أحدث المقالات

ترجمة: حيدر حبّ اللـه

المقدّمة ــــــــــ

يعدّ الأستاذ محمد رضا الحكيمي من الأساتذة المعروفين والمروّجين البارزين للمدرسة العقدية الخراسانية، أو المدرسة التفكيكية، وقد استخدم مصطلح التفكيك لأوّل مرّة وبشكل محدّد ودالّ من قبله هو، عندما كان يدوّن مجموعةً من الأصول والمبادئ والمسائل التي كانت تدولت في أوساط مفكّري هذه المدرسة، وقد ضمّ دراساته هذه وأدرجها في كتاب مستقل هام حمل العنوان نفسه، أي المدرسة التفكيكية.

وفي سائر نتاجاته العلمية، أكّد الحكيمي ــ مراراً ــ على أحقيّة هذا المنهج التفكيكي، وسعى جادّاً إلى تحليل زواياه المختلفة وشرح أركانه وعناصره، ومن جملة المواضع التي أجرى الحديث فيها عن هذا المنهج مقدّمة دائرة المعارف التي سطرها، تحت عنوان: الحياة، حيث تحدّث هناك عن الدور البارز الذي لعبه مؤسّس المدرسة المعارفية لأهل البيت E في حوزة خراسان، العالم الجليل آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني، والركن الآخر للمدرسة عينها العالم الجامع العلامة الشيخ مجتبى القزويني، وقد أبدى لدى حديثه عنهما كلّ مظاهر الاحترام والتقدير، مستعرضاً تأثيرات المدرسة التفكيكية الخراسانية في عرض المفاهيم الدينية وبلورة نظام معرفي.

من هنا، كانت هذه المقالة، لكي تشرح ــ بصورة إجمالية ــ أسس المدرسة التفكيكية وعناصر تكوينها.

حقيقة التفكيك وماهيّة المنهج ــــــــــ

ثمّة في هذا العالم الفسيح، وما بين الحضارات المختلفة، مدارس معرفية متعدّدة بمضمون متنوّع وأشكال مختلفة، وهذا ما حصل في العالم الإسلامي وداخل الحضارة الإسلامية، إذ ظهرت نظم معرفية متعدّدة، وسط المناخ الغني بعطائه الفكري والثقافي الذي صنعه الإسلام ووفّرته هذه الديانة السماوية، ونتيجة التحوّلات والتغييرات التاريخية العميقة بإيجابيّها وسلبيّها، والتي غطّت في الزمن الإسلامي المجال السياسي، ودوائر العلاقات الثقافية المتبادلة، وقد نشأت أغلب العوامل المكوّنة لهذه النظم المعرفية من بطن المذاهب الإسلامية، مثل: الكلام الشيعي، والكلام الأشعري، والكلام المعتزلي، والكلام الماتريدي و..

وفي هذا الوسط، يبرز المذهب الشيعي الإمامي المدعوم من قبل أهل بيت العصمة والرسالة، بوصفه أحد أبرز المذاهب الإسلامية الرئيسية، وهو ــ من حيث حقيقته ــ لا يمثل سوى امتداد طبيعي ومنطقي للديانة الإسلامية المقدّسة، بل التشيّع في الحقيقة هو الإسلام عينه، وإذا أردنا رصد النسبة بينهما لكانت التساوي الكلّي العام، من هنا اعتقد فقهاء الإمامية باستقلال المذهب الشيعي وتماميته وكماله في مجالي الأصول الدينية والفروع، وقد سعوا جاهدين منذ قديم الأيّام، وحتى في عصر الأئمة E أنفسهم، لحمايته من التحريف والالتقاط والمزج ما بينه وبين المدارس الفكرية الأخرى، وتفكيك التعاليم الصائبة السليمة عن غيرها.

على هذا الأساس، يمكن القول: إن المدرسة التفكيكية هي عين تلك المدرسة العقدية والمعرفية الشيعية، المعتقدة بغنى هذا المذهب والدفاع عنه وحمايته في نظامه المعرفي، بما له من أبعاد عقدية، وفقهية، وأخلاقية، أي ــ على وجه الخصوص ــ حفظ جانب الخصوصيّة والنقاء في المعارف العقائدية الشيعية، بعيداً عن أيّ اختلاط قد يحدث بين هذا المذهب وبقية المذاهب غير الإسلامية، بل وغير الشيعية أيضاً، إلى جانب النحل والاتجاهات الفلسفية والعرفانية، القديمة والجديدة.

يقول الأستاذ محمد رضا الحكيمي في شرحه العام لمدرسة التفكيك: «التفكيك في اللغة يعني الفصل بين شيئين، وكذلك تأصيل شيء ومنحه الصفاء والخلوص.. والمدرسة التفكيكية تعني المدرسة التي تفصل ما بين سبل المعرفة الثلاثة، ومدارس الفكر الثلاث التي عرفتها الإنسانية في تاريخها العلمي والفكري، أي: سبيل القرآن ومدرسته، وسبيل الفلسفة ومنهجها، وسبيل العرفان ومسلكه.

وتهدف هذه المدرسة أيضاً إلى تصفية المعارف القرآنية، وتخليصها وتنقيتها، بعيداً عن الممارسات التأويلية، والاختلاطات الفكرية مع النحل الأخرى والأنظار الوافدة، والتخلّي ــ كما التنحّي ــ عن ممارسة أشكال التطويع أو التفسير بالرأي، حتى تبقى حقائق الوحي، وأصول العلم الصحيح محميةً من أي دخيل، ومصونةً عن أن تغدو مشوبةً بالأذواق البشرية ومعطيات الفكر الإنساني»([2]).

العمق التاريخي لاتجاه التفكيك ــــــــــ

رغم حداثة مصطلح المدرسة التفكيكية، كما أشير من قبل، وأنّه لم يتمّ استخدام هذا المصطلح إلاّ في كتابات الأستاذ الحكيمي، إلاّ أن هذه المدرسة ليست بالجديدة، بل هي ظاهرة تاريخية قديمة تمتدّ في تاريخها إلى صدر الإسلام، فقد كانت منهج سلوك أهل المعرفة من صحابة النبي الأكرم 2 وأصحاب الأئمة الطاهرين E، وكذلك العلماء والمتألهين الشيعة.

ويمكننا اعتبار هشام بن الحكم، وأبي جعفر الأحول المعروف بمؤمن الطاق، وحمران بن أعين، من تلامذة الإمام جعفر الصادق B، والفضل بن شاذان النيسابوري، من أصحاب الإمام الرضا B، وجمعٌ آخر.. من رادة هذا المنهج في تاريخ الفكر الشيعي.

فقد ذكر النجاشي في كتابه أنّ لهشام بن الحكم كتاباً في الردّ على أرسطو في التوحيد، كما ذكر للفضل بن شاذان كتاباً في الردّ على الفلاسفة([3])، لقد استمرّت هذه المدرسة بحياتها العلمية منذ زمان حضور المعصومين F وحتّى بدايات الغيبة الكبرى لبقية الله الأعظم B، ومنها إلى العصر الحاضر في تمام الحوزات العلمية الشيعية، لا سيّما في القرن الرابع عشر الهجري، وذلك عندما هاجر العالم الرباني آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني إلى خراسان الرضوية، وقد كان ذلك منشأ لإعادة ظهور قوي وفاعل لهذه المدرسة في الأوساط الشيعية، وقد تداعت منذ ذلك الحين شيئاً فشيئاً المدرسة الفلسفية التقليدية الخراسانية، وخسرت مواقعها ونفوذها، ليتنامى ــ عقب ذلك ــ منهج الاجتهاد في الفلسفة إلى جانب نقدها في المواضع اللازمة، وكذلك تعزّزت القراءات المتفقّهة في الأصول العقدية الإمامية ومعارف أهل البيت E([4]).

من هنا، أطلقت على مدرسة التفكيك أسامٍ أخرى مثل المدرسة العقائدية الخراسانية، والمدرسة العقائدية لأهل البيت E، ومنهج الفقهاء الإماميين ــ أي فقهاء الفقه الأكبر ــ .

المدرسة التفكيكية أو المدرسة العقدية الإمامية الخالصة ــــــــــ

اعتبر بعضهم أنّ مجموعة المعارف والعقديات والتعاليم التي تستوعبها شريعةٌ ما تشتمل على أقسام ثلاثة هي: العقائد، والأخلاق، والأحكام، أمّا أبو نصر الفارابي في «إحصاء العلوم» فقد قسّمها إلى قسمين هما: العقائد، والأفعال([5]).

إلاّ أنّ أسماء المجموعات المعرفية والتعاليمية الدينية لم تبق على وضعٍ واحد، كما لم تدم في أجزائها وتقسيماتها على حال واحدة، بل عرفت في التاريخ الإسلامي تحوّلاً وصيرورة، فإحدى المصطلحات المعروفة التي تطلق على مجموعة المعارف الوحيانية هي مصطلح الفقه، إنّ رصد معاني هذه المفردة واستخداماتها في القرآن والحديث، وتحوّلاتها المعنائية عند علماء الأدب والدين، هو بنفسه بحث مستقل ووسيع، لا نشير له هنا إلاّ في حدود الضرورة وفي إطار الإجمال.

تعني كلمة الفقه في اللغة العلمَ والفهم، ويلاحظ أنّ أكثر اللغويين والمفسّرين والمؤلّفين استعملوا هذه المفردة في هذا المعنى، وذهب بعضهم إلى أنّ الفقه كلمة تعني فهم ما خفي من الأمور أو تعقّد، مما يحتاج ــ قاعدةً ــ إلى أصول وضوابط([6]).

يقول ابن فارس: «يدلّ على إدراك الشيء والعلم به.. وكلّ علم بشيء فهو فقه..»([7]).

أمّا ابن دريد، فقد فسّر الفقه بهذا المعنى أيضاً([8])، فيما فسّره محمد الأزهري (282 ــ 370هـ) بالعلم في الدين، مشيراً إلى الآية رقم 122 من سورة التوبة، وهكذا تواصل هذا الاتجاه الذي رادف ما بين العلم والفقه([9])، حتى ابن منظور حيث قال: «الفقه: العلم بالشيء والفهم له… ]وأضاف[: وغلب علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلوم»([10])، وهكذا كان الحال أيضاً مع الطريحي في شرحه المبسوط على هذه الكلمة، حيث فسّرها بالفهم.

وقد عدّ الطريحي العلم بالأحكام أحدَ المعاني الاصطلاحية لكلمة الفقه، وهكذا تحدّث في شرح حديث: «من حفظ على أمّتي أربعين حديثاً بعثه الله فقهياً عالماً»، أنّ بعض شرّاحه ذكروا أنّه ليس المراد من الفقه فيه الفهم أو العلم بالأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية ــ وهو معنى مستحدث ــ ، بل الاطلاع على الدين وفهمه، كما أنّ كلمة الفقيه التي جاءت في بعض الأحاديث غالباً ما كان يراد منها هذا المعنى، ثم يذكر الطريحي أن البصيرة في الدين على نوعين أيضاً: الموهوبة، والمكتسبة([11]).

وقد كتب الشيخ الطوسي في تفسير التبيان، ذيلَ الآية 122 من سورة التوبة، شرحاً لمعاني التفقّه، محيلاً استيفاء البحث كاملاً إلى علم أصول الفقه([12])، كما شرح الطبرسي ذيلَ آية النفر، الجوانبَ اللغوية والنحوية، إلى جانب شرح أسباب نزول الآية، متعرّضاً لبيان معنى التفقّه([13]).

أما في الآيات القرآنية، فقد استعملت اشتقاقات هذه الكلمة في مواضع عديدة، إلاّ أنّ استعمال كلمة الفقه ــ بمعنى الفهم والبصيرة في الدين ــ في الآية 122 من سورة التوبة يحوز على أهمّية مضاعفة، وقد اعتبر بعضهم هذا الاستخدام القرآني أساساً لتسمية علم الفقه([14]).

أمّا على صعيد الحديث، فقد كثر مجيء كلمة الفقه بمعنى علم الدين، بحيث يتبادر في كثير من الأحيان من الكلمة ــ حتى لو لم تُقرن بالدين ــ علم الدين، بل يمكن ادّعاء أن هذه الكلمة قد عرفت تحوّلاً في مدلولها، من معناه العام إلى معناه الخاص المنحصر بدائرة الدين وفهمه بما يشتمل من عقائد، وأخلاق، وأحكام، وثمّة احتمال وجيه في أن يكون هذا التحوّل أو التضّيق المعنائي هو المرحلة الأولى من مراحل ظهور اصطلاح الفقه في الثقافة الإسلامية([15])، وقد قيل: إنّ المراد من الدين في الأحاديث، تمام أبعاده وجوانبه، أي الاعتقادات، والأحكام، والأخلاق، لا خصوص الأحكام والمقرّرات الشرعية، بل إنّ فهم عقديات الدين تتخطى بمراتب فهم فروعه.

وقد ذهب بعض الباحثين والمحققين إلى أنّ استعمال كلمة التفقّه في الدين في مجال أصول العقائد كان أكثر من غيره من مثل الفروع..، نعم، ربما أريد أحياناً من هذه الكلمة معرفة الأحكام العملية للدين([16]).

أمّا آية النفر: >لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ …< التوبة: 122، فالفقه فيها يشمل أصول الدين وفروعه، وحيث كان للأصول أولويةٌ على الفروع، كان التفقّه فيها مقدّماً ــ في المرتبة ــ على التفقّه في الفروع([17]).

الإصفهاني والفقاهة الشيعية، تبلور التفكيك الجديد ــــــــــ

يؤكّد الميرزا الإصفهاني، مجدّد الحركة العقدية الشيعية في بلاد خراسان، وفي مختلف كتاباته، على ضرورة اتخاذ سلوك فقهاء الشيعة، ولزوم إحياء التفقّه والاجتهاد في أصول الدين وفروعه، أي الاجتهاد الكلامي والفقهي، إنّه يفهم الاجتهاد اجتهاداً مستقلاً وفهماً عقلانياً لأصول الدين وفروعه، إنّ الغفلة عن هذه النقطة الحسّاسة، يحيل فهم المدرسة التفكيكية إلى العقم والإعاقة، كما يخفي أهميتها ويطمس عناصر الضرورة فيها.

يقول الميرزا مهدي الإصفهاني: «إنّ الفقه في الفروع محال بلا تفقّه في أصول الديانة؛ لأنّ الفروع ــ كما عرفت ــ مؤسّسة على الأصول ومتأخّرة عنها ذاتاً»([18])، ذاكراً معنى الفقه في الفروع، ومحدّداً مصادره المعرفية.

وينقل الميرزا الإصفهاني في رسالة مصباح الهدى عن العلامة الحلّي، حول أهمّية الفقاهة والفقهاء: «الفقهاء أركان الدين، ومبلّغو الشرع النبوي، وحفّاظ فتاوى الأئمة الهداة، ]ويضيف[: إذا لم يتلقّ الفقهاء ويحفظوا أنوار علوم الأئمة والشريعة المقدّسة لانهدمت أركان الدين وتداعت»([19]).

ويضيف الإصفهاني: «لقد أدّت سلطة خلفاء الجور،وتعظيم مكانة الفقهاء المتبدلين، ونشر ثقافة مدرسة القياس والاستحسان، وترجمة الفلسفة والعرفان اليونانيين، أو المستمدّين من غير اليونان، على يد الخلفاء والحكّام، أدّت إلى اختلاط الشبهات والموهومات والظلمات بالأحكام النورانية للإسلام في المجالات العقدية، وهذا الأمر المهم يفرض ممارسة الاجتهاد، وبذل المشقّة وعظيم السعي من جانب فقهاء الإمامية الكبار، في حفظ الدين،ودفع بلاءات أنواع الغزو الثقافي الأجنبي أو القادم مع الحكّام والظلمة»([20]).

وقد سمعت من والدي الكريم: «عندما أتممت حدود عام 1361هـ تحصيلاتي في مدينة مشهد، ذهبت إلى أستاذنا الميرزا الإصفهاني لوداعه قبل سفر العودة إلى الوطن، فكان من جملة وصاياه لي، والتي ذكرها لي وهو مليء بالنشاط والحيوية، التذكير بالجهود الشاقّة المضنية لفقهاء أهل البيت E، في حماية الإسلام وكيانه، وكذلك حماية التشيّع من تراكم الأعداء وكثرتهم، وأوصاني بسلوك طريق أعلام الشيعة».

ويكتب الميرزا الإصفهاني، لدى حديثه عن الحاجة المبرمة لعلم أصول الفقه، فيقول: «لا يمكن استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة دون تعلّم أصول الفقه، وأصول الفقه الشيعي غير مستغنٍ عن الاقتباس من أصول فقه العامّة (أهل السنّة) ».

إلاّ أن الإصفهاني يؤكّد ــ في الوقت عينه ــ على أسباب وقوع الانتكاس داخل اصول الفقه، معتقداً بحاجة هذا العلم إلى إصلاح من جملة عيوب لحقت به نتيجة ظهور الفتنة الثقافية في تاريخ المسلمين، على إثر تسلّط الخلفاء الأمويين والعباسيين([21]). ويثني الميرزا الإصفهاني بتجليلٍ واحترام كبيرين على الفقهاء الحقيقيّين لآل محمد 2 عموماً، مركّزاً على عدّةٍ من أعاظم فقهاء الإماميّة، الذين لعبوا دوراً رئيسياً في الزعامة الشيعية العلمية عبر التاريخ، من أمثال الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، والمحقق الأول (الحلي)، والعلامة الحلي، والمحقق الثاني (الكركي)، والشهيد الثاني.. واصفاً إيّاهم بنعوت وألقاب سامية، وعندما يتحدّث عن الشيخ الأعظم الأنصاري يقول: «شيخ مشايخنا العظام، الشيخ الأعظم الأعلم، خاتم الفقهاء والمجتهدين، وأكمل الربانيين من العلماء الراسخين، المنتهي إليه رياسة الإمامية في العلم والعمل والبرهان والورع، فخر الشيعة، وذخر الشريعة، الحاج الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس الله روحه الشريف)»، ويعقب ذلك بذكر أعماله العلمية التي يعتبرها المائدة التي اقتات عليها الفقهاء والأعلام والمشايخ بعده، مؤكّداً على التأسّي به والاقتداء([22]).

وتصنّف رسالة «الإفتاء والتقليد» من أهم نتاجات الميرزا الإصفهاني، وهي الرسالة المتوفّرة عبر تقرير درسه بيد أحد تلامذته، وتكمن أهمية هذه الرسالة أنّها تساعد على تحديد المنهج الفكري للمدرسة الخراسانية العقدية، وتعمل على صنع صورة أوضح عنها، وتدور مباحث الرسالة حول تحليلٍ منتجٍ لمسألة الفقه والفقاهة، وتحتوي الرسالة على موضوعات عدّة مثل: شروط الفقيه والعالم وصلاحياته في الإفتاء والقضاء، الفلسفة السياسية ونظرية الحكم في عصر حضور أئمة أهل البيت E، سواء في حالات بسط يدهم ونفوذهم أو انقباضها، وكذا نظرية الحكم في عصر الغيبة، الدرجات العلمية والإمكانات الفكرية للفقهاء، وفقهاء السوء، ومفهوم التجزّي في الاجتهاد، والخصائص اللازمة للفقيه من الناحية العقدية، والأخلاقية، والعلمية، ومنهج الفقاهة، ومصادر الفقه، وأنّ الفقه إنّما يعني التفقّه في أصول الدين وفروعه معاً و..([23]).

وإضافةً إلى ما جاء في أعمال الميرزا الإصفهاني المدوّنة، وتأكيده على منهج فقهاء الشيعة في أصول الدين وفروعه، نشير هنا إلى بعض الخواطر والذكريات عن الإصفهاني في أدائه ومواقفه في هذا الموضوع، إذ تؤكّد المنقولات الموثقة([24]) أن الميرزا الإصفهاني رغم كونه فقيهاً بارزاً صاحب رأي، إلاّ أنه امتنع عن القبول بمنصب المرجعية الدينية، حتّى أن إصرار الأصدقاء وطلبهم المتكرر منه لم يفعل أيّ أثر في هذا المجال، لا بل سعى ــ في المقابل ــ لتقوية الزعامة الشيعية الدينية آنذاك بما يمكنه.

لقد أبدى الإصفهاني حساسيةً خاصّة في حفظ الحريم العقائدي للتشيّع، فلم يرض أو ينسجم مع الاتجاهات التي لم تتناغم مع البعد الشيعي العقدي، وقد أدّت حساسيته هذه إلى اتخاذ مواقف إيجابية تارةً وسلبية أخرى في علاقاته بالعلماء و.. فقد سمعت من والدي الكريم: أنّ الأستاذ الميرزا مهدي الإصفهاني كان منزعجاً جداً من الميول الفلسفية والعرفانية للمحقق الإصفهاني صاحب كتاب «نهاية الدراية»، كما كان يبدي امتعاضه مما جاء في مبحث الطلب والإرادة من كتاب «كفاية الأصول» للخراساني([25])، انطلاقاً من الكلام المقدّس للإمام جعفر الصادق B، والذي جاء فيه: «لا جبر ولا تفويض»، وهو الشعار الشيعي الذي أقصى الاعتزال والأشعرية.

من جانبٍ آخر، كانت تربط الميرزا الإصفهاني أواصر من العلاقات الطيبة مع مراجع الدين في عصره وعلماء المسلمين من أمثال آيات الله: النائيني، والحاج الآغا حسين الطباطبائي القمي، والشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، والبروجردي و… ونكتفي هنا بالتعرّض لعلاقته الحسنة باثنين من هؤلاء هما: النائيني، والبروجردي.

تلمّذ الإصفهاني في النجف على يد بعض آيات الله منهم: السيد إسماعيل الصدر، والسيّد محمد كاظم اليزدي، والآخوند الملا محمد كاظم الخراساني، والسيّد أحمد الكربلائي، إلاّ أنّ أعظم تلمّذه وأهمّه كان على يد الميرزا النائيني، والذي يعدّ واحداً من أكابر الأصوليين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد كان الإصفهاني مع عدد محدود من الطلاب منهم: آية الله الحاج السيد جمال الكَلبايكَاني، وآية الله السيد محمود الشاهرودي، وعدّة آخرون من خاصّة تلامذة النائيني آنذاك([26]).

لقد حظي الميرزا مهدي الإصفهاني بعناية النائيني واهتمامه، كما نال منه إجازة الاجتهاد والإفتاء والرواية، كان ذلك وهو في سنّ الخامسة والثلاثين من عمره، حيث يرجع تاريخ الإجازة إلى الأوّل من شوّال من عام 1338هـ، نعم، لقد بانت في الإجازة معالمُ التجليل والاحترام، من عالمٍ جامع مثل النائيني، الذي كان دقيقاً جداً ومتحفظاً في إعطاء إجازات الاجتهاد([27]).

جاء في الإجازة: «.. هو جناب العالم العامل، والتقي الفاضل، العلم العلام، والمهذّب الهمام، ذو القريحة القويمة, والسليقة المستقيمة، والنظر الصائب، والفكر الثاقب، عماد العلماء، وصفوة الفقهاء، الورع التقي، والعدل الزكي، جناب الآغا الميرزا مهدي الإصفهاني، دام الله تأييده، وبلّغه الأماني، فلقد بذل في هذا السبيل عمره، واشتغل به دهره، وعكف بباب مدينة العلم عدّة سنين، وحضر على الأساطين، وقد حضر أبحاثي الفقهية والأصولية مدةً مديدة وسنين عديدة، حضور تعمّق وتحقيق، وتفّهم وتدقيق، وكتب أكثر ما حضره، فأحسن وأجاد، وأدّى حقّ المراد، إلى أن حصل له قوّة الاستنباط، وبلغ رتبة الاجتهاد، وجاز له العمل بما يستنبطه من الأحكام، على النهج المعمول بين الأعلام، فليحمد الله سبحانه وتعالى على ما أولاه من جودة الذهن وحسن النظر..».

كما سطر ثلاثة من كبار الفقهاء هم آيات الله: الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، والسيّد أبو الحسن الإصفهاني، والآغا ضياء الدّين العراقي.. سطروا على حاشية إجازة النائيني تأييدَهم لها ومدحهم، محدّدين بذلك رأيهم وموقفهم من الميرزا الإصفهاني([28]).

وقد كانت للميرزا الإصفهاني مراسلات مع أستاذه النائيني، ومن بينها رسالة أرسلها النائيني إليه وهو في زيارته للعتبات المقدّسة بتاريخ 3 ــ رجب ــ 1345هـ، وقد جاء في الرسالة تشجيعٌ من الميرزا النائيني لتلميذه، ودعاء له أيضاً([29]).

وقد سمعتُ من آية الله الشيخ حسن علي مرواريد، عالم خراسان الشهير والبارز، أنّ الميرزا الإصفهاني كان يكتب رسالةً في باب الكرّ، وقد أرسلها إلى أستاذه النائيني، فردّ النائيني بالقول: أفبلساني هذا الكالّ أشكرك، كما سمعتُ من صهر الميرزا النائيني السيد محمد الحسيني الهمداني S المشهور بالآغا النجفي يقول: إن الميرزا الإصفهاني كان من عيون تلامذة المرحوم النائيني، وسمعتُ أيضاً من والدي المكرّم: أن المرحوم الإصفهاني كان مقرّرَ درس الميرزا النائيني، كما يقول الوالد الكريم في ذكرياته حول أيام دخوله الحوزة العلمية في مشهد قبل نيله درجة الاجتهاد: ذهبت للتحقيق في مسألة انتخاب مرجع تقليد إلى آية الله الشيخ مرتضى الآشتياني، ابن الآشتياني الكبير، وقد اعتبر الميرزا النائينيَّ هو الأرجح في هذا المضمار، كما ذهبت إلى المرحوم الميرزا الإصفهاني فأشار لي ــ أيضاً ــ إلى المحقق النائيني.

وهنا ينقل والدي بعض كلمات أستاذه ما يفيد أن تقليده لغير النائيني كان يمكن أن يؤدي إلى انزعاج الميرزا الإصفهاني، مما يدلّ على قوّة العلاقة التي كانت تربط الإصفهاني بأستاذه النائيني، وهذه العلاقات المتبادلة كانت لا تقوم ــ فقط ــ على علاقة الأستاذ بالتلميذ والعكس أو على مبدأ الصلاحية العلمية، وإنّما تعني ــ قبل ذلك كلّه ــ وحدة الميول الإيمانية، والاعتقاد بصوابية المعايير العقدية التي كان ينتهجها النائيني بالنسبة للإصفهاني، تماماً كما سمعت من أحد الثقات أن الميرزا النائيني، وانطلاقاً من دفاعه عن الأسس العقدية الشيعية ورفض الاتجاه الجبري، تكلّم حول ما ذكره الآخوند الخراساني في مبحث الطلب والإرادة من كفاية الأصول، مما أشرنا إليه من قبل، متأسفاً كلّ التأسّف على ذلك، ومعتبراً إياه مصيبةً وآفةً على عالم التشيّع، كما سمعت من أحد الأساتذة المعاصرين أنّ أحد تلامذة آية الله السيد حسن البجنوردي، وهو أحد تلامذة النائيني، ينقل أن الميرزا النائيني كان يبدي موقفاً صلداً ومناهضاً جداً لنظرية المعاد الجسماني الخيالي الصوري.

هذا، وقد كانت تربط الميرزا الإصفهاني علاقات حسنة وطيبة ــ أيضاً ــ بآية الله العظمى البروجردي، وهو ما كان منطلقاً من الانسجام والوحدة الفكرية عند الطرفين، كذلك المنحى العقدي الواحد، وإعطاء الأهمية والأولوية للفقه بتمامه، أعمّ من الفقه الأصغر والأكبر والأصول العقائدية، وقد سمعت من حجّة الإسلام الميرزا علي رضا الغروي S، الابن الأكبر للميرزا الإصفهاني، أنّ آية الله البروجردي S تشرّف بالوفود إلى مدينة مشهد لزيارة ثامن الحجج الإمام الرضا B، وقد ذهب إليه والدي، كما أتى البروجردي لزيارة والدي أيضاً، وأثناء اللقاء طرح موضوع عقائدي كانت فيه آراء الفلسفة والعرفان معارضةً للمعارف العقدية، وقد أبدى البروجردي حينها مواقف حادّة في نقد الفلسفة والعرفان، تماماً كما كان رأي والدي، والميرزا مهدي الإصفهاني، وقد ارتاح الإصفهاني لهذا الانجسام والاشتراك في القيم والمثل والمبادئ مع البروجردي، وكانت له رؤية حسنة لتصديه للمرجعية الدينية وتزعم البروجردي لها.

والجدير ذكره، أنّ هذه العلاقات الطيبة كانت استمرّت حسنةً إلى وفاة المرحوم الإصفهاني، وقد سمعت من والدي S أنّه عندما هاجر إلى مدينة قم عام 1378هـ، لمواجهة الظلم الذي كان يمارسه بعض الملاكين في شمال غرب إيران بدعم من النظام الشاهنشاهي.. عندما هاجر والدي حظي بعنايةٍ خاصّة من جانب المرجع الكبير آية الله العظمى البروجردي، وكان أحد أسباب هذا الاهتمام تأييد الميرزا الإصفهاني المستوى العلمي الذي كان عليه الوالد المغفور له، وينقل أنّه عندما حضر عند هذا المرجع الفقيد، وقف ــ رغم الشيخوخة التي هو فيها ــ وقدّم له احتراماً استثنائياً، ذاكراً الميرزا الإصفهاني بكلّ تكريم واحترام، مكرراً جملة: رحمة الله عليه.

التفكيك ومصادر المعرفة الدينية ــــــــــ

العقل، والكتاب، والسنّة، مصادر المعرفة ومعاييرها في المدرسة التفكيكية، وقد ظهر ذلك واضحاً في النتاجات المختلفة لرجال المدرسة العقدية الخراسانية نظرياً وعملياً، وقد عدّ الميرزا الإصفهاني في الكثير من مصنّفاته، ومن بينها مقدّمته لمصباح الهدى، كلاً من المعرفة العقلية وأحكامها، ومعرفة الفطريات العقلانية، إلى جانب سائر الحجج والأسس الشرعية، مبادئ للفقه الإسلامي([30]).

ويؤكّد الإصفهاني في رسالة الإفتاء والتقليد على تمامية الدين واستيعابه الأصولَ والفروع، وأنّ المعارف القرآنية قائمة على الرجوع إلى العقل والوحي معاً([31])، كما يذكر آية الله الشيخ مجتبى القزويني، أحد أركان المدرسة التفكيكية، في طريق الأنبياء حجتين هما: العقل، بوصفه الرسول الباطني، بما لديه من نوعي الإدراك المستقل وغيره، والوحي والنبيّ الظاهري، وهاتان الحجتان متعاضدتان، تمثلان المرشد لسعادة الإنسان وفلاحه([32]).

ولدى شرح نظريات المدرسة التفكيكية في كتاب «الاجتهاد والتقليد في الفلسفة»، يمتدح محمد رضا الحكيمي المنهجَ الاجتهادي لفقهاء الشيعة في أصول الدين وفروعه، مذكّراً بضرورة المعرفة البحثية للدين وآفات التدين التقليدي وعاهاته، معتبراً «التعقّل»، و «الاعتماد» أساسين رئيسيين تقوم عليهما المعرفة الدينية، وقد تحدّث الحكيمي عن الاستدلال والتفلسف، والعلاقة القائمة بينهما وبين التعقّل، نافياً وحدة الفلسفة والتعقّل، شارحاً ماهية العقل، وكيفية الاستفادة منه وتوظيفه في فهم الدين فهماً عقلانياً([33]).

ونسعى هنا، لتقديم شرح إجمالي لمصادر المعرفة الدينية، عنيت: القرآن، والسنّة، والعقل.

1 ـ القرآن الكريم ــــــــــ

يتخذ القرآن المجيد مكانته السامية وشأنه الرفيع ودوره الجامع من كونه القول الثقيل، قال تعالى: >إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً< المزمّل: 5، إذن فلا شيء يقبل أن يوضع مع القرآن في ميزانٍ واحد، كما لا يساويه أيّ مصدر معرفي ولا يدانيه أيضاً، فهذا الكتاب المقدّس هو الثقل الأكبر، وأعظم الإثنين اللذين تركهما رسول الله 2 من بعده للمسلمين، عنيت ــ معه ــ العترةَ المطهّرة([34]).

القرآن معجزة النبي 2، الفارق بين الحق والباطل، والمميز للصدق عن الكذب، إنه تبيان الأمور جميعها مما اختلف الناس فيه، وما صار جزءاً من الموضوعات الدينية، تماماً كما سمّاه الله تعالى بالنور، والهداية، والبيّنة، والضياء، والتذكرة، والبصائر، فقد قال سبحانه: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا< النساء: 174([35]).

من هنا، يأخذ موضوع شرح أنواع التعاليم القرآنية وفهم القرآن وتفسيره، بوصفه أهم مصادر المعرفة الدينية، يأخذ ضرورته العالية وأهمّيته الفائقة، وقد تعرّض كتاب: مناهج البيان في تفسير القرآن، والذي يعدّ أحد النتاجات التفسيرية للمدرسة العقائدية الخراسانية التفكيكية، لهذا الموضوع الحرج، مشيراً إلى جملةٍ من الأفكار والمداخل، التي نُلفِت هنا إلى أهمّها:

1 ــ إن وضوح المحكمات القرآنية لدى الجميع، وظواهر هذا الكتاب، حجّة يمكن العمل بها من وجهة نظر المحققين.

2 ــ تستوعب التعاليم القرآنية ــ من حيث المضمون ــ ثلاثة أنواع هي: التعاليم الإرشادية، والتعاليم التذكّرية، والتعاليم التعليمية.

3 ــ ثمّة اتجاهات ثلاثة: إفراطي، وتفريطي، واعتدالي، فيما يخصّ رتب الاستفادة من العلوم القرآنية والاستنتاج منها، فقد ذهب بعض إلى إنكار حجية ظهورات القرآن الكريم، فيما اعتبر بعض آخر أنّ القرآن مستغنٍ عن أهل البيت E.

ومن المناسب، في مجال القرآنيات، النظر إلى مقامين:

أ ــ مقام الخطاب العام، الذي يكون المخاطب فيه عامّة الناس وسوادهم، وفي هذا المقام يمكن للجميع الاستفادة من القرآن، كلّ قدر طاقته، وذلك عندما يرجع إليه ويستنطقه العلومَ والمعارف.

ب ــ مقام الخطاب الخاص، وهو الخطاب المختصّ بالرسول الأكرم 2، والأئمة الأطهار E، وليس للآخرين في هذا المرتبة من علوم القرآن، إلاّ المرور إليه، عبر التمسّك بالنبي 2 وعترته الطاهرة.

4 ــ إنّ المنهج الصحيح في تفسير القرآن هو منهج التفسير الاجتهادي، المبنيّ على العقل، والقرآن، والسنّة، أمّا المناهج الأخرى فهي ناقصة، باطلة، غير سويّة([36]).

2 ـ السنّة والحديث ــــــــــ

قول المعصوم B وفعله وتقريره حجّة، سواء في ذلك مجال العقيدة أو الأحكام، من هنا يعدّ توظيف الحديث الشريف، مع الأخذ بعين الاعتبار النظريات الحقّة في علم الرجال وفقه الحديث ودراية الحديث عند المذهب الإمامي.. يعدّ ركناً من أركان المعرفة الدينية.

تصرّح العديد من آيات الكتاب الكريم أن النبي محمداً 2 هو المبيّن للقرآن، من جملتها قوله تعالى: >وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ< النحل: 44.

وطبقاً لصريح حديث الثقلين والأحاديث اليقينية الأخرى، يعدّ أهل البيت E عدلاً للقرآن، وأحد الثقلين، ونوراً كالقرآن تماماً، من هنا يتولّى النبي 2 وأئمة أهل البيت E مهمّة بيان تفاصيل الأحكام وظرائف المعارف ودقائق العقائد، مثل الأسماء والصفات الإلهية، وحقيقة العرش، والكرسي، واللوح، والكتاب المبين، والروح، وجزئيات عالم الآخرة وتفاصيل أحداثه و..

ويشرح الأستاذ الحكيمي في مقالته: الأخباريّة والتعلّق بالأخبار، مواقف المدرسة التفكيكية في هذا المجال، ويعلن مبدأ ضرورة الاعتماد والتمسّك بالعلم الصحيح، أي القرآن والحديث، معتبراً هذين المصدرين مراجع للمعرفة الدينية، ثم يستعرض جملة موضوعات محورية أخرى تتصل بالحديث الشريف، من بينها: المرجعية العلمية للعترة الطاهرة E، وآفاق المعارف الكبيرة للمعصومين E.

وفي موضعٍ آخر من دراسته، يصرّح الحكيمي بإمكان الاستفادة من الأحاديث الشريفة وفقاً لمناهج البحث الأصولي والاجتهادي، ويراه ممكناً، فيما يرفض المنهج الأخباري في التعامل مع نصوص السنّة، ولهذا يرفض ــ في هذا الإطار ــ الفهم غير العلمي ولا الجمعي للحديث، منتقداً آليات الفهم التي أعملها الأخباريّون، واضعاً فواصل قاطعة بين المنهج الأخباري وما يراه هو منهجَ الرجوع للأخبار والاعتماد عليها([37]).

3 ـ العقل ـــــــــــ

العقل أحد مواهب الخلقة الثمينة، إنه توأم التاريخ البشري، ومقوّم حياة الإنسان، لقد اهتمّ القرآن المجيد في آيات عدّة بتقديس العقل، منها قوله: >وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ< يونس: 100، >إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ< الأنفال: 22.

ويقول علي B، أوّل الخلفاء بعد رسول الله 2: «الإنسان بعقله»، ويقول أيضاً: «أصل الإنسان لبّه»([38]).

لقد عُدّ العقلُ في النصوص الدينية النبيَّ الباطني والحجّة، كما أوضحت جنود العقل وجنود الجهل فيها بأجمل المفاهيم وأرقى الكلمات، من هنا، كان العقل ركناً من أركان الفقاهة، وعماداً من أعمدة التفقّه في أصول الدين وفروعه، وواحداً من مصادر المعرفة الدينية.

يتحدّث الميرزا الإصفهاني في هذا المجال فيقول: «واضحٌ أنّ أساس الدين على العقل، وتكميل الناس بالتذكّر به وبأحكامه»([39])،ويتحدّث الإصفهانيّ أيضاً عن الحسن والقبح العقليين الذاتيين([40])، ومن الجدير ذكره أنّه لو جمعت ودوّنت نظريات الميرزا الإصفهاني وآراؤه في العقل وقيمته ودوره لبلغت كتاباً مستقلاً.

أما الشيخ مجتبى القزويني، فقد تحدّث أيضاً عن العقل، مذكّراً بمكانته الرفيعة بوصفه نبياً باطنياً، وذلك لدى شرحه المناهج الرئيسية في الفكر الإسلامي، مشيراً إلى نوعي الحكم العقلي، أي الاستقلالي وغير الاستقلالي([41])، وهكذا الحال مع آية الله الميرزا جواد آغا الطهراني S، حيث تحدّث في فصلين عن مكانة العقل والعلم، والحسن والقبح الذاتيين في مذهب الإمامية([42]).

وجاء في كتاب توحيد الإمامية: «العقل في القرآن والحديث نور مبين، أفاضه الله تعالى على أرواح البشر، وقد كان العقل ظاهراً بذاته مظهراً لما سواه، إنه حجّة إلهية، معصوم في ذاته، يمتنع عليه الخطأ وأمثاله، بل إنّ قوام حجية أيّ حجيّة بالعقل، وهو ملاك الثواب والعقاب والتكليف، فبالعقل وعبره يبلغ الإنسان الإيمان بالله، وما يترتّب على هذا الإيمان، وتصديق الإنبياء والاعتقاد بهم، إنّها أمور واجبة بحكم العقل وأمره، وبالعقل أيضاً يميّز الإنسان الحقّ عن الباطل، والخير عن الشرّ، والهداية عن الضلال، كما يُعرف الحسن والقبح، والرفعة والذلّة، والواجبات والمحرمات البديهية الذاتية العقلية، والأخلاق الشريفة الحسنة، والسلوك السيء المنحطّ… بالعقل أيضاً»([43]).

وقد جاء في كتاب «تنبيهات حول المبدأ والمعاد» بحث مبسوط حول معرفة العلم، والعقل، والبرهان، وحجية العقل والعلم([44]).

وانطلاقاً من أهمية العقل الرئيسية ودوره الفعال عند المدرسة التفكيكية، نجد أبحاثاً مفصّلة حوله ومركّزة في كتاباتهم العلمية ومدوّناتهم، وذلك من قبيل الحديث عن شرح معرفة الوجود، والتحليل الايبستمولوجي للعقل في النصوص الدينية، وحقيقة العقل والعلم، وعناصر الامتياز الواقع بينهما، وتفاوت النفس والعقل في المادّية والتجرّد، ومدركات العقل في نطاق الواجبات والمحرّمات الذاتية التي يحكم بها العقل، والقبح والحسن المطلقين العقليين في الأفعال والأعيان، ومكانة العقل في معرفة الله، ودوره في معرفة الأنبياء والرسل، وأحكام القطع واليقين وحجيّتهما العقلائية، وحجيّة العقل الذاتية، والعقل الفطري، والعقل المصطلح، وتعارض العقل والنقل، والعلم، والعلم الحصولي والحضوري، والكشف والشهود والعقل، وكذلك الحال في موضوعات من نوع العقل في النتاجات الفلسفية والعرفانية، وهو الموضوع الذي يستوعب في داخله قضايا: العقول المستقلّة الطولية والعرضية، وأرباب الأنواع، والعقل الإنساني، وتقسيمات العقل، والعقل النظري والعملي و.. ومقارنة قيمة العقل في المدارس الفكرية الإنسانية وفي الوحي والنصوص الدينية([45]).

وبعبارةٍ موجزة، للعقل مكانته الرفيعة في القراءة الدينية، إنّ الدين نفسه يقوم عليه، كما لا يتعارض معه، ليس هذا فحسب، بل الوحي نفسه موجب لتنامي الميول العقلية وترشيد الفعل العقلي، وتكامل العقل الإنساني، كما جاء عن أمير المؤمنين علي B في الخطبة الأولى من نهج البلاغة، حول علل بعثة الأنبياء، حيث يقول: «بعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءَه.. ويُثيروا لهم دفائن العقول»([46]).

على أيّة حال، سوف نتعرّض عما قريب لما يتعلّق بالعقل في المدرسة التفكيكية.

المدرسة التفكيكيّة ونظم المعرفة في العالم الإسلامي، قراءة مقارنة ــــــــــ

1 ــ المدرسة التفكيكية والاتجاه الكلامي

ينقسم الاتجاه الكلامي في العالم الإسلامي ــ من حيث المبدأ ــ إلى فرق ثلاث كبيرة هي: الكلام الإمامي، والكلام المعتزلي، والكلام الأشعري، ويختلف الاتجاه الكلامي الشيعي اختلافاً بنيوياً عن الكلام الأشعري والمعتزلي، كما أنّ شرح أصول الدين والدفاع عنها في العالم الشيعي يتخذ أشكالاً متنوّعة ومختلفة فيما بينها رغم اشتراكها في أهداف واحدة، إلاّ أن الأدوات والآليات والمناهج تبدو عليها آثار الامتياز.

ويبدو أنّه يمكن تقسيم المنحى الكلامي الشيعي إلى تيارات ثلاثة من حيث المجموع هي: 1 ــ الكلام العقلي. 2 ــ الكلام النقلي. 3 ــ الفقه الأكبر والقراءة الاجتهادية لأصول الدين.

أمّا الكلام العقلي، فهو يقوم على المقدّسات الإيمانية، ويسعى في طريق الدفاع عن الدين سواء في الجانب الإيجابي الإثباتي أو الجانب السلبي الانتقادي، إلى الجواب عن الأفكار الفلسفية المناهضة للدين أو المختلفة معه، انطلاقاً من المناخ الفلسفي المشائي نفسه، واعتماداً على العقل النظري وأدواته المعرفية.

أمّا الكلام النقلي، فيحمل على عاتقه مسؤوليّة تنظيم المأثورات الدينية في المجال العقدي، وصوغها صياغة منتظمة ومتناسقة.

إلاّ أنّ المنهج الاجتهادي في معرفة أصول الدين يقوم على توظيف القواعد العقلية المعترف بها، والمأثورات الدينية أيضاً، وذلك انطلاقاً من فهم المناهج الفكرية التي تخالف هذا المنهج، فهماً نقدياً، وإشادة بيان عقائدي بديل قويم مستحكم بعيدٍ عن التأثر بالأفكار الفلسفية والعرفانية، هذا المنهج الاجتهادي هو المنهج العقائدي الخراساني أو المدرسة التفكيكية([47]).

يذهب التفكيكيون إلى ضرورة نقل المنهج المستخدم في فروع الدين إلى المجال العقدي وأصول الدين، أي ذاك المنهج المستخدم مثلاً في كتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلّي، والمستند إلى العقل، والكتاب،والسنّة، ومن الطبيعي أنّ عملية نقل التجربة هذه يجدر بها أن تتفهّم طبيعة الامتيازات التي تحكم العقائد والأحكام في كيفية الاتّكاء على المصادر المعرفية.

2 ــ المدرسة التفكيكية والاتجاه الفلسفي والعرفاني

عرف العالم الإسلامي والثقافة الإسلامية نظماً فلسفيةً ــ فكريةً مختلفة، وقد استقت هذه الأجهزة المعرفية عناصرها الرئيسة من مكوّنات العقل اليوناني وسائر النحل الفكرية الأخرى التي كانت قبل الإسلام، وبهذا وقع الخلط والامتزاج بين المعارف الإسلامية وتلك العناصر الوافدة، مما أدّى إلى ظهور أنواع من التصوّرات العقدية الهجينة المكوّنة من عناصر مختلفة: داخلية وخارجية.

لقد انشغلت الأنظمة الفلسفية المشّائية والإشراقية في مهمّة البحث العلمي مستعينةً بالمنطقين المشائي والإشراقي، وسعت ــ إلى جانب العرفان النظري القائل بأصالة الكشف والشهود ــ لتفسير العالم وفهم الوجود([48]).

أمّا الفلسفة الأنطولوجية الصدرائية، فقد كانت هي الأخرى جُماعاً من الفلسفة الفيثاغورية، والفلسفة المشائية، والفلسفة الإشراقية، والحكمة الرواقية، والفلسفة الأفلوطينية ــ والأفلوطينية الاسكندرانية، وهي الفلسفات التي تكوّنت من آراء فيثاغورس، وأرسطو، وأفلاطون، ومذاهب مصر القديمة، وعقائد الفلاسفة الشرقيين في إيران والهند و..، وكذلك كان للفلسفة الإيرانية القديمة (الفهلويون) دورٌ فيها أيضاً، كما ضمّت في ثناياها تحقيقات وجهود العرفاء والمتصوّفة، ذلك كلّه مع الأخذ بعين الاعتبار الكتاب والسنّة([49]).

وقد جعل الأستاذ محمد رضا الحكيمي في كتابه: دانش مسلمين (علم المسلمين) فصولاً عدّة وعناوين متعدّدة، عالج فيها نظم فهم العالم والرؤية الكونية الفلسفية، والعرفانية، والكلامية، تلك النظم القائمة في العالم الإسلامي، كما شرح نظام اللاهوت القرآني و.. وقد أجرى الحكيمي مقارنات عدّة بين هذه الاتجاهات، وكشف عما بينها من اختلافات عميقة، ما بين كل من نظم التفكير الفلسفي والعرفاني ونظام اللاهوت القرآني المتبنّى من جانب المدرسة التفكيكية([50]).

وقد جاء الحديث عن الفروق الأساسية بين النظام العقدي اللاهوتي القرآني (التفكيكي) والنظام اللاهوتي الفلسفي والعرفاني، في مقدّمة كتاب: بيان الفرقان للشيخ مجتبى القزويني، والذي يعدّ أهم النصوص والمصادر الأساسية في شرح المدرسة التفكيكية وتصوّراتها، وقد انتقدت المقدّمة مناهج الحكماء، والفلاسفة، والعرفاء، والمتصوّفة.

ونشير هنا إلى مقاطع دالّة من هذه المقدّمة في سبيل استكشاف عناصر امتياز المنهج التفكيكي عن غيره، يقول: «إن إثبات وجود الله في التوحيد الفلسفي أمرٌ نظري يحتاج إلى برهان فلسفي.. ومتوقّف على ممارسة بحث وتحقيق في مقولات العلّة والمعلول، والتسلسل وإبطاله: وفي نهاية المطاف، تكوين تصوّر عن علاقة الباري تعالى بما سواه تتماهى مع علاقة العلية والصدور، فالله هو العلّة، وما سواه هو المعلول الذي صدر عنه على أساس صيرورة خاصّة و..

إنّ الأخذ بهذه النظرية وتبنّي هذا التصوّر يستدعي جملةً من المستلزمات مثل:

1 ــ الفاعلية الموجَبة للحق تعالى، وعدم انفكاك العلة والمعلول، وقِدَم العالم.

2 ــ إثبات السنخيّة بين الواجب والممكن.

3 ــ إن التوحيد العرفاني قائم على إثبات أصالة الوجود، والتشكيك في حقيقته، بمعنى القول بحقيقة مشكّكة غير متواطئة له، أو إقامة برهان التعيّن أو إثبات الوحدة المطلقة.

4 ــ القول بثبوت القديم مع الذات الإلهية، لا في مرتبة الذات، مِثْل المُثُل الأفلاطونية، أو القول بالصور الزائدة على الذات، والقائمة بها، وفي النتيجة إثبات قدم أصول العالم، حتّى العناصر.

5 ــ الحدّ من العلم والقدرة الإلهية بالنسبة إلى الأمور والموجودات الكائنة، وحصر العلم الإلهي بالكليّات، أو القول بأن العلم الإلهي عبارة عن نفس حضور الموجودات لدى بارئها أو دون علم سابقٍ على الأشياء، أو القول بأنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء، أو العلم الإجمالي في عين الكشف التفصيلي.

6 ــ استناد تمام الأفعال إلى الله سبحانه، على أساس سلسلة العلل والمعاليل دون إمكان تخلّف، حتّى بالنسبة الأفعال البشرية بالتبع، ومن ثم استناد الشرور لله، أو إنكار وجود الشرور في العالم.

7 ــ انحصار الحوادث بالحوادث اليومية ــ أزلاً وأبداً ــ المستندة إلى أسبابها التكوينية، واثبات عدم إمكان وقوع التغيير أو التغيّر في العالم، ثم إنكار البَداء.

8 ــ إنكار نسبة الحسن والقبح في العالم لإرادة البشر واختيارهم.

9 ــ إنكار النبوّة بالمعنى الوارد في الأديان، وإنكار الملائكة وجبرئيل بما لهما من المعنى الواصل إلينا من قنوات الوحي.

10 ــ إنكار المعاد الجسماني، وإنكار الخلود في العذاب»([51]).

وفي نهاية المقدّمة المذكورة جاء: «وعصارة النتيجة المتكوّنة من المعارف البشرية، والثابتة عبر البرهان الفلسفي والعرفاني الكشفي الشهودي، معرفة ذات الله من خلال مفاهيم ووجوه، أو معرفة السالكين للحق تعالى عبر التعيّنات، وللكمّل الحيرة وعدم التفريق بين الشاهد والمشهود والعابد والمعبود، ومن ثم حرمان الذات من أعظم النعم الإلهية، أي العبادة، والخضوع، والتضرّع، والخشوع»([52]).

وعلاوةً على ما عرضناه من مقال الشيخ مجتبى القزويني، سعى القزويني في كتاباته لمعالجة أجزاء الأصول العقدية الشيعية بتفصيلٍ واضح، شارحاً امتيازاتها عن النظريات الفلسفية والعرفانية.

ومن الضروري إلفات النظر إلى أنّ شرح التفكيكييّن لمواضع الاختلاف ما بين الصورة اللاهوتية الفلسفية، والعرفانية، والدينية، لا تعني بالضرورة أخذ الفلاسفة جميعهم بتمام النظريات الفلسفية، فالكثير من الفلاسفة رجّحوا ــ في حالات عدة ــ آراءهم الدينية على نتائجهم الفلسفية المستمدّة من أصولهم العقلية، مثل ابن سينا، والفارابي، والحكيم الزنوزي و.. ففي موضوع المعاد الجسماني على سبيل المثال، تمسّكوا بما قاله الصادق المصدّق على خلاف القواعد الفلسفية ورؤاهم العقلية الأنطولوجية، ذلك أن نظام التفكير الفلسفي لا يسمح بعودة الروح إلى الجسم من جديد، ولا القوة إلى الفعل، بل يراه أمراً محالاً، وهكذا يقع التضادّ بين الحركة الجوهرية وأسس الاعتقاد بالمعاد الجسماني.

ومن حالات تصديق الأصول الدينية وترجيحها على الفلسفة، نصوص صدر المتألهين الشيرازي، في اعترافه بالمعاد العنصري القرآني، فليراجع كتاب المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية.

التفكيك في مقامين: الثبوت والإثبات ــــــــــ

مسألة التفكيك، مثلها مثل بعض الحقائق الأخرى، ذات مرحلتين:

الأولى: وجود مجموعة من الحقائق العقدية الأنطولوجية، والعلمية، ومنشئها، وبنيانها.

الثانية: إثبات إمكان الوصول إلى هذه الحقائق.

أما على صعيد المرحلة الأولى، فيمكن القول: إن روح المدرسة التفكيكية عبارة عن منهج علمي، يسعى لفهم ممنهج، ومعرفةٍ اجتهاديةٍ للعقديات الدينية، وتفكيكها عن العقديات غير الدينية، في أيّ صورةٍ أو محتوى كانت عبر تاريخ الإسلام والتشيّع، وذلك اعتماداً على الثقة بالذات للقيام بتفكيك نسبي تبعاً لطبيعة الاتجاهات، والأشخاص، من هنا يمكن البتّ بأنّ مدرسة التفكيك لا تعني أصالةً أو ارتباطاً بقيم ومبادئ تتعلّق بأشخاص، أو جماعة، أو منطقة معينة، إنما هي نظام معرفي إيبستمي جامع ومستوعب، حظي ــ على الدوام وعبر تاريخ المناهج العلمية ــ بمكانة سامقة، ذلك أنّ أساسه مُشَادٌ على نوري العقل والدين، وهما أساسان مقدّسان، لا ينهزمان، ولا يذلان، بل تبقى لهما الرفعة الكبرى، تماماً كما نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا B لدى تفسيره آية: >وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً< النساء: 141، أنّ معناها عدم تفوّق الكافرين في الحجّة والمنطق، وأنّ المؤمنين لن يغلبوا في هذا المضمار([53]).

إلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني إطلاقاً إضفاء قداسةٍ أو تصويب شامل لآراء واستنتاجات منظري التفكيك في مرحلة الإثبات، وما أكثر ما تكون بعض آرائهم وأطروحاتهم محتاجةً بحق إلى نقد وتصحيح وتقويم.

وإذا أردنا أن نتكلم بشكلٍ أكثر جذريةً، أمكننا القول: ليس من رأي مصون عن الخطأ أو الاشتباه أو النقصان، إذا استثنينا ضروريات الدين والإيمان والعقل ومسلماتها، ولا تخفى على أحدٍ أهمية مسألة التخطئة والتصويب في الممارسة الاجتهادية الشيعية، حيث رُفضت نظرية التصويب، وإن أقرّ بعذر المفتي في خطئه ما دام أميناً صالحاً، بل يؤجر على ذلك.

إنّ الإصرار على التمذهب الفكري ورفض أشكال المعرفة التقليدية، كما والتعصّب والتعبّد بآراء الكبار والعظماء، بمن فيهم كبار رجال مدرسة التفكيك، تبعاً للمبدأ المشار إليه أعلاه.. ليس أمراً عابراً، بل له جوانب عقدية وقيمية، من هنا لا تتساوى ماهية النقد والإبرام لمدرسة التفكيك بما لها من وجود واقعي مع علماء التفكيك أنفسهم، ولهذا يمنع التساهل في التحديد الفاصل ما بين ثبوت المدرسة التفكيكية ثبوتاً واقعياً وإثبات هذه المدرسة إثباتاً علمياً، كما يحظى تحديد مَدَيات حضور المناهضين للفلسفة والعرفان السائدين في العالم الإسلامي بأهميته الخاصّة أيضاً في هذا المضمار، ومن ثم لا يمكن عدّ الطرفين جبهةً واحدةً، ثم إصدار أحكام واحدة في حقهما معاً.

إن حركة مناهضة الفلسفة والعرفان لم تنشأ من عاملٍ واحد، بل تعدّدت أسباب تكوّنها، فمن المعتقدات الإلحادية تارة، مروراً بالاتجاهات الأشعرية أو المعتزلية أخرى، وصولاً ــ ثالثة ــ إلى النزعات العقدية الشيعية.

نقد مدرسة التفكيك، أو حركة رفض التفكيك ــــــــــ

يعود الخلاف مع مدرسة التفكيك في حقيقته وعمقه ومَدَياته إلى فترة قديمة جداً، إذ نلاحظ لدى دراسة تاريخ الاتجاهات الفكرية في الإسلام أن نزاع الدين والفلسفة قد أدّى إلى تشاجر عنيف بين الفلاسفة والعرفاء المسلمين باتجاهاتهم المختلفة من جهة، وبين الفقهاء والمتكلّمين من جهةٍ أخرى، إن هذا الخصام القديم تبدّى عبر التاريخ بأشكال مختلفة، فقد ظهر أحياناً بمظهر علمي يحفظ حريم الحقّ والعلم والعلماء، ويخوض المواجهة على أساسٍ علمي موزون، فيما بدا أحياناً أخرى معوجّاً غير سليم ولا موزون، بل تحكمه الانفعالات وتسير به نحو قمع المخالفين في الرأي وتشويههم وتمزيق أوصالهم.

وغالباً ما كانت المواجهات التي خيضت ضدّ المدرسة التفكيكية بعيدةً عن الإنصاف والحياد، بل كانت ــ أحياناً ــ سخيفةً يحكمها العناد والتعصّب، والمسألة الأهم التي نلاحظها في سياق رصدنا التاريخي لهذا الموضوع أن حركة الشجار الفكري قد ترعرعت في مناخ لا يهدف إيضاح الحقيقة أو استجلائها أو تصحيح الالتباسات الفكرية التي تورّط فيها الطرف الآخر بغية إعادته إلى الأسس المقرّة من جانب العقل والشرع، ولو كان الأمر كذلك لساعد بالتأكيد على ترشيد الجهد المعرفي ورفع مستوى الوعي والإدراك، إلاّ أن المناخ الذي حكم الشجار التاريخيّ هذا قد تحرّك ــ مع الأسف ــ في سياق مختلف، إذ تحوّلت حركة نقد المدرسة التفكيكية إلى نزاعات شخصية وفئوية، بل يمكن القول تقريباً: إن تمام الانتقادات المسجّلة كانت تقبع داخل إطار محدّد بالدفاع عن الرؤية الكونية والتفسير العرفاني الوجودي لصدر الدين الشيرازي صاحب الحكمة المتعالية، ممّا أخفى ــ ضمن هذا السياق ــ الكثير من الحقائق الواضحة والبديهية أو جرى التغافل عنها، ذلك أنّ التفكيكيين ــ مع جميع النقاط المسلّمة أو المطروحة على بساط البحث ــ يمثلون قسماً من الحقيقة التاريخية في السير المراحلي الذي شهده علم الكلام والمعارف العقدية الشيعية، ومن الإنكار للبديهي أن يرفض الإنسان الاختلافات الجذرية والبنيوية العقدية للفقهاء والمتكلّمين مع الفلاسفة والعرفاء.

من هنا، ولكي يجري الفرار من مواجهة حقائق واضحة جليّة من هذا النوع، استبعد الرصد التاريخي لتحليل المسار الطبيعي لهذه الظاهرة، وهو ما يحتاج شرحه إلى كلامٍ طويل.

والجدير بالذكر أنّ أكثر حركات النقد التي عرفتها المدرسة التفكيكية المعاصرة قد تجلّى في الأشهر الأخيرة بكتابة سلسلة من التأليفات النقدية، وبعض هذه المصنّفات اتسم بالشرح والبسط والإطالة، ويحتاج تقويم هذه الدراسات وردّها أو قبولها إلى مجالٍ رحبٍ لا تفي به مثل هذه الدراسة، إلاّ أنّه حيث تقتضي الضرورة والفهم الأفضل لمدرسة التفكيك نفسها معالجة هذه الإشكاليات النقدية المثارة، كنّا مضطرين لرصدها بصورةٍ موجزة، مسلّطين الضوء ــ من بينها ــ على الملاحظات الأساسية والمركزية.

التفكيك وإشكالية معارضة العلم والعقل ــــــــــ

يمكن القول بأن أكثر الوقفات النقدية التي تعرّض لها التفكيكيون تتمركز حول مكانة الدين والعلم والعقل، وكيفية علاقات هذه المحاور الثلاثة بعضها ببعضها الآخر.

إن وجود تمايزات بنيوية وبديهية بين الكثير من الموضوعات والنظريات الدينية والفلسفية في تاريخ العلم، خلق هذا النوع من الإشكالية أو من ردّ الفعل، وذلك من طرف المناصرين العاشقين والمدافعين المحامين عن النظريات الفلسفية، أولئك الذين ما كانوا يريدون أن يصطفوا أو يحسبوا على معارضي الدين ومخالفيه، أو كانوا على علاقة مميزة بالدين والفلسفة معاً..

وقد أدى هذا الانحياز ــ مع الأسف ــ إلى قلب حقائق كثيرة جداً لا تعدّ ولا تحصى، وذلك في إطار ممارسات النقد لمدرسة التفكيك، حتّى عدّ الدفاع عن الأصول العقدية الدينية محاربةً للعقل، وجموداً، وسلفية، فيما عدّت ــ في المقابل ــ الكثير من النظريات الفلسفية والعرفانية المهتزّة بطبيعتها، والمليئة ــ أكثرها ــ بالخلاف والنزاع عينَ العقل والعلم، ليتعامل معها التعامل مع الرفيع والأمر الجليل.

أما التعامل المنصف والتقويم المحايد فقد كان يبدي حقائق ذات نوعٍ آخر، ولكي نقدّم مثالاً على ذلك، نأخذ مسألة المعاد القرآني، فقد صوّرت الفلسفة الصدرائية معاداً جسمانياً صورياً، لم يحظ بتأييد حتى متعصّبي الفلسفة المتعالية نفسها، بل لقد اعتبرت شخصية مثل مرتضى المطهرّي نظرية المعاد الصدرائية غير متوافقةٍ مع المعاد في صورته القرآنية، ولكي يبرّر هذا الخطأ الذي وقعت فيه الفلسفة الصدرائية أحال المطهري الأمر إلى تأثر الملا صدرا بالتفسير الكوني المؤسّس في عصره على الهيئة البطليموسية([54])، وهي الفرضية التي هجرها العصر الحاضر، وصنّفها ــ منذ زمن ــ على حساب النظريات العلمية المهجورة، ومن العجيب أنّ هذا التصوّر الكوني للعالم، أي التصوّر البطليموسي المنبوذ، هو الذي خلق، ولقرون مديدة، إحدى أقسى النزاعات الفكرية الدينية والفلسفية، مثيراً زوبعةً من الجدل طاول قضايا بالغة الحساسية مثل حدوث العالم وقدمه، ومبدأ ظهور الموجودات، والفاعلية الإلهية و.. وهو ما كان يؤدي بالمتدينين لدى رفضه إلى الوضع في قفس القشرية والاتهام بالجمود والتحجّر، وقد بدا اليوم وكأن هذا الأصل الموضوع كان ضحالةً ووهماً و..

والحقيقة، أنّه لو شرّحت المواقف الفكرية المختلفة في حقّ العقل لبان كم من التحريف والتبديل وقع في كشف الحقائق وإجلائها، إن نظرةً إلى تاريخ الفكر والفلسفة والأديان في العالمين الشرقي والغربي، سواء في العصر الغابر أو العصر الراهن، لتؤكّد بشكل حاسم على وجود اختلافات عميقة في فهم العقل ودوره و.. بل في شرحه وتعريفه؛ ولذا من الجدير إجراء مقارنة في موضوع العقل ما بين المذهب الفلسفي العرفاني، والمذهب الفقهي والكلامي، وذلك لكي تنجلي أكثر فأكثر مكانة هذه الحقيقة المقدّسة.

«يمكن القول: إنّ للعقل في الفلسفة والكلام اصطلاحين كليين يمكن تحديدهما، أحدهما: أنّ العقل موجود مجرّد بذاته وفعله، كما أنّه مستقل، بمعنى أن وجوده غير مرتهن بالنفس ولا معلّقٍ بالبدن، لقد صوّر الكثير من الفلاسفة سلسلةً من العقول، انطلاقاً من ما تستدعيه قاعدة: الواحد لا يصدر عنه إلاّ واحد، وكذلك قاعدة إمكان الأشرف، وجملة أدلّة أخرى، واعتبروا هذه العقول واسطةً في الفيض الإلهي، وذلك بالقول: إنّه لم يصدر عن الله تعالى سوى موجود واحد يسمّى بالعقل الأوّل، وقد صدر من هذا العقل عقلٌ ثانٍ، ومنه عقل ثالث، حتى بلغت العقولُ العشرةَ، وقد سمّي العقل العاشر بالعقل الفعّال، وقد صدر العالم الطبيعي عن هذا العقل الفعّال، وهذه العقول عقول طولية، تقوم فيما بينها علاقة عليّة ومعلولية.

إلاّ أنّ شيخ الإشراق السهروردي رفض ــ في سياق إثبات نظرية العقول الطويلة المشائية ــ تحديدها بالعشرة، وذهب إلى زيادتها عن هذا العدد، بل تخطى السهروردي إطار العقول الطولية ليعتقد بعقولٍ عرضية سمّيت بأرباب الأنواع.

وهكذا أخذ صدر الدين الشيرازي نظرية أرباب الأنواع، مقدّماً تفسيراً خاصاً لها([55]).

ويعتقد أحد رجال الرأي الفلسفي المعاصر أنّ «تعداد العقول التي تقع واسطةً بين العقل الأوّل والعقول العرضية لا تقبل التعيين أو التحديد، وأنّ فرضية العقول العشرة غدت باطلةً بعد إبطال فكرة الأفلاك التسعة»([56]).

ويكتب الشيخ مرتضى مطهري حول الآثار العقدية لموافقة أو مخالفة العقول المستقلّة القديمة، الطولي منها والعرضي، وكذلك فلكيات الهيئة البطليموسية، فيقول: «يعتقد المتكلّمون أنّ الله هو فاعل الأشياء، وأنّه لا يوجد مؤثر في خلقها سواه، وبعبارة أخرى، إنّهم يعتقدون بتكثر فاعلية الحقّ تعالى بلا واسطة، أمّا الحكماء فيذهبون إلى تعدّد الخلقة، فيما يرون الجواهر العقلانية واسطةً في الخلق، من هنا، ينظرون إلى تعدّد الخلق في إطار خلق الصادر الأوّل أو العقل الأوّل بلا وساطة، وأنّ موارد كثيرة أخرى قد حصل فيها الخلق مع الواسطة، أمّا العرفاء والمتصوّفة فلا يرون في العالم بتمامه سوى تجلّي وظهور لا أكثر»([57]).

وبالمرور على هذا الاختلاف الفلسفي الكلامي في العقل، تبدو أمامنا خلافات جادّة أخرى، تُعْتَبَر مسألة حدوث العالم وقدمه، وكذا قدم الموجودات، وفاعلية الحقّ تعالى، وقدرته، واختياره، والخلقة و.. من أهمّها، إنّ هذه الخلافات كانت موجودةً في الثقافة الإسلامية منذ القرون الأولى، وقد خلقت حساسيات حقيقية بين الفقهاء والمتكلّمين من الشيعة والسنّة، وقد أدّى ذلك إلى تجاذبات ومواجهات بين أصحاب علوم الأوائل والفلاسفة.

ويمكن أن نحسب بعض علماء الشيعة الذين تبدّت في أفكارهم الكلامية والفقهية مواقف مناهضة للفكر الفلسفي، ومنهم: الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وشيخ الطائفة الطوسي، وأبو الفتح الكراجكي، وأبو الصلاح الحلبي، وابن زهرة الحلبي، والخواجة نصير الدين الطوسي، والمحقق الحلي، والعلامة الحلّي، والشهيد الأوّل، والشهيد الثاني، والمحقق الثاني الكركي، والمقدّس الأردبيلي، وجعفر كاشف الغطاء، والمحقق القمي، وصاحب الجواهر، والشيخ مرتضى الأنصاري و.. ([58]).

ومن جملة المواضع التي يمكننا فيها رصد مناهضة الفقهاء الشيعة وانتقادهم للفلاسفة مبحث التنجيم من المكاسب المحرّمة([59]).

المعنى الثاني للعقل عند الفلاسفة هو العقل الإنساني، وهو قوة من النفس، ومن مراتبها الذاتية، أي أنّه قوّة بشرية، يُحتمل الخطأ فيها، أمّا في النصوص الدينية فلا يعدّ العقل مرتبةً من مراتب النفس الذاتية، بل موهبة إلهية أفيضت على الإنسان، فالعقل نبي باطني، له حجيته الذاتية وعصمته أيضاً، ومن المحال تسرّب الخطأ إليه([60]).

ومن القضايا الإشكالية التي كانت مسرحاً للخلاف بين أكثر الفقهاء والمتكلّمين وبين الفلاسفة، قضية الحسن والقبح الذاتيين العقليين، فمن وجهة نظر جمعٍ عظيم من الفلاسفة والمنطقيين يعدّ الحسن والقبح العقليان، وهما من أصول مدركات العقل العملي، من المشهورات التي قدّرها العقلاء لحفظ مصلحة حياتهم الاجتماعية، ومن ثم فلا واقع ولاحقيقة للحسن أو القبح خارج إطار الاعتبار العقلائي، وبناءً عليه، يغدو حسن العدل وقبح الظلم، وكذلك سائر مدركات العقل العملي، من الأمور الاعتبارية.

وقد سار على هذا المنهج ابن سينا في كتاب النجاة، وشارح الشمسية، والحاج ملا هادي السبزواري، والمحقق الإصفهاني مؤلّف نهاية الدراية، والطباطبائي صاحب الميزان، كلّ بلغته الخاصّة وتفسيره الشخصي، وأسسه المتبنّاة عنده، ويشترك الفلاسفة مع الأشاعرة في هذا الموقف، أي في رفض الحسن والقبح الذاتيين العقليين، غاية ما في الأمر أنّ الفلاسفة يرونهما اعتباراً، فيما يراهما الأشاعرة أمراً شرعياً.

في مقابل هذا الخط، وقف أغلب الأصوليين والفقهاء والمتكلمين، وبعض الفلاسفة، إذ ذهبوا إلى تبنّي الحسن والقبح الذاتيين العقليين، كما أشير سابقاً إلى آراء كبار رجال المدرسة التفكيكية في هذا الموضوع.

ومن اللازم الإشارة هنا إلى أنّ الآراء المنقولة عن حقيقة العقل من جانب بعض العلماء، وكذلك من لم نأتِ على ذكر اسمه، تبدو واضحةً في مصنّفاتهم، لكن على اختلاف فيما بينهم، وهو ما يستدعي ــ لرصد موقفهم ــ بحثاً أدقّ وأشمل([61]).

وإذا أردنا أن نطلّ بالبحث والدراسة من جانب آخر وبقراءة كليانية للفلاسفة والعرفاء الإسلاميين في موقفهم من العقل، وكذلك آراء فقهاء أهل البيت E فستكون لدينا صورة أكثر وضوحاً ودلالة على جملة من الحقائق، فالمنهج السلوكي العرفاني لا يعتمد بأيّ وجهٍ من الوجوه على الاستدلالات العقلية، إنّه منهج يرى ــ كما يقال ــ قَدَمَ الاستدلاليين خشبيةً، أما المنهج الفلسفي الإشراقي فيرى الكشف مكملاً للعقل والبرهان، بدوره المنهج الفلسفي المشائي يقوم على البرهان العقلي النظري، إلاّ أنّ فشل المنهج المشائي وإخفاقه في تحقيق جملة من النتائج بعد قرون من توظيفه على يد العلماء العقليين، ورغم سيطرته على تفكير مجتمعات بشرية بأجمعها.. أدّى إلى ظهور موج عاتٍ من الانتقادات المنصبّة على النهج الميداني المشائي في بُعديه المضموني والشكلي، وذلك من جانب جماعة من العلماء المسلمين وغير المسلمين.

أمّا العقل في الفلسفة المزجية الصدرائية فيعد جزءاً منها، وهو يتكوّن من بنية داخلية يغلب عليها الطابع الكشفي والعرفاني، إلاّ أن مقارنةً له مع العشق والكشف والشهود تؤكّد ضعف مكانته شديداً أمامها، بل قد يتمّ التعاطي أحياناً معه بشكل غير رحيم ولا ودود([62]).

أما المصادر الدينية الشيعية فتعتبر العقلَ موهبةً إلهيّة، وحجّة باطنية أفيضت على الإنسان، وعادةً ما يذكر العقل بعناوين مثل: المخلوق الأوّل، والموجود الأكثر محبوبيةً، أمّا الأحكام العقلية والمستقلات العقلية فتكتسب مكانة رفيعة([63])، وهكذا جاء العقل ملاكاً للتكاليف، ومعياراً للثواب والعقاب، وكان واحداً من مصادر المعرفة الدينية الأربعة، كما كان العقل على الدوام، ومعه الاستدلال، أحد أهم العناصر المكوّنة للمذاهب الكلامية والعقدية الشيعية.

تقسيمات العقل في الموروث الشيعي ــــــــــ

لعلّه يمكننا رسم صورة عن منهج الفقهاء والكلاميين الشيعة في تعاطيهم مع العقل وقراءتهم له، وذلك على الشكل التالي:

1 ــ الاعتقاد بالعقل البديهي، أعمّ من المستقلات العقلية، والبديهيات الأوّلية للعقل النظري، والاستنتاجات العقلية القائمة على مقدّمات تتسم بالوضوح، وكذلك الاعتقاد بالحسن والقبح الذاتيين العقليين، وتقدّم العقل الفطري على النقل وأصالته.

2 ــ الاعتراف بالعقل الموافق للنقل، إلاّ أنّه لا ينبغي تصوّر أن المراد التعبد العقلي المحض أو المطلق بالوحي في الاجتهاد والاستنتاج، وأنّه لا يستساغ أيّ نوعٍ من أنواع التعقّل في الروايات، بل يشمل النشاط الاستدلالي العقلي الذي تؤيّد نتائجَه محكماتُ الكتاب والسنّة، كما يشمل الاستنتاجات العقلية المنبثقة من الأدلّة والمصادر الدينية المنسجمة في نهاية المطاف مع المعارف اليقينية للكتاب والسنّة، وهذه النقطة وإن بدت في ظاهرها بسيطةً وعادية إلاّ أنّها في مضمونها بالغة الدقّة، تساعد أعظم المساعدة على حلّ عقدة العلاقة ما بين العقل والوحي، كما تجلي دور الدين في الإمساك بزمام قيادة الفكر الإنساني، والخدمات التي يقدّمها العقل للنقل.

3 ــ الاعتراف بمبدأ توظيف الأدلّة العقلية، غير المستقلات منها، عند الاحتجاج والمجادلة العقلية مع المخالفين في الرأي.

4 ــ مبدأ ترجيح النقل المتقن التام على العقل النظري غير البديهي وعلى الكسبي، وغير المستقلات العقلية.

5 ــ رفض القياس الفقهي في مجال الأحكام، إن أنصار المدرسة العقدية لأهل البيت E يمنحون العقل بجوهره القدسي قيمته الكبيرة العالية، بيد أنّهم يتخذون مواقف تتسم بطابع الاعتدال إزاءه، فقد عارضوا ــ من جهةٍ ــ سيول مواجهة العقل التي فتحها أهل الحديث، والحنابلة،وكذلك الاتجاه الجمودي الجلمودي للأشاعرة.. وهو الاتجاه الذي سعى إلى تضعيف مكانة العقل والتعقّل، كما رفضوا ــ من جهةٍ أخرى ــ النزعة العقلية الإفراطية لمدرسة الاعتزال، واعتبروها غير صائبة.

«يولي الاتجاه الكلامي والفقهي أهمية واحتراماً للتجربة والعلوم التجريبية، وكذلك للعقل والكشف والشرع، إنهم يوافقون على التجربة، كما يحترمون كل استنتاج يقوم على أساسها ما دامت صحيحةً، كما أنّهم لا ينأون بأنفسهم عن الكشف والشهود السليمين، بل يقبلون بهما، بيد أنّهم لا يعتبرونهما معياراً في الوصول إلى الحقيقة، إنّهم ــ أيضاً ــ يقدّسون العقل، سواء في جانب معرفته للوحي وحكمه باتباعه في النطاق الذي يجد العقل فيه استعداداته المعرفية عاجزةً عن الخوض فيه، أو جانب أحكامه المستقلة أو في جانب تعقل الوحي وخدمته له، إنهم يرون الشرع مكملاً للعقل، وهو السبيل الآمن والمتصل بخالق الوجود، وهو البرنامج الأبدي لسعادة أفراد الإنسان جميعهم»([64]).

التفكيك وإشكالية الانتماء للاستذكار الأفلاطوني ــــــــــ

للتذكّر في معرفة الله الدينية دور مفتاحي أساسي، وقد عبّر الله تعالى عن القرآن بالتذكرة، واعتبر النبيّ مذكّراً، وثمة آيات قرآنية كثيرة في هذا الخصوص من بينها: >فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ< الغاشية: 21، و >كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ< المدثر: 55، و..

يكتب أحد نقّاد المدرسة التفكيكية، نقلاً عن العلامة الطباطبائي قوله: «.. وأما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة، وتعيّن طريق الكتاب والسنّة، وهو مسلك الدين، فلا يسعه إلاّ أن يرى طريق التذكر، وهو الذي نسب إلى أفلاطون اليوناني، وهو أن الإنسان لو تجرّد عن الهوسات النفسانية وتحلى بحلية التقوى والفضائل الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق فيه، وهذا هو الذي ذكروه، وقد اختاره بعض القدماء من يونان وغيرهم، وجمع من المسلمين، وطائفة من فلاسفة الغرب..

وهذا هو الذي ذكروه، وقد اختاره بعض القدماء من يونان وغيرهم وجمع من المسلمين، وطائفة من فلاسفة الغرب، غير أن كلا من القائلين به قرره بوجه آخر»([65]).

وأجد من المناسب لدى نقد هذا الكلام، الإشارةَ الإجمالية ــ وفقاً لما ذكره بعض الباحثين المعاصرين ــ للفوارق الأساسية بين معرفة العالم ومعرفة الله في النظرية الدينية ونظيرتها الأفلاطونية:

1 ــ يمكن للإنسان، وفقاً لنظرية المُثُل الأفلاطونية، شهود المُثُل بالسعي العقلاني والديالكتيكي والجدلي، أما في مدرسة المعرفة الفطرية لله فيُعرّف الله سبحانه نفسه للإنسان.

2 ــ إن طريق شهود المثل هو الجدل والديالكتيك والبحث العقلي، أمّا سبيل الاستذكار المعرفي الفطري لله، فهو العبادة، وذكر الله، وما كان من هذا القبيل.

3 ــ طبقاً لنظرية المُثُل، تملك التعاريف الكلّية مرجعاً عينياً مستقلاً مجرّداً، أما المعرفة الفطرية لله سبحانه فهي لا تثبت مُثُلاً من هذا النوع، كما لا تعطي رأياً إيجابياً ولا سلبياً في هذا المجال.

4 ــ إنّ معرفة الله في الإسلام ليست أمراً ذهنياً معقّداً، ولهذا لا تختصّ بأشخاص محدّدين، بل تستوعب أفراد الإنسان بأجمعهم، على العكس من ذلك النظام الفلسفي الأفلاطوني، ذلك أنّ معرفة الله فيه مختصّة بأفراد محدّدين، يفترض بهم أن يمتلكوا ميزات خاصّة، وهي ميزات وشروط كان أفلاطون نفسه قد بيّنها وشرحها.

نواجه في اللاهوت الأفلاطوني موجودين اثنين، يحتمل أن يكون كلّ منهما هو الله، أو أن يكون أحدهما الإله الأساسي فيما يكون الثاني فرعياً، تماماً كما يعبّر أفلاطون نفسه عنهما بالإله الأب، والإله الابن، وهذان الإلهان الأفلاطونيّان، خصوصاً الخير المطلق منهما، لا يمكن معرفتهما إلاّ للفلاسفة، وهم بدورهم لا يمثلون سوى عدد محدود من الناس يتمتعون بطاقات وإمكانات جسمانية، وظاهرية، وذهنية، مثل الإرادة، والشجاعة، والجمال، والاستعداد الطبيعي، وحدّة الفهم، والذاكرة، والهمّة التي لا تعرف الكلل ولا التعب، ومحبة الأعمال كلّها، والاستعداد، و.. وهم ــ أي الفلاسفة ــ إنما يقدرون أيضاً على إدراك الخير المطلق بعد طيّ مراحل كثيرة، ثم بلوغ سنّ الخمسين عاماً، أمّا سائر الناس، وهم الأكثرية التي تشرف على الإطباق العام، فهم محرومون من معرفة الله، وبهذا تنحصر سعادتهم في إطاعتهم للفيلسوف الحاكم في المدينة الفاضلة الأفلاطونية.

5 ــ لا يوجد ارتباط في المدرسة الأفلاطونية بين الأخلاق ومعرفة الله، ومن ثم لا تأثير للفضائل أو الرذائل الأخلاقية في اكتشاف الباري وفهمه، وهذا ما يعاكس التعاليم الدينية التي ترى أن العمل بأحكام خاصّة لازمٌ لمعرفة الله والإيمان الديني، ومن ثم تؤسّس لعلاقة وثيقة بين الإيمان والعمل([66]).

التفكيك وتهمة الأخباريّة ــــــــــ

من المسلّم به أنّ الأخبار والأحاديث تعدّ واحدةً من أركان المرجعيات الدينية التي يستند إليها، وهو أمرٌ يقرّه الجميع، وإعطاء الأخبار والروايات حقّها شيء فيما الأخبارية شيء آخر، إن تهمة الأخبارية التي تلصق بالرأي الآخر أو الاتجاه المعاكس تؤدي إلى إسدال السُتُر على كثيرٍ من حقائق الفكر والتاريخ.

في الحقيقة، هناك قواسم مشتركة في الرؤى تجمع الفقهاء والمتكلّمين من جهة وبعض الأخباريين بعيداً عن كيفية استنباط الفروع الفقهية، وذلك على صعيد الأصول العقدية، وهكذا الحال في طرف الفلاسفة والعرفاء، فقد كانت لبعضهم ميول أخبارية، بل كان بعضهم من رادة هذا الاتجاه في التراث الإسلامي.

إن المدرسة التفكيكية من الاتجاهات المدافعة عن الأسس القويمة الاجتهادية للشيعة، يشهد على ذلك مسلسل التصنيفات العلمية المتعدّدة في الفقه والأصول من جانب أبرز شخصيات هذه المدرسة، فقد كان الميرزا الإصفهاني نفسه من خواص تلامذة الميرزا النائيني، ومحلّ عنايته واهتمامه، كما كانت له نظرات في أصول الفقه خاصّة، ونظريات ابتكارية حصرية أيضاً.

ويعدّ آية الله الحاج الشيخ حسين الوحيد الخراساني الذي يصنّف درسه اليوم من أرقى وأنضج وأجمع دروس البحث الخارج في أصول الفقه في الحوزة العلمية الشيعية في مدينة قم (الإيرانية)… يعدّ الخراساني من تلامذة الميرزا الإصفهاني، وقد كان الأخير مهتماً به أثناء حياته، وقد أثير الحديث عن الإصفهاني في محضر الوحيد الخراساني، وجرى التداول في ميوله الفقهية واتجاهه الاجتهادي، وقد نفى الخراساني، وهو من تلامذته، نسبة الإصفهاني إلى المدرسة الأخبارية، مشدّداً على مقامه العلمي الكبير.

التفكيك ومعضلة التأويل ــــــــــ

حجية الظواهر أمرٌ عقلائي، وكذلك الحال في التأويل الصائب المجاز طبقاً للضرورات اللغوية والأدبية، أو انطلاقاً من حكم محكمات العقل والكتاب، عبر الطريق السليم المتمثل بالمعصومين E، أما التأويل بمعنى التحويل الشكلي والمضموني للعقائد المسلّمة والضرورات الدينية، والموظفة فيه أنواع التطويع، والتفسير الذوقي، أو الخوض في قضايا الغيب وما هو بعيد عن متناول اليد البشرية، اعتماداً على النظريات الهزيلة الضحلة للعلماء اليونانيين و.. في تفسير العالم ومعرفة الوجود.. هذا التأويل لا يمكن القبول به، بل هو عملية تجانب الصواب، وتبعد عن الحقيقة العلمية شططاً.

وإذا أردنا أخذ مثال دالّ، كمسألة خلود الكفّار في النار والعذاب الأبدي، وهي مسألةٌ تصنّف في عداد المسلّمات القرآنية، لوجدنا أنّه قد جرى إنكار هذا المسلّم القرآني نتيجة الارتباك الذي شهده هذا المفهوم في المخاض الفلسفي العرفاني وفقاً لطبيعة قواعد هذين العلمين وأصولهما، ولهذا فسّر مدّعو كشف الحقائق بقوّة العقل والشهود هذا العذاب بمعنى العذب، أي الحلو المستساغ الذي يلتذّ به الإنسان، ثم اعتقدوا بأنّ الكفار في جهنّم يبلغ بهم الأنس والسعادة والانبساط أنّهم عندما يراد أخذ المؤمنين العاصين منهم إلى الجنّة، يضطربون ــ أي الكفار ــ خوفاً من أن يصدر قرار تحويلهم إلى الجنّة أيضاً، وفي نهاية المطاف تكتمل الصورة العرفانية بالقول: إن من في جهنم جميعهم يجتمعون ثم تطفأ النار، وتأخذ أعماق جهنّم بالتحوّل إلى خضرة ونبات([67]).

ويؤكّد الملا صدرا في الأسفار الأربعة على هذه الصورة الفكاهية الكوميديّة لدى دراسته مسألة خلود المعاندين في النار، لكنه يصرّح في كتاب «العرشية» بأنّه كلّما بذل جهده في التفكير رأى بأنّ جهنّم ليست مكاناً مؤنساً ولا مستساغاً، بل هو موضع عذاب([68]).

إنّ المدرسة التفكيكية تعلن صرختها رافضةً هذا اللون من التأويل، وبناءً عليه، لا يمكن تلبيس الأمر عبر تشبيه العقائد القشرية لجماعات مثل المجسّمة والمشبّهة والحنابلة من أهل السنّة، ممّن جمد على الظاهر في تفسير الآية الكريمة: >الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى< طه: 5، بالنزعة الرافضة للممارسات التأويلية غير المنضبطة للجماعات الصوفية، كما حصل لدى بعض أصحاب الرأي الفلسفي لدى نقده مذهب التفكيك، حيث مارس تجسيراً عبر خلاله من الاتجاه القشري في الإسلام إلى الاتجاه التفكيكي.

ومن الواضح أنّ هذا القياس قياسٌ مع الفارق، وهو خارج عن الموضوع، ولا يرتبط البتّة بالصراعات الأصولية، ذات الجذور الكلامية والعقدية الشيعية، مع المدارس الفلسفية والعرفانية([69]).

التعقّل والتفلسف، وظاهرة التباس المفاهيم ــــــــــ

يسعى بعض المتشجّعين المناصرين للفلسفة والعرفان إلى تصوير النزعة الفلسفية مرادفاً للنزعة العقلية، ومن ثم اعتبار معارضي الفلسفة مناهضين للعقل، والحال أنّ التفلسف لا يعادل الاستدلال والتعقّل، سواء على الصعيد النظري، ومستوى تعريف مفاهيم مثل الفلسفة، والعقل، والاستدلال، أو على الصعيد الميداني التطبيقي، وطرح الآراء الفلسفية والعقلية.

والمذهل المثير للعجب أكثر أنّ هذا الادعاء القائم على خلط المفاهيم يشاع من جانب أنصار الحكمة المتعالية والمتحمّسين لها، تلك الحكمة التي يغلب عليها الطابع العرفاني الكشفي، وهي الفلسفة التي يلاقي العقل معها معاناته ويرى جفاء ثقيلاً من جانب مؤسّسها الملا صدرا الذي استخدم في حقّ العقل والاستدلال كلمات من نوع: المزخرف، والمزيّف([70]).

وقفات نقدية للمدرسة التفكيكية، رصد وتقويم ــــــــــ

1 ــ إجابات تفكيكية منقوصة عن أزمة تعارض العقل والنقل ]الشيخ سعيد رحيميان[:

من شرائط الحكم على فكر أو مدرسة البحثُ الدقيق في محتواها، وإلاّ ابتعد الباحث الحصيف عن الإنصاف العلمي، وكمثال، يكتب أحد ناقدي المدرسة التفكيكية أن موقف هذه المدرسة من إشكالية تعارض العقل والنقل غير واضح([71])، إلاّ أنّ مراجعةً بسيطةً للمراجع والمصادر ــ مع دقة وتحقيق ــ يمكنها أن تقدّم جواباً تاماً عن هذا الكلام.

وكما أشرنا إلى ذلك من قبل، لا تعارض إطلاقاً بين المعطيات الوحيانية والمعطيات العقلانية القطعية المؤكّدة، وعلى فرض حصول مثل هذا التعارض يقدّم العقل الفطري على النقل، أمّا تعارض النقل مع العقل النظري غير البديهي فإن المتقدّم فيه هو النقل، وهو ما لا يحسب تعارضاً بين العقل والنقل، بل هو تعارض بين أمرين عقليين، ذلك أنّ النقل قائم بدوره على العقل الفطري، وما بالعرض لابدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات.

وعليه، لا تعارض هنا إلاّ بين العلم الحصولي والبرهان النظري من جهة، والعلم الحقيقي من جهة أخرى، ومن الواضح هنا ضرورة تقديم العلم الحقيقي([72]).

2 ــ التفكيك والمواقف المختلفة من العقل النظري والعملي ]د. ديناني[:

يكتب ]الدكتور ديناني[ أحد أساتذة العلوم الفلسفية، لدى تحليله لحركة الفكر الفلسفي وأحداثه في التراث الإسلامي، يقول: «أغلب أصحاب التفكيك متناغمون ومنسجمون مع مؤسّس مدرستهم وأستاذهم في الاعتماد على العقل العملي، فيما يردّون البرهان المنطقي الذي يمثل المظهر الكامل للعقل النظري»([73]).

وهنا لابد من التعليق التالي للتوضيح:

أ ــ إنّ تعريف المصطلحات والمفاهيم العقلية لا يتّسم بالثبات والوحدة بين الاتجاهات الفكرية المختلفة، ومن ثم ليست هناك أيّ معادلة أو انطباق.

ب ــ لا ينحصر توظيف العقل في المدرسة التفكيكية باستخدام العقل العملي.

ج ــ إنّ مفردة «العلم» في القاموس الاصطلاحي لرجال التفكيك الخراساني ترادف ــ أكثر ما ترادف ــ العقل النظري.

د ــ تختلف قراءة رجال المدرسة التفكيكية لنطاق الفعل البرهاني المنطقي مع سائر الفلاسفة والمفكّرين، أمّا مبدأ استخدام البرهان المنطقي الواجد للشرائط فهو أمرٌ متفق عليه، فقد وقع التباس هنا بين المبدأ ونطاق توظيفه.

والجدير ذكره، أنّ تعريف العلم، وتقسيماته، وحقيقته، واستعماله في المدارس الفلسفية المتعارفة يختلف عمّا هو لدى المدرسة التفكيكية، وشرح ذلك يفوق قدرة هذه المقالة، إلاّ أننا ــ ونظراً للضرورة، ولكي نجلي الموضوع أكثر ــ نشير مختصراً إلى تعريف العلم وامتيازه عن تعريف العقل.

«العلم مثل العقل، نور مجرّد، خارج عن حقيقة الإنسان، حصل عليه الإنسان بعطاء إلهي، ومن الطبيعي أن العطاء الإلهي والاستقبال الإنساني ليس واحداً، فكل منهما له مراتبه وامتيازاته»([74]).

«أما اختلاف العقل والعلم، مع كونهما معاً ذوا كشفٍ ذاتي، ومحفوظين من الخطأ، ومعصومين بحسب متعلّقهما، ذلك أن الكشف يسمّى عقلاً من جهة أنّه يمنع صاحبه عن ارتكاب الأعمال المرجوحة، ويشجّعه على القيام بالأفعال الراجحة، وهذه العناية لا وجود لها في متعلّق العلم الحقيقي الذي في الكشف الذاتي مثل العقل، وذلك مثل: استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، وأنّ العدم لا يحكم به ولا عليه»([75]).

3 ــ محاولة فاشلة:

من بين أحدث الكتب الناقدة لمدرسة التفكيك، كتاب كبير في 735 صفحة، يحمل اسم: المدرسة التفكيكية نقدٌ ودراسة، إن ملاحظة حجم الكتاب الضخم، والمكتوب بلغةٍ عصرية، وقلمٍ سهل وواضح، يوقع الإنسان في وهم مواجهة نتاج علمي وبحثي هام وعميق، إلاّ أن مراجعة مصادر الكتاب ــ أعمّ من ما جاء في فهرسه أو في مطاويه ــ يبيّن بوضوح أنّ الكاتب لم يراجع سوى مصادر قليلة ومحدودة، وأنّه لم يستفد ــ كما ينبغي ــ في مجال النقد وإجراء المقارنات من النصوص الفلسفية، والكلامية، والحديثية، والتفسيرية.

إن التكرار المكثف للأفكار، والمنهج الأقرب للتعليمي الذي يستخدمه الكتاب عاظم من حجمه وصفحاته، إضافةً إلى عدم تشريح الحقائق المطلوب فهمها في أغلب الانتقادات المسجّلة، كما كان الدفاع المتعصّب عن الفلسفة هو الهمّ الرئيس والهدف الأساس للكتاب بأكمله، إن مجموعة هذه العناصر تضعف قيمة الكتاب وتنقص من مكانته ومستواه.

إنّ الدفاع عن المعاد الجسماني العنصري صار عند الناقدين ارتكاساً للكلام الأشعري، وميلاً للمنحى الظاهري، غافلين عن أنّ هذا المعاد يمثل واحدةً من ضروريات الدين، ومما اعترفَ به المتكلّمون أجمعهم، سواء الأشاعرة أو المعتزلة أو الإمامية، ففي أشهر مصدر كلامي شيعي، ألا وهو شرح التجريد للعلامة الحلّي، عدّ المعاد الجسماني من ضروريات الدين([76]).

إضافةً إلى ذلك كلّه، يوجب الكتاب المشار إليه أعلاه، مشكلةً منهجية أخرى، إذ لم يوضح سلسلةً من المفاتيح والمداخل الضرورية مثل: المفاهيم الفلسفية، ومحاربة الفلسفة، أو الأخذ بها، وتاريخ ظهور الفلسفة وانتشارها، ومكانة المعطيات الفلسفية وعلاقتها بالمعطيات الدينية القائمة على الوحي، ونقاط الاشتراك والافتراق الشكلي والمضموني بين هذين النوعين من المعطيات، ونسبة الإطلاقية لآراء رجال المدرسة التفكيكية من جانب التفكيكيين و.. ([77]).

4 ــ نقد الكتاب التفكيكي «توحيد الإمامية» ]السيد محمد الموسوي[

ومن مظاهر النقد الأخرى للمدرسة التفكيكية كتاب في 434 صفحة حمل عنوان «آئين وانديشه» أي الدين والفكر، وقد استهدف الكتاب نقد المدرسة التفكيكية والدفاع عن الفلسفة الصدرائية، إن الصورة السلبية التي حملها مسبقاً مؤلّف الكتاب المحترم السيّد محمد الموسوي تجاه نقّاد فلسفة الملا صدرا قلب الكثير من الحقائق، مما يحتاج شرحه إلى كتابٍ مستقل([78]).

ولكي نقدّم للقارئ أنموذجاً دالاً، نلاحظ كيف تعامل مع كتاب توحيد الإمامية لوالدنا محمد باقر ملكي الميانجي S، ]أحد وجوه الحركة التفكيكية البارزين[، فقد ابتعد عن الإنصاف والعدل في نقله عنه ومحاكمته له، وقد كتب تحت عنوانٍ عريض: «عدم الحاجة إلى العلوم البشرية في توحيد الإمامية»([79])، نصّاً ينقله عن ترجمة توحيد الإمامية، مستنتجاً منه أنّ عقيدة صاحب التوحيد في الاعتقادات تقوم على عدم الحاجة إلى الأبحاث العقلية والفلسفية، وأنّه يمكن الرجوع ــ فوراً وبصورةٍ ومباشرة ــ إلى كلمات المعصومين E وفهمها واستيعابها، دون طيّ مقدّمات([80]).

إنّه يتّهم بهذا الاستنتاج مؤلّف توحيد الإمامية بالقشرية والسطحية، علماً أنّ نظرية مؤلَّف توحيد الإمامية قد حرّفت في النقل الذي مارسه المذكور أعلاه، كما حرّفت في فهمها واستنتاجها.

ولكي يتضح الأمر، نحاول تقرير أصل الموضوع المبحوث عنه، بشكل مستند وموثق، موكلين الحكم للقراء الأعزاء.

والحقيقة أن صاحب توحيد الإمامية قد تناول أحد الموضوعات على الشكل التالي: الدين الإسلامي، حيث كان مصداقاً للإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، أفضل أديان العلم وأسماها، وهذا الدين المقدس غير محتاج لعرض عقائده الإيمانية للمدارس الفلسفية الجديدة أو القديمة، ومن بينها البحوث النظرية والفلسفية والكشفية والعرفانية، إنه غير مدين لها ولا متوقف وجوده عليها، ومن ثم فلا يجوز لنا الورود في ساحة فهم الروايات محمّلين بأحكام مسبقة ومواقف قبلية مفروغ عنها، حتى لا نقع في مشكل تطويع النصوص وتوجيهها الوجهة التي نريدها.

يقول: «لا أقول: إن تحصيل علوم الأنبياء متوقّف على تحصيل طريقة غيرهم، ومنوط بتحصيل نظريّات من سواهم، فإنّه جزافٌ من القول؛ لأن علومهم أرفع شأناً، وأنور برهاناً، وأجلّ مقاماً، ومستقلّة بنفسها، وغنية عن الاستمداد بعلوم من سواهم من العلوم البشريّة القديمة والحديثة، والأبحاث النظرية والعلوم الكشفية»([81]).

لم يتطرّق النص المشار إليه إلى العلوم المقدماتية للكلام والعقائد، كما لم يجر الحديث إطلاقاً عن عدم الحاجة إلى الأبحاث العقلية، وقد ترجمت عبارة: «الأبحاث النظرية» في النص العربي المشار إليه، وهو النص الأساسي الذي سطر المؤلّف الكتاب به..، ترجمت إلى الفارسية بكلمة: «الأبحاث العقلية»، بما يعني علم المعقول المعادل لمصطلح علوم الفلسفة.

ومع الأسف، فقد اعتمد مؤلّف كتاب: الدين والفكر، على النصّ الفارسي دون الرجوع إلى الأصل العربي، ومن ثم أجاز لنفسه نسبة مثل هذا الكلام لعالم شيعي، اعتماداً على التسامح في الترجمة والنقل دون رجوع إلى المصدر الأم مما تستدعيه ضرورات البحث ودقّته.

وأرى من الضروري هنا نقل مقاطع من توحيد الإمامية تؤكّد تقدير صاحب الكتاب واحترامه وتقديسه للعلوم البشرية أو الدليل العقلي، يقول: «العقل في الكتاب والسنّة هو النور الصريح الذي أفاضه الله سبحانه على الأرواح الإنسانية، وهو الظاهر بذاته، والمظهر لغيره، وهو حجّة إلهية، معصوم بالذات، ممتنع خطاؤه، وهو قوام حجيّة كل حجّة، وهو ملاك التكليف والثواب والعقاب، وبه يجب الإيمان، وما يترتّب عليه، وتصديق الأنبياء، والإذعان بهم، وبه يميّز الحقّ من الباطل، والشرّ من الخير، والرشد من الغيّ، وبه يُعرف الحسن والقبيح، والجيّد والردئ، والواجبات والمحرّمات الضرورية العقلية الذاتية، ومكارم الأخلاق ومحاسنها، ومساوئ الأعمال ورذائلها»([82]).

ويقول: «لا يخفى أن تلقّي الأديان الإلهية يحتاج إلى دليل عقلي ونقلي، ولكلّ منهما موقع خاص في المعارف الدينية، والأدلّة النقلية معتمدة على الأدلّة العقلية، ولا تنافي بينهما، وأحدهما لا يغني عن الآخر… ومن الواضح أنّ دين الله أعمّ من الأمور الإرشادية العقلية والتعبّدية»([83]).

ويقول: «.. وأمّا العلوم الدائرة اليوم، النافعة لمعيشة الإنسان، مثل الطبّ الجديد، والعلوم التجريبية مع عرضها العريض، فلها فضيلة خاصّة، وشأن عظيم في حدّ نفسها..»([84]).

إذن، فالحديث إنّما يدور حول عدم الحاجة للعلوم البشرية في مجال العقائد الدينية، لا حول الاستغناء عن العلوم البشرية مطلقاً، كما يبدو من العنوان الكبير الذي ذكره صاحب كتاب: الدين والفكر.

بالله عليكم، إذا واجهنا ناقداً محترماً يمارس هذا التزييف ألا نسمّي عمله هذا تدليساً؟!

وإضافةً إلى ما جاء في توحيد الإمامية، فقد كنت بنفسي في معيّة والدي، مؤلّف الكتاب المذكور، لسنوات متمادية، ومن حسن الصدف أنّه S كان متشدّداً جداً في النهي عن الدخول في قضايا العقديات دون تخصّص لازم وأهلية خاصّة، وكان ذلك مشهوراً عنه جداً بين الخاص والعام، لقد كان يرى ضرورة الأهلية العلمية لخوض البحوث الكلامية، سواء على صعيد إثبات الكلاميات أو نقدها، وقد تكرّر منه إبداء الوجه العبوس المنقبض للكثير من الطلاب والفضلاء أو بعض المثقفين المتابعين ممّن يتوقّع الخوض في القضايا الكلامية المعقّدة دون طيّ مقدمات أو بلوغ مكانة علمية تؤهّل صاحبها لذلك، وكثيراً ما كان موقفه هذا يؤدّي إلى انزعاجهم.

كما كان والدنا المغفور له يخصّص قسماً من وقته لعقد جلسات علمية متعدّدة، حتى كان بعضها طويلاً، مع العديد من الباحثين وأصحاب الرأي المشهورين والمعاصرين ممّن يميل إلى الاتجاه الكلامي أو الفلسفي أو الثقافي، جلسات ملؤها الأدب المتبادل والاحترام كذلك.

كان والدنا المغفور له محمد باقر ملكي الميانجي يستنكف أشدّ الاستنكاف عن كتابة تقريظ لأيّ كتاب كلامي أو فقهي أو تفسيري، وكان ينتابه وسواسٌ عجيب، حذراً من تأييد فهمٍ غير سليم أو استنتاجٍ غير صائب، وهو ما أدّى بجماعةٍ إلى الامتعاض، ولا أذكر أنّه قرّظ كتاباً قطّ، كما كان S شديد التحفّظ من الثناء على أحد من الناحية العلمية أو منحه شهادة تقدير أو..، وقد كان يذهب إلى أنّ الاجتهاد في العقديات لصيق الخوض في دقائقها والاستفادة منها، مؤكّداً على اشتمال المصادر الدينية على موضوعات حسّاسة ودقيقة، كما كان يرى أنّ معيار النتاجات العلمية والنجاح في الوصول إلى حاقّ المعارف العقدية إنما يكون في إطار الاجتهاد في هذا العلم، والاطلاع على ما يلزم وما لا يلزم.

وأختم الحديث عن العلاقة القوية لوالدي S بالعلم والعقل بحادثتين اثنتين هما:

الحادثة الأولى: استدعي الوالد S إلى المحاكم القضائية عصر الشاه في المؤامرة التي قادها الملاكون والمأمورون الظلمة جنوب آذربيجان قبل إصلاح نظام الأراضي عام 1958م، وقد حصلت مواجهة بين الوالد وقوى السلطة أدّت إلى استدعائه إلى المحاكم القضائية، وعندما أراد أداء القسم أقسم بالتوحيد والعلم، ممّا دفع القاضي للتأثر الشديد نتيجة القسم بالعلم، وبدل أن يؤذيه أو يعاقبه أكرمه واحترمه.

الحادثة الثانية: أقدم الوالد S في السنين الأواخر من عمره على تأسيس كلية حكومية كبرى تبلغ مساحة أرضها 65000 متر مربع في إحدى مناطق آذربيجان الجنوبية، وذلك بدعم مالي من آحاد المواطنين وأبناء الشعب، وفي إحدى حالات الدعم المادي، جاء شخص يريد تقديم مساعدة، بيد أنّه شرطها بأنّ يأتيه الوالد S بنفسه، وقد كان هذا الشخص ساكناً في محلّة قديمة من أحياء إحدى المدن الكبيرة، التي لا تبلغها وسائل النقل، وقد كان S آنذاك يمشي بصعوبةٍ كبيرة نظراً لكبر سنّه وشيخوخته، لكنه، ولكي يكمل مشروعه هذا، صعد عربةً ذات دواليب أربعة، مخصصة لحمل البضائع، وذهب إليه! حتى لا يصاب المشروع العلمي هذا بالعقم والفشل.

إن صعود مجتهدٍ مسنّ وشيخٍ عجوز عربةً كذلك للقاء شخصٍ عادي جداً، لإنجاز مشروع ثقافي حكومي، إنّما يدلّ على مدى علاقته بالعلم والمعرفة وإيمانه بهما.

هذا، وقد نسب صاحب كتاب: الدين والفكر، لصاحب توحيد الإمامية أنّ المقدّم مع تعارض العقل والنقل هو النقل، وهي نسبة غير صحيحة، فقد ذكر في هذا الكتاب بصراحة ونصّ على أنّه يقدّم الدليل العقلي الفطري على النقل، بل لقد جرى التشديد على ذلك([85])، أمّا ترجيح العقل الاصطلاحي على المعارف الإلهية فهو مرفوض عنده، تماماً كما هو رأي الأصولي النحرير والفقيه الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) في مباحث القطع من كتاب فرائد الأصول، في موضوع حدوث العالم ونفي قدمه، حيث ذهب إلى أن الركون إلى العقل النظري كثيراً ما يؤدي بالمرء إلى الهاوية والهلاك والعذاب الأبدي([86]).

5 ـ تعارض القرآن والفلسفة والعرفان جذري أم صوري؟ ]الشيخ صادق لاريجاني[

يدخل ]الشيخ صادق لاريجاني[ أحد المدرّسين الأفاضل في الحوزة العلمية بمدينة قم، وأثناء تدريسه لمباحث القطع في علم أصول الفقه، نظريةَ التفكيك، ويذهب في بحثٍ مفصّل لها إلى اعتبارها شبيهاً نوعياً للأخبارية، وبدراسة هذه السطور المفصّلة يتضح أن الناقد المحترم هو في الأصل ذو ميول فلسفية وعرفانية، ومن الواضح أن لبّ النزاع إنما هو بين التفكيكيين وأهل الفلسفة والعرفان.

يقول هذا الناقد في موضع من كلامه: لا شك أنّ الفلسفة والعرفان سبيل مغاير لسبيل القرآن والروايات، غايته أنّ ذلك لا يعني اختلافهما في المدّعيات والمقاصد، وهذه نقطة هامة وأساسية لابدّ من مراعاتها دوماً، فقد يقع البحث أحياناً حول دعوى من الدعاوي، وهنا ما أكثر ما يكون المحتوى القرآني والبرهاني والعرفاني في قضايا أصول الدين واحداً.. فما جاء حول التوحيد في القرآن بوصفه حقيقةً ثابتة، وكذلك الحال فيما جاء به العرفان، وما قضت به الفلسفة أيضاً، أمرٌ واحد، وإن كان من الممكن أن تختلف الأنظار اختلافاً كبيراً في خصوصيات هذا الأمر الواحد الثابت، لكن المهم على أيّ حال وحدة مدّعى الأطراف كافة([87]).

إلاّ أنّ واقع الحال يختلف عن ذلك كثيراً، فأدنى ممارسة للدين والفلسفة والتصوّف والمدّعيات العرفانية، وأدنى رصد تتبعّي لتاريخ الفلسفة ومراحل علم الكلام وتطوّر الأفكار والنظريات، وتضادّ العقائد، وشيوع المنازعات، وتشتت الآراء العقلية.. ذلك كلّه يثبت أن دعوى (الشيخ لاريجاني) في غير محلّها.

يكفي لذلك، إلقاء نظرة على آراء أرباب الديانات، والفقهاء، والمتكلّمين فيما يخصّ موضوع وحدة الوجود، ووحدة الموجود، وقدم العالم، والعلم الإلهي بالجزئيات، وفعلية الحق تعالى و.. فإنّ الاختلاف والتضادّ العميق ليس في طبيعة الطريق المتّخذ للعبور نحو الحقيقة الواحدة فحسب، بل في الغايات والمدّعيات والمقاصد التي توصل إليها هذه الطرق انطلاقاً من البديهيات.

إن تهمة الأخبارية لا يمكنها أن تحوّل الواقع أو تغيّر الحقائق، بل يجدر القول: إن نقد الفلسفة والعرفان أمرٌ خارج تماماً عن موضوع الصراع الأخباري الأصولي.

وكما ذكرنا من قبل، فإنّ هناك نقاط اشتراك عديدة تربط ــ في مجال أصول العقائد ــ الفقهاء والمتكلمين وبعض الأخباريين، بعيداً عن المنهج الاجتهادي المرعي الإجراء في الفروع الفقهية، وأنّ جماعةً من الأخبارية اصطفّت عبر التاريخ مع فريق الفلاسفة والعرفاء، بل كان هناك بين الفلاسفة والعرفاء من كانت له ميول أخبارية، وكان بعضهم من رادة الأخباريين وزعمائهم، وقد قيل: إن الفيض الكاشاني (1091هـ) الرجل الذي قلّ نظيره في العرفان النظري، كان يرى أنّ المجتهدين الأصوليين ليسوا من أهل النجاة ولو كانوا من كبار العلماء، نتيجة نزعته الأخبارية([88]).

من ناحيةٍ أخرى، نلاحظ شخصيةً أخرى، وهي العلامة ابن المطهّر الحلّي (725هـ)، الذي كان واحداً من الفقهاء والأصوليين الكبار، الجامعين للعلوم المختلفة، حتى أنّه يعدّ في العالم الشيعي عندما تطلق هذه الكلمة المنصرف إليه منها، وقد وقع الحلّي موقع الحملات الشديدة والانتقادات القاسية من جانب الأخباريين، والكلمة الحادّة لزعيم الأخباريين الملا محمد أمين الاسترآبادي (1036هـ) في نقده للعلامة معروفة مشهورة، لكن رغم ذلك كلّه، ورغم أنّ الحلّي كان أصولياً بارعاً وشخصيةً عظيمةً في دنيا التشيع وتاريخه، غير أنّه صبّ أعظم انتقاداته وأوسعها على الفلسفة والعرفان، متخذاً في مواضع عديدة من كتبه موقفاً متشدّداً ومتحفظاً منهما.

ومن ناحيةٍ أخرى أيضاً، تدلّنا المواقف النقدية المشار إليها للعلامة الحلي، وما جاء في حديثه عن نفي الفاعلية الموجبة للحقّ تعالى، على حقيقة في هذا المجال، حيث سطر كلمات حادّة في حقّ الفلسفة، ننقل شطراً منها فقط، قال: «.. وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح، إذ فارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة»([89]).

6 ــ وحدة الحقيقة الدينية والفلسفية ]د. أحد قراملكي[:

يخصّص أحد الباحثين المرموقين المعاصرين، ولدى حديثه عن الهندسة المعرفيّة لعلم الكلام الجديد، مقدّمةً مفصّلةً عن علم الكلام التقليدي، حول ماهية علم الكلام، وتعريفات بعض الشخصيات المختلفة الشيعية والسنية له، وكذا رأيهم في موضوعه، وغايته، كما بحث عن كيفية المعرفة الحاصلة من علم الكلام وارتباطها بعلم الفلسفة، وقد نظم (الدكتور أحد فرامرز قراملكي) أفكاره بلغة انسيابية، ومنهج علمي متقن، مستخدماً جُماع النهج التوصيفي ــ التحليلي.

لكن رغم الجهود الواضحة المبذولة في هذا الكتاب، إلا أن القضايا لم تعالج فيه بصورة جامعة ومستوعبة ودقيقة، ولعلّه يمكن القول بأن أكثر النقائص الملفتة للنظر فيه تكمن في حصول خلط ومزج واضحين غير صحيحين بين الآراء والاتجاهات والأنظار المختلفة، نشير هنا إلى بعضها لنضعه على منضدة النقد والتشريح.

جاء في الكتاب المذكور: «لقد اتخذ العلماء المسلمون إزاء الفلسفة موقفين أساسيين، على الرغم من أنّ الكثير من الاختلافات المتنوّعة بين هذين الموقفين يمكن تبديدها، يمكن تسميتهما: نظرية وحدة الحقيقة الدينية (النبوية) والحقيقة الفلسفية، ونظرية التفكيك ما بين الحقيقة الدينية (النبوية) والحقيقة الفلسفية.

أما النظرية الأولى فهي الأساس الذي يقوم عليه تصوّر القدماء لعلم الكلام، أي الهوية الدفاعية، فيما تبدي النظرية الثانية تصوّر المتأخرين له، أي الهوية المعرفية الإنتاجية([90]).

وبعد ذلك، يحاول المؤلف (الدكتور أحد قراملكي) أن يبيّن آراء الكندي والفارابي في امتياز النبيّ عن الفيلسوف وبالعكس، مبيناً بشكل عام مسألة وحدة الحقيقة الدينية والفلسفية، وشارحاً نظريته الخاصّة في الهوية الدفاعية لعلم الكلام.

ولدى حديثه عن نظرية تفكيك الحقيقة النبوية والفلسفية قال: لم تكن نظرية وحدة الحقيقة النبوية والفلسفية مورد إجماع علماء المسلمين أو اتفاقهم، فغالبهم كان يرفع التعارض القائم ما بين الدين والفلسفة بمناهج وآليات أخرى تغاير نظرية الاندكاك والوحدة والتصاحب ما بين المعرفة الدينية والفلسفية، فأهل الحديث، والأخباريون، والسلفيون، والمدرسة التفكيكية فرق مختلفة من العلماء المسلمين خالفت نظرية الحكماء في خصوص مسألة وحدة الحقيقتين النبوية والفلسفية، وما يقوله التفكيكيون من أن الناس على نوعين: الهادي، الهابط.. وما يقال عن العلم الصحيح، والعلم الحقيقي، وحقيقة العلم في القرآن وصدور المعصومين E، أي الإنسان الهادي… كلّه قائم على نفي وحدة الحقيقتين النبوية والفلسفية([91]).

وقد جاء في الكتاب المذكور أيضاً: أنّ أبا حامد الغزالي كان من ضمن الفريق الذي اتخذ موقفاً سلفياً ضدّ نظرية الوحدة، بل كان الرائد والمؤسّس لهذا الاتجاه، فقد أتى الغزالي في «تهافت الفلاسفة» على فكرتين هامتين هما: فكرة وجود تعارض وتناقض داخلي بين الأنظمة الفلسفية، وفكرة عدم انسجام التعاليم الفلسفية المتداولة مع الأفكار الدينية، ومن ثم بطلان نظرية الوحدة ما بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية، وقد ذهب الغزالي إلى التدليل الأكثر تفصيليةً على موقفه هذا حينما عدّد عشرين مسألةً على الأقلّ تتعارض فيها الآراء الفلسفية مع المعطيات الدينية، ثلاثة منها تؤدي بالحكماء إلى الكفر والإلحاد، وهي: المعاد الجسماني،وكيفية علم واجب الوجود بالجزئيات، وقِدَم العالم.

على خطّ آخر، ركّز الغزالي سهام نقده لعلم الكلام عند القدماء، والسبب في ذلك تشييدهم إيّاه على المعرفة الوجودية الأنطولوجية الفلسفية، واتّباعهم منهج الجدل والمراء، معتبراً إيّاه برنامجاً عاجزاً وعقيماً عن أن يعلّم العقائد الدينية أو ينشرها ويبسطها بين بني الإنسان.

وعلى الرغم من حركة النقد التي تعرّضت لها أفكار الغزالي فيما بعد على يد الفلاسفة والحكماء المتأخرين، من أمثال ابن رشد الفيلسوف، إلاّ أن جماعةً واصلت سبيله، حاملةً معها نزعات سلفية،ودوافع تفكيكية([92]).

ونودّ هنا التعليق على ما جاء في كلمات الدكتور قراملكي ضمن نقاط:

أولاً: لم يتمّ تقديم عرض صحيح ومتين للصورة التاريخية للاتجاهين الرئيسيّين في علم الكلام، عنيت اتجاه وحدة الحقيقتين النبوية والفلسفية واتجاه تفكيكهما، سواء في البعد النظري أو من ناحية المصاديق والمفردات، فإجالةٌ عابرة للنظر لما استقصاه المؤلف من آراء العلماء المسلمين في تعريف علم الكلام تحكي عن امتياز جوهري بين الكلام والفلسفة، وقد سعى المؤلّف في خلقه للنطاق، إلى اعتبار أهل الحديث، والسلفيين، والتفكيكيين مخالفين لنظرية الانصهار ما بين المعرفة الدينية والمعرفة الفلسفية، ومن الواضح أنّ مخالفي هذه النظرية لا ينحصرون فيما ذكر من فرق واتجاهات، بل إنّ عملية الانتقاء هذه من جانب المؤلّف تحكي عن تحيّز وانحياز لوحدة الحقائق الإيمانية والفلسفية.

والحقيقة، أنّه لم يرسم التاريخ الكلامي بصورة مناسبة، ففي علم الكلام لا معنى لوحدة المعارف الفلسفية والدينية، ذلك أنّ فلسفة وجود علم الكلام إنما تقوم على تعارضه مع علم الفلسفة، يكتب الأستاذ محمد رضا المظفّر النجفي يقول: لم ينشأ علم الكلام إلاّ لأجل الدفاع عن الدين ضدّ غزو الفلسفة اليونانية([93]).

ومن الضروري إجلاء مسألة هنا وهي: أنّنا لا نريد هنا من مصطلح الفلسفة مطلق الفلسفة باصطلاح القدماء، بما يشمل القسم النظري منها والعملي مع ما لهما من أقسام وفروع، أو الفلسفة الأولى، وإنّما أجزاء من الفلسفة العملية والنظرية تعارض ــ يقيناً ــ مجموعةً من المعطيات الدينية المستمدّة من الوحي، ويمكن القول: إنّ أزمة العلاقة بين الفلسفة والكلام تتركز في مجال الطبيعيات والإلهيات بالمعنى الأخص، والفلسفة العليا.

ثانياً: لقد نُحِِتَ لنظريّتي وحدة المعرفة الدينية والفلسفية وتفكيكهما اصطلاحان معادلان: الهوية الدفاعية لعلم الكلام، والهوية الإنتاجية، وهو تقسيم ــ كما أشرنا ــ يجانب الصواب، سواء في بعده النظري أو المصاديق، فالشيخ الصدوق والشيخ المفيد ذُكرا في سياق هذا التقسيم في عداد الهوية الدفاعية، فيما ذكر الشيخ الطوسي في عداد حركة الهوية الإنتاجية لعلم الكلام([94]).

إلاّ أنّ دراسة النظريات العقدية لهذه الشخصيات تنفي يقيناً وبالتأكيد هذا اللون من التقسيم، فالشيخ الصدوق أحد أكابر المحدّثين الشيعة، أمّا المفيد فأحد عظماء متكلّميهم، فقد أكد المفيد تأكيداً عظيماً على المعاد الجسماني، حتى نفى ما قاله الصدوق بشدّة، من أن بعض من في الجنّة مشغولون بالتسبيح والتقديس والتكبير للحقّ تعالى في جمع الملائكة، مصرّاً على أنّه لا يوجد بشريّ في الجنة ينعم بلذّة التسبيح والتقديس دون أكل أو شرب.. ([95])، فهذه الجملة من الصدوق والتي لا تدلّ على نفي جسمانية المعاد رفضها المفيد بهذه الشدّة، فما بال إنكار المعاد الجسماني برمّته؟! أو اعتبار عالم الآخرة من إنشاءات النفس؟! ونحن نعرف أنّ المعاد الجسماني العنصري غير ممكنٍ في الفلسفة المصطلحة اليوم، إلاّ إذا خرج فيلسوف من الفلاسفة عن القواعد الفلسفية وآمن بالمخبر الصادق.

وعليه، كيف يمكن عدّ الشيخ المفيد من أنصار وحدة المعرفة الدينية والفلسفية، وفي الحقيقة فإنّ المقولة الرئيسية للمتكلّمين ــ على تنوّعهم ــ ترتكز على وجود فوارق رئيسة بين الفلسفة والكلام، لا على الوحدة والانصهار، حتى أنّ المتكلمين الذين اصطبغت معالجاتهم الكلامية بصبغة فلسفية كانت لهم أشدّ المواقف وأعنفها من الفلسفة، ودراسة تطوّر علم الكلام ومراحله تؤكّد هذه الأزمة التاريخية.

ثالثاً: لم يعالج قراملكي تعريفت علم الكلام، ونظريات المتكلّمين الأقدمين في القرون الإسلامية الأولى، لا سيما المتكلمون الشيعة عصر حضور أهل البيت E وفترة الغيبة الصغرى، وهذه ثغرة واضحة.

رابعاً: لم تطرح على بساط البحث قضية العلاقة ما بين المعرفة العرفانية والإشراقية والفلسفة الصدرائية، والمعرفة الدينية والكلامية، سوى إشارة موجزةً وعابرة لنظرية التفكيك ما بين الحقائق الإيمانية والتعاليم الفلسفية، وانعكاس ذلك في الأدبين العرفاني الصوفي والديني الوحياني.

خامساً: إن إبراز أبي حامد الغزالي بوصفه رائد النظرية التفكيكية الأوّل يفتقد الاعتبار العلمي، وذلك:

أ ــ إن الغزالي عالم سنّي أشعري، ونظرياته الكلامية تختلف اختلافاً عميقاً وجذرياً عن نظريات الكلاميين الشيعة المتأثرين بأهل البيت E.

ب ــ إن وضع الغزالي في مصاف المتكلمين أمرٌ يحتاج إلى بحث ودقة أكبر، فالمطهري يكتب: «أن الغزالي كان في أكثر تناولاته المعرفية ذا مذاقٍ عرفاني وصوفي، وأنّ القليل من معالجاته الفكرية اتّسم بالذوق الكلامي»([96]).

وقد سرد عبدالله نعمة صاحب كتاب: فلاسفة الشيعة، وجوه التشابه ما بين الغزالي والملا صدرا، قال: «وهذه المراحل الثلاث التي مرّ بها صدر المتألهين تذكّرنا بالمراحل التي مرّ بها الغزالي، وبالشبه القريب بين الطريقتين، فكلّ منهما قد عكف أولاً على دراسة آراء الفلاسفة المتكلّمين، وكل منهما قد سفّه تلك الآراء والنظريات الفلسفية، باعتبار أنها لا توصل إلى الحقيقة، وأنّها الحاجز المبني الذي يحول بينه وبين إدراك الحقائق، وكل منهما اعتزل عزلةً طويلة، يعيش في تأملاته وإحساساته الشخصية، وكل منهما قد سيطرت عليه الروح الإشراقية والفلسفة العرفانية.

إن التشابه بينهما واضح في مراحل حياتهما، وفي طريقة التفكير، وفي مناحي الاتجاهات والنزعات، وفي كثير من أحوالها، وهما معاً يؤلّفان مدرسةً خاصّة، تجمع بينهما في أكثر من جانب…»([97]).

وهكذا الحال مع الشيخ مجتبى القزويني، الذي يعدّ من أركان المدرسة التفكيكية الشيعية في بلاد خراسان في القرن الرابع عشر الهجري، حيث سجّل نقداً شديداً لآراء الغزالي، وقد اعتقد بأنّ المعارف الكشفية العرفانية للملا صدرا مستمدّة من الغزالي وابن عربي([98]).

ج ــ لا يمكننا أن ننسب معارضة الغزالي للفلسفة إلى المحور السلفي، وذلك نظراً لمواقفه الحادّة والمتطرّفة دفاعاً عن النظام المذهبي السنّي والسلفي، ونقده الفلاسفة نقداً متأثراً بالسلطة التي عاصرها سياسياً، لا يمكن الإحالة إلى محور واحد أو إدخال المحورين في محور واحد، فإذا حمل الغزالي على الفلاسفة في مسائل مثل علم الله تعالى الجزئيات، والمعاد الجسماني، وقِدَم العالم، فإن الخواجة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلّي، وكلاهما من نوابغ الشيعة، قد اتخذا مواقف حادّة جداً ومشابهة. إنّ الاشتراك في مسألة ليس دليلاً على تماثل العقائد ووحدتها.

لقد اختلف الموقف الشيعي والأشعري مع المعتزلي في قضية مرتكب الكبيرة، أمّا في مسألة إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالعقل فقد اختلفت أنظار المعتزلة والشيعة عن الأشاعرة، فالشيعة الإمامية تبطل القياس أكيداً، وهو ما تشترك فيه مع الفرقة الظاهرية من أهل السنّة و.. ومن هنا يمكن عدّ الغزالي حدثاً مؤثراً في مناهضة الفلسفة في الأوساط السنية، إلاّ أنّه لا يمكن أن يكون رائداً لتيار رفض الفلسفة في مناخ الاتجاهات الكلامية الشيعية، ذلك أنّ عناصر النظام الفكري للغزالي متمازجة مع الاتجاه السلفي، والمشرب الذوقي والصوفي، وجميعها على تضادّ مع أصول البنيان الشيعي الكلامي.

لقد كان النظام الكلامي الشيعي على قطيعة ومنافرة قبل الغزالي نفسه مع النظم الفكرية الفلسفية، وعلى سبيل المثال نذكّر أنّ الغزالي قد توفي عام 505هـ، فيما توفي الشيخ أبو جعفر الطوسي عام 460هـ، وقراملكي نفسه يكتب عن آراء الطوسي المخالفة للفلسفة ما يبطل دعواه ريادة الغزالي لتيار رفض الفلسفة.

يقول أحد قراملكي: «لقد سعى المتكلّمون الشيعة الكبار، مثل الشيخ الطوسي و.. لبناء نظام في معرفة الله قرآني، حتّى لا يكونوا مقلّدين للفلاسفة في هذا الميدان، وقد غدت آراؤهم وفكرتهم مقبولةً في القرن السابع الهجري لدى أغلب المتكلّمين، وهذا الترحيب إنما نتج عن عدم رضا المتكلّمين عن الإلهيات الفلسفية بالمعنى الأخص.. ويدلّنا على وجود انشطار يميّز نظامين من اللاهوت الهادف لمعرفة الله إجراءُ مقارنات بين محاور عقدية متعدّدة مثل مفهوم واجب الوجود الفلسفي المقابل لمفهوم الخالق، وجدول الأوصاف الثابتة عند الفلاسفة لواجب الوجود، مقارنةً بالصفات السبعة الثابتة للباري تعالى، ذلك كلّه يؤكّد ما قلناه، وأنّ خارطة العلاقة بين الإنسان وربّه لم تكن واحدة عند الفلاسفة والحكماء»([99]).


[1]) عالم دين، ونجل محمد باقر ملكي الميانجي، أحد وجوه المدرسة التفكيكية.

[2]) محمد رضا الحكيمي، مكتب تفكيك: 46، قم، انتشارات دليل ما، الطبعة السابعة، 2002م.

[3]) الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي، تحقيق: السيد موسى الشبيري الزنجاني: 307، 433، قم، نشر جماعة المدرسين، 1407هـ.

[4]) راجع مقالة: مكتب تفكيك يا روش فقهاى إمامية، مجلة انديشه حوزة: 69، السنة الخامسة، العدد 19، 1999م؛ ونقد مقاله عقل ودين، كيهان انديشه، العدد 45: 159، 1992م.

[5]) محمد رضا الحكيمي، دانش مسلمين: 286، قم، انتشارات دليل ما، الطبعة الحادية عشرة، 2003م.

[6]) حسن طارمي، تاريخ فقه وفقها: 1، طهران، نشر دانشكَاه بيام نور، الطبعة الأولى، 1995م.

[7]) أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، 4: 442، قم، دار الكتب العلمية، اسماعيليان نجفي (افست).

[8]) أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، جمهرة اللغة، تحقيق وتعليق: رمزي منير البعلبكي، 2: 968، بيروت، دار الملايين، الطبعة الأولى، 1987م.

[9]) أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، إشراف: محمد عوض مرعب، تعليق: عمر سلامي ــ عبدالكريم حامد و..، 5: 263، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1421هـ ــ 2001م.

[10]) ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: علي شيري، 10: 305، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408هـ.

[11]) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، 6: 355، طهران، منشورات المرتضوي، الطبعة الثانية، 1395هـ.

[12]) الشيخ الطوسي، التبيان، تصحيح وتعليق: أحمد شوقي الأمين ــ أحمد حبيب قصير، 5: 370، النجف الأشرف، مكتبة القصير، 1379هـ ــ 1960م.

[13]) الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، تحقيق وتصحيح: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، 5: 83، طرهان، نشر شركة المعارف الإسلامية، 1379هـ.

[14]) تاريخ فقه وفقها: 13.

[15]) المصدر نفسه: 4.

[16]) المصدر نفسه.

[17]) تفسير آية الله محمد باقر الملكي الميانجي S المخطوط.

[18]) مجموعة رسائل الميرزا الإصفهاني، السيد محمد باقر اليزدي، الرسالة رقم 3: 93.

[19]) رسالة مصباح الهدى في زبدة أصول فقه الإسلام، آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني، بخطّ السيّد محمد باقر النجفي اليزدي: 2.

[20]) المصدر نفسه: 3، ويكتب العلامة الطباطبائي حول الغزو الثقافي ومحاربة الأئمة E فيقول: لقد استخدموا كل طريق ممكن وكل سبيل متوفّر لقمع أهل البيت E وإبادتهم، ومنع الناس عنهم، يمكن القول: إن ترجمة الإلهيات (اليونانية) كان يهدف إلى سدّ أبواب أهل البيت E. انظر: اجتهاد وتقليد در فلسفه: 214، محمد رضا الحكيمي، نقلاً عن العلامة الطباطبائي، مجموعة مقالات 2: 219 ــ 220، إعداد وتنظيم وتقديم السيد هادي خسروشاهي، طهران، دفتر نشر فرهنكَي إسلامي، 1992م.

[21]) المصدر نفسه: 4.

[22]) المصدر نفسه: 5.

[23]) راجع: رسالة الإفتاء والتقليد الخطية، لآية الله الميرزا الإصفهاني 98، بخط الوالد محمد باقر ملكي الميانجي S، وكذلك تلك الرسالة بخطّ السادة: السيد محمد باقر اليزدي، والحاج الشيخ علي أكبر صدر زاده الدامغاني.

[24]) راجع: مجلّة حوزة، الأعداد 43 ــ 44: 279، 1991م، وقد ذكر الكاتب خواطر وذكريات عن المرحوم الميرزا علي رضا الغروي حول أبيه الميرزا الإصفهاني، ومن بينها اقتراح آية الله السيد حسين الحائري الكرمنشاهي للتصدّي لمقام المرجعية، عقب وفاة آية الله السيد أبي الحسن الإصفهاني، وعدم قبول الميرزا الإصفهاني ذلك.

[25]) جاء في كفاية الأصول ما فيه دلالة على قول الآخوند الخراساني بالجبر، وقد تأوّل بعض العلماء كلماته، فيما انتقده جمعٌ آخر منهم (المترجم).

[26]) مقالة: نقدى بر نقد، للكاتب، كيهان انديشه، العدد 6: 77.

[27]) حوار مع مهدي الغروي، وهو ابن الميرزا الإصفهاني، مجلّة حوزة، الأعداد 76 ــ 77: 21، 1996م.

[28]) وتوجد نسخة مصوّرة لهذه الإجازة عندي، وقد منحني إيّاها المرحوم الميرزا علي رضا الغروي، كذلك كان النص الكامل لهذه الإجازة القوية بخط الميرزا النائيني قد طبع في مجلّة كيهان فرهنكَي، السنة الثانية، العدد 12، عام 1986م، وكذلك راجع أيضاً كتاب: متألّه قرآني: 413 ــ 415، قم، انتشارات دليل ما، 2003م.

[29]) هيأتُ صورةً عن الرسالة من الميرزا علي رضا الغروي.

[30]) مصباح الهدى: 3.

[31]) رسالة الإفتاء والتقليد الخطيّة، آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني، بخط الوالد المعظم S.

[32]) الشيخ مجتبى القزويني، بيان الفرقان 1: 8، مشهد، نشر: عبدالله واعظي اليزدي، 1370هـ.

[33]) الحكيمي، محمد رضا، اجتهاد وتقليد در فلسفة: 90 ــ 98.

[34]) الملكي الميانجي، محمد باقر، نكاهي به علوم قرآني، ترجمة: علي نقي خداياري، إعداد وتنظيم:علي ملكي الميانجي: 9.

[35]) المصدر نفسه: 21.

[36]) ملكي الميانجي، محمد باقر، مناهج البيان في تفسير القرآن، تصحيح: عزيز آل طالب، تنظيم: محمد بياباني اسكوئي، إشراف: حسين دركَاهي، طهران، سازمان انتشارات وزارت فرهنكَى وإرشاد إسلامي، الطبعة الأولى، 1417هـ، تفسير الجزء الأوّل من القرآن، المقدّمة، نكَاهي به علوم قرآني.

[37]) الحكيمي، اجتهاد وتقليد در فلسفه: 88 ــ 167.

[38]) دانشنامه إمام علي B، تحت إشراف: علي أكبر رشاد 1: 11، طهران، سازمان انتشارات وزارة فرهنكَ وإرشاد إسلامي، الطبعة الأولى، 2001م.

[39]) رسالة «غاية المنى ومعراج القرب واللقاء» الخطية، آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني: 28، والنسخة التي اعتمدت عليها بخط الوالد S ص: 36.

[40]) مصباح الهدى: 12 ــ 13.

[41]) بيان الفرقان 1: 8.

[42]) راجع: الطهراني، جواد، ميزان المطالب: 283 ــ 290، 301 ــ 310، قم، انتشارات در راه حق، الطبعة الرابعة، 1995م.

[43]) ملكي الميانجي، محمد باقر، توحيد الإمامية، ترجمة: محمد بياباني اسكوئي، سيد بهلول سجادي: 22، طهران، انتشارات نبأ، الطبعة الأولى، 1999م.

[44]) راجع: مرواريد، حسن علي، تنبيهات حول المبدأ والمعاد: 11 ــ 46، مشهد، الطبعة الثانية، بنياد ﭘﮊوهشهاى اسلامي آستان قدس، مشهد، 1418هـ.

[45]) ثمة مباحث مطوّلة ومبسوطة ومفصّلة في الكثير من نتاجات الميرزا الإصفهاني، من بينها أحد فصول كتاب مصباح الأصول، وكذلك الحال مع سائر الأساتذة والباحثين المرموقين في المدرسة التفكيكية الخراسانية.

[46]) نهج البلاغة، الخطبة الأولى، تصحيح: محمد دشتي، ترجمة:محد جعفر إمامي ــ محمد رضا الآشتياني.

[47]) مجلّة انديشه حوزه، العدد 19: 73.

[48]) راجع: الحكيمي، دانش مسلمين: 258 ــ 265.

[49]) الحكيمي، مكتب تفكيك: 66 ــ 67، 116؛ والسيد علي دانشبور، آشنائي با كليات علوم إسلامي: 68، طهران، الطعبة الأولى، طبع انتشارات دانشكَاه پيام نور، 1995م.

[50]) راجع: الحكيمي، دانش مسلمين: 256 ــ 266.

[51]) راجع: القزويني، بيان الفرقان 1: 8 ــ 9.

[52]) المصدر نفسه: 9.

[53]) مجلّة انديشه حوزه، العدد 19: 88.

[54]) المطهري، مرتضى، المعاد: 194، طهران، انتشارات صدرا، الطبعة الأولى، 1994م.

[55]) راجع: دانشنامه إمام علي B 1: 11 ــ 46.

[56]) مصباح اليزدي، محمد تقي، آموزش فلسفه: 181، طهران، نشر سازمان تبليغات، 1991م.

[57]) راجع: مطهري، مرتضى، تماشاكَه راز: 154، قم، انتشارات صدرا، 1980م.

[58]) راجع: ياد نامه مجلسي، تنظيم وإعداد: مهدي مهريزي وهادي ربّاني 2: 309؛ ومجلّة كيهان انديشه، العدد 45: 159 ــ 162، 1992م.

[59]) الشيخ الأنصاري، مرتضى، المكاسب 1: 163 و..، تحقيق: أحمد ﭘاياني، دار الحكمة، 1416هـ.

[60]) راجع: ملكي الميانجي، محمد باقر، توحيد الإمامية، تنظيم: محمد بياباني اسكوئي، إعداد: علي ملكي الميانجي، الطبعة الأولى، انتشارات وزارت فرهنكَي وإرشاد إسلامي، طهران، 1415هـ، فصل العقل.

[61]) راجع: مجلّة انديشه حوزه، العدد 19: 76.

[62]) راجع: المصدر نفسه: 89.

[63]) مناهج البيان، تفسير الجزء الثلاثين: 500 و..

[64]) مجلّة انديشه حوزه، العدد 19: 89.

[65]) سعيد رحيميان، كيهان انديشه، العدد 53: 89، 1994م.

[66]) راجع: رضا برنجكار، مباني خداشناسي در فلسفه يونان وأديان إلهي، طهران، انتشارات نبأ، الطبعة الأولى.

[67]) مجلّة كيهان انديشه، العدد 49، 2000م.

[68]) مجلّة انديشه حوزه، العدد 19: 80.

[69]) مجلّة همشهرى ماه، العدد 10: 55، 2001م.

[70]) راجع: صدر الدين الشيرازي، تفسير القرآن الكريم، سورة يس، مع تعليقات الحكيم النوري، وتصحيح محمد خواجوي: 178 ــ 179، قم، انتشارات بيدار، 1994م.

[71]) راجع: سعيد رحيميان، مجلّة كيهان انديشه، العدد 53: 82.

[72]) راجع: ترجمة توحيد الإمامية: 46.

[73]) إبراهيمي ديناني، غلام حسين، ما جراى فكر فلسفي در جهان إسلام 3: 427، طهران، انتشارات طرح نور، 2000م.

[74]) ترجمة توحيد الإمامية، مصدر سابق: 14.

[75]) المصدر نفسه: 53.

[76]) العلامة الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 56، قم، انتشارات مكتبة مصطفوي.

[77]) السيد محمد حسين الطباطبائي، شيعة در اسلام: 61، الناشر: بنياد علمي وفكري علامه طباطبائي، الطبعة الثامنة، 1981م.

[78]) الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، الطبعة الحجرية، باب الطهارة؛ والسيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 246، قم، وجداني، الطبعة الثالثة، 1992م.

[79]) السيد محمد الموسوي، آئين وانديشه: 104، طهران، انتشارات حكمت، الطبعة الرابعة، 2003م.

[80]) المصدر نفسه: 105.

[81]) توحيد الإمامية، مصدر سابق: 14.

[82]) المصدر نفسه: 21.

[83]) المصدر نفسه: 52.

[84]) المصدر نفسه: 46.

[85]) المصدر نفسه: 39.

[86]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول: 12، قم، نشر كتاب فروشي مصطفوي.

[87]) كتيّب حول الجلسة رقم: 135، درس الشيخ صادق لاريجاني، تاريخ: 8 ــ 11 ــ 1379هـ.ش ــ 2000م.

[88]) عبدالله نعمة، فلاسفة الشيعة: 499، ترجمة: السيد جعفر غضبان، سازمان انتشارات وآموزش انقلاب إسلامي، طهران، 1988م.

[89]) العلامة الحلّي، نهج الحق وكشف الصدق: 125، تعليقات: عين الله حسن الأرموي، الطبعة الأولى، انتشارات دار الهجرة، قم، 1407هـ.

[90]) أحد فرامرز قراملكي، هندسه اي معرفتى كلام جديد: 44، الطبعة الأولى، مؤسسة فرهنكَى دانش وانديشه معاصر، طهران، 1999م.

[91]) المصدر نفسه: 49.

[92]) المصدر نفسه: 50 ، 51.

[93]) محمد رضا المظفر، الفلسفة الإسلامية: 76، إعداد وتنظيم: السيد محمد تقي الطباطبائي التبريزي، انتشارات مؤسسة دار الكتاب الجزائري، قم، 1413هـ.

[94]) راجع: قرامكلي، هندسه اى معرفتي كلام جديد، مصدر سابق: 59، 95.

[95]) اعتقادات الصدوق، مع حاشية الشيخ المفيد: 112، ترجمة: السيد محمد علي بن السيد محمد الحسني القلعة كهنه اى، االناشر: انتشارات صوفي، طهران، بدون تاريخ.

[96]) مرتضى مطهري، آشنائي با علوم إسلامي (المنطق، والفلسفة): 177، انتشارات صدرا، طهران، بدون تاريخ.

[97]) الشيخ عبدالله نعمة، فلاسفة الشيعة: 394.

[98]) الشيخ مجتبى القزويني، بيان الفرقان 1: 95، مشهد، 1370هـ.

[99]) قراملكي، هندسه اى معرفتى كلام جديد، مصدر سابق: 95.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً