أحدث المقالات

الشيخ حب الله النجفي(*)

بُعث نبيُّنا الأعظم ورسولُنا الأكرم|، فحَبا الناسَ حَبوتَين، وأتحَفهم بتحفتَين ـ طبقاً لحديث الثقلَين ـ :«كتاب الله؛ وعترتي؛ أهلَ بيتي»، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

«كتاب الله» أثَّر في الأمّة الإسلاميّة؛ شيعيّة وسُنّية. وهذا ممّا لا يَرتاب فيه أيُّ أحدٍ على وجه المعمورة؛ لكنْ:

«عترتي؛ أهل بيتي» هل أثَّروا في الأمّة الإسلاميّة؛ شيعيّة وسُنّية؟

الفِرَقُ الشيعيّةُ، ولا سيَّما الإماميّةُ، صرّحَت بذلك؛ لكنْ ما هو حالُ «سائر الفِرق الإسلاميّة» (الفِرق السُنّية)؟

الفِرقُ السُنّيةُ، أو مُعظمُها، لَم تُعاصِر العترةَ الطاهرةَ، فمن الطبيعيّ أنْ لا تتأثَّر بها مباشَرةً؛ بل بالواسطةِ؛ هنا:

يجبُ علينا أن نَسألَ هكذا: هل أثَّر «تُراثُ» العترةِ الطاهرةِ، لا العترةُ الطاهرةُ نفسُها، في الفِرقِ السُنّية؟

هذا هو سؤالُنا، الذي يَنتظرُ جوابَنا.

لكنّ حجمَ هذا السؤال هو أكبرُ مِن حجم مقالةٍ واحدة؛ لذلك جزَّأنا السؤالَ، فتناولْنا جزءاً واحداً منه فقط؛ «عترتي؛ أهل بيتي» هل أثَّروا في الفِرق السُنّية في «الكلام = أصول الدين»؟

لكنّ حجمَ هذا السؤال أيضاً هو أكبرُ مِن حجم مقالةٍ واحدة؛ لذلك جزَّأنا هذا السؤالَ أيضاً، فتناولْنا جزءاً واحداً منه فقط؛ «عترتي؛ أهل بيتي» هل أثَّروا في الفِرق السُنّية في أهمّ المسائل الكلاميّة، وهو «التوحيد»؟

هل الفِرَقُ السُنّيةُ قَبِلَت «توحيدَ أهلِ البيتِ»، جُملةً أم تفصيلاً، أم رفَضَته جُملةً وتفصيلاً؟

توحيدُ الفِرَق السُنّية هل هو توحيدٌ مُتأثِّرٌ بتوحيدِ العترةِ الطاهرةِ أم مُضادٌّ مُعاندٌ لتوحيدِها؟

نحاولُ، جادِّينَ مجتهِدِينَ، أن نجيبَ هذا السؤالَ المطروحَ، أو الطارحَ نفسَه، بكلّ صدقٍ وأمانة.

وبما أنّ «فَهمَ السؤال نصفُ الجواب» فاللازمُ قَبلَ البَدءِ بالإجابةِ إيضاحُ السؤالِ وإزالةُ اللَّبسِ عنه.

ليس المُرادُ بـ «توحيدِ أهلِ البيتِ» في هذا السؤال هو «توحيدُ أهلِ البيتِ» مِن مِنظارِ الفِرقةِ الإماميَّةِ؛ وإلاّ:

فمِن أوضَحِ الواضحاتِ رفضُ أهلِ السُّنة لكثيرٍ ممّا تَراه الفِرقةُ الإماميّةُ «توحيدَ أهلِ البيتِ»؛ إذ:

هل يَشُك أحَدٌ في رفضِ أهلِ السُّنةِ، أجمَعَ أكتَعَ، لعقيدةِ البَداءِ مَثَلاً رفضاً حاسماً صارماً؟

ونحنُ نَعلمُ بأنّ الفِرقةَ الإماميّةَ، كلَّها أو جُلَّها، لا تَشُكّ بأنّ هذه العقيدةَ هي من «توحيدِ أهلِ البيتِ».

لكنّ أهلَ السُّنةِ رَفَضوا جازمينَ هذه العقيدةَ التوحيديّةَ، ورَفَضوا جازمينَ انتسابَها إلى أهلِ البيتِ.

المرادُ بـ «توحيدِ أهلِ البيتِ» في هذا السؤالِ هو «توحيدُ أهلِ البيتِ» مِن مِنظارِ أهلِ السُّنةِ.

السؤالُ هو: هل قَبِلَ أهلُ السُّنةِ ما رأوا واعتَقَدوا أنّه هو «توحيدُ أهلِ البيتِ» حقّاً وصدقاً؟ فلنبدأ بالإجابةِ:

 

1ـ ماهيّةُ التوحيد

مِنْ أوضحِ الواضحاتِ أنّ أهمَّ مسائلِ الدِينِ كلِّها هي: التوحيد، وهي هدفُ بعثة الأنبياء جميعاً.

أوّلُ سؤالٍ يَطرحُ نفسَه، ولا يجدُ لنفسِه جواباً، لا في آيةٍ قرآنيّة ولا سُنّةٍ نبويّة، هو: ما هو التوحيدُ؟

أجاب إمامُ الكلام×: «التوحيدُ أنْ لا تَتوهّمَه، والعدلُ أنْ لا تَتَّهمَه»([1]).

قال ابنُ أبي الحديد: «هذان الرُكنان هما رُكنا عِلمِ الكلام، وهما شِعارُ أصحابِنا المُعتزِلة»([2]).

قال الماوَرْديّ: «ففصَح بما بهَر إيجازُه، وقهَر إعجازُه»([3]). هذا تصريحٌ بأنّ كلامَ عليٍّ معجزةٌ قاهرةٌ.

قال الفخر: «هاتان الكلمتان المختصَرَتان مشتمِلَتان على جميع ما ذَكره المتكلِّمون في تصانيفِهم الطويلة»([4]).

«سأل المَرِيسيُّ الشافعيَّ عن التوحيد، بحضرة الرشيد، فقال: أنْ لا تتوهَّمه، ولا تَتَّهمَه»([5]).

جوابُ الشافعيّ في غايةِ الرزانةِ ونِهايةِ المتانةِ؛ إذ التوحيدُ يَشمَلُ العدلَ أيضاً، وهذا ما لم يُشِر إليه إمامُنا؛ لِمَ؟

لأنّ ظرفَ إمامِنا غيرُ ظرفِ الشافعيّ؛ فلو كان إمامُنا معاصراً للشافعيّ لأجاب بجوابِه؛ والعكسُ بالعكسِ.

جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة يوحِّدون اللهَ توحيداً علويّاً؛ يَرفُضون إمكانَ توهُّمِه، ويَنفون إمكانَ تُهَمَتِه.

وقال إمامُ الكلام×: «كمالُ الإخلاص له نفْيُ الصفات عنه»([6]).

مدلولُ «نفْي الصفات» في كلام إمام الكلام× هو بعينِه مدلولُ «أنْ لا تَتوهَّمَه»؛ والدليلُ عليه هو أنّ الدليل على «نفْي الصفات» هو «شهادة كلِّ صفةٍ أنها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوفٍ أنه غير الصفة»، والدليل على «أنْ لا تَتوهَّمَه» هو أنّ «كلّ ما أدركتَه فهو غيرُه»([7]). وهذا هو الدليلُ السابقُ بعينِه: الغيريّة.

فمرادُ إمامِنا مِن قولِه: «وكمالُ الإخلاص له نفْيُ الصفات عنه» هو نفيُ الصفاتِ الوهْميّة: «لا تتوهَّمَه».

يؤيِّدُ ويؤكِّدُ ذلك ما رواه عن إمامِنا الشيخُ المفيدُ: «ونظامُ توحيدِه نفيُ التشبيهِ عنه»([8]). والتشبيهُ هو التوهُّمُ.

جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة يقولون بـ «نفْي الصفات»؛ يَنْفون أيَّ صفةٍ وَهْميّة عن الذاتِ الإلهيّة.

قد أخطأ شُرّاحُ نهج البلاغة، جُلُّهم أو كلُّهم، في تفسيرِ تعبيرِ «نفْيِ الصفات» في كلامِ الأميرِ.

هذا الخطأ الفادحُ جعَل القائلين بخلافِ هذا التفسيرِ يَنفون نسبةَ هذا التعبيرِ إلَى الأميرِ، فنُقِض الغرَض.

لِمَ قال: «التوحيدُ أن لا تَتوهَّمَه»؟ لأنّ الوهمَ «له السلطانُ في حيِّز القوى المُدرِكة»([9])، بل «هو السُلطانُ الأعظَمُ»([10]).

صرَّح الفخرُ بأنّ إمامَ الكلام× قال: «ممتنِعٌ على الأوهام أن تَكتنهَه، وعلَى الأفهام أن تَستغرقَه»([11]).

نفَى إمامُ التوحيد سلطانَ الوَهْم وفرعنةَ الفَهْم عن ساحة الذات والصفات الإلهيّة، فنفَتهما الأمّةُ الإسلاميّة:

سطَر الطَحاويّ: «بيانُ اعتقاد أهل السُّنة والجَماعة…: إنّ اللهَ… لا تَبلُغُه الأوهام، ولا تُدرِكُه الأفهام»([12]).

نادَى رأسُ المعتزِلة، في أشهَر خُطَبه: «لا إلهَ إلاَّ اللهُ… فلا تَبلُغُه الأوهام، ولا تُحيطُ به… الأفهام»([13]).

فسَّر أبو بكر الأصَمُّ اسمَ الله ﴿الْعَظِيم﴾ بأنه «كونُه منزَّهاً عن أن يَتمثَّل في الأوهام أو تَصلَ إليه الأفهام»([14]).

وصَف الحارثُ المُحاسِبيُّ ربَّنا بأنه «الذي لا تقعُ عليه الأوهامُ، ولا تُحيطُ به الأفهامُ»([15]).

نعَت رأسُ الماتُريديّة ربَّنا بأنه «الذي… انحسرَتْ عنه الأَوْهام، وحارَتْ فيه الأفهام؛ فذلك اللهُ ربُّ العالَمِين»([16]).

وحَّده ابنُ فُورَكٍ بقولِه: «لا تَتصوّرُه الأوهامُ، ولا تُقدِّرُه الأفهامُ»([17]).

حَمِده الغَزاليُّ: «الحمدُ للهِ الذي… لم يَجعَل لمَراقي أقدام الأوهام ومَرمَى سِهام الأفهام إلى حِمى عظمتِه مَجرىً»([18]).

حَمِده ابنُ الجَوزيّ: «الحمدُ للهِ مُدبِّر… الأيّام… تَنزَّه جلالُه عن دَرْك الأفهام، وتَعالَى كمالُه عن إحاطة الأوهام»([19]).

حَمِده الفخرُ: «الحمدُ للهِ المتعالِي بجلالِ أحديّتِه عن… الأوهام، المقدَّس بكمالِ صمديّتِه عن… الأفهام»([20]).

حَمِده الخليفةُ المُسترشِدُ بالله: «أمّا بَعدُ، فالحمدُ للهِ… الذي… لا تَبلُغُه الأوهامُ، ولا تُحيطُ به الأفهامُ»([21]).

عرَّف أهلُ الحقيقة «التوحيدَ» بأنه «تجريدُ الذاتِ الإلهيّة عن كلِّ ما يُتصوَّرُ في الأفهام، ويُتخيَّلُ في الأوهام»([22]).

ما اكتفَى أئمّتُنا بطرد الأوهام والأفهام عن إدراك الذات والصفات الإلهيّة، بل وطرَدوا الحواسَّ أيضاً:

قال ابنُ تَيميّة: «وقد قيل لعليٍّ رضي الله عنه: بِمَ عرَفتَ ربَّك؟ فقال: …لا يُدرَكُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([23]). وقال عدوُّ ابنِ تَيميّةَ: «وسُئل ـ أعنِي عليّاً رضي الله عنه ـ: بِمَ عرَفتَ ربَّك؟ فقال: …لا يُدرَكُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([24]).

هذان التصريحان المتطابِقان يناديان: أولياءُ ابنِ تيميّة وأعداءُ ابنِ تَيميّة كلُّهم عرَفوا ربَّهم معرفةً إماميّة.

«أجمعَت المعتزلةُ على أنّ اللهَ… لا تُدركُه الحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس… وقد شاركهم… الخوارجُ و…المُرجئة»([25]).

فسَّر الطبَرانيُّ اسمَ الله ﴿الْبَاطِن﴾ بأنه «الذي لا يُدرَكُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([26]).

فسَّر أبو يزيدَ البَسطاميُّ نداءَ «اللهُ أكبر» بأنه «أكبرُ مِنْ أن يُقاسَ بالناس…، أو تُدركَه الحواسّ»([27]).

قرَّر ابنُ فقيه فُصّةَ المواهبيُّ مذهبَ الحنابلة: «يجبُ الجَزمُ بأنه سبحانه وتعالى لا يُعرفُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([28]).

قرَّر حَفيدُ الشيخِ ابنِ عبدِ الوهّاب مذهبَ جدِّه: «يجبُ الجَزمُ بأنه سبحانه وتعالى لا يُعرفُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([29]).

قرَّر إمامُ السُّنة في زمانه مذهبَ أهل السُّنة: «لا يُدرَكُ بقياسٍ، ولا يُقاسُ بالناس»([30]). بدَلَ «الحواسّ» قال: «قياس».

الأمّةُ الإسلاميّةُ ما اكتفَت بتصديقها لعليٍّ في توحيدِه، بل وصدَّقَت وصرَّحَت بأولاد عليٍّ أيضاً. مَثَلاً:

«قال أبو الحسَن المدائنيُّ: بينما محمدُ بنُ عليّ بن الحسين في فِناءِ الكعبة أتاه أعرابيٌّ، فقال له: هل رأيتَ اللهَ…؟ …فقال: ما كنتُ لأعبُدَ شيئاً لم أَرَه، قال: وكيف رأيتَه؟ قال: …لا يُدرَكُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([31]).

قال الغَزاليّ: «قيل لجعفر الصادق رضي الله عنه: هل رأيتَ اللهَ؟ قال: …لا يُدركُ بالحواسّ، ولا يُقاسُ بالناس»([32]).

2ـ فائدتُه

سؤالٌ عُضالٌ واجَه المسلِمين، بل المتديِّنِين أجمعين: مُرتكبُ الكبيرة، المُصرُّ عليها، مخَلَّدٌ في النار؟

إنْ كان الجواب بالإيجاب فما هي فائدةُ التوحيد؟ وهو هدفُ بعثةِ الأنبياء والرُّسُلِ أجمعين.

إنْ كان الجواب بالإيجاب، فالمُلحِدُ والموحِّدُ سواءٌ؛ لا فرقَ بينهما؛ كلاهما في النار، خالدَيْن فيها.

كان هذا السؤالُ يدورُ في خَلَد الأمّةِ الإسلاميّةِ، إلَى أن حدَث ما صحَّحه البخاريّ، عن أبي ذَرٍّ الغِفاريّ: «أتيتُ النبيَّ وعليه ثوبٌ أبيَضُ وهو نائمٌ، ثُمّ أتيتُه وقد استيقَظ، فقال: ما مِن عبدٍ قال: لا إلهَ إلاّ اللهُ، ثُمّ ماتَ علَى ذلكَ، إلاّ دخَلَ الجَنّةَ، قلتُ: وإنْ زنَى وإنْ سرَق؟! قال: وإنْ زنَى وإنْ سرَق، قلتُ: وإنْ زنَى وإنْ سرَق؟! قال: وإنْ زنَى وإنْ سرَق، قلتُ: وإنْ زنَى وإنْ سرَق؟! قال: وإنْ زنَى وإنْ سرَق، علَى رُغِمِ أنفِ أبي ذَرٍّ.

وكان أبو ذرٍّ إذا حَدَّثَ بهذا قال: وإنْ رُغِمَ أنفُ أبي ذَرٍّ!!»([33]).

«كنتُ أمشِي مع النبيِّ في حَرّةِ المدينةِ عِشاءً، استقبلنا أحُدٌ، فقال: …مكانَكَ لا تَبرَحْ يا أبا ذَرٍّ حتّى أرجِعَ، فانطلَق حتّى غابَ عنّي، فسَمِعتُ صوتاً، فخشِيتُ أن يكونَ عرَضَ لرسول الله، فأردتُ أنْ أذهبَ، ثم ذكرتُ قولَ رسولِ الله: لا تَبرَحْ، فمكثتُ؛ قلتُ: يا رسولَ الله، سَمِعتُ صوتاً خَشِيتُ أن يكونَ عرَضَ لكَ، ثُمّ ذكرتُ قولكَ فقُمْتُ، فقال النبيُّ: ذاك جِبريلُ أتانِي فأخبرَني أنه مَن ماتَ مِن أمّتِي لا يُشرِكُ باللهِ شَيئاً دخَل الجَنّةَ، قلتُ: يا رسولَ الله، وإنْ زنَى وإنْ سرَق؟! قال: وإنْ زنَى وإنْ سرَق»([34]). فثمَنُ وثمَرةُ التوحيد: «دخولُ الجَنّة».

كانت الأمّةُ الإسلاميّةُ مُجمعةً مُتّفقةً على هذا الاعتقاد، إلى أن ظهرَ «الوعيديّةُ»: الخوارجُ، ثُمّ المعتزلةُ.

ما هو الوعيد؟ يجيبُ أوّلُ مؤرِّخِي المعتزِلة: «أنه عزَّ وجلَّ لا يَغفِرُ لمُرتكِبِي الكَبائرِ إلاّ بالتوبة؛ هذا هو القولُ بالوَعيد»([35]).

أئمتُنا قاوَموا هذا الاعتقادَ غيرَ الإسلاميّ، وتَبعَتهم الأمّةُ الإسلاميّةُ؛

يصرِّحُ عبدُ القاهر البغداديُّ: جعفرُ بنُ محمّدٍ الصادقُ… هو الذي قال: أرادتِ المعتزِلةُ… التعديلَ، فنسَبَت البُخلَ إلى ربِّها([36])؛ معناه أنهم توهَّموا أنّ دخولَ الموحِّد الفاسق الجَنّةَ (ظلمٌ)، وهو قبيحٌ، ونَسُوا أنّ عدمَ دخولِه الجَنّةَ (بُخْلٌ)، واللهُ أكرمُ الكُرَماء.

نعم، إنْ لم يُعاقِبه اللهُ علَى فِسقِه، وكانت درجتُه مساويةً للموحِّدِ المُطيع، فهذا ظلمٌ؛ لا يَقبلُه العقلُ.

أئمتُنا أيَّدوا وأكَّدوا ما رواه أبو ذَرٍّ؛ حيثُ رَوُوا هم عن النبيّ، بسندٍ صحيحٍ شيعيٍّ، قولاً مُرادِفاً له([37]).

 3ـ البَدءُ به

قال إمامُ الكلام×: «الحمدُ لله: الواحد، الأَحَد»([38])، فعلَّم الأمّةَ أن تَبدأَ كلامَها بتوحيدٍ مضاعَفٍ.

تعلَّمَ علماءُ وعظماءُ أمّتِنا الإسلاميّةُ أن يُعلِنوا توحيدَهم العلويَّ المُضاعَفَ في بَدءِ كلامِهم؛ مثَلاً:

أعلَن رأسُ الأشاعرة توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء مصنَّفِه الخالد الرائد «الإبانة»: الحمدُلله الواحد الأحد.

أعلَن الحافظُ أبو نُعَيم الأصبَهانيُّ توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء مصنَّفِه «معرفة الصحابة».

أعلَن الحافظُ ابنُ حِبّانَ، أبو حاتِم البُستيُّ، توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء مصنَّفِه الجليل «المجروحين».

أعلَن الشيخُ عزُّ الدين بنُ عبد السلام السَلَفيُّ الحَنفيُّ توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في مَطلَع عقيدتِه المشهورة.

أعلَن تلميذُ أبي حَنيفة، الشَيبانيُّ، توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء كتاب التحرّي مِن مصنَّفِه «المبسوط».

أعلَن ابنُ أبي الوفاء القُرَشيُّ الحنفيُّ توحيدَه العلويّ المضاعَف في بَدء مصنَّفِه «الجواهر المُضيّة».

أعلَن القاضي أبو جعفر السُرماريُّ البلخيُّ الحنفيُّ توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء مصنَّفِه «الإبانة».

أعلَن الفقيهُ المالكيُّ، ابنُ عرفةَ الورغميُّ، توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء مصنَّفِه «المختصَر الكبير».

أعلَنه الفقيهُ المالكيُّ، أبو زكريّا يحيى بن محمد الحَطّاب، الرعينيّ المكّي، في بَدء «مختصر نُزهة الحُسّاب».

أعلَن أبو العبّاس المَقَّريّ، المغربيّ المالكيّ، توحيدَه العلويَّ المضاعَفَ في بَدء «إتحاف المُغرَم المُغرَى».

أعلَنه كريمُ الدين الدِمِردائيّ، الخَلوَتيّ الشافعيّ، في بَدء مصنَّفِه «الانتباه من النوم في بيان اسم حجر القوم».

أعلَنه أبو الفتح العوفيُّ الاسكندريُّ بَدءَ شرحِه لأرجوزة «غنية الباحث»، لصلاح الدين ابن الرحبيّ الشافعيّ.

أعلَنه العالِمُ السَلَفيُّ، أبو البركات خيرُ الدين الآلوسيُّ الحنفيُّ، بَدءَ «الجواب الفسيح لِما لفَّقه عبدُ المسيح».

أعلَنه العالِمُ السَلَفيُّ، عبدُ الرزّاق عفيفي، في مَطلَع تقريظِه على كتاب «المقاصد العليّة مِنَ القصيدة النونيّة».

هؤلاء العلماءُ العظماءُ أعلَنوا توحيدَهم المضاعَفَ العلويّ، وما أعلَنوا أنّهم إنما اقتدَوا واهتدَوا فيه بعليٍّ!! لكننا نُعلِنُ بمِلْء أفواهِنا وأرواحِنا، وبمَجامع قلوبِنا وعقولِنا، أنّ هذا الحمدَ الخالدَ الرائدَ التوحيديَّ المضاعَفَ إنما صدَر أوّلَ مرّةٍ في الإسلام في مَطلَع خُطبةٍ علويّةٍ هي «مِن مشهورات خُطَبه×، حتّى لقد ابتذَلها العامّةُ»([39])، وطبيعيّ لها أن تُعرَفَ وتَشتهرَ؛ لأنها إنما صدرَت أمام حَشْدٍ عظيمٍ مِن الناس، وفي أحلك ظروفِ الحرب: عن إمامِنا الصادق: «إنّ أميرَ المؤمِنين استَنهَض الناسَ في حَرب معاويةَ في المَرَّة الثانية، فلمّا حشَد الناسَ…» ([40]).

جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة قلَّدوا عليّاً في أن يَبدأوا كلامَهم بقولهم: «الحمدُ لله، الواحد، الأحَد».

4ـ لا عَدَديّتُه

قال إمامُ الكلام×: «واحدٌ لا مِنْ عَدَدٍ»([41]). قاله في «مسجد الكوفة» أمامَ الناس لأوّل مرّةٍ في التأريخ.

أوّلُ مَنْ شرَح هذه الدُرّةَ العلويّةَ هو أعظمُ فقهاء أهل السُّنة، أبو حَنيفةَ؛ شرَح كلامَ الإمام بكلام الله عزَّ وجلَّ؛ قال: «واحدٌ لا مِن طريقِ العَدَد، ولكنْ مِن طريق أنه لا شَريكَ له: ﴿لَمْ يَلِدْ * وْلَمْ يولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾»([42]).

هذا الشرحُ «الأعظم» مستَبْعَدٌ جدّاً أن يَصدرَ من غير الفقيه «الأعظم»، وإنْ كان مصدرُه مشكوكَ النسبة إليه.

اتَّبع أبو حنيفة، في هذا الموقف الكلاميّ، عليّاً، فاتَّبَع أتباعُ أبي حنيفة، في هذا الموقف الكلاميّ، عليّاً؛ مَثَلاً:

تناوَل الحنفيّةُ هذه الدُرّةَ العلويّةَ بالشرح؛ وذلك بشرحِهم كتابَ «الفقه الأكبر» الحاوي لهذه الدُّرّة؛ منهم:

الفقيهُ الحنفيّ، أبو الليث السمرقنديّ، لأوّل مَرّةٍ، شرحاً نُسب خطأً إلى رأس الماتُريديّة: الماتُريديّ؛

أكملُ الدين، أبو عبد الله، محمد بن محمد البابَرْتيّ (714 ـ 786هـ)، باسم: «الإرشاد»؛

محمدُ بنُ يوسُف، الملقَّب «گِيسُو دِراز» (721 ـ 826هـ)؛

إلياسُ بنُ إبراهيمَ السِينُوبيّ(891هـ) ببلدة بُرُوسا)؛

محيى الدين محمدُ بنُ بهاء الدين الرَحْماويّ «بهاء الدين زاده»، عامَ 925هـ، باسم «القول الفصل»؛

شهابُ الدين أبو المنتهَى أحمدُ بنُ محمد المَغْنِيساويّ(1000هـ)، عامَ 939هـ؛

المُلاّ عليُّ القارئ، نورُ الدين الهَرَويّ(1014هـ)، باسم «مَنحُ الرَوض الأزهر، شَرحُ الفقه الأكبر»؛

نورُ الله بنُ محمد رفيع الشِرْوانيّ(1065هـ)؛

كمالُ الدين أحمدُ بنُ الحسن البياضيّ (1044 ـ 1098هـ)، باسم «إشارات المرام مِن عبارات الإمام»؛

افتتَح ابنُ غَفلةَ، أحمدُ بنُ محمد الحلبيّ(915هـ) كتابَه «شرح نُزهة الحُسّاب» بهذه العبارة؛

صنَّف إبراهيم گوزي بُيوك زاده(1253هـ) رسالةً مستقِلّةً في تحقيق هذه العبارة الخالدة الرائدة.

وروَى الخَلاّلُ بسنده أنّ «جملةَ اعتقاد أحمد بن حَنبَل رضي الله عنه، والذي كان يَذهَبُ إليه: أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ واحدٌ لا مِنْ عَدَدٍ»([43]).

نُشاهدُ أمامَ أعينِنا أنّ أحمدَ بنَ حنبل يَبدأ عقائدَه، لا بعقيدةٍ قرآنيّةٍ، ولا نبويّةٍ، بل إنما يَبدأها بعقيدةٍ علويّةٍ.

وأوَّلَ ابنُ أبي الخير العِمرانيُّ(558هـ)، شيخُ الشافعيّة باليَمَن، بهذه العبارة العلويّة آيتَين قرآنيّتَين([44]).

وصرَّح مفسِّرٌ شافعيٌّ أشعريٌّ بأنّ «أهل التوحيد وأصحاب العقول مِن أهل الأصول يقولون كلُّهم بهذه العبارة([45]).

5ـ التوسُّطُ فيه

تُجمِعُ المصادرُ على أنّ أوّلَ مَنْ نادى بـ «نفْي الصفات» في تأريخ الإسلام هو: الجَعْدُ بنُ دِرْهَم([46])؛ لكنْ:

نادَى إمامُ الكلام× قَبله بأعوام: «كمالُ توحيدِه الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفْيُ الصفات عنه»؛

الظاهرُ أنّ عليّاً والجَعدَ نادَيا بأمرٍ واحد، والواقعُ أنّ الجَعدَ نادى بالغلوّ في التوحيد، وعليٌّ نادَى بالتوسُّط فيه؛ الجَعدُ ضَحَّى بالقرآن مِن أجل التوحيد؛ نادَى بأعلى صوتِه: «لَم يَتَّخِذِ اللهُ إبراهيمَ خليلاً، ولا موسى كليماً»([47]).

القَسريُّ ضَحَّى بالجَعد مِن أجل القرآن، جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة أيضاً ضحَّوا بمَن ضَحَّى بالقرآن.

إمامُ الكلام× ما ضَحَّى، لا بالقرآن، ولا بالتوحيد؛ دافَع عن القرآن وعن التوحيد أشَدَّ دفاعٍ؛ النتيجةُ: الأمّةُ الإسلاميّةُ ما ضَحَّتْ، لا بالقرآن، ولا بالتوحيد؛ دافَعَتْ عن القرآن وعن التوحيد أشَدَّ دفاعٍ.

هذا هو التوسُّط الكلاميُّ ـ الإماميُّ ـ الإسلاميُّ: قبولُ جميع ما بَين الدفّتَين، وتنزيهُ الله عن أيِّ توهُّمٍ؛ تفسيرُه أنّ اللهَ اتّخَذ إبراهيمَ خليلاً، وكلَّم موسى تكليماً، واستوى على العرش، و…، لكنْ لا كما نصفُه ونتوهَّمُه.

فمرادُ الجَعد مِن «نفْي الصفات» نفيُ ما جاء في القرآن، ومُرادُ عليٍّ منه نفْيُ ما تُدركُه أوهامُنا من القرآن.

الأمّةُ الإسلاميّةُ أيّدَت وأكَّدَت التوحيدَ العلويَّ المتوسّط، ورفضَت ولفظَت التوحيدَ الجَعديَّ العالي الغالي.

نسأل: بمَنْ تأثَّر الجَعدُ الموحِّدُ في توحيدِه المُفرِط؟ بعضُ المصادر ادَّعَت له جَذْراً يهوديّاً([48]). وهذا مُحالٌ؛

«إنه أراد أن يُنكرَ الفكرةَ اليهوديّةَ المجسِّمةَ القائلةَ بأنّ اللهَ تجلَّى لموسَى تجلِّياً جسمانيّاً، وكلَّمه كلاماً مادّياً»([49]).

فكيف يكون اليهودُ معارِضين للقرآن في قولِه: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ وهُم أوّلُ الدُّعاة إليه؟!

إنما تأثَّر الجَعدُ بقول وهب بن منبِّه: «يا جَعدُ، لو لم يُخبِرنا اللهُ في كتابه أنّ له يداً وعَيْناً ووجهاً لَمَا قلنا ذلك»([50]).

فوقع ما لم يَتوقَّع ابنُ منبِّه وقوعَه أبداً. صاح الجَعد: القرآن «مخلوقٌ»، لا «كلامُ الله»؛ لأنه ينافى التوحيد!!

مقاتل، في المقابل، وفي الوقت نفسِه، سلَّم بكلِّ ما جاء في القرآن وفي غيره، ففسَّر القرآنَ بغير القرآن!!

إفراطُ الجَعد في التوحيد أدّى به إلى التعطيل، وإفراطُ مقاتِل في التسليم أدّى به إلى التجسيم.

سببُ ارتكاب هذين العلمَين العظيمَين هذين الخطأين الجسيمَين بُعْدُهما عن أئمّتنا، الذين نادَوا بالتوسّط؛

أوّلُ مَنْ نادَى به هو إمامُ الكلام×؛ قال: «ليست له صفةٌ تُنال، ولا حدٌّ تُضربُ له فيه الأمثال»([51]).

هذا هو التفسيرُ الدقيقُ لنفْي الصفات العلويّ. والتفسيرُ الدقيقُ لهذا التفسير العلويّ هو تفسيرُ الأشعريّ؛

قال في مَطلَع كتابه «الإبانة»: «ليست له صورةٌ تُقال، ولا حدٌّ يُضرَبُ له مثال». فسَّر الصفةَ بالصورة تفسيراً دقيقاً.

وفسَّر قولَ عليٍّ «تُنال» بـ «تُقال»؛ فالصورةُ مُحالٌ أن تنالَها «الأذهان»؛ أن تُقالَ وتُحكَى. تفسيرٌ في غاية الدقّة.

أبو الحسن الأشعريُّ وجُمهورُ الأمّة الإسلاميّة اعتنَقوا هذا التوحيدَ المتوسّطَ العلويّ؛ ما أفرَطوا ولا فرَّطوا.

لعلّ أوّلَ مَنْ اعتنَق هذا التوحيدَ هو الحسنُ البصريُّ؛ سُئل: هل تصفُ ربَّك؟ فأجاب: «نعم، (أصفُه) بغيرِ مِثالٍ»([52]).

ونادَى إمامُنا الباقر، قَبل أن ينادىَ الجَعدُ ومُقاتِل، بسندٍ موثَّقٍ: «إنّ ربّي… كان ولم يزَل حَيّاً بلا كَيْفٍ»([53]).

هذا الموقفُ الباقر، الباهر، هو التوسُّط بعَيْنِه: إثباتٌ لصفة ﴿الْحَيّ﴾ ونفيٌ للكَيْف عنها: لا نفيٌ، ولا تكييفٌ.

اتّخذَت أمّتُنا الإسلاميّة كلامَ الإمام الباقر «ضابطاً» في جميع الصفات الواردة في القرآن والسُّنة النبويّة:

سُئل أبو حَنيفةَ عن قول النبيّ|: «يَنزِلُ اللهُ…»؟ فقال: «يَنزِلُ بلا كَيفٍ»([54]).

قال مالكُ بنُ أنَس، بسندٍ صحَّحه الألبانيُّ: «الكَيفُ غيرُ معقول، والاستواءُ منه غيرُ مجهول»([55]).

قال الأشعريّ: «جملةُ ما عليه أهلُ الحديث والسُّنة… أنّ له يدَين بلا كَيْف… وأنّ له عينين بلا كَيْف»([56]).

قال الوليدُ بنُ مسلِم: «سُئل الأوزاعيُّ ومالكٌ وسُفيانُ الثَوريُّ والليثُ بنُ سعدٍ عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه؛ فقالوا: أمِرّوها كما جاءت بلا كيفيّة»([57]). لا نفيٌ كنفي المعطِّلة، ولا تكييفٌ كتكييف المشبِّهة؛ توسُّطٌ.

قال التِرمِذيّ: «وقد رُوي عن النبيّﷺ رواياتٌ كثيرةٌ… أنّ الناسَ يَرَون رَبَّهم، وذِكرُ القَدَم وما أشبَه هذه الأشياء. والمَذهبُ في هذا عند أهل العِلم مِنَ الأئمّة، مِثل: سُفيانَ الثوريِّ ومالكِ بنِ أنَسٍ وابنِ المُبارَكِ وابنِ عُيَينةَ ووَكِيعٍ وغيرِهم، أنهم روَوْا هذه الأشياءَ، ثُمّ قالوا: تُروَى هذه الأحاديثُ، ونؤمِنُ بها، ولا يُقالُ: كيفَ؟

وهذا الذي اختاره أهلُ الحديث أن تُروى هذه الأشياءُ كما جاءت، ويؤمَنُ بها، ولا تُفسَّرُ، ولا تُتوهَّمُ، ولا يقال: كيف؟ وهذا أمرُ أهل العِلم الذي اختاروه وذهَبوا إليه»([58]). اختاروا التوسُّطَ في التوحيد؛ لا الإفراطَ، ولا التفريطَ.

لكنّ التيّارَ المُفرِطَ في التوحيد ما توقَّف، بل استمرّ في خراسان، على يدَي جَهم بن صفوان؛ قال: «إنّ البارئ لا يُقال: إنه شيءٌ»، لِمْ؟ «لأنّ الشيءَ ـ عنده ـ هو المخلوقُ الذي له مِثلٌ»([59]).

إنْ استُخدم لفظُ «الشيء» في المعنى الجَهميّ فلا بُدَّ مِنْ قبول الاعتقاد الجهميّ؛ ولا مشاحّةَ في الاصطلاح؛ لكنْ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللهُ﴾، فعبَّر عن الله بأنه «شيء». وهذا معناه أنّ جَهماً ضَحَّى بالقرآن مِنْ أجل الحفاظ على التوحيد، استمراراً لخطّ الجَعد بن دِرهَم؛ الغلوّ والإفراط في التوحيد.

فبرَز صادقُنا× ليُعلِنَ أنّ الله «شيءٌ بخلاف الأشياء»، وليعقِّب فوراً: «ارجِعْ بقولي: «شيءٌ» إلى إثباتِه»([60]).

المقطعُ الأول من الكلام دفاعٌ عن القرآن، والمقطعُ الثاني دفاعٌ عن التوحيد؛ دافَع الإمامُ عنهما معاً؛ النتيجةُ: قال إمامُ الأشاعرة: «قال المسلمون كلُّهم: إنّ البارئ شيءٌ لا كالأشياء»([61])، دافَعوا عن القرآن والتوحيد في آنٍ واحد؛

صرَّح مؤرِّخُ المعتزِلة الأوّل بأنّ «المعتزلة مُجمِعةٌ على أنّ الله ـ جَلَّ ذِكرُه ـ شيءٌ لا كالأشياء»([62]).

قال أبو حَنيفةَ: «هو شيءٌ لا كالأشياء، ومعنى «الشيء» إثباتُه»([63])، موافِقاً بل مطابِقاً لإمامِنا مطابَقةً تامّةً.

قال رأسُ الماتُريديّة: «معنى قولِنا: «شيءٌ لا كالأشياء» هو إسقاطُ مائيّة الأشياء»([64]).

صرَّح أوّلُ الشارحين لصحيح مُسلم بأنّ «أهلَ السُّنة يقولون: البارئُ سبحانه وتعالى شيءٌ لا كالأشياء»([65]).

لكنْ جاء في رسالة «الردّ على الزنادقة والجَهْميّة»: «قال أحمد: وقلنا: هو شيءٌ، فقالوا: هو شيءٌ لا كالأشياء، فقلنا: إنّ الشيءَ الذي لا كالأشياء قد عرَف أهلُ العقل أنه «لا شيء»، فعند ذلك تبيَّن للناس أنهم لا يؤمنون بشيءٍ»([66]).

ظاهرُ هذا الكلام هو أنّ أحمد يَرى أنّ اللهَ «شيءٌ كالأشياء»، وبما أنّ الكافَ للتشبيه فهو إمامُ المشبِّهة.

لكنّ هذه نتيجةٌ خاطئةٌ 100%؛ فأحمد يَرى اللهَ «كالأشياء» في كونِه شيئاً فقط، وهذا ما يراه أئمّتُنا أيضاً.

أحمدُ لم يَفْهَم عبارةَ «لا كالأشياء»، ولم يَعلَم بأنها إنما صدَرَت عن الإمام الصادق، لا عن جَهم بن صفوان.

البارئُ سبحانه وتعالى شيءٌ «كالأشياء» في الشيئيّة، «لا كالأشياء» في ما وراء الشيئيّة. فلا خلافَ في البَين.

أعلَن إمامُنا× التوسُّطَ في التوحيد بقلمِه الشريف، بسندٍ صحيحٍ: «لا نفْيَ ولا تشبيهَ»،

عقَّب إمامُنا قائلاً: «فتَعالَى اللهُ الذي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾»([67]).

بهذا الكلام نبَّه الإمامُ أمّةَ الإسلام على أنّ التوسُّطَ في التوحيد قد جاء في القرآن المجيد.

تنبَّهَت الأمّة الإسلاميّة، «مثل: سُفيانَ الثوريّ، ومالك بن أنَس، والزُهْريّ، والأوزاعيّ، وشُعبةَ؛

ثُمّ…يحيى بن سعيد، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سَلَمة، وعبد الله بن المبارَك، والفُضَيل بن عِياض، وسُفيان بن عُيَينةَ؛

ثُمّ… محمد بن إدريس الشافعيّ، وعبد الرحمن بن مَهديّ، ووَكِيع…، وابن نُمَير، وأبي نُعَيم، والحسن بن الربيع؛

ثُمّ…أحمد بن حَنبَل، وإسحاق بن راهْوَيْه، وأبي مسعود الرازيّ، وأبي حاتِم الرازيّ، و…محمد بن عاصم، وأُسَيد بن عاصم، وعبد الله بن محمد بن النُّعمان، ومحمد بن النُّعمان، والنُّعمان بن عبد السلام؛

ثُمّ …أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة، وأبي القاسم الطَبَرانيّ، و…عبد الله بن محمد بن جعفر أبي الشيخ…؛

ثُمّ بقيّةُ الوقت أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد… ابنُ مَنْدةَ الحافظ&…

فاجتمَع هؤلاء كلُّهم على… غير تشبيه… ولا تعطيل… ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾…

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ يَنفي كلَّ تشبيهٍ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ يَنفي كلَّ تعطيلٍ؛ فهذا مذهبُ أهل السُّنة والجَماعة»([68]).

قال أبو حَنيفةَ: «أفرَط جَهمٌ في نفْي التشبيه حتّى قال: إنه سبحانه وتعالى ليس بشيء، وأفرَط مقاتلٌ حتّى جعَلَه مِثلَ خَلقِه»([69]).

وأفرَط أبو حَنيفةَ نفسُه في مُقاتِلٍ حتّى جعَله مُشبِّهاً، وقد صرَّح مُقاتِلٌ بأنه سبحانه وتعالى «لا يُشبِهُ غيرَه، ولا يُشبِهُه غيرُه»([70]).

قال الطَحاويّ: «ذِكرُ بيان اعتقاد أهل السُّنة والجَماعة، على مذهب… أبي حَنيفة… وأبي يوسُفَ… و… الشيبانيّ…:

1ـ مَنْ لم يَتوقَّ النفيَ والتشبيه زَلَّ، ولم يُصِب التنزيه…

2ـ دِينُ الله في الأرض والسماء واحدٌ، وهو دِينُ الإسلام…، وهو بين الغلوّ والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل»([71]).

قال شارحُ البخاريّ: «وأمّا أهلُ السُّنة ففسَّروا «التوحيدَ» بـ: نفْي التشبيه والتعطيل»([72]). قالوا: التوحيدُ هو التوسُّط.

قال شارحُ الطَحاويّة: «النفيُ والتشبيهُ مرَضان مِنْ أمراض القلوب؛ فإنّ أمراضَ القلوب نوعان: مرضُ شُبهةٍ؛ ومرضُ شهوةٍ، وكلاهما مذكورٌ في القرآن… ومرضُ الشُبْهة لا شِفاءَ له إنْ لم يَتداركْه اللهُ برحمتِه»([73]).

هذا عن سَلَف أهل السُّنة، أمّا خَلَف أهل السُّنة فـ: سَلَفيّة، وأشاعرة، وماتُريديّة.

أمّا السَّلَفيّةُ فأمرُهم واضحٌ؛ حيثُ لا رأيَ لهم إلاّ رأيُ السَّلَف، وقد سَلَف؛ فما هو اختلافُهم مع الخَلَف؟

أدَقُّ مَن أجاب هذا السؤالَ العُضالَ في تأريخ الكلام هو محمد زاهد الكوثريّ. نقرأ: «والحاصلُ أنّ:

التفويضَ مع التنزيه مذهبُ جُمهور السَّلَف؛ لانتفاء الضرورة في عهدِهم،

والتأويلَ مع التنزيه مذهبُ جُمهور الخَلَف؛ حيثُ عَنَّ لهم ضرورةُ التأويل؛ لكثرة الساعين في الإضلال في زَمَنِهم. وليس بين الفريقين خلافٌ حقيقيّ؛ لأنّ كلَيْهما منزِّهٌ»([74])؛ لأنّ كلَيْهما يناديان بصوتٍ عالٍ: لا نفيَ، ولا تشبيهَ.

وأمّا الأشاعرةُ فأوَّلُهم أبو الحسن الأشعريّ، وأدَقُّ مَنْ قرَّر معتقَدَه هو محمد زاهد الكوثريّ، قال: «له رأيان: أحدُهما: عدمُ الخوض في الصفات، مع إثبات ما ثبَت في الكتاب والسُّنة؛ بدون تشبيهٍ ولا تمثيلٍ،

والآخَرُ: تأويلُ ما يجب تأويلُه، بما يوافقُ التنزيه؛ إذا عن ضرورة»([75]). وكلا الرأيين تنزيهٌ؛ لا نفيٌ ولا تشبيهٌ.

وأمّا الأشاعرةُ بَعد الأشعريّ فمِن الطبيعيّ أن يأخُذوا برأيه الأخير: التأويل؛ دونَ تشبيهٍ أو تعطيلٍ.

حَسبُنا مِن تصريحاتِهم ما سطَره الفخر؛ فإنه غايةٌ في الروعة والجمال، والعظمة والكمال، قال:

«1ـ نفيُ الإله تعطيلٌ مَحْضٌ، وإثباتُ أكثرَ مِن إلهٍ واحدٍ تشريكٌ وتشبيهٌ؛ وهما مذمومان،

والعَدْلُ هو إثباتُ الإله الواحد؛ وهو قولُ: «لا إله إلاَّ الله».

2ـ القول بأنّ الإلهَ ليس بموجودٍ ولا شيءٍ تعطيلٌ مَحْضٌ،

والقول بأنه جسمٌ وجوهرٌ مركَّبٌ من الأعضاء ومختصٌّ بالمكان تشبيهٌ مَحْضٌ،

 والعَدْلُ إثباتُ إلهٍ موجودٍ متحقِّقٍ بشرط أن يكون منزَّهاً عن الجسميّة والجوهريّة والأعضاء والأجزاء والمكان.

3ـ القول بأنّ الإلهَ غيرُ موصوفٍ بالصفات، من العلم والقدرة، تعطيلٌ مَحْضٌ،

والقول بأنّ صفاتِه حادثةٌ متغيِّرةٌ تشبيهٌ مَحْضٌ.

والعَدْلُ هو إثباتُ أنّ الإلهَ عالِمٌ قادرٌ حيٌّ مع الاعتراف بأنّ صفاتِه ليست حادثةً، ولا متغيِّرةً»([76]).

وأمّا الماتُريديّة فأمرُهم واضحٌ؛ إذ قلَّدوا في الكلام أبا حَنيفةَ، وقد ذَكرنا رأيَه ورأيَ أتباعِه في المقام.

قال الماتُريديّ: «وُصف اللهُ سبحانه وتعالى بالمُدرَك مِن خَلقه؛ للدَّلالة والعبارة؛ فقيل: «عالِمٌ» و«قادرٌ» ونحوُ ذلك؛ إذ:

في الإمساك عن ذلك تعطيلٌ، وفي تحقيق المعنى الموجود في خَلقِه تشبيهٌ؛ فـ:

وُصل به «لا كالعلماء» ونحوُه؛ ليُجعلَ نفيُ التشبيه ضمنَ الإثبات»([77]).

مِنْ مصاديق التوسُّط موقفُ أئمتِنا مِنَ القرآن: «ليس بخالقٍ، ولا مخلوق»؛ لا إفراطَ، ولا تفريطَ.

صرَّح ابنُ تيميّةَ بأنه «قد استفاض عن جعفر الصادق أنه سُئل عن القرآن: أخالقٌ هو أم مخلوقٌ؟

فقال: «ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ، ولكنّه كلامُ الله».

وهذا ممّا اقتدَى به الإمامُ أحمدُ في المِحْنة؛ فإنّ جعفرَ بنَ محمّدٍ من «أئمّة الدين» باتّفاقِ أهل السُّنة»([78]).

بل صرَّح أحمدُ نفسُه: «قال لي (إسحاقُ بنُ إبراهيمَ): عمَّنْ تَحكي أنه ليس بمخلوقٍ؟ قلتُ: عن جعفر بن محمّد»([79]).

اقتدَى واهتدَى أحمدُ بإمامِنا، فاقتدَى واهتدَى به جمعٌ من علماء وعظماء الأمّة «لا يُحصَوْن كثرةً»([80]). مَثَلاً:

قال سفيانُ بنُ عُيينةَ: «أدركتُ مَشايخَنا، مُنذُ سبعينَ سنةً…، يقولون: القرآنُ كلامُ الله، وليس بمخلوقٍ»([81]).

احتَجَّ البخاريّ، صاحبُ الصحيح، علَى أنّ القرآنَ «كلامُ الله، وليس بمخلوقٍ» بكلامِ الإمامِ الصادق؛ رواه عن «معاوية بن عمّار» الدُهنيّ الشيعيّ الإماميّ، الذي جَهِله الدكتور سامي النَشّار، فظنَّه «معاوية بن عمرو»!!([82]).

قال الدارِميّ: «وأمّا دعواكَ، أيّها المُعارِضُ، أن لم يَسبِقْ مِن السَّلَفِ في القرآنِ قولُ ولا خَوضُ أنه غيرُ مخلوقٍ فسنَقُصُّ عليكَ… عنهم ما يكذِّبُ دعواكَ، وسنَحكيه لكَ عن قومٍ منهم أعلَى وأعلمَ ممَّنْ حَكيْتَ عنهم مذهبَكَ…:

حدَّثَنا عليّ بنُ المَدِينيّ، حدَّثَنا موسَى بنُ داوودَ، حدَّثَنا مَعبَدٌ قَالَ: حدَّثَنا عَليٌّ، وهو ابنُ راشدٍ، عن معاويةَ بنِ عمّارٍ قالَ: قيلَ لجعفرِ بنِ محمّدٍ: القرآنُ خالقٌ أو مخلوقٌ؟ قال: ليس بخالقٍ، ولا مخلوقٍ، ولكنّه كلامُ الله»([83]).

احتَجّ نفسُه علَى إنكارِ القولِ بخلقِ القرآن، في كتابٍ آخَر له، بهذا القولِ نفسِه، بالسندِ نفسِه([84]).

احتَجّ اللالْكائيّ بكلامِ الإمامِ الصادقِ هذا، ثُمّ بكلامٍ آخَرَ له، لَم يَنقله عنه أحدٌ مِنْ محدِّثي الإماميّة، وهو: «لو كان خالقاً لعُبِد، ولو كان مخلوقاً لَنَفِد». روَى اللالكائيّ الكلامَين الصادقَين بتمامِ سندَيْهما([85]).

رأسُ الأشاعرة اعتزَل المعتزلةَ بعد 40 عاماً؛ لِمَ؟ اقتداءً بابنِ حَنبَل الذي اقتدَى بإمامِنا الصادق؛

يجيبُ الأشعريّ نفسُه: «صحَّت الروايةُ عن جعفر بن محمدٍ أنّ القرآنَ لا خالقٌ ولا مخلوقٌ»([86]).

هذا الموقفُ العظيمُ الخالدُ الرائدُ ما هو إلاّ تطبيقٌ للقاعدة الكلاميّةِ الإماميّةِ: «لا نفيَ ولا تشبيهَ»؛ كالتالي:

«لا نفيَ» لصفاتِ الله Ü لا نفيَ لكلامِ الله Ü كلامُ الله ليس هو الله Ü القرآنُ ليس بخالق.

«لا تشبيهَ» لصفاتِ الله Ü لا تشبيهَ لكلامِ الله Ü كلامُ الله ليس كالمخلوقات Ü القرآنُ ليس بمخلوقٍ.

الأمّةُ الإسلاميّةُ تأثّرَت بالقاعدةِ الكلاميّةِ الإماميّةِ: «لا نفيَ ولا تشبيهَ»،

ثُمّ تأثّرَت بهذا التطبيقِ الإماميّ الكلاميّ لهذه القاعدةِ الكلاميّةِ الإماميّةِ،

ثُمّ في آخِر مرحلةٍ عمَّمَتْ هذا التطبيقَ الإماميّ الكلاميّ على سائرِ صفاتِ الله؛ فقالت: «كلامُ الله: ليس بخالقٍ، ولا مخلوقٍ» Ü صفاتُ الله كلُّها لا هي هو، ولا هي غيرُه.

وهذا معناه أنّ الأمّةَ الإسلاميّةَ قد ذهبَت في تقليدِها لأئمتِنا^ إلى أبعد الحدود.

بل نَحتمل قويّاً أنّ رأسَ الأشاعرة إنما استقَى نظريّةَ «الكلام النفسانيّ» مِن كلام الإمام×. تقريرُه:

الكلامُ: إمّا لفظيٌّ مركَّبٌ مِنَ الحروف والأصوات؛ وإمّا نفسانيّ غيرُ مركَّبٍ مِنَ الحروف والأصوات؛

لكنّ الحروفَ والأصواتَ مخلوقةٌ، ومُحالٌ أن تكونَ غيرَ مخلوقةٍ؛ فالكلامُ اللفظيّ المركَّبُ منها مخلوقٌ؛

لكنْ: «كلامُ الله… لا مخلوق»؛ فهو غيرُ مركَّبٍ مِنَ الحروف والأصوات؛ فهو كلامٌ «نفسانيّ».

بل صرَّح الأشعريّ باستنباطِه أزَليّةَ الإرادة أيضاً منه: «الدليلُ على قِدَم الكلام هو الدليلُ على قِدَم الإرادة»([87]).

هذه الأسطُر القليلة حوَتْ نتائجَ وثمراتٍ رائعةً لامعةً جسيمةً جليلة؛ مِنْ أهمِّها وأجلِّها:

1ـ أنّ البخاريّ قد صرَّح مرّتَين باقتدائه واهتدائه بإمامِنا الصادق؛ فروَى ورأى كلامَه محتجّاً به.

إنّ هذا الموقفَ العظيمَ الجسيمَ يكشفُ لنا حقيقةً من أعظمِ الحقائق، دقيقةً من أعظمِ الدقائق؛ هي أنّ «عدمَ روايةِ» البخاريّ في صحيحِه عن إمامِنا الصادق ليس معناه «عدمَ الاحتجاج» بإمامِنا، أبداً وبتاتاً.

2ـ قولُ الأشعريّ: «صحَّت الروايةُ عن جعفرِ بنِ محمّدٍ أنّ…» يَحملُ رسالةً واضحةً لائحةً لنا؛ ألا وهي أنّ الأشعريّ يرَى قولَ الإمامِ الصادقِ حجّةً شرعيّةً؛ منجِّزةً ومعذِّرةً؛ لكنْ إنْ «صحّت الروايةُ عنه×».

وهذا الرأيُ الأشعريّ هو هو رأيُ علمائنا وعظمائنا نحن الإماميّة في أقوالِ وأفعالِ أئمّتِنا جميعاً.

بل وهذا الرأيُ الأشعريّ هو هو رأيُ علماء وعظماء الإسلام جميعاً في أقوالِ وأفعالِ رسولِ الله|.

3ـ أنّ الضابطةَ المشهورةَ بين أهلِ السُّنة في صفاتِ الله عزَّ وجلَّ، وهي أنها «لا هي هو، ولا هي غيرُه»، إنما هي مستقاةٌ ومستنبَطةٌ مِن قولِ إمامِنا الصادقِ في القرآنِ: «لا خالقٌ، ولا مخلوقٌ».

وثيقتان تأريخيّتان

من أعظم الوثائق الكاشفة للحقائق في تأريخ علم الكلام هي ما انفرَد بنقلِها مؤرِّخٌ معتزِليّ: «مناظَرةُ ابنِ أبي داوودَ لأحمدَ بنِ حنبلٍ في حضرةِ المعتصِم مشهورةٌ، وإنْ اختلَفَت الروايةُ في كيفيّتها. لكننا نذكُر أصحَّ ما قيل في ذلك، وكانت المناظَرةُ في شهرِ رمضانَ سنةَ 220هـ… قال ابنُ حَنبلٍ:… (ثُمّ احتَجَّ بحُجّتَين شرعيّتَين:)

1ـ قال اللهُ تعالَى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾.

2ـ وهذا ابنُ عمِّكَ جعفرُ بنُ محمّدٍ ـ أظُنُّه يَعنى الصادقَ ـ سُئل عن القرآن فقال: لا خالقٌ، ولا مخلوقٌ»([88]).

كلامُ ابنِ حَنبل، في مجلِس الخليفة، أمامَ عامّةِ المسلمين، من الموافقين والمخالفين، صريحٌ بـ:

1ـ تأثيرِ كلامِ إمامِ الشيعة في كلامِ إمامِ إخوانِهم السُّنة تأثيراً كلاميّاً لا حدودَ له.

2ـ احتجاجِ ابنِ حنبلٍ في مِحنتِه بالكتابِ أوّلاً، وبـ «عترتِي؛ أهل بيتِي» ثانياً؛ تطبيقاً لحديثِ الثقلَين.

كيف أجاب المعتزِلةُ هذه الحجّةَ الحنبليّةَ؟

أجاب الناطقُ الرسميّ باسمِ المعتزِلةِ بهذا الجواب: «أمّا هذا فلا نَعرفُه»([89]).

هذا هو أروعُ جوابٍ؛ إذ يكشفُ لنا أنّ سببَ الأسباب لخلاف المعتزِلةِ مع الأئمّةِ والأمّةِ هو: عدمُ المعرفةِ.

هذه حقيقةٌ تأريخيّة ـ كلاميّة، من أعمِّ وأعظَمِ الحقائقِ التأريخيّة ـ الكلاميّة، في تأريخِ الأمّةِ الإسلاميّة:

المعتزِلةُ إنما اعتزَلوا الأئمّةَ والأمّةَ لقصورِ المعتزِلةِ في فهمِ ودركِ ومعرفةِ كلامِ الأئمّة، وعدمِ قصورِ الأمّة.

ونحن نعلم بأنّ «الناس أعداءُ ما جَهلوا». فالمعتزلةُ إنما عادت الأئمّةَ والأمّةَ لجهلِها وعدمِ معرفتِها بكلامِهم.

من أعظم الوثائق الكاشفة للحقائق في تأريخ علم الكلام هي ما انفرَد بنقلِها مؤرِّخٌ معتزِليّ: «إنّ واصلَ بنَ عطاءٍ نزَل علَى إبراهيمَ بنِ يَحيَى… فقال جعفرُ بنُ محمّدٍ: قوموا بنا إليه، فجاءه والقومُ عنده، فقال: أمّا بعد… إنّكَ يا واصلُ أتَيتَ بأمرٍ تُفرِّقُ به الكلمة، وتَطعنُ به علَى الأئمّة، وأنا أدعوكَ إلَى التوبة»([90]).

هذا الكلام، الصادرُ عن الإمام×، كالصريح بأنّ كلمةَ الأمّة كانت مجتمعةً علَى اتّباعِ الأئمّة.

هذا الكلام، الصادرُ عن الإمام×، كالصريح بأنّ الأئمّةَ والأمّةَ كانوا سائرين على الصراطِ المستقيم.

خرَج عن هذا الصراطِ المستقيم: الخوارجُ بطعنِهم في إمامِ الأمّةِ عليٍّ؛ والمعتزِلةُ بطعنِهم في إمامِ الأمّةِ جعفر: «وإنّكَ يا جعفر وانِي الهِمّة؛ شغَلكَ هَمُّ الدُنيا، فأصبحتَ بها كَلِفاً…» ([91]). هذا هو ما خاطَب به واصلٌ إمامَ الأمّة.

 

6ـ الاستدلالُ عليه

أئمتُنا علَّموا أمّتَنا الاستدلالَ على التوحيد بأسهلِ المعانى وأسلسِ الألفاظ؛ صرَّح الدكتور النَشّار: «قد تُركَت لنا مناقَشاتٌ كثيرةٌ بين الإمام جعفرٍ الصادقِ وبين كثيرين مِن المانَويّة»([92]).

قال فخرُ الأمّة: «رُوي أنّ بعضَ الزنادقةِ أنكَر الصانعَ عند جعفرِ بنِ محمّدٍ الصادقِ، فقال جعفرٌ: ما حرفتُك؟ فقال: التجارةُ؛ فقال: هل رَكبْتَ البَحرَ؟ قال: نعم، قال: هل رأيت أهوالَه؟ قال: نعم؛ هاجَت في بعضِ الأيّامِ رياحٌ هائلةٌ، فكسّرَت السُفنَ، وغرّقَت المَلاّحِين، فتعلّقتُ أنا ببعضِ ألواحِ السفينةِ، ثُمّ ذهَبَ ذلك اللوحُ عنّي، فوجدتُ نفْسي في تلاطُمِ الأمواجِ، حتّى اندفعتُ إلى الساحلِ، فقال جعفرٌ: مُذْ كان اعتمادُكَ مِنْ قَبلُ علَى السفينة والمَلاّحِ، وعلَى اللَّوحِ، فلمّا ذهبَتْ هذه الأشياءُ عنكَ هل أسلمتَ [نفْسَكَ‏] للهلاكِ أم كنتَ تَرجو النَّجاةَ؟ قال: بل كنتُ أرجو النَّجاةَ؛ قال: ممَّنْ تَرجوها؟ فسَكَت، فقال جعفرٌ: إنّ إلهَكَ هو الذى [كنتَ‏] ترجوه في ذلك الوقتِ، ونجَّاكَ مِن الغَرق، وأوصلَكَ إلَى السلامةِ»([93]).

هكذا كان موقفُ أئمتِنا أمامَ الزنادقةِ؛ الاستدلالُ لا الاستفزازُ، الفكرُ لا الفَتكُ.

وفي المقابل موقفُ واصل: «أما لهذا الأعمَى المُلحِد المُشنَّف، المُكنَّى بأبي مُعاذٍ، مَن يَقتلُه؟! أما واللهِ لولا أنّ الغِيلةَ سَجيّةٌ مِن سَجايا الغاليةِ لَبعَثتُ إليه مَن يَبعَجُ بَطنَه على مَضجَعِه، ويَقتلُه في جَوفِ مَنزِلِه وفي يومِ حَفلِه»([94]). ما هي نتيجةُ موقفِ واصل؟

يُذعِنُ ويَعترفُ المعتزِلةُ بأنفسِهم بثمرةِ هذا الاستفزازِ والتهديدِ بالفتكِ: «فلمّا تَبرَّأ منه هَجاه، فقال:

ما لِي أشايِعُ غَزّالاً لهُ عنُقٌ *** كنِقنق الدَوِّ إنْ وَلَّى وإنْ مَثَلا؟!

عُنْقَ الزَرافةِ؛ ما بالِي وبالُكمُ *** تُكفِّرون رجالاً كفَّروا رجُلا؟!»([95])

وما هي ثمرةُ وحَصيلةُ موقف أئمتِنا، الفكريّ، الاستدلاليّ؟ صرَّح فخرُ الأمّة: «فأسلَم الرجُلُ علَى يدِه»([96]).

أئمتُنا علَّموا أمّتَنا أن تقفَ أمامَ الزنادقة المَلاحِدةِ موقفاً علميّاً، فكريّاً، استدلاليّاً، لا قَمعيّاً أو استفزازيّاً.

أوّلُ مَن تعلَّم هذا الدرسَ الإماميّ ـ الكلاميّ هو زنديقٌ أسلَم: هشامُ بنُ الحكَم؛

كان «مِن غِلمان أبي شاكر، وأبو شاكر زنديقٌ»([97])، فصنَّفَ هِشامٌ بَعدَ إسلامِه كتابَين في الردّ عليهم([98]).

صرَّح الأستاذُ النَشّار: «قد تُركَت لنا مناقَشاتٌ كثيرةٌ بين الإمام جعفرٍ الصادقِ وبين كثيرين مِنَ المانَويّة»([99])؛ لكنْ: سؤالٌ عُضالٌ يَطرحُ نفسَه، بحِدّةٍ وشِدّةٍ بالغتَين: أين هي هذه المناقَشاتُ الخالدةُ الرائدةُ في كتُب أهل السُّنة؟

أرُونا ودُلّونا، يَرحمْكم اللهُ، ولو علَى مناقَشةٍ واحدةٍ من تلك المناقَشات الـ «كثيرة» الصادقةِ لصادقِنا.

إمامُنا الصادقُ، كما صرَّح المرحومُ النَشّارُ، ناقَش «كثيرين مِنَ المانَويّة»، سَمُّوا لنا ولو واحداً منهم.

لو بحَثنا كتُبَ علماءِ وعظماءِ أهل السُّنة لَما وجَدنا ذِكراً، أبداً وبَتاتاً، لهذه المناقَشاتِ، إلاّ إشارةً «غبيّةً»؛

سطَر شخصٌ مِن أعلم علماءِ وأعظم عظماءِ أهل السُّنة في وصف حال «الجَعد بن دِرهَم» ما يَلي:

«وللجَعدِ أخبارٌ كثيرةٌ في الزَندقةِ؛ منها أنه جعَل في قارورةٍ تُراباً وماءً، فاستحالَ دُوداً وهوامَّ، فقال: أنا خلَقتُ هذا؛ لأنّي كنتُ سببَ كَونِه، فبلَغ ذلك جعفرَ بنَ محمّدٍ، فقالَ: ليقُل: كم هو؟ وكم الذُكْرانُ منه والإناثُ؟ إنْ كان خلَقه، وليأمُرِ الذي يَسعى إلَى هذا الوجهِ أن يَرجِعَ إلَى غيره، فبلَغه ذلك، فرَجَع»([100]).

هذا ما سطَره الحافظُ الكبيرُ النِّحريرُ ابنُ حجَر العَسقَلانيّ، صاحبُ المؤلَّفاتِ الفخمةِ والمصنَّفاتِ الضخمةِ؛

نقولُ معلِّقين عليه: قَبل كلِّ شيءٍ، نَشكره علَى ذِكرِه وتذكيرِه أهلَ السُّنة بأنّ إمامَنا الصادقَ هو هو الذي كان في واجهةِ مواجهةِ الزنادقةِ والملاحدةِ، وكان يَدحَضُ شُبُهاتِهم بمعجزةِ بيانِه؛ فهو هو الذي دافَع عن الله أمامَ المشكِّكين في وجودِ الله، وهو هو الذي حفِظ المجتمعَ الإسلاميّ مِن الضلال وعقيدتَه مِن الزوال.

شُكراً جزيلاً وثَناءً جميلاً لسيّدِنا وإمامِنا الصادقِ علَى ما قدَّم، ولحافظِنا ابنِ حجَرٍ علَى ما ذَكّرنا وذَكّرَ أمّتَنا به.

ثُمّ نقولُ: هل كان الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ «زِنديقاً» حقّاً؟ أبداً وبَتاتاً، بل بالعكسِ تماماً، كان غالياً في التوحيد!!

لقد مَرّ علينا سابقاً، عندما بحَثنا تأثيرَ أئمتِنا في «التوسُّط» في التوحيد، أنّ الجَعدَ هو أوّلُ مَن غَلا في التوحيد.

إنه ضَحَّى بالتنزيل مِن أجلِ الحفاظِ علَى التوحيد؛ فكيف يرَى نفسَه خالقاً، ويشكِّكُ في كونِ اللهِ خالقاً؟!

هذه أعظمُ زلّةٍ وقَع فيها أعظمُ أعاظمِ وأكبرُ أكابرِ أهل السُّنة؛ وهي إنْ دَلّت على شيءٍ فإنما تدُلُّ علَى أنّ مناقَشات إمامِنا الصادق، الخالدة، الرائدة، العظيمة، الجسيمة، الحاسمة، الحازمة، مع المانَويّة، في توحيدِ الله، لَم يَعتنِ بها أهلُ السُّنة الاعتناءَ الكافيَ، بل وحتَى الاعتناءَ اللازمَ؛ بحيثُ لم يَعلم حافظُهم اسمَ الذين نوقِشوا!!

في المقابل، نرَى علماءَنا وعظماءَنا قد اعتنوا أكبرَ اعتناءٍ واهتمّوا أعظمَ اهتمامٍ بهذه المناقشاتِ التوحيديّة([101])؛ فلولا علماؤنا وعظماؤنا لضاعت وانمحَت واندرسَت تلك المناقشاتُ،فلم تبْقَ منها إلاّ هذه الإشارةُ الـ «غبيّةُ».

لذلك فإننا ندعو إخوانَنا، بل أنفسَنا، أهلَ السُّنة، إلى الانتهالِ مِنْ هذا المَعينِ الصافي للإمامِ الصادقِ.

 

التنزيهُ المكانيّ

سؤالٌ يَطرَحُ نفسَه، بحِدّةٍ وشِدّةٍ بالغتَين: أين الله؟

سطَر الإسفَرايينيُّ(471هـ): «لا يجوزُ عليه الكيفيّةُ… والأينيّةُ… وقد جاء فيه عن أميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه أشفَى البيان، حين قيل له: أين اللهُ؟ فقال: إنّ الذي أيَّنَ الأينَ لا يُقالُ له: أينَ؟…» ([102]).

تلا الإسفَرايينيّ الشهرستانيّ (479 ـ 548هـ)، فسطَر: «لا يجوزُ التشبيهُ بالصفاتِ التي يَشتركُ فيها الخَلقُ…؛ لأنّ عليّاً× كان يقولُ في توحيدِه: …الذي أيَّنَ الأينَ لايُقالُ له: أينَ؟»([103]).

تلاهما الفخرُ الرازيّ (544 ـ 606هـ)، فسطَر: «قيل لعليّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه: هل رأيتَ رَبّكَ؟ فقال: لا أعبُدُ رَبّاً لَم أَرَه، فقيل له: كيف رأيتَه؟ فقال: ما رأته العيونُ بمشاهدةِ العِيان، ولكنْ رأته القلوبُ بحقائقِ العرفان، فقيل له: صِفْ ربَّك، فقال: إنّ رَبّي لطيفُ الرحمة، كبيرُ الكِبرياء، جَليلُ الجلالة، قَبلَ كُلِّ شيءٍ وليس له قَبلٌ، وبَعدَ كُلِّ شيءٍ وليس له بَعْدٌ، ظاهرٌ لا بتأويلِ المباشَرة، باطِنٌ لا بالمُباعَدة، سميعٌ بلا آلةٍ، بصيرٌ بلا حَدَقةٍ، لا تَحُدُّه الصفاتُ، ولا تأخذُه السِّناتُ، القِدَمُ وجودُه، والأبَدُ أزَليّتُه، الذي أيَّن الأينَ لا يُقالُ له: أينَ؟…»([104]).

نقَل الفخرُ كلامَ الإمام× بطُولِه، مُعلِناً اقتداءَه واهتداءَه بجميع مَطالبِه، دونَ أيّ استثناء، أبَداً وبَتاتاً.

ما اكتفى فخرُ الأمّة الإسلاميّة بنقله مرّةً واحدةً، بل وسطَر مرّةً أخرى أروعَ ما يُمكنُ أن يُسطَر: «المجسِّم لا يُمكنُه أن يَعقِلَ كونَه سبحانه وتعالى مُبايِناً للعالَم إلاّ بالحيِّز والجهة… الذي يقولُه المجسِّمُ مِن عمل الوَهْم والخَيال… ويَظهرُ منه… أنّ الحقّ أنه سبحانه وتعالى مُبايِنٌ للعالَم لا بسبب الحيِّز والجهة… ولهذا قال الإمامُ الأجَلُّ عليّ بنُ أبي طالب×: الذي أيَّن الأينَ لا يُقالُ له: أينَ؟ والذي كَيَّفَ الكَيفَ لا يُقالُ له: كَيفَ؟»([105]).

كان على هذا التأثُّر بعليٍّ والتمسُّك بكلامِ عليٍّ الأمّةُ الإسلاميّة؛ شيعيّة وسُنِّية، إلى أن سطَر ابنُ تَيميّة: «إنما غايتُكم أن تتمسَّكوا بأثرٍ مكذوبٍ، كما تذكرونه عن عليٍّ أنه قال: الذي أيَّن الأينَ لا يُقالُ له: أينَ؟ وهذا مِن الكذِب على عليٍّ باتّفاقِ أهل العلم»([106]). فلو كان يَراه كلامَ عليٍّ حقّاً لتأثَّر وتمسَّك به، كسائر العلماء العظماء. لكنّه يَدَّعي أنّ أهلَ العِلم «كلَّهم» مُتَّفِقون على أنّ تعبيرَ «الذى أيَّن الأينَ لا يُقالُ له: أينَ؟» ليس بعلويٍّ؛

فهو يَدَّعي أنّ الإسفَرايينيّ والشهرستانيّ والفخرَ الرازيّ، علماءَ وعظماءَ الأمّة الإسلاميّة، ليسوا من «أهل العلم»!!

وهناك موقفٌ علويّ عمليّ حاسمٌ صارمٌ أمام مَنْ وصَف اللهَ عزَّ وجلَّ بأنه «احتجَب بسَبع».

هذا الموقفُ الخالد، الرائد، ورَد في كتُب الفريقَين، بطريقَين عند كلٍّ مِن الفريقَين([107]). تأثَّر بهذا الموقف:

الخوارج: طبيعيٌّ أن يتأثَّروا به؛ فهم علويّون في كلّ شيءٍ إلاّ في التحكيم؛ لذا نقَله مفسِّرُهم بصورتَين([108]).

المعتزلة: قال القاضي عبدُ الجبّار: «والمرويّ عن عليٍّ× أنه سَمِع رجُلاً يَحلِفُ: والذي احتجَب بسَبع سماوات، فعَلاه بالدُّرةِ، ثُمّ سأله، فقال: أكُفرٌ بَعدَ الإيمان؟ قال: أكفِّرُ عن يميني؟ قال: «لا… إنكَ حلَفتَ بـ «غيرِ الله»»؛…» ([109]).

الأشاعرة: أوّلُهم رأسُهم، وله رأيان في المسألة:

الأوّلُ: إنّ «أهل الإسلام مِن حَلفِهم جميعاً: لا والذي احتجَب بسَبع سماوات»([110]).

الآخَرُ والآخِرُ: رأيُ أئمّةِ المذهب الأشعريّ بَعد الأشعريّ، وهو هذا الموقفُ العلويّ؛ روَوْه بسندَين ومتنَين([111]).

كانت الأمّةُ الإسلاميّة؛ شيعيّة وسُنّية، متّفقةً مؤتلفةً على الاقتداء والاهتداء بهذا الموقف العلويّ، إلى أن جاء ابنُ تَيميّةَ، فنادَى: «الجَهْميّةُ لاتُثبِتُ له حُجُباً أصلاً؛ لأنه عندهم ليس «فوقَ العرش»، ويروُون الأثرَ المكذوبَ عن عليٍّ أنه سَمِع قَصّاباً يَحلفُ: لا والذي احتجَب بسَبع سماوات… قال: …حلَفتَ بغيرِ الله، فهذا لا يُعْرَفُ له إسنادٌ…» ([112]).

يَدَّعى ابنُ تَيميّة، بضِرسٍ قاطع، أنّ هذا النصَّ إنما هو أثرٌ مكذوبٌ عن عليٍّ، وهذه أعظمُ زلّةٍ وقع فيها؛ فقد:

سطَر أوثَقُ مَن سطَر سيرةَ أمير المؤمنين×: «[1ـ] حدَّثنا محمدٌ قال: حدَّثنا الحسَنُ قال: حدَّثنا إبراهيمُ قال، [2ـ] وحدَّثني بَشيرُ بنُ خَيثمةَ المراديّ قال: حدَّثنا عبدُ القُدّوس، عن أبي إسحاقَ، عن الحارث، عن عليٍّ× أنه دخَل السوقَ فقال: يا مَعشرَ اللَحّامِين، مَن نفَخ منكم في اللحم فليس منّا، فإذا هو برجُلٍ مُولّيه ظَهرَه، فقال: كلاّ والذي احتجَب بالسَّبع، فضرَبه عليٌّ… علَى ظَهره، ثُمّ قال: يا لَحّامُ، ومَن الذي احتجَب بالسَّبع؟ قال: رَبُّ العالَمين، يا أميرَ المؤمِنين، فقال له: أخطأتَ؛ ثَكلَتكَ أمُّكَ، إنّ اللهَ ليس بينه وبين خَلقِه حِجابٌ؛ لأنه معهم أينما كانوا، فقال: ما كفّارةُ ما قلتُ يا أميرَ المؤمِنين؟ قال: أنْ تَعلمَ أنّ اللهَ معكَ حيثُ كنتَ»([113]). هذا هو التنزيهُ المكانيّ.

نعم، السنَدُ فيه مجهولٌ، لكنّ المتنَ موقفٌ تأريخيّ ثابتٌ عن عليٍّ؛ لاستبعادِ صدورِ هكذا موقفٍ عن غيرِه.

ما اكتفَت الأمّةُ الإسلاميّةُ بكونِها علويّةً، بل وخطَتْ خطوةً إلى الأمام في نفْي المكان فأصبحَت «جعفريّة»:

قال القاضي الباقِلاّنيّ (338 ـ 403هـ): «مسألة: ويجبُ أن يُعلمَ أنّ كلَّ ما يدلّ على الحدوث أو على سمة النقص فالربُّ سبحانه وتعالى يَتقدّسُ عنه؛ فمِنْ ذلك: أنه سبحانه وتعالى متقدِّسٌ عن الاختصاص بالجهات، والاتّصاف بصفات المُحْدَثات، وكذلك لا يوصَف بالتحوّل والانتقال، ولا القيام ولا القعود…؛ لقولِه سبحانه وتعالى… وقال جعفرُ بنُ محمد الصادق×: «مَن زعَم أنّ اللهَ في شيءٍ أو مِن شيءٍ أو على شيءٍ فقد أشرَك؛ لأنه لو كان على شيءٍ لكان محمولاً، ولو كان في شيءٍ لكان محصوراً، ولو كان مِن شيءٍ لكان مُحْدَثاً»، واللهُ يَتعالَى عن جميعِ ذلك»([114]).

هذا النصُّ، مِن أعظم شخصيّةٍ كلاميّةٍ عند الأشاعرة بَعد الأشعريّ، يدلُّ على اعتقادِه بـ:

1ـ أنّ كلامَ الإمام× دليلٌ وحُجّةٌ، كما أنّ كلامَ الله عزَّ وجلَّ دليلٌ وحُجّةٌ.

2ـ أنّ إمامَنا يُعبَّرُ عنه بـ «×» كما أنّ نبيَّنا يُعبَّرُ عنه بـ «×»؛ هذا منتهَى الإكرام والإعظام.

3ـ أنّ الشِركَ، أخطرَ مسائل الكلام، إنما زمامُه بيد الإمام؛ فمَن سمَّاه الإمامُ مشرِكاً فهو مشركٌ.

وجاء بَعدَه المتكلِّمُ الأشعريّ، أبو القاسم القُشَيريّ (376 ـ 465هـ)، ليَحتجَّ وليَستدِلَّ بنَصَّين صادقَين:

الأوّلُ: ما ذَكرناه، نقَله كما نقَله الباقِلاّنيّ، حَرفاً حَرفاً.

الثاني: تفسيرُ إمامِنا قولَه عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ بأنّ «مَنْ توهَّم أنه بنفسِه دَنا جعَل ثَمَّ مسافةً؛ إنما التَداني أنه كلَّما قَرُب منه بَعُد عن أنواع المعارف؛ إذ لا دُنوَّ ولا بُعْدَ»([115]).

بقيَت الأمّةُ الإسلاميّةُ؛ شيعةً وسُنّةً، متمسِّكةً بقول إمامِنا في نفْي المكان عن الله أعواماً ودهوراً، إلى أنْ جاء ابنُ تَيميّةَ (661 ـ 728هـ)، فقال: «هذا الكلامُ وأشباهُه ممّا اتّفَق أهلُ المعرفة على أنه مكذوبٌ على جعفر…

والكذِبُ على جعفرٍ كثيرٌ منتشِرٌ، والذي نقَله العلماءُ الثِقاتُ عنه معروفٌ؛ يخالِفُ روايةَ المفترِين عليه»([116]). هذا نصٌّ بأنّ ابنَ تيميّةَ مُسلِّمٌ مُصدِّقٌ بكلّ ما «نقَله العلماءُ الثِقاتُ» عن إمامِنا، في العقائد والأخلاق والأحكام. لكنّ ابنَ تَيميّة، بروحيّتِه العصبيّة، يَحكم بكلّ بساطةٍ بالوضع والكذِب على كلامٍ للإمام، اتَّفَق الفريقان على نقلِه.

رَدَّ على هذا الكلام علماءُ وعظماءُ الأشاعرة، وفي طليعتِهم مُعاصِرُه ابنُ جَهبَل الكُلاّبيّ (670 ـ 733هـ)؛ قال: «البُرهانُ الأوّلُ: وهو المُقتبَسُ مِن ذي الحَسَب الزَكيّ والنَّسَب العليّ، سيّدِ العلماء ووارثِ خيرِ الأنبياء، جعفرٍ الصادق رضي الله عنه، قال: «لو كان اللهُ في شيءٍ لَكان محصوراً»؛ وتقريرُ هذه الدَلالة أنه…» ([117]).

نُعيدُ: بقيَت الأمّةُ الإسلاميّةُ؛ شيعةً وسُنّةً، متمسِّكةً بقول إمامِنا في نفْي المكان عن الله أعواماً ودهوراً؛ لكنْ كيف نفَت المكانَ عن الله وقد تَلَت قولَه عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ﴾ سِتَّ مرّاتٍ في القرآن؟! إنما نفَته موافَقةً لإمام الكلام×، الذي نبَّهها على أنّ «اللهَ ـ تعالَى ـ خلَق العرشَ إظهاراً لقدرتِه، لا مكاناً لذاتِه».

لكنّ مِنْ أعجب العجائب، وأغرب الغرائب، غُربة نسبة هذا النصّ الخالد الرائد إلى عليّ بن أبي طالب؛

فقد ذَكر هذا النصَّ علَمان مِنْ أعلام التصوّف، وكأنّه مِن إنشائهما نفسَيْهما؛

«قال الواسطيّ: أظهَر العرشَ؛ إظهاراً لقدرتِه، لا مكاناً لِذاتِه؛ إذ الذاتُ ممتنِعٌ عن الإحاطةِ به والوقوفِ عليه»([118])،

«وقال ابنُ عطاءٍ: …خلَق العرشَ؛ إظهاراً لقدرتِه، لا مكاناً لِذاتِه»([119]).

وذَكره تقيّ الدين الحِصنيّ، في مصنَّفَيْه، ناسباً إيّاه إلى «أهل التحقيق»؛ قال في كلا المصنَّفَين: «وقال أهلُ التحقيق: ذَكر العرشَ؛ إظهاراً لقدرتِه، لا مكاناً لِذاتِه»([120]).

فالأمّةُ الإسلاميّةُ، بعلمائها وعظمائها، لم تكن تعلم بأنّ هذا النصَّ الكلاميّ إنما هو إماميٌّ، إلى أن نبَّهها من غفلتِها رجُلٌ «مِنْ أئمةِ الأصول وصدورِ الإسلام، بإجماعِ أهل الفضل والتحصيل»([121])، ألا وهو: الفارِقُ بين الفِرَق، أبو منصور عبدُ القاهر بن طاهر البغداديّ التَميميّ الإسفَرايينيّ(429هـ)؛ قال: «اتَّفق جُمهورُ أهل السُّنة والجَماعة… على أنه (سبحانه وتعالى) لا يَحويه مكانٌ… وقد قال أميرُ المؤمِنين عليّ رضي الله عنه: «إنّ اللهَ ـ تعالَى ـ خلَق العرشَ؛ إظهاراً لقدرتِه، لا مكاناً لذاتِه»([122]).

لقد أفشَى لنا هذا العالِمُ العظيمُ سِرَّ اتّفاق «جُمهور أهل السُّنة والجَماعة» على نفْي المكان عن الله،

مع أنّ الظاهرَ بَدْواً من كلام الله المكرَّر ستَّ مرّاتٍ هو إثباتُ المكان لله سبحانه وتعالى.

فلو كانت الأمّةُ الإسلاميّةُ تقول: «حَسْبُنا كتابُ الله»، ولم تقتَدِ وتهتَدِ بإمامِنا، لكانت تُثبِتُ المكانَ لله عزَّ وجلَّ.

هذه حقيقةٌ رائعةٌ ناصعةٌ لامعةٌ جامعةٌ مانعةٌ في تأريخ الكلام الإسلاميّ، نبَّهَنا عليها عبدُ القاهر البغداديّ.

هذا الرجُلُ العظيم لم يَكتَفِ بنقلِ هذا النصِّ العلويِّ العظيم، بل عقَّبه فوراً بنصٍّ علويٍّ عظيمٍ آخَر؛ قال: «وقال أيضاً: قد «كان ولا مَكان».» هذا النصُّ، خلافاً للنصّ السابق، ذاعَتْ وشاعَتْ علويّتُه بين الفريقين؛ لكنْ لم يَذكر أحدٌ مِن علماء وعظماء الأمّة الإسلاميّة قِصّةَ صدورِه عن عليٍّ، إلاّ رجُلٌ واحدٌ أيضاً، ألا وهو: «الأميرُ الزاهدُ، أبو الحسين ورّامُ بنُ أبي فِراسٍ… مِن أولاد مالكِ بنِ الحارث الأشتر النَخَعيّ… عالِمٌ فقيهٌ صالحٌ»([123])؛ قال: «رُوي عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه أنه حضَر في مجلِس عمَر بن الخطّاب يوماً، وعنده كعبُ الأحبار؛ إذ قال عمَر: يا كعبُ، أحافظٌ أنتَ للتوراة؟ فقال كعبٌ: إنّى لأحفَظُ منها كثيراً، فقال رجُلٌ… في المجلس: يا أميرَ المؤمنين، سَلْه: أين كان اللهُ جلَّ جلالُه قَبلَ أن يَخلقَ عرشَه؟ (الجوابُ لا يوجَدُ في القرآن)، فقال عمَر: يا كعبُ، هل عندكَ مِنْ هذا عِلمٌ؟ فقال كعبٌ: نعَم… نجدُ في الأصل الحكيم أنّ اللهَ… كان… قبل خَلق العرش… على صخرة بيت المَقْدِس في الهواء…، فالتفَتَ عليٌّ إلى كعبٍ، فقال: «غَلِطَ أصحابُكَ، وحرَّفوا كتُبَ الله، وفتَحوا الفِريةَ عليه. يا كعبُ، وَيحَك، إنّ الصخرةَ التي زعمتَ لا تَحوي جلالَه، ولا تَسَعُ عظمتَه، والهواءَ الذي ذَكرتَ لا يَحوزُ أقطارَه…، وعَزّ اللهُ وجَلَّ أن يُقالَ: له مكانٌ يومَأ إليه…، ولكنْ: كان ولا مَكان؛ بحيثُ لا تَبلُغُه الأذهان…».

فضَحِكَ عمَرُ…، وقال: هذا هو الأمرُ، وهكذا يكونُ العِلمُ…، لا عِشتُ إلى زمانٍ لا أرى فيه أبا حسَنٍ»([124]).

حَدَثٌ تأريخيّ ـ كلاميّ هامّ، ما سطَره أحدٌ إلاّ وَرّام، لكنّ علويّةَ تعبيرِ «كان ولا مكان» سطَره الفريقان([125]).

على أثَر هذا الموقفِ الإماميّ ـ الكلاميّ دخَل مصطلَحُ «كان ولا مكان» في قاموس الكلام والإسلام.

أوّلُ علماء وعظماء الأمّة، الذي سجَّل اعتناقَه لهذا الاعتقاد الإماميّ ـ الكلاميّ، هو الحسَنُ البصريّ، بل:

أوّلُ علماء وعظماء الأمّة، الذي عقَّب تعبيرَ «كان ولا مكان» بتعبيرِ «وهو الآنَ كما كانَ» هو الحسَنُ البصريّ([126]).

نعم، التعبيرُ بـ «وهو الآنَ كما كانَ» تعبيرٌ حَسَنيّ، لكنّ الفكرةَ علويّةٌ، طرَحها عليٌّ بعدّة ألفاظٍ، منها:

ـ قولُه×: «إنّ اللهَ ـ تعالَى ـ خلَق العرشَ؛ إظهاراً لقدرتِه، لا مكاناً لذاتِه».

ـ قولُه×: «إنّ الذي أيَّن الأينَ لا يُقالُ له: أين؟… إنّ الذي كيَّف الكيفَ لا يُقالُ له: كيف؟».

ـ قولُه×، ردّاً على مَنْ أقسَم: «لا والذي احتجَب بسَبعِ طِباقٍ»: «ويلَك، إنّ اللهَ لا يَحجُبُه شيءٌ عن شيءٍ».

هذه الأقوالُ الثلاثةُ أثَّرت في الحَسَن البصريّ، فألهمَتْه أن يلخِّصَها في جملةٍ واحدةٍ: «وهو الآنَ كما كانَ».

تلا الحسنَ البصريّ علماءُ وعظماءُ الأمّة الإسلاميّة، مِن شَتّى الفِرق الكلاميّة، فاعتقَدوا اللامكانيّةَ الأزَليّةَ:

«قولُ المعتزلة في التوحيد… هو ما اجتمعَت عليه… من أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَحصِرُه المكان… لم يزَلْ ولا له… مكانٌ»([127]).

«فهذه جملةُ قولِهم في التوحيد، وقد شاركَهم في هذه الجملة: الخوارجُ، وطوائفُ مِن المُرجئة»([128]).

«قلتُ (لأبي حَنيفةَ)…: أين الله؟ فقال:… كان اللهُ… ولا مكان…، وكان اللهُ… ولم يكن أينٌ»([129]).

اتَّبَع أبو حَنيفة، في هذا الموقف الكلاميّ، عليّاً، فاتَّبَع أتباعُ أبي حَنيفة، في هذا الموقف الكلاميّ، عليّاً. مثَلاً:

أبو نصر السِجْزيُّ السلَفيُّ، احتجَّ بهذا الموقف وادَّعى الإجماعَ عليه؛ قال: «لاتّفاقِنا أنّ الله… كان ولا مكان»([130]).

بدرُ الدين العينيُّ، شارحُ البخاريِّ، احتَجّ على نفي المكان عن الله عزَّ وجلَّ بهذه العبارة: «فقد كان ولا مكان»([131]).

رأسُ الماتُريديّة صرَّح بنفْي المكان عن الله، وقال في مقام الاستدلال: «الأصلُ فيه: أنّ اللهَ… كان ولا مكان»([132]).

ما خالَف أحدٌ مِن متكلِّمي الماتُريديّة رائدَهم وقائدَهم في هذه العقيدة العلويّة ـ الحسَنيّة، أبداً وبتاتاً. مثَلاً:

أبو بكر الرازيّ قال بأنّ اللهَ عزَّ وجلَّ «كان ولا مكان… وهو الآنَ علَى ما عليه كان»([133])، مُعلِناً علويّتَه وحَسَنيّتَه.

أبو الثناء الحنَفيُّ اللامِشيُّ صرَّح بـ «أنّ صانعَ العالَم… كان ولا مكان»، واستدَلّ عليه بما استدَلّ عليٌّ عليه([134]).

وأخيراً، لا آخِراً، جاء الماتُريديُّ العظيم، أبو البركاتِ النسَفيُّ، فقال: «المذهبُ قولُ علي ّرضي الله عنه: …كان ولا مكان»([135]).

أمّا مالكُ بنُ أنَس فهو وإنْ لم يصرِّح بهذه العقيدة العلويّة، لكنّ أتباعَه قاطبةً قد صرَّحوا بها؛ منهم:

محمدُ بنُ مَوهَب المَقبُريُّ، في شرح رسالة شيخِه ابنِ أبي زيد([136])، وأبو عمَر ابنُ عبد البَرّ([137])، وأوّلُ شُرّاح البخاريّ، ابنُ بَطّال([138])، وأخيراً لا آخِراً العلَمان العظيمان: القُرطُبيّ المفسِّر؛ وابنُ المُنيِّر([139]).

أمّا الشافعيّ فقد احتَجّ على نفْي المكان بـ «أنَ اللهَ سبحانه وتعالى كان ولا مكان، فخلَق المكانَ وهو على صفتِه الأزَليّة»([140]).

اتَّبَع الشافعيّ، في هذا الموقف الكلاميّ، عليّاً، فاتَّبَع أتباعُ الشافعيّ، في هذا الموقف الكلاميّ، عليّاً. مثَلاً:

ابنُ كُلاّب القَطّان([141])، وأبو حاتِم ابنُ حِبّان([142])، والثعلبيّ المفسِّر([143])، والفقيهُ السلَفيُّ يحيَى العِمرانيّ([144])، والمتكلِّمُ الرائدُ الأشعريُّ؛ اعتقَد بأنّ ربَّنا «كان ولا مكان، فخلَق العرشَ والكرسيّ… وهو بَعْد خَلْق المكان كما كان قَبْل خَلقِه»([145]).

ما خالَف أحدٌ مِن متكلِّمي الأشاعرة رائدَهم وقائدَهم في هذه العقيدة العلويّة ـ الحَسَنيّة، أبداً وبتاتاً. مثَلاً: ابنُ الطيِّب الباقِلاّنيّ([146])، وأبو القاسم القُشَيريّ([147])، وأبو إسحاقَ الشيرازيّ([148])، وإمامُ الحرمَين الجوَينيّ([149])، و…قال البغداديّ: «وأجمَعوا (جُمهورُ أهل السُّنة والجَماعة) على أنه لا يَحويه مكان… قال أميرُ المؤمنين عليّ رضي الله عنه:…» ([150]).

أمّا ابنُ حَنبَل فهو وأتباعُه قبِلوا قولَ عليٍّ: «كان ولا مكان»، وردّوا قولَ الحَسَن: «وهو الآنَ كما كانَ». نُسِب إليه: «إذا أردْتَ أن تَعلمَ أنّ الجَهميّ كاذبٌ على الله حين زعَم أنّ اللهَ في كلّ مكان، ولا يكونُ في مكانٍ دونَ مكانٍ، فقُل: أليس اللهُ كان ولا شيء؟!»([151]). هذا نصٌّ بأنّ أحمدَ والجَهميّةَ ـ حَسَبَ تعبيرِه ـ متَّفِقون على «كان ولا مكان».

صرَّح الحافظُ عبدُ الغنيّ: «كان اللهُ ولا مكان، وليس هو اليومَ على ما كان»([152]).

قال ابنُ تيميّة: «هذه الزيادةُ الإلحاديّةُ؛ وهو قولُهم: «وهو الآنَ علَى ما عليه كانَ» قصَد بها المتكلِّمةَ المتجهِّمةُ…»([153]).

نبَز النُفاةَ بـ «الإلحاد»، تأثُّراً بما نُسب إلى إمامِنا الصادق أنه «قال: أرادَت المعتزلةُ أن توحِّدَ ربَّها فألحَدَتْ»([154]).

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم. من العراق.

([1]) نهج البلاغة، ح470.

([2]) ابنُ أبي الحديد، شرحُ نهج البلاغة 20: 227.

([3]) أبو الحسن الماورديّ، أعلامُ النبوّة: 14.

([4]) الفخرُ الرازيّ، مناقبُ الإمام الشافعيّ: 128.

([5]) أحمد بن محمد المَقَّريّ التِلِمسانيّ، نفحُ الطِيب مِن غُصنِ الأندلُس الرطيب وذِكر وزيرها لسانِ الدين ابنِ الخطيب 7: 268.

([6]) نهج البلاغة، خ1.

([7]) الراغب الأصبَهانيّ، مفرَداتُ ألفاظ القرآن: 47.

([8]) الشيخُ المفيد، الإرشاد في معرفةِ حُججِ اللهِ علَى العِباد 1: 223.

([9]) أبو عليّ ابنُ سِينا، الشِفاء، الطبيعيّات 2، كتابُ النفْس: 174.

([10]) مُحيي الدين ابنُ عَرَبيّ الطائيّ، فُصوصُ الحِكَم 1: 181.

([11]) الفخرُ الرازيّ، المطالبُ العالية 5: 183.

([12]) أحمد بن محمد أبو جعفر الأزديّ المصريّ الطحاويّ، العقيدةُ الطحاويّةُ: 17 ـ 21.

([13]) عبد السلام هارون، نوادرُ المخطوطات 2: 134. أحمد زكي صَفوَت، جمهرةُ خُطب العرب 2: 501.

([14]) الفخر الرازيّ، مفاتيحُ الغيب 16: 244. أبو حَيّانَ الأندُلُسيّ، البحر المحيط 5: 122. ابن عادل، اللُباب 10: 249.

([15]) أبو زيد الثعالبيّ، الجواهرُ الحِسان في تفسير القرآن (تفسيرُ الثعالبيّ) 3: 269.

([16]) أبو منصور الماتُريديّ، كتاب التوحيد: 107.

([17]) أبو بكر ابنُ فورَك، مشكلُ الحديث وبيانُه: 34.

([18]) أبو حامد الغزاليّ، إحياءُ علوم الدين 4: 423.

([19]) أبو الفَرَج ابنُ الجَوزيّ، التبصرة 2: 669.

([20]) الفخرُ الرازيّ، عصمةُ الأنبياء: 6.

([21]) أحمد بن عليّ القَلقشَنديّ، مآثرُ الإنافة في مَعالم الخِلافة 3: 183 ـ 184. أحمد بن عليّ القَلقشَنديّ، صُبحُ الأعشى في صِناعة الإنشا 10: 246.

([22]) عليّ بن محمد الجُرجانيّ، (كتابُ) التعريفات: 68.

([23]) ابن تيميّة الحَرّانيّ، درءُ تعارُض العقل والنقل 4: 352.

([24]) أبو بكر بن محمد الحِصنيّ، دفعُ شُبَه مَنْ شبَّه وتَمرَّد، طُبع ضمنَ كتاب «العقيدةُ وعلمُ الكلام من أعمال الإمام»، للكوثريّ: 328. أبو بكر بن محمد الحِصنيّ، دفعُ الشُبَه عن الرسول والرسالة: 100.

([25]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 235 ـ 236.

([26]) أبو القاسم الطبَرانيّ، التفسيرُ الكبير، تفسيرُ القرآن العظيم 6: 203.

([27]) عبد المجيد بن محمد الخانيّ، الحدائقُ الورديّة في حقائق أجِلاّءِ النَقش بَنديّة: 100.

([28]) عبد الباقي بن عبد الباقي ابنُ فقيه فُصّة المواهبيّ، العينُ والأثر في عقائد أهل الأثر: 35.

([29]) سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهّاب، التوضيحُ عن توحيد الخلاّق في جواب أهل العراق وتذكرةُ أولي الألباب…: 43.

([30]) ابنُ عبد البَرّ، التمهيد لما في «الموطّأ» مِن المعاني والأسانيد 3: 343.

([31]) أبو بكر الدِينَوَريّ، المجالسةُ وجواهرُ العِلم 5: 395. ابنُ عساكر الدِمَشقيّ، تأريخُ مدينة دِمَشق 54: 282. أسامةُ بنُ مُرشِد أبو المظفَّر ابنُ مُنقِذ، لُبابُ الآداب: 347.

([32]) أبو حامد الغزاليّ، روضةُ الطالبين وعمدةُ السالكين: طُبع ضمنَ «مجموعة رسائل الإمام الغَزاليّ»: 112.

([33]) صحيحُ البخاريّ: 1082.

([34]) المصدرُ السابق: 1147 ـ 1148.

([35]) عبد الله بن أحمد أبو القاسم البلخيّ الكعبيّ، مقالاتُ الإسلاميّين: 63.

([36]) عبد القاهر بن طاهر البغداديّ، أصولُ الإيمان: 243.

([37]) الصدوق، التوحيد: 24.

([38]) الكلينيّ، الكافي 1: 329. الصدوق، التوحيد: 47.

([39]) الكلينيّ، الكافي 1: 333.

([40]) المصدر السابق 1: 329. الصدوق، التوحيد: 46.

([41]) الصدوق، التوحيد: 75. الصدوق، عيونُ أخبار الرضا 1: 121.

([42]) النُعمانُ بنُ ثابت أبو حنيفة، الفقهُ الأكبر، طُبع ضمنَ كتاب «العقيدةُ وعلمُ الكلام من أعمال الإمام»، للكوثريّ: 619.

([43]) أحمد بن محمد أبو بكر الخَلاّل، العقيدةُ، روايةُ أبي بكر الخَلاّل: 101.

([44]) يحيى بنُ أبي الخير سالم أبو الحسين العِمرانيّ، الانتصار في الردّ على المعتزلة القدَريّة الأشرار 2: 617.

([45]) أبو القاسم القُشَيريّ النَيسابوريّ، لطائفُ الإشارات (تفسيرُ القُشَيريّ) 3: 297.

([46]) د. علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام 1: 331.

([47]) محمد بن إسماعيل البخاريّ، التأريخُ الكبير 1: 64. ابنُ عساكر الدِمَشقيّ، تأريخُ مدينة دِمَشق 52: 255. شمسُ الدين الذهَبيّ، المُغني 1: 131. محمد بن محمد أبو بكر ابنُ نُباتة، سَرْح العيون: 294. ابنُ كَثير الدِمَشقيّ، البداية والنهاية 9: 382. عبد الحيّ بن أحمد ابنُ العِمادالعَكْريّ، شذَراتُ الذهَب 2: 112.

([48]) صلاحُ الدين الصَفَديّ، الوافي بالوفيات 11: 87. ابنُ كَثير الدِمَشقيّ، البداية والنهاية؛ نقلاً عن: «ابن عساكر وغيره»…

([49]) د. علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام 1: 332.

([50]) إسماعيل بن عبد الرحمن أبو عثمان الصابونيّ، عقيدةُ السلَف وأصحاب الحديث: 45. الذهَبيّ، تأريخُ الإسلام 3: 218…

([51]) ابنُ عساكر الدِمَشقيّ، تأريخُ مدينة دِمَشق 39: 198. جلالُ الدين السيوطيّ، جامعُ الأحاديث 15: 423.

([52]) عثمانُ بنُ سعيد الدارِميّ، الردُّ على الجَهميّة: 8. عبدُ اللهُ بنُ أحمد أبو عبد الرحمن (ابنُ أحمد بن حنبل)، السُّنة 1: 269.

([53]) الكلينيّ، الكافي 1: 221. الصدوق، التوحيد: 187.

([54]) أبو بكر البيهقيّ، الأسماءُ والصفات 3: 616.

([55]) محمد ناصر الدين الألبانيّ، مختصَر «العُلوّ للعليّ الغفّار»، للحافظ الذهبيّ: 141.

([56]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 283، 233.

([57]) أبو بكر البيهقيّ، الأسماء والصفات 3: 614.

([58]) جامعُ التِّرمِذيّ: 415.

([59]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 259؛ 2: 202.

([60]) الكلينيّ، الكافي 1: 200، 203 ـ 204. الصدوق، التوحيد: 113، 269. الصدوق، معاني الأخبار: 8. أحمد بن عليّ الطبَرسيّ، الاحتجاج 2: 332. منه أخذنا الضبطَ المذكورَ في المتن؛ لأن ضبطَ «الاحتجاج» أصحّ من البقيّة.

([61]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 259.

([62]) عبد الله بن أحمد أبو القاسم البلخيّ الكعبيّ، مقالاتُ الإسلاميّين: 63.

([63]) النُعمانُ بنُ ثابت أبو حنيفة، الفقهُ الأكبر، طُبع ضمنَ كتاب «العقيدةُ وعلمُ الكلام من أعمال الإمام»، للكوثريّ: 620.

([64]) محمد بن محمد أبو منصور الماتُريديّ، كتاب التوحيد: 105.

([65]) محمد بن عليّ أبو عبد الله المازَريّ، المُعْلِم بفوائد مُسلِم 3: 299.

([66]) أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشَيبانيّ، الردّ على الزنادقة والجهميّة، طُبع في صدر مجموعة «عقائد السَّلَف»: 52.

([67]) محمد باقر البِهبوديّ، صحيحُ الكافي 1: 14 ـ 15.

([68]) إسماعيل بن محمد أبو القاسم التَيميّ الأصبَهانيّ، الحُجّة في بيان المَحَجّة: 254 ـ 260.

([69]) شمسُ الدين الذهَبيّ، ميزانُ الاعتدال 4: 173. ابنُ عساكر الدِمَشقيّ، تأريخُ مدينة دِمَشق 60: 122.

([70]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 283، 233.

([71]) أحمد بن محمد أبو جعفر الأزديّ المصريّ الطحاويّ، العقيدةُ الطحاويّةُ: 17، 33، 77.

([72]) ابنُ حجَر العسقلانيّ، فتحُ الباري 3: 835.

([73]) عليّ بن عليّ ابنُ أبي العِزّ الدِمَشقيّ، شرحُ العقيدة الطحاويّة: 258.

([74]) عليّ بن عبد الكافي السُبكيّ، السيفُ الصَقيل في الردّ على «ابن زَفيل»: 153 (الهامش).

([75]) المصدر السابق: 123 (الهامش).

([76]) الفخرُ الرازيّ، مفاتيحُ الغيب 20: 104.

([77]) أبو منصور الماتُريديّ، كتاب التوحيد: 106.

([78]) ابن تيميّة الحَرّانيّ، منهاجُ السُّنة النبويّة 2: 245.

([79]) شمسُ الدين الذهَبيّ، سِيَر أعلام النُبلاء 11: 266.

([80]) أبو الحسن الأشعريّ، الإبانة عن أصول الديانة: 53.

([81]) محمد بن إسماعيل البخاريّ، خلقُ أفعال العباد، طُبع ضمنَ مجموعة «عقائد السَّلَف»: 89.

([82]) المصدر السابق: 91 (متناً وهامشاً).

([83]) عثمان بن سعيد أبو سعيد الدارِميّ، نقضُ الإمام عثمانَ بنَ سعيد على المَرِيسيّ الجَهميّ العَنيد 1: 571 ـ 572.

([84]) عثمان بن سعيد أبو سعيد الدارِميّ، الردُّ علَى الجَهميّة: 88.

([85]) هبةُ الله بنُ الحسن اللالكائيّ، اعتقاد أهل السُّنة والجماعة 2: 268.

([86]) أبو الحسن الأشعريّ، الإبانة عن أصول الديانة: 53.

([87]) أبو الحسن الأشعريّ، (كتابُ) اللُمَع في الردّ علَى أهل الزَّيْغ والبِدَع: 47.

([88]) أحمد بن يحيى ابنُ المرتضَى، طبقاتُ المعتزِلة: 124.

([89]) المصدر نفسُه.

([90]) القاضي عبدُ الجبّار بنُ أحمد الهمَذانيّ، فضلُ الاعتزال وطبقاتُ المعتزلة: 239.

([91]) المصدر نفسُه.

([92]) د. علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام 1: 211.

([93]) الفخرُ الرازيّ، المطالبُ العالية 1: 240.

([94]) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين 1: 16.

([95]) أحمد بن يحيى ابنُ المرتضَى، طبقاتُ المعتزِلة: 31.

([96]) محمد بن عمَر الفخرُ الرازيّ، مفاتيحُ الغيب 2: 108.

([97]) الطوسيّ، اختيارُ معرفةِ الرجال: 278.

([98]) ابنُ النديم الورّاق، كتابُ الفهرست: 224.

([99]) د. علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام 1: 211.

([100]) ابنُ حجَر العسقلانيّ، لسانُ الميزان 2: 437.

([101]) راجِعْ، علَى سبيلِ المثالِ، كتُبَ: الكافي للكلينيّ، والتوحيد للصدوق، والاحتجاج للطبَرسيّ.

([102]) طاهر بن محمد أبو المظفَّر الإسفرايينيّ، التبصيرُ في الدين، وتمييزُ الفرقة الناجية عن الفِرَق الهالكين: 161 ـ 162.

([103]) محمد بن عبد الكريم أبو الفتح الشهرستانيّ، نهايةُ الإقدام: 78.

([104]) الفخرُ الرازيّ، المطالبُ العالية 1: 245.

([105]) المصدر السابق 2: 19 ـ 20.

([106]) ابن تيميّة الحَرّانيّ، الفتاوَى الكُبرَى 6: 630.

([107]) من الشيعة: الشريفُ المرتضَى، الفصولُ المختارةُ من «العيون والمَحاسن»: 65. الشيخُ المفيدُ، الإرشادُ 1: 244. ومن السُنّة: محمد بن الحسن (ابنُ فورَك)، مشكلُ الحديث وبيانُه: 214 ـ 215.

([108]) محمد بن يوسُف أطفَيِّش، هيميانُ الزاد 13: 274 ـ 275.

([109]) القاضي عبدُ الجبّار بنُ أحمد الهمَذانيّ، فضلُ الاعتزال وطبقاتُ المعتزلة: 151.

([110]) أبو الحسن الأشعريّ، الإبانة عن أصول الديانة: 63.

([111]) محمد بن الحسن أبو بكر ابنُ فورَك، مشكلُ الحديث وبيانُه: 214 ـ 215.

([112]) ابن تيميّة الحَرّانيّ، مجموعُ الفتاوى 6: 7 ـ 8.

([113]) أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ محمد الثقَفيّ الكوفيّ، الغارات: 68 ـ 69.

([114]) أبو بكر القاضي الباقِلاّنيّ، الإنصاف في ما يجبُ اعتقادُه ولا يَسَعُ الجهلُ به: 39 ـ 40.

([115]) عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القُشَيريّ، الرسالةُ القُشَيريّةُ في عِلم التصوُّف: 51.

([116]) ابن تيميّة الحَرّانيّ، الاستقامة (والاعتدال ومتابعة الكتاب والسُّنة) 1: 191.

([117]) عبدُ الوهّاب بنُ عليّ تاجُ الدين السُبْكيّ، طبقاتُ الشافعيّة الكبرى 5: 52.

([118]) محمد بن الحسين أبو عبد الرحمن السُلَميّ، تفسيرُ السُلَميّ «حقائقُ التفسير» 2: 89.

([119]) المصدر السابق 2: 208.

([120]) أبو بكر بن محمد الحِصنيّ، دفعُ شُبَه مَنْ شبَّه وتَمرَّد، طُبع ضمنَ كتاب «العقيدةُ وعلمُ الكلام من أعمال الإمام»، للكوثريّ: 299. أبو بكر بن محمد الحِصنيّ، دفعُ الشُبَه عن الرسول والرسالة: 51.

([121]) ابنُ عساكر الدِمَشقيّ، تبيينُ كذِب المفترِي في ما نُسِب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: 195. عبدُ الوهّاب بنُ عليّ تاجُ الدين السُبْكيّ، طبقاتُ الشافعيّة الكبرى 3: 143.

([122]) عبد القاهر بن طاهر البغداديّ، الفَرق بين الفِرَق: 283، 292.

([123]) عليّ بن بابويه منتجَب الدين الرازيّ، الفِهرِست: 128 ـ 129.

([124]) ورّامُ بنُ أبي فِراس أبو الحسين المالكيّ الأشتريّ، تنبيهُ الخواطر ونُزهةُ النواظر 2: 342.

([125]) من الشيعة: الكلينيّ في الكافي، والصدوقُ في التوحيد، والشريفُ المرتضَى في أماليه، وأخوه الرضيُّ في خصائص الأئمّة. ومِن السُنّة: أبو العبّاس محمد بن يزيد المُبرَّد (210 ـ 286هـ)، الكامل في اللغة والأدب 1: 91. أبو سَعد منصور بن الحسين الرازيَ الآبيّ(421هـ)، نَثرُ الدُرّ في المحاضَرات 1: 203. أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصبَهانيّ(502هـ)، محاضَراتُ الأدباء ومحاوَراتُ الشُعراء والبُلغاء 4: 384.

([126]) الفخرُ الرازيّ، مفاتيحُ الغيب 32: 182.

([127]) أبو الحسن المسعوديّ، مُروجُ الذهَب ومَعادنُ الجَوهر 3: 221.

([128]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 236.

([129]) النُعمانُ بنُ ثابت أبو حَنيفة، الفقهُ الأبسَط، طُبع ضمنَ كتاب «العقيدةُ وعلمُ الكلام من أعمال الإمام»، للكوثريّ: 613.

([130]) عبَيد الله بنُ سعيد أبو نصر السِجْزيّ، رسالةُ السِجْزيّ إلى أهل زَبيد في الردّ علَى مَنْ أنكر الحرفَ والصوتَ: 131.

([131]) محمود بن أحمد بدرُ الدين العينيّ، عُمدةُ القاري، شرحُ صحيح البخاريّ 16: 625.

([132]) محمد بن محمد أبو منصور الماتُريديّ، كتاب التوحيد: 131 ـ 132.

([133]) أحمد بن عليّ أبو بكر الرازيّ الحنفيّ، شرحُ «بدء الأمالي»: 201.

([134]) محمود بن زيد أبو الثناء الحنفيّ اللامِشيّ، التمهيد لقواعد «التوحيد»: 62 ـ 63.

([135]) عبد الله بن أحمد أبو البَرَكات النَسَفيّ، مداركُ التنـزيل (تفسيرُ النسَفيّ): 686 ـ 687.

([136]) المصدرُ المذكورُ ما عثَرنا عليه؛ لذا نقَلنا بالواسطة عن: محمد بن أبي بكر ابنُ قَيِّم الجَوزيّة، اجتماعُ الجيوش الإسلاميّة: 174.

([137]) ابنُ عبد البَرّ، التمهيد لما في «الموطّأ» مِن المعاني والأسانيد 3: 343.

([138]) عليّ بن خَلَف ابنُ بطّال، شرح صحيح البخاريّ 10: 453.

([139]) محمد بن أحمد القُرطُبيّ، الجامعُ لأحكام القرآن 9: 336. ابنُ المنيِّر، المتوارِي علَى تراجمِ أبواب البخاريّ: 424.

([140]) محمد بن محمد مرتضَى الزبيديّ، إتحافُ السادة المتّقين بشرح «إحياء علوم الدين» 2: 24.

([141]) أبو الحسن الأشعريّ، مقالاتُ الإسلاميّين واختلافُ المصلّين 1: 351.

([142]) الأمير علاءُ الدين عليُّ بنُ بِلْبانَ الفارِسيّ، الإحسان في تقريب «صحيح ابن حِبّان»: 1633.

([143]) أحمد بن محمود أبو إسحاقَ الثعلبيّ، الكشفُ والبيان (تفسيرُ الثَعلبيّ) 9: 360.

([144]) يحيى بنُ أبي الخير سالم أبو الحسين العِمرانيّ، الانتصار في الردّ على المعتزلة القدَريّة الأشرار 2: 621.

([145]) ابنُ عساكر الدِمَشقيّ، تبيينُ كذِب المفترِي: 120. تاجُ الدين السُبْكيّ، طبقاتُ الشافعيّة الكبرى 5: 47.

([146]) أبو بكر القاضي الباقِلاّنيّ، الإنصاف في ما يجبُ اعتقادُه ولا يَسَعُ الجهلُ به: 40.

([147]) عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القُشَيريّ النيسابوريّ، لطائفُ الإشارات (تفسيرُ القُشَيريّ) 3: 145.

([148]) إبراهيم بن عليّ أبو إسحاق الشيرازيّ، الإشارةُ إلى مذهب أهل الحقّ: 151.

([149]) شمسُ الدين الذهَبيّ، سِيَر أعلام النُبلاء 18: 474. عليّ بن عليّ ابنُ أبي العِزّ الدِمَشقيّ، شرحُ العقيدة الطحاويّة: 390.

([150]) عبد القاهر بن طاهر البغداديّ، الفَرق بين الفِرَق: 292.

([151]) أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشَيبانيّ، الردّ على الزنادقة والجهميّة، طُبع في صدر مجموعة «عقائد السَّلَف»: 71.

([152]) شمسُ الدين الذهَبيّ، سِيَر أعلام النُبلاء 21: 463.

([153]) ابن تيميّة الحَرّانيّ، بيانُ تَلبيس الجَهْميّة في تأسيسِ بِدَعِهم الكلاميّة 1: 564.

([154]) عبد القاهر بن طاهر البغداديّ، أصولُ الإيمان: 243.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً