أحدث المقالات

حيدر حب الله([1])

النقدُ فعالية إنسانيّة ضرورية للاستمرار والتقدّم، فمن دون النقد يقع الشلل في ثنايا المجتمع وتتراجع الأمم والشعوب والحضارات.

النقد ليس شهوةً أو عُقدة، بل هو جزء من عمليّات التفكير التي لا ينفكّ التفكير عنها، سواء كان نقداً للذات أم نقداً للآخر، وشلّ روح النقد في المجتمع يساوي شلّ روح التفكير، وكلّ من يريد بالمجتمعات خيراً فعليه أن يتخذ موقفاً إيجابيّاً من النقد بوصفه عنصر التطوّر والتسامي.

لكنّ هذا لا يعني أنّ النقد نفسه لا يخضع للنقد، وأنّه لا يحتاج لتنظيم أخلاقي ومعرفي، فهذا ما يتفق عليه الجميع فيما نظنّ، فلكي نُنتج نقداً بنّاءً علينا أن نضع للنقد رؤيةً ومنهجاً وهدفاً حتى يكون منتجاً ونافعاً، والرؤية النقديّة هي الرؤية التي تتطلّع للمعرفة بوصفها مسيراً لا ينتهي ولا يتوقّف، وبوصفها تعبيراً عن تكامل الإنسان المتواصل، وفي ظلّ هذه الرؤية يقع الإنسان غير المعصوم الذي هو دائماً في معرض الخطأ، ويصبح النقد هنا في هذه الرؤية تعاوناً إنسانيّاً لمساعدة أفراد البشر بعضهم بعضاً في سلامة المعرفة وصواب العلم، فالناقد في هذه الرؤية أخٌ ومرآة؛ لأنّه يعين أخاه على معرفة الحقيقة ويساعده على تجنّب الوقوع في الأخطاء، والناقد في هذه الرؤية هو عنصر بشري مكمّل؛ لأنّ الإنسان ـ الفرد ليس كاملاً ولا معصوماً؛ لهذا احتاج إلى من يكمّله بالمعرفة والتصويب.

التفكير النهضوي الذي يقع النقد ضمن سلّم أولويّاته، هو أسئلة جديدة توجّه للأفكار السائدة أو الأخرى أو تحاول قراءة الواقع. والأسئلةُ فعلٌ يعبّر عن خلاقيّة النفس والعقل؛ ففي كثير من الأحيان قد لا نجد من يملك ذهنيّة الأسئلة الجديدة، بل هو يملك فقط ذهنيّة تكرار الأجوبة القديمة. إنّ ذهنية الأسئلة وابتكار الاستفهامات هي ذهنيّة خلاقة، فقد أقام سقراط وبعده أفلاطون والعديد من أتباعهم فلسفاتهم على سلسلة أسئلة تتلوها أجوبة، لتصل ـ بطريقة ديالكتيكيّة ـ إلى الحقيقة، ولتأخذ بأسباب الإقناع.

والأهم من ذلك أنّ الأسئلة قد لا يكون صاحبها قادراً على تقديم أجوبة لها، أو قد تكون أجوبته ضعيفة فيها، لكنّ هذا لا يمنع عن تقويم الأسئلة في ذاتها؛ لأنّ الأسئلة هي في حدّ نفسها وعيٌ ذهني بالواقع، وتطلّعٌ لرؤيته من زوايا متعدّدة وجديدة، إنّ أولئك الذين خلقوا في أذهاننا الأسئلة الجديدة وقدّموا لنا الإشكاليّات الحديثة، ليسوا أقلّ أهميّة من أولئك الذي قدّموا لنا أجوبةً على هذه الأسئلة، فالفريقان معاً صنعا المعرفة وكشفا عن جوانب من الحقيقة بتعاونهما الديالكتيكي.

كم نحن بحاجة اليوم إلى العقول التي تثير الأسئلة لتستثير التفكير نحو الأجوبة، وكم نحن بحاجة لروحٍ نقديّة بنّاءة بعيدة عن العقد النفسيّة ومتحرّرة من السقوط الأخلاقي.. أسئلةٌ ونقدٌ يبنيان مهما كانا قاسيَين في مضمونهما، ومهما كانا متناولَين لأعمق قضايانا الفكريّة، فبدون إحساس الأمّة بالقلق المعرفي والتحدّي الحضاري القائم لن يكون لنا أملٌ في التغيير والتطوّر نحو مستقبل زاهر أفضل، وما يبدو لي ـ بنظري القاصر ـ أنّ الكثير من العاملين في الساحة لم يدركوا بعدُ أنّنا في منافسة مخيفة مع منظومات فكريّة عالميّة وضعت كلّ قضايانا تحت مبضع جراحتها، والواقع لا يعرف المجاملات، فإذا لم نكن بمستوى التحدّي فسوف نُحذف ونزول، فنحن بحاجة للقوّة كي نبقى، كما نحن بحاجة لصفاء الدين وعدم حذف شيء منه أو إضافة شيء عليه (تحرير الدين من الاقتطاع والبَتر، وتحريره أيضاً من زوائد التاريخ التي التصقت به، وهو بريء منها)، والجمع بين القوّة والصفاء تحدٍّ عظيم يواجه المفكّر الإسلامي الحديث، كيف أكون قادراً على الحضور والصمود أمام أعتى التيّارات الفكريّة في العالم في وقتٍ أحافظ فيه على صفاء الدين والإيمان، ولا أضع الدين نفسه عرضة لتلاعبي كي أبقيه قويّاً اليوم..؟ إنّها ثنائيّة محرجة بحقّ.

هذا العمل الحاضر الذي خطّته يراع أخينا الفاضل الشيخ الدكتور عبد العظيم المشيخص حفظه الله تعالى ورعاه، هو استشعار حقيقي بضرورة الحياة النقديّة بمعناها الإيجابي، وبضرورة التفكير للخروج من المأزق الذي يعيشه الفكر في مجتمعاتنا اليوم، ربما نكون اليوم في عنق الزجاجة وإذا لم نقرّر الخروج منه فقد نبقى فيه أو نسقط في قعر الزجاجة دهراً طويلاً.

إنّ هذا العمل الذي بين يديك قارئي العزيز، يسعى لتناول هذه القضيّة برؤية حريصٍ لا يريد التشفّي بل يريد الخير، أشكر أخينا الشيخ الفاضل على جهده هذا، وأسال الله له كلّ خير، وأن يوفّقه ويرفد به المكتبة الإسلاميّة والعربيّة بالمزيد من الأعمال العلميّة الصالحة، إنّه قريب مجيب.

حيدر حبّ الله

1 ـ رجب ـ 1439هـ

21 ـ 3 ـ 2018م

([1]) كُتِب هذا التقديم لـ «أزمة النقد الاجتماعي»، وهو كتاب من تأليف صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد العظيم المشيخص حفظه الله تعالى، قاضي محكمة الأوقاف والمواريث في القطيف، بالمملكة العربية السعوديّة، وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى عن مؤسّسة البلاغ في بيروت، عام 2019م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً