أحدث المقالات

حيدر حب الله([1])

يعتبر المفكّر الديني السويسري المعاصر هانس كونج (مولود عام 1928م) ـ مؤسّس مركز الأخلاق العالميّة ـ أحد أهمّ الشخصيّات التي اشتغلت على بناء ما يُعرف بالسلام الأدياني العالمي، فعقله التصالحي ظهر منذ أطروحته في الدكتوراه والتي حاول فيها التوفيق بين الرؤيتين الكاثوليكيّة والبروتستانتية (خاصّة عند كارل بارث)، في واحدة من أهم الموضوعات جدلاً بينهما، وهو موضوع التبرير. إنّه هناك يصرّح بأنّ الموضوع الذي كان أحد أسباب انفصال البروتستانت عن الكاثوليك منذ مجمع ترنت (1545 ـ 1563م) يمكن اليوم إعادة النظر فيه لإيجاد توافق، وأنّه ليس مبرّراً لانفصال مذهبين عن بعضهما.

تطوّرت أفكار كونج على مراحل، ورغم كونه أحد المستشارين الرئيسيّين في المجمع الفاتيكاني الثاني، وتأثير كتابه (المجمع الكنسي والوحدة) في أفكار هذا المجمع، غير أنّه ما لبث أن تمّ انتقاده بشدّة على آرائه التحرريّة في الدين، ورفضه عصمة البابا، حتى صدرت مواقف حادّة تجاهه تسبّبت ـ كما يقول طوني لين ـ في اشتهار كتبه وانتشارها. إنّه يقول: إنّ البابا للكنيسة وليست الكنيسة للبابا.

يعتبر كونج ـ الذي قضى الكثير من وقته في كتابة نصّ مشروعه الذي تمّ التصويب عليه مع بعض التعديلات في مؤتمر برلمان أديان العالم الذي عقد في شيكاغو عام 1993م ـ يعتبر أنّ مشروعه في المسؤوليّة والأخلاق العالميّة الأمميّة هو حصيلة عمره كلّه، وأنّ هدفه من البحث الديني كلّه كان تحقيق صلح ديني عالمي. إنّه يقول بصراحة ووضوح في مقولته الرباعيّة: لا صلح بين الأمم من دون الصلح بين الأديان، ولا صلح بين الأديان دون الحوار بينها، ولا حوار بينها دون وجود معايير أخلاقيّة عالمية (أي متعالية عن دين خاصّ)، ولا بقاء للكرة الأرضيّة دون هذه المنظومة الأخلاقية الكونيّة.

ينطلق كونج ـ وهو يحمل السلام العالمي همّاً عظيماً عقب الحربين الكونيّتين ـ من مسلَّمتين أساسيّتين: الأولى هي أنّ الأديان عبر التاريخ كانت وما تزال ذات دور عظيم إمّا في اشتعال الحروب أو في تغذيتها. والثانية أنّ هذه الأديان بنفسها لديها من الإمكانات ما يجعلها تساهم في نقيض ما فعلته عبر التاريخ، أي في إيجاد الصلح والسلام.

ونقطة الصفر في الحوار بين الأديان والمذاهب عند كونج هي المشتركات دون نقاط الاختلاف، لكن كونج لا يفهم المشتركات هنا مشتركات عقائديّة أو تاريخيّة أو شرعية فقهيّة، كما نفكّر عادةً عندما نتكلّم عن مشتركات المذاهب الإسلاميّة على سبيل المثال، بل المشتركات عنده هي المشتركات الأخلاقيّة، وعليها يبنى الحوار ومن خلالها تتشكّل عنده مقولة الأخلاق العالميّة. هذا المشترك وأمثاله عند كونج هو ما يدفعه للاعتقاد التعدّدي بأنّ الأديان برمّتها تحظى بالحقيقة وتمثل سبلاً للنجاة، إلى حدّ حديثه عن أنّ المسيحيّة ليست سوى دين لا يحظى بأيّ فضل أو تقدّم على الأديان الأخرى. وما كتبه عن الأديان الأخرى بمشاركة باحثين آخرين ـ ومن بينها الإسلام ـ يكشف عن النظرة المعتدلة لديه لسائر الأديان.

ويدرك كونج أنّ الصراعات في العالم يمسك بها السياسيّون، وكذلك التسويات والمصالحات، لهذا يهتمّ بعمليّة الربط بين السياسة والأخلاق، ويرفض المقولات الفلسفيّة التي تتحدّث عن فصل الأخلاق عن السياسة، وكأنّه ـ بربطه بين الأخلاق والسياسة من جهة، وبين الأخلاق والدين من جهة ثانية ـ يقوم بدَينَنَة السياسة، لكن على طريقته التي لا تصادم هذه المرّة العلمانية الجزئيّة (فصل الدين عن الدولة).

ولكي أطرح بعض الأمثلة من الأخلاق العالميّة الدينية التي يتحدّث عنها كونج، يمكن الإشارة إلى مبدأ التعامل الإنساني مع مطلق إنسان، وهذا يعني في فلسفته أنّ الأخلاق الدينيّة هي أخلاق تعتبر طرف المعاملة هو الإنسان بما هو إنسان. وفي السياق عينه يتحدّث كونج عن مبدأ أخلاقي آخر وهو مبدأ الكرامة الإنسانيّة الذي يعتبر أنّ الأديان برمّتها تؤكّد عليه، ومن هذا المبدأ ـ إلى جانب مبدأ العدالة ـ تنبعث القاعدة الذهبيّة (احبب لغيرك ما تحبّ لنفسك) لتكون موجّهاً لكلّ أشكال السلوك العلائقي في الجوانح والجوارح.

عندما نتأمّل جيّداً في الأصول الأخلاقية العالمية عند كونج، نجد بوضوح أنّها الوصايا العشر تقريباً والتي تشترك فيها جميعها أو غالبها كلّ الأديان (مثل: التوراة ـ موعظة المسيح على الجبل ـ نصوص الأخلاق القرآنيّة)، فحرمة السرقة يعتبرها كونج موجّهاً أخلاقيّاً لعدالة النظام الاقتصادي، وحرمة الكذب موجّه أخلاقي لعدالة النظام الإعلامي، وحرمة الزنا موجّه أخلاقي عنده لمنع التمييز والعدوان على أساس الجنس، وهكذا.

لكنّ السؤال: لماذا يُقحم كونج الأديانَ هنا ما دامت هذه القيم الأخلاقية إنسانيّةً عامّة يمكن أن يلتقي عليها الملحدون والمؤمنون معاً؟! يبدو من كونج اعتقاده العميق بأنّ تحقيق هذه القيم يحتاج لقوّة روحيّة ومعنويّة ووجدانيّة خلاقة، وأنّ الأديان وحدها هي القادرة ـ حتى الآن على الأقلّ ـ على صنع ذلك وتحقيق الولادة الجديدة للإنسان والتي تبعثه نحو هذه القيم بعثاً عميقاً وأصيلاً.

في تقديري يعتبر مشروع كونج المهمّ هذا متأثراً بفلسفة كانط الأخلاقيّة التي تُعيد إنتاج الدين في داخل الأخلاق، لكنّ ثمّة أسئلة كثيرة يواجهها، وأكتفي بمداخلتين تخطران في البال:

المداخلة الأولى: لعلّه فات كونج أنّ الأديان تملك علاقة أخلاقيّة مع الله، وأنّ الأخلاق فيها لا تنحصر بدائرة العلاقات الإنسانيّة، بل هناك سلوك أخلاقي مع الله بوصفه الخالق الرازق، وهذا يعني أنّ الأديان في دفاعها عن العقيدة التي تمثل المختلَف فيما بينها، تخوض مواجهتها على أساس أخلاقي أيضاً (الشرك ظلم عظيم كما جاء في القرآن)، ومن ثمّ فالقيم الأخلاقيّة في الأديان لا تقف عند حدود العلائق الإنسانيّة، وهذا ما قد يجعل القيم الأخلاقيّة المابين إنسانيّة تتصادم مع القيم الأخلاقيّة في العلاقة مع الله وقضيّته في الخلق، بوصف ذلك مسؤوليّة أخلاقية تحملها الأديان أيضاً ولو بعضها، وهذا ما سيؤدّي إلى تشابك العقيدة بالأخلاق، وارتباك المشروع كلّه، الأمر الذي يحيج إلى تفكير إضافيّ.

المداخلة الثانية: إنّ كونج خضع لتأثير المسيحيّة نفسها في تحرّرها من الشريعة، لكنّه لم يقدّم أجوبة مقنعة فيما يخصّ الأديان (الشرعيّة) مثل اليهوديّة والإسلام، فكيف يمكن مقاربة العلاقة عنده بين الشريعة والأخلاق في هذه الأديان، وهي تحمل ـ ولو ببعض قراءاتها الفقهيّة ـ منظومة علائقية مع الآخر الديني لا تنسجم مع إطلاقيّة هذه القيم الأخلاقيّة؟ فما لم تحلّ هذه القضية المفصلية لا يمكن تأكيد مشاركة الإسلام واليهوديّة في مشروع كونج بهذه الطريقة الانتقائيّة التي طرحها.

______________________

([1]) نشر هذا المقال في صحيفة “الرؤية” العمانيّة، يوم الأربعاء، 9 ـ 9 ـ 2020م.

انظر الرابط: https://alroya.om/post/269121/

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً