أحدث المقالات

ـ قراءة تقويميّة نقديّة ـ

حيدر حب الله([1])

تمهيد

تعدّ هذه النظريّة من النظريات الأكثر شهرةً بين المتأخّرين من علماء الرجال، بل وبين المتقدّمين كما قالوا، وقد عبّر عنها تارةً بنظريّة كفاية تزكية العدل الواحد، وأخرى بحجيّة قول الرجالي على الرواية، وثالثة بحجيّة قول الرجالي وفقاً لنظريّة حجية خبر الواحد الثقة، وذهب إليها جماعة من العلماء([2]).

والصياغة الأشهر لهذه النظريّة أن يقال: قد ثبت لدينا في علم أصول الفقه أنّ خبر الواحد الثقة الظنّي حجّة ومعتبر، فنأخذ هذه القاعدة الأصوليّة الكبرويّة ونطبّقها في علم الرجال؛ حيث نجعل إفادات علماء الرجال بمثابة إخبارات من ثقات وعدول، هم النجاشي والطوسي والبرقي وغيرهم، أو البخاري والرازي وابن سعد و.. فنأخذ بقولهم من هذا الباب، ويُعتمد عليهم حينئذٍ.

6 ـ 1 ـ المعالم العامّة لحجية قول الثقة في مجال علم الرجال

وتقوم هذه النظرية على معالم أساسيّة، أبرزها:

1 ـ إنّ إخبارات علماء الرجال تكون حجةً إذا كانت عن حسّ لا عن حدس؛ لأنّ دليل حجية خبر الثقة يعطي الحجيّة له من باب الحسّ، ولا يشمل دليل الحجيّة إخبارات الحدس والنظر عند الثقة، كما قرّر ذلك في علم أصول الفقه.

2 ـ وعلى هذا الأساس، جرى عند بعض أنصار هذا الفريق التمييزُ بين علماء الرجال؛ حيث قسّموهم إلى المتقدّمين والمتأخّرين، وذكروا أنّ المتقدّمين يمكن الاعتماد على قولهم، مثل النجاشي والطوسي والمفيد وبني فضال؛ لأنّهم حصلوا على معلوماتهم عن طريق الحسّ، على خلاف المتأخّرين ـ كالعلامة الحلّي ـ الذين لا يملكون معلوماتٍ حسيّة إضافية، وإنما حالهم مثلنا في أنّهم نظروا واجتهدوا في وثائق الحقبة المتقدّمة، فلا يشملهم دليل حجيّة خبر الثقة.

وليس بأيدينا من تعيين زمني قاطع، متى بدأت المرحلة الحدسيّة، لكنّ المعروف بينهم ـ فيما يبدو ـ هو الشيخ الطوسي (460هـ)؛ لهذا تراهم يتعاملون مع أيّ وثيقة تأتيهم من عام 460هـ وما قبل، تعاملَهم مع الخبر الحسّي؛ أما ما يأتيهم من المرحلة اللاحقة على هذا الزمان، فهم يرونه حدسيّاً لا قيمة له، مثل ما جاء في كتب الشيخ منتجب الدين وابن شهرآشوب وابن داود الحلي والعلامة الحلي وابن طاوس فضلاً عن المتأخّرين بعد ذلك، إلا إذا كانت شهادة هؤلاء متعلّقة بأمر حسّي، كأن يشهدوا على شخص معاصر لهم أو قريب عهد، وهذا يحصل ـ كما يقول السيد الخوئي ـ مع مثل منتجب الدين وابن شهرآشوب، ويتلاشى بعدهما حيث تهيمن الحدسيّة هيمنةً تامّة.

والشاهد على هذا كلّه ـ بحسب رأي السيد الخوئي ـ أنّ الجميع يرجع إلى الشيخ الطوسي، فهو حلقة الاتصال بين المتقدّمين والمتأخّرين([3]).

وسوف يأتي ـ بعون الله تعالى ـ التعرّض لنظريّات توثيق المتأخّرين.

3 ـ لا يشترط التعدّد هنا، بل يكفي إخبار أحد علماء الرجال؛ لأنّ دليل حجيّة خبر الثقة لا يشترط التعدّد، على خلاف دليل حجية البيّنة.

4 ـ لا يشترط حصول اليقين أو الاطمئنان من أقوال الرجاليّين؛ لأنّ دليل حجيّة خبر الثقة يعطي الحجيّة له ولو أفاد الظنّ فقط، كما عليه المشهور، خلافاً لمن أخذ الاطمئنان في حجيّة خبر الثقة([4])، وهو الحقّ، كما فصّلناه في مباحث حجيّة الحديث من علم أصول الفقه.

5 ـ لا يشترط في الأخذ بأقوال الرجاليّين كونهم من أهل الخبرة؛ فيكفي كونه متقدّماً تحتمل فيه الحسيّة أو تستظهر، ثم يَحْكُم بأمر يتعلّق بالرجال، فنأخذ بقوله؛ من هنا لا فرق بين النجاشي الخبير في علم الرجال وبين الشيخ الصدوق الذي يقال عنه: إنّه مقلِّد في الرجال لأستاذه ابن الوليد، أو حتى للكليني الذي لم نرَ له أيّ مساهمة رجاليّة واصلة إلينا معتدّ بها، أو للسيد المرتضى غير المعروف بالحضور في محافل هذا العلم.. وهكذا، وذلك أنّ دليل حجيّة خبر الثقة يعطي الحجيّة لخبر مطلق الثقة، بل إعمال الحدسيّة الغالبة في مجال أهل الخبرة يضرّ بشهادة الرجالي، كما مرّ.

6 ـ إذا بُني في مبحث حجية الخبر في الأصول على حجيّة خبر العدل، كما إذا استند لآية النبأ، وفهمت منها العدالة المشترطة في الفقه.. كان لابدّ في الرجاليّ أن يكون عادلاً، ولا تكفي فيه الوثاقة، وهنا ينفتح البحث في حجيّة أو عدم حجيّة توثيقات أهل السنّة وغير الإماميّة من الشيعة وتضعيفاتهم (والعكس عند سائر المذاهب):

أ ـ فإذا اُخذ في العدالة شرط الإيمان بمعنى الاعتقاد الإمامي الاثني عشري أو فقل: مطلق الاعتقاد المذهبي الحقّ، لم يعد يمكن الأخذ بأقوال الرجاليّين من غير الإماميّة، بمن فيهم بنو فضال الذين توجد له مواقف رجاليّة اعتمد عليها العلماء عبر التاريخ، وهكذا لم يعد يتمكّن السنّي من الأخذ بتوثيقات الرجاليين الشيعة.

ب ـ وأما إذا لم نأخذ في العدالة قيد الإيمان ـ كما هو الحقّ وفقاً لما بحثناه في علم أصول الفقه([5]) ـ انفتح مجال الاعتماد على أقوال رجاليّي أهل السنّة وسائر المذاهب بالنسبة للإمامي، وانفتح باب الرجوع لتوثيقات الشيعة بالنسبة للسنّي، ما لم يكن هناك محذور من جانب آخر.

أما إذا بُني في باب الخبر على حجيّة خبر الثقة دون العدل، كما هو الحقّ، على تقدير القول بحجيّة خبر الواحد الظنّي، فكلّ هذه الشروط تسقط، ويكفي إحراز وثاقة الرجالي وتحرّزه عن الكذب والخطأ مهما كان مذهبه وحتى دينه، ويظهر هذا جليّاً لو بُني في حجية الخبر على دليل السيرة العقلائيّة مع عدم استظهار المفهوم لآية النبأ، أو على تفسير الفسق والعدالة فيها بما يتصل بالإخبار لا مطلقاً.

7 ـ اعتماداً على نظريّة حجية خبر الثقة لا تشترط الحياة في المخبر، فلو أحرزنا إخباره، عبر إحراز صحّة نسبة الكتاب الرجالي الفلاني إليه، أمكن الأخذ بخبره، لعدم تقيّد نظريّة حجيّة خبر الثقة بالحياة، خلافاً لما قيل في نظريّة الشهادة، رغم أنّه هناك قلنا أيضاً بأنّه غير ثابت، وأنّه حصل التباس في فهم هذه القضيّة على مستوى علم الرجال.

8 ـ إذا بني في علم الأصول على كون حجيّة خبر الثقة تعبّديةً، أمكن القول بحجيّة إخبار الرجالي حتى لو لم يُفد الظنّ، فلو قامت قرائن حينئذٍ على بطلان كلام أحد الرجاليّين دون أن نجزم بهذا البطلان، بل حصل لنا الشكّ في دقّته في الذي أخبر عنه، أمكن جعل قوله حجّةً.

بل هناك من ذهب إلى ذلك، بصرف النظر عن التعاطي مع خبر الواحد تعاطياً تعبدياً، فقد استند الشيخ مسلم الداوري إلى إطلاقات الأدلّة الدالة على حجيّة خبر الثقة، للشمول لحالتي حصول الظنّ لنا أو عدم حصول الظنّ الشخصي كذلك، ويشهد له ـ عنده ـ أنّ العقلاء لا يقبلون عذر المعتذر إذا قال: أنا لم أعمل بخبر هذا الثقة الذي نقل لي أمر المولى لي؛ وذلك لأنّه لم يحصل لي ظنّ على وفق كلامه، بل يرونه مُداناً ويحقّ للمولى مؤاخذته في هذا المجال؛ من هنا أطلق الداوري حجيّة قول الرجالي هنا لحالة حصول الظنّ الشخصي وعدمه([6])، وقد كان أستاذه الخوئي ذكر ثبوت حجيّة الخبر بحصول الوثوق النوعي ـ ومراده الظنّ ـ بصدقه، أو الوثوق الشخصي([7]).

وأمثلة هذه الحالة كثيرة في علم الرجال، فقد تأتي مجموعة من الروايات الضعيفة السند في ذمّ أحد الرواة من طرف أهل البيت النبوي أو من طرف بعض الصحابة أو كبار التابعين، فيما نجد الطوسي أو الرازي قد وثقا هذا الراوي، الأمر الذي قد يُفقدنا حالة الظنّ بصحّة كلام الطوسي أو الرازي، فعلى هذا يمكن الاعتماد على كلامه، ولو لم يحصل لنا الظنّ على وفقه.

وقد بنينا في الأصول على عدم حجيّة خبر الثقة الذي لا يفيد الظنّ([8])؛ لهذا يُشترط في إخبارات الرجاليّين أن تفي بهذه الحيثيّة.

9 ـ يشترط ـ وفق نظريّة حجية خبر الثقة ـ أن يكون الرجالي عالماً بما يُخبر به، وليس ظاناً أو شاكّاً؛ لعدم شمول دليل حجية الخبر لغير هذه الحال؛ فلو لاح من ظاهر كلمات أحد الرجاليّين أنّه متردّد في راوٍ معيّن، فلا قيمة لتردّده، وهكذا الحال لو بدا منه أنه لا يرى وثاقته من باب عدم ثبوتها عنده، لا ثبوت عدمها.

هذه هي أبرز معالم نظريّة حجيّة قول الرجالي وفقاً لنظريّة حجيّة خبر الثقة.

6 ـ 2 ـ امتياز نظرية خبر الثقة عن غيرها في مجال قول الرجالي

وبهذا تمتاز نظريّة حجيّة خبر الواحد الثقة هنا عن سائر النظريّات:

أ ـ أمّا عن نظريّة الشهادة، فبكونها لا تشترط شروطها ولا تتماهى معها، بل هي أوسع دائرةً منها وأخفّ من حيث الإلزامات والقيود غالباً.

ب ـ وأمّا نظرية حجية الظنّ الرجالي على الانسداد؛ فلأنّ الحجية هنا للظنّ الخاص، لا لمطلق الظنّ، بخلاف الظنّ على الانسداد.

ج ـ وأمّا نظرية حجيّة قول أهل الخبرة، وكذا حجية الفتوى، فهي متقوّمة بالحدسيّة أو غير متقوّمة بالحسيّة، فيما هذه النظرية هنا متقوّمة بالحسيّة.

د ـ وأمّا نظرية حجية الظنّ الرجالي بدليل الإجماع، فهو يفيد حجيّة مطلق الظنّ الرجالي، لا خصوص الآتي من خبر الثقة، بينما هنا لابدّ من حصول الظنّ من خبر الثقة لا مطلقاً، بل على بعض المباني لا حاجة للظنّ هنا أساساً.

هـ ـ وأمّا على نظريّة حجية العلم والاطمئنان، فالأمر واضح؛ إذ هذه النظريّة هنا تكتفي بالظن من خبر الثقة، بينما تلك يشترط فيها تحصيل العلم ولو العادي منه أو من غيره.

وبهذا ظهرت النسبة بين هذه النظريّة وسائر النظريّات في موضوع بحثنا.

6 ـ 3 ـ مرجعيّة خبر الثقة في الرجال، الأدلّة والمستندات

تقوم أدلّة هذه النظرية على البيان التالي:

أ ـ ثبت في علم أصول الفقه أنّ خبر الواحد الثقة الظنّي حجّة.

ب ـ ثبت في علم أصول الفقه أنّ حجية خبر الواحد الثقة الظنّي لا تختصّ بالأحكام، بل تشمل الموضوعات أيضاً إذا ترتّب عليها أثر شرعي، إلا ما خرج بالدليل، كموارد البيّنة في باب القضاء.

ج ـ إنّ إفادات علماء الرجال مصداقٌ لخبر الواحد الثقة الظنّي؛ لأنهم يخبرون عن حسّ بأحوال الرواة، وهم من الثقات، ويترتّب على إخبارهم الأثر الشرعي، وهو ثبوت الروايات المتضمّنة للأحكام الشرعيّة.

د ـ نستنتج من هذه المقدّمات أنّ خبر الرجالي حجّةٌ ولو لم يفد اليقين والاطمئنان، بلا حاجة إلى أيّ نظريّة أخرى من النظريّات الست المتبقية في الباب.

6 ـ 4 ـ مطالعات نقديّة في مرجعيّة حجيّة الرواية

تعرّضت هذه النظرية التي اشتهرت بها مدرسة السيد الخوئي (1413هـ)، وصار لها رواج زائد بسببه.. تعرّضت لسلسلة من الانتقادات المتصلة ببعضها، ودراستها سوف تُدخلنا ـ قهراً ـ في فهم طريقة علماء الرجال في وصولهم إلى النتائج الرجاليّة التي قدّموها لنا في كتبهم.

وأبرز الإشكاليات الواردة في هذه النظريّة ـ بعد حذف إشكال عدم حجيّة خبر الواحد في الموضوعات؛ لبنائنا في الأصول على الحجيّة فيها، كما تقدّم، خاصّة وأنّ هذا النوع من الموضوعات يترتب عليه حكمٌ كلّي في كثير من الأحيان عبر إثبات نتيجته للنصوص الحديثيّة المشتملة بدورها على الأحكام الكليّة ـ هي:

6 ـ 4 ـ 1 ـ إشكالية الحسية والحدسيّة

قلنا فيما سبق وفي علم أصول الفقه: إنّ حجيّة الرواية وخبر الثقة مقيّدة بحالة ما إذا كان الخبر حسيّاً، لكن المشكلة هنا أنّ إخبارات علماء الرجال ليست حسيّةً، بل هي حدسيةٌ.

من هنا استخدم بعض الإخباريّين هذه الإشكاليّة ليثيروا نقداً على علم الرجال([9])، فذكروا أنّ قدماء الرجاليّين لم يطّلعوا على أحوال الرواة مباشرةً، بل تفصلهم عنهم ثلاثة قرون، وقرنان، وقرن، فكيف اطّلعوا على حالهم عن حسّ؟! وأيّ حسّ هذا والنجاشي توفي عام 450هـ فيما توفي أكثر الرواة عن الباقِرَين في القرن الثاني الهجري؟!

وهكذا الحال في الصحابة والتابعين وتابعيهم، والذين تفصلهم عن أئمّة الجرح والتعديل عند أهل السنّة مسافة زمنية لا تقل عن قرن إلى قرنين إلى ثلاثة، فكيف اطّلعوا ـ عن حسّ ـ على حالهم؟!

وكان حفيد الشهيد الثاني قد ذكر في شرحه على الاستبصار ما نصّه: «إنّ النجاشي وغيره من المتقدّمين الذين لم يعاصروا الرواة، توثيقهم ـ أيضاً ـ بالاجتهاد، كما يقتضيه الاعتبار»([10]).

واعتبر المحقّق القمي أنّ هذا الأمر واضح، حيث استدلّ بأنّهم لم يلقوا الرواة؛ وإنما كانوا يقرأون مثل ما رواه الكشي، وما يفهمونه منه فهم يأخذون به، وربما أخطأوا في الفهم، وربما لم يكن ما ذكره السابق صحيحاً في نفسه أيضاً([11]).

واعتبر العلامة المامقاني كلامَ القمي ـ صاحب القوانين ـ جيّداً؛ حيث عبّر قبل نقله نصّ كلامه بالقول: «ولقد أجاد الفاضل القمي (رحمه الله) حيث قال..»([12]).

وقد ألمح المحقّق التستري في «قاموس الرجال» إلى أنّ الصدوق والنجاشي وغيرهما أقاموا توثيقاتهم وتضعيفاتهم على قواعد وأسس اجتهاديّة([13]).

وقد ركّز الشيخ آصف محسني القندهاري المعاصر على هذه الإشكاليّة وما سينجم عنها، وذكر أنّه ناقش فيها أستاذه السيّد الخوئي ولم يرَ جواباً مقنعاً، وأنّه سيعطي جائزة لمن يحلّ مشكلة الحسيّة وما سيتبعها من مشكلة الإرسال([14]).

وانتصر الشيخ المعاصر محمد سند لإشكاليّة الحدسية هنا، معتبراً في نهاية بحثه أنّ «صغرى حجية الخبر الحسّي غير متحقّقة غالباً»([15]).

ويبدو من السيد محمّد رضا السيستاني عدم قبوله بمبنى حجيّة الخبر هنا، وقد اعتبر أنّنا نحرز باليقين أنّ بعض مواقف الرجاليين حدسيّ، يُعلم ذلك من الشواهد والقرائن التي لا تخفى على الممارسين، ونحن لا يمكننا التمييز بين حالات النقل الحسي وحالات النقل الحدسي مع علمنا بوجود النوعين معاً، وفي مثله لا يصحّ البناء على إخباراتهم بدعوى أنّها حسيّة، فتأمّل([16]).

وعليه، فلا يتحقّق شرط الحسيّة في دائرة علم الرجال، بلا فرق في ذلك بين التوثيقات العامة والخاصّة، وقد تقدّم أنّ من أهم معالم هذه النظريّة هو قيامها على مبدأ الحسيّة.

محاولة مدرسة السيد الخوئي و.. في تفكيك الإشكاليّة

وقد واجهت مدرسة السيد الخوئي وغيرها إشكال الحدسيّة هنا؛ واعتبرت أنّ كلام الرجاليين قائم على الحسّ وليس على الحدس، وأنّه يكفينا الاحتمال.

وقد استند السيد الخوئي هنا إلى أنّ احتمال الحسيّة موجود، وليس هناك جزم بالحدسيّة، ومبرّرُ احتمال الحسيّة هو أنّ ظاهرة تأليف كتب الرجال والتراجم والفهارس كانت شائعةً بين الشيعة منذ قديم الأيام، وقد وصلتنا بعض أعمالهم وقسمٌ وافرٌ منها لم يصلنا، بل البحث والفحص يدلان على أنّ عدد كتب الرجال التي اُلّفت منذ الحسن بن محبوب السراد، وهو من أوائل مصنّفي الرجال عند الإماميّة، وإلى زمان الشيخين: الطوسي والنجاشي، قد بلغ أكثر من مائة كتاب، وقد قام بجمعها الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتابه المعروف: «مصفى المقال»، وهذا يعني أنّه تمّ تناقل الإخبارات بحال الرواة جيلاً بعد جيل إلى أن وصل الأمر إلى الشيخين. بل يذهب بعضهم إلى أنّ عدد الرجاليّين أكبر من هذا الرقم بكثير.

بل هناك نصّ بالغ الأهمية جاء في كتاب عدّة الأصول للشيخ الطوسي نفسه يقول فيه: «إنا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، ووثقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقوا بين من يُعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يُعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذمّوا المذموم، وقالوا: فلان متهم في حدثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها وصنّفوا في ذلك الكتب..»([17]).

إنّ مثل هذا النصّ يدلّنا بوضوح على حجم عنايتهم بأحوال الرواة وتناقلهم لأوضاعهم، وهذا يجعل العلم بأحوالهم علماً حسيّاً وصل بنقل بعضهم لبعض وهكذا.

بل نحن لو راجعنا كتب الرجال، سنجد الشيخ النجاشي ـ مثلاً ـ يعبّر في بعض الأحيان بقوله: «ذكره أصحاب الرجال» أو ما هو قريب من هذا التعبير([18])، وهذا يعني أنّه يقوم بالنقل عنهم، فأحوال الرواة كانت شائعة ومتعارفة ومستفيضة، تلقّوها يداً بيد وكابراً عن كابر([19]).

وقد واصل أنصار مدرسة السيد الخوئي دعم نظريته هنا، فذكر الشيخ مسلم الداوري أنّ مراجعة كتاب النجاشي ـ وغيره ـ تجعلنا نرى فيه نقولات عن عدّة من الأشخاص في تقويم حال الرواة مثل: ابن الغضائري، والكشي، وابن عقدة، وابن نوح، وابن بابويه، وأبي المفضل.. بل قد اعتمد على كتب كثيرة، اُحصي منها أكثر من عشرين كتاباً، كرجال أبي العباس، وابن فضال، والعقيقي، وطبقات سعد بن عبد الله، وفهرست أبي عبد الله الحسين بن الحسن بن بابويه، وكذلك فهارس حميد بن زياد، وابن النديم، وابن بطة، وابن الوليد، بل إنّنا وقفنا على أكثر من أربعين كتاباً جرى تصنيفهم غير كتب الشيخين، من هنا فأحكامهم الرجاليّة لم تقم على الحدس، وإنما على الحسّ بالسماع من المشايخ([20]).

ويعيد الشيخ جعفر السبحاني صياغة الحلّ هنا، حينما يرى أنّهم كانوا يعتمدون وسائل ثلاث هي:

1 ـ مراجعة المصنّفات التي وصلت إلى عصرهم، وثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها.

2 ـ السماع كابراً عن كابر، وثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والشهرة بين الأصحاب، وهذا أحسن الطرق وأمتنها، كعلمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر([21]).

هذه هي أفضل الصيغ التي طُرحت لدفع فرضيّة الحدس في علم الرجال عند القدماء.

بل يمكن تقوية قولهم بنصّين أساسيّين عند الطوسي والنجاشي، هما:

النصّ الأوّل: ما ذكره الطوسي في مقدّمة الفهرست حيث قال: «فإذا ذكرتُ كلَّ واحد من المصنّفين وأصحاب الأصول، فلابد من أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح، وهل يعوّل على روايته أو لا، وأبيّن عن اعتقاده، وهل هو موافق للحقّ أو هو مخالف له..»([22]).

النصّ الثاني: ما ذكره النجاشي في بداية الجزء الثاني من رجاله حيث قال: «الجزء الثاني من كتاب فهرست أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركناه من مصنّفاتهم وذكر طرف من كناهم وألقابهم ومنازلهم وأنسابهم، وما قيل في كلّ رجل منهم من مدح أو قدح»([23]).

فإنّ النصّين واضحان في أنّ جهود الطوسي والنجاشي، كانت نقلاً للتوثيق والتضعيف، وليست اجتهاداً.

وبعبارة مختصرة: يمكن القول بأنّ كتب النجاشي والطوسي وأمثالهما هي جوامع كتب من سبقهم، تماماً كما حصل مع المحدّثين الذين جمعوا الكتب الصغيرة المتفرّقة في الحديث، والتي صُنّفت منذ القرن الثاني الهجري، ووضعوها في موسوعاتهم الحديثية الضخمة كالكتب الأربعة الإماميّة والكتب التسعة السنيّة، فما في الكتب الكبيرة هو نقل عن تلك الصغيرة.

ولابدّ لنا من النظر في هذا الكلام كلّه؛ لنرى مدى قدرته على أن يُثبت لنا حسيّة الوثائق التي قدّمها الرجاليّون، مع الإشارة مسبقاً إلى أنّنا سوف نتعامل مع هذه الوثائق على أساس أنها تثبت الحسيّة، كما هو ظاهر مثل الشيخ مسلم الداوري، لا على أساس أنها توفّر لنا احتمال الحسيّة، كما هو ظاهر بعض كلمات السيد الخوئي؛ لأنّ مرحلة احتمال الحسيّة والحدسيّة تأتي فيما بعد بعون الله تعالى.

ولابدّ لنا أن نشير أيضاً إلى أنّ الحديث عن الحسيّة والحدسيّة يصبح مجاله أوسع كلّما دخلنا في إطار تقويم حال الرواة، ويتقلّص احتمال الحدسيّة كلّما دخلنا في مجال المعلومات الشخصيّة مثل الاسم واسم الأب وغير ذلك، وإن كان مجال التحليل هناك موجوداً أيضاً، كما هي الحال في جهود المتأخّرين، بمعنى محاولة ترجيح نقل على نقل في تعيين اسم والد أو جدّ الراوي مثلاً وهكذا.

كما أنّه من الواضح أنّ إشكاليّة الحسيّة تجري في توثيقات الرجاليّ غير المعاصر للراوي الذي يقوم بتوثيقه، أمّا توثيق ابن أبي عمير لمشايخه مثلاً، فهو توثيق لا يفترض النقاش في كونه حسيّاً على مقتضى القاعدة لو ثبت هذا التوثيق بطريق معتبر في نفسه، لكن لأنّ غالب التقويمات الرجاليّة ترجع لغير المعاصر انفتح هذا البحث الكلّي هنا.

قراءة نقديّة في محاولات الانتصار للاتجاه الحسّي في الرجال

وحاصل ما يمكن تسجيله نقداً على محاولة الانتصار للحسيّة هو الآتي:

أوّلاً: يمكن الحديث عن جملة خصائص تمتاز بها المرحلة التي سبقت عصر الأصول الرجاليّة الخمسة الأولى عند الشيعة الإماميّة:

1 ـ لأن كتب هذه المرحلة لم تصلنا، لا نملك أيّ معلومات ـ عن مدى اهتمامها بالرواة وعمقها و.. ـ قد ترشدنا إلى أهميتها والمنهج الذي سارت عليه. وما نقل عنها من مواقف رجاليّة سطحيّة جداً لا يمكن الاتكاء عليه لمعرفة مدى تأثيره في المناخ الرجالي آنذاك.

2 ـ لذا بعض كتب هذه المرحلة واضح في علم الرجال؛ يعني أنها دُوّنت بغرض تقويم رواة الحديث، وأنها منطلقة من حسٍ ووعي رجاليّين، لكنّ البعض الآخر من هذه الكتب لا نستطيع أن نعلم مدى انتمائه للدائرة الرجاليّة أساساً، وإن أدرجه الباحثون في تاريخ الرجال على أنّه من كتب الرجال، فمجرّد أنّ عناوينها عناوين رجالية لا يمكّننا من الجزم بأنها كتب رجالية بالمعنى الذي نريده اليوم.

وهذا الأمر قد وقع نظيره في علم أصول الفقه؛ فقد تبنّى السيد محمد باقر الصدر (1400هـ) أن أوّل مدوَّنة في علم الأصول هي رسالة (الألفاظ) لهشام بن الحكم (199هـ)([24])، واستفيد هذا الأمر من عنوان الرسالة، فمباحث الألفاظ من موضوعات علم الأصول بل الأساسيّة؛ إلا أنّ هذا الرأي يُناقش بأنّ اصطلاح مباحث الألفاظ جديد ظهر متأخّراً، وسابقاً كان يُطلق على هذه الموضوعات عنوان (كتاب البيان) كما عند الإمام الشافعي (204هـ) في كتاب الرسالة([25])، فلعلّ رسالة هشام كانت في اللغة، وربما كانت في علم الكلام تتصل بالصفات الإلهيّة ومسألة الكلام، فالرسالة لم تصل إلينا حتى نتعرّف على موضوعها.

هنا نقع في نفس المشكلة؛ عندما يُنقل لنا مثلاً أنّ للشريف العقيقي (280هـ) كتاب (تاريخ الرجال)، صحيح أنّ عنوانه يوحي بأنّه كتاب رجالي، لكن كيف لنا أن نعرف أنّ الكتاب في علم الرجال؟! فلعلّه كتاب في التاريخ تناول فيه مؤلّفه بعض الشخصيّات التاريخية، ولم يكن في صدد اتخاذ مواقف من رواة الحديث ما لم نجمع قرائن، مثل أنّ كلمة (تاريخ الرجال) كانت معروفة عند أهل السنّة آنذاك بوصفها عنواناً لما نسمّيه اليوم علم الرجال، كما سيأتي ـ بحول الله ـ الحديث عنه في الفصل التاسع من هذا الكتاب، والمخصّص لدراسة المصادر الرجاليّة، أو نلاحظ ما نقله عنه ابن داود؛ لنرى طبيعة المنقول. علماً أنّه من الممكن أن يكون قد كتب حول رجال القرن الأوّل الهجري، فكيف يكون كلامه عن حسّ؟!

والمثال الآخر هنا هو كتاب (المشيخة) لابن محبوب (224هـ) أو كتاب الرجال لعبد الله بن حيّان الكناني (219هـ)، وهما من أوائل ما علمنا أنّه كتب في هذا المجال كما يقول بعضهم، وهنا لا سبيل لنا أن نتعرّف على مدى انتماء هذين الكتابين للمناخ الرجالي؛ فلعلّهما في ترجمة شيوخ ابن محبوب الذين يروي عنهم، فيكون كتاباً في التراجم.

بل ثمّة وجهة نظر بتنا نحتملها جدّاً مؤخّراً ونرجّحها، وهي أن يكون المراد من كتب المشيخة هذه ما يسمّى في علم الحديث السنّي بكتب المسانيد([26])، فالحسن بن محبوب كان لديه شيوخ متعدّدون أخذ منهم مجموعة من الروايات والكتب، ثم قام بتأليف كتاب المشيخة، ويعني أن يجمع كلّ ما وصله من شيخه محمّد مثلاً، ثم يفرده لوحده، فيكون مسند محمّد، وبعدها يأخذ ما وصله من روايات عن شيخه عبد الله مثلاً، فيكوّن منه مسند عبد الله، فترتيب كتب المشيخة يكون على أسامي الشيوخ، وبالتالي فتكون هذه الكتب من كتب الرواية، وليست من كتب الرجال، ولعلّ من ساهم في ارتكاب هذا الخطأ هو الآغا بزرك الطهراني الذي أدرج كتب المشيخة في كتابه مصفى الرجال.

ويعزّز ما نقول ما ذكره المجلسيّ الأوّل ،حين قال: «والمراد بكتاب المشيخة، الكتاب الذي صنّفه الحسن بن محبوب، وألّفه من أخبار الشيوخ من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن صلوات الله عليهم، فإنّه روى عن ستين رجلاً من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام كُتُبَهم التي ألّفوها ما سمعوا منهم عليهم السلام، وكان دأبهم أن يكتبوا كلّ خبر كانوا يسمعون في كتبهم كلّ يوم، وكان الأخبار في تلك الكتب منثوراً؛ لأنهم في كلّ يوم كانوا يسمعون من أحكام الطهارة والصلاة، والحج، والتجارة، والنكاح، والطلاق، والديات وغيرها، ويكتبون أخبار كلّ يوم في كتبهم. فرتّب الحسن بن محبوب أخبار الشيوخ على ترتيب أبواب الفقه، وكان منثوراً لم يكن مثل هذه الكتب التي لنا، ثمَّ جمع هذا الشيخ على ترتيب أسماء الشيوخ بأن جمع على ترتيب اسم زرارة مثلاً، وذكر أخباره مرتّباً أوّلاً، ثمَّ ذكر أخبار محمد بن مسلم مرتباً ثانياً، وهكذا، وكانت فائدة هذا الترتيب عندهم أكثر؛ لأنّهم لو أرادوا خبر زرارة مثلًا كانت مجتمعةً في مكان، ويمكن مقابلته مع أصل زرارة، وإن كان الترتيب الأوّل عندنا أحسن؛ ولهذا جعل مشايخنا الثلاثة كلّ كتابه مع ما وجدوه في أصول أخر في كتبهم الأربعة، ولما كان هذا الترتيب أحسن، وكانوا يقابلون مع الأصول، ويجدون الجميع موافقاً تركوا تلك الأصول واعتمدوا على هذه الكتب»([27]).

ويقول النجاشي في ترجمة داود بن كُورة أبو سليمان القمي: ‌«وهو الذي بوّب كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن عيسى، وكتاب المشيخة للحسن بن محبوب السرّاد على معاني الفقه. له كتاب الرحمة في الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج»([28]). فداود بن كورة رتّب الكتاب على معاني الفقه وأبوابه، وهذا يعني أنّه كتاب حديثي كان مرتّباً على أسامي الرجال، لكنّه رتّبه على أبواب الفقه.

نعم، بعض كتب هذه المرحلة واضحٌ انتماؤه لعلم الرجال، مثل كتاب (رجال البرقي/الطبقات) الذي وصلنا وأمكننا الاطلاع عليه لمعرفته وتحديد هويته؛ وبذلك نتجاوز هذه الإشكاليّة، والبعض الآخر من هذه الكتب وإن لم يصل لنا إلا أنّ بعض مواقفه الرجالية نُقلت لنا عنه، والتي تدلّنا على أنها كتب أُلّفت لغرض الجرح والتعديل، وأما غيرها من الكتب التي لم تصلنا ولم تُنقل عنها أيّ مواقف رجالية فلا سبيل لنا إلى معرفة مدى انتمائها لعلم الجرح والتعديل الذي نقصده اليوم.

إذن، فالاحتمالات في أمثال هذه الكتب مفتوحةٌ على جميع الاتجاهات؛ فقد تكون كتباً رجاليّة بالمعنى الذي نريده اليوم، وقد لا تكون كذلك، فربما تدخل في دائرة التاريخ أو السيرة أو التراجم أو الحديث أو.. فعلاقة علم الرجال مع بعض هذه العلوم لم تكن قد فُرزت آنذاك.

وبناءً عليه؛ فما قيل عن وجود مائة كتاب رجالي بل أكثر بين يدي الطوسي والنجاشي وعنها أخذوا إذا كان منشؤه ـ بعد عدم وصول الكتب إلينا ـ مجرّد وجود أسماء هذه الكتب في المصادر المتأخّرة زمناً، فهذا لا يكفي على إطلاقه، وقد تبيّن أنّ قضية الأسماء تعاني من بعض المشكلات التي لا تسمح بالاعتماد عليها، إلا مع حشد الشواهد والقرائن.

وما نريده هنا هو التشكيك في هذه الصورة التي نعتبرها مضخّمةً عن حجم التراث الرجالي الذي كان بين يدي النجاشي والطوسي وأمثالهما. وسوف يأتي في الفصل التاسع من هذا الكتاب والمخصّص لدراسة المصادر الرجاليّة أنّ غاية ما يمكن الحديث عنه هو وجود ما يقارب من الأربعين كتاباً على أحسن تقدير قبل الشيخ الطوسي والنجاشي، وبعضها قد لا تكون له صلة بالتوثيق والتضعيف بشكلٍ معتدٍّ به، ولا يحرز حجم تغطية كلّ كتاب.

ثانياً: يحتمل أن تكون بعض كتب الرجال التي ظهرت في القرن الرابع الهجري هي الكتب التي عناها الشيخ الطوسي (460هـ) في نصّه المتقدّم في كتاب العدّة في أصول الفقه.

فالطوسي في هذه الوثيقة التاريخية ينقل لنا المناخ الرجالي الذي كانت تعيشه الشيعة الإماميّة؛ فيكشف عن وجود مجموعة من المؤلّفات الرجاليّة التي كان موضوعها تقويم رواة الحديث للاعتماد عليهم، وأنّ تلك التقويمات الرجاليّة حسّية مستفادة من نصوص متناقَلة، ولم تعتمد هذه التقويمات على الاجتهاد والتحليلات، وما هذه الكتب التي تحدّث عنها الطوسي غير كتب القرن الرابع وما بعده والتي وصلتنا أسماؤها، فما هو الموجب لافتراض أنّه ناظر إلى تاريخ الطائفة منذ القرن الأوّل أو الثاني الهجري؟!

إذن، لعلّ الطوسي عنى في نصّ العدة المصادرَ الرجاليّة الأساسيّة التي بدأت بالظهور في القرن الرابع الهجري، وهي كتب رجالية بالمعنى الذي أورده في نصّه، وأما كتب القرن الثالث الهجري وما قبله، فلم تكن منظورة للطوسي حتى يخبر عنها.

وبعبارة أخرى، إنّ وجود الظاهرة الرجاليّة في القرن الرابع الهجري أمرٌ مؤكّد على مستوى الوثائق التاريخية، فمن الممكن أن يكون الطوسي قاصداً التحدّث عن أصل قيام الطائفة الشيعيّة بهذا الأمر في زمانه إلى ما قبل عصره بقرن، وكلّ كلامه يكون مفهوماً بهذه الطريقة أيضاً؛ فليس في كلامه أنّ ظاهرة التوثيق والتضعيف والكتب الرجاليّة كانت موجودة في القرن الهجري الأوّل أو الثاني أو حتى الثالث، فهو يتحدّث عن أصل قيام الطائفة الإماميّة بهذه المهمّة، ولا يحدّد تاريخ حصول ذلك، فنحن اليوم يصحّ لنا أن نتلفّظ بعين عبارات الطوسي في العدّة، حتى لو علمنا بأنّ بدايات حصول ذلك هي القرن الثالث الهجري.

ومع ذلك، يمكن الجواب عن هذه الملاحظة، بأنّ الطوسي قال بعد النص المتقدّم مباشرةً، مكملاً حديثه عن الموضوع: «..وصنّفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرّجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى إنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعّفه برواته، هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم..»([29])، فإشارته الأخيرة تعزّز احتمال أنّ هذه الظاهرة كانت موجودة منذ قديم الأيام، بمعنى في فترة قديمة نسبيّاً بالنسبة للشيخ الطوسي، والقرن الرابع الهجري ليس كذلك؛ لأنّ الطوسي وُلِد في هذا القرن وتوفي في القرن الخامس الهجري، الأمر الذي يعزّز أنّ مقصوده من قديم الأيّام القرن الثالث الهجري في الحدّ الأدنى.

لكن لو تخطّينا هذه الإشكاليّة نسأل: هل نصّ الشيخ الطوسي في العدّة يؤكّد أنّ هذه التقويمات الرجاليّة كانت تقوم في الغالب على الحسّ؟ وهل نصّ الطوسي والنجاشي في مقدّمة كتاب الفهرست وأوّل الجزء الثاني من رجال النجاشي يؤكّد أنّ ما نقلاه هو تقويمات حسيّة للرجاليّين السابقين بالضرورة أو أنّه من الممكن جداً أن تكون حدسيّةً، بحيث لا يكون نفي الحسيّة في نقل الطوسي والنجاشي مساوقاً لحسيّة الشهادة الرجاليّة الأصل التي نقلها عن أصحابها، خاصّة ونحن لا نعرف أصحابها، وفي أيّ زمن كانوا؟ وهل كانوا معاصرين لكلّ من وثقوهم أو ضعّفوهم؟ وهل كانت بينهم وبين كلّ الرواة الذين عاصروهم ووثقوهم ملاقاةٌ أو لا؟

وبعبارة أخرى: هل قول الطوسي بأنّ الطائفة ميّزت الثقات والضعفاء يعني بالضرورة أنّ هذا التمييز قد قام على أساس الحسّ؟ ألا يمكن أن تكون الطائفة ـ في نسبة كبيرة من نشاطها ـ قد مارست هذا التمييز وفقاً لجهود اجتهاديّة من قبل العلماء منذ القرن الثالث الهجري؟ وهو القرن الذي يبدأ فيه الحديث عن وجود أوائل التصنيفات الرجاليّة التي لم يصلنا أغلبها، مثل كتاب الرجال للكناني (219هـ)، وكتاب الرجال لعلي بن فضال الكوفي (224هـ)، وكتاب الرجال للحسن بن علي بن فضال الكوفي (ق 3هـ)، وكتاب الرجال للفضل بن شاذان (254 أو 260هـ)، وكتاب الرجال للبرقي (ق3هـ)، وكتاب تاريخ الرجال للعقيقي (280هـ)، وكتاب رجال الشيعة لعليّ الأنباري (ق 3هـ)، وكتاب الرجال لإبراهيم الثقفي الكوفي (283هـ) وغير ذلك.

ما هو المانع أن يكون رجاليّو هذه الفترة قد مارسوا ـ ولو في الجملة ـ نشاطاً اجتهاديّاً في التمييز بين الرواة الذين يرجعون للقرن الأوّل والثاني الهجريّين، ومع ذلك يصدق عنوان أنّ الطائفة قد ميّزت وفصلت؟ فأصل التمييز لا يرادف الحسيّة، بل هو قابل للاجتماع مع الحدسيّة، فلا يكون نصّ العدّة وأمثاله دليلاً قاطعاً على أنّ الجيل السابق للطوسي والنجاشي قد صنّفوا في الرجال وفقاً لمعطيات حسيّة غالباً، فضلاً عن أن نثبت أنّه كذلك بشكل دائم. نعم الحسية في الجملة لا ينكرها أحد.

وعليه، فالنصّ الذي تمّ اعتماده للطوسي في العدّة ـ أو نصَّي الفهرست ورجال النجاشي اللذين أضفناهما ـ لا يساعد بشكل واضح على دعوى الحسية الدائمة أو الغالبة في النشاط الرجالي المتقدّم.

ثالثاً: سلّمنا بأنّ الحسن بن محبوب (224هـ) وعبد الله بن حيان الكناني (219هـ)، كانا من أوائل من صنّف، بحسب كلام المدافعين عن مدرسة السيد الخوئي هنا؛ وسلّمنا أنّ الحسن بن محبوب كان قد ولد عام 149هـ، أي بعد وفاة الإمام الصادق بسنة واحدة؛ وأنه أدرك بعض تلامذة الإمام، لكن يظلّ هنا سؤالان:

1 ـ إذا كان الأمر كذلك، فماذا نفعل بمئات الرواة الذين لم يعاصرهم حتى ابن محبوب نفسه، وعاشوا في القرن الأول إلى بدايات النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ونحن لا نملك أيّ وثيقة مأمونة مؤكّدة تؤكّد لنا وجود تصنيفات في ذلك الزمان؟ وما أكثر الرواة الذين عاشوا في هذا الزمان من أصحاب النبي، مروراً بأصحاب الإمام علي، إلى الحسنين، إلى زين العابدين، إلى الباقر، إلى العديد من تلامذة الإمام الصادق أيضاً!

هل إثبات الحسيّة في زمن ابن محبوب ومن بعده يسمح لنا ـ تاريخياً ـ بإثباتها قبله أم أنّ في ذلك قدراً كبيراً من التسامح؟

2 ـ كم استطاع هذان الكتابان، ومعهما بعض قليل جداً مثل كتاب الرجال لأبي محمد علي بن فضال الكوفي (224هـ).. كم استطاعت هذه الكتب التي ترجع ـ بعد التنزّل ـ إلى القرن الثاني الهجري مع حساب الولادة، لا الوفاة، أن تحصي لنا من رواة الإمام الباقر والصادق والكاظم؟ لو أحصت هذه الكتب الثلاثة أسماء عدد يساوي كتاب النجاشي ـ أي ما يقارب الألف ـ فسوف تكون موسوعات رجاليّة بحساب ذلك الزمان، ولتمّ الحديث عنها بطريقة مختلفة، كأن يقال بأنّ له كتاباً كبيراً في الرجال، كما هي عادتهم في وصف الكتب، فمن أربعة آلاف راوٍ عن الصادق كم من المتوقّع أن يكون كتاب ابن محبوب قد ترجم؟

بعبارة ثانية: ما هي المساحة التي غطّتها هذه الكتب الثلاثة في القرن الثاني الهجري؟ حتى نقول بأنه وصلت للمتأخّرين مصادر وافرة؟

يضاف إلى ذلك، أنّنا لا نملك أيّة معلومات عن زمان تأليف هذه الكتب، فلعلّها اُلّفت في بدايات القرن الثالث الهجري، لتحكي عن طبقة مشايخ ابن محبوب أو الكناني، والأقرب في من يولد عام 149هـ ويتوفى عام 224هـ أن تكون طبقة شيوخه من تلامذة الإمام الكاظم (183هـ) لا الصادق، إلا قليلاً، فلا يحرز أنّ هذه الكتب قد غطّت مقداراً معتداً به من جلّ الرواة، وهم رواة القرن الأول والثاني الهجريّين.

قد تقول: إنّ هذه الكتب ولو لم تعاصر أصحاب الباقر والصادق ومن سبقهما، لكنّها نقلت عن المعاصرين لهم.

وهذا الكلام محض دعوى لا أكثر، ونحن لا نناقش في احتمال الحسيّة، بل في دوامها أو غلبتها، فليلاحظ جيداً.

رابعاً: إنّ ما ذكر نقلاً عن النجاشي ـ وكذا نصّ مقدّمة الفهرست وبداية الجزء الثاني من رجال النجاشي ـ من أنه كان يعبّر «ذكره أصحاب الرجال» أو عدد من نقل عنهم أو من كتبهم أو.. لا يؤثر كثيراً؛ فلو أخذنا العبارة الأولى فيكفي فيها وجود هؤلاء في القرن الرابع الهجري، وأكثر علماء الرجال كانوا في هذا القرن، ومنه يظهر حال الشاهد الثاني فإنّ ابن الغضائري والكشي (ق4هـ) وابن نوح شيخ النجاشي، وابن بابويه (ق4هـ)، وابن النديم (385هـ) وابن عقدة (333هـ) وحميد بن زياد (310هـ) كلّهم من القرن الرابع والخامس الهجريّين، فكيف يستشهد بهم على ما نحن فيه إلا من باب التشويق النفسي؟ هذا أشبه شيء بالاستدلال بأنّ النجاشي نقل عن الطوسي!

وها هم اعتمدوا كثيراً ـ كما يقال ـ على ابن عقدة (333هـ) في أصحاب الإمام الصادق؛ فهل عاصرهم ابن عقدة أم يفصله عنهم قرن ونصف إلى قرنين؟ وها هو ابن بُطة الذي هو من تلامذة البرقي المتوفى (274 أو 280هـ) فيكون أيضاً مقارباً لابن عقدة.

إنّ مجرّد حشد الأسماء وحشد أسماء الكتب لا يفيد هنا إلا بالنظر الدقيق في هذه الأسماء والكتب، ليتبيّن أنّ أغلب من نقلوا عنه كان يعيش في القرنين الرابع والخامس الهجريّين، فحاله حالهم في أنّه ولد بعد عصر النصّ إماميّاً، والقليل جداً جداً منهم ممّن كان في عصر الحضور. بل لو لاحظنا لوجدنا أنّ نسبة اعتماد المتأخّرين على بعضهم عالية للغاية؛ مما يدلّ على عدم وجود كتب كثيرة متقدّمة، كاعتماد الطوسي على الكشي وعلى ابن النديم، بل اعتماد أحدهما (الطوسي والنجاشي) على الآخر في احتمالٍ قويّ، وهكذا.

خامساً: إنّ مسألة الشهرة والاستفاضة مسألة قد نقبل بها، ففي بعض الأحيان يكون أمر رجلٍ مشهوراً واضحاً جليّاً، لكن كم هو يا ترى عدد الرواة الذين يتّسمون بهذا الوصف؟ هل يزيد يا تُرى عن الخمسين راوياً، مع غضّ الطرف عن دخول المتأخّرين في السند مثل الشيخ الطوسي والكليني؟ فهل يصحّ جعل هذا طريقاً رئيساً عندهم في تعاطيهم مع علم الرجال؟

بل إنّ الشهرة اليوم لا يحرز كونها موجودة آنذاك، فهناك رواةٌ كبار وردت فيهم روايات ذمّ؛ ومع وجود هذه الروايات كيف نجزم بانعقاد شهرة آنذاك وأنّ الجميع رجّح الروايات المادحة؟ ومجرّد أنّ الطوسي والنجاشي وثّقا زرارة لا يدلّ على شهرة من وثقاه في وثاقته.

إنّ الشهرة الموجودة اليوم تمثل نتاجاً لموقفي الطوسي والنجاشي، فرأيهما في زرارة ـ مثلاً ـ مساعد على ولادة الإجماع أو الشهرة على توثيقه، ونحن لا نملك إلا عدداً قليلاً من الرواة الذين يمكننا الزعم باشتهار وثاقتهم بين الشيعة، كما في مثل أصحاب الإجماع، فنحن في مثل هؤلاء لدينا نصوص تخبر عن الاشتهار القديم بين الشيعة حول وثاقتهم وجلالتهم، كما جاء في مثل نصّ الكشي حول أصحاب الإجماع، أما سائر الرواة ـ لاسيما الموثقين بالتوثيقات العامة ـ فغالبيّتهم الساحقة مما يصعب تحصيل وثائق يُركن إليها تؤكّد اشتهار وثاقتهم بين الشيعة قبل عصر الطوسي والنجاشي، وبالأخصّ من لم ينصّ الطوسي والنجاشي معاً على توثيقه. فدعوى التواتر والاستفاضة غير واضحة بهذه الكثرة.

بل حتى في مثل أصحاب الإجماع، لا يحرز أنّ الشيعة كانوا متفقين على توثيقهم، فبعضهم توجد نصوصٌ على وجود وقفات فيه عند بعض الشيعة؛ فهذا يونس بن عبد الرحمن الذي اعتُبر من أفقه أصحاب الإجماع([30]) ينصّ الطوسي عليه بالقول: «يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين، ضعّفه القميون، وهو ثقة»([31])، وفي موضع آخر قال: «.. طعن عليه القميّون، وهو عندي ثقة»([32]).

لست أريد تضعيف يونس بهذا الكلام، لكن هذا معناه أنّ أفقه أصحاب الإجماع كان يوجد من يطعن عليه ويضعّفه، مع أنهم نصّوا على كونه من أصحاب الإجماع، ولم يضعّفه شخص، بل نُسب التضعيف إلى القميين، فأيّ تواتر أو إجماع أو تسالم يمكن الجزم به في هذا المضمار؟!

وقد يمكن تأييد ذلك بالسكوني الذي نصّ الشيخ الطوسي في كتاب العدّة على أنّ الطائفة عملت بما رواه هو، ورواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج([33])، وهو نصّ يوحي بالإجماع، فرغم ذلك ينقل الشيخ الصدوق في «كتاب من لا يحضره الفقيه»، روايةً عن السكوني في ميراث المجوس، ثم يقول: «ولا أفتي بما ينفرد السكوني بروايته»([34]).

وهذا يكشف عن أنّ دعاوى الإجماع ينبغي التوقّف فيها بعض الشيء، فكيف تُجمع الطائفة على ذلك والصدوق ـ وهو إمام محدّثي هذه الطائفة ـ غير موافق؟ ألا يستحقّ هذا الأمر الذكر من طرف الشيخ الطوسي عندما ادّعى الإجماع؟!

وما نريده هو أنّه إذا كان المدّعى فيهم الإجماعات قد ظهر في بعضهم وقوع خلاف، فما بالك بمن لم يشر أحد إلى الاتفاق على وثاقته، كيف يمكن تحصيل العلم بكون وثاقته كانت مستفيضةً معروفة مشهورة؟!

نحن لا نشكّ في أنّ التواتر أو الاستفاضة العظيمة على وثاقة شخص أو على ضعفه تعدّ من موجبات توثيقه أو تضعيفه في الجملة، كما نصّ على ذلك العديد من علماء الفقه والدراية مثل الشهيد الثاني([35]) والحسين بن عبد الصمد العاملي([36]) والمحقّق الحلي([37]) و.. وإنما نريد تحديد دائرة صغرى هذا الطريق، فهو موجود في الجملة وعلى نطاق ضيّق، لاسيما وأنّ عدداً لا بأس به من عظماء الرواة وردت فيهم نصوص ذمّ شديدة، ولا يمكن أن تكون هذه النصوص بالتي لم تستوقف النجاشي والطوسي الذي لخّص مصدرها الرئيس وهو رجال الكشي، كما وجدنا النجاشي ينقل في بعض الأحيان وجود روايات مدح وذمّ في بعض الرواة مثل يونس بن عبد الرحمن([38]) وهذا كلّه يدلّ على أنّ كتاب الكشي كان حاضراً في فهمهم لأحوال الرواة.

وبهذا يظهر أنّ هذه الشواهد التي قدّمتها مدرسة السيد الخوئي لإثبات حسيّة توثيقات الرجاليّين وتضعيفاتهم، لا تثبت الحسيّة بمعنى وصول التوثيق والتضعيف بالنقل الحسّي، جيلاً بعد جيل، إلا في عدد محدود جداً من الرواة المعروفين البارزين جداً؛ وهم من اشتهر أو تواتر أمر وثاقتهم إلى زمن الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي. هذا كلّه لو صرفنا النظر عن قرائن الحدسيّة التي ستأتي قريباً، فانتظر.

نقول هذه النتيجة، ولا نوافق بعض الباحثين المعاصرين الذين تعاطوا مع نظرية مدرسة السيد الخوئي وكأنها بأجمعها تقول بأنّ ثبوت الوثاقة كان بالتواتر والاستفاضة دائماً، ولهذا ركّز هذا المعاصر ـ حفظه الله ـ على هذه النقطة في كلّ مناقشته لمدرسة السيد الخوئي([39]).

مدرسة السيد الخوئي و.. من الحسيّة إلى احتمال الحسيّة

وعلى أية حال، فإذا لم تثبت هذه الشواهد نظريّة الحسيّة، ننتقل إلى المرحلة اللاحقة، وهي نظريّة احتمال الحسيّة، على أساس أنّ هذه الشواهد إذا لم تُثبت أنّهم كانوا ـ دائماً أو غالباً ـ يعتمدون على الحسّ في المعلومات الرجالية التي قدّموها، فلا أقلّ من كونها تطرح احتمال الحسيّة، الأمر الذي يجعل المورد من صغريات ما سمّوه بأصالة الحسّ في الأخبار عند دوران الأمر بين الحسيّة والحدسية.

ولكي ندرس هذه المرحلة اللاحقة يفترض أن نرى ـ أوّلاً ـ هل حقاً يجري احتمال الحسية في تمام المعطيات التي قدّمها الرجاليّون؟ ثم بعد ذلك لو ثبت احتمال الحسية مطلقاً أو في الجملة نشرع في كبرى أصالة الحسّ، إن شاء الله تعالى.

أ ـ الفرص الميدانيّة لفرضيّة احتمال الحسيّة العامّة

والذي يبدو أنّ هذه الشواهد التي قدّمتها مدرسة السيد الخوئي تطرح احتمال الحسيّة ضمن نطاق ما؛ وذلك أنه إذا قصد باحتمال الحسيّة صرف الاحتمال العقلي مقابل القطع الجازم بعدم الحسيّة، فمن الواضح أنّ احتمال الحسيّة هنا واردٌ، حتى لو لم تقدّم مدرسة الخوئي ما قدّمته من شواهد، إلا أنّ المهم أن ننظر في الاحتمالات الوقوعيّة للحسيّة، أي المعطيات التاريخية التي تقدّم فرضيّة الحسيّة على أنّها افتراض ممكن، لا المعطيات الإمكانيّة العقليّة والفلسفيّة فقط؛ لأنّ هذا يؤثر ـ كما سنرى ـ في عملية تطبيق أصالة الحسّ.

والذي أراه ـ والله العالم ـ أنّ شواهد مدرسة الخوئي وغيرها أقصى ما تثبت وجود هذا الاحتمال في الجملة، لا في كلّ علم الرجال ووثائقه ومعطياته؛ فهي تقّدم لنا صورةً مزدوجة للمشهد التاريخي، أي أنّ علماء الرجال لم يعتمدوا الحسّ مطلقاً ولا الحدس مطلقاً، وإنّما كان عملهم مزيجاً من الحسّ والحدس، تماماً كما هي النتيجة التي توصّلنا إليها في المرحلة السابقة، من أنّ بعض الموارد كانت حسيّةً لهم لا تمام الموارد، وكأنّ بعض العلماء تصوّروا أنّ أدوات علماء الرجال القدامى كانت إما الحسّ أو الحدس، مع أنّ الأصحّ أنّها كانت متنوّعة، فبعضها حسّي وبعضها حدسي.

شواهد الحدسيّة في التراث الرجاليّ

والذي يشهد لوجود حدسيّات كثيرة، ويضعّف من احتمال الحسية وحجمها بشكل جادّ ـ على المستوى التاريخي لا الفلسفي ـ عدّة أمور:

الشاهد الأوّل: وقوع الاختلاف بينهم أو الإنباء عن اختلاف الطبقات السابقة من الرجاليّين في المعطيات التي قدّموها؛ فإنّ هذا الاختلاف شاهد على أنّهم مارسوا الاجتهاد في أحوال الرواة واختلفوا في تقويمهم. ولو كان الموضوع إخباراً لما كان هناك معنى لهذا الاختلاف في الموقف من هذا الراوي أو ذاك في الغالب بعد أن كان أمراً حسيّاً.

وهذا الشاهد له قدر من الدلالة، لكنّه ليس تاماً على إطلاقه؛ إذ ربما وثق النجاشي هذا الراوي؛ لأنّه وصلته مصادر توثّقه، فيما ضعّفه الطوسي؛ لأنه لم تصله مصادر التوثيق، ووصلته فقط مصادر التضعيف، وقد يكون المضعّف كاذباً في تضعيفه؛ فلا يكون الاختلاف كاشفاً حاسماً عن وجود حالة الحدسيّة من حيث المبدأ، كما أنّ اختلاف المصادر التي وصلت للطوسي والنجاشي أو للبخاري والرازي لا يعني أنّ أصحاب تلك المصادر قد مارسوا الحدس والاجتهاد أيضاً، إذا قد يوثق عمرو زيداً دون أن يطّلع على كونه كاذباً فيما يكتشف بكر في زيد حالات كذبه، حيث يكون سمع منه بعض النقل الذي اكتشف بكرٌ كذبه، فيحكم بضعفه، فالاختلاف في التوثيق والتضعيف لا يساوق الحدسيّة لزوماً.

نعم، يرتفع احتمال الحدسيّة عندما نعرف أنّ ما وصل للنجاشي والطوسي من المصادر والكتب كان متقارباً جداً، وقد كانا رفيقي دراسة وتلمّذا معاً عند أساتذة مشتركين. وتشابُه كتابيهما يدلّ على مدى هذا التقارب في المعطيات والمصادر، فهذا يرفع من احتمال أنّ مرجع اختلافهما ليس حسيّاً بل اجتهاديّ، فأحدهما رجّح خبر التوثيق، والآخر رجّح خبر التضعيف، أو أحدهما نظر في مرويّات الراوي فضعّفه؛ لأنّه رأى فيها ما يعتقده كذباً، والآخر لم يحصل له ذلك، لكنّ هذا يرفع احتمال الحدسية ـ كما قلنا ـ ولا يُلزم بها قهراً.

الشاهد الثاني: وجود المواقف المتعارضة عند الطبقة السابقة على طبقة القرن الخامس الهجري، التي هي عصر النجاشي والمفيد والطوسي، فنحن نجد أنّ الطبقات السابقة اختلفت ـ أحياناً ـ في الموقف من أحد الرواة، فمن الطبيعي هنا أنّ النجاشي والطوسي، سوف يمارسان اجتهاداً لتقديم وجهة نظر على أخرى، فعندما يضعّف القميون يونس بن عبد الرحمن ثم يوثقه الطوسي، فهذا معناه أنّه مارس اجتهاداً؛ وعندما ننظر في محمد بن عيسى بن عبيد نجد النجاشي يصفه بأنه جليل في أصحابنا([40])، بينما نجد أنّ الشيخ الطوسي يصفه بالضعيف([41])، وعندما نتتبع كلامهما نجد بأنّ الشيخ الطوسي اعتمد في التضعيف على أنّ أبا جعفر محمد بن علي بن بابويه قد استثناه من رجال نوادر الحكمة، فيما نجد النجاشي يعلّق على ذلك بأنّ الأصحاب ينكرون مقالة ابن بابويه التي ينقلها عن شيخه ابن الوليد، فهذا كلّه إعمالٌ للاجتهاد؛ فالطوسي أخذ بموقف ابن الوليد، فيما رجّع النجاشي موقف الأصحاب، ونحن في بعض الأبحاث قلنا بوثاقة محمد بن عيسى بن عبيد وفاقاً للنجاشي.

إنّ قيام النجاشي والطوسي بترجيح موقف على موقف، يعني أنّهما مارسا اجتهاداً في هذا السياق.

الشاهد الثالث: إنّ وجود روايات كتاب الكشي في يد العلماء في القرنين الرابع والخامس، وما في هذا الكتاب من نصوص حديثية متعارضة في حقّ الكثير من الرواة، بل بعض كبار الرواة.. لا يمكن في العادة أن لا يكون له وَقْعٌ، لاسيما عند الشيخ الطوسي الذي اهتمّ بهذا الكتاب وقام باختصاره، فهل يمكن أن يكون الشيخ الطوسي غير ناظر لهذا الكتاب؟! وهل يمكن في العادة أن لا يمارس اجتهاداً في حلّ معضلات هذا الكتاب؟ هل يمكن أن يكون وثق زرارة بن أعين دون أن يكون قد حلّ مشكلة النصوص الذامّة له؟ ولو فعل ذلك هل يصحّ الوثوق بنتائجه العلميّة في علم الرجال دون أن تكون له نظرية خاصّة اجتهاديّة؟

إنّ وجود الروايات الذامة والمادحة وحالة التعارض الموجودة فيها كلّها تؤكّد أنهم ـ في العادة ـ مارسوا اجتهاداً لحلّ هذه المشكلة، تماماً كما فعل المتأخّرون، وهذا يجعل للحدس في عملهم مجالاً وموضعاً كبيرين.

الشاهد الرابع: ثمّة نقطة حسّاسة جداً لابدّ لنا من طرحها هنا، وهي أنّه يمكن أن يُدّعى أنّ الكثير من المواقف التي اتخذت بحقّ الرجال في تقويمهم كانت ناتجة أو متأثرة بالخلفيّات الفكرية التي يحملها الرجاليُّ نفسه، فالذي يدرس تلك الفترة الممتدّة من القرن الثاني إلى الخامس الهجري يجد أنّ الانقسامات التي كانت موجودة بين الشيعة كانت كبيرة جداً، وكذلك الحال بين أهل السنّة، بحيث كانوا يهاجمون بعضهم بعضاً بشدّة وعنف.

وهذا ما يصرّح به الوحيد البهبهاني حين يقول: «وبالجملة يظهر من كثير من التراجم، كترجمة جعفر بن عيسى وزرارة وغيرهما، أنّ كثيراً من الشيعة يخالف بعضهم بعضاً، ويذمّون ويقدحون ويكفّرون، وربما كان ذلك من ديانتهم بأنهم كانوا يرون من الآخر ما هو في اعتقادهم باجتهادهم غلوّ أو جبر أو تشبيه أو استخفاف به تعالى، وربما كان المنشأ الآخر ما هو في اعتقادهم من قصور فهمهم وعدم قابليّتهم لدرك حقيقة الأمر..»([42]).

وكلّ من يقرأ تاريخ الشيعة (ومثله بل أوضح تاريخ غيرهم)، ويُطالع كتاب الكشي وغيره، يجد كم كانت الانقسامات كبيرةً جداً، حتى في حقّ كبار الرواة وعظماء المحدّثين، وقد يدخل عامل الحسد في هذا المجال، كما ينقل ذلك الوحيد البهبهاني عن جدّه، لدى حديثه عن الفضل بن شاذان([43]). وفي جوٍّ من هذا النوع ألا يكون الاجتهاد حاضراً ـ على مستوى الخلفيّة الفكرية ـ في تقويم الرواة في هذه القرون التي أشرنا إليها؟

وعندما يتم تشدّد مدرسة قم في الحديث نتيجة رأيها في الغلوّ في بعض فترات القرن الثالث الهجري، ويتمّ على أساس ذلك طرد بعض كبار المحدّثين على خلفيات عقديّة وغيرها، فهذا يعني أنّ مضمون الأحاديث التي يرويها الراوي كانت تلعب دوراً ـ أحياناً ـ في اتخاذ موقفٍ منه.

كما أنّ موقف ابن الغضائري من الغلوّ كان له دور في تقويماته، وهذا من قرائن الحدسيّة، وفقاً لما يراه بعض المعاصرين([44]).

وإذا تأمّلنا بعض كلام الرجاليّين، نجد ذلك بيّناً، فإننا نراهم يعبّرون عن بعض الرواة بأنّ في كلامه تخليطاً، أو حديثه مخلط، أو هو مخلّط، أو يُعرف حديثه وينكر، أو هو منكر الحديث، أو ليس بنقيّ الحديث، أو فاسد الحديث، أو واهي الحديث، أو أحاديثه منكرة، أو مضطرب الحديث أو ما شابه ذلك، وهذا معناه أنّهم ينظرون في حديث الراوي ويقوّمون مضمونه، فالنجاشي يقول عن الحسين بن حمران بأنّ له كتاب الرسالة، وأنّ هذا الكتاب تخليط([45])، وفي ربيع بن زكريا قال: «طعن عليه بالغلوّ، له كتاب فيه تخليط..»([46])، وفي عبد الله بن عبد الرحمن الأصم قال: «ضعيف غال ليس بشيء.. له كتاب المزار، سمعت ممن رآه فقال لي: هو تخليط..»([47]). وفي عبد الله بن أيوب بن راشد قال: «روى عن جعفر بن محمد، ثقة، وقد قيل: فيه تخليط، له كتاب..»([48])، وفي علي بن حسان بن كثير الهاشمي قال: «ضعيف جداً، ذكره بعض أصحابنا في الغلاة، فاسد الاعتقاد، له كتاب تفسير الباطن، تخليط كلّه»([49]).

ويشبه ذلك ما قاله في أحد كتب علي بن أحمد الكوفي([50]) وغير ذلك كثير، مثل يونس بن ظبيان حيث قال فيه: «ضعيف جداً، لا يلتفت إلى ما رواه، كلّ كتبه تخليط»([51]).

ولنلاحظ أيضاً ما قاله النجاشي في ترجمة علي بن محمد بن شيرة القاساني (القاشاني): «.. كان فقيهاً، مكثراً من الحديث، فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى، وذكر أنه سمع منه مذاهب منكَرة، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك..»([52]).

وهذه الظاهرة نجدها عند الطوسي أيضاً، مما يكشف عن متابعتهم لمضمون الروايات، ففي ترجمته لمحمّد بن سنان قال: «… جميع ما رواه، إلا ما كان فيها من تخليط أو غلوّ، أخبرنا به جماعة..»([53]). وفي محمد بن أورمة قال: «وفي رواياته تخليط»([54])، وشبيهه جاء في محمد بن علي الصيرفي([55])، ومحمد بن الحسن العمي([56]) وغير ذلك.

إنّ هذا كلّه يعني أنهم يقوّمون الراوي انطلاقاً ـ أيضاً ـ من مضمون رواياته، وهذا ما نجده بكثرة واضحة وجليّة أكثر في مصادر علم الرجال عند أهل السنّة، حتى أنّنا لا نحتاج هناك لجمع الشواهد، نظراً لكثرتها، فبعضهم يسرد الروايات التي يراها سبب الإشكال في الراوي، ويلاحظ ذلك على سبيل المثال في موقفهم من أبي الجارود زياد بن المنذر، حيث ضعّفوه لرواياته في حقّ أهل البيت وذمّ الصحابة([57]).

وهذه طريقة شائعة في القرون الأولى في التعامل مع الرواة. وقد تحدّثنا في كتابنا: (المدخل إلى موسوعة الحديث النبوي) عن شواهد عدّة على هذا، وأنّه كيف كانوا يتخذون مواقف سلبية حتى من كبار المحدّثين نتيجة اعتقاداتهم، ويتركون الرواية عنهم.

وهذه الظاهرة منطقيّةٌ جدّاً ومترقّبة واحتمالها في نفسه كبير، بصرف النظر عن خلفيّات هذا الرجالي أو ذاك في تقويم النصوص التي يرويها الرواة، فإنّ معرفتك بصدق راوٍ من الرواة أو مخبر من المخبرين إنمّا تكون تبعاً لمعرفتك بالشيء الذي أخبرك به، فعندما يخبرك زيد بأنّ السوق مغلق، ثم تذهب إلى السوق فتراه غير مغلق، ثم يتكرّر من زيد هذا الأمر عدّة مرّات، في موضوعات مختلفة، فإنّك تقول بعدها عن زيد بأنّه كاذب، وليس إنساناً صادقاً، والسبب هو أنّك اختبرت إخباراته، وعرضتها على سائر وسائلك العلميّة التي تنبؤك عن الواقع، ووجدتها في جملة من الموارد غير مطابقة للواقع.

وهذا عينه يقوم به الرجالي بشكل منطقي ومتوقّع جدّاً، فهو ينظر في مرويّات الراوي، فإذا رأى فيها غلوّاً أو ذمّاً للصحابة ـ وهو يرفض الغلوّ بشدّة، أو يرفض ذمّ الصحابة بقوّة، ويرى أنّ عدالتهم ثابتة بالقرآن الكريم ـ فإنّه لن يحتمل صدرو هذه المنقولات عن النبي وأهل بيته وصحابته، ومن ثم سيحكم على الناقل بأنّه كاذب، بينما لو كان يرى أنّ ما يسمّى بالغلوّ أو ذمّ هذا الصحابي أو ذاك هو الحقّ الحقيق، وأنّه ليس غلوّاً أبداً بل إنّما هو اعتدال، فإنّه لن يتهم الراوي في مثل هذه الأمور. فهل يعقل أنّ الرجاليّين والمحدّثين ما كانوا يلتفتون إلى هذه الحقيقة الواضحة التي يمكن العمل عليها لتقويم حال الرواة؟ هل يعقل أنّهم لم يقوّموا حال الرواة من خلال النظر في مرويّاتهم أبداً؟!

هذا كلّه، ولعلّ معروفيّة عدم ذكرهم أسانيد لتوثيقاتهم وتضعيفاتهم، يشهد ويرجّح فرضيّة الحدسيّة أيضاً، فلاحظ.

هذه الشواهد الأربعة تقوّي احتمال الحدسيّة في عمل الرجاليّين، لكنها لا ترفع احتمال الحسيّة رفعاً عقلائياً، وغاية ما تفيد أنّهم كانوا يعتمدون الحدس في بعض الموارد؛ وبهذا يظهر أنّ الشواهد المتعاكسة تفيد وجود الحسّ والحدس معاً في عمل الرجاليين، لكنّ المقدار المؤكّد أنّ الحسّ أو الحدس لم يسيطر أحدهما على نشاط الرجاليّين سيطرةً تامّة، ومعنى ذلك أنّ أيّ مورد رجالي نضع يدنا عليه:

أ ـ إذا بانت لنا قرائن الحدس فيه، بحيث حصل وثوق بذلك، تعاملنا معه تعاملنا مع الحدس، ومن ثم لا يمكن الأخذ به من باب الأخذ بحجيّة خبر الثقة.

ب ـ وكلّ مورد تأكّدنا أنّه يعتمد على الحسّ، وقامت الشواهد على ذلك، كما في إخبارهم عادةً بكتب الراوي، حيث يذكرون طريقاً إليها (بصرف النظر عن أنّ الطرق هي طرق للكتب أو لأسمائها، مما سوف يأتي بحثه مفصّلاً عند الحديث عن نظريّة تعويض الأسانيد) أمكن تطبيق قانون حجيّة الخبر.

ج ـ أما في الحالات التي نحتمل فيها الاحتمالين معاً، فهنا نبحث في الملفّ الكبروي، هل هناك أصل يرجع إليه يمكن الأخذ به ليؤسّس للحسيّة أو الحدسيّة أو أنّه لا أصل في المقام؟ وما العمل في هذا المورد؟

ب ـ دوران الأمر بين الحسية والحدسيّة، نقد القاعدة

تقدّم أنّ الأصوليّين اتفقوا على اختصاص حجيّة خبر الثقة بالخبر الحسّي، وعدم شموله للخبر الحدسيّ، وتطبيق هذه النتيجة في معلوم الحسيّة أو الحدسيّة واضح، إلا أنّ الكلام في أنّه قد يحصل شكّ في أنّ الخبر حدسيٌّ أو حسّي؟ فهل يشمله حينئذٍ دليل الحجيّة؟

من الواضح أنّ دليل الحجيّة غير قادر ـ في نفسه ـ على الشمول هنا؛ لأنّه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للعام نفسه، وهو مرفوض، فلابدّ من أصلٍ موضوعيّ ينقّح موضوع دليل الحجيّة، كي يجري هذا الدليل في المرحلة اللاحقة، وإلا صار الشكّ شكّاً في الموضوع، وهو يستتبع شكّاً في الحكم، بحسب تعبير المحقّق حبيب الله الرشتي([58]).

وقد ادّعى الشيخ الخراساني وغيره وجود هذا الأصل، وهو أصالة الحسّ؛ استناداً إلى أنّ العقلاء يبنون على حسيّة الخبر في حال الدوران المذكور، ولا يسألون المخبر عمّا إذا حصل على هذا الخبر عن طريق الحسّ أو الحدس([59]).

وقد استفاد بعض الرجاليّين المتأخّرين من هذا الأصل لإثبات شمول دليل الحجيّة هنا لأقوال الرجاليّين، لتصبح حجيّتها من باب حجيّة خبر الثقة؛ إذ قالوا: إنّ الأصل هو كون خبر الرجالي بالوثاقة وعدمها قد ورد عن حسّ، واحتمال كونه عن اجتهادٍ وحدس مردودٌ بهذا البناء العقلائي، فيكون مشمولاً لدليل الحجيّة.

وحاول السيد الصدر تقريب المشهد من خلال القول بأنّه لا يوجد أصل مستقلّ بعنوان أصالة الحس، بل أصالة الحسّ ليست سوى الناتج عن انضمام حجيّة الظهور إلى حجيّة خبر الثقة، فإنّ المخبر عندما يخبر عن قيام زيد مثلاً فإنّ غلبة كون الأخبار التي من شأنها أن تُدرك بالحس أنّها تقال بداعي الإخبار عن حسّ، هذه الغلبة تحقّق ظهوراً تصديقيّاً سياقيّاً في كون المتكلّم إنّما يخبر بهذا الداعي، وهذا يعني أن قوله: زيد قائم، يصبح مضمونه ـ ببركة هذا الظهور التصديقي السياقي ـ في قوّة قوله: إنّي أدركت حسّاً أنّ زيداً قد قام، فنضمّ هذا الظهور الحجّة إلى حجيّة خبر الثقة فنأخذ بقوله هذا. ولهذا لو اكتنف الكلام بما يصلح للقرينية على الحدس، فلا معنى لإجراء أصالة الحسّ هنا؛ لأنّها ليست أصلاً مستقلاً ولا تعبّديّاً([60]).

وقد رفض الميرزا حبيب الله الرشتي وغيره هذا الأصل المزعوم، معتبراً أنّ الجملة الخبريّة التي يقولها المخْبِر لا تحمل لا ظهوراً وضعيّاً ولا عرفيّاً في أنّ هذا الخبر كان عن حسّ، وليس هناك ظهورٌ خاصّ يفسح المجال لافتراض أصالة الحسّ هنا([61]).

والتحقيق أن يقال: إنّ العقلاء لديهم حالتان في التعامل مع الخبر الوارد إليهم:

الحالة الأولى: أن لا يعرفوا حسّيته من حدسيّته، لكنّهم يرون احتمال حدسيّته مجرّد افتراض احتمالي منطقي، وقد سمّينا هذه الحالة من الشك بالشك الافتراضي، والصحيح أنّه تجري أصالة الحسيّة هنا، ولو للمدرك الذي طرحه السيّد الصدر في المقام، وهو غلبة الإخبارات الحسيّة فيما من شأنه أن يُدرك بالحسّ، لكنّ ذلك لا لوجود أصلٍ مستقلّ اسمه أصالة الحسّ، ولا لأنّه نتيجٌ تلقائي لانضمام قانون حجية الخبر مع قانون حجيّة الظهور، بل لأنّ العقلاء في حالات الشك الافتراضي لا يبالون بمثل هذا الشك، ولا يقفون عنده، ولا يلتفتون إليه، وهذا يعني أنّهم في الحقيقة مطمئنّون بحسيّة الخبر وأنّ احتمال حدسيّته هو بنسبة ضئيلة جداً لا يبالون بها عادةً.

فلو قال لك شخص أتى من الخارج ودخل البيت: إنّ المطر ينهمر في الخارج، ففي هذه الحال يوجد احتمال منطقي صرف في أن يكون حصل على هذه المعلومة عبر الحدس والتخمين أو عبر ما هو مركّب من الحسّ والحدس، فليست هناك استحالة، لكن مع ذلك لا يبالي العقلاء بمثل هذا الأمر، بل يطمئنّون لحسيّة الخبر ويعملون به، وما ذلك إلا لأنّ حياة العقلاء لا تسير على محض الاحتمالات الصرفة، إلا في الحالات الاستثنائية جداً، والتي تكون شديدة الخطورة للغاية، وهي حالات نادرة في حياة الناس، كما حقّقناه في أصول الفقه.

الحالة الثانية: أن يكون الشكّ شكّاً حقيقيّاً كما سمّيناه في مواضع عدّة، وهو أن تتوافر معطيات لكلا الاحتمالين معاً، بحيث تُحدث شكّاً والتباساً ودوراناً حقيقيّاً في الذهن العقلائي، كأن يخبرك خبراً ما محلّلٌ سياسي تكثر في إخباراته كونها تحاليل سياسيّة لا معلومات خبريّة، فهنا من أين نحرز أنّ العقلاء يبنون على حسيّة قوله عندما يلتفتون إلى هذا التردّد ويحصل لهم الشكّ الحقيقي؟!

وهذا هو بالضبط ما حصل في علم الرجال، كما تقدّم، فنحن نملك علماً حقيقيّاً بوجود حالات معتدّ بها أعملوا فيها الحدس، ونملك ـ إلى جانب ذلك ـ احتمالاً قويّاً بحالات أخَر أن يكونوا استخدموا فيها مناهج الحدس والاجتهاد، ومع العلم الإجمالي الحقيقي بوفرة هذه الموارد، وعدم وجود سبيل لنا للتمييز بينها في كثير من الحالات ـ على حدّ تعبير بعض المعاصرين([62]) ـ كيف لنا أن نجري أصالة الحسّ؟ وما هو المنبّه لوجود مثل هذه الأصالة في حياة العقلاء في مثل هذا النوع من الشكوك؟ ويكفي الشكّ لنفي ذلك؛ لأنّ السيرة دليل لبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن.

وأمّا ما ذكره السيد الصدر من الغلبة أو ادّعاء أنّ ظاهر الخبر تصديقاً هو الحسيّة، فإنّه لا يجري هنا:

أ ـ لأنّ الغلبة لا تقاوم حالة الشكّ الحقيقي؛ إذ القوّة الاحتماليّة في الغلبة معارضة بالقوّة الاحتماليّة الموجودة في معطيات هذا الشك والدوران في المورد، وإنما تنفع الغلبة حيث يكون الشكّ افتراضياً، إذ يحصل منها الاطمئنان المتكوّن من عدم الالتفات.

ب ـ وأما ادّعاء أنّ ظاهر الأخبار هو الحسيّة، فهو صحيح بلحاظ مضمون الخبر، لا بلحاظ كيفية حصول المُخْبِر عليه، وإلا عاد إلى الغلبة.

ج ـ وأما الحديث عن أنّ مقتضى وثاقة الراوي حسيّة خبره؛ لوجود ظهور تصديقي في أنّ المتكلّم في الإخبارات التي من شأنه إدراكها بالحسّ ظاهرُ حاله أنّه بداعي الإخبار عن حسّ، فهذا غير واضح في الشكّ الحقيقي، ونحن لا نلمسه بوجداننا، فهل تشعر ـ مع تردّدك في المنهج الذي اعتمده الرجالي ـ هل تشعر بأنّ ظاهر كلامهم هو الحسيّة؟! وإذا قلنا: إنّ علماء الرجال إخباراتهم حدسيّة هل يكون في ذلك طعنٌ في وثاقتهم عرفاً؟

نعم، في بعض الحالات التي لها قرائنها الخاصّة قد يحصل ذلك، كما في حالة شهادة الشاهد في المحكمة؛ فإنّ إدلاءه بالشهادة ضمن سياق محاكمة شخص آخر لابدّ فيها من الحسيّة، فاعتماده على الحدس فيه إخلال بالظهور الحالي الآتي من التباني القانوني على لزوم الشهادة الحسيّة في المحاكم، فيحصل ظهور تصديقي أنّه يخبر عن حسّ، ومن ثم فيخدش ذلك في وثاقته لو كان علمه عن حدس، ولكنّ هذا الأمر لا يسري إلى تمام الإخبارات المتداولة بين العقلاء، بحيث إذا أدلى بخبرٍ حدسيّ أو غير مكتمل الحسيّة ـ مع عدم قيام شواهد على المفروغيّة عن شرط الحسيّة في هذا النوع من الإخبار ـ يكون كاذباً أو فيه شبهة الخدش في وثاقته، كما قد يستوحى من كلام السيد الصدر، على أساس أنّ جملة: «زيد مات»، معناها: أني أدركت حسّاً أنّ زيداً قد مات. وهل هناك تبانٍ بين قدامى الرجاليين في أن لا يخبروا عن الوثاقة إلا عن حسّ؟! وأين هي قرينته وقد رأينا لهم تطبيقات كثيرة مارسوا فيها الحدس؟!

فسبب الاشتباه هنا، كما في العديد من تفسيرات الأصوليّين للبناءات العقلائيّة، أنهم لم يميّزوا بين حالات الشك الافتراضي الذي هو شكّ في المنطق التجريدي، لكنه لا يعوّل عليه في السير العقلائيّة، وحالات الشك الحقيقي المنطلق من وجود شواهد وإمكانيات تسمح بولادة احتمال عقلائي معتدّ به بالحدسيّة، فذهاب جملة من العلماء الكبار في علم الرجال إلى القول بحدسيّة إخبارات متقدّمي الرجاليين، إلى جانب الفاصل الزمني الطويل بين الرجاليّين وأكثر الرواة؛ إلى جانب شواهد الحدسيّة الظاهرة هنا وهناك من كلماتهم ممّا تقدّم بيانه، إلى جانب ضعف قرائن الحسيّة التي قدّمتها مدرسة السيد الخوئي، هذا كلّه لا يسمح لنا بإجراء افتراض وجود تبانٍ مسبق على لزوم الإخبار الحسيّ من قبل العالم الرجالي حتى ينعقد ظهور حالي سياقي أو حتى نشكّك في وثاقته لو لم يخبر عن حسّ، ومن ثم فلا موضوع لأصالة الحسّ في المقام.

فالصحيح هو التمييز بين حالات الشك الحقيقي والافتراضي، وتبعيّة المسألة للقرائن الحافّة، لا لوجود أصل تعبّدي اسمه أصالة الحسّ، ولا لأصل عقلائي دائم وكلّي اسمه أصالة الحسّ، ولعلّ هذا ما أراده السيّد الصدر، إذ أقرّ بأنّ وجود ما يكتنف الكلام مما يصلح لقرينيّة الحدس يوجب الإجمال، فإنّ هذا ما نقصده ونعنيه، فإنّ ما يكتنف سياق نشاط الرجاليّين يوجب احتمال قرينية الحدس في كلامهم.

وبهذا يتبيّن أنه لا يصحّ إعمال قاعدة منقّحة لموضوع دليل حجيّة خبر الثقة، لتصحّح جريانه في المقام، والمفروض أنّ دليل الحجية غير قادر على الشمول في نفسه؛ لعدم تحقيق الحكم لموضوعه وعدم إمكان التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للعام نفسه، فإشكال الحسيّة والحدسيّة محكّم، ولا دافع له ما دام احتمال الحدسيّة احتمالاً معقولاً معتداً به، كما ظهر مما أسلفناه. وهذا يعني عدم إمكان إجراء دليل حجيّة خبر الثقة في كلمات الرجاليّين، إلا في الموارد التي يُحرز فيها الحسيّة أو يكون احتمال الحدسيّة غير ملتفت إليه عرفاً وعقلائياً.

6 ـ 4 ـ 2 ـ إشكاليّة عدم سلامة المبنى الأصولي

نقصد بهذه الإشكاليّة أنّ النظريّة السادسة هنا تقوم على أساسٍ أصوليّ معروف بين المتأخّرين، وهو نظريّة حجيّة خبر الثقة الظنّي، وهذا معناه أنّ هذا الأساس الأصولي لابدّ أن يكون مفروغاً عنه في المرحلة السابقة، وقد أثبتت مدرسة السيّد الخوئي وغيره هذه النظريّة في علم الأصول، فكان من الطبيعي أن تبني عليها في علم الرجال.

إلا أنّنا بحثنا في علم أصول الفقه بالتفصيل في نظريّة حجيّة الأخبار([63])، وتوصّلنا إلى أنّ خبر الثقة الظنّي لا حجيّة له، وأنّ الحجيّة هي للخبر الموثوق المطمأنّ بصدوره، وأنّ وثاقة الراوي تمثل أحد سبل حصول الوثوق في الجملة، من هنا فالنظريّة السادسة هنا لا تسلم من حيث الأساس الأصولي الذي تقوم عليه، فلا يصحّ الاستناد إليها في علم الرجال والجرح والتعديل، وإذا استند إليها فستكون راجعةً إلى النظريّة السابعة القادمة، والتي تقوم على مبدأ الاطمئنان أو الظنّ الاطمئناني، تماماً كنظريّة حجية قول أهل الخبرة كما أسلفنا.

6 ـ 4 ـ 3 ـ إشكالية الإرسال والإسناد في التقويمات الرجاليّة

إذا قبلنا بالمبنى الأصولي المعتمد في هذه النظرية (السادسة)، وغضضنا الطرف عن إشكاليّة الحسية والحدسية، بحيث قدّمنا جواباً في هذا المجال، إلا أنّ مشكلةً ثالثة سوف تظهر أمامنا، وقد طرحها بقوّة، وعلى السيد الخوئي نفسه، الشيخُ محمد آصف محسني المعاصر، ووعد بجائزة لمن يقدّم له حلاً لهذه الإشكاليّة، والظاهر أنّ بداياتها كانت مع الشيخ الطريحي في الرجال.

وحاصل الإشكاليّة التي صارت محلّ بحث العديد من الباحثين الرجاليّين المعاصرين، أنّ إخبار علماء الرجال بوثاقة أحد الرواة مثلاً، إذا كان عن حسّ، فيكون إخباراً مرسلاً؛ لأنّ المفروض أنّ وثاقة هذا الراوي قد وصلته عن طريق كتاب اُلّف سابقاً في الفترة المعاصرة لذاك الراوي، ووصلت نسخةٌ من ذاك الكتاب ـ ككتاب الكناني مثلاً ـ إلى النجاشي، فاعتمد عليه في التوثيق، أو أنّ هناك سماعاً كابراً عن كابر قد وصل إلى الطوسي، فسمع الطوسي من شيخه، وهو من آخر، وهو من آخر، إلى ذاك المعاصر للراوي الذي قال: إنّ الراوي الفلاني ثقة، وبهذا تمّ التوثيق.

لكن إذا كان كذلك، فأين هي سلسلة السند التي اعتمد عليها الرجالي؟! إذا جاءنا خبرٌ بلا سند عن المعصوم قلنا بأنّ هذا الخبر مرسل، ولم نعتمد عليه؛ لجهالة الرواة الواقعين في السند، فنحن لا نعرف حالهم هل هم ثقات أو عدول أو ليسوا بثقات ولا بعدول؟ فيكون الرواة بحكم مجهولي الحال، وقد تقرّر في الدراية والأصول أنّ خبر مجهول الحال غير حجّة. والأمر عينه يجري هنا؛ فكلّ إخبارات الرجاليّين مرسلة، إلا نادراً، والخبر المرسل لا حجيّة له، فكلّ إخباراتهم ستغدو لا قيمة لها([64]).

إشكاليّة الإرسال والمحاولات الجوابيّة

هذه الإشكاليّة حازت على اهتمام مدرسة السيد الخوئي؛ التي يعدّ الشيخ آصف محسني منها، وقد قدّمت ـ أو يمكن أن تقدّم ـ في مجالها عدّة أجوبة، أهمّها:

أ ـ التمييز بين الإرسال الروائي والإرسال الرجالي، قراءة نقديّة

الجواب الأوّل: ما ذكره الشيخ مسلم الداوري وغيره، من أنّ هناك فرقاً بين الإرسال في الروايات والإرسال في تقويمات الرجاليّين؛ لأنّ الإرسال الرجاليّ لا يكون إلا بعد أن يكونوا قد سمعوا من مشايخهم ـ كلاً أو أكثريّاً ـ وثاقة هذا الراوي، بحيث يحصل لهم العلم الوجداني أو التعبّدي بذلك، فهم عندما يحكمون بوثاقة داود بن فرقد مثلاً يحكون عن وضوحٍ وعلم، وهذا معناه أنّهم كانوا مطمئنّين بوثاقة الوسائط التي أخبرتهم بحال هذا الراوي أو ذاك، لهذا جزموا بوثاقته وحكموا بها، وإلا لنسبوا الحكم بوثاقته إلى فلان أو فلان، وأين هذا من الإرسال في الروايات؟ حيث إنّ الإرسال فيها لا يوجب العلم بوثاقة من أرسل عنه، وبهذا تحلّ مشكلة الإرسال هنا([65]). وعليه فهم إمّا كان الأمر واضحاً عندهم أو أخذوه من ثقة، وإلا صار توثيقهم لغويّاً([66]).

وبعبارة ثانية: إنّ الرجالي يتحدّث عن العدالة التي هي عبارة عن حالة راسخة لا تُعلم إلا بالمعاشرة، على خلاف الإخبار عن رواية، والتي هي حدث يقع في زمانٍ محدود وينتهي، فإذا كان الرجالي يحكم بالوثاقة فإنّما ذلك كي يعمل به الناس ويعمل به هو أو غيره، وهذا بخلاف من يدوّن الروايات، فإنه يدوّنها للرواية لا للعمل، ولهذا اشتهر أنّ الرواية أعمّ من الاعتقاد، وهذا كلّه يعني أنّ النجاشي عندما يوثق فإنه يكون على علم واعتقاد بالوثاقة.

وإن شئت قلت: إنّ إخبار الرجالي بالوثاقة عن إرسال حاله كحال رواية من لا يروي إلا عن ثقة، مما يعني ارتكازيّة وثاقة الواسطة([67]).

وقد كان الشيخ الإيرواني حوّل هذا الجواب إلى جوابٍ مركّب من مقدّمتين:

1 ـ قيام السيرة العقلائية على الأخذ بقول الثقة لو قال: أخبرني الثقة، ولم يسمّه لنا.

2 ـ إنّ الرجالي عندما ينقل الوثاقة فهو ملتزم بنقلها عن الثقات، وإلا فما فائدة نقلها لنا([68]).

إلا أنّ هذا الجواب قابلٌ للمناقشة؛ وذلك لمجموع الملاحظات اللاحقة معاً:

أوّلاً: أقصى ما هنالك أنّ الرجاليَّ قد حصل له العلم بوثاقة زرارة مثلاً نتيجة الأخبار التي وصلته تثبت وثاقة زرارة؛ لكنّ السؤال: ما هي قيمة العلم الذي حصل للنجاشي؟

إنّ هذه المشكلة تشبه المشكلة التي أثارها السيد الخوئي نفسه وآخرون بوجه مراسيل الصدوق التي يصدّرها بكلمة: «قال»؛ إذ ذهب بعضهم إلى حجيّة هذا النوع من المراسيل؛ لأنّ الصدوق يجزم بنسبة الحديث للإمام، ولم يقل: «وروي»، مما يفيد عدم الجزم([69])، وكان الإشكال هناك بأنّه فليجزم الصدوق، لكن ما قيمة جزمه بالنسبة إلينا؟ وقد ذكر بعضهم أنّ الصدوق كان صافي الضمير سريع الوثوق([70]).

إنّ جزم النجاشي كما يمكن أن يكون قد انطلق من وجود روايات مسندة وصلته توثق هذا الراوي، ويعتقد هو شخصياً بوثاقة جميع رواة هذه الروايات، كذلك يمكن أن يكون اعتمد ـ على الطريقة التاريخيّة ـ على توثيق هذا الراوي في عدّة أخبار مرسلة وصلته، أو في عدّة كتب لم يثبت صحّتها مع عدم وجود معارض، فحصل له الوثوق والاطمئنان بالوثاقة، فحكم بها.

إنّ الجزم والاطمئنان بالوثاقة يمكن أن ينتج على منهج الوثوق، فكما كانوا يعتمدون الوثوق بحشد الشواهد والقرائن، كذلك يمكن أن يعتمده هنا، بحشد بعض الأخبار الضعيفة أو المرسلة التي وصلتهم مع عدم المعارض، وحينئذٍ فلا يكون وثوق النجاشي حجّةً علينا من باب حجيّة الخبر؛ وإلا لكان وثوق الصدوق حجّةً من باب الأخبار في الروايات المرسلة التي نقلها لنا في كتابه «كتاب من لا يحضره الفقيه» الذي ذكر في مقدّمته أنّه يذكر فيه ما يفتي به ويعتقد بينه وبين ربه([71]).

هل هناك ما يدفع أن يكون الطوسي والنجاشي والصدوق وغيرهم قد اعتمدوا في الجملة على حشد الروايات الواردة في الراوي عن السابقين من العلماء ـ ولو كانت ضعيفة ـ فحصل لهم الوثوق بها، فكيف يكون وثوقهم حجّة؟ ومن قال إنّهم كانوا يعتمدون نظريّة حجية خبر الثقة، وليس الخبر الموثوق الذي يبرّر لهم الجزم أيضاً؟ بل ربما لو رأى النجاشي مواقف رجاليّي الطبقة السابقة عليه لحصل له وثوق بهم وجزم في بعض الموارد على الأقلّ.

ونحن لا ندّعي أنّ ذلك حصل في تمام حالات التوثيق والتضعيف، بل في بعضها ولو بنسبة الثلث، ومعه فكيف نستطيع الأخذ بتوثيقاتهم وتضعيفاتهم كلّها حينئذٍ وفقاً لنظريّة حجية خبر الثقة الظنّي؟! بل ربما قال الرجالي القديم بكفاية مطلق الظنّ الشخصي في باب الرجال، فحصل له الظنّ بالطريق غير المعتبر سنداً.

ثانياً: ثمّة التباس حصل، وذلك أننا نتصوّر اليوم أنّ الطوسي والنجاشي قد ألّفا كتابهما لأجل عمل العلماء بعدهما بما توصّلا إليه في التوثيق والتضعيف، نعم، كتب هؤلاء العلماء هي كذلك اليوم بالنسبة إلينا، لكنها لم تكن كذلك حينما اُلّفت، وهذه نقطة جديرة بالتأمّل، وتكشف عن ضرورات الدرس التاريخي لتطوّر العلوم الإسلاميّة.

إنّ من يراجع تاريخ علم الرجال عند الشيعة يعرف أنّ علم الرجال الذي يصنّف بهدف معالجة الأسانيد، ومعرفة الثقة من غيره من الرواة، لم يظهر من كتب الشيخ والنجاشي والبرقي، وإنّما مع ابن داود الحلّي والعلامة الحلّي وابن طاوس الحلّي وأمثالهم، حيث بدأ تصنيف الكتب على أساس معيار الممدوح والمهمل والضعيف والمعتمد و.. أما النجاشي والطوسي والبرقي فقد ألّفوا تارةً لأجل بيان الطبقات مثل رجال البرقي ورجال الطوسي؛ وأخرى لبيان المصنّفات والمصنِّفين الشيعة مقابل ردّ التهمة التي وجّهها غير الشيعة عليهم آنذاك، من أنّهم لا مصنفين ولا مصنّفات لهم، كما يظهر من مقدّمة النجاشي نفسه([72])، أما مقدّمة الطوسي للفهرست فظاهرة في أنّ كلّ هدفه كان بيان المصنّفات والكتب والأصول، وأنّه طُلب منه ذلك، مع إشارته أنّه سيورد مذهب الراوي وجرحه وتعديله([73])، وهو ما لم يفِ به داخل كتابه، الأمر الذي قد يعزّز أنّه لم يكن من أولويّاته.

وهذا كلّه هو ما يفسّر أنّ نسبة الأسماء الموجودة في فهرستي: النجاشي والطوسي لا تشكّل العشرة في المائة من الرواة الموجودين في المصادر الحديثيّة الشيعيّة، فالطوسي ترجم لـ 912 شخصاً في الفهرست، فيما ترجم النجاشي لـ 1269 شخصاً، وأكثر من النصف مكرّرٌ بينهما، فيما إجمالي عدد الرواة يقارب الاثني عشر ألف راوٍ؛ والسبب أنّ همّهم ذكر من كان له كتاب، لا من مطلق من روى.

ويبدو أنّ العقلية الرجاليّة الوحيدة كان ابن الغضائري؛ إلى جانب الذهنيّة الرجالية (النسبيّة) التي حملها الكشي الذي ذكر لنا رواياته مع أسانيدها، وفي أكثر الأحيان لا يعطي رأياً رجالياً.

مع هذا كلّه، كيف نستطيع التأكّد من أنّ الطوسي والنجاشي لمّا ألّفا كتبهما كانا يهدفان إرشاد العلماء إلى حال الرواة ليعملوا برواياتهم في المستقبل؟ والله العالم.

ثالثاً: إنّ الحديث عن ارتكازيّة الواسطة على أساس أنّ الرجالي حاله حال من لا يروي ولا يُرسل إلا عن ثقة، مجرّد ادّعاء لا يوجد عليه شاهد تاريخي غير ما تقدم وناقشناه، فلم يحدّثنا الرجاليّون ولا من نقل عنهم عن وجود ارتكاز عندهم على عدم الأخذ إلا من الثقة، نعم الارتكاز قائم على عدم البت بوثاقة شخص وضعف آخر إلا بعد تحصيل معطيات تقنعه بذلك؛ لأنّ هذا هو مقتضى الأمانة والوثاقة التي نراها في العالم الرجالي، أما غير ذلك فهذا ما لا دليل عليه، ولا دليل على حصر حصول القناعة لهم بوثاقة شخص من خلال السند الصحيح المعتبر وفقاً لطريقة المتأخّرين في حجية الخبر الواحد الظنّي.

رابعاً: إنّ ما ذكره الأستاذ الشيخ الإيرواني من مقدّمتيه صحيحٌ على مستوى المقدّمة الأولى في الجملة؛ لأنّ توثيق الثقة لمن ينقل عنه لا يشترط في تصحيحه ـ عقلائياً ـ معرفة الاسم؛ لكفاية عدم إحراز التضعيف في الأخذ بالتوثيق في الجملة، لكنّ المقدّمة الثانية غير واضحة، فالفائدة أنّه حصل له الوثوق فنقل على أساسه، وهذا مبرّر كافٍ للنقل بلا حاجة إلى اشتراط الوثاقة، ولاسيما على نظريّات القدماء في الوثوق والوثاقة.

وبهذا يتبيّن أنّ الجواب الأوّل عن إشكاليّة الإرسال غير تام، رغم اشتهاره نسبيّاً.

ب ـ مرجعيّة الوضوح في التقويمات الرجاليّة، تعليق ونقد

الجواب الثاني: ما يُستنبط من كلام السيد الخوئي المتقدّم في ردّ إشكاليّة الحدسيّة، وطَرَحه الشيخ الإيرواني، وحاصله: إنّ الرجاليّين لو كانوا ينقلون توثيق زيد أو تضعيف عمرو، لكان لإشكاليّة الإرسال مجال؛ إلا أنّ طريقتهم في التعرِّف على أحوال الرواة كانت مختلفة تماماً؛ لأنهم بكثرة المصادر التي وصلتهم ووضوح أمر الرواة، فقد استندوا إلى هذا الوضوح التام واعتمدوا عليه ونقلوا على أساسه، وفي مثل هذا النوع من النقل ـ كنقلنا وثاقة الشيخ الأنصاري ـ لا يُحتاج إلى إسناد ولا يضرّ الإرسال؛ لأنّ النقل لا يقوم على نقل زيد عن عمرو عن بكر، كما صار واضحاً([74]).

وهذا الجواب تقدّم إبطال أساسه، وأنّ حالة الوضوح المدّعاة إنما تصحّ في عدد قليل من الرواة، ولاسيما مع وجود تعارض بين الرجاليّين، وبين العديد من الروايات التي تقوّم حال بعض كبار الرواة كزرارة وغيره، بل لقد وجدنا بعض الرجاليّين يضعّف شخصاً في كتابٍ ويوثقه في آخر، مما يدلّ على تغيّر في رأيه، وهذا ما يعزّز الحدسيّة أو على الأقلّ يضعّف دعوى الوضوح التام في أمر الرواة جميعاً.

واللافت أنّ السيد الخوئي وبعض أنصار مدرسته قد ردّوا إشكال الحدسيّة بالوضوح الناتج عن تراكم المعطيات والكتب عند الرجالي، بقطع النظر عن السند، فإذا كانت هذه الطريقة تفي بالحسيّة وتدرأ شبهة الحدسيّة، فما هو المانع إذن ـ بعد ردّ دعوى الوضوح التام المطلق ـ أن نقول: إنّه قد حصل للنجاشي في بعض الموارد وضوحٌ شحصي بوثاقة الراوي دون أن يكون اعتمد على إسناد الثقة، بل كفاه في تحصيل هذا الوضوح الشخصي إسنادان أو ثلاثة لم يرد فيهما رجلٌ كذاب؟ وهذا لا يحوّل عمله من الحسيّة إلى الحدسيّة التامّة.

ج ـ تخريج الموقف وفق مقولة شهادة الثقة، إبطالٌ وردّ

الجواب الثالث: ما ذكره الشيخ الإيرواني أيضاً، واعتبره جواباً جديداً، وحاصله أنّ هناك شيئاً في ذهن العقلاء اسمه شهادة الثقة، ويُقصد بشهادة الثقة أن يشهد الثقة ويخبر ـ مثلاً ـ بإخبار شخصٍ بوثاقة زيد، ويبني في الوقت عينه على وثاقته، ويتبنّى هو وثاقته.

وفي مقابل شهادة الثقة التي هي ظاهرة عقلائيّة يوجد أمران:

أ ـ الشهادة الشرعيّة، ويقصد بها الشهادة بالمعنى الشرعي الوارد في كتاب القضاء، والتي يشترط فيها الحياة في الشاهد والتعدّد والعدالة وما شابه ذلك، وهو ما يسمّى بالبيّنة الشرعيّة.

وهذه تختلف عن شهادة الثقة التي لا تؤخذ فيها ـ عند العقلاء ـ مثل هذه القيود.

ب ـ إخبار الثقة، وهو أن يخبرني الثقة بأمرٍ بصرف النظر عن بنائه هو عليه أو عدم بنائه، فالحيثية موقوفة على الإخبار فقط.

وهنا، إذا بُني على البيّنة الشرعيّة أو إخبار الثقة، جاءت إشكاليّة الإرسال، إلا أنّ العقلاء لا ينظرون إلى الإسناد والإرسال في شهادة الثقة، بل يكتفون باحتمال الحسيّة فيها، وبهذا نجعل قول الرجالي من باب شهادة الثقة؛ لأنه يتبنّى التوثيق ونحوه، واحتمال الحسّ فيه وارد باحتمال الوضوح الناتج عن كثرة الكتب..([75]).

ويناقش:

أوّلاً: لو وافقنا على أنّ الإخبار بشيء له حالتان: حالة التبنّي لما يخبر عنه، وحالة عدم التبنّي المذكور، لكنّ هذا لا يؤسّس ظاهرتين في الحياة العقلائيّة، لنسمّي الأولى إخبار الثقة، ونطلق على الثانية عنوان شهادة الثقة، فلو راجعنا العقلاء لا نجد في حياتهم تمييزاً بين المفهومين، بل الأغلبيّة الساحقة من الإخبارات تكون مع تبنٍّ عادةً؛ لأنه عندما يخبر بموت زيد فهو ـ في ظاهر حاله ـ يبني على وفاته بعد أن أخبر بأنّه رآه ميتاً، فهل يسمّي العقلاء هذه الإخبارات شهادات، ويميّزونها في وعيهم العقلائي عن الإخبار؟!

ونحن إن لم نجزم بعدم وجود ظاهرتين عقلائيّتين، فلا أقلّ من الشك المساوق للعدم في الأدلّة اللبيّة التي يقتصر فيها على القدر المتيقّن. نعم يوجد بحث مطروح في أصول الفقه، وهو حجيّة خبر الثقة لو عمل الثقة نفسه بخلاف ما أخبر به، وهذا يقع على عكس المسألة التي نحن فيها.

ثانياً: سلّمنا وجود ظاهرتين، لكنّنا لم نتعقّل أنّ العقلاء يسألون في إحداهما عن الواسطة فيحكمون بالإرسال من دونها، فيما لا يسألون في الثانية، فمن أين هذا الادّعاء؟ فلو أخبرني زيد بأنّه اُعْلِمَ بوفاة عمرو، وبدا لي أنّه يحكم طبقاً لذلك، فهل هذا معناه توثيقه للواسطة؟! ألا يمكن أن يكون لوثوقه بالخبر بعد قيام شواهد تجبر عنده ضعف السند؟! إنّ أقصى ما يبرهن به على هذه الدعوى هو ما جاء في الجوابين المتقدّمين، وقد أجبنا عنهما؛ ومن ثمّ فليس هذا جواباً جديداً حتى يُعتمد عليه.

نعم، توثيق الناقل للواسطة، بمعنى تصديقه لها في خصوص هذا الخبر، ولو جاء التصديق من القرائن الحافّة، هو أمرٌ مقبول؛ لكنّ هذا لا يجعل الواسطة عنده ثقةً بعنوانها، كما هو واضح.

والغريب أنّ الشيخ الإيرواني نفسه ردّ مراسيل الصدوق بما فيها المصدّرة بمثل: «قال»؛ لأنّه احتمل أنّ جزم الصدوق قد يكون وُلد نتيجة قرائن خاصّة احتفّت بالمضمون، لو اطّلعنا عليها لما أورثتنا ذلك ولحكمنا ببطلانها، مع أنّه أقرّ بوجود احتمال الحسيّة([76]). فكيف لم يطبّق هناك ما قاله هنا من قَبْل في الكتاب نفسه من إجراء عنوان شهادة الثقة، لاسيما وأنّ الصدوق صرّح في مقدّمة «الفقيه» بأنّه لا يورد فيه إلا ما يُفتي به ويراه حجّةً بينه وبين ربّه، كما تقدّم.

وعليه، فهذا الجواب دعوى بلا دليل، ولو تمّت لقامت على الجوابين المتقدّمين.

د ـ الاستعانة بالإجماع الجبري، وقفات وتعليقات

الجواب الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ هناك فرقاً في المقام بين الإرسال في الروايات والإرسال في تقويمات الرجاليّين، وذلك بانعقاد الإجماع القطعي على العمل بتقويمات الرجاليّين، مما يجبُر الضعف السنديّ الناتج عن الإرسال فيها، على خلاف الإرسال في الروايات، فلم ينعقد مثل هذا الإجماع الجابر لضعف السند.

وقد حاول صاحب هذا الجواب أن يدفع إشكالاً صغروياً مقدَّراً على دليل الإجماع هنا، فذكر أنّ إنكار الإخباريّ لعلم الرجال والحاجة إليه لا يقدح في هذا الإجماع؛ لأنّه إنّما أنكره لاستغنائه عنه و.. ولولا اعتقاده هذا لما تردّد في الأخذ بقول الرجالي مع وجود الإرسال، فيكون الإجماع هنا تقديرياً([77]).

وقد يعلّق على هذا الجواب أيضاً؛ وذلك:

أوّلاً: لقد عمل كثيرون بقول الرجالي لا من باب الإخبار حتى يتغاضى عن الإرسال، بل من باب قول أهل الخبرة أو الظنون الاجتهاديّة أو الظنّ الاطمئناني الانتظامي، ومع تعدّد المدارك، لا يفيد هذا الإجماع؛ لكونه واضح المدركيّة حينئذٍ، فإذا اختلفنا معهم في المبنى ـ والمفروض على النظريّة السادسة هنا هو الاختلاف معهم في المبنى ـ لم يعد يمكن التعويل على الإجماع المذكور هنا. فلو قلنا لهم: افرضوا أنّ نظرية حجية قول أهل الخبرة باطلة أو افرضوا أنّ نظريّة حجيّة الظنّ الاطمئناني باطلة أو.. هل تعملون بخبر الرجالي المرسل؟ فمن غير المعلوم قبولهم بذلك إلا على مسلك الانسداد، وهذا عودٌ إلى النظريّة الثالثة في المقام.

وبعبارة أخرى: إنّ تعدّد مدارك الراجعين إلى أقوال الرجاليّين، بما فيها مدارك لا تنظر إلى الحيثية السنديّة أساساً، لا يسمح بوفاء الإجماع بجبر السند، فلو أنّهم أجمعوا على العمل برواية معيّنة، لكن من باب حُسن مضمونها الذاتي مثلاً، فهذا لا يجبر ضعف السند كما هو واضح، بل لابدّ أن يجمعوا على العمل بها انطلاقاً من صدورها عندهم بالفعل وانتسايها للمعصوم، حتى يكون هذا الاعتقاد الصدوري والجري العملي منهم جابراً للضعف.

ثانياً: أين اعتمد القدماء ـ وهم المناط في حجيّة الإجماع غالباً ـ على مرسلات الرجاليّين بوصف ذلك قاعدةً عامة؟ بل الذي رأيناه أنّ حضور النجاشي والطوسي ـ بما لهما من حيثية رجاليّة ـ في كتب الفقه والكلام والتفسير، وفي تقويم الروايات نادرٌ جداً، وقد كانوا يعتمدون الوثوق، وقول الرجالي أحد عناصر الوثوق، لا أنّه العمدة حتى يكون إجماعهم جابراً لضعف السند.

نعم، منذ عصر العلامة الحلّي بدأ موضوع الاعتماد على كتب الرجاليّين وصارت هذه الكتب مرجعاً لكثير من العلماء، أمّا قبل ذلك فلا نكاد نعثر على شيء يركن إليه لتحصيل العلم بإجماع أو شهرة في هذا المجال، فهل يكفي إجماع العلماء منذ عصر العلامة إلى يومنا في الكشف عن موقف شرعي يفيد حجيّة العمل بمراسيل الرجاليّين؟

بل حتى لو اعتمد الرجاليّون على التوثيقات المرسلة هل هذا كاشف عن اعتماد ذلك بنحو التلقّي عن المعصوم؟ هل هذا يكشف عن وجود سيرة للمتقدّمين في عصر النصّ على العمل بمراسيل الرجاليّين السابقين على النجاشي والطوسي والمفيد وغيرهم؟ كيف يمكن إحراز ذلك؟

ثالثاً: إنّ الإخباريَّ لا يترك علم الرجال للاستغناء عنه فقط، بل بعضهم تركه لعقمه عنده، كما يظهر مثلاً من ملاحظات مثل المحدّث البحراني، وسيأتي بحثها، فالتقديريّة هنا تحليليّة مفترضة من عندنا، لا في كلماتهم، وإلا فظاهر كلمات بعضهم عُقم علم الرجال، بل كونه مضرّاً. ومن غير المعلوم أنّه لو ثبت للإخباري أنّ نظريّته في حجيّة أخبار الكتب الأربعة غير صحيحة، أن يذهب للأخذ بتوثيقات الرجاليّين المرسلة، فلعلّه يعمل بمطلق الظنّ على الانسداد.

رابعاً: إنّما يجبر الإجماع ضعف السند ـ على ما حقّقناه في أصول الفقه ـ لو أفاد الوثوق بالمضمون والصدور، وأين هذا مما نحن فيه؟ فإن حصل للمجيب هنا وثوق من كلمات الرجاليّين بأنّ التوثيقات الحسيّة صدرت حقّاً عن الثقات في الأجيال السابقة، فهو عودٌ إلى النظريّة السابعة تقريباً؛ وإلا فلا ينفعه الإجماع شيئاً. وهذا إشكالٌ مبنائيّ.

هـ ـ افتراض التواتر وفقاً لأصالة الحسّ، نقد المحاولة المنسوبة للسيستاني

الجواب الخامس: ما ذكره الشيخ آصف محسني، ناسباً له إلى السيد علي السيستاني، عن طريق المشافهة والمذاكرة بينهما، وحاصله: إنّ المراسيل في باب الروايات لا معنى لفرض التواتر فيها؛ لأنّ طرق المحدّثين إلى النصوص والكتب والمصنفات محدودةٌ معلومة، فلا معنى لفرض التواتر فيها، ومن ثمّ فلابدّ أن تكون قد وصلتهم عبر الطرق الآحادية التي يقع فيها الثقات أو غيرهم، ولمّا لم يذكروا السند فلا يمكن تحصيل الحجّة بإخباراتهم المرسلة. وهذا على خلاف الحال من الرجاليّين؛ لأنّ احتمال وصول وثاقة الرواة إلى النجاشي والطوسي عبر التواتر لا مانع منها.

وبناءً عليه نقول: إنّ الظاهر هو بناؤهم على التواتر؛ لأنّ العقلاء يعملون بأصالة الحسّ عند الدوران بين الحسيّة والحدسيّة، فإذا قلنا هنا بالتواتر صارت إخبارات الرجاليّين حسيّةً، وأمّا إذا أنكرنا التواتر فهذا معناه أنّه وقبل توثيق الشيخ الطوسي لأحد الرواة، عليه أن يوثّق أو يعدّل كافّة الناقلين الواقعين في سند هذا التوثيق المنقول إليه، وتطبيق كبرى خبر العادل عل خبرهم، لكي يعمل به ويحكم على وفقه، وذلك ـ تطبيق الكبرى ـ لا يكون إلا عن حدس، والمفروض أنّ الأصل في إخباره أنّه عن حسّ([78]).

هذه هي الصيغة التي نقلها الشيخ آصف محسني، وسوف نناقش هذه الصيغة وفقاً لبيانه، وإن كنت أحتمل أنّ هناك نقصاً ما في صيغة هذا الجواب أو مقطعاً معيّناً ساقطاً من الفكرة.

ويمكن مناقشة هذا الجواب من خلال أمور:

أ ـ ما ذكره الشيخ آصف محسني نفسه مورداً على هذا الجواب، بأنّ هذا معناه حجيّة التوثيقات المرسلة دون المسندة؛ لأنّ المفروض أنّ المسندة قد حصل فيها تطبيق وصف العدالة على الناقلين والوسائط، والمفروض أنّ هذا الأمر حدسيٌّ، ومن ثمّ لا يكون هذا الخبر حجّةً؛ لافتقاده لخاصيّة الحسيّة في الإخبار([79]).

وهذا الإشكال يرجع في الحقيقة إلى إشكالٍ أسبق منه، وهو أنّ قول السيد السيستاني بأنّ تطبيق كبرى العدالة على الناقلين أمرٌ حدسيّ، هو في حدّ نفسه غير معلوم، فهل إذا جاءني خبر بثلاث وسائط، ثم أخبرني الثقات المعاصرين لهذه الوسائط أنّ الوسائط ثقات، فهل يكون عملي هذا أمراً حدسيّاً؟!

الظاهر أنّ مراد السيستاني أنّ نفس تطبيق الكبرى على الصغرى، بمعنى تطبيق قانون قول العادل على قول هذا الناقل الذي ثبتت عدالته، ومن ثمّ الاستناد لقوله لإصدار حكم بالتعديل أو التوثيق، هو أمرٌ حدسيّ، وبهذه الطريقة لا يرد إشكال الشيخ آصف محسني؛ لأنّ السيد السيستاني لا يقول بأنّه لو وصلني خبر النجاشي المسند بالثقات في توثيق أحد الرواة فهذا الخبر لا حجّية له بالنسبة لي، بل له الحجيّة؛ لأنّني سأطبّق بنفسي قانون حجية خبر العادل أو الثقة على سلسلة الوسائط. إنّما كلام السيستاني في نفس هذا التطبيق عندما يقوم به النجاشي نفسه، فإنّ تطبيقه هذا حدسيّ، كما هي حال تطبيقي لو قمت به، فإذا ذكر وثاقة زيد في فهرسته كان إخباره بالوثاقة ناشئاً عن حدسٍ، أي عن صغرى خبر الوسائط، المنضمّة إلى كبرى الحجيّة وعنوان صدق العادل، وبهذا يميّز السيد السيستاني بين نقل النجاشي الخبر المسند لنا مع إسناده، وبين اعتماده هو على الإسناد ليخبرنا بالنتيجة.

فهذا الإيراد الأوّل على السيّد السيستاني غير صحيح.

ب ـ ما المانع أن نقول في الجملة: إنّ قول النجاشي: فلانٌ ثقة، ليس إخباراً منه بالوثاقة، بل هو نقلٌ لها عمّن أخبر عنها، غايته أنّه قام بالنقل حاذفاً الإسناد، وهذا أمرٌ محتمل، وليست فيه مؤشرات الحدسيّة؛ لأنّه محض نقلٍ لما قيل قبله دون ذكر السند، وعليه فإذا لم نعلم نحن حال هذا السند، كيف لنا الاعتماد على هذا الخبر المرسل؟!

والفرق بين إشكالنا هذا وما تقدّم عن المحسني، أنّ نظرنا هنا إلى تحويل إخبار النجاشي بالوثاقة إلى كونه إخباراً بالنقل للوثاقة، فيصبح الإخبار حسيّاً، ويعزّزه ما ذكره الشيخ الطوسي في مقدّمة كتابه، من أنّه سوف يذكر ما قيل في الرجل من التعديل والتجريح، وكذا ما ذكره النجاشي في مقدّمة الجزء الثاني مما نقلناه عنهما آنفاً([80])، الأمر الذي يحتمل معه أنّه عندما يقول: فلان ثقة، فهو في قوّة قوله: اُخْبِرْتُ بأنّه ثقة، فلا يكون حدسٌ في البين، بل محض خبر حسيّ مرسل، فما هو الموجب لتصحيحه؟

وهذا يعني أنّنا أمام ثلاثة احتمالات، وليس احتمالين:

الاحتمال الأوّل: التواتر.

الاحتمال الثاني: الحدسيّة بالمعنى الذي قرّبه السيستاني، وفق ما نُقل عنه.

الاحتمال الثالث: محض النقل للتوثيق، وليس التوثيق، وهذا لا حدسيّة فيه.

وعليه، فلا يدور الأمر بين الحسّ والحدس لصالح تعيّن التواتر، بل يدور بين الحسّ والحدس، مع كون الحسّ دائراً بين التواتر والإرسال، فتأمّل جيداً.

قد تقول: إنّ كلامك هذا يبطل ما ذهبت إليه من أنّ توثيقات الرجاليّين حدسيّة؛ لأنّك جعلتها هنا حسيّة تفيد نقل التوثيق، وليس نفس التوثيق.

والجواب: إنّ ما ذكرناه هناك كان بحثاً في مجمل المعطيات، وقد قلنا بأنّ الحسيّة والحدسيّة معاً ظواهر قائمة في أعمال الرجاليّين، أمّا هنا فنحن نطرح الاحتمال فقط ولو في جملةٍ من الموارد، ومن ثمّ فنحن نقبل بوقوع الحسيّة في بعض الموارد ولا نرفضه. ونصّ الشيخ الطوسي الذي ذكرناه آنفاً غاية ما يفيد أنّ الطوسي نفسه لم يوثّق، بل نقل التوثيق، هذا لو قلنا بأنّ عبارته حاسمة في هذا المعنى بنحو الموجبة الكلّية لكلّ أعماله، مع أنّنا نرى أنّ عمله لم يكن فقط مجرّد نقلٍ للتوثيق دائماً، كما يظهر بالقرائن في داخل كتابه وخارجه، فلاحظ جيّداً.

وإن شئت يمكنك صياغة الإشكال المركّب على الطريقة التالية: إنّ ما يوجد في كتب الرجاليين إمّا حدس أو حسّ أو مركّب منهما ولو بالمعنى الذي ذكره السيد السيستاني، فعلى الأوّل والثالث لا حجيّة له، وعلى الثاني فهو إمّا بنحو التواتر أو النقل للوثاقة (لأنّ الحكم بالوثاقة رجع حدسيّاً وفقاً لمبنى السيستاني كما تقدّم)، فعلى الأوّل يكون حجّةً، وعلى الثاني لا يكون حجةً؛ لأنّه مرسل، لا إسناد فيه، ولمّا لم يمكن التعيين في التواتر، بطل إمكان الاعتماد على قول الرجالي من باب الإخبار في تمام الموارد.

ج ـ ما ذكره الشيخ آصف محسني أيضاً، من أنّ دعوى التواتر بعيدة؛ إذ لم يظهر أيّ قرينة عليها، بل ظاهرة تعارض التوثيق والتضعيف بينهم تشهد على عكسها، وهكذا ظاهرة اختلاف قول الرجالي الواحد بين كتابٍ وكتاب آخر، فمن أين لنا دعوى التواتر في جميع الرواة؟!([81]).

وهذا الإشكال سليم تامّ لا غبار عليه، بل من الناحية المنطقيّة وبرهان طبيعة الأشياء يبعد جداً تحصيلهم للتواتر في كلّ معطيات علم الرجال، فما الذي سيميّز هذا العلم عن غيره؟ ومن أين عرفنا أنّ طرقهم للكتب كثيرة تبلغ حدّ التواتر؟ وكيف صارت معطيات علم الرجال تحظى بالتواتر بينما أصل الروايات لا يحظى به؟ أليس في ذلك بعض الغرابة؟ فهل اهتمّوا بنقل أحوال الرواة أكثر ممّا اهتمّوا بنقل الروايات؟!

نعم، لو قيل بأنّه كان يحصل لهم العلم أو الاطمئنان من حشد الشواهد والقرائن وممارسة الاجتهاد والتقويم لنصوص الرواة وغير ذلك، فهذا ليس بالبعيد في جملة من الموارد الكثيرة، لكنّه يرجع إلى صيرورة عملهم مشوباً بالحدسيّة، ومعه فلا يمكن العمل بتوثيقاتهم من باب حجية خبر الواحد الثقة.

د ـ بل لعلّنا نستأنس لرفض فكرة التواتر العامّ، بأنّه لو كانت وثاقة الرواة معلومة بالتواتر، لكان مقتضى الأمر أن يتفق الشيعة على توثيق هؤلاء الرواة، وعليه فما معنى كلام الكشي حول أصحاب الإجماع؟! ولماذا كان هؤلاء أصحاب الإجماع دون غيرهم، فمع تميّزهم عن غيرهم يُستبعد تحصيل التواتر العام في تمام الرواة.

يضاف إلى ذلك أنّ التواتر أمرٌ نسبي في بعض موارده، بمعنى أنّ تحصيل اليقين من مجموعةٍ من الأخبار أمرٌ نسبي بين الباحثين، فقد يحصل اليقين من خبر له أسانيد كثيرة عند شخص دون شخص آخر، تبعاً لطبيعة قراءتهما للعناصر الموضوعيّة والمؤثرة في حصول العلم من التواتر، وعليه يمكن القول: إنّ التواتر لو كان عامّاً لما كان معنى لفكرة أصحاب الإجماع، ولو كان نسبيّاً فما الدليل على أنّ يقين النجاشي من التواتر الواصل إليه حجّة علينا ولو في بعض الموارد؟

هـ ـ إنّ جواب السيد السيستاني مبنيّ على أصالة الحسّ العقلائيّة، وقد تقدّم النقاش في هذا المبنى، فيكون أصل الجواب غير صحيح.

و ـ إنّ تمييز السيستاني بين الروايات وإخبارات الرجاليّين بنفي احتمال التواتر في الروايات، غير واضح؛ فإنّنا لو أردنا أن نسير على نفس طريقته في التحليل والافتراض لأمكننا القول: كما أنّهم في الرجال ذكروا النتائج مع وفرة الطرق، يوجد احتمال في باب الروايات أنّهم ذكروا بعض الطرق وليس جميعها؛ طلباً للاختصار، فما هو الموجب لنفي التواتر في هذه الحال؟! وكلّ ما يقال لردّ دعوى التواتر التقديري في الروايات يمكن أن يقال في باب الرجال، مثل حالات التعارض بين الروايات وغير ذلك. وخروج بعض الروايات بنحو العلم عن كونها متواترة عندهم لا يلغي هذا الاحتمال في غيرها لاسيما لو كانت مرسلةً.

وشاهد وفرة هذه الطرق عند الإماميّة هو ما قاله الشيخ النجاشي في مقدّمة كتابه: «وقد جعلت للأسماء أبواباً على الحروف ليهون على الملتمس لاسمٍ مخصوص منها. [وها] أنا أذكر المتقدّمين في التصنيف من سلفنا الصالح، وهي أسماء قليلة، ومن الله أستمدّ المعونة، على أنّ لأصحابنا ـ رحمهم الله ـ في بعض هذا الفنّ كتباً ليست مستغرقة لجميع ما رسمه، وأرجو أن يأتي في ذلك على ما رسم وحدّ، إن شاء الله [تعالى]. وذكرت لرجلٍ طريقاً واحداً حتى لا يكثر (تكثر) الطرق، فيخرج عن الغرض»([82]).

وما قاله الشيخ الطوسي في المشيخة: «.. والآن، فحيث وفّق الله تعالى للفراغ من هذا الكتاب، نحن نذكر الطرق التي يتوصّل بها إلى رواية هذه الأصول والمصنّفات، ونذكرها على غاية ما يمكن من الاختصار؛ لتخرج الأخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات»([83]). بل قد يفهم هذا أيضاً من كلام الصدوق على احتمال([84]).

فمثل هذه النصوص يدلّ على أنّ الطوسي والنجاشي والصدوق كانت لديهم طرق متعدّدة لأصحاب الكتب والمصنّفات، وأنّهم ذكروا بعضها هنا لكي لا تكون هذه الروايات التي قدّموها مرسلةً، وهذا يؤكّد وفرة الطرق، وإمكانية افتراض التواتر عندهم، وإن لم يكن افتراضاً متعيّناً، ومعه فلماذا لا نعمل بما يعملون به من النصوص؛ لأنّ ذلك دائر بين الحسيّة (التواتر) والحدسية فيه؟!

إلا إذا قيل بأنّ غاية هذه النصوص هو التواتر لأصحاب الكتب، وهو مسلكٌ لا يبتعد عنه السيد السيستاني نفسه، لكنّه لا يفيد التواتر للمعصوم نفسه.

ونستخلص مما تقدّم أنّ النظريّة السادسة تعاني من مشاكل أساسيّة مبنائيّة وبنائيّة، وأنّ الإشكاليّات الثلاث ترد عليها، فلا تصلح معتمداً لشرعنةٍ علميّة لعلم الرجال.

________________________________

([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (منطق النقد السندي 1: 100 ـ 152)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 2017م.

 ([2]) هي ظاهر: الخوئي، معجم رجال الحديث 1: 41؛ والداوري، أصول علم الرجال: 25؛ والإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 193؛ والطهراني، تحرير المقال: 29 ـ 37، 39؛ وهادي آل راضي، الدروس الرجاليّة الصوتية، الدرس 3 و 4؛ وغيرهم.

 ([3]) انظر: معجم رجال الحديث 1: 42 ـ 45.

 ([4]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: المامقاني، مقباس الهداية 2: 70.

 ([5]) انظر: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 79 ـ 108.

 ([6]) الداوري، أصول علم الرجال: 25.

 ([7]) مصباح الأصول 2: 240 ـ 241.

 ([8]) انظر: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 293 ـ 296.

 ([9]) انظر: يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 1: 22 ـ 23.

 ([10]) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار 3: 29.

 ([11]) القوانين المحكمة: 476.

 ([12]) مقباس الهداية 2: 73.

 ([13]) قاموس الرجال 1: 25 ـ 58.

 ([14]) آصف محسني، بحوث في علم الرجال: 51 ـ 52، 58.

 ([15]) بحوث في مباني علم الرجال: 88.

 ([16]) قبسات من علم الرجال 1: 12.

 ([17]) العدّة في أصول الفقه 1: 141.

 ([18]) انظر: رجال النجاشي: 28، 104، 105ـ106، 108، 113، 124، 164، 199، 207، 318، وغيرها من الموارد.

 ([19]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 1: 41 ـ 42؛ ونفس هذا الكلام يمكن لعلم الرجال السنّي أن يدّعيه فلا نطيل.

 ([20]) أصول علم الرجال: 26.

 ([21]) كلّيات في علم الرجال: 41 ـ 42؛ وانظر: محسن الأعرجي، شرح مقدّمة الحدائق، الورقة رقم: 33، 35 (مخطوط)؛ والسيفي المازندراني، مقياس الرواة في كلّيات علم الرجال: 102 ـ 105؛ والشبيري الزنجاني، كتاب النكاح 4: 1183 ـ 1184.

 ([22]) الفهرست: 32.

 ([23]) رجال النجاشي: 211.

 ([24]) الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 65.

 ([25]) الشافعي، الرسالة: 21.

 ([26]) رأيتُ مؤخّراً أنّ السيد أحمد المددي يذهب إلى هذا المعنى أيضاً، فانظر: حوارات حول علم الرجال ودوره ومشكلاته ومآلاته، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 16.

 ([27]) روضة المتقين 14: 329 ـ 330.

 ([28]) رجال النجاشي: 158؛ وانظر: الطوسي، الفهرست: 23، حيث قد يؤكّد هذا المعنى وقد ينفيه.

([29]) العدّة في أصول الفقه 1: 141 ـ 142.

 ([30]) انظر: رجال الكشي 2: 830 ـ 831.

 ([31]) رجال الطوسي: 346.

 ([32]) المصدر نفسه: 368.

 ([33]) العدة في أصول الفقه 1: 148 ـ 150. بصرف النظر عن دعوى أنّ الشيخ كان يريد هنا أصل الاحتجاج بقول السكوني في الجملة، ولو من حيث الانضمام إلى غيره، على ما قيل، ولهذا جعلنا هذا مؤيّداً وليس بدليل.

 ([34]) كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 344.

 ([35]) الرعاية: 218، ضمن سلسلة رسائل في دراية الحديث ج1.

 ([36]) وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 487، ضمن سلسلة رسائل في دراية الحديث، ج1.

 ([37]) معارج الأصول: 216.

 ([38]) رجال النجاشي: 447.

 ([39]) انظر: محمد سند، بحوث في مباني علم الرجال: 85 ـ 87.

 ([40]) رجال النجاشي: 333.

 ([41]) الفهرست: 216.

 ([42]) انظر: البهبهاني، تعليقة على منهج المقال: 366 ـ 367.

 ([43]) المصدر نفسه: 279 ـ 280.

 ([44]) انظر: قبسات من علم الرجال 1: 14.

 ([45]) رجال النجاشي: 67. طبعاً هذا بناء على أنّ المراد بالتخليط فساد المضمون لا شيئاً آخر.

 ([46]) المصدر نفسه: 164.

 ([47]) المصدر نفسه: 217.

 ([48]) المصدر نفسه: 221.

 ([49]) المصدر نفسه: 251.

 ([50]) المصدر نفسه: 265.

 ([51]) المصدر نفسه: 448.

 ([52]) المصدر نفسه: 255.

 ([53]) الطوسي، الفهرست: 219.

 ([54]) المصدر نفسه: 220.

 ([55]) المصدر نفسه: 223.

 ([56]) المصدر نفسه.

 ([57]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: ابن حبّان، المجروحين من المحدِّثين والضعفاء والمتروكين 1: 306؛ وابن عديّ الجرجانيّ، الكامل في ضعفاء الرجال 3: 189 ـ 191؛ وأبا نعيم الأصبهانيّ، الضعفاء: 83 ـ 84؛ والمزّيّ، تهذيب الكمال 9: 517 ـ 520؛ والدوريّ، تاريخ يحيى بن معين 1: 269.

 ([58]) الرشتي، فقه الإماميّة (قسم الخيارات): 287.

 ([59]) الخراساني، كفاية الأصول: 333؛ والشبيري الزنجاني، كتاب النكاح 4: 1184؛ وكاظم الحائري، مباحث الأصول ق2، ج3: 320 (الهامش)؛ وانظر: السيستاني، قاعدة لا ضرر: 86.

 ([60]) الصدر، مباحث الأصول ق2، ج2: 598.

 ([61]) الرشتي، فقه الإماميّة (قسم الخيارات): 290؛ ومحمد حسن الآشتياني، كتاب القضاء 1: 300.

 ([62]) انظر: قبسات من علم الرجال 1: 12.

 ([63]) انظر كتابنا المتواضع: حجية الحديث، والذي نشرته مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت عام 2016م، فهو دراسة مفصّلة في حجيّة خبر الواحد.

 ([64]) آصف محسني، بحوث في علم الرجال: 51 ـ 59.

 ([65]) مسلم الداوري، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: 27.

 ([66]) هادي آل راضي، الدروس الرجاليّة الصوتيّة، الدرس الخامس.

 ([67]) معين دقيق، السوانح العاملية: 202 ـ 203.

 ([68]) باقر الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 195.

 ([69]) انظر: روح الله الخميني، كتاب البيع 2: 628.

 ([70]) انظر: مصطفى الخميني، تحريرات في الأصول 8: 381.

 ([71]) راجع: الصدوق، كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 3.

 ([72]) رجال النجاشي: 3.

 ([73]) الفهرست: 31 ـ 32. وسيأتي كلام في دلالات عبارته هذه.

 ([74]) باقر الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجاليّة: 194 ـ 195.

 ([75]) دروس تمهيديّة في القواعد الرجاليّة: 195 ـ 196.

 ([76]) انظر: المصدر نفسه: 215 ـ 216.

 ([77]) معين دقيق، السوانح العامليّة: 204.

 ([78]) آصف محسني، بحوث في علم الرجال: 54.

 ([79]) المصدر نفسه.

 ([80]) الطوسي، الفهرست: 3؛ ورجال النجاشي: 211.

 ([81]) بحوث في علم الرجال: 54.

 ([82]) رجال النجاشي: 3.

 ([83]) تهذيب الأحكام 10: 5، المشيخة.

 ([84]) انظر: كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 2 ـ 4.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً