أحدث المقالات

مداخلة نقديّة مع الكاتب عمران سميح نزّال

 

الشيخ صفاء‌ الدين الخزرجي(*)

 

تمهيد

التعاطي مع الفكر الشيعيّ مرّ بمنعطفات تاريخيّة كثيرة. فمن عمليّة الحجب الكامل ومصادرة الشرعيّة، إلى محاولة التشويه والافتراء بعد اليأس عن الحجب والمصادرة، إلى مرحلة الانفتاح النسبيّ.

وقد تمثَّلت «أزمة الخطاب الشيعيّ» مع الآخر المذهبيّ في بعض الفترات والعقود الماضية في غياب أو (تغييب) الخطاب الشيعيّ وحجبه عن دائرة الأوساط الثقافيّة والعلميّة الأخرى. حتّى أنّ كاتباً شهيراً كأحمد أمين لمّا عُوتب ـ في زيارته إلى العراق ـ على بعض ما طرحه حول الشيعة في كتبه اعتذر بعدم توفُّر كتب هذا المذهب لديه، وأن ما كتبه كان نقلاً بالواسطة!

ولا شكّ فإنّ غياب مصادر أيّ فرقة أو مذهب يفتح باب التقوُّل عليهم واسعاً. وهذا ما حصل للفكر الشيعيّ على وجه الخصوص. ولكنْ اليوم، وبعد تجاوز هذه الأزمة، وبعد انفتاح أبواب «التعارف الفكريّ والمذهبيّ» من خلال وسائل عصريّة كثيرة تخطّت الحواجز والخطوط الحمراء التي كانت سابقاً، نجد اليوم وجهاً آخر للأزمة في التعامل مع هذا الخطاب، تتمثّل في المنهج الذي يلزم اعتماده لقراءة هذا الفكر والتعاطي الصحيح معه.

والخطأ الفادح الذي تقع فيه بعض القراءات للفكر الشيعيّ هو اعتماد «الموروث الروائيّ الشيعيّ» معياراً للحكم عليه أو محاكمته على ضوء تلك المعطيات الروائيّة، في حال أنّ المدخل الصحيح لقراءة الفكر الشيعيّ بشتّى أبعاده هو استطلاع آراء المحقِّقين والباحثين من علمائه في كلّ قضيّة من قضايا الفكر وأبعاده، سواء كانت تتعلَّق بالبعد العقائديّ أو التفسيريّ أوالفقهيّ أو غيرها. فالعلماء هم الذين يمثِّلون آراء المذهب؛ لأنّ آراءهم تأتي دائماً بعد دراسة الموروث الروائيّ والتدقيق فيه وتمحيصه وغربلته.

إلاّ أنّه يجب الانتباه إلى قضيّة هامّة في هذا الإطار، يخطئ فيها الكثيرون، وهي أنّ الرأي الذي يجب اعتماده لاستكشاف رأي المذهب هو الرأي المشهور فيه، دون غيره من الآراء الخاصّة، فضلاً عن الشاذّة. فالرأي المشهور هو الرأي الوحيد الذي يمتلك أو يكتسب صفة التمثيل للفكر الشيعيّ، وأمّا غيره من الآراء فيجب التعامل معها على أنّها وجهات نظر داخل المذهب، وليست هي المذهب بأجمعه، ولذا لا يجوز تعميمها أو إساءة توظيفها في البحث العلميّ.

ومن هنا فإنّ ظاهرة الانتقائيّة في عرض الأفكار، واجتزاء الآراء، ثم محاولة تعميمها أو نسبتها إلى الجميع ـ ولا سيّما مع تبرّؤ الجميع منها، كما نلاحظ في ما ينسب إلى الشيعة من القول بتحريف القرآن، أو القول بخطأ الوحي في نزوله على النبيّ| بدل نزوله على عليّ×، وغير ذلك من الافتراءات الواهية ـ هي أخطر الآفات التي تعتري محاولات قراءة الفكر الشيعيّ اليوم. وللأسف فإنّ البعض يمارسها بشكلٍ مقصود؛ من أجل تشويه سمعة هذا الفكر، وإثارة الضبابيّة حوله، وبثّ الفرقة بين المسلمين.

فإذا ما توفَّرت قراءة الفكر الشيعيّ على الشرط المذكور، أعني قراءته من خلال بوّابة رأي المشهور من علمائه، صحّ حينئذٍ التعامل معه، والحكم له أو عليه. وبهذا يصحّ أن نصف مثل هذه القراءة بأنّها موضوعيّةٌ وملزِمةٌ للفكر الشيعيّ، وأمّا النمطيّة الأولى من القراءة فلا شكّ أنّها عارية عن الموضوعيّة، ومجتزأة غير ملزِمة؛ وذلك لأن الموروث الروائيّ عند الشيعة لا يمثِّل الحقيقة المطلَقة التي تعلو على الدراسة والنقد، كما هو الشأن في الموروث الروائي السنّيّ الذي يوصف الكثير من مصادره بالصحيح، ممّا يشكِّل إلزاماً للمدرسة التي ينتمي إليها، بل الموروث الروائي الشيعيّ خاضعٌ للدراسة والنقد بجميع مصادره، حتّى الكتب الأربعة؛ إذ «لم تثبت صحّة جميع روايات الكتب الأربعة، فلابدّ من النظر في سند كلّ رواية منها، فإنْ توفَّرت فيها شروط الحجّيّة أخذ بها، وإلاّ فلا»([1]). فالرؤية إذاً عندهم تجاه الموروث الروائيّ ليست رؤية تصحيحيّة إطلاقاً، وإنّما هي رؤية نقديّة وبحثيّة؛ والسبب هو أنّ التراث بمطلق أبعاده واتّجاهاته ـ التفسيريّة والروائيّة والتاريخيّة والفقهيّة وسواها ـ يحمل في طياته الغثّ والسمين. ولذا فإنّ من الخطأ المنهجيّ دراسة أو محاكمة الفكر الشيعيّ من خلال الموروث الروائيّ، بعيداً عن المعايير العلميّة المقرَّرة في كتبه للتعامل مع هذا الموروث في كلّ علمٍ أو فنّ. لكنّ المنهج ذاته يصحّ بالنسبة إلى دراسة التراث الروائيّ السنّيّ ـ على نحو الموجبة الجزئيّة بالنسبة إلى الصحاح الستّة ـ؛ لأنّه يلتزم مسبقاً بالرؤية التصحيحية تجاهها، فلذا ساغ الإلزام بها، أونسبة القول بمضامينها إلى أهل السنّة.

إذاً هناك نمطان من القراءة للفكر الشيعيّ:

1ـ القراءة الانتقائيّة التي ترصد السقطات والعثرات التي يمكن أن تعتري الموروث الروائيّ، أو حتّى العلميّ، لدى الفكر الشيعيّ، وذلك لتقدّمه على أنّه الرأي المعتمد لديه. ومثل هذه القراءة لا يمكن التعامل معها، وهي لا تغني القارئ، ولا تجدي له، سوى تشويش الصورة وإساءة الظنّ بالآخر وتعقيد الأجواء، بدل تنقيتها، أو فسح المجال للتعارف الفكريّ والبحث العمليّ كي يأخذ مساره. ولا نريد أن نسمّي الكتب أو البحوث أو المحاضرات أوالمناظرات التي وضعت في هذا الإطار بأسمائها، بل هو متروكٌ للقارئ المتابع. والميزان في تقويم مثل هذه القراءة هو أنّ دراسة الفكر الشيعيّ أو نقده لا تنطلق من بوّابة الحديث أبداً، أو بوّابة الآراء الشاذّة أو الخاصّة، حتّى لو كانت صادرة من أكابر المذهب فيه، فهي لا تعدو أنْ تكون وجهات نظر خاصّة تمثِّل آراء أصحابها، ولا تمثِّل المذهب بأكمله. وعليه فكلّ دراسةٍ نقديّة تأتي في هذا الإطار ـ حتّى لو كانت تستند إلى مثل كتاب «الكافي» للشيخ الكلينيّ، أو غيره من المصادر المعتمدة ـ محكومٌ عليها سَلَفاً بالبعد عن المنهج العلميّ القويم، ولا يقيم لها الشيعة وزناً. ولذا ربما يتجنَّبون مناقشتها أو الردّ عليها؛ وذلك لأنّهم يؤمنون بنقد التراث ودراسته من أجل تقويمه وغربلته، والوصول إلى الصواب، لا من أجل التشويه أو التشويش.

وكلّ دراسة تستند إلى آراء علماء الشيعة وأعلامهم المحقِّقين، المعروفة أسماؤهم لدى القاصي والداني، فهي دراسة مرحَّب بها، وتستحقّ الوقوف عندها، بل وشكرها؛ لأنها تساعد على تحريك البحث العلميّ وتحرّي الحقيقة واكتشاف الصواب.

2ـ القراءة غير المتأنّية، وهي التي ربما تنطلق بدافع البحث العلميّ، وربما تكون مستندة أيضاً إلى آراء علماء الشيعة، ولكنّها كما وصفناها قراءة «غير متأنّية»، وغير متوفِّرة على خصائص البحث العلميّ، كالتتبُّع والإحاطة بالأسس والخلفيّات والمرتكزات التي يقوم عليها هذا الفكر. ومن هنا تبتلي مثل هذه القراءة بالتسرُّع والاسترسال في الاستنتاج والتحليل غير الدقيق للأفكار التي تناقشها.

ويأتي في هذا السياق ما ورد في كتاب «شرعيّة الاختلاف بين المسلمين»، للكاتب الباحث الأستاذ عمران سميح نزّال، الذي يُعَدّ من تيّار التجديد في التراث الفقهيّ والكلاميّ، كما يقدِّم الكاتب نفسه في كتابه هذا. فقد ورد في الباب الخامس منه، وهو تحت عنوان «مشاريع التجديد الفكريّ المعاصرة»، فصلٌ تحت عنوان: «تجديد علم الكلام (المشروع الشرقيّ)». وقد تعرّض فيه الكاتب لنظريّة ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخمينيّ في عصرنا الحاضر. وقد قدّم فيها الكاتب قراءة خاصّة مفادها ـ على وجه الإيجاز ـ أنّ نظريّة ولاية الفقيه التي تبنّاها الإمام الراحل تعتبر تجديداً في الفكر الكلاميّ الشيعيّ قبل أن تكون تجديداً في الفقه السياسيّ له؛ وذلك لأن صاحب النظريّة وجد فيها مخرجاً مناسباً للخروج من إحراجات فكرة الغيبة التي يؤمن بها الكلام الشيعيّ، والتي طالت قروناً عديدة، حتّى عاد لا يعقلها عقل ولا منطق ولا عادة ـ حسب تعبير الكاتب ـ، فلم يكن مناصٌ من التخلُّص من تبعات هذه الفكرة، أو من هذا الانسداد السياسيّ، إلاّ بالقول بولاية الفقيه.

هذه هي الفكر الأساسيّة التي طرحها الكاتب بشكلٍ عامّ. ولكي نتوفَّر على رؤية أكثر استيعاباً وتفصيلاً بشأن هذه الفكرة وبشأن أمور أخرى اكتنفتها حول موضوع الغيبة وغيرها فإنّا نحرص أوّلاً على نقل النصّ الحرفـيّ لكلام الكاتب، ثم نتبعه بالملاحظة والتعليق عليه.

قال مؤلِّف الكتاب في ص 313 ما يلي: «الفصل الثاني: تجديد علم الكلام (المشروع الشرقيّ):

1ـ من مفارقات الفكر الإسلاميّ (السياسيّ) أن يتبنّى كثيرٌ من غير العرب من المسلمين النظريّة الشيعيّة في الإمامة، وهي تحصر الإمامة بالأسرة العلويّة القرشيّة العربيّة؛ لأنّ المفترض أن تكون هذه النزعة ذات طابع قوميّ، كما هو الحال في الأسر المالكة في التاريخ والحاضر.

2ـ والمفارقه الأخرى أنّ مدارس الشيعة الفكريّة لم تقُلْ بإغلاق باب الاجتهاد الفكريّ، ولكنّها تبنَّت الجمود السياسيّ في تبنّيها للوراثة والنصّ على الإمام، وبالأخص الأئمّة الاثني عشر بعد النبيّ|، والذين لو حكموا جميعاً، بما فيهم الإمام الغائب، لانتهى عصرهم منذ قرونٍ طويلة. ولعلّ قصّة الغيبة الكبرى([2]) كانت مخرجاً لهذه الأزمة، حتّى تمّ الخروج من هذا المأزق بالتجديد السياسيّ بنظريّة ولاية الفقيه.

قام بهذا التجديد الإمام الخمينيّ يومَ وجد علم الكلام الشيعيّ في عقيدة الإمامة يصطدم مع الواقع، فقال: «واليوم في عهد الغيبة لا يوجد نصٌّ على شخص معيَّن يدير شؤون الدولة، فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام معطَّلة؟ أو نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أو نقول: الإسلام جاء ليحكم الناس قرنَيْن من الزمان فحسب، ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول: إن الإسلام قد أهمل أمور الدولة؟»([3]).

هذه أسئلة كبرى يطرحها أحد علماء الشيعة الكبار، والذي أراد بهذه الأسئلة أن يهزّ الكيان الفكريّ لعلم الكلام الشيعيّ الإماميّ الاثني‌ عشريّ، والذي يقول بغيبة الإمام الثاني عشر حتّى اليوم، وينتظر خروجه ليملأ الأرض عدلاً.

3ـ وقد نبَّهنا من قبل أنّ بذرة علم الكلام الإسلاميّ بعامّة، وليس الشيعيّ فقط، ظهرت بالدرجة الأولى بسبب الحالة المأساويّة التي واجهتها الأمّة الإسلاميّة إثر الانحراف عن مسار الاستقامة السياسيّة بعد الخلافة الراشدة. ولكنّ الولادة الحقيقيّة لم تتمّ إلاّ بعد اكتمال جنين علم الكلام في رحم الأحداث طوال قرنين من الزمان، قدَّمت الأمّة الإسلاميّة خلالها أعزّ أبنائها في ثورات التصحيح الداخليّ، وفي مقدّمتهم أحفاد الرسول|، فكانت لحظة ولادة فكرة الإمام الغائب عند الشيعة الاثني عشريّة متزامنة مع ولادة علم الكلام الإسلاميّ بعامّة، والشيعيّ بخاصّة.

أي إنّ هذه الأزمة كانت من صنع علم الكلام الإسلاميّ الشيعيّ، وليس من صنع الإسلام نفسه. ولكنّ الإمام الخمينيّ لا يستطيع تحدّي علم الكلام الشيعيّ الذي يعتبر هذه القضية أكبر عقيدة شيعيّة تميِّزه عن غيره من المدارس العقديّة الإسلاميّة، والعقيدة تتساوى في النظرة التقليديّة مع الإسلام. لذا ركَّز أسئلته على ما بعد يوم الغيبة التي طال انتظارها لدرجة لا يحتملها عقلٌ ولا فقه ولا كلام ولا سياسة.

4ـ أي إنّه لم يستطع أن يقاوم فكرة الغيبة، وهو يعلم أنّ هذه خطوط حمراء، لا يستطيع عالِمٌ شيعيٌّ واحد أن يتحدّاها، مهما بلغت قناعته بعدم صحّتها شرعيّاً أو عقليّاً، وإلاّ احترق، وهذا يشعرنا بمدى صعوبة التجديد في علم الكلام حتّى لو اصطدم بالواقع والعقل والعلم الطبيعيّ. لذا وجَّه الأسئلة التي تتحدّى نتائج الغيبة غير المحتملة؛ إذ لا يوجد نصٌّ بعد الغيبة، وكأنّ الذي نصّ على الاثني عشر تخلّى عنّا، فما هو الرأي اليوم؟»([4]).

هذه هي قراءة الكاتب لفكرة ولاية الفقيه ولفكرة الغيبة في آنٍ واحد.

وهنا نسجِّل مجموعة ملاحظات تصحيحيّة لهذه القراءة على هذا النصّ:

الأولى: وهي تتعلَّق بالمفارقة الأولى التي ذكرها الكاتب في بداية بحثه حول تبنّي كثيرٍ من غير العرب لنظريّة إمامة الأئمّة الاثني عشر^، وهم من الأسرة الهاشمية القرشيّة، فنقول:

أوّلاً: إنّ ما ذكره من المفارقة ليست مفارقة حقيقيّة، ولا يقرّها منهج البحث العلميّ؛ لأنّ المنهج العلميّ ينبغي أن يقود الباحث إلى التساؤل أوّلاً، وقبل تسجيل المفارقة، عن أسباب هذه الظاهرة التي تبدو مفارقة لأوّل وهلة، فما هو السبب وراء إيمان غير العربيّ بنظريّة الأئمّة الاثني عشر الذين هم من قريش؟ فهل هذه النظريّة مجرَّد مزعمة عارية عن الدليل أم هي مدعومة بالأدلّة والبراهين، بحيث دعت غير العربيّ إلى الإيمان بها؟ وإذا كانت مدعومةً بالأدلّة فما هي تلك الأدلّة؟

والجواب في مصادر أهل السنّة قبل الشيعة؛ فإنّ هذه النظريّة قد أسَّس لها النبيّ| من خلال جملةٍ من النصوص والبيانات المرويّة عنه| لدى الفريقين. نعم، الخلاف بينهم في التطبيق والتفسير لها. فالشيعة يفسِّرونها في أئمّتهم الاثني ‌عشر؛ لانطباق العدد عليهم بشكلٍ واضح، فيما اختلف أهل السنّة في تفسير ذلك.

وإليك بعض تلك النصوص الواردة في مصادر أهل السنّة قبل الشيعة:

1ـ ما رواه البخاريّ في الصحيح عن جابر بن سمرة أنّ النبيّ| قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: «كلُّهم من قريش»([5]).

2ـ ما رواه مسلم في الصحيح عن جابر بن سمرة قال: دخلتُ مع أبي على النبيّ| فسمعتُه يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»، قال: ثم تكلَّم بكلامٍ خفي عليّ، قال: فقلتُ لأبي: ما قال؟ قال: «كلُّهم من قريش». وقد رواه بتسعة طرق([6]).

3ـ ما رواه أحمد بن حنبل عن الشعبيّ، عن مسروق، قال: كنّا جلوساً عند عبدالله بن مسعود، وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله كم يملك الأمّة من خليفة؟ فقال عبدالله بن مسعود: ما سألني عنها أحدٌ منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله| فقال: «اثنا عشر عدّة نقباء بني إسرائيل»([7]). ورواه في موضع آخر أيضاً.

4ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة»([8]).

5ـ ما رواه الهيثميّ عن أبي جحيفة قال: كنتُ مع عمّي عند النبيّ| وهو يخطب فقال: «لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة»، وخفض بها صوته، فقلت لعمّي، وكان أمامي: ما قال يا عمّ؟ قال: «كلُّهم من قريش»، ثم قال: رواه الطبرانيّ في‌ الأوسط والكبير والبزّار. ورجال الطبرانيّ رجال الصحيح([9]).

6ـ ما رواه الهيثميّ أيضاً عن جابر بن سلمة قال: سمعتُ رسول الله|، وهو يخطب على المنبر، وهو يقول: «اثنا عشر قيِّماً من قريش، لا يضرّهم عداوة من عاداهم»، فالتفتُّ خلفي فإذا أنا بعمر بن الخطّاب رضي الله عنه في أناس، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت». قال: رواه البزّار عن جابر بن سمرة وحده، وزاد فيه: ثم رجع ـ يعني النبيّ| ـ إلى بيته، فأتيتُه، فقلتُ: ثم يكون ماذا؟ قال: «ثم يكون الهرج». ورجاله ثقات([10]).

7ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عنه| أنّه قال: «لا تزالُ هذه الأمّة مستقيماً أمرُها، ظاهرةً على عدوّها، حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفةً كُلُّهم من قريش، ثم يكون المرج([11])»([12]).

8ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي منهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش».

9ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفةً كلّهم من قريش».

10ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني ‌عشر خليفةً».

11ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لايزال هذا الأمر ظاهراً على مَنْ ناواه، لايضرّه مخالفٌ، ولا مفارقٌ، حتّى يمضي منهم اثنا عشر خليفةً من قريش».

12ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يزال أمرُ هذه الأمّة ظاهراً حتّى يقوم اثنا عشر كلّهم من قريش».

13ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يزال أمر هذه الأمّة هادياً على مَنْ ناواه حتّى يكونَ عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش».

14ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يزالُ الدينُ قائماً حتّى تقوم الساعة، أو يكون اثنا عشر خليفةً كلّهم من قريش».

15ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «لا يضرّ هذا الدين مَنْ ناواه حتّى يقوم اثنا عشر خليفةً كلّهم من قريش».

16ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «يملك هذه الأمّة اثنا عشر خليفةً كعدّة نقباء بني‌ إسرائيل».

17ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «يكون لهذه الأمّة اثنا عشر قَيِّماً، لا يضرّهم مَنْ خَذَلَهم، كلّهم من قريش».

18ـ ما رواه المتّقي الهنديّ عن النبي| أنّه قال: «يكونُ بعدي من الخلفاء عدّةُ نقباء موسى».

19ـ ما رواه المتقي الهنديّ عن النبيّ| أنّه قال: «يكون من بعدي اثنا عشر خليفةً كلّهم من قريش».

ثانياً: ليست المفارقة في اتّباع غير العرب لمبدأ الإمامة الذي أسَّسه النبيّ| في ضوء الأخبار السابقة وغيرها من الأدلّة التي لسنا في صدد بحثها، وإنّما المفارقة هي أن لا يتَّبع العرب المبدأ الذي أسَّسه النبيّ|، والذي يقوم على أساس قوميّ ـ كما يقول الكاتب في توصيفه لفكرة الأئمّة الاثني ‌عشر ـ. فهذه هي المفارقة الحقيقيّة التي يجب الانتباه إليها، والأخذ بها.

الثانية: وتتعلَّق بالمفارقة الثانية التي سجَّلها الكاتب على مدارس الشيعة الفكريّة ـ كما عبَّر عنها ـ، حيث لم تغلق باب الاجتهاد الفكريّ من جهة، إلاّ أنّها وقعت في الجمود السياسيّ بتبنّيها لنظريّة النصّ والإمامة والتزامها بالاثني ‌عشر إماماً، الذين لو حكموا لانتهى عصرهم، ولوقع الفكر الشيعيّ في فراغ سياسيّ، كما يقول، فجاءت فكرة الغيبة مخرَجاً من هذه الأزمة، فلمّا طال عهد الغيبة ولم يأتِ الإمام المنتظر جاءت فكرة ولاية الفقيه كمخرج من هذه الأزمة.

وهنا نسجِّل الملاحظات التالية:

1ـ إنّه قد تقدَّم في النقطة السابقة أنّ فكرة الأئمّة الاثني ‌عشر ـ سواء أسقطناها على نظريّة الإمامة لدى الشيعة أو على غيرها ـ هي فكرة إسلاميّة نبويّة أصيلة، وليست دخيلة على الفكر السياسيّ في الإسلام. فقد روت مصادر الفريقين مضمون هذه الفكرة بروايات كثيرة جدّاً، تصل إلى حدّ التواتر أو يزيد. ولذا فإنّ الإشكال عليها، ونعتها بالجمود السياسيّ، هو إشكالٌ على مصدر تشريعها الأوّل|، الذي لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى، ولا سيّما في مثل هذا الأمر الذي يخصّ مستقبل الأمّة وكيانها.

2ـ إنّ إشكال الجمود السياسيّ لا ينحصر بالفكر السياسيّ الإماميّ، بل يتوجَّه إلى المدارس الفكريّة السياسيّة الأخرى، التي روت روايات الأئمّة الاثني عشر في صحاحها وفي موروثها الروائيّ ومصادرها الحديثيّة، ولا سيّما أنّ هذه المدارس كانت تؤمن بفتح باب الاجتهاد، ولم تقُلْ بغلقه إلاّ في القرن السادس فما بعد.

3ـ إنّه تأسيساً على ما تذهب إليه الشيعة من أنّ أمر الإمامة شأن دينيّ وإلهيّ محض لا دخل فيه لإرادة الأمّة، كما هو الأمر في منصب النبوّة، وأنّ النبيّ| قد بلّغ هذا الأمر الإلهيّ ببيانات عديدة ومناسبات كثيرة ـ منها: حديث الأئمّة الاثني عشر المتقدِّم، ومنها: حديث الغدير، وحديث الثقلين، والمنزلة، وسواها ـ، فإنّ فكرة الإمامة تكون حينئذ مخطَّطاً إلهيّاً لضمان مستقبل الأمّة بعد العهد النبويّ، ويستنفذ هذا المخطَّط أغراضه ضمن الوضع الطبيعيّ لولاية الأئمّة الاثني ‌عشر^ إذا ما حكموا، ثم تقوم الساعة، أو أنّه يحكم بعد الإمام الثاني‌ عشر جماعة من ذرّيّته ـ على ما في بعض النصوص ـ ثم تقوم الساعة. وبهذا لا يكون أيّ فراغ أو انسداد سياسيّ كما يقول الكاتب. فلعلّ الأمور ـ كما يفهم من النصوص ـ كانت تمضي وفق هذا السياق لولا تغيُّر مسار المخطَّط الإلهيّ، واستبداله بالمخطَّط البشريّ. وحينئذٍ فمن الطبيعيّ أن يتوقَّف المخطَّط الإلهيّ، ويجمَّد مدّة معيَّنة؛ كي يعطي للمشروع البديل فرصةً يمارس فيها تجربته، وتحصد الأمّة نتائجها السلبيّة المدمِّرة، كما هو مثبَّت بالأرقام في تأريخنا الإسلاميّ، حيث الويلات التي جرت عليه منذ واقعة كربلاء، وقتل سبط النبيّ| وعياله بتلك الفاجعة المؤلمة، إلى وقعة الحرّة في المدينة، وهدم الكعبة الشريفة وضربها بالمنجنيق، إلى القتل الذريع لذرّيّة النبيّ| وتصفيتهم جسديّاً، كقتل الإمام زيد بن عليّ، وذي النفس الزكيّة، وسجن ثم قتل الإمام موسى بن جعفر’، وولده الإمام الرضا، وولده الجواد، ثم الهادي، ثم العسكريّ، إلى غير ذلك من الدماء البريئة التي سالت، وفوق كلّ ذلك ضياع مستقبل الأمّة في متاهاتٍ لا زلنا نعيشها في واقعنا المعاصر على الصعيد العربيّ والإسلاميّ. فإذا ما أعلن هذا المشروع إفلاسه، ورجعت الأمّة إلى تبنّي المشروع الإلهيّ الحقيقيّ بشكلٍ طوعيّ، وتهيّأت الأسباب والأرضيّة لخروج المنقذ، وعودة المشروع الإلهيّ ثانيةً إلى مسرح الحياة؛ كي يستنفذ أغراضه، انتهت فترة الغيبة، وظهر الإمام المهديّ الموعود×.

وفي ضوء هذا التصوُّر فإنّ إشكاليّة الفراغ السياسيّ غير واردة بتاتاً؛ لأنّ فكرة الغيبة إنّما جاءت نتيجةً لتغيُّر المخطَّط الإلهيّ وحرفه عن مساره في قيادة الأمّة، وليس مخرجاً لإحراجات فكرة الإمامة كما قيل.

وأمّا تفريع فكرة ولاية الفقيه على فكرة الغيبة، والربط بينهما على أساس أن الفكرة الأولى جاءت مخرجاً من إحراجات فكرة الغيبة، فهذه هي فكرة المقال الأساسيّة، التي يريد الردّ عليها ومناقشتها. ولذا نفردها بشكلٍ مستقلٍّ في الملاحظة الثالثة.

الثالثة: ولنبدأ من حيث أنهى الكاتب كلامه في النصّ المنقول عنه سابقاً، حيث ذكر أنّ فكرة الغيبة ـ أو أزمة الغيبة كما يعبِّر ـ هي من نتاج الفكر الكلاميّ الشيعيّ، وليست من صنع الإسلام نفسه. ولمّا كان القفز على هذه الفكرة أو تجاوزها خارجاً عن وسع الإمام الخمينيّ؛ باعتبارها فكرةً تصل إلى مستوى الثابت الدينيّ الذي لا يمكن تجاوزه، فقد طرح الإمام الخمينيّ فكرة ولاية الفقيه كمظلّة إنقاذ ونجاة للمذهب من حالة الانسداد السياسيّ التي أصيب بها. وقد اعتبر الكاتب عمل الإمام الخمينيّ إنجازاً تجديديّاً على صعيد الكلام الشيعيّ.

وهنا نضيء على جملة من الأمور التي يمكن أن توضِّح حقيقة الحال حول رؤية الكاتب هذه:

1ـ إنّ هذا الطرح الذي تبنّاه الكاتب حول فكرة الغيبة، واعتبارها «أزمة» ناتجة عن الفكر الكلاميّ الشيعيّ الذي ظهر بعد قرنَيْن من انتهاء مدّة الخلافة، هو مجرَّد استنتاج تنقصه الكثير من الشواهد التاريخيّة والعلميّة. بل إنّ النصوص التاريخيّة والروائيّة تثبت عكسه، حيث إنّ الروايات الواردة حول فكرة الغيبة، والتي استند إليها الشيعة، تؤكِّد ولادة هذه الفكرة قبل ظهور علم الكلام. وعليه فهي ليست من نتاجاته وإفرازاته؛ إذ وردت أحاديث كثيرة عن النبيّ| والأئمّة من بعده في مصادر الفريقين تنصّ على فكرة غيبة الإمام الثاني عشر. وبالنتيجة فإنّ فكرة الغيبة؛ طبقاً لهذه المعطيات الروائيّة، فكرة إسلاميّة أصيلة، وليست أزمة ناتجة عن ظهور الفكر الكلاميّ الشيعيّ.

وفي ما يلي جملة من الشواهد الروائيّة الدالّة على صحّة ما قلناه، وهي مرويّة في مصادر إخواننا لبعض علماء المذهب الشافعيّ والحنفيّ:

ـ روى الإمام الجوينيّ بإسناده إلى عليّ×، عن رسول الله|، قال: المهديّ من ولدي، تكون له غيبة وحيرة تضلّ فيها الأمم، يأتي بذخيرة الأنبياء^، فيملأها عدلا وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً([13]).

ـ وبإسناده أيضاً إلى جابر بن عبد الله، عن رسول الله|، قال: المهديّ من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلْقاً وخُلُقاً، تكون له غيبة وحيرة يضلّ فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب، يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً([14]).

ـ وبإسناده أيضاً إلى ابن عبّاس، عن رسول الله|، قال: إنّ عليّ بن أبي طالب إمام أمّتي، وخليفتي من بعدي، ومن ولده القائم المنتظر، الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. والذي بعثني بالحقّ بشيراً، إنّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر([15]).

ـ وروى القندوزيّ الحنفيّ عن عليّ×، عن رسول الله|، قال: طوبى لمَنْ أدرك قائم أهل بيتي، وهو يأتمّ به في غيبته قبل قيامه، ويتولّى أولياءه، ويعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودّتي وأكرم أمّتي عليّ يوم القيامة([16]).

ـ وروى الصدوق بإسناده عن النبيّ| قال: لابدّ للغلام من غيبة، فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل([17]).

نكتفي بهذا القدر من الروايات الكثيرة جدّاً في هذا المجال.

2ـ إنّ فكرة ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخمينيّ، وفعّلها في عصرنا الحاضر، لم تظهر ظهوراً فجائيّاً على يديه في هذه الفترة، وإنّما هي فكرة طرحها من قبله كبار الفقهاء في بحوثهم الفقهيّة التخصُّصيّة، وانتهوا إلى صحّتها وصحّة الأدلّة الدالّة عليها. فهذا العلاّمة الحلّيّ(726هـ)، وهو من فقهاء القرن الثامن، يظهر من عبارته القول بذلك في بحث الحدود، حيث ذكر أنّ إقامتها من صلاحيّات الفقيه، ثم قال «الأقرب عندي جواز ذلك للفقهاء. دليلنا: تعطيل الحدود يقضي إلى ارتكاب المحارم وانتشار المفاسد، وذلك أمرٌ مطلوب الترك في نظر الشرع، وما رواه عمر بن حنظلة عن الصادق×، وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على تسويغ الحكم للفقهاء، وهو عامٌّ في إقامة الحدود وغيرها»([18]).

وبعد قرنين جاء المحقِّق الكركي(940هـ) ليؤكِّد نفس الرأي، حيث قال: «اتَّفق أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ على أنّ الفقيه العدل الإماميّ الجامع لشرائط الفتوى، المعبَّر عنه بالمجتهد، نائبٌ من قبل أئمّة الهدى ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل»([19]). وواضحٌ أنّ أهمّ ما للنيابة فيه مدخليّة هو مسألة الحكم.

وفي القرن الثالث عشر كتب ثلاثة فقهاء بارزين من فقهاء الإماميّة بحوثاً ضافية حول ولاية الفقيه. فقد كتب الفقيه النراقيّ(1245هـ) حول هذه المسألة وأدلّتها ـ وهي عبارة عن الإجماع والنصوص البالغة تسعة عشر رواية، من قبيل: العلماء ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، وخلفاء النبيّ، وحصون الإسلام، وأنّ على أيديهم مجاري الأمور وغيرها ـ، وقد بحث هذه المسألة في (80) صفحة، في العائدة رقم (54).

ثم تلاه المحقِّق المراغي في كتابه «العناوين» عندما بحث المسألة في (16) صفحة، ثم الفقيه بحر العلوم في «بلغة الفقيه».

ثم جاء دور الإمام الخمينيّ لتتويج تلك الجهود، ونقلها من مرحلة التنظير إلى مرحله التطبيق والتفعيل العمليّ. وعليه فإنّ فكرة ولاية الفقيه قد مرّت بعدّة أدوار، وهي كالتالي:

1ـ مرحلة الصيرورة والانبثاق على يد العلاّمة الحلّيّ والمحقِّق الكركيّ، وربما على يد فقهاء آخرين سبقوهم في ذلك، كأبي الصلاح الحلبيّ، في بعض كلماته في كتابه «الكافي في الفقه».

2ـ مرحلة التنظير والتكامل على يد النراقيّ والمراغي وبحر العلوم.

3ـ مرحلة بلورة نظريّة ولاية الفقيه وإحيائها ثانية في البحوث الفقهيّة للإمام الخمينيّ في السبعينات، والدعوة إلى تطبيقها، وإقامة الحكومة الإسلاميّة على أساسها، وذلك من خلال إطلاق الثورة والتحرُّك الجماهيريّ.

4ـ مرحلة التقنين والتنفيذ في آنٍ واحد على يد الإمام الخمينيّ.

5ـ مرحلة التعميق النظريّ، من خلال الجهود العلميّة والبحثيّة التي بذلها الفقهاء والمحقِّقون بعد كتاب «ولاية الفقيه» للإمام الخميني، حيث صدرت موسوعات وكتب ودراسات ومقالات كثيرة في هذا الاتّجاه؛ لغرض تعميق وبلورة هذه الفكرة.

والغرض من هذا العرض هو أنّ هذه الفكرة قد مرَّت عبر هذه القرون العديدة، وكانت بمرأى ومنظر العديد من فقهاء الطائفة ومفكِّريها ومثقَّفيها وساستها وقادتها، فكيف لم يتنبَّه أحدٌ منهم إلى أنّ هذه الفكرة يُراد بها تجاوز قضيّة الغيبة أو الالتفاف حولها أو الخروج من إحراجاتها، ولا سيّما مع أهمّيّة فكرة الغيبة في الفكر الشيعيّ، والحرص البالغ على تثبيتها، كما اعترف به الكاتب نفسه، ولا سيّما كذلك مع وجود آراء فقهيّة أخرى لا تُقرّ مبدأ ولاية الفقيه وتتحفَّظ عليه؟ لكنّ أحداً من هؤلاء وغيرهم لم يخطر بباله مثل هذا التحليل الذي طرحه الكاتب؛ لكونه في غاية البعد والغرابة. ولا شكّ أنّه ناشئ عن عدم الإلمام الكافي بطبيعة الفكر الإماميّ، ولا سيّما في قضيّة الغيبة.

والجدير ذكره أنّ فكرة ولاية الفقيه لم توضع لدى البعض ضمن سياقها الصحيح. فبينما يعتبرها الكاتب مظلّة إنقاذ أطلقها الإمام الخمينيّ؛ للخروج بالفكر الشيعيّ من حالة الجمود السياسيّ التي مُنِي بها جرّاء فكرة الغيبة نجد البعض يعتبرها غطاءً شرعيّاً لتمرير مكاسب سياسيّة من خلال إطلاق يد الحاكم الذي يسمّى بـ «الفقيه»، وتكريس صلاحيّاته ونفوذه وحاكميّته على المجتمع؛ كي يتمّ ذلك باسم الدين. بيد أنّ هذه مغالطة أخرى تُثار في وجه هذه النظريّة. والذي يكشف عن خطأ هذه المغالطة هو صفة «الفقاهة» المأخوذة شرطاً في حاكميّة الفقيه، وهي تعني حاكميّة الفقه والتشريع على الحياة، ولا تعني حاكميّة الآراء الشخصيّة للفقيه. والضمانة لإعماله حاكميّة الفقه في آرائه، دون أهوائه، هو أمران:

الأوّل: مجلس خبراء القيادة المكوَّن من جماعة من الفقهاء الذين يُشرفون على سلوك القيادة وأدائها وقراراتها ومدى مطابقتها مع الشرع. وهؤلاء يتمّ انتخابهم من قبل الأمّة مباشرة.

الثاني: اشتراط العدالة في شخص الفقيه الحاكم كضمانة لسلامة حاكميّته وقراراته، فمتى ما أخلّ بالعدالة زالت حاكميّته بشكلٍ تلقائيّ، بلا حاجة إلى عزله من قبل مجلس خبراء القيادة. نعم، قرار هذا المجلس بعزله يعلن للأمّة فقده لصلاحيّة الحاكميّة والحكم مباشرة.

وعليه لم تكتفِ هذه النظريّة بشرط الفقاهة والتخصُّص في الفقيه فحسب، بل اشترطت فيه العدالة، كضمانةٍ لحفظ الاستقامة والنزاهة في آرائه وممارساته؛ كي لا يخرج بها عن العمل للصالح العامّ. والمسؤول عن توفُّر هذه الضمانة (العدالة) هو رقابة الأمّة، من خلال مجلس الخبراء الذي يتمّ انتخابه من قبل الشعب، ويُشرِف إشرافاً قانونيّاً على قيادة الفقيه وتسييره للأمور. ولهم حقّ العزل له إذا لم تتَّصف ممارسات الحاكم بالشروط المقرَّرة، وقرارهم بعزله مجرَّد إعلان قانونيّ فحسب، وإلاّ فهو معزول من منصبه بحكم الشرع قبل إعلان عزله من قبلهم.

3ـ لقد جاء في آخر كلام الكاتب وهو يحكي لسان حال الإمام الخمينيّ وكأنّه يقول: «لا يوجد نصٌّ بعد الغيبة، وكأنّ الذي نصّ على الاثني عشر تخلّى عنّا، فما هو الرأي اليوم؟».

والصحيح هو وجود النصّ. وقد سبق استدلال المحقِّق النراقيّ بتسعة عشر نصّاً على تولّي الفقهاء للسلطة. والغريب كيف أنّ الكاتب، مع ملاحظته ومراجعته لكتاب «الحكومة الإسلاميّة»، للإمام الخمينيّ، لم يقِفْ على الروايات التي ذكرها الإمام الخمينيّ لإثبات حكم ولاية الفقهاء في زمان الغيبة؟ ومن جملة ‌ما استدلّ به ـ أو جعله مؤيِّداً ـ هو التوقيع الصادر عن الإمام المهديّ×، الوارد فيه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»([20])؛ وأيضاً رواية: «الفقهاء أمناء الرسل»؛ ومقبولة عمر بن حنظلة؛ وغيرها من الروايات التي استدلّ بها.

وعليه فمع وجود هذه النصوص التي تعالج مسألة الحكم في زمن الغيبة كيف يقال: «إنّ الامام الخمينيّ كأنّه يقول: مع فقدان النصّ في زمن الغيبة ماذا نفعل؟».

 

وفي الختام

ختاماً نقول: إنّه في الوقت الذي نرحِّب فيه بالانفتاح على الفكر الإماميّ الشيعيّ، ودراسته، ونقده، ونعتبر ذلك أمراً إيجابيّاً، وخطوةً جيِّدة في الاتّجاه الصحيح لتفعيل جميع مفاصل الفكر الإسلاميّ، وعدم إقصاء أوتهميش أيّ جزء أو تهميشه، فإنّنا نقول: إنّ لهذا الانفتاح شروطه وخصوصيّاته اللازمة، وهي التوفُّر على قدر كبير من الاطّلاع والإلمام بالأسس والخلفيّات التي تقف وراء هذا الفكر. فما لم يقِفْ الإنسان على تلك الأسس لا يمكنه دراسته بشكلٍ موضوعيّ. والدليل على ذلك ما حصل لهذه الدراسة، فإنّها بدل أن تضع نظريّة ولاية الفقيه في سياقها الصحيح، وأنها جاءت تجديداً فقهيّاً في الفكر السياسيّ المعاصر، اعتبرتها ـ خطأً ـ تجديداً في علم الكلام. وبهذا لم تستطِعْ إعطاء المسألة حقَّها من الدراسة، ولم تضعها في نصابها الصحيح.

وأيّاً كان فإنّا مدعوون لدراسة هذا الفكر؛ من أجل التعرُّف عليه، والتعامل معه، وأن لا نخطئ في هذا التعامل ثانيةً، فنكرِّر الخطأ السابق؛ بتجاهله أو إقصائه أو اتّهامه، ولكنْ بطريقة أخرى، مع تقديرنا للنوايا في التعامل الجديد، إلاّ أنّ النتيجة سوف لا تكون مختلفة كثيراً عن السابق، بل قد يكون الخطأ مضاعفاً هذه المرّة، لأنّه بدل أنْ نقرأ هذا الفكر قراءة صحيحة سوف نقدِّمه للقارئ بشكلٍ مشوَّهٍ ومجتزأ. وهذا ما يجب أن ينأى عنه البحث الموضوعيّ.

مرّة أخرى أُكرِّر الشكر للكاتب الأستاذ عمران سميح نزّال على أصل هذا التوجُّه في الانفتاح، وندعوه إلى المزيد من المداخلات والقراءات للفكر الشيعيّ.

الهوامش:

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلميّة، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) الخوئيّ، معجم رجال الحديث 1: 92. وقال العلاّمة العسكريّ: ومع تسلسل الأسناد في جوامع الحديث بمدرسة أهل البيت إلى رسول الله|، كما شاهدنا، فإنّ فقهاء مدرستهم لم يسمّوا أيّ جامع من جوامع الحديث لديهم بالصحيح، كما فعلته مدرسة الخلفاء، وسمَّت بعض جوامع الحديث لديهم بالصحاح، ولم يحجروا بذلك على العقول، ولم يوصدوا باب البحث العلميّ في عصر من العصور، وإنّما يعرضون كلّ حديث في جوامعهم على قواعد دراية الحديث (معالم المدرستين 3: 261).

([2]) انظر: جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل 6: 519؛ محمد رضا المظفَّر، عقائد الإماميّة: 76.

([3]) الإمام الخمينيّ، الحكومة الإسلاميّة: 43، دار عمّار، الأردن، الطبعة 1، 1409هـ ـ 1988م.

([4]) شرعيّة الاختلاف بين المسلمين: 313.

([5]) صحيح البخاري 4: كتاب الأحكام، الباب الذي جعله قبل باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة؛ المعجم الكبير 2: 241.

([6]) صحيح مسلم 2: 79.

([7]) مسند أحمد 1: 398، 406. ورواه مجمع الزوائد 5: 190.

([8]) كنـز العمّال 6: 160.

([9]) مجمع الزوائد 5: 190

([10]) المصدر السابق: 191.

([11]) المرج: الخلط، انتهى (النهاية 4: 314).

([12]) انظر من حديث 7 إلى حديث 20: كنـز العمّال 12: 32 ـ 33.

([13]) فرائد السمطين 2: 335.

([14]) المصدر نفسه.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) ينابيع المودّة 3: 396.

([17]) علل الشرائع 1: 243، باب 179، ح1.

([18]) العلاّمة الحلّي، مختلف الشيعة 4: 478.

([19]) رسائل الكركيّ 1: 142.

([20]) كمال الدين 2: 484، باب التوقيعات، ح 4.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً