أحدث المقالات

السيد عباس موسويان(*)

ترجمة: الشيخ محمد حسن زراقط

تمهيد

تؤدي الصناعة المصرفية اليوم دوراً مهماً في اقتصاد المجتمعات الإنسانية، من خلال تأسيس أنواع جديدة لحسابات الودائع وتوجيهها باتجاه أنشطة اقتصادية منتجة. وهذا الأمر المهمّ يحصل في زمن يحاول النظام المصرفي الاستفادة من وسائل مشروعة لتشجيع المودعين على إيداع أموالهم في المصارف.

وبعد تغيير قانون العمليات المصرفية في إيران، وتطبيق نظام البنك اللاربوي، ووجه هذا النظام الجديد بإشكالات عدّة، منها: عدم توفر هذا النظام الجديد على أنواع حسابات إيداع تنسجم مع أهداف المودعين وروحياتهم. وسوف نحاول في هذه المقالة البحث عن دوافع المودعين، أفراداً ومؤسسات، وتحليل أنواع الحسابات الموجودة في النظام التقليدي (الربوي) والبنك اللاربوي. وهذه الحسابات هي:

1ـ الحساب الجاري.

2ـ حساب القرض الحسن.

3ـ حساب الإيداع ذو الربح الثابت.

4ـ حساب الاستثمار مع الربح الثابت.

5ـ حساب الاستثمار مع الربح المتغير.

كلّ هذه الحسابات، التي صُمِّمت على أساس عقود القرض اللاربوي (القرض الحسن)، أو الوكالة، ليس فيها مشكلة الربا، ويمكن الاستفادة منها في نظام البنك اللاربوي.

هذا، ويعدّ المصرف والعمل المصرفي أحد أهم ميادين النشاط الاقتصادي في عصرنا الراهن؛ حيث ساهمت المصارف من خلال تنظيم وتوجيه العمليات المالية في تسهيل التبادل التجاري، وتوسعة الأسواق والتنمية الاقتصادية. ومن جهة أخرى ساعدت المصارف عبر تنظيم حسابات الإيداع الصغيرة والكبيرة في توجيه رؤوس الأموال نحو قطاعات الإنتاج التجاري على تحقيق مجموعة من الأمور، أهمها:

أولاً: بدلت رؤوس الأموال الراكدة، والمخربة أحياناً، إلى رؤوس أموال منتجة.

ثانياً: ساعدت قطاعات إنتاجية كانت تعاني من الشلل أو انخفاض الإنتاجية؛ بسبب نقص السيولة النقدية، على الارتقاء والتطور والعمل بفاعلية أكبر.

ثالثاً: بما أن المصارف تعدّ واحدة من العوامل المهمة في مجال رسم السياسات النقدية، وبخاصة المصارف المركزية للدول، فإنها، عبر تأمين الاعتمادات المالية وتوجيهها من مجال إلى مجال، تقوم بدورين في آن معاً: أولهما: تثبيت الاقتصاد في مستوياته العالية؛ وثانيهما: تنظيم القطاعات الاقتصادية.

ومن الواضح أن الآثار والنتائج المشار إلى ترتُّبها على النظام المصرفي والصناعة المصرفية إنّما تترتَّب عندما يكون النظام المصرفي، في أقسامه الأساسية: تأمين الاعتمادات، إعطاء التسهيلات، تقديم خدمات الحسابات الجارية، تنظيم السياسات النقدية، وغيرها، نظاماً جامعاً ومنطقياً وفعّالاً ومرناً.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية وتغيير النظام المصرفي كانت تواجه فكرة نظام البنك اللاربوي في الجمهورية الإسلامية مشكلة عدم الجامعية وعدم الفعالية في مجال تأمين الاعتمادات المالية. وسوف نحاول في هذه المقالة بالدرجة الأولى دراسة دوافع المودعين وروحياتهم؛ لنتعرف على طبيعة الحسابات التي يجب أن يتوفَّر النظام المصرفي عليها ليكون منسجماً مع هذه الدوافع. وفي القسم الثاني من المقالة سوف نوضِّح كيفية تعامل النظام المصرفي التقليدي مع هذه المسألة. وفي القسم الثالث سوف نحاول تقييم النظام المصرفي المعمول به في الجمهورية الإسلامية، لجهة جامعيته وفعاليته. وسوف نخصص القسم الأخير من المقالة لاقتراح أنواع جديدة من الحسابات المصرفية.

أهداف الإيداع ودوافعه

تكمن خلف ظاهرة الإيداع في المصارف دوافع عدّة تدعو الناس والمؤسَّسات الحقيقيّة والمعنويّة إلى إيداع أموالها في المصارف. ومن هنا كان أفضل أنواع النظم المصرفية ذلك النوع المنسجم مع دوافع المودعين، والذي يلبّي رغباتهم. وفي تلخيص لأهداف المودعين ودوافعهم يمكن الإشارة إلى ما يلي:

1ـ حفظ ما يزيد عن الحاجة من السيولة: إن كثيراً من المودعين يلجأون إلى إيداع ما يزيد على حاجاتهم من النقد المتوفِّر بين أيديهم؛ بغرض حفظه في مكان آمن، للاستفادة منه في المصاريف الآتية المتوقَّعة أو غير المتوقَّعة.

2ـ تسهيل التبادل النقدي عبر الخدمات المصرفية: من المعروف أن المصارف تقدم لعملائها خدمات جمّة، من قبيل: الحساب الجاري، وغيره من الحسابات، التي يستطيع العميل الاستفادة منها في حالات السفر وغيرها. وكذلك تمثِّل المصارف واسطة سريعة وموجبة للاطمئنان لنقل الأموال من حساب شخصيّ إلى حساب شخصيّ آخر، ومن مكان إلى مكان آخر. أضف إلى ذلك أن المستندات التي تقدِّمها المصارف تمثِّل وثيقة مهمة في حالات الاختلاف والتنازع. ولهذه الخدمات والمحاسن جميعاً يختار عدد كبير من الناس والمؤسَّسات إجراء مبادلاتهم المالية عبر المصارف. ولأجل ذلك تضطر لإيداع أموالها في المصارف.

3ـ الحصول على الربح: مضافاً إلى ما تقدَّم يوجد عددٌ لا بأس به من الناس، بل والمؤسسات، تملك من النقد مقداراً زائداً عن الحاجة، ولا تستطيع استثماره في مجالات اقتصادية منتجة. ومن هنا تلجأ إلى إيداعه في المصارف؛ للحصول على الربح الذي يعطيه المصرف على الإيداع.

4ـ المشاركة في ثواب القرض الحسن: لمّا كانت النصوص الدينية تشجِّع على الإقراض لوجه الله تعالى فقد يرغب عددٌ كبير من الناس في الحصول على ثواب الإقراض، ولكن لا يجد عدد منهم السبيل إلى التواصل المباشر مع المقترض، أو لا يرغب بذلك؛ لأيّ سبب كان. ومن هنا فإن عدداً من هؤلاء يلجأون إلى بعض المؤسَّسات المعتبرة أو المصارف لتوسيطها في هذا الأمر، فيودعون أموالهم عندها لتتولّى هذه المؤسَّسات عملية الإقراض.

5ـ المساعدة في إعمار البلاد: حيث إنّ المصارف تتحوَّل إلى محلّ تجتمع فيه رؤوس الأموال والودائع الصغيرة، فتتراكم لتتحوَّل إلى أرصدة ضخمة يمكن استخدامها في مشروعات إنتاجية كبرى على مستوى الوطن. ولذلك يودع بعض الناس أموالهم في المصارف بهذا الدافع.

وأخيراً لا بدّ من الالتفات إلى أن هذه الدوافع المذكورة لا تتنافى فيما بينها، فقد يحرِّك اثنان منها أو أكثر شخصاً واحداً لإيداع أمواله في المصرف. نعم، لا يمكن أن تجتمع الرغبة في الحصول على ثواب القرض الحسن مع الرغبة في الحصول على الربح المادّي من هذا القرض؛ لحرمة الربا في الشريعة الإسلامية.

روحيّات المودعين وأصنافهم

ينقسم المودعون، الذين يودعون أموالهم في المصارف بغرض الحصول على الربح، سواء كان هذا غرضاً وحيداً أم رافقته أغراض أخرى، من حيث طبائعهم الشخصية وروحياتهم إلى ثلاث فئات، وهي:

1ـ المخاطرون: بعض الناس؛ ولأسباب نفسيّة، لا يهتمّون كثيراً للمستقبل، ويقدمون على تحمُّل المخاطرة. هذا الصنف من الناس يُقدِم على استثمار أمواله في مجالات يتوقَّع منها الربح العالي، حتى لو كان مرفقاً بدرجة عالية من المخاطرة والتخوُّف من الخسارة.

2ـ العاديون: في مقابل الفئة الأولى تجد بعض الناس مستعدّين لتحمُّل المخاطرة، ولكن عندما ترتفع درجة المخاطرة عن الحدّ المتعارف يتردَّدون في الاستثمار مهما كانت نسبة الأرباح عالية.

3ـ الذين يفرّون من المخاطرة: في مقابل الفئتين السابقتين يوجد بين المودعين مَنْ يخشى المغامرة والمخاطرة، ويميل إلى الحصول على نسبة ثابتة من الربح، حتى لو كانت متدنّية، ويفضِّلها على النسبة العالية من الربح إذا كانت محفوفة بالمخاطرة.

ولا يخفى أن هذا التقسيم لا يرسم الحدود الفاصلة بين الفئات المذكورة، بل هو تصنيف نوعي طبيعيّ مبنيّ على التقريب. مثلاً: إذا اعتبرنا درجة المخاطرة في الحدود العقلائيّة 60%، فإن 25% يفرّون من المخاطرة، و25% يقدمون عليها بشجاعة، و50% عاديون.

العلاقة بين تحمُّل المخاطرة ومستوى الدخل

يقبل كثير من الناس على الاستثمار في الأنشطة الاقتصادية ذات الوضعية المستقرّة والواضحة. وينتج عن كثافة الإقبال على هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية احتدام المنافسة تبعاً لوفرة الإنتاج فيها وانخفاض معدل الربح. بينما نجد الأمر مختلفاً في الأنشطة التي تتضمن نوعاً من المخاطرة، مثل: الأنشطة الجديدة والمبتكرة؛ حيث إن قلّة المنافسين يحول سوق هذه الأنشطة إلى سوق حصرية لعدد قليل من المستثمرين، وبالتالي يرتفع معدل الربح المتوقَّع من الاستثمار في هذه المجالات. وتبعاً لهذا المنطق توجد علاقة مباشرة تجريبية نفسية بين الإقدام على تحمل المخاطرة وبين توقع معدلات ربحية عالية؛ أي كلّما سعى المستثمر إلى ربح أعلى عليه أن يتحمَّل درجة أعلى من المخاطرة. وعليه يجب على النظام المصرفي أن يلبي حاجات كلا القسمين من الناس: أولئك الذين يسعون للادخار، والاستفادة من الخدمات المصرفية في مجال نقل الأموال والاعتمادات، والراغبين في الحصول على الثواب والأجر من خلال المساهمة في القرض الحسن أو المساعدة في إعمار البلاد؛ وأولئك الذين يرغبون ـ ربما مضافاً إلى هذه الأهداف ـ بتحصيل أرباح جرّاء الإيداع في المصارف.

أنواع حسابات الإيداع في المصارف التقليدية

في النظام المصرفيّ المعاصر أنواع عدّة من حسابات الإيداع، ولكن رغم تعددها يمكن تصنيفها بشكل كلّيّ إلى أقسام ثلاثة:

1ـ الحساب الجاري

الحساب الجاري هو نوع من حسابات الإيداع التي يتعهَّد المصرف فيها تجاه المودع بأن يدفع له ما يريد من أمواله بمجرَّد طلبه ذلك. والميزة الأساس للحساب الجاري أنه لا يشترط حضور المودع لدى البنك، بل يسمح للمودع بنقل أمواله إلى مَنْ يريد من خلال ما يعرف بـ «الشيك»؛ ولذلك يعد هذا النوع من الحسابات من أنواع حجم السيولة في المجتمع.

تصنَّف الحسابات الجارية ضمن الحسابات المؤقَّتة، وغالباً ما يستفاد منها في التبادل التجاري الداخليّ والخارجيّ. وفي أكثر البلدان لا يترتَّب على هذه الحسابات أيّة فائدة أو ربح. ولذلك تعد واحدةً من أدنى مصادر الربح والاستثمار. وتسعى المصارف، من خلال تأسيس فروع عدّة في أماكن كثيرة، لجذب أكبر نسبة من الأموال بواسطة هذا النوع من الحسابات.

2ـ حسابات التوفير

يطلق هذا الاسم على الحسابات التي تتمّ بالتوافق بين المصرف والمودع على أن يودع الأخير أمواله في المصرف ويؤدّيها المصرفُ إليه عند الطلب، ولا يحقّ للمودع؛ بموجب هذا الحساب، أن يوسِّط المصرف في نقل أمواله إلى شخصٍ ثالث، بل يحقّ له وحده التصرُّف بها من خلال حضوره لدى المصرف مباشرة أو بالوكالة. ومن هنا يتبين عند مقارنة هذا الحساب بالحساب الجاري أن درجة السيولة في هذا الحساب أدنى من الحساب الجاري، ولا يعد جزءاً من حجم المال في المجتمع. وبشكل عامّ يستخدم الأشخاص الحقيقيون هذا النوع من الحساب لحفظ الأموال؛ لاستخدامها في المصارف المتوقَّعة، ومن أجل شراء الأعيان الطويلة العمر، كالعقارات، وأثاث البيوت، وما شابه من الحاجات غير الاستهلاكية.

وتترتَّب الفائدة على هذا النوع من الحسابات؛ تشجيعاً للمودعين على الاستفادة منها، على الرغم من أن نسبة الفائدة في هذه الحسابات أقلّ بدرجات من الفائدة التي تترتَّب على الحسابات المؤجَّلة (المجمَّدة) أو حسابات الإقراض والاعتمادات.

نعم، في بعض البلاد تعدّ هذه الحسابات من حسابات الإيداع المؤجَّلة؛ لأنّه يحقّ للمصرف تأخير دفع المبالغ المالية التي يطلبها المودع إلى ثلاثين يوماً من تاريخ الطلب، بالرغم من أن المصارف عادة لا تستفيد من هذا الحقّ([1]).

3ـ حسابات الإيداع المؤجَّل

حسابات الإيداع المؤجل هي الحسابات التي يقدم المودع بموجبها على إيداع أمواله لدى المصرف بدافع الحصول على الربح. وهو عقد بين المودع والمصرف يحصل بموجبه المصرف على حق الاحتفاظ بالأموال إلى أجل يتمّ التوافق عليه بين الطرفين، على أن يتمكن المودع عند حلول الأجل من الحصول على أمواله مع الفائدة المترتِّبة عليها. والفائدة التي تلحظ لهذا النوع من الحسابات أعلى من الفائدة المترتِّبة على حساب الادّخار (حساب التوفير)، ولكن المودع لا يحقّ له الحصول على الفائدة إلاّ إذا التزم بالأجل المتَّفق عليه مع المصرف، فلو طلب المال قبل الأجل المضروب، ولبّى المصرف طلبه، لم يحقّ له المطالبة بالفائدة.

ومن الواضح أن هذه الحسابات ترتِّب على المصرف مبالغ كبيرة من الفوائد، ولكن المصارف تقدم على تحمُّل هذه التكاليف نظراً للثبات الموجود في هذا النوع من الحسابات، ما يسمح للمصرف بالاستفادة من هذه الأموال في إقراضها إلى زبائنه بفائدة أعلى. وهذا بخلاف الحسابات الجارية وحسابات الادخار.

وتقسَّم الحسابات المؤجَّلة إلى حسابات قصيرة الأجل (لسنة)، ومتوسطة الأجل (لسنتين أو ثلاث)، وطويلة الأجل (لخمس سنوات)، وترتفع الفائدة تبعاً لطول مدة الأجل.

الماهية القانونية للحسابات المصرفية

تصنَّف الحسابات المصرفية (الحساب الجاري، وحساب التوفير، وحساب الإيداع المؤجّل) قانونياً ضمن عقود الإقراض، وذلك في أكثر البلدان، مثل: أمريكا وفرنسا وبريطانيا وإيران (قبل تغيير النظام المصرفي فيها). ومن هنا يفتي أكثر فقهاء المسلمين بحرمة الفائدة المترتِّبة على الإيداع، وتعد الفائدة التي تقدَّم للمودع رباً محرَّماً([2]).

دراسة حسابات النظام المصرفي التقليدية، ونقدها

في دراسة لقسم تأمين المصادر المالية في النظام المصرفي التقليدي، وبخاصة في المجتمعات الإسلامية، يمكن التوصل إلى النتائج التالية:

1ـ الماهية القانونية للودائع هي القرض. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية تحرِّم كلّ قرض يجرّ نفعاً أو يترتّب عليه فائدة (ربح). ومن هنا أفتى الفقهاء بحرمة الودائع المؤجَّلة. وبالتالي لا يمكن الاستفادة منها في المجتمعات الإسلاميّة.

2ـ تقدم أن بعض الناس يرغبون في الحصول على ثواب القرض الحسن، ويودون نيل هذا الثواب عن طريق إيداع أموالهم في مصارف تؤمِّن هذه الخدمة. ولما كان النظام المصرفي التقليدي لا يقدِّم هذا النوع من الخدمات فسوف يكون باب هذا النوع من الإيداع مقفلاً أمام هؤلاء.

3ـ تقدّم الحديث أيضاً عن وجود عدد من الناس مستعدّين للمخاطرة من أجل الحصول على ربح أعلى. ولما كان النظام المصرفي التقليدي مبنياً على فكرة الربح الثابت الخالي من المخاطرة فإنه لا يوفِّر لهذا النوع من المودعين رغباتهم. فمن الطبيعي أن يتوجَّه هؤلاء إلى الاستثمار في مجالات أخرى، كسوق الأسهم، وغيره من المجالات الاستثمارية التي تناسب ميولهم.

4ـ في النظام المصرفي التقليدي تتوزَّع نسب الفوائد على الإيداعات على النحو التالي: الحساب الجاري فائدته صفر (وفي بعض البلاد يترتَّب عليه فائدة ضئيلة)؛ حساب التوفير فائدته قليلة، وحسابات الإيداع المؤجَّل لأمد قصير تترتَّب عليه فائدة بحدود متوسِّطة، والنسبة الأعلى للفوائد تترتَّب على الإيداع المؤجَّل لفترات طويلة. وبهذا التوزيع للفائدة تتولّى المصارف تحديد قيم الفوائد، وبالتالي تستطيع جذب كلّ أو أكثر السيولة الزائدة عن حاجة السوق في المجتمع.

5ـ في النظام المصرفي التقليدي تتحكَّم المصارف بقيمة الفائدة. مثلاً: عندما يحتاج المصرف إلى سيولة ثابتة فإنه يعمد إلى رفع فائدة الحسابات المؤجَّلة، ويخفِّض فائدة حسابات التوفير، وبالتالي يدفع المودعين إلى نقل أموالهم من حسابات التوفير إلى الحسابات المؤجَّلة. وإذا توفَّر لدى المصرف سيولة زائدة عن حاجته فإنه يعمد إلى خفض نسبة الفوائد، وهكذا…

أنواع حسابات الإيداع في المصارف اللاربوية في إيران

يتولى الفصل الثاني من قانون المصرف اللاربوي، وتحديداً المواد 3 و4 و5 و6 شرح وتوضيح مسألة تأمين المصادر المالية. وبعد نقلنا لهذه المواد سوف نحاول توضيح هذا الأمر من خلال الاستفادة من المقررات الإجرائية والإدارية للمصارف.

المادة 3: تستطيع المصارف قبول الودائع تحت أيّ من العناوين المذكورة أدناه:

أولاً: ودائع القرض الحسن: 1ـ الحساب الجاري؛ 2ـ التوفير.

ثانياً: ودائع الاستثمار المؤجَّلة.

تبصرة: ودائع الاستثمار المؤجَّلة، التي يعدّ المصرف وكيلاً في التصرُّف فيها، يمكنه استثمارها في المشاركة، والمضاربة، والإجارة بشرط التمليك، والبيع بالتقسيط، والمزارعة، والمساقاة، والاستثمار المباشر، والمعاملات النقدية، والجعالة.

المادة 4: يجب على المصارف إعادة دفع ودائع القرض الحسن (التوفير والحساب الجاري)، كما يمكنها التعهد أو ضمان دفع أصل ودائع الاستثمار المؤجَّل.

المادة 5: الأرباح الحاصلة من العمليات المذكورة في تبصرة المادة 3 من هذا القانون يجب تقسيمها بين المصرف وبين المودع على أساس العقد المنظم معه، وبالتناسب مع قيمة الوديعة والأجل المضروب لها.

المادة 6: يستطيع المصرف تشجيع المودعين على الإيداع من خلال مجموعة من الامتيازات التي يقدِّمها لهم، وهذه الامتيازات هي:

1ـ تقديم جوائز غير ثابتة، نقدية أو عينية، لودائع القرض الحسن.

2ـ تخفيف أو إعفاء المودعين من دفع بدل الوكالة.

3ـ إعطاء المودعين حقّ الأولوية للاستفادة من التسهيلات التي يقدِّمها المصرف في الموارد المذكورة في الفصل الثالث.

بالالتفات إلى قانون المصارف، والمقرَّرات التطبيقية التابعة له، يمكن تقسيم حسابات الإيداع إلى الأنواع الثلاثة المذكورة أدناه:

1ـ الحساب الجاري (القرض الحسن)

الحساب الجاري في العمليات المصرفية اللاربوية في إيران ذو ماهية قرضيّة. وهو من هذه الناحية مثل الحساب الجاري في المصارف التقليدية، ويقدِّم للعميل الخدمات التي تقدَّم لصاحب الحساب الجاري في سائر المصارف، ولا يترتَّب عليه أيّة فائدة أو ربح. والنفع الذي يترتَّب على هذا الحساب، مضافاً إلى حفظ الأموال، هو أنه يغني صاحب المال عن حمل ما يحتاج إليه من نقد، ويمكِّنه من الاستفادة من الخدمات المصرفية في مجال نقل الأموال وانتقالها.

والأموال التي تتراكم عند المصرف في هذا النوع من الحساب تدخل في ملكية المصرف وفق ماهية عقد الإقراض، ويستطيع المصرف، بعد حسم ما يجب عليه ادّخاره لدى المصرف المركزي كاحتياط، الاستفادة من المبالغ المتبقّية في تحصيل الأرباح، عن طريق العقود والمعاملات المندرجة في المادة 3.

2ـ حساب التوفير (القرض الحسن)

حساب التوفير أيضاً ذو ماهية قرضية، كما في النظام المصرفي التقليدي، بفارق وحيد، هو أن المصارف التقليدية تحتسب للمودع ربحاً (ربا)، وأما المصرف اللاربوي فإنّه لا يقدِّم لصاحب هذا الحساب ربحاً. وهذا الحساب يسمح للناس بإيداع ما زاد عن حاجتهم لدى المصرف واسترجاعها عند الحاجة. ويستفيد أصحاب هذا النوع من الحساب من الأجر والثواب، من خلال المساهمة في القرض الحسن. والسيولة المتوفِّرة من هذا النوع من الحسابات، كما في النوع السابق، تدخل في ملكية المصرف بحسب عقد القرض، ويستطيع المصرف الاستفادة من المبالغ المتوفِّرة في الاسترباح عبر العقود المذكورة في المادة 3 وفق القواعد المقرَّرة المذكورة أعلاه. ولتشجيع المودعين على هذا النوع من الحساب تعمد المصارف إلى تقديم بعض الجوائز وبعض الامتيازات لأصحاب هذه الحسابات.

3ـ حساب الاستثمار المؤجَّل

العلاقة بين المصرف وبين صاحب حساب الاستثمار المؤجَّل هي علاقة الوكالة. فالمصرف يستثمر هذه الأموال بالوكالة في مجالات المشاركة والمضاربة والإجارة بشرط التمليك والمزارعة والمساقاة والاستثمار المباشر والجعالة والتنزيل (شراءالدين)([3]). ويتعهَّد المصرف بإرجاع أصل الوديعة إلى العميل في الوقت المحدَّد، ويتولّى تقسيم الأرباح الحاصلة من العمليات المذكورة أعلاه بين المودعين وفق ضوابط العقود بينهم وبين المصرف، بما يتناسب مع المبالغ والمدد المقرَّرة لها، وكلّ ذلك بعد اقتطاع التكاليف وحقوق الوكالة المقرَّرة للمصرف نفسه.

في هذا النوع من الحساب لا تحدَّد نسبة الأرباح مسبقاً، ولكن نتيجة سعة العمل وتنوّع المعاملات يصبح المصرف مطمئنّاً بتحقُّق الأرباح، ما يسمح له بدفع نسبة من الأرباح على الحساب قبل احتساب الأرباح بشكلٍ دقيق.

دراسة ونقد تأمين المصادر الماليّة في النظام المصرفي اللاربوي في إيران

سوف نحاول في هذا القسم من المقالة دراسة كلّ واحد من الحسابات المذكورة من جهات مختلفة؛ للتدقيق في نقاط ضعفها ونقاط قوتها.

1ـ الحساب الجاري (القرض الحسن)

هذا الحساب ـ كما تقدّم ـ مشابهٌ تماماً لمثيله في النظام المصرفي التقليدي، لجهة ماهيته القرضية وكيفية العمل فيه. فبافتتاح هذا الحساب يستطيع الأشخاص الحقيقيون والمعنويون إيداع ما زاد عن حاجتهم من النقد في المصرف، واستبدالها بدفتر شيكات؛ للاستفادة منه في تعاملاتهم المالية ومبادلاتهم التجارية. وحيث إن غرض أصحاب هذا النوع من الحساب هو الاستفادة من مزايا الحساب الجاري، مضافاً إلى حفظ الأموال، فإن استخدام وصف (القرض الحسن) في حقّ هذا الحساب لا يبدو صحيحاً. ويبدو أن سبب إطلاق هذه الصفة ناشئٌ من اعتقاد أن كلّ قرض لا يترتَّب عليه ربح مالي هو قرض حسن، والحال أنّ هذا الاعتقاد ليس صحيحاً. وبالرجوع إلى الآيات والروايات يتبيَّن أن القرض الحسن هو القرض الذي يقدَّم إلى المحتاج لرفع حاجته عن طريق إقراضه بغرض الحصول على الثواب والأجر. وعليه فإنه يجوز إقراض المصرف أو غيره بغرض حفظ المال من التلف والاستفادة من تسهيلات الحساب الجاري، ولكنْ لا يسمى هذا قرضاً حسناً، حتى لو لم يحصل المقرض في مقابله على ربح مادّي. وقد تقدم أن أكثر الذين يقدمون على هذا النوع من الحساب يقدمون عليه للاستفادة من الخدمات المترتِّبة عليه.

2ـ حساب التوفير (القرض الحسن)

هذا النوع من الحسابات من الأنواع الرائجة في الأنظمة المصرفيّة. وخصوصيّة هذا الحساب أنه يسمح للمودعين، حقيقيين ومعنويين، أن يودعوا ما زاد عن حاجتهم من النقد في المصارف لمدة غير محدَّدة، مع القدرة على استرجاعها عند الحاجة إليها. والطبيعة القانونية لهذا الحساب قرضية، وفي النظام المصرفي التقليدي يترتَّب على هذا الحساب أرباحٌ، وأما في المصارف اللاربوية فلا يترتَّب عليه ذلك. نعم، قد تقدَّم أنّ للمودعين بعض الجوائز التشجيعيّة (النقدية أو غير النقدية)، التي تقدَّم من دون تعهُّد مسبق، وتوزَّع بصورة غير ثابتة عن طريق القرعة. وحيث إن بعض المودعين في هذا الحساب يقدم على الإيداع بغرض المساهمة في القروض غير الربوية، التي يقدِّمها المصرف للمحتاجين، والحصول على ثوابها، يمكن تسميته قرضاً حسناً. وفي المقابل يوجد بعض الناس الذين يرغبون بالاستفادة من هذا الحساب للحصول على الفائدة والربح، مضافاً إلى حفظ أموالهم، وبالمقارنة بين النظام المصرفي التقليدي وبين النظام اللاربوي نجد أن المصارف التقليدية أقدر على تلبية رغبات هذا النوع الأخير من المودعين؛ لأمرين:

أولاً: لأنّ الربح المترتِّب على هذا الحساب في المصرف اللاربوي مرهونٌ بالمصادفة وإصابة القرعة لاسم المودع؛ حيث إن المصارف في إيران تقدِّم للمودعين جوائز بالقرعة. هذا إذا افترضنا عدم وجود محذور شرعيّ فيه.

وثانياً: لأجل كلفة الدعاية المرتفعة التي يتوجَّب على المصرف اللاربوي دفعها لترويج هذا الحساب.

3ـ حساب الاستثمار المؤجَّل

بالنظر إلى ما تقدَّم في شرح طبيعة هذا الحساب القانونية، وكيفية تحصيل المصرف للأرباح من عائدات الأموال المودعة بهذه الطريقة، وكيفية توزيعها بين المودعين، بالنظر إلى ذلك كله يتبين أن أرباح المصرف، وتبعاً له أرباح المودعين، تابعة للمجالات الاستثمارية التي يخوض المصرف فيها. وبالتالي لا يرتبط تقدير أرباح المصرف بتقدير أرباح هذه المجالات الاستثمارية، بل بتقدير أرباح الاقتصاد كلّه. وبناءً على هذا التوصيف لا يستطيع هذا الحساب أن يجذب الأفراد الذين لا يميلون إلى المخاطرة، والذين يسعون إلى ربح ثابت ومعين من البداية، ولا يجذب سوى أرصدة المخاطرين.

نتيجة المقارنة بين النظام الربوي واللاربوي لجهة تأمين المصادر المالية

1ـ حسابات التوفير والحسابات المؤجَّلة في النظام المصرفي التقليدي ربوية، ولا يمكن الاستفادة منها في البلاد الإسلاميّة.

2ـ المودعون الذين يرغبون بالحصول على ثواب القرض الحسن لا محلّ لهم في النظام المصرفي التقليدي.

3ـ لا محل في النظام المصرفي التقليدي للمودعين الذين يميلون إلى المخاطرة.

4ـ في النظام المصرفي التقليدي يمكن التحكُّم وإدارة المصادر الماليّة من خلال رفع الفوائد أو خفضها، ولا وجود لهذه الميزة في النظام المصرفي اللاربوي.

5ـ في النظام المصرفي اللاربوي لا محلّ للمودعين الذين يرغبون بالربح الثابت دون مخاطرة.

اقتراح نموذج لحساب جديد

حيث إن كيفية تأمين المصادر المالية وابتكار أنواع جديدة لحسابات الإيداع مرتبط بالعقود المتبعة في هذا المجال كان من الواجب توضيح أساليب إعطاء التسهيلات المالية وتخصيص الاعتمادات بشكل مختصر قبل طرح أيّ نوع من الحسابات الجديدة.

أساليب تخصيص الاعتمادات

أقرّ قانون العمليات المصرفيّة مجموعة من الأساليب والطرق تستطيع المصارف اعتمادها في استخدام السيولة الحاصلة من الودائع. وهذه الطرق بحسب القانون يصل عددها إلى اثنتي عشرة طريقة أو أسلوباً. ولكن يمكن تصنيفها في أربعة أصناف، وهي:

1ـ عقود المشاركة

في هذا النوع من العقود يستطيع المصرف الاستفادة من السيولة المجتمعة لديه باستثمارها في أنشطة اقتصادية، بالمشاركة مع مستثمر آخر. ويقسَّم الربح الحاصل بين العامل وبين المصرف بحسب العقد المتَّفق عليه. والمضاربة والمساقاة والمزارعة من أمثلة هذا النوع من العقود. كما أن الاستثمار المباشر يدخل في هذا النوع من العقود من الناحية القانونية.

خصوصية هذا النوع من العقود أن ربح المصرف تابعٌ لنسبة الربح في الميدان المستثمر فيه، كما أنه تابع لطبيعة الإدارة المتَّبعة في الإدارة الشريكة. ونتيجة ذلك أن في هذا النوع من الاستثمار نوعان من المخاطرة: المخاطرة التابعة للوضع الاقتصادي العام؛ والمخاطرة التابعة لطريقة الإدارة في المؤسَّسة المستثمِرة.

2ـ العقود مع الأرباح المتغيِّرة

يؤمِّن المصرف في هذا النوع من العقود رؤوس الأموال التي تحتاجها بعض الأنشطة الاقتصادية. ولهذه العقود، التي هي الإجارة والسلف والجعالة، بحسب ماهيتها ربح متغيِّر، تبعاً للتحوُّلات الاقتصادية في المجتمع، وتغيُّر القيم والأسعار في السوق. وبعبارة أخرى: لا يتأثَّر ربح المصرف بطريقة الإدارة للمؤسَّسة، بل يتأثَّر بالأوضاع الاقتصاديّة العامّة.

3ـ العقود ذات الأرباح الثابتة

في هذا النوع من العقود يتولّى المصرف أيضاً تأمين بعض رساميل الأنشطة الاقتصادية أو جميعها، مع فارق وحيد، هو أن ربح المصرف يتحدَّد بعد العقد وقبل البدء بالنشاط الاقتصادي المموَّل من قبل المصرف؛ بحيث لا يتأثَّر ربحه بما يطرأ من تغيُّر على الاقتصاد العام أو على إدارة المؤسَّسة. وهذه العقود عبارة عن بيع النسيئة (البيع بالتقسيط) والإجارة بشرط التمليك. وتجدر الإشارة إلى أن العقود ذات الأرباح الثابتة والعقود ذات الأرباح المتغيِّرة يستفاد منها أحياناً لرفع حاجات العائلات والأفراد.

4ـ القرض الحسن

القرض الحسن هو عقد قرض يقوم المصرف بموجبه بدور المقرض للأفراد أو المؤسَّسات وفق ضوابط مقرَّرة منصوص عليها في العقد، ويتعهَّد المدين بموجبه بسداد قيمة الدين في الموعد المحدَّد في العقد.

ووفقاً للمادة 14 من قانون المصارف في إيران، والمقرَّرات التنفيذية ذات الصلة، يحقّ للمصارف تقديم هذا النوع من القروض في الموارد التالية:

أولاً: شركات الإنتاج والخدمات (ما عدا الشركات التجارية وشركات التعدين)، التي تنشط في مجالات تساهم في تأمين الحاجات الضرورية للمجتمع، وتوفِّر فرص العمل.

ثانياً: للأفراد الذين يعملون في الزراعة وتربية الدواجن.

ثالثاً: لرفع حاجات الأفراد في مجال الزواج وتهيئة جهاز العروس([4])، ومداواة المرضى، وترميم المنازل، والمساعدات التعليمية، والمساعدة في تأمين المنازل في القرى.

والمدّة المقرَّرة لتسديد القرض المعطى للإنتاج خمس سنوات كحدٍّ أقصى، والقروض التي تعطى للحاجات الشخصية تُسدَّد في مدّة أقصاها ثلاث سنوات. ويحقّ للمصرف أخذ الضمانات الكافية للاطمئنان من إمكانية تسديد المبالغ المعطاة، وكذلك يسمح له القانون بأخذ ما نسبته 2.5% بعنوان أجور موظَّفين وبدل أتعاب.

أنواع الودائع في النموذج المقترح

وبالنظر إلى دوافع المودعين وأوضاعهم النفسية، وكذلك بالنظر إلى نقاط قوّة النظام المصرفي التقليدي والنظام اللاربوي ونقاط ضعفهما، أقترح حسابات الإيداع التالية:

1ـ الحساب الجاري

لا يختلف هذا الحساب من الناحية القانونية وطريقة العمل عن الحساب الجاري المعمول به في المصارف. وكذلك يقدِّم المصرف للمودع بموجبه الخدمات عينها، مثل: الحصول على دفتر شيكات يسمح للمودع بنقل الأموال من حسابه إلى حساب غيره دون حضوره إلى المصرف. وبالتالي فإن استخدام هذا الحساب يؤمِّن للمودع خدمتين، هما: حفظ أمواله؛ وتسهيل معاملاته المالية والتجارية.

وكما تقدّم فإنّ العلاقة بين المصرف وبين المودع في هذا الحساب هي علاقة القرض من دون ربا، وليس القرض الحسن؛ حيث مرّ أن هذا الحساب في إيران لا يترتَّب عليه فائدة ماليّة للمودع. ومن المعلوم أن عقد القرض يؤدّي إلى دخول الأموال المودعة في هذا الحساب في ملكية المصرف، بحيث يمكنه الاستفادة ممّا زاد عن الرصيد الاحتياطيّ والقانونيّ في أعماله ذات الأجل القصير.

ومن المناسب الإشارة إلى أنه إذا ترتَّب على هذا الحساب فائدة ماليّة للمودع، كما هو معمول به في بعض البلاد، فلا يمكن الاستفادة من صيغة عقد القرض، بل لا بدّ من بناء العلاقة بين المصرف والمودع على أساس عقد آخر، هو الوكالة.

2ـ حساب القرض الحسن

لقد بلغ الإسلام الغاية في التأكيد على مساعدة المحتاجين من خلال إقراضهم. وممّا نقل عن النبي(ص): «من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور سيناء…»([5]).

وحيث إن بعض الناس لا يستطيعون القيام بهذا العمل بشكل مباشر، أو لا يرغبون بذلك، يمكن للنظام المصرفي أن يكون واسطة خير في هذا المجال. وبالتالي تستطيع المؤسَّسات الخيرية أو الأفراد إيداع أموالها في المصارف؛ ليستخدمها المصرف ـ بعد اقتطاع الاحتياط والمبالغ القانونية ـ في إقراض الراغبين بالحصول على قروض ميسَّرة لا يترتَّب عليها فوائد، سوى أجور المصرف الواقعية، مع الاحتفاظ بحقّ المودعين في سحب أرصدتهم أو بعضها عند الحاجة إليها. وحتى يتحوَّل القرض الحسن إلى وسيلة جيِّدة لا بد من مراعاة ما يلي:

أولاً: لا بدّ من الانتباه إلى أن الإقراض مستحبّ في موارد الحاجة، ولكنّ الاقتراض مع عدم الحاجة أمرٌ مكروهٌ. وعليه لا بدّ من لحاظ هذا الأمر الأخير في نظام القرض الحسن؛ بحيث تحدَّد الكمية والكيفية التي تجعل القروض تصل إلى مستحقّيها لرفع حاجاتهم الضروريّة.

ثانياً: حيث إن الدولة الإسلاميّة لها وظائف، على رأسها حماية الطبقات الفقيرة والمحتاجة، فعليها أن تقوم بواجبها في هذا المجال؛ بحيث تكون المساهم الأكبر في مجال القرض الحسن، من خلال تخصيص مبالغ كبيرة من ميزانيتها العامة السنوية لتُقرَض إلى المحتاجين في الحوادث غير المتوقَّعة.

ثالثاً: وبمراعاة الأمرين المذكورين أعلاه تضعف الحاجة إلى الدعاية المكلفة وتقديم الجوائز؛ لحث الناس على الإيداع في حساب القرض الحسن، بل يمكن أن تكتفي الدولة والمصارف بدعاية بسيطة وجوائز معنوية غير مادية، وبذلك تنتفي الحاجة إلى الدعاية، وفصل حساب الإيداع عن حساب القرض الحسن.

3ـ حساب الإيداع بالربح الثابت

تقدم أن النظام المصرفيّ التقليديّ يلحظ نوعاً من الحساب بعنوان حساب التوفير، يسمح للناس بإيداع ما زاد عن حاجتهم من النقد في المصارف، وسحبه عند الحاجة إليه. والغرض الأساس من هذا الحساب هو حفظ الأموال. ولكن قد يكون الدافع إلى فتح هذه الحسابات الحصول على الفائدة. ومن هنا تدفع المصارف هذه الفائدة لتشجيع الناس على إيداع أموالها في هذا النوع من الحسابات. ومن الواضح أن النظام اللاربوي لا محلّ فيه لهذا الحساب بالشكل المتعارف عليه في النظام الربوي، وحساب القرض الحسن؛ حيث إنه لا فائدة فيه، فلا يمكن أن يكون بديلاً مناسباً، ولاسيّما أن الحصول على الجوائز مرهون بالقرعة، التي قد تصيب اسم صاحب الحساب وقد لا تصيبه.

ويمكن الاستفادة من بعض العقود الشرعية لابتكار حساب تترتَّب عليه فائدة ثابتة بطريقة مشروعة، يكون بديلاً عن حساب التوفير المتعارف. ولهذا الحساب أشكال عدّة، أبرزها وأكثرها بعداً عن شبهة الربا: أن يجعل المودع المصرف وكيلاً عنه في التصرُّف في ما يودعه عنده؛ لاستخدامه في اسثمارات ذات ربح ثابت، مثل: بيع النسيئة (البيع بالتقسيط)، والإجارة بشرط التمليك، وشراء الدين، ويحصل عن طريق هذه المعاملات على أرباح محدَّدة معروفة سلفاً.

ويستطيع المصرف تحديد أرباح هذه المعاملات في كلّ سنة بحسب تبدُّل الأسعار ووضع السوق والاقتصاد العام، وبعد ذلك يقتطع حقّه وأجوره، ويعلن للراغبين في الاستثمار في هذه المجالات نسبة أرباحهم. ويستطيع المودع أن يوكِّل المصرف في النيابة عنه في الاستثمارات المذكورة، مع احتساب بدل الوكالة للمصرف، والحصول على ما بقي من أرباح لما أودعه لديه.

مثلاً: إذا توصَّل المصرف ـ بعد الدراسة ـ إلى أنّ معدل الربح في الموارد المذكورة أعلاه هي 15% فإنه يقدِّر أن نسبة أرباحه بعد اقتطاع الاحتياطيّ والمبالغ القانونية هي 10% مثلاً، وبعد احتساب 3% مثلاً بعنوان أجور الوكالة يستطيع أن يعلن للمودعين أن نسبة الأرباح التي يمكن أن يحصلوا عليها هي نسبة 7%. وعندها يستطيع المودع أن يوكِّل المصرف في الاسترباح بأمواله، ويقدِّم له أجور الوكالة، ويأخذ الباقي أرباحاً لوديعته.

ونظراً للتشابه بين هذا الحساب وبين حساب الاستثمار بالربح الثابت لا بدّ من توضيح هذا الحساب الأخير، وبعد ذلك نوضِّح الفرق بينهما.

4ـ حساب الاستثمار بالربح الثابت

تقدَّم أن بعض الناس يرغبون بالحصول على الربح من خلال الإيداع في المصرف، ولبعض الأسباب النفسية لا يرغبون بالمخاطرة. وقد لاحظ النظام المصرفي التقليدي هؤلاء الأفراد، وقدَّم لهم حساباً خاصّاً هو حساب الإيداع المؤجَّل. وأما النظام المصرفي اللاربوي في إيران فإنّه لم يلحظ هؤلاء الناس في أصناف حساباته التي أقرّها.

وهنا أيضاً يمكن الاستفادة من بعض العقود المشروعة، وأبسطها توكيل المصرف في استثمار أمواله التي يودعها عنده في بعض الأنشطة الاقتصادية، ومنها: ما تقدمت الإشارة إليه في ما تقدّم. وإذا استخدمنا المثال المذكور في حساب التوفير فإنّ المصرف إذا قدَّر ـ بعد دراسة أوضاع السوق ـ أن نسبة الربح في المجالات المذكورة 15% فإنه بعد اقتطاع الاحتياطي والمبالغ القانونية، التي هي أقل في هذا النوع من الحساب، يمكنه أن يقدر نسبة الأرباح بـ 12.5%، وبعد اقتطاع أجور الوكالة، التي هي مثلاً 2.5%؛ لأن هذا النوع من الودائع أكثر ثباتاً، ومراجعة المودعين أقلّ، وبالتالي إدارة هذه الودائع أقلّ كلفة، يمكن للمصرف أن يعلن أن نسبة الربح في السنة الفلانية هي 10%، ويجري العقد بين المودع والمصرف على هذا الأساس.

أنواع حسابات الاستثمار ذات الربح الثابت

يقسِّم النظام المصرفي التقليدي الودائع المؤجَّلة إلى أقسام، وهي: قصيرة الأجل (سنة واحدة)؛ متوسطة الأجل (سنتان أو ثلاث)؛ طويلة الأجل (خمس سنوات). وترتبط قيمة الفائدة بمدة الإيداع، أي كلّما طالت المدة ارتفعت نسبة الفائدة.

وفي ودائع الاستثمار ذات الربح الثابت يمكن العمل بالطريقة المتقدّمة؛ وذلك لأنه عندما تطول مدة الوديعة تقلّ نسبة المبلغ الاحتياطيّ الذي لا يستطيع المصرف التصرُّف فيه بحسب القانون، وبالتالي يستطيع المصرف أن يحرِّك مبلغاً أكبر من هذه الودائع في أسواق الاستثمار. أضِفْ إلى ذلك أنه عندما تطول مدة الإيداع تقلّ مراجعة المودع إلى المصرف، ويستطيع هذا الأخير التخطيط لاستثمارات منتجة، وبالتالي الحصول على أرباح أكثر، مع تكاليف أقلّ في إدارة الأموال، الأمر الذي يزيد من الربح لمصلحة المودع، فتكون له نسبة أعلى من الأرباح.

توضيح بعض الإشكالات والتعقيدات

في هذا النموذج المقترح لحساب الإيداع يعلن المصرف من البداية نسبة أرباح ثابتة تعطى للمودعين. وهذا الأمر يثير سؤالين، هما:

أولاً: كيف يتسنّى للمصرف الجزم بالحصول على الأرباح أو الاطمئنان بنسبتها؟ فربما لا يستطيع المصرف الحصول على عملاء، أو إذا حصل على عملاء فربما لا يستطيع استرجاع الأموال من عملائه بعد أن قدَّم لهم خدماته.

ثانياً: من المعلوم أن الشرع يحرِّم الاتفاق على نسبة للربح إذا كان العقد قرضاً، ويحرِّم الاتفاق على نسبة ثابتة إذا أدرجنا العقد مع المصرف في باب المضاربة، فكيف نجوِّز تحديد الأرباح في هذا الحساب المصرفي المبتكر؟

وسوف نحاول في ما يلي من هذه المقالة البحث حول هذين السؤالين تحت عنوان: إمكانية دفع الربح الثابت، وجواز الإعلان عنه.

 

إمكان دفع الربح الثابت

إن هذه الإشكالية المطروحة؛ أي كيفية الاطمئنان بالحصول على الربح الثابت، لا تختصّ بطرحنا هذا، بل هي موجودة، ويمكن طرحها في مقابل الصناعة المصرفية، وبخاصة في المصارف التقليدية. فالمصارف التقليدية على أساس معرفتها بأوضاع السوق تقرِّر فائدة محدَّدة للقروض التي تعطيها، وبعد احتساب أرباح المصرف وأتعابه يعلن عن نسبة محدَّدة تعطى للمودعين. ومن الطبيعي وجود  قلق من عدم قدرة المصرف على إعطاء قروض للعملاء، أو عدم إمكان تحصيل القروض التي أعطاها. ولأجل رفع هذه الهواجس تتَّخذ المصارف بعض التدابير والإجراءات التي تضمن للمصرف حصوله على الأرباح. وهذه الإجراءات يمكن اعتمادها بعينها في النموذج المقترح.

1ـ ضبط الودائع بقرارات إداريّة

عندما يشعر المصرف بأن نوعاً من حسابات الإيداع زاد عن المقدار الذي يتوقَّع القدرة على إدارته تستطيع إدارة المصرف الطلب من جميع الفروع توقيف هذا النوع من حسابات الإيداع إلى أجل محدَّد أو غير محدَّد.

2ـ ضبط الودائع من خلال تغيير نسبة الربح

عندما يلاحظ المصرف أنه لا يستطيع، تبعاً لتغيُّرٍ في أوضاع السوق، أن يسوِّق التسهيلات التي يقدِّمها بالأرباح التي كان يتوقَّعها، وبالتالي يحتاج إلى خفض نسبة الأرباح التي يأخذها من العملاء، فإنه في الوقت الذي يعلن عن خفض نسبة الفوائد التي يأخذها يعلن عن خفض نسبة الفوائد التي يعطيها للفترة القادمة. وبهذه الطريقة يستطيع أن يسوِّق خدماته، وفي الوقت عينه يخفِّض قيمة الودائع، ومعها تنخفض التكاليف التي يتوجَّب عليه دفعها إلى المودعين.

3ـ ضبط نوعيّة الودائع من خلال تغيير نسبة أرباحها

قد يشعر المصرف أحياناً أن حجم الودائع مناسب لطاقته وقدرته على إدارته، ولكنها ليست موزَّعة على الحسابات بالشكل الذي كان متوقَّعاً، فإنّه في هذه الحالة يستطيع ضبط توزيع الودائع على الحسابات من خلال تغيير توزيع نسبة الأرباح على الحسابات، فيحصل جراء ذلك على التوزيع المطلوب للودائع على الحسابات. مثلاً: إذا وجدت إدارة المصرف أن نسبة الأرباح التي يدفعها أكبر من المقدار المرغوب به فإنه يستطيع خفض نسبة الأرباح على الودائع الطويلة الأجل، ورفع نسبة الأرباح على ودائع حساب التوفير أو الودائع قصيرة الأجل، فيتحول المودعون إلى النوع الثاني. وبالعكس، إذا وجد المصرف أنه بحاجة إلى حجم أكبر من السيولة فإنه يرفع نسبة الأرباح على الودائع الطويلة الأجل، ليقلل من قيمة الاحتياط، ويزيد بذلك حجم السيولة التي يحتاجها.

4ـ ضبط تحصيل القروض

يستطيع المصرف اتّخاذ مجموعة من التدابير للاطمئنان من إمكانية تحصيل القروض التي يقدِّمها للعملاء. ومن هذه الطرق: أخذ الوثائق اللازمة والضمانات الكافية، بل وأحياناً عن طريق التأمين على القروض التي يقدِّمها، ما يقلِّل نسبة التخلُّف عن التسديد إلى درجة الصفر أحياناً. وهذه الإجراءات يمكن اعتمادها في النموذج المقترح.

والحاصل أنّ المصرف اللاربويّ ـ كالمصرف التقليديّ ـ يمكنه اعتماد الإجراءات التي تؤدّي إلى رفع القصور في تقديم التسهيلات والخدمات لعملائه من جهة، ومن جهة أخرى تضمن له الحصول على نسبة عالية من وفاء عملائه بأقساطهم له. وبهذه الإجراءات يستطيع المصرف الوصول إلى صدقية عالية لتقديره لأرباحه، الأمر الذي يسمح له بوعد المودعين بالحصول على نسب واضحة ومحدَّدة، ولو فرض وجود بعض الموارد غير المتوقَّعة فيمكن صرف النظر عنها، وتغطية أعبائها من أرباح المصرف نفسه.

مشروعية الاتفاق المسبق على الربح الثابت

السؤال الثاني، الذي قد يكون أكثر أهمية من الأول في المجتمعات الإسلامية، هو في جواز إعلان المصرف لنسبة ثابتة من الأرباح عند الاتفاق مع المودع. ألا ينطبق تعريف الربا على اشتراط نسبة ثابتة من الأرباح عند الاتفاق مع المودع؟ في الجواب عن هذا السؤال نقول:

أولاً: يتحقَّق الربا بحسب تعريف الفقهاء له في موردين:

1ـ حالة الاتفاق على دفع مبلغ يضاف إلى أصل رأس المال عند التوافق على القرض.

2ـ حالة بيع الأعيان الربوية ببعضها مع زيادة (حالة بيع المكيل أو الموزون من جنس واحد مع زيادة).

وقد مر سابقاً أكثر من مرّة أن ماهية العقد محلّ البحث في هذا القسم من المقالة هو شيءٌ آخر لا علاقة له بالقرض، فما يحكم علاقة المودع مع المصرف هي عقد الوكالة، لا القرض، ولا بيع المكيل أو الموزون من جنس واحد. ومن الواضح أنه لو قال الموكل لوكيله: «بع لي هذا المتاع بكذا، وأعطني كذا، وخذ ما بقي أجرة وكالتك» فلا مشكلة شرعيّة في ذلك. نعم، لو فرض أن الوكيل عجز عن بيع المتاع، أو باعه وعجز عن قبض ثمنه، فلا الوكيل له حقّ المطالبة، ولا الوكيل مطالب بدفع الثمن من ماله. ولكنْ بحسب الضوابط والإجراءات المشار إليها في ما مضى فإنّ مثل هذه الحالة إما أن لا تتحقَّق، وإما أنها تتحقَّق في حالات نادرة، يظهر أثرها في أجرة الوكالة، لا في الربح المتَّفق عليه بين المودع والمصرف.

ثانياً: هناك فرق كبير بين التعهُّد القانوني وبين الضمان الحقيقي. وما يسمّى ربا، ويحكم عليه بالحرمة، هو التعهُّد القانوني.

وتوضيح ذلك: إنه تارة يأخذ أحدهم، سواء كان شخصية حقيقية أو معنوية، مبلغاً من المال من جهة أخرى، سواء كانت شخصية حقيقية أو معنوية، ويتعهَّد بتسديد هذا المبلغ مع نسبة معينة من الفائدة عليه، بغضّ النظر عن كيفية التصرُّف فيه أو مورد صرفه؛ أي يتعهد بدفع رأس المال والزيادة، سواء بقي المال راكداً أو اتَّجر به، وسواء أخذه للاستهلاك أم للتجارة، وإذا كان للتجارة سواء كان الربح الحاصل مقطوعاً به أو محتملاً، تحقَّق أم لم يتحقَّق. هذا التعهد هو تعهد قانوني، وهو الربا المحرَّم.

وأما في حالة المصرف، الذي يملك تجربة ممتدّة لسنوات، وبرنامجاً واضحاً لاستثمار الأموال من خلال عقود معينة وبأرباح محدَّدة، ويملك وسائل علمية وعملية لضبط هذه الأموال، وضمانات لاسترجاعها، فإنّ مثل هذه المؤسسة، مصرفاً كانت أم غيره، تستطيع الجزم بحصول نسبة واضحة من الأرباح في آخر الدورة المالية المعتمدة لديها، ولو فرض وجود هامش للخطأ فإنّه خطأ قابل للتسامح والجبر. وعليه إذا كان الأمر كذلك فباستطاعة هذه المؤسسة أن تعلن للمودع أنها تضمن له الحصول على نسبة محدَّدة من الربح لقاء المبلغ الماليّ الذي يودعه لديها. وهذا ضمانٌ من المصرف لحصول الربح، وليس تعهُّداً بدفع مبلغٍ زائدٍ عن رأس المال، حتّى يدخل في دائرة الربا المحرَّم([6]).

والأمر الذي يستحقّ الاهتمام في العمليات المصرفية هو ما يؤثِّر على دوافع المودعين، ويدعوهم إلى اتخاذ القرار بالإيداع؛ وهذا الأمر الأساس هو الضمان الحقيقي للحصول على الربح، لا التعهُّد القانوني بدفع الربح، وإلاّ فلو قدَّم المصرف كلّ الوثائق التي تلزمه بدفع الربح، ولم يطمئن المودع بضمانات حصوله، فلا شيء يدعوه إلى التعامل مع المصرف والإيداع عنده.

5ـ حساب الاستثمار بالربح المتغيِّر

ذكرنا في ما سبق أن بعض الناس يرغبون بالمخاطرة، وهم مستعدّون للمخاطرة مهما علت درجتها؛ من أجل الحصول على أرباح أكثر، وآخرون معتدلون مستعدون للمخاطرة بحدود معقولة؛ طمعاً بالحصول على ربح أعلى. وذكرنا أيضاً أن النظام المصرفي التقليديّ لا يفتح أبوابه للفئتين من هؤلاء الناس، ويدفعهم إلى سوق الأسهم والأوراق المالية. بينما يمكن للمصرف اللاربوي أن يلبي حاجة هؤلاء، ويضمّهم إلى أسرة مودعيه؛ حيث إن نظام المصارف اللاربوية في إيران يسمح لها باستثمار أموالها في مجالات منتجة غير معلومة الأرباح، من خلال نظام المشاركة في بعض الأنشطة الاقتصادية، كالمزارعة والمضاربة والمساقاة أو الاستثمار المباشر، أو غير ذلك من المعاملات غير الثابتة الأرباح، كالسلف والجعالة والإجارة. وفي نهاية الدورة المالية يقسِّم الأرباح على المودعين بحسب رؤوس أموالهم. ومن الواضح أن الأرباح الحاصلة من عقود المشاركة تابعة لتحولات الاقتصاد العام، ولحسن إدارة المؤسسة لنشاطها الاقتصادي، وأما العقود ذات الأرباح المتغيِّرة فلا تتأثَّر بحسن إدارة المؤسَّسة، وإنْ كانت تتأثَّر بالأوضاع الاقتصادية العامة. وعلى أيّة حال فإنّ ربح هذا النوع من الاستثمار يحتوي على المخاطرة، ويحتمل الزيادة والنقيصة. ونظام المصرف اللاربوي يسمح للمصارف بجذب رؤوس أموال لاستثمارها في هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية، من خلال فتح حسابات استثمار بربح متغيِّر. ويتمّ التعاقد بين المودع والمصرف بأن يجعل المودع المصرف عند افتتاح الحساب وكيلاً عنه في ضمّ رصيده المالي إلى سائر الأرصدة المودعة بالطريقة عينها؛ لاستثمارها في عقود ذات أرباح متغيِّرة، على أن تقسَّم الأرباح في نهاية الدورة الماليّة بين المودعين بحسب أرصدتهم، بعد اقتطاع مبلغ من المال للمصرف بعنوان أجرة الوكالة.

أنواع ودائع الاستثمار بالربح المتغيِّر

ودائع الاستثمار بالربح المتغيِّر ـ كنظيرتها من ودائع الاستثمار بالربح الثابت ـ يمكن تقسيمها إلى ودائع لسنة، أو سنتين، أو ثلاث سنوات، أو خمس سنوات، أو خمس سنوات قابلة للانتقال. وفي ودائع الاستثمار ذات الربح المتغيِّر يمكن فتح حساب خاصّ للأفراد الراغبين بالمخاطرة واستثمار أموالهم في مشروعات اقتصاديّة خاصّة. وفي هذه الودائع أيضاً كلما كانت المدة أطول كلما كانت الحاجة إلى الاحتياط أقلّ. وبالتالي يتمكَّن المصرف من استثمار الجزء الأكبر من الوديعة، ما يسمح له بالحصول على نسبة أعلى من الأرباح، مع التذكير بتأثير قلّة مراجعة المودع للمصرف على خفض أجور الوكالة التي يأخذها المصرف.

نتائج واقتراحات

1ـ النموذج المقترح في هذه المقالة أقدر على الوفاء برغبات المودعين من النظام المصرفي الربوي، ومن النظام اللاربوي المعتمد حاليّاً في إيران.

2ـ النموذج المقترح لا يطبَّق على المصارف الحكومية وحدها، وإنما يقبل التطبيق في المصارف التي يديرها القطاع الخاصّ.

3ـ الوضع الأفضل لتطبيق هذا النموذج هو وجود حالة منافسة كاملة؛ ليكون الربح الحاصل ربحاً حقيقياً. ولكن مع ذلك يمكن تطبيقه في الأسواق شبه المغلقة، أو المغلقة من جوانب عدّة، ما لم تكن نسبة الأرباح مجحفة.

4ـ لقد صُمِّم هذا الاقتراح مع مراعاة الموازين الفقهية وقوانين النظام المصرفي اللاربوي المعمول به حاليّاً في إيران. ولا شكّ في أن تحقُّق النظام المصرفي الإسلاميّ يحتاج، مضافاً إلى انسجامه مع الموازين الفقهية، إلى التدقيق من الخبراء في العقود؛ ليتمّ الخلاص من الربا، ومن روحية الربا أيضاً، بحيث لا يتركَّز الاهتمام على الفرار من الربا الظاهريّ، مع الوقوع في الحكمة الكامنة وراء تحريمه.

5ـ إنّ هذا النموذج المقترح يحتاج ـ ككل طرح جديد ـ إلى الاختبار في نطاق ضيِّق؛ ليتمّ تعميمه بعد اختباره، وترميم ما فيه من خلل، أو ظهور خلوّه من الخلل.

الهوامش

(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وباحث في مجال الاقتصاد الإسلامي، رئيس تحرير مجلّة «اقتصاد إسلامي» الصادرة عن المجمع العلمي للفكر والثقافة الإسلاميّة.

([1]) عباس‌ صدقي، أصول‌ بانكداري (أصول الصناعة المصرفية): 91، منشورات جامعة طهران.

([2]) السيد عباس‌ موسويان، بانكداري‌ إسلامي (النظام المصرفي الإسلامي): 53 ـ 70، مؤ‌سسة‌ الأبحاث النقدية والمصرفية، ط 2، 1380هـ. ش.

([3]) العمليات المتعلقة بشراء الدين تتمّ على ضوء النظام المؤقَّت المتعلِّق بتنزيل السندات والأوراق المالية، الذي أقرّ في لجنة المال في المجلس، في الجلسة التي عقدت بتاريخ: 26/8/1361هـ. ش، وصدق عليه بأكثرية الأصوات، واعتبر غير مخالف للشرع والدستور في الجمهورية الإسلامية في مجلس صيانة الدستور. وأدخلت عليه بعض التعديلات في لجنة المال، في جلسة 24/9/1366هـ. ش. ووفق هذا النظام على المصرف أن يتأكَّد من كون وثيقة الدين مورد المعاملة ديناً حقيقياً، كي لا يتمّ شراء دين تواطأ طرفان على دعواه دون أن يكون ثابتاً في الواقع.

([4]) يشار إلى أن العرف في إيران يقضي بأن يتولّى والد الفتاة تجهيز منزلها قبل انتقالها إلى بيت الزوجية، كما في بعض البلاد العربية (المترجم).

([5]) تحرير الوسيلة1: 652.

([6]) لمزيد من التفصيل راجع: السيد محمود الهاشمي، مجموعة مقالات المؤتمر الثاني لمؤسَّسة المصارف الإسلامية العالية: 69.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً