أحدث المقالات

مداخلةٌ نقديّة مع الشيخ حسن بن فرحان المالكي

د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي (پيراسته) (*)

نبذةٌ ــــــ

يناقش هذا المقال دعوى معاصِرة أطلقها بعض الباحثين المعاصرين زعم فيها أن الأحاديث المروية عن النبيّ| في كون الخلفاء من بعده اثنا عشر واردة مورد الذمّ لهؤلاء، لا المدح. ثمّ ذكر صاحب هذه الدعوى في مقام تحديد مصاديقهم أنّ المراد بهم هم ولاة عثمان، ذاكراً قائمة بأسمائهم، ثم أورد ما اعتبره دليلاً على ذلك.

ثم ناقش المقال دعوى أخرى للكاتب احتمل فيها أن يُراد بهذه الأحاديث ظهور اثني عشر خليفة قبل قيام الساعة، تبعاً لبعض الأخبار.

وأشار المقال في نهاية المطاف إلى الرأي الصحيح في تفسير هذه الأخبار، وهو أنها واردة مورد المدح أوّلاً، وأنها واردة مورد الإنشاء والتنصيب ثانياً.

 

مقدّمة ــــــ

لم يغمضْ الرسول الأعظم| عينيه عن هذه الحياة دون أن يرسم للأمة مستقبلها السياسي، من خلال بيانات ونصوص عديدة. وكان من أهمّ تلك النصوص الواردة في هذا السياق هو النصوص التي حدَّدت الخلافة في اثني عشر خليفة بعد النبي|. وتعتبر هذه النصوص من التراث النبوي المتَّفق عليه بين الفريقين، وهي متواترة بأعلى درجات التواتر، حيث لم يناقش أحدٌ في صحتها. وإنما وقع الكلام بين الأعلام في بيان دلالتها وتحديد المقصود بهؤلاء الاثني عشر. وقد توفّرت في هذا المجال عدّة تفاسير وقراءات بين المسلمين لذلك، ربما بلغت الخمس عشرة قراءة، لتحديد المراد بالاثني عشر. والقاسم المشترك بين جميع هذه القراءات ـ وقد ظهرت منذ القرن الثالث الهجري ـ هو اتفاقها على أن الحديث واردٌ مورد المدح لهؤلاء الاثني عشر المذكورين في الحديث، بمعنى أن النبيّ| أراد مدح خلافة هؤلاء الاثني والثناء عليها، وإنْ كان فيهم المنحرِف في سلوكه، فإنّ انحرافه لا يضرّ بولايته، كما تقول بعض هذه التفاسير. ولم يخالف في إرادة المدح أحدٌ من المسلمين إلى عصرنا هذا، حتّى طالعنا باحثٌ معاصر من أرض الحرمين الشريفين، وهو الشيخ حسن بن فرحان المالكي، برأيٍ يقول فيه: إن الحديث واردٌ مورد الذمّ لهؤلاء الاثني عشر، وليس المدح، مخالفاً بذلك الإجماع المركَّب بين الفريقين على إرادة المدح. والمهم هو ملاحظة دليله على هذه الدعوى. ولكنْ قبل ذلك ينبغي استعراض بعض هذه النصوص؛ ليطّلع القارئ عليها من جهةٍ؛ ولتوقّف بيان الدعوى وردّها على ذلك من جهةٍ أخرى.

نصوص الاثني عشر في مصادر الفريقين ــــــ

 وردت هذه الأحاديث بألفاظ متّفقة تارة؛ وبألفاظ متغايرة أخرى، ولكنّها متفقة المعنى. وهي كثيرةٌ جداً بلغت العشرات، بل المئات. وفي ما يلي نماذج من الصيغ الواردة بها هذه الأحاديث، على سبيل الاطّلاع، لا الاستقصاء:

الصيغة الأولى: اثنا عشر أميراً ــــــ

ـ ما رواه البخاري، عن جابر بن سمرة، عن النبي| قال: «يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلّهم من قريش»([1]). ونقل ابن كثير عن البخاري بدل (أميراً) (خليفة)([2]).

ـ وروى النعماني نحوه في الغَيْبة، عن جابر بن سمرة قال: سمعتُ رسول الله| يقول: «يقوم من بعدي اثنا عشر أميراً، قال: ثمّ تكلَّم بشيءٍ لم أسمعه، فسألتُ القوم وسألتُ أبي، وكان أقرب إليه منّي، فقال: قال: كلُّهم من قريش»([3]).

الصيغة الثانية: اثنا عشر خليفة ــــــ

ـ ما رواه مسلم، عن جابر بن سمرة، عن النبيّ| قال: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم ّتكلّم بكلامٍ خفي عليّ، قال: فقلتُ لأبي: ما قال؟ قال: كلُّهم من قريش»([4]).

ـ وما رواه مسلم أيضاً، عن جابر بن سمرة، عن النبي| قال: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، ثمّ قال كلمة…»([5]).

أو «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة»([6]).

ـ وما رواه مسلم أيضاً، عن جابر بن سمرة، عن النبي| قال: «لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش»([7]).

ـ وما رواه أحمد، عن جابر بن سمرة، عن النبيّ|، في حجّة الوداع، قال: «إنّ هذا الدين لن يزال ظاهراً على مَنْ ناواه، لا يضرّه مخالفٌ ولا مفارقٌ، حتّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة»([8]).

ـ وروى نحوه الخزّاز القمّي الرازي، عن جابر بن سمرة قال: أتيتُ النبي| فسمعتُه يقول: «إن هذا الأمر لن (لا خ ل) ينقضي حتّى يملك اثنا عشر خليفة، وقال كلمة خفية (خفيفة خ ل)، فقلتُ لأبي: ما قال؟ فقال: كلُّهم من قريش»([9]).

الصيغة الثالثة: اثنا عشر عدّة نقباء بني إسرائيل ــــــ

ـ ما رواه أحمد أيضاً، عن ابن مسعود، أنه سُئل: هل سألتم رسول الله عن كم يملك هذه الأمّة؟ فقال: نعم، ولقد سألنا رسول الله| فقال: «اثنا عشر كعدّة نقباء بني اسرائيل»([10]).

ـ وروى نحوه الخزّاز القمّي، عن ابن مسروق قال: كنّا نحن عند عبد الله بن مسعود نعرض مصاحفنا عليه، إذ يقول له فتىً شاب: هل عهد إليكم نبيّكم| كم يكون من بعده خليفة؟ قال: إنّك لحدث السنّ، وإنّ هذا شيء ما سألني عنه أحد قبلك. نعم عهد إلينا من بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل([11]).

الصيغة الرابعة: اثنا عشر قيِّماً ــــــ

ـ ما رواه الطبراني بسنده عن جابر بن سمرة، عن النبيّ| قال: «يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيِّماً، لا يضرّهم مَنْ خذلهم»([12]).

ـ وأيضاً ما رواه الطبراني، عن جابر بن سمرة، عن النبيّ| قال: «اثنا عشر قيِّماً من قريش، لا يضرّهم عداوة مَنْ عاداهم»([13]).

ـ وروى نحوه ابن شهرآشوب، عن أنس قال: قال رسول الله|: «يكون منّا اثنا عشر خليفة، ينصرهم الله على مَنْ ناوأهم، لا يضرّهم مَنْ عاداهم…،الخبر»([14]).

الصيغة الخامسة: اثنا عشر عظيماً ــــــ

ـ وهي ما رواه السدّي ـ من مفسِّري الجمهور وثقاتهم ـ، عن رسول الله|، عن الوحي الأمين، قال: «لمّا كرهت سارة مكان هاجر أوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل× فقال: انطلق بإسماعيل وأمّه حتّى تنزله بيتي التهامي ـ يعني مكّة ـ، فإني ناشر ذرّيته، وجاعلهم ثقلاً على مَنْ كفر بي، وجاعل منهم نبيّاً عظيماً، ومظهره على الأديان، وجاعل من ذرّيته اثني عشر عظيماً»([15]).

الصيغة السادسة: اثنا عشر من قريش ــــــ

ـ ما رواه عن النبيّ|: «لن يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها»([16]).

ـ وروى نحوه الطبرسي، عن أنس قال: قال رسول الله|: «لايزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر خليفة من قريش، فإذا مضوا ساخت (ماجت خ ل) الأرض بأهلها»([17]).

الصيغة السابعة: أوصيائي اثنا عشر ــــــ

 ـ ما رواه الجويني الشافعي بإسناده عن ابن عبّاس، عن رسول الله| قال: «أنا سيّد المرسلين، وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم عليّ بن أبي طالب، وآخرهم القائم^»([18]).

الصيغة الثامنة: الأئمة من بعدي اثنا عشر ــــــ

ـ ما رواه القندوزي الحنفي بإسناده عن عليّ× قال: قال رسول الله|: «الأئمة بعدي اثنا عشر، أوّلهم أنت يا عليّ، وآخرهم القائم الذي يفتح الله عزَّ وجلَّ على يدَيْه مشارق الأرض ومغاربها»([19]).

الصيغة التاسعة: النصّ على أسماء الأئمة من أهل البيت^ ــــــ

ـ ما رواه الجويني بإسناده عن عليّ× قال: قال رسول الله|: «أنا واردكم على الحوض، وأنت يا عليّ الساقي، والحسن الرائد، والحسين الآمر، وعليّ بن الحسين الفارط، ومحمد بن عليّ الناشر، وجعفر بن محمد السائق، وموسى بن جعفر محصي المحبّين والمبغضين وقامع المنافقين، وعليّ بن موسى معين المؤمنين، ومحمد بن عليّ منزل أهل الجنّة في درجاتهم، وعليّ بن محمد خطيب شيعته ومزوّجهم الحور العين، والحسن بن عليّ سراج أهل الجنة يستضيئون به، والمهديّ شفيعهم يوم القيامة، حيث لا يأذن الله إلاّ لمَنْ يشاء ويرضى»([20]).

ـ وروى الخاصّة نحوه.

دعوى ورود الأحاديث مورد الذمّ ــــــ

بعد الاطلاع إجمالاً على بعض نصوص أحاديث الاثني عشر، وهي كثيرةٌ جدّاً، ربما بلغت الثلاثمائة من الفريقين، كما جمع أحاديثها الشيخ الصافي في «منتخب الأثر»، فلنأتِ الآن إلى كلام صاحب هذه الدعوى، التي ذهب فيها إلى أن هذه النصوص هي في ذمّ الخلفاء الاثني عشر، وليس في مدحهم، كما هو المتبادر والمنساق بحسب ظهورها.

قال الشيخ حسن المالكي في تفسير هذه النصوص ما نصّه: «ويبدو لي ـ والله أعلم ـ أن التفسير الصحيح لهذا الحديث ليس مع غلاة الشيعة، ولا مع غلاة السنة (من معتدلي النواصب)، وأن الحديث يفيد الذمّ، لا المدح، وأنّ المراد بهؤلاء الاثني عشر هم ولاة عثمان الذين كانوا سبب الفتنة. وهؤلاء الأمراء الاثنا عشر، وهم من (الأغيلمة السفهاء)، الذين كانت الفتنة بسببهم، ودارت على رؤوسهم، وكانوا سبب افتراق الأمة وتقاتلها، وهم:

1ـ معاوية بن أبي سفيان، والي الشام (قرشي).

2ـ الوليد بن عقبة، والي الكوفة (قرشي) .

3ـ سعيد بن العاص، والي الكوفة بعد الوليد (قرشي) .

4ـ عبد الله بن أبي السرح، والي مصر (قرشي) .

5ـ عبد الله بن أبي ربيعة، والٍ على بعض اليمن (قرشيّ، وهو والد الشاعر المشهور عمر بن أبي ربيعة) .

6ـ عبد الله بن عامر، والي البصرة (قرشي) .

7ـ عليّ بن ربيعة بن عبد العزّى، والي مكّة (قرشي) .

8ـ خالد بن العاص بن هشام المخزومي (قرشي) .

9ـ حبيب بن مسلمة الفهري، أمير قنسرين (قرشي) .

10ـ مروان بن الحكم، والي البحرين وكاتب عثمان ومستشاره (قرشي) .

11ـ عبد الرحمن بن خالد الوليد، والي حمص (قرشي) .

12ـ العلاء بن وهب العامري، والي الجزيرة العراقية (قرشي) .

فهؤلاء كانوا من أسباب ضعف الأمة؛ إما باستئثارهم بالأموال وظلمهم للصالحين، وطردهم للبدريين أو التضييق عليهم، وإظهار بعضهم بيع الخمور وشربها، ومنادمة النصارى، والتصرّف في بيت المال، بخلاف المعهود في عهد أبي بكر وعمر. ولا رَيْب أن بعض هؤلاء أعدل من بعض، لكنّهم كانوا سبب الفتنة باتّفاق المؤرِّخين.

وهذا التفسير أقرب إلى الصواب؛ لعدّة أمور:

الأوّل: إن اللفظ الأقوى هو (أمراء)، لا (خلفاء). ولفظ (أمراء) لفظ البخاري. واللفظ الأقوى من ألفاظ مسلم لفظ آخر محايد (اثنا عشر رجلاً). وهذا أقوى من لفظ (الخلفاء). فلفظة (الخلفاء) يبدو أنها مرويّة بالمعنى.

الثاني: إن أكثر ألفاظ الحديث توحي بذمّ هؤلاء، لا مدحهم، كما في قوله: «لا يزال هذا الأمر ظاهراً حتّى يكون اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»، وفي لفظٍ: «لا يزال الأمر ظاهراً حتّى يكون اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»، وفي لفظٍ ثالث: «إن هذا الأمر لن ينقضي حتّى يكون فيهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»، وفي لفظ…. فهذه الألفاظ ـ وهي الأقوى ـ تؤكِّد أن الأمّة ستكون صالحة متماسكة، وأن الدين سيبقى عزيزاً منيعاً، حتّى يقوم هؤلاء (الأغيلمة السفهاء، فيكون فساد الأمة وهلاكها على أيديهم…).

الثالث: إن هذا التفسير لا يتناقض مع الأدلة الأخرى التي تذمّ الملك العضوض، بل تصبح متسقه متسايرة في المعنى، ويفسِّر بعضها بعضاً. فنصبح نقرأ الأحاديث في ذمّ أمراء بني أمية قراءة متّسقة، لا نخشى أن تناقض أحاديث أخرى.

الرابع: إن في بعض الألفاظ القوية: (ثم يكون الهرج). والهرج قد حصل بعد تولّي هؤلاء بقتل عثمان، ثم ما تبعه من قتال بين المسلمين. وكان هؤلاء الأمراء هم الذين عصَوْا في الشام، وحرَّضوا أهل مكة والبصرة، وأخرجوا معهم طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.

الخامس: يشهد لهذا المعنى حديث حذيفة في بداية الفتنة بمقتل عمر رضي الله عنه؛ إذ إن هؤلاء السفهاء من بني أمية تسلَّطوا وقوي أمرهم بعد عمر بن الخطاب في عهد عثمان، ولولا سابقة عثمان وقدم إسلامه وإنفاقه في سبيل الله لظنّ الناس فيه سوءاً.

السادس: في أحد الألفاظ: (حتّى يؤمّر اثنا عشر…، كلّهم من قريش)، وهذا يدل على أنهم يكونون في زمنٍ واحد، وأنّهم يؤمَّرون، وهذا ما حصل لولاة عثمان([21]).

وروى أبو سعيد الخدري أنه| قال: إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمّتي قتلاً وتشريداً، وإنّ أشد قومنا لنا بغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم.

وروى أبو ذرّ أنه| قال: إذا بلغت بنو أمية أربعين (ثلاثين خ) اتّخذوا عباد الله خولاً، ومال الله نحلاً، وكتاب الله دغلاً.

 

تفنيد الدعوى ــــــ

قبل المناقشة في هذه الدعوى المخالفة للإجماع المركَّب على إرادة المدح ينبغي تصحيح ما ورد فيها من نسبة تفسير هذه الأحاديث بإمامة الأئمة الاثني عشر إلى غلاة الشيعة؛ وذلك لأنّ التمسّك بهذه الأحاديث هو قول عامّة الشيعة الاثني عشرية، بما فيهم الغلاة، وليس هو قول الغلاة خاصّة. وهذا أمرٌ معروف يعرفه القاصي والداني من مذهب الشيعة عموماً. ولا ندري المصدر الذي استند إليه الكاتب في هذه النسبة، وما هو مأخذه فيها. وعليه فإن النسبة غير دقيقة وجزافية لا يعبأ بها. كما أنها غير دقيقة في حصرها القول بذلك عند الجمهور بخصوص ما أسماه (معتدلي النواصب)؛ لأنّ جمهور أهل السنة قد فهم منها المدح، كما هو واضح من كلام كلّ مَنْ تعرض لشرح هذه الأحاديث، كابن حجر في «فتح الباري»، والطحاوي في «مشكل الآثار»، وغيرهما.

 وعلى أيّ حال فإن المناقشة في هذه المحاولة بما يلي:

المناقشة الأولى: إنّ من شروط التفسير الصحيح لأيّ حديث هو النظرة الشمولية لجميع النصوص الواردة فيه؛ كي يكون تفسيراً موضوعياً جامعاً. وهذا ما لا نلاحظه في الدعوى المذكورة؛ لأنها ركَّزت بصورة انتقائية على بعض الأحاديث، وأهملت البعض الآخر. والأحاديث التي أهملتها هذه الدعوى هي على قسمين:

1ـ الروايات الخاصّة بموضوع بحثنا، وهي روايات الاثني عشر.

2ـ الروايات العامّة التي ترتبط بحصر الخلافة في قريش. ونحن نقتصر على ذكر نماذج من كلا القسمين:

أـ الروايات الخاصّة ــــــ

1ـ ما رواه مسلم من حديث سمرة عن النبيّ| قال: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»([22]). فالحديث واضحٌ في استمرارية هذا الأمر ـ أي الدين ـ وعدم انقضائه حتّى ينتهي حكم الاثني عشر فيه.

2ـ ما رواه مسلم من حديث سمرة عن النبيّ| قال: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً»([23]). وهو صريحٌ في اتساق الأمر بولاية هؤلاء، ومدح ولايتهم، لا ذمّها. فلماذا أغفل الكاتب هذا الحديث وأسقطه، مع أنه صحيح الإسناد، واضح الدلالة؟!

3ـ ما رواه مسلم أيضاً من حديث سمرة عن النبيّ| قال: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش»([24]). فإنّ (أو) في الحديث للعطف بمعنى الواو، وليست للترديد الذي لا معنى لتصوُّره في المقام. وعليه فإن الحديث دالٌّ على قيام الدين واستمراره بحكم هؤلاء.

فهذه الأحاديث وغيرها نصٌّ في المدح، لا الذمّ، وفيها دلالةٌ واضحة على أنّ حكم هؤلاء دعامة لقيام الدين واستمراره، وعدم انقطاعه بولاية هؤلاء.

ب ـ الروايات العامّة ــــــ

1ـ ما رواه البخاري من حديث ابن عمر عن النبيّ| قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»([25])، وفي لفظ مسلم: «ما بقي من الناس اثنان»([26]).

2ـ ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبيّ| قال: «الناس تَبَعٌ لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلهم، وكافرهم لكافرهم»([27]).

فهذه الأحاديث وغيرها دالّة على استمرار الخلافة في قريش، وعدم خروجها عنهم ما دام في الناس اثنان، مع أن الدعوى تفترض انتهاء الخلافة بالحقبة التي سبقت ظهور هؤلاء الولاة الذين عمَّ بهم الهرج والمرج والفتن في زمن عثمان.

 وعليه فإمّا أن نرفع اليد عن هذه الأحاديث الواردة في الصحاح، والدالة على استمرار الخلافة في قريش، أو نرفع اليد عن هذه الدعوى التي يلزم منها ما ذُكِر.

المناقشة الثانية: زيادة عدد الأمراء من قبل عثمان على الاثني عشر باعتراف صاحب الدعوى، فلماذا اقتصر على المذكورين فقط؟! وما هو المرجِّح لهم دون غيرهم؟! وعليه فإما أن نرفع اليد عن العدد الوارد في الأحاديث، ونعتبره لاغياً، ولا موضوعية له في معرفة هؤلاء ـ هذا مع تأكيد النصوص الواردة عليه جميعاً، بل هو القاسم المشترك فيما بينها ـ؛ وإما أن نأخذ به ونبحث له عن تفسير صحيح يوافق جميع الخصوصيات الواردة فيها. أمّا أن نأخذ ببعض الخصوصيات، كخصوصيّة الذمّ ـ على فرض التسليم بها ـ، ونترك خصوصية العدد التي هي بمنزلة الفصل المقوِّم لهذه الأحاديث، فهذا ممّا لا سبيل إليه، ومخالفٌ للمنهج العلمي. ولا ندري كيف أنّ صاحب الدعوى أسقط هذا الحديث وخصوصية العدد الواردة في جميع الأحاديث من الحساب بالكلّية؟!

وبعبارةٍ ثانية: إنّ الغرض لو كان متعلّقاً بذمّهم، كما استظهره من النصوص، لم تكن حاجة حينئذٍ إلى ذكر العدد، ولا داعي له، بل كان المفروض إما أن يأتي بالكلام مطلقاً من دون حصر بعددٍ، وإما أن يذكر العدد المطابق لولايتهم كما حكموا في الواقع.

وببيانٍ ثالث أتمّ: إنّ الإخبار عن الخلفاء أو الأمراء مع ملاحظة خصوصية العدد في هذه الأحاديث ـ سواء فسَّرناها على سبيل المدح أو الذمّ ـ لا بُدَّ أن يكون إخباراً عن علامة واضحة تدلّ على هؤلاء الخلفاء أو الأمراء، بينما الملاحَظ في هذه الدعوى تركيزها على حالة الانحراف التي ظهرت على يد جملة من الأمراء الذين تجاوز عددهم الاثني عشر، فجاءت المحاولة على ذكر بعضهم، ثمّ استدركت بوجود غيرهم ممَّنْ يمكن ترميم الدعوى بذكرهم وإتمام العدّة بهم. فالعمدة في الدعوى هو التركيز على الانحراف الذي ظهر عند هؤلاء الأغيلمة من الأمراء، دون ملاحظة العدد.

وتعليقنا هو أنّا نتّفق مع صاحب الدعوى على الانحراف الذي قد بدأ أو اشتدّ في خلافة عثمان بإمارة هؤلاء الأغيلمة، لكنّ الذمّ لا ينحصر بهم؛ لأن هذا الانحراف قد امتدّ إلى مَنْ بعدهم من الخلفاء والأمراء الأغيلمة من أضراب يزيد وبني مروان؛ فقد روى البخاري، عن عمر بن يحيى بن سعيد، عن جدّه قال: «كنتُ جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّ| ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعتُ الصادق المصدوق يقول: «هلكت أمتي على يدي غلمة»، فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة؟ فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلتُ. فكنتُ أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم»([28]).

وعليه فخط الانحراف في هؤلاء الولاة ممتدّ وغير منحصر بعددٍ منضبط، ولذا طبق جدّ عمر بن يحيى بن سعيد حديث الأغيلمة عليهم، فلا التزام بحصرهم كما هو الواقع، ولا داعي للتمحُّل بتطبيق حديث الاثني عشر عليهم.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ تفسير حديث الأغيلمة السفهاء من قريش بهؤلاء وغيرهم ممَّنْ ولي الأمر من الأحداث صحيحٌ، وفي محلّه، كما هو واضحٌ، ولكنْ لماذا نربط ونفسّر حديث الاثني عشر بهم مع زيادتهم على هذا العدد؟ ومع كون خصوصية العدد مؤكَّد عليها في جميع نصوص هذا الحديث؟ ومع خصوصية العدد علامة واضحة نصبها النبيّ| لا بُدَّ من تحقُّقها بشكلٍ واضح لدى الأمة؛ لكي يصحّ ما أخبر به الصادق المصدَّق|؟

إنْ قلتَ: إنّ هذا التفسير موافق تماماً لما ورد في أحاديث الاثني عشر، الوارد فيها أنّه بإمرتهم يظهر الهرج واختلال الأمر بعد اتّساقه.

قلتُ: إنّ اللازم في نجاح أيّ محاولة لتفسير الحديث هو التوفُّر على جميع الخصوصيات والقيود المأخوذة في الحديث، وليس على بعضها. وقد عرفتَ إخفاق المحاولة على صعيد تطبيق خصوصية العدد.

المناقشة الثالثة: إن لازم هذه الدعوى ـ بل صريحها ـ اجتماعهم في زمنٍ واحد. وهذا خلاف ظاهر النصوص الدالة على استمرار الخلافة فيهم، وتواليهم زمنياً، مثل: حديث: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»([29]).

وأمّا الوجوه التي استدل بها على الدعوى فيناقش فيها بما يلي:

مناقشة الوجه الأوّل، وهو ترجيح لفظ الأمراء على لفظ الخلفاء ــــــ

المناقشة الأولى: إنّ لفظ الأمير قد يطلق ويراد به آمر السريّة وأمير البلد، وكذلك يطلق ويراد به الخليفة. ويشهد له ما رواه أحمد عن النبيّ| قال: «مَنْ يطِعْ الأمير فقد أطاعني، ومَنْ يعصِ الأمير فقد عصاني، إنّما الإمام جنّة»([30])؛ وما رواه أيضاً عن أبي هريرة أنه كان جالساً مع مروان [وكان هو الحاكم والخليفة بعد معاوية بن يزيد، وكان أبو هريرة والياً عنه على المدينة]، فمرَّتْ جنازة، فمرّ به أبو سعيد [الخدري] فقال: «قُمْ أيها الأمير، فقد علم هذا [أي أبا هريرة] أنّ النبيّ| كان إذا تبع جنازة لم يجلس حتّى توضع»([31])؛ وما رواه ابن عساكر من حديث ابن عمر في الخروج على عثمان: «إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم لا يتركون أميراً إلاّ قتلوه»([32]).

وعليه فالمراد بلفظ الأمير هو الخليفة، بقرينة لفظ الخلفاء الوارد كثيراً في صحيح مسلم وابن ماجة، كما تقدَّم بيانه.

 المناقشة الثانية: لو تنزَّلنا وقلنا بافتراق معنى الأمير عن معنى الخليفة فإن صاحب الدعوى لم يبيِّن الدليل على دعوى ترجيح لفظ البخاري على سائر الصحاح الأخرى، ولا سيَّما مع انفراده بهذا اللفظ الذي لم يورِدْه غيره من أصحاب الصحاح. هذا مضافاً إلى أن لفظ حديثه الذي رواه: «يكون اثنا عشر أميراً»([33]) شبه الأبتر، غير دالّ على مدح أو ذمّ، إلاّ بمعونة باقي الأخبار الواردة في الاثني عشر، فكيف يقدّم على غيره الذي هو تامّ الدلالة وصريح في المدح، مثل: حديث: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»([34])، وحديث: «لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة»([35])؟!

 المناقشة الثالثة: إنه أسقط جميع روايات مسلم الوارد فيها لفظ (الخلفاء)، وهي خمس روايات، واكتفى منها بلفظ محايد، وهو «اثنا عشر رجلاً»، معتبراً هذا اللفظ في صحيح مسلم هو الأقوى من سائر الروايات الخمس الأخرى. وهذه المرّة أيضاً من غير دليل.

وحينئذٍ نسأل لماذا يكون لفظ (رجلاً) هو الأقوى، مع وروده مرّة واحدة، ولفظ (الخلفاء) هو الأضعف، مع وروده خمس مرّات؟! ولماذا يكون لفظ (الخلفاء) مرويّاً بالمعنى وهو الأكثر، ولا يصحّ العكس، وهو أن لفظ الأمراء هو المرويّ بالمعنى؟!

مناقشة الوجه الثاني، وهو استظهار الذمّ لا المدح من أحاديث الاثني عشر ــــــ

لقد تقدَّمت المناقشة في هذا الوجه، وأنه من باب الأخذ ببعض الأحاديث وطرح البعض الآخر من غير وجهٍ صحيح. وقد تقدم وجه التوفيق بينها. هذا مضافاً لمخالفته لفهم علماء الإسلام من الفريقين كافّة من دلالة الحديث على المدح.

مناقشة الوجه الثالث، وهو مواءمة هذا التفسير للأحاديث الذامّة للملك العضوض، وأحاديث الأغيلمة من قريش ــــــ

تقدَّم أن الأحاديث بمجموعها بعد حمل النصّ فيها على الظاهر ليست في مقام الذمّ، بل في مقام المدح. وعلى فرض كونها في مقام الذمّ فإن موافقة الحديث للأحاديث الأخرى إنما يؤخذ به مع توفّر جميع القيود والخصوصيات، وقد عرفت تخلّف خصوصية العدد عن الانطباق.

وأمّا ما استشهد به لهذا الاستظهار، من أنّ ««حتى» و«إلى» تفيدان الغاية، وقد جاءتا في كثير من ألفاظ الحديث، فما قبلها يختلف عما بعدهما، كقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ﴾، فما قبل «حتى» يختلف عمّا بعدها، وعلى هذا يكون ما قبل «حتّى» يختلف عما بعدها، وعلى هذا يكون ما قبل هؤلاء الأمراء عزّة ومنعة وصلاحاً، ويكون الذلّ والفساد من أوّل توليتهم الأمور، كما يكون الإمساك من أول ظهور الفجر، فتأمَّل هذا جيداً، ومفهوم الغاية من أقوى المفاهيم»([36])، فإن إطلاقه مردودٌ بما ذكره المحقِّقون من أهل اللغة من التفصيل؛ فقد ذكر الزمخشري في قوله تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ «أنّ «إلى» يفيد معنى الغاية قطعاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمرٌ يدور مع الدليل، فما فيه دليلٌ على الدخول قولُك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره؛ لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله»([37]). ومقامنا قد دلّ الدليل فيه على دخول الغاية كما تقدّم بيانه، وذكر شواهده. ونفس الكلام يجري في «حتّى» الواردة في نصوصٍ أخرى، قال الطيبي: «لأن التقدير «لا يزال الدين قائماً حتّى يكون عليهم اثنا عشر خليفة» في أن ما بعدها داخل في ما قبلها»([38]).

مناقشة الوجه الرابع، وهو تفسير الهرج الوارد في الأخبار بما فعله الولاة. وكذا الوجه الخامس ــــــ

إنّه بعد اتّضاح فساد هذه الدعوى فلا وجه لتفسير الهرج الوارد في الأخبار بما حصل في عهد هؤلاء الولاة، وإنْ كانوا قد تسبَّبوا في ذلك.

وأمّا الوجه الخامس فلم يظهر وجه التأييد فيه.

مناقشة الوجه السادس، وهو التمسُّك بما ظاهره اجتماعهم في زمنٍ واحد ــــــ

وقد مرَّ أنّ صاحب الدعوى ينظر إلى الأحاديث بعينٍ واحدة، وبصورة انتقائية. ومرَّ بيان دلالة جملة من الروايات، مثل: حديث: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»([39])، وحديث: «لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة»([40]).

دعوى أخرى للكاتب ــــــ

بعد تفنيد الدعوى السابقة أورد صاحبها دعوى أخرى لتفسير نصوص الاثني فقال: «معنى آخر محتمل: وقد روي الحديث بألفاظ كثيرة، منها ما يعارض ما سبق، لكنه أضعف عند المعارضة، ويصرف الحديث مصارف أخرى، ليس عليها السنّة ولا الشيعة، مثل: «لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش» فهذا يصرف معنى الحديث إلى حدوث هذا الأمر قبل قيام الساعة بقليلٍ. وهذا إنْ كان معنى الحديث فهو أكثر احتمالاً من أن يكون يزيد بن معاوية والوليد بن يزيد ممَّنْ ينصرالله بهم الدين! كما هو متمسّك النواصب بهذا.

ويدلّ على المعنى السابق لفظٌ آخر، وهو: «لا يزال الدين قائماً حتّى يكون اثنا عشر خليفة من قريش، ثم يخرج كذّابون بين يدَيْ الساعة، ثم يخرج عصابة من المسلمين يستخرجون كنز القصر الأبيض، كنز كسرى وآل كسرى… وأنا فرطكم على الحوض»([41]).

فهذا اللفظ يدلّ على أنّ هؤلاء الأمراء يكونون قبل خروج الكذّابين (بين يدي الساعة).

فإنْ كان المراد بالساعة هنا الإرهاصات التي تسبق يوم القيامة مباشرةً فليس هؤلاء الاثنا عشر في القرن الأوّل، ولا الثاني، وإنما قبيل يوم القيامة.

وإنْ كان المراد بالساعة العلامات المبكّرة فيكون هؤلاء الاثنا عشر هم ولاة عثمان الذين كانوا سبب الفتنة، وفسد بهم أمر الناس بعد صلاح»([42]).

والمناقشة في هذه الدعوى بما يلي:

المناقشة الأولى: إنّ الكاتب يكرِّر خطأه المنهجي في التعامل الانتقائي مع الأحاديث. وهذا إنْ دلَّ على شيء فهو يدلّ على حالة الإرباك والتخبُّط في التعاطي مع هذه الأحاديث. فهو يركّز في هذه المحاولة فقط على حديث: «لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش»، ويترك باقي الأحاديث الخالية من هذا الترديد بـ (أو)، والوارد فيها العطف بـالواو، كما سنشير لبعضها في المناقشة الثانية. وقد تقدَّم أن الانتقائية والاجتزائية في التعامل مع النصوص خلاف الموضوعية.

المناقشة الثانية: إنّه لا يُراد بـ (أو) في الحديث المذكور الترديد، كما توهَّمه الكاتب، بل يُراد به العطف؛ فإنّ (أو) قد تأتي بمعنى الواو العاطفة، وهذا ما يؤيِّده باقي الأحاديث، مثل: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»([43])، حيث دلّ الحديث على حالة التزامن والملازمة بين قيام الدين وتولّي هؤلاء، بل يؤيِّده نفس الحديث الثاني الذي نقله صاحب المحاولة، أعني قوله: «لا يزال الدين قائماً حتى يكون اثنا عشر خليفة من قريش، ثم يخرج كذّابون بين يدَيْ الساعة، ثم يخرج عصابة من المسلمين يستخرجون كنز القصر الأبيض، كنز كسرى»؛ فإنّه يوافق مفاد باقي النصوص الدالّة على خلافة الاثني عشر ثمّ حصول الهرج بعدهم.

المناقشة الثالثة: إنّا لم نفهم معنى محصّلاً لقوله: «وإنْ كان المراد بالساعة العلامات المبكرة فيكون هؤلاء الاثنا عشر هم ولاة عثمان الذين كانوا سبب الفتنة»؛ إذ أيّ علامة للساعة هذه التي تكون قبلها بأكثر من ألف وأربعمائة سنة؟! إن ما ذكره خلاف الظاهر جدّاً، وما نحسبه إلاّ ضرباً من التخبُّط في تفسير الحديث.

المناقشة الرابعة: إنّه بناء على ما فهمه من المقابلة بين المعنيين فإنّه لا ينبغي اعتبار المعنى الثاني معنى آخر للطائفة الأولى من الأحاديث، بل هو معنى للطائفة الثانية بناءً على حمل (أو) على الترديد. ولذا كان المفترض فنيّاً حلّ التعارض بينهما. وهذا ما لم يقُمْ به صاحب المحاولة، حيث بدا عاجزاً عن تفسير الطائفة الثانية بعد التسليم بصحّة سندها.

الاستنتاج النهائي ــــــ

اتَّضح ممّا سبق عدم صحة الدعويين أو المحاولتين السابقتين للكاتب المذكور في تفسير أحاديث الاثني عشر. والذي نأمله منه ـ وهو كاتبٌ وباحث أكاديمي معروف ـ أن يعيد النظر في هاتين القراءتين لهذه الأحاديث النبويّة القطعيّة، وأن يتمّ التعامل بمنهجٍ أكثر موضوعية وعلمية في تفسير هذه الأحاديث، وبيان مداليلها، ولا سيَّما في مثل هذه الأحاديث التي تتحدَّث عن مستقبل الأمّة الإسلامية، وتحديد مصيرها. وهذا ما يعزِّز صوابية رأي الإمامية في قراءة هذه الأحاديث؛ حيث إن هذه القراءة تبتني على ما يلي:

1ـ اعتبار هذه الأخبار واردة مورد المدح، لا الذمّ. وهذه نقطة مشتركة بين جميع علماء الفريقين الذين تعرَّضوا لشرح هذه الأحاديث، عدا الكاتب المذكور. إلاّ أن المأخذ الأساس على الفريق الآخر هو تطبيقه الأحاديث وإسقاطها على أشخاص ثبت انحرافهم وذمّهم بصورةٍ جزمية لا شَكَّ فيها، من أمثال: يزيد والوليد ونحوهما. وهذا هو الذي دفع الكاتب المذكور إلى الفرار من هذه الإشكالية، لكنّه سقط في إشكالية الانتقائية والاجتزائية في التعامل مع النصوص، كما أوضحناه، فأخفق من هذه الناحية.

2ـ اعتبار هذه الأخبار صادرة على جهة الإنشاء والتنصيب لهؤلاء الخلفاء الاثني عشر، وليس على جهة الإخبار، كما فهم ذلك علماء الجمهور، حيث قاموا بإسقاطها على واقع الخلافة والخلفاء الذين تلَوْا عصر النبيّ|، ولكنهم اضطربوا وتخبطوا في تفسيرهم هذا اضطراباً كبيراً حدا بالبعض منهم للاعتراف الصريح بالعجز عن تفسير هذه النصوص وفهمها؛ لأن تفسيرها بواقع الخلافة يعني إعطاء الشرعية لكلّ مَنْ تولّى الخلافة من الفَجَرة والمجرمين الذين وصلوا إلى سدّة الخلافة، من أمثال: يزيد ونحوه. ولذا حاول البعض من علماء الجمهور التخلُّص من هذا الإشكالية الكبيرة لتنزيه ساحة النبوّة من إرادة أمثال هؤلاء، فاختار كون المراد بهم العدول خاصّة، ولكنّه وقع في إشكالية الترجيح بلا مرجِّح؛ إذ العدول على مبنى القوم كثرٌ ـ على امتداد الدولة العباسية والعثمانية وإلى عصرنا الحاضر ـ، فيدخل فيهم أمثال الرشيد ونحوه ـ ممَّنْ يعتبرونه من ولاة الأمر ـ، مع أنهم لم يذكروه. وعليه فما المعيار في مثل هذا الاختيار والانتخاب؟ وما الدليل على إرادة هؤلاء فقط دون غيرهم بحديث الرسول|؟ وهل يمكن الجزم بشيءٍ من ذلك أم هو محضّ التخرُّص والرجم بالغيب؟ هذه أسئلةٌ يجب أن تجيب عليها تفاسير القوم وقراءاتهم لهذه الأحاديث.

إنْ قلتَ: إن ظاهر الأحاديث تصدّي هؤلاء الاثني عشر للخلافة بالفعل، في حين أن الأئمة^ لم يحكموا بالفعل، عدا أمير المؤمنين والإمام الحسن’. قال ابن كثير بعد نقله روايات الاثني عشر: «وهؤلاء غير الذين تقول بهم الشيعة؛ لأنهم ملكوا، وأئمة الشيعة لم يملكوا»([44]).

قلتُ: إنّ هذه الأحاديث واردة في مقام الإنشاء والأمر والنصب، لا الإخبار والإعلام، فهي ـ نظير: قوله|: «الناس تبعٌ لقريش» ـ أمرٌ بصيغة الخبر، أي ائتموا بقريش وكونوا لهم تَبَعاً، ونظير: قوله| أيضاً: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»، فإن المراد به الحكم والأمر باتباعهم، كما صرّح به بعض الشرّاح على مسلم في هذين الحديثين([45]).

المؤيِّدات لصدور الأحاديث بنحو الإنشاء ــــــ

إن أهمّ إشكالية بين المدرستين تكمن في فهم أحاديث الاثني عشر. فقد حملت مدرسة الخلافة هذه الأحاديث على جهة الإخبار عن واقع الخلافة الذي أعقب حياة النبيّ|، ولذا استبعدوا أهل البيت^ من دلالتها؛ لأنهم لم يتحمَّلوا أعباء الخلافة السياسية. بينما ذهبت مدرسة أهل البيت^ إلى حملها على الإنشاء والتنصيب، فهي عندهم على غرار الأحاديث التي تحدَّثت عن أن الخلافة في قريش، وأنه لو بقي اثنان فلا بُدَّ أن تكون الخلافة فيهم. فإن هذه الأحاديث وإنْ كانت واردة بنحو الجملة الخبرية، ولكنّها يُراد بها الإنشاء، كما صرح به بعض علماء الجمهور. فقد ورد في هامش صحيح مسلم، تعليقاً على ما رواه مسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»، ما نصّه: «واستُشكل بأن ظاهر الحديث يدل على بقاء هذا الأمر في قريش، وانتفائه عن غيرهم، مع أنه قد خرج عنهم واستقرّ في غيرهم، فكيف يكون خبره مطابقاً للواقع؟ وقد أجيب عنه بعدّة أجوبة، أوردها في الفتح ـ أي فتح الباري ـ، منها: إن المراد بالحديث الأمر، وإنْ كان لفظه لفظ الخبر، وهو ما استظهره ابن حجر. ويقرب منه ما قاله القرطبي، من أن الخبر فيه خبر عن المشروعية»([46]). وعلى أيّ حال فإن الشواهد الدالة على الإنشاء والتنصيب عبارة عمّا يلي:

أوّلاً: إن المعطيات الروائية المستفادة من حديث الثقلين ـ الدالّ على استمرار الإمامة في أهل البيت^ حتّى ورودهم مع القرآن على الحوض ـ، ومن حديث أن الخلافة لا تخرج من قريش حتّى قيام الساعة، ومن أحاديث الاثني عشر خليفة الدالة على استمرار الخلافة فيهم حتّى حصول الهرج والمرج قبل قيام الساعة، ومن حديث أن مَنْ مات وهو لا يعرف إمام زمانه فميتته ميتة جاهلية، مضافاً لروايتنا الخاصة في أن الأرض لا تخلو من حجّة، كلّ هذه المعطيات تؤكِّد عدم خلوّ الأرض من الخلافة القرشية واستمرارها، والحال أن حمل أخبار الاثني عشر على جهة الإخبار يلزم منه خلوّ الأرض من الخلافة القرشية بموت آخر خليفةٍ أموي أو عباسي افترضناه في المحاولات السابقة، فلا بُدَّ من حملها إذن على الإنشاء. غاية الأمر أنه قد منع مانعٌ من تحقُّق متعلَّق هذا الإنشاء، وهو الخلافة التي نصّب النبيّ| خلفاءها بالعدد تارةً، وبالصفة أخرى، ككونهم من قريش، ومن هاشم، وبالاسم واللقب ثالثة، فهذه الخلافة هي على غرار الخلافة المنشأة بحديث: إن الخلافة في قريش، التي لم تتحقَّق لاعتراض المانع باعتراف الخصم. فكلّ ما يجيب به الخصم في تلك الأحاديث نجيب عنه نحن في هذه الأحاديث.

ثانياً: إنّ الخلافة القرشية الواردة في أحاديث الاثني عشر، وكذلك في حديث: إن الخلافة في قريش لا تخرج منها، وأن الناس تَبَع لها، هي خلافةٌ واحدة لا يمكن تفكيكها. وقد تقدَّم تصريح بعض أعلام الجمهور ـ لمّا لاحظوا انقطاع الخلافة القرشية بعد الحكم العباسي إلى اليوم ـ أن هذه الأحاديث وإنْ جاءت بصورة الجملة الخبرية، إلاّ أن المراد بها الإنشاء والتنصيب. وعليه فإذا كانت هذه الأخبار صادرة بنحو الإنشاء فكذلك أحاديث الاثني عشر جاءت على نهج الجملة الخبرية، والمراد بها الإنشاء. وهذه أقوى قرينة على دعوى التنصيب.

 ثالثاً: إن الاهتمام البالغ من النبيّ| في إبلاغ فكرة الاثني عشر، وبصورة مكرَّرة إلى الأمّة، يدل على أن لهؤلاء الاثني عشر دوراً وشأناً في الدين، وفي مستقبل الرسالة والأمّة. فأمرهم خطير يتناسب مع هذا الاهتمام البليغ من صاحب الرسالة. وحينئذٍ يُطرح هذا السؤال: لا يخلو أن يكون هذا الإخبار إمّا هو ذمٌّ وتحذير للأمة منهم، أو مدحٌ وتبشير بهم. فإنْ كان مدحاً فكيف يدخل فيهم الظلمة؟! وإنْ كان ذمّاً فماذا نفعل بالمواصفات المادحة الدالّة على اعتزاز الإسلام بهم؟!

وجواباً على ذلك نقول: لا شكَّ أنه للمدح. ولكنّ الكلام في التفسير. فلا بُدَّ أن نجد ثلّة صالحة تنطبق عليهم تلك المواصفات المادحة. وحيث لا توجد ثلّة حكمت بهذه المواصفات فلا بُدَّ أن يكون على وجه الإنشاء، لا الإخبار.

 ويمكن تقريب هذا الوجه بعبارةٍ أخرى فنقول: إن الخصوصيات الواردة بشأن هؤلاء الاثني عشر في الأحاديث الواردة بشأنهم غير منطبقة على غير أئمة أهل البيت^، لا من جهة العدد، ولا من جهة اعتزاز الإسلام بهم، ولا من جهة استمرار الخلافة فيهم حتّى حصول الهرج والمرج، ولا من جهة صلاحيّتهم وكفاءتهم، ولا من جهة كونهم من بني هاشم وعترة النبيّ|، ولا من سائر الجهات الأخرى والمواصفات والخصوصيات الواردة في أحاديث الفريقين. وعليه فإذا لم يكن للأحاديث معنى بناءً على الإخبار فلا بُدَّ أن تكون صادرة على جهة الإنشاء، وإلاّ كانت مهملةً ولا محصّل لها.

رابعاً: لقد فُسِّر قول النبي|: «إن هذا الأمر لا ينقضي» عند علماء الجمهور بعزة الإسلام والدين وصلاح المسلمين، وليس بالحكم والإمارة([47]). كما روي من طرقنا ما يعضد ذلك عن الإمام عليّ بن الحسين’ قال: قال رسول الله|: «إن هذا الأمر يملكه بعدي اثنا عشر إماماً، تسعة من صلب الحسين×…»([48]). ولا شَكَّ أن المراد بقوله: «إن هذا الأمر يملكه بعدي» أمر الدين الذي كان بيد الرسول|، فهو لمَن ْبعده من الأئمّة، وليس المراد به أمر الحكم فقط.

خامساً: إنه قد روى أبو داوود من حديث سفينة، الذي صحَّحه ابن حِبّان([49]): «الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([50]). وكذلك ما رواه أبو داوود أيضاً: «تدور رحى لخمس وثلاثين سنة أو ستّ وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإنْ يهلكوا فسبيل مَنْ هلك، وإنْ لم يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً»([51]). فإن هذين الخبرين قرينة قوية على إرادة التنصيب في أحاديث الاثني عشر الدالّة على استمرار الخلافة إلى قيام الساعة، وليس انقطاعها إلى ثلاثين سنة.

الختام ــــــ

في الختام ندعو الباحثين إلى إعادة النظر في قراءة التراث الروائي قراءة مجرّدة وموضوعية، بعيدة عن التعصّب والتحيّز المذهبي، ولا سيَّما أحاديث الأئمة الاثني عشر، المقطوع بصدورها، والتي كان يُراد لها أن تكون مناراً للأمّة؛ لضمان مسيرتها، ولكنَّها للأسف وقعت موضعاً للتمحُّل وللقول بغير علم والرجم بالغيب في تفسيرها وبيان مقاصدها، ممّا قد يكون ـ أحياناً ـ استخفافاً بحديث النبيّ|، من حيث يشعر القائل بذلك أو لا يشعر، ولكنّ هذا لا يمنع من تقديم محاولات وقراءات جديدة في هذه الأحاديث. ونسأل الله السداد في القول والعمل، والحمدُ لله أولاً وآخراً، وصلّى الله على محمد وآله.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلميّة، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) صحيح البخاري 8: 127، كتاب الأحكام، باب ما قبل باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة.

([2]) البداية والنهاية 6: 248.

([3]) الغيبة: 120، باب6، ح8.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) صحيح مسلم 6: 3، كتاب الإمارة، باب الناس تبع قريش.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) المصدر نفسه.

([8]) مسند أحمد 5: 87.

([9]) كفاية الأثر: 51، باب6، ح3.

([10]) مسند أحمد 1: 398.

([11]) كفاية الأثر: 23، باب2، ح2.

([12]) المعجم الكبير 2: 256.

([13]) المصدر السابق 2: 286، ح2073.

([14]) المناقب 1: 291.

([15]) الطرائف في معرفة المذاهب: 172، ح269، نقلاً عن تفسير السدّي.

([16]) كنـز العمال 12: 34، ح33861.

([17]) إعلام الورى: 384.

([18]) فرائد السمطين 2: 312، السمط الثاني، باب61، ح562.

([19]) ينابيع المودة 3: 395، باب94، ح46.

([20]) فرائد السمطين 2: 321، السمط الثاني، باب61، ح572.

([21]) مع الشيخ عبد الله السعد في الصحبة والصحابة: 141.

([22]) صحيح مسلم 6: 3.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) صحيح مسلم 6: 4.

([25]) صحيح البخاري 4: 155.

([26]) صحيح مسلم 6: 3.

([27]) المصدر السابق: 2.

([28]) صحيح البخاري 8: 88.

([29]) صحيح مسلم 6: 3.

([30]) البداية والنهاية 6: 250.

([31]) مسند أحمد 3: 97.

([32]) تاريخ مدينة دمشق 29: 160.

([33]) صحيح البخاري 8: 127.

([34]) صحيح مسلم 6: 3.

([35]) المصدر نفسه.

([36]) مع الشيخ عبد الله السعد في الصحبة والصحابة: 143.

([37]) الكشاف 1: 596.

([38]) لوامع العقول، المعروف بـ (شرح رموز الأحاديث) 5: 150.

([39]) صحيح مسلم 6: 3.

([40]) المصدر نفسه.

([41]) البداية والنهاية 6: 215.

([42]) مع الشيخ عبد الله السعد في الصحبة والصحابة: 145.

([43]) صحيح مسلم 6: 3.

([44]) تفسير القرآن العظيم 3: 312.

([45]) انظر: حاشية بعض المعلِّقين على صحيح مسلم 6: 3، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

([46]) المصدر نفسه.

([47]) صحيح مسلم 6: 3، كتاب الإمارة، تعليقة الآبي والشارح على مسلم.

([48]) كفاية الأثر: 165، باب24، ح3.

([49]) صحيح ابن حِبّان 15: 393.

([50]) سنن أبي داوود 2: 303، رقم 4254.

([51]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً