجة إلى القَسَم؟

عندما نطالع الجوّ الفقهيّ آنذاك نشعر أنّ الجوّ الغالب كان للحنفية والمالكية، والمالكيّ أفتى بطهارة كلّ حيوان، وأبو حنيفة أفتى بطهارة غير الخنزير([13])، فكان حقّاً لأصحاب الأئمّة^ أن يشكُّوا في نجاسة الكلب بعد ما رأَوْا فتوى هذَيْن العَلَمَين. وأيضاً كان العُرْف ـ وكذا الأصحاب ـ لا يرَوْن نجاسة عُرْفية للكلب أكثر ممّا كانوا يرَوْن في سائر السباع. فالفتوى بطهارة الكلب كانت موافقةً للعُرْف، ولا سيّما آنذاك، حيث حياة البدوي تقتضي وجود الكلب معهم في الصحارى وأطراف البيوت والخِيَم وغير ذلك. فلو كان الصادق× يفتي بنجاسة الكلب دون أيِّ دليلٍ مقبول عند العُرْف فإنّ هذا تشجيعٌ للعُرْف البسطاء على أن يميلوا إلى فقه أهل السنّة. فبدأ الصادق× بالهداية والإرشاد؛ ثم قال مؤكِّداً، وبعد القسم باسم الجلالة: إنّه رجسٌ، حتّى يوقِظ الناس من النوم، الذي يرَوْن فيه طهارة الكلب، وأنّه مثل سائر السباع، ولا يلتفتون إلى قذارته ورجسه.

فقوله×: رجسٌ نجسٌ ليس بياناً لحكمٍ فقهيّ، بل هو بيانٌ للقذارة العرفيّة حتّى يفهم الناس. فلهذا يحتاج إلى قسمٍ وتأكيد، حتّى يقبله العُرْف العامي والشيعة البسطاء. وأيضاً مرّ منّا في البحث عن طهارة الإنسان الذاتيّة تحقيق حول كلمتَيْ «الرجس» و«النجس»، وبيَّنّا هناك أنّ هذين اللفظين كانا يستعملان في القذارة العُرْفية، ولم ينقلا إلى المعنى الشرعيّ حتّى في زمن الصادقين’، وأنّهما كانا يستعملان في المعنى العُرفيّ، دون الشرعيّ.

فطهارة الكلب أو نجاسته يلزم أن يفهم من دليلٍ آخر. فالكلب رجسٌ أو نجس نظير قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة: 28)، أو نظير قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصابُ وَالأَْزْلامُ رِجْسٌ﴾ (المائدة: 9).

مع أنّا بحثنا سابقاً وقلنا بعدم دلالة الآية على نجاسة المشركين. وأيضاً من الواضح عند الجميع بأنّ الميسر ليس نجساً فقهياً، بحيث ينجّس الثوب الملاقي له رطباً.

فهاتان الروايتان،  ولا سيّما الثانية، تدلاّن على نجاسة الكلب العُرْفية.

الإشكال: ما الفرق بين النجاسة العُرفية والشرعيّة؟

الإجابة: النجاسة الشرعية رفعُها بيد الشارع، فعلينا أن نطالع كيف يرفع النجاسة؟ وأيضاً مقدار تنجيسها بيد الشارع؛ ولكنّ النجاسة العرفية رفعُها وتنجيسها كلّه بيد العُرْف.

فإذا كان الكلب نجساً عُرفاً، والعُرف لم يرَ نجاسةً للماء المنتثِر من الكلب الممطور، فالماء المصيب للشخص ليس نجساً؛ ولكنْ إذا قلنا بأنّه نجسٌ شَرْعاً فالماء المنتثِر منه نجسٌ بحكم الشَّرْع.

 

الثانية: ما يدلّ على أنّ الله لم يخلق خلقاً أنجس منه

3ـ عن بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن محمد بن القاسم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله× قال: لا تغتسِلْ من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام؛ فإنّ فيها غسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب، وهو شرُّهما؛ إنّ الله لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإنّ الناصب أهون على  الله من الكلب([14]).

4ـ …عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله× ـ في حديث ـ قال: وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام؛ ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت، وهو شرّهم؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه([15]).

أقول: لفظ «أنجس» في الخبرَيْن ليس بمعنى النجس الفقهيّ الشرعي؛ إذ في الفقه لا يوجد «أنجس»، بل الشيء إمّا طاهرٌ أو نجسٌ. وأيضاً الناصب الذي هو أهون أو أنجس من الكلب نحن تكلَّمنا حوله في البحث عن طهارة الإنسان الذاتيّة، وقلنا هناك بأنّ كلّ إنسانٍ طاهرٌ ذاتاً، فالذي نجاسته أقلّ من الناصب لأهل البيت هو طاهرٌ بالأولويّة القطعيّة.

والذي يهمُّنا هو أنّ الخبرَيْن في الواقع خبرٌ واحد؛ لاتّحاد الراوي والمروي عنه والمضمون؛ «فأهون على الله» هو نفس «لأَنجس منه». وعلى أي حالّ هناك تناقضٌ صريح في كلام الإمام لا يمكن رفعه بسهولة، وهو أنّ الإمام× قال: «إنّ الله لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب»، فبعد هذا لا معنى لقوله: الناصب أنجس منه، أو أهون على الله منه.

ولا يمكن حلّ التناقض إلاّ بأنْ يُقال: إنّ الإمام× كان في صدد إيجاد النفرة والإزعاج في قومٍ من الشيعة والسنّة الجهلاء. الذين كانوا يعتقدون أنّ في ماء البالوعة أو غسالة الحمّام شفاءٌ من العين، وكانوا يغتسلون في البئر البالوعة من الحمّام([16]). فزجرهم الإمام×، ونهاهم، واستدلّ عليهم، وقال: الشفاء من الله، والماء بنفسه ليس فيه شفاء. فإذا أصاب الماء بدن اليهودي أو النصراني أو بدن ولد الزنا أو الناصب ـ أي العدوّ للأئمّة الأطهار ـ فكيف يصبح قابلاً للشفاء؟!

فنجاسة الناصب أو الزاني أو الكلب نجاسة معنويّة، منافية للشفاء، لا نجاسة ظاهريّة.

وعلى هذا لا إشكال في أنْ يكون الشيء أنجس معنويّاً من الآخر. كما يمكن أن يكون شيءٌ أطهر من الآخر.

هذا كلّه بعد صحّة السند لهذين الخبرين. ولكنْ أنت خبيرٌ بأنّ الأوّل مرسلٌ، والثاني منقولٌ عن علل الشرائع، الذي هو ليس في الفقه بمثابة الكتب الأربعة قيمةً.

 

الثالثة: ما يدلّ على وجوب غسل ما مسَّه الكلب برطوبةٍ

5ـ عن الفضل أبي العباس قال: قال أبو عبد الله×: إذا أصاب ثوبَك من الكلب رطوبةٌ فاغسِلْه، وإنْ مسّه جافّاً فاصبب عليه الماء، قلتُ: لمَ صار بهذه المنزلة؟ قال: لأنّ النبيّ| أمر بقتلها([17]).

6ـ حمّاد، عن حريز، عمَّنْ أخبره، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عن الكلب يصيب الثوب؟ قال: انضحه، وإنْ كان رطباً فاغسله([18]).

7ـ عن القاسم، عن عليّ، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عن الكلب يصيب الثوب؟ قال: انضحه، وإنْ كان رطباً فاغسله([19]).

8 ـ حمّاد، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الكلب يصيب شيئاً من الجسد؟ قال: يغسل المكان الذي أصابه([20]).

أقول: يمكن أن ترجع الأخبار الأربعة إلى خبرٍ واحد، وهو صحيحة الفضل أبي العبّاس، مع زيادة؛ ويمكن أن لا نرجعه. والذي يهمّنا هو أنّ صحيحة الفضل ذات تعليل، والعلّة تعمِّم وتخصِّص، فبالنتيجة صنف من الكلب الذي أمر رسول الله بقتله هو النجس، لا كلّ الكلاب؛ إذ إنّه| لم يأمر بقتل كلب الصيد، ولا كلب الماشية، ولا ما شابههما، بل جعل لقتل كلّ واحدٍ دية.

فالكلب الهراش أو العقور، الذي أُمر بقتله، إذا أصاب الثوب منه شيءٌ فيجب غسله. ووجوب غسل الثوب يدلّ على نجاسة هذا الصنف من الكلب.

والنتيجة أنّ هذه الطائفة تدلّ على التفصيل بين الكلاب في النجاسة وعدمها.

 

الرابعة: ما يدلّ على وجوب غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أو شرب منه

9ـ محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله× قال: سألتُه عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء([21]).

10ـ حريز، عمَّنْ أخبره، عن أبي عبد الله× قال: إذا ولغ الكلب في الإناء فصبَّه([22]).

11ـ صحيحة الفضل أبي العباس أيضاً مرَّت في ضمن الطائفة الأولى([23]).

أقول: وجوب غسل الإناء أمرٌ لا اختلاف فيه بين المسلمين، حتّى المالكي وأبو حنيفة القائلان بطهارة الكلب؛ إذ الأوّل يقول بوجوب غسله تعبُّداً، والثاني يرى لعاب الكلب نجساً.

فوجوب الغسل لا يدلّ على النجاسة في رأي المالكي، ولكنْ في رأي غيره يدلّ عليها بلا ريب.

وعليه فلعاب الكلب نجسٌ، ولكنّ هذا لا يدلّ على نجاسته الذاتيّة؛ إذ يمكن أن يكون للعابه خصوصية، كالبول والروث، ولا سيّما عندما يخبر العلم الجديد عن الميكروبات فيه. ولكنّ نجاسة لعابه لا تدلّ على نجاسة بدنه، ولا سيّما عندما يطهَّر جسده بالصابونات المخصوصة، فجسد الكلب كسائر الأجسام والجمادات يصبح نظيفاً، ولكنّ لعابه الخارج من باطنه يبقى على حاله النجسة.

والنتيجة أنّ هذه الطائفة تدلّ على نجاسة لعابه، لا نجاسة جسده. ولكنْ بالنسبة إلى التفصيل بين أصناف الكلب لم يأتِ بشيءٍ.

فما قُلتُه في كتاب طهارة الإنسان الذاتيّة من أنّ السؤال عن السؤر كان في الواقع سؤالاً عن الطهارة الذاتيّة وعدمِها يحتاج إلى زيادة توضيحٍ، وهو أنّ طهارة السؤر تدلّ على طهارة الجسد، ولكنّ نجاسته لا تدلّ على نجاسة الجسد.

 

ما دلّ على طهارة الكلب، ولو بعضاً أو احتمالاً

الذي يقول بطهارة شيءٍ لا يحتاج إلى دليلٍ؛ إذ كلامه مطابقٌ للقاعدة، ولكنّ الذي يدّعي نجاسة شيء فعليه أن يأتي بدليلٍ. فبعد النقاش في أدلّة نجاسة الكلب ظهر أنّ لعاب بعض الكلاب أو كلّها نجسةٌ، وظهر أنّ جسد بعضها أيضاً نجسٌ، ولكنّ نجاسة اللعاب أو الجسد منها جميعاً يحتاج إلى دليلٍ إضافيّ، ولا يوجد.

1ـ ويؤيِّد الطهارة ـ ولو في بعضها ـ قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 4)؛ إذ إمساك الصيد لا يمكن إلاّ بالمخلب والعضّ وما شابههما، والله لم يأمر بغسله منهما، كما أمر بذكر اسم الله، فلو كان لازماً يجب ذكره.

الإشكال: لم يأمر بغسل الدم الخارج من الحيوان أيضاً، مع أنّه حرامٌ أكله ونجسٌ، والاصطياد ملازمٌ لخروج الدم دائماً.

الإجابة: أعلن حكم الدم في الآية السابقة عليه، وقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ (المائدة: 3). وأيضاً أعلن ذلك في مواضع أُخَر من القرآن، وأمّا بالنسبة إلى نجاسة الكلب أو فمه فلم يقُلْ شيئاً، لا في سورة المائدة ولا في غيرها.

الإشكال: الإطلاق هنا ليس في مقام البيان من هذه الحيثية.

الإجابة: القرآن حجّة، بل من أعلى الحجج، فما دام لم يرِدْ دليلٌ قرآني أو عقلي أو نقليّ مخالف لإطلاقه فإطلاقه محكَّم، ولا سيّما بعدما رأينا أنّ أدلّة نجاسة الكلب لم تكن تامّةً، ولا عامّةً، بل هي مجملةٌ جدّاً.

2ـ ويؤيِّد الطهارة أيضاً ما عن سعيد الأعرج قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الفأرة والكلب يقع في السمن والزيت، ثم يخرج حيّاً؟ فقال: لا بأس بأكله.

فيظهر منه أنّ بدن الكلب طاهرٌ، بحيث بعد أن وقع في الزيت وخرج حيّاً فالزيت يُؤكَل.

ولكنّ الإشكال الذي يأتي في الذهن أنّ الفأرة تقع في الزيت كثيراً، ولكن وقوع الكلب فيه بعيدٌ، غايته أنّ الزيت والسمن كان في الخابية غالباً، لا في الحياض الكبيرة.

فنظنّ أنّ لفظ «الكلب» غلطٌ هنا. ويؤيِّده أنّ الشيخ& في التهذيب أيضاً لم يأتِ بـ «الكلب»([24]). فلذا لم نستدل به، بل جعلناه مؤيِّداً. وأضبطيّة الكليني&، وأصالة عدم الزيادة، مفيدٌ لرفع الشكّ، لا لنفي الظنّ والاطمئنان.

3ـ ويؤيِّد الطهارة أيضاً صحيحة ابن مسكان، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عن الوضوء ممّا ولغ فيه والسنّور، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم، إلاّ أن تجد غيره، فتنزَّهْ عنه([25]).

والوجه في اعتباره مؤيِّداً، لا دليلاً، أنّه يمكن أن يكون الماء كثيراً كرّاً وما فوقه؛ بقرينة شرب الجمل أو الدابّة منه؛ إذ المتعارف شربه من الغدران وما شابهه، فـ «ما» في «ممّا ولغ الكلب فيه» ليس منحصراً بالإناء وما شابهه، بل منصرفٌ عنها.

ولكنْ في مقابل هذه المؤيِّدات صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الكلب السلوقي؟ قال: إذا مسَسْتَه فاغسِلْ يدك([26]).

والسلوق قريةٌ باليمن أكثر كلابها كلاب صيد معلَّمة، فينسب إليها كلّ كلب صيد مجازاً. وهذا ظاهرٌ في نجاسة كلب الصيد، وبه يُجاب عن كلّ المؤيِّدات.

أقول: أوّلاً: ليس معلوماً أنّ المسّ وقع برطوبة؛ إذ اليد والكلب كلاهما جافّان طبعاً، فإثبات وجود الرطوبة مشكِلٌ، وبدونها تكون الرواية حكماً تنزيهيّاً.

ثانياً: إنّ الكلاب التي كانت مورداً لبحثنا فعلاً هي غير كلاب الصيد السلوقي؛ إذ الكلاب التي في عصرنا ، وهي محلٌّ للابتلاء، كلابٌ نظيفةٌ لها دكاترة خاصّة، وحمّامات خاصة، و…، بينما كلاب السلوق كانت معلَّمة فقط، من دون تنظيف ورعاية أمور صحّيّة.

فمع هذا كلّه تبقى حال الشكّ بالنسبة إلى الكلاب المربّاة اليوم على حالها.

 

الأصل العملي: أصالة الطهارة

مرّة ينظر الفقيه إلى هذه الأمور بملاحظة العالم الخارجي ـ أي الشعب الأوروبي وأنسهم مع الكلاب الخاصّة، وأخذها معهم في الشوارع والأبنية، وأنّه يرى كلاباً نظيفاً لها دكاترة خاصّة، والصابون الخاصّ، وكذا الحمّامات الخاصّة، ولها رواتب معيّنة دولية، ولها تربية خاصّة، و… ـ فيطمئن بأنّ صنفاً خاصّاً من الكلب طاهرٌ؛ إمّا للأدلّة التي مرَّت؛ أو للنقاش في أدلّة النجاسة، فيفتي بطهارة صنفٍ، ونجاسة ما بقي منها؛ وأخرى لا يرى هذه الأدلّة بشيءٍ، ويتيقَّن أنّها مخدوشةٌ، ويرى أدلّة نجاسة جميع الكلاب في كلّ الأزمنة تامّةً، وأنّها من سنخٍ لا تصلها ولا تمسّها بحوث الثابت والمتغيِّر أو موسميّة الروايات، فهو أيضاً في فسحةٍ، ويفتي بنجاسة كلّ ما يُسمّى كلباً.

وثالثةً يشكّ في نجاسة بعض الكلاب ـ كما شككنا ـ، سواءٌ بعد الاطمئنان بطهارة البعض أو مطلقاً، فيصل الدَّوْر إلى الأصول العملية.

والأصل الحاكم ليس استصحاباً؛ إذ ليس شكُّنا في كلبٍ كان نجساً، بل شكّنا في دلالة الدليل، وأنه هل يستفاد منه نجاسة الجميع أو لا؟ وبعبارة أخرى: هل الأدلة على تخصيص قاعدة الطهارة كانت تامّة أو لم تكن؟ أو أنّ المخصِّص المنفصل الذي خصَّص القاعدة خصّصها بحيث أخرج كلّ الكلاب أو أخرج بعضها ـ الواجب قتلها ـ فقط؟ فهذا يصبح نظير: «أكرم العلماء»، و«لا تكرم الفسّاق من العلماء»؛ فإذا كان المكلَّف شاكّاً في أصل صدور الثاني أو في مفهوم الفسّاق، وأنّه هل يشتمل المرتكب للصغائر أو ينحصر في مَنْ يرتكب الكبائر؟ في هاتين الصورتين المحكَّم هو عموم أكرم العلماء.

ففي ما نحن فيه أيضاً المحكَّم هو قاعدة الطهارة. فالكلاب التي نشكّ في طهارتها داخلةٌ تحت عموم قاعدة الطهارة.

إشكال: ما الفرق بين مَنْ تيقَّن بطهارة بعض الكلاب ومَنْ شكّ في طهارتها؟

الإجابة: الذي تيقَّن أو اطمأنّ يحكم بالطهارة الواقعيّة لذاك البعض، ولكنّ الذي يشكّ يحكم بالطهارة الظاهرية، لا الواقعيّة، ولكنْ في العمل لا اختلاف بينهم.

وعلى أيّ حال فنحن في فسحةٍ في أن نفتي بطهارة جسد الكلاب المعلَّمة، طبقاً للأصل أو القاعدة، ووجوب الاجتناب عن لعاب فمها.

الهوامش:

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في إصفهان، من إيران.

([1]) راجع: ابن قدامة، المغني 2: 20.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 13.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 73.

([6]) راجع: مختلف الشيعة 1: 313، نقلاً عن: المسائل الناصرية: 218.

([7]) جواهر الكلام 5: 366.

([8]) مستمسك العروة الوثقى: 3631.

([9]) تنقيح العروة 3: 31.

([10]) تهذيب الأحكام 1: 225، ح29؛ الاستبصار: 191، ح2.

([11]) تهذيب الأحكام 1: 225، ح30؛ الاستبصار 1: 19، ح3.

([12]) الاستبصار 1: 19، ح4.

([13]) راجع: الفقه على المذاهب الأربعة 1: 10، 13.

([14]) راجع: وسائل الشيعة، الباب 11 من أبواب الماء المضاف، ح4، 5.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) نفس الباب، ح3.

([17]) تهذيب الأحكام 1: 261، ح46، 43، 44، 45.

([18]) المصدر نفسه.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) المصدر نفسه.

([21]) تهذيب الأحكام 1: 225، ح27، 28، 29.

([22]) المصدر نفسه.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) تهذيب الأحكام 9: 86، 97.

([25]) تهذيب الأحكام 1: 226، 32.

([26]) الكافي 6: 553، ح12.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً