أحدث المقالات

حوار مع: السيد كاظم الحائري(*)

ترجمة: علي عباس الوردي

 

تعريف بشخص المرجع الحائري ــــــ

_ نتقدم لسماحتكم بالشكر الجزيل على الفرصة التي أتحتموها لنا، ونرجو في البدء أن تتفضلوا بذكر نبذة عن حياتكم العلمية ومسيرتكم الدراسية.

^ في الفترة التي شرعت فيها بالدراسة كان هناك إلى جانب المدارس الحكومية ما يعرف بالمكاتيب آنذاك، لكنّي لم أدخل المدرسة الحكومية كما لم أشهد المكاتيب، إنّما بدأت منذ الخامسة من عمري بالتعلم على يدي والدتي المكرمة، فهي التي علمتني ألف باء القرآن الكريم، ومفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي، وعين الحياة للعلامة المجلسي، وغيرها.

وبعد مضي سنتين من التعليم بين يدي والدتي انتقلت إلى حلقة درس والدي&.

وقد طويت السطوح بأكملها على يديه. كما كنت أحضر لدى بعض الأفاضل بشكل متفرّق، لكن أستاذي الأساس كان والدي&.

وعندما بلغت السابعة عشرة من عمري شرعت بحضور بحث الخارج في محضر السيد محمود الشاهرودي ومكثت بين يديه ما يقارب الثمانية عشر عاماً، مستفيداً من درسه في الفقه والأصول.

وفي هذه الأثناء تعرفت إلى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وحضرت درسه في الفقه والأصول، وبقيت في محضره مستفيداً لما يقارب الأربعة عشر عاماً.

وفي الأعوام الأخيرة، وعندما اعتزل السيد محمود الشاهرودي& الدرس؛ لتقادمه في العمر، اقتصر حضوري على درس الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

وفي جمادى الأولى عام 1394هـ تركت العراق؛ هرباً من النظام البعثي المعادي للإسلام، وهاجرت إلى إيران، وباشرت منذ ذلك الحين وإلى اليوم بالتدريس في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

_ هل أخذتم عن الشهيد الصدر علوماً أخرى غير الفقه والأصول؟

^ نعم، إضافة إلى الفقه والأصول أخذت عنه دروساً في الفلسفة والاقتصاد، فقد كنت أقرأ بدقة وتمعُّن كتابيه: (اقتصادنا)؛ و(فلسفتنا)، وكلما طرأت لي شبهة أو واجهني إشكال كنتُ أفد إلى محضره، وأطرحها عليه، فيشرح لي الموضوع بالتفصيل، ويجيب عن أسئلتي.

كما قرأت بين يديه كتاب (الأسس المنطقية) أيضاً.

_ هل كان لديكم مساهمات علمية أو تعاونٌ علميٌّ مع الشهيد؟

^ نعم، فقد ساهمت مع سماحته في تدوين جزء من كتاب (الأسس المنطقية). وهو كتاب يتناول حساب الاحتمالات وكيفية إحراز العلم عن طريق تضافر الاحتمالات.

 

مكانة السيد الصدر في حوزة النجف ــــــ

_ بالنظر إلى المدة المديدة التي حظيتم فيها برفقة السيد الشهيد علمياً، كيف تجدون موقع سماحته& ومكانته في الحوزة العلمية في النجف الأشرف؟

^ لقد كان الشهيد الصدر يحظى بمنزلة علمية مرموقة في حوزة النجف الأشرف. لقد كان نابغةً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وعلى أكثر من صعيد. وما يبرهن على ذلك تركته العلمية، ومؤلَّفاته التي تمثِّل أعجوبة حقيقية على مستوى الإتقان والتجديد والريادة. ولا يزال حتى هذه اللحظة بعضٌ من مؤلَّفاته القيمة فريداً من نوعه.

كما كان لأسلوبه التدريسي ميزاته الخاصة، فقد تمتع بالدقة والعمق والشمولية والإحاطة. لذلك ترعرع على يديه تلامذة أكفاء ومرموقون للغاية.

وحين بدأت مشواري معه كان مشغولاً في بحث (الترتّب). وبعد فترة غير طويلة حدثت لي مشاكل أعاقت تواصلي وأربكت مشاركتي في درسه.

فعلم& بالأمر، وطلب منيّ الحضور والتواصل، قائلاً: «إذا حضرت هذا الدرس لمدة خمس سنوات أضمن لك الاجتهاد». وهذا يشير إلى قدرته العلمية، ومنهجه التدريسي الذي يؤهِّل الطالب لنيل درجة الاجتهاد في غضون فترة وجيزة.

 

واقع النجف في عصر السيد الصدر ــــــ

_ هل لكم أن تصفوا لنا الواقع العلمي والسياسي لحوزة النجف الأشرف في عهد سماحته؟

^ لقد كان الواقع العلمي لحوزة النجف الأشرف جيداً. فقد كانت هناك جهودٌ علمية ونشاطٌ بحثيّ ملفت. إلاّ أن الواقع السياسي للحوزة لم يكن جيداً، سواء على صعيد الموقف الحكومي إزاءها، المتمثل بالضغوط السياسية التي كان يمارسها البعثيون، والحصار الشديد المفروض عليها، والذي أدّى في النهاية إلى انهيارها، أو على صعيد موقف الحوزة نفسها إزاء الوضع الاجتماعي القائم آنذاك. فللأسف أدّى قصور الوعي، وغياب الرؤية، والإحجام عن مواكبة التطورات السياسية التي كان العراق يمر بها، إلى عدم تمكّن الحوزة من اتخاذ المواقف والقرارات المناسبة.

وقد كان الشهيد الصدر& وتلامذته، وكذلك الإمام الخميني& لدى إقامته في النجف، يعانون من ذلك بشدة.

 

المعالم العامة لفكر الصدر ــــــ

_ لا شك أن الشهيد الصدر كان من المجددين الكبار، ولديه مساهمات تجديدية مهمة شملت جملة من العلوم، كالفقه والأصول والفلسفة والكلام والمنطق و..، لو أنكم تتحدّثون عن هذا الموضوع، وتستعرضون لنا بعض النماذج.

^ لقد كتب الشهيد الصدر في مجالات مختلفة، وقدّم للساحة العلمية أعمالاً خالدة، وكان له في كل عمل من هذه الأعمال بصمات تطويرية واضحة. فعلى الصعيد الفقهي ترك لنا الشهيد& (بحوث في شرح العروة الوثقى)، طبع منها أربعة مجلدات. وعلى صعيد الأصول هناك (تقريرات بحثه)، التي حرّرت بأقلام تلامذته الأفاضل، و(بحوث في علم الأصول)، الذي حرّر بقلمه الشريف. وعلى صعيد الفلسفة كتب سماحته كتاب (فلسفتنا)، الذي تناول في بعض أجزائه الفلسفة الجديدة. وفي علم الكلام لديه كتاب (الرسل والرسول والرسالة)، وقد جعله& مقدّمة لرسالته العملية، وتناول فيه جملة من البحوث الكلامية، معتمداً منهج حساب الاحتمالات في مناقشة الأدلة وردّها.

وفي التفسير تبنى سماحته مشروع التفسير الموضوعي للقرآن، ولديه كرّاسين مختصرين لكن مهمّين للغاية في هذا الإطار.

وفي التاريخ لدى سماحته كتاب (فدك)، الذي حرّره في مطلع شبابه، ولديه أيضاً كتاب يتناول فيه جانباً من سيرة الأئمة^ تحت عنوان (أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف).

وجميع هذه المؤلفات تشير إلى سعة الأفق الفكري الذي كان الشهيد العزيز يتمتع به؛ لما انطوت عليه هذه المؤلفات من إبداع وخلاقية، سواء على صعيد المضمون أو المنهج الاستدلالي والبياني أو على صعيد التصنيف والتبويب والتنظيم أو طريقة استعراضه للبحوث. ولا يسع المقام لاستيعاب كافة صوره الإبداعية، لكني أشرتُ في مقدمة كتاب (تقريرات الأصول) إلى عدد منها. خذوا على سبيل المثال (الفتاوى الواضحة)، التي تمثل رسالته العملية، وقارنوها بنظيراتها من الرسائل، فسيتضح لكم مدى الأفق الإبداعي الذي حقَّقه. فهذا الكتاب، أي الفتاوى الواضحة، يبدأ بمقدمة تتناول جملة من القضايا الاعتقادية، وقد طرحت بأسلوب جديد شمل طريقة السرد وطريقة الاستدلال وطريقة استعراض البحوث.

ففي هذا العمل القيّم نجد إضافة إلى الرأي الفقهي إبداعاً وخلاقية في الأسلوب السردي، وفي طريقة تبويب المسائل والموضوعات.

وبالجملة هناك سمتين تميزت بهما مجمل أعماله: الأولى: العمق والدقة؛ والثانية: الشمول والاستيعاب في تناول الموضوعات. فقد كانت رؤيته للفقه رؤية اجتماعية، بمعنى أنّه لم يكن يرى الفقه مسؤولاً على الموقف الفردي للمكلّف فحسب، وإنّما يتعدّاه إلى كافة جوانب الحياة. وهذه الرؤية ساهمت في حصول الكثير من الإبداعات، وبإمكانكم رصدها في أعماله الفقهية.

 

مشروع الصدر الإصلاحي في الحوزة العلمية ــــــ

_ لقد كان سماحته جادّاً في مشروع إصلاح الحوزة العلمية في النجف الأشرف، هل بالإمكان أن تتحدّثوا لنا عن ماهية مشروعه الإصلاحي، وعلى ماذا اعتمد بالدرجة الأساس؟ وما هي الجوانب التي كان يركز عليها؟

^ لقد عقد سماحة الأستاذ في السنوات العشرة الأخيرة من عمره الشريف جلسة أسبوعية في منزله كان يحضرها خيرة تلامذته.

والمواضيع التي كانت تتداول في هذا التجمع الأسبوعي مواضيع تتناول أبرز المشاكل والأزمات الفكرية والثقافية التي تعصف بالحوزة والعالم. ومن المواضيع التي طرحت في تلك الجلسة، وامتدت لجلسات أخرى، موضوع (المرجعية الصالحة والمرجعية الموضوعية)، فقد كان& يولي هذا الموضوع اهتماماً كبيراً. وفي الختام طلب سماحته مني أن أقرِّر خلاصة ما دار حول هذا الموضوع، وبدوري امتثلت لطلبه، وقرّرت خلاصة البحث، وأضفت له بعض الآراء والمقترحات التي دارت على هامش الجلسة، وقدمتها له. وبعد أن ألقى عليها نظره المبارك قام بتحريرها مع بعض الإضافات والتغييرات، وقد أوردت نص ما كتبه في مقدمة كتاب الأصول (تقرير (بحث القطع) الذي ألقاه سماحته).

لقد كان الأستاذ ينظر إلى مشروع إصلاح الحوزة نظرة فوقانية، فهو يرى أنّ مشروع (المرجعية الصالحة وأهدافها) يستوعب كافة التغييرات البنيوية الجذرية للحوزة، كتغيير المناهج الدراسية، والإشراف على الدروس، ومراحل التدريس، وتلبية المتطلبات الفكرية والثقافية للعالم الإسلامي، والإشراف على المراكز العلمية والبحثية التابعة للحوزة، والعلاقات مع الجهات خارج إطار الحوزة و…إلخ.

لذلك فالمشروع يستحق التأمل والبحث، ومن الضروري التعاطي معه من قبل الحوزويين بشكل جاد.

 

السياسة التربوية للسيد الصدر ــــــ

_ لقد كان الشهيد موفقاً إلى حدٍّ كبير في تربية وإعداد وتنشئة الطلبة. وكثير من الشخصيات العلمية التي لمعت اليوم في الحوزات العلمية، ونجدها تحمل منهجاً وأسلوباً جديداً في العلوم الحوزوية، تنتمي إلى حلقته الدراسية. فبرأي سماحتكم ما هو رمز هذا التوفيق الكبير؟ وما هو المنهج الذي اعتمده الشهيد ليعطي مثل هذه الثمار المباركة؟

^ لقد كان للأخلاق الحسنة والسجايا الكريمة التي يتحلّى بها الشهيد تأثيرٌ كبير على كلّ مَنْ يتعرّف عليه. وكان أسلوبه في البيان منقطع النظير. كما كان لمقدرته العلمية، واهتمامه الكبير بالتربية العلمية والأخلاقية للطلاب، و…، دورٌ مهمّ في نجاحه بإعداد وتربية الطلاب.

وهنا أودّ أن أذكر موقفاً حدث مع سماحته، قد يعكس لنا صورة عن أخلاقه الرفيعة من جهة، واهتمامه الجادّ بالتربية العلمية والأخلاقية للطلاب. في أحد الأيام، وفي حضور جمع من طلابه الأفاضل، قال سماحته: «إنّ الاقتصار على الفقه والأصول في الحوزة العلمية ليس صحيحاً، عليكم أن تتطلّعوا إلى العلوم الإسلامية المختلفة الأخرى، ولا تقتصروا على الفقه والأصول». وقد اقترح في هذه الجلسة أن يتباحثوا بكتاب (فلسفتنا). وعلى ضوء ما تفضل به سماحته قررنا أنا والإخوة أن نعقد بيننا جلسة لدارسة هذا الكتاب في منزلنا. وحين حل اليوم المقرر أن نبدأ فيه المباحثة سمعت الباب يطرق، فخرجتُ وإذا بي أرى أستاذنا العزيز الشهيد الصدر، فدخل المنزل، وانضم إلى جلسة المباحثة، وقال: «لقد حضرت هذه الجلسة لأنّي اعتقد بعدم وجود جلسة أفضل عند الله من جلسة تُتداول فيها العلوم والمعارف الإسلامية، فأنا أحب المشاركة في مثل هذه الجلسات».

لاحظوا كيف يقوم العالِم الكبير بتشجيع طلابه وحثّهم على طلب العلم، وكيف كان يحظى مَنْ يدرس العلوم الإسلامية ويسعى لتهذيب نفسه بمنزلة في قلبه.

لقد كانت علاقته بطلابه كعلاقة الأب بأبنائه، وليس ككل أب، بل الأب العطوف. فبعد أن هاجر عدد من طلبة الأستاذ الفاضل تحت ضغط نظام البعث الدموي إلى إيران سجّل سماحته شريطاً صوتياً، وأرسله إليهم، وقد تضمّن وصفاً لألم الفراق والبعد عنهم بنحو يندر أن يصف أب مشتاق لولده مثل ذلك الوصف. وقد قال لنا أحد الإخوة، وقد كان حاضراً لدى سماحة الأستاذ الشهيد حين تسجيله الشريط: «حين كانت الجمل تجري على لسان الأستاذ كانت دموعه الشريفة تجري معها، فقد كان يقول: السلام عليكم أيها الأحبة من أبيكم، البعيد عنكم بجسمه، القريب منكم بقلبه، الذي يعيشكم في أعماق نفسه وفي كل ذكرياته…».

وقد أوردت النص الكامل لهذه الرسالة، إلى جانب عدد من الرسائل الأخرى التي بعثها إلى طلبته، في مقدمة كتاب الأصول. وستكتشفون لدى قراءتها حقيقة الصلة والعلاقة العاطفية التي تربطه بطلبته، والتي نادراً ما تجدها بين طالب وأستاذ، أو بين أب وابن.

_ إضافة إلى الأعمال التي تركها الشهيد الصدر ما هي الأعمال الأخرى أو المواضيع التي كان ينوي أن يخوض فيها؟

^ لقد كان عازماً على تأليف موسوعة في فقه المعاملات تتضمّن مقارنة مع القوانين الغربية.

وقد كان يولي هذا الموضوع أهمية كبرى؛ لأنّه كان يريد من هذا العمل إظهار تفوُّق القوانين الإسلامية على نظيرتها الغربية. لكن للأسف الشديد فإن الانشغالات التي طرأت عليه في أواخر عمره الشريف وشهادته حرمت المجتمع العلمي من هذه المجموعة القيّمة.

ولو وفّق سماحته أنْ يمنح العالم الإسلامي مثل هذه الموسوعة القيّمة لكان بالإمكان حلحلة الكثير من العقد في باب المعاملات، ولتسنّى للقانون الإسلامي أن يحتل موقعه المتميّز على الصعيد العالمي.

 

أفكار صدرية لم تسمح الظروف بها ــــــ

_ هل كان لسماحته رؤية معينة حالت الأجواء التي كانت سائدة في حوزة النجف الأشرف دون طرحها؟

^ لقد كانت فكرة وجوب تشكيل الحكومة الإسلامية من الأفكار التي كان سماحته يتداولها بين خواص طلبته، ولم تكن الأجواء السائدة في الحوزة تسمح بطرحها في المحافل العامة للحوزة؛ ذلك أن معظم الطلبة والعلماء لم يكن باستطاعتهم تقبل فكرة الحكومة الإسلامية قبل ظهور الإمام المهدي#. كما أنّ الشهيد لم يكن حينها متصدِّياً للمرجعية كي تسمع له الحوزة وتطيع. من هنا حين بدأ الإمام الخميني، وهو في مقام المرجعية، بحث موضوع الحكومة الإسلامية في النجف الأشرف سُرّ الشهيد الصدر سروراً بالغاً، وأيَّد ذلك بشدة.

_ منذ متى بدأ الشهيد الصدر الخوض في القضايا السياسية؟

^ حسب ما أعرف فإنّ مساعيه ومواقفه السياسية تعود لمرحلة الفتوة لديه. فمنذ مطلع شبابه؛ ونظراً لما كان يتميّز به من فطنة وذكاء وحرص على الإسلام والمسلمين، لم يكن باستطاعته أن يتجنّب القضايا السياسية وما كانت تشهده الساحة العراقية والعالمية، لذلك نجده دخل السياسة وهو لا يزال فتياً في ريعان شبابه.

_ هل بالإمكان أن تشيروا إلى بعض مساعي سماحته الاجتماعية ومواقفه السياسية؟

^ لقد كان سماحته يدعم كل مسعى إسلامي إيجابي. فقد كان ـ قدر المستطاع ـ يواصل دعمه لكل مجهود سياسي أو اجتماعي صالح. فعلى سبيل المثال: كان يدعم فكرياً وعلمياً مدرسة العلوم الإسلامية، التي أسسها السيد الحكيم؛ نظراً لبرامجها المتميزة.

وكان يدعم فكرياً وعلمياً كلية أصول الدين، التي كانت تتبع المنهج الأكاديمي الحديث، وحرّر لها كتاب (المعالم الجديدة) كمنهج يدرّس في هذه الجامعة.

كان لدى سماحته تعاوناً مع التيارات الإسلامية التي أسسها كبار العلماء في النجف الأشرف، كـ (جماعة العلماء في النجف الأشرف)، التي تأسست في عهد عبد الكريم قاسم على يد ثلّة من كبار علماء النجف؛ لتمارس دوراً اجتماعياً وسياسياً.

وقد كان الشهيد الصدر حينها في فترة شبابه، ولم يكن عضواً في (جماعة العلماء)، لكنْ كان لديه تعاونٌ وتواصل علمي وفكري مع هذه الجماعة، وكان يثري مجلة (الأضواء) التابعة لهذه الجماعة بمقالاته. وكانت مقالاته تنشر تحت عنوان (رسالتنا)، وتعدّ أبرز وأهم المقالات المنشورة في هذه المجلة، بل إنها كانت بمثابة خارطة الطريق التي تحدد المسار العام لـ (جماعة العلماء).

كما ساهم سماحته في تأسيس حزب الدعوة، وهو أحد الأحزاب السياسية.

الأمر الآخر الذي كان الشهيد يسعى له بشدة هو تأسيس حوزة علمية صغيرة في وسط الحوزة العلمية في النجف. ولو كتب لهذا المشروع النجاح كما كان قد قرر له، ولو سمح عمره الشريف بذلك، لكان أحدث انقلاباً في الحوزة، ولاحتلّت الحوزة الجديدة مكان الحوزة الحالية.

ومن أنشطته الأخرى ومساعيه السياسية التخطيط للإطاحة بنظام البعث، والعمل على هذا الأمر، وهو ما أدى في النهاية إلى استشهاده.

أمّا كتاباه (فلسفتنا) و(اقتصادنا) فقد مثَّلا ردّاً دقيقاً وشاملاً على الاتجاه الماركسي الإلحادي الذي كان قد ألقى في تلك الحقبة ظلاله المخيفة على الدول الإسلامية، والاتجاه الرأسمالي الغربي الذي أخذ يكتسح العالم.

_ متى بدأ يتبلور موقف الشهيد الصدر في التصدّي لحزب البعث؟ وما هو منهجه في المواجهة؟

^ لقد اتخذ الشهيد الصدر موقفه المناوئ لحزب البعث منذ وصول الأخير إلى سدة الحكم. وكان أوّل مَنْ أصدر أمراً بتغيير المواجهة السلمية إلى المواجهة المسلحة هو الشهيد الصدر. وكان هو الوحيد الذي يرى وجوب الكفاح المسلح ضد البعثيين، وهو الأمر الذي تبناه حزب الدعوة فيما بعد.

 

الإمامان الصدر والخميني، علاقة وطيدة ــــــ

_ لقد كان الشهيد الصدر من أبرز مؤيِّدي الثورة الإسلامية بكل إخلاص وتفانٍ وشجاعة، يا حبذا لو تتحدثون لنا عن بعض ملامح علاقته بالإمام الخميني والثورة الإسلامية.

^ لقد كان سماحته من المؤيدين للإمام الخميني طيلة مكوثه في العراق. وفي بعض المراحل لم يكن هناك مَنْ يقف إلى جانب الإمام الخميني سوى الشهيد الصدر. أذكر أنه حين عزم حزب البعث على إخراج الإمام من العراق تمت محاصرة داره بقوة أمنية كبيرة، بحيث لم يجرؤ أحد أن يمرّ في الزقاق الذي كان يقع فيه دار الإمام، فكيف بمَنْ يزوره! لكن الشهيد الصدر كان المرجع الوحيد الذي أعلن تأييده وإسناده ودعمه للإمام الخميني في أشد اللحظات حساسية وخطورة، وقام بالتوجه لزيارته واللقاء به في ذلك اليوم، وعندما قالوا له: إنّ دار الإمام محاصرة بشدة من قبل الأجهزة الأمنية، ولا يسمحون لأي شخص بالمرور، كان يجيب: لابدّ أن أذهب، وليحصل ما يحصل. وعندما ألقي القبض عليه كان من جملة التهم التي وجهت له، وتم تعذيبه عليها، هو هذه اللقاءات. وبعد انتصار الثورة الإسلامية عزم الشهيد الصدر على دعمها بكافة الأشكال، سواء بالمواقف أو بالفكر، وكان يوصي تلامذته بوجوب دعم الثورة الإسلامية والإمام الخميني. والذي يشير إلى ذلك مجموعة مقالاته التي أصدرها آنذاك تحت عنوان (الإسلام يقود الحياة)، التي عالج فيها جزءاً مهمّاً من المتطلبات والعقبات الفكرية التي واجهت الثورة الإسلامية، وكذلك هي الرسائل التي بعث بها إلى طلبته في إيران، والخطابات التي وجهها إلى الشعب الإيراني، والدعم الذي قدمه له. لقد كان الشهيد الصدر يكنّ احتراماً شديداً للإمام الخميني، ويؤمن به وبمنهجه من صميم قلبه. ينقل عنه أنه قال ما مضمونه: «لو أمرني الإمام الخميني أن أصبح وكيله في قرية من القرى لامتثلت لأمره».

ومن أخطر التهم التي سجلت في ملفّه في أمن بغداد هو علاقته الوطيدة وحبّه وإخلاصه للإمام الخميني والثورة الإسلامية.

 

ذكرياتي مع السيد الصدر ــــــ

_ حدثونا عن بعض ذكرياتكم ومواقفكم مع الشهيد الصدر؟

^ الذكريات كثيرة، لكني أشير هنا إلى بعضها:

1ـ قال لي يوماً: «عندما ألفت كتاب (فلسفتنا) أردت أن أطبعه باسم (جماعة العلماء)، لكن كانت لديهم بعض الآراء المعينة للتعديل على الكتاب أو إصلاحه لم تكن مقبولة من وجهة نظري، لذلك قررت أن أطبعه باسمي. والآن، وبعدما طبع الكتاب، ونال هذا الحجم من الشهرة لدى الخاص والعام، وأصبح مؤلفه ذائع الصيت ومشهوراً في كل مكان، أحياناً أفكِّر في نفسي: لو كنت أعلم قبل أن أطبع الكتاب بما سيناله من شهرة واستقبال يا ترى هل كنت مستعداً أن أطبعه باسم (جماعة العلماء) دون أن يذكر اسمي عليه؟ إنّ هذا الشك في مدى استعداد النفس للقيام بمثل هذا العمل يؤلمني كثيراً».

وعندما كان سماحته يتحدث عن حالته المعنوية تلك كان يتألم كثيراً، لدرجة أنّه كان على وشك البكاء، رغم أن ذلك لم يكن سوى شك، لكنّ خوفه كان طروء مثل هذا الامتحان دون أن يكون مستعدّاً له. لاحظوا كم هو الفارق!

2ـ الموقف الآخر الذي أذكره عن هذا العالم الكبير يشير إلى قّمّة تواضعه وطهارة نفسه وسمو روحه: كان للأستاذ تلميذ بدأ يبتعد عن درسه ومنهجه الفكري، ويخالفه ويناوئه، لدرجة أنّه أصبح يتحدّث عن الأستاذ بسوء، والأستاذ يعلم بذلك. وفي يوم من الأيام، وبينما كنت في محضره المبارك، صادف أن فتح حديث ذلك الطالب، فقال سماحته ما مضمونه: «بالنسبة لي لا زلتُ أرى عدالة ذلك الشخص، وأمّا كلامه عنّي فمنشؤه خطأ في التصور الذي يحمله عني، لا عن مسامحة في الدين». وعندما بدأ البعثيون بتهجير طلبة العلم الإيرانيين من العراق قسراً رأيت أحد هؤلاء الطلبة حضر لتوديع أستاذنا الشهيد، وكان هذا الطالب على خلاف مع الأستاذ، ولم تكن علاقته حسنة به، لكن الأستاذ حين قام بتوديعه بكى بكاءً شديداً، حتى ليظنّ الناظر أنّه يفارق أقرب المقرّبين إليه، وكأنّ الذي كان بينهما لم يكن.

3ـ وقد امتازت حياته الشريفة في كافة مراحلها بالزهد والمشقة، سواء في مرحلة طلب العلم أو مرحلة التدريس أو مرحلة تصدّيه للمرجعية.

لقد كان يقول ما مضمونه: «كنت أعاني أيام الدراسة فقراً شديداً، لكن حين كنت أستيقظ صباحاً كنت أنهمك في الدراسة والمطالعة لدرجة أنسى معها كل شيء حتى يحين موعد الطعام، وتبدأ العائلة بمطالبتي، عندئذٍ كنت أبدأ بالتفكير حيال ذلك».

وعندما أصبح مدرّساً معروفاً لم يطرأ تغيير على حياته، وبقي يعيش في العسر الشديد. ففي الأجواء الملتهبة لصيف النجف لم يكن الأستاذ الشهيد يملك أي جهاز للتبريد في منزله. كما أنّ محل درسنا كان في مقبرة آل ياسين، ولم تكن هي الأخرى تحوي جهازاً للتبريد، وكان عرف الحوزة العلمية آنذاك يقضي بعدم توقف الدروس في فصل الصيف. وفي أحد الأيام زاره السيد عبد الغني وقال له: «سيدنا، إنّ الطلبة الذين يحضرون درس سماحتكم يعانون معاناة كبيرة بسبب شدة الحر، أرجو أن تسمحوا لي بأن أشتري لكم مكيف هواء (مبردة)، وأضعها في محل الدرس. وبالإمكان أن أشتريها بسعر زهيد جدّاً وبالتقسيط، بحيث لا يتجاوز القسط دينارين شهرياً».

وحياءً من أن يجيبه بأنّ وضعنا المادي لا يسمح اختار سيدنا الأستاذ الصمت، لكن السيد عبد الغني& فهم من صمت الأستاذ القبول، فذهب واشترى جهاز التبريد (المبردة). وحين سمع الأستاذ بشراء المبردة ارتبك وتغيّر لونه؛ لأنّه بقي متحيّراً في كيفية تسديد هذا المبلغ.

أمّا في مرحلة تصدّيه للمرجعية، وحين كانت ترده الحقوق الشرعية، كان يقول ما مضمونه: «لقد فهّمت ابنتي (مرام) بأنّ هذه ليست أموالنا؛ كي لا تعتقد بأنّ لها حقّ التصرف الشخصي بها. لذلك حين كانت هذه الطفلة تلتقي بالآخرين كانت تقول لهم: إنّ أبي يملك أموالاً كثيرة، لكنها ليست له!».

4ـ لقد كان يربي أولاده بحيث كان يقول ما مضمونه: «قسماً بروح ابنتي (مرام)، لقد زرعت في نفسها بغض الصهاينة منذ الطفولة؛ لذلك عندما كنت أتحدث لها عن جرائم الصهاينة وظلمهم للمسلمين كانت تحزن وتتألم كثيراً، وحين أعقب ذلك بالحديث عن شجاعة المسلمين ووقوفهم في وجه الصهاينة كانت أساريرها تتفتّح وتغمرها البهجة».

5ـ وهنا أودّ أن أنقل لكم قصة تعكس مدى علاقة أستاذنا الشهيد بمولى الموحدين علي×، نقلها لي بنفسه، قال: «حين كنت طالباً كنت مداوماً على زيارة حرم أمير المؤمنين× يومياً لساعة واحدة، وكنت أجلس هناك وأغرق في التأمل في القضايا العلمية؛ أملاً في أن أستلهم من بركات الإمام× وأجد حلاًّ لمعضلاتي العلمية. ولم يكن أحد يعلم بنيتي تلك، إلى أن قطعت تلك العادة، فرأت أمي أو امرأة أخرى من أسرته ـ والترديد مني ـ في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين× يقول لها ما مضمونه: قولي لباقر: لماذا ترك الدرس الذي كان يأخذه عنّا؟».

_ في إطار إحياء فكر هذه النابغة الإسلامية الكبرى ما الذي تقترحونه؟

^ لابدّ للحوزة العلمية أن تتبنى مشروع الفقه المقارن الذي كان الشهيد الصدر عازماً على تدوينه وحال الأجل دون ذلك، وتضعه بين يدي المفكرين والمراكز العلمية والبحثية. كما على الحوزة العلمية أيضاً أن تسير باتجاه تحقيق ما كان يطمح إليه هذا الرجل العظيم.

_ نتقدم بأتم الشكر والتقدير لسماحتكم على إتاحتكم هذه الفرصة، ومنحنا من وقتكم الشريف، وصبركم على أسئلتنا، ونسأل الله القدير أن يمدّ في عمركم، ويوفقكم، ويرفع منزلتكم، ويزيد شأنكم.

^ وأنا بدوري أشكركم أيضاً.

 

(*) أحد مراجع التقليد الكبار في قم، من أبرز تلامذة الشهيد الصدر، له مؤلفات عديدة في الفقه والأصول والعقائد والأخلاق.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً