أحدث المقالات

عرض وتحليل موجَزَين

حيدر حبّ الله*

تمهيد

الحديث عن قضيّة المرأة في الاجتهاد الإسلامي ـ وهو في نفسه مفهومٌ قلق ـ على صعيد العالم العربي يحتاج للكثير من الكلام، لكنّني هنا سوف استهدف رصداً موجزاً؛ بغية الاطّلاع على التحوّلات والمآلات.

وسوف أقسّم الكلام إلى ثلاثة محاور، أتحدّث في الأوّل منها عن نقطة الانطلاق، ثم أنعطف نحو مسير التحوّلات، لأنتهي بذكر ثماني نقاط تحليليّة موجزة. وفي الغالب سوف أقتصر هنا على التوصيف والتحليل، وليس على التقويم وإبداء الرأي والموقف.

نقطة البداية

ثمّة خلاف بين الباحثين في تحديد نقطة البداية لقضيّة المرأة في العالم العربي، بين رأيين:

الرأي الأوّل: ويذهب إلى أنّ نقطة البداية تعود للنصف الأوّل من القرن التاسع عشر الميلادي، حيث نجد أنّ النهضوي المصري الكبير رفاعة الطهطاوي (1873م) قد تحدّث حول موضوع المرأة وقضيّة التعليم في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، والذي صدر عام 1834م، كما نجد شخصيّات لاحقة أمثال المؤرّخة والأديبة اللبنانيّة زينب فوّاز (1844 ـ 1914م)، في كتابها (الرسائل الزينبيّة)، والشيخ المصري ذي الأصول التونسيّة حمزة فتح الله (1849 ـ 1918م) في كتابه (باكورة الكلام على حقوق المرأة في الإسلام)، يساهمان في الحديث أيضاً.

ووفقاً لهذا الرأي، يعتبر هؤلاء الباحثين، أنّ العالم العربي قد سبق تركيا في تناول قضيّة المرأة وتحريرها.

الرأي الثاني: ويذهب إلى أن نقطة البداية كانت مع المفكّر المصري قاسم أمين (1908م)، أحد مؤسّسي جامعة القاهرة، وذلك في أوّل كتابٍ له عام 1899م، بعنوان (تحرير المرأة)، ثم أصدر بعده بسنتين كتاب (المرأة الجديدة)، وقد أحدثت أعماله ضجّة كبيرة جداً، حتى صُنّفت من أكبر الهزّات الثقافية التي شهدها العالم العربي في تلك الفترة، حيث خُصّصت كتب وصحف للردّ عليه.

لقد أخذت أعمال قاسم أمين أبعاداً عدّة، ففيما يرى بعضهم أنّ الشيخ محمّد عبده قد شارك سرّاً في وضع بعض أجزاء كتاب قاسم أمين، فيما يخصّ الفكر الإسلامي، نظراً لعدم تخصّص أمين بذلك، يرى آخرون أنّ عبده كان مؤيّداً ضمناً، وكان رفضه لإصدار فتوى ضدّ قاسم أمين وصمته عن الحديث عنه، مشيرَين لموقفه المعتدل نسبيّاً منه أو ربما الميّال إليه.

لقد تناول قاسم أمين موضوعات عدّة، من فكرة كشف الوجه والكفّين، مروراً بقضيّة الاختلاط والخلوة، وليس وصولاً إلى تعدّد الزوجات وحقّ الطلاق وغير ذلك.

حركة المشهد في سياقه الزمني، لمحة سريعة

ويتتالى المشهد بعد قاسم أمين، ففي لبنان كتبت نظيرة زين الدين المعروفة بالمرأة الحديديّة (1978م) كتبت عام 1928م كتاباً باسم السفور والحجاب، منتقدةً الحجاب ومعتبرةً إيّاه مقيّداً ومعيقاً لتطوّر الأمّة، وقد كُتبت ردود على أعمالها لعلّ من أبرزها ما كتبه مصطفى الغلاييني.

وفي تونس، أصدر الطاهر الحداد (1935م)، كتاباً عام 1930م تحت عنوان (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، تميّز بجرأة كبيرة، منظراً لفكرة تغير الأحكام بتغيّر الأوضاع الاجتماعيّة، كالإرث وعقوبة الزنا وتعدّد الزوجات وغير ذلك، وقد لاقت أعماله ردوداً عديدة من علماء الزيتونة في المغرب العربي.

وبظهور الحركات الإسلامية السياسيّة بعد انهيار الدولة العثمانية، بدأ المشهد يأخذ طابعاً آخر، ففي البداية ظلّت الحركة الإسلاميّة ملتزمة تقريباً بالموقف التقليدي من المرأة، وهذا ما نراه في النصف الأوّل من القرن العشرين، بينما يشهد النصف الثاني منه تحوّلاً كبيراً جداً، حيث بدأ النشاط النسوي يظهر في العمل الإسلامي، الأمر الذي بدأنا نجد معه تدريجياً تنظيرات اجتهاديّة إسلاميّة لتغيير وضع المرأة، والسعي لإخراجها من البيت نحو الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة.

لقد شعر الباحث الإسلامي بأنّ الرؤية الإسلاميّة باتت مستهدفة من قبل التيارات العلمانيّة والحداثية، واُصيب بالكثير من الإحراج في قضايا حسّاسة منها قضيّة الحجاب، وما تمثله في تلك الفترة من حجب المرأة عن الحياة العامّة، إلى جانب سعي العلمانيين والحداثيين لدعم مواقفهم بالتجربة، ففيما تؤكّد التجربة الغربية تقدّم الغرب الذي حرّر المرأة، تثبت التجربة الإسلاميّة أنّ الفشل يحيط بنا في كلّ مكان، وأنّنا لم نقف يوماً مع حقوق المظلومين كالمرأة، من هنا سعى الفكر الإسلامي ـ ومنذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ـ لمقاربة الموضوع من زاوية أخرى، وهي زاوية إثبات أنّ الإسلام شارك هو الآخر في تحرير المرأة، وأنّ له مفهومه في هذه القضيّة، فمثلاً كتبت المفكّرة والكاتبة المصريّة عائشة عبد الرحمن (1998م) المعروفة ببنت الشاطئ عام 1967م كتاباً باسم (المفهوم الإسلامي لتحرير المرأة)، فيما صنّف المفكّر الإسلامي عبد الحليم أبو شُقّة (1995م) كتابه الضخم (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، في عدّة أجزاء، ليعيد إثبات مفهوم تحرير المرأة منتسباً للإسلام، وكأنّ قصية تحرير المرأة صارت مفهوماً مسلّماً، كلّ ما في الأمر أنّنا نتنافس على من هو الذي يحظى بشرف تحرير المرأة.

هذا المسار دفع بالمفكّر الإسلامي في العالم العربي نحو إعادة النظر في الموروث الديني، فشمّر عن ساعديه لنقد الرؤية الكلاسيكيّة الدينية حول المرأة، وإعادة إنتاج مفهوم جديد، فعبد الحليم أبوشُقّة بذل جهداً مركّزاً على تنقيح الأحاديث ونقدها وإعادة تصنيفها، ليخرج بنتيجة يقول بنفسه بأنّه قد تفاجأ بها، تبدو مشرقة أكثر حول موقف الإسلام من المرأة، فيما نجد أنّ شخصية مهمّة مثل شخصيّة الداعية المصري الشيخ محمّد الغزالي (1996م)، تُحدث ضجّة كبيرة في مشروعها النقدي في مثل كتاب (السنّة النبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث) وكتاب (قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة) وهما الكتابان الرائدان في مجالهما، في نقد النصوص والعادات والفتاوى، وقد تسبّبت أفكاره في موجة نقد عارمة ضدّه.

ونجد الشيخ يوسف القرضاوي يشارك بقوّة في مشروع إعادة القراءة الاجتهاديّة لقضيّة المرأة، عبر كتب ومحاضرات وحواريات عديدة له، خاصّة كتابه (مُسلمة الغد) داعياً لعصر جديد حول المرأة، ويشاركه في ذلك الدكتور حسن الترابي في سلسلة اجتهاداته في هذا السياق.

هذا التنظير الاجتهادي الذي كان يستهدف إعادة تقديم رؤية دينيّة حول المرأة في سياق مواجهة الخصوم السياسيّين والاجتماعيّين في المعسكرين الشرقي والغربي، ترجم نفسه داخل الحركة الإسلاميّة، ففي البدايات ظلّت الحركة الاسلاميّة على موقفها، لكن ولاحقاً ظهر الدور النسوي في الحياة العامّة، وصار حضور المرأة المحجّبة في الحياة السياسية والاجتماعيّة والنشاطات العامّة واسعاً جداً، وإن لم يبلغ إلى يومنا هذا مستوى منافسة دور الرجل أو التساوي معه، ربما بسبب ضعف الكادر النسوي وعدم وجود مشاريع تأهيل له، فتُرك ليخوض التجربة بنفسه، أو لأنّ الحياة الاُسرية كانت تفرض تراجع الدور النسوي لما تفرضه اجتماعياً من التزامات، وهذا ما يلاحظ بقوّة في بلدان مثل الجزائر ومصر، أو ـ كما يقول بعضهم ـ لأنّ قيادات الحركات الإسلامية كانوا غالباً من الطبقات الفقيرة والمتوسّطة، وهي طبقات تحتاج لوقتٍ كي تتقبّل مستويات عالية من حضور المرأة.

وإذا أردنا أن ننفصل جزئيّاً عن المشهد العربي في إطاره السنّي لندخل في الإطار الشيعي العربي، إذا جاز لنا أن نقدّم هذا التمييز هنا، فنحن نلاحظ أنّ الاجتهاد الشيعي في العالم العربي قد سار في نفس المنحنيات التي كان سار قبله فيها الاجتهاد السني، فمن الدفاع إلى النقد الداخلي إلى الرغبة في المحاكاة، ومن تغييب المرأة إلى استحضارها في الحياة العامّة مع الحركة الإسلاميّة في العراق ولبنان وغيرهما، نشهد الوتيرة نفسها.

ففيما كان الشيخ محمّد جواد مغنيّة (1979م) في لبنان والسيد محمّد باقر الصدر (1980م) في العراق وأمثالهما يستخدمون منطق الدفاع، وليس لديهم قراءة نقديّة مركّزة لفقه المرأة، وجدنا آخرين والجيلَ اللاحق الذي ظهر في الحركة الإسلاميّة وعلى هامشها يشتغل أكثر بقضيّة النقد الداخلي لإنتاج اجتهادٍ جديد، وهنا يمكن أخذ عيّنة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (2001م)، والسيد محمّد حسين فضل الله (2010م).

ففي سلسلته المشهورة (مسائل حرجة في فقه المرأة) يعيد شمس الدين إنتاج أصول الاجتهاد في قضيّة المرأة منطلقاً من محوريّة القرآن، ومُخضعاً نصوص التراث والحديث للكلّيات القرآنيّة العامّة إخضاعاً حقيقيّاً، متوصّلاً لمواقف تعدّ جريئةً في فترته، مثل جواز تولّي المرأة للسلطة السياسيّة العليا.

وعلى الخطّ نفسه كانت أعمال السيد فضل الله الكثيرة تشارك في مقاربات نقدية واسعة لمفردات فقه المرأة في الفقه الإسلاميّ، من حيث حقوقها الزوجيّة والعامّة.

تصوّرات عامّة وتحليلات موجزة

إنّنا نلاحظ هنا في هذا المسار عدّة أمور:

1 ـ إنّ معركة المرأة ظلّت ومنذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا عنصر تجاذب شديد بين تيّار يدعو للتنوير والتحرير منطلقاً من مفاهيم الحقوق والحريات ومن بارادايم المذهب الإنساني، وتيار يدعو للأخلاق والعفّة. إنّ جدلية التحرير والعفّة، ظلّت تلاحق كلّ الباحثين في قضيّة المرأة. وفي المساحة الوسطى وجدنا المفكّر الإسلامي يسعى لمقاربة قضيّة المرأة بطريقة تجمع بين التحرير والأخلاق، بحيث يمنح المرأة المزيد من الحقوق دون أن يورّط نفسه في تمزيق القيم الأخلاقيّة الاجتماعيّة. إنّ قضيّة ستر الوجه والكفين وكذلك الاختلاط وعمل المرأة ما تزال تمثل واحدة من أكبر أشكال الجدل في ثنائية العفّة والتحرير. وأيّ اجتهادٍ إسلاميّ مستنير يقف على المحكّ في قدرته على تحرير المرأة دون إدخال المجتمع في فضاء غير مناسب أخلاقيّاً، ولهذا وجدنا الشيخ محمّد عبده يتحدث بصراحة ـ وهو يدافع عن حق المرأة في التعليم ـ عن أنّ الجهل ليس هو سبب العفّة والأخلاق، والعلم ليس سبب التحلّل والإباحيّة، بل يمكن الجمع بين تعليم المرأة والحفاظ على الأخلاق، ولهذا أيضاً وجدنا بعض كبار القيادات السياسيّة الإسلاميّة في لبنان مؤخّراً يبدي تحفّظه على قضيّة الاختلاط رغم جوازها الشرعي، الأمر الذي يكشف عن أنّ همّ التحرير والأخلاق يشكلان هاجساً يسكن عقلية المجتهد المعاصر.

2 ـ إنّ كلّ التجاذبات التي شهدها العالم العربي منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم، في قضيّة المرأة، تدور حول الأنموذج الغربي، ففي الوقت الذي يستند فيه تيار التحرير لنجاح الأنموذج الغربي، يسعى المختلفون معه لإثبات عدم النجاح، وإذا شعروا بحرجٍ في الدفاع عن تجربتهم قاموا بنقد الموروث لإنتاج تجربة ناجحة رديفة ومنافسة.

إنّ واحدة من ضرورات التقدّم اليوم في هذا الموضوع هو التحرّر من التأثير الغربي لقضيّة المرأة، دون نسيانه، وإنتاج تحرير لها يكون قادراً على مراعاة الظروف المجتمعيّة لبلدان الشرق.

3 ـ في المرحلة الأولى، كنّا نلاحظ أنّ الجدل يقع بين تيارين: تحرّري متأثر بالتجربة الغربيّة، ويفكر في كثير من المواقع من خارج إطار النصوص الدينيّة، بل ومن خارج الرؤية الإسلاميّة كلّها أحياناً، ويقابله تيار دفاعي داخلي يستهدف الدفاع عن المفاهيم الدينية الموجوة في النصوص وفي التجربة الاجتماعيّة والعادات، لكنّنا في المرحلة اللاحقة، خاصة منذ بدايات الربع الأخير من القرن العشرين وإلى اليوم، نجد تيارات ثلاثة:

أ ـ تيار التحرّر بالشكل الذي رأيناه، وهو ما تمثله شخصيّات كثيرة جداً اليوم مثل عالمة الاجتماع المغربيّة فاطمة مرنيسي (2015م) التي تعتبر أنّ الإنسان العربي يفكّر متعالياً عن الزمانية والتاريخية، وأنّ الذات العربية تعاني من هذا النمط من التفكير، في مقابل ضرورة أن نكون زمنيّين ونفكّر في داخل اللحظة واعين لها.

ب ـ تيار التجديد الاسلامي، القائم على مقاربات اجتهاديّة داخل دينيّة، تعيد النظر في الموروث الاجتماعي والموروث الفقهي معاً، وتقوم على عدّة أركان منها:

الركن الأوّل: تفكيك العادات عن الدين، بواسطة تقديم نقد مركّز للكثير من العادات والأعراف الراسخة حول المرأة، والتي لا يوجد أيّ أصل ديني محكم فيها، والتمييز بين العيب الاجتماعي والحرام الديني.

الركن الثاني: التحرّر من فكرتَي الاجماع والمشهور الفقهي، بوصفهما فكرتين قابضتين على عقل الفقيه تمنعانه من التجديد الحقيقي الجوهري، وتحصران نشاطه في سياق تغييري ضيّق جداً.

الركن الثالث: وضع أكبر الجهود في تقديم مقاربة نقدية للحديث الشريف، بواسطة نقد مصادره وأسانيده وكذلك نقد متونه، خاصّة عبر منهجيّة العرض على القرآن الكريم، ومن ثم الإطاحة بالكثير من الفتاوى والمواقف الدينية الموروثة التي لا تستحقّ البقاء عليها.

بل يذهب فريقٌ إلى ضرورة التخلّي عن الحديث الشريف في الاجتهاد الديني عموماً، وخاصّة في مثل قضايا المرأة، وهو التيار القرآني العربي الذي حاول إعادة إنتاج حقوق المرأة وفق النصّ القرآني فقط، مستبعداً الحديث الشريف بالكليّة، ومن أبرز شخصيّاته الباحث السوري البارز الدكتور محمّد شحرور في أعماله المتعدّدة، مثل (نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي) وغيره، والباحث المصري المعروف الدكتور أحمد صبحي منصور.

الركن الرابع: إعادة إنتاج فهم النصوص الدينية في سياق وعي تاريخي للحظتها الزمنيّة، كما هي دراسات المفكّر المصري نصر حامد أبوزيد (2010م) حول المرأة، كما في كتابه (دوائر الخوف)، وهذا ما فتح على مقاربات ومقارنات بين النصوص وبين فضاءات صدورها الزمنيّة، وأنّها كانت تضع علاجات لفضاءات زمكانية خاصّة، وأنّ على الفقيه المسلم استنطاق النصوص لاكتشاف روحها الثابتة، وليس جسدها الزمني المتغيّر. وهذا ما دفع لظهور الاتجاه المقاصدي ـ الذي كان طرحه الشاطبي ومن قبله ـ مجدّداً في الفضاء العربي شيعياً وسنيّاً معاً هذه المرّة، منذ محمّد عبده وليس انتهاءً بالباحث المغربي الدكتور أحمد الريسوني والمفكّر العراقي الدكتور طه جابر العلواني (2016م).

ج ـ تيار الدفاع الخالص، وهو التيار الذي رفض توجّهات تيار التحرير بشكل مطلق، ورفض في الوقت عينه مقاربات تيار التجديد الاجتهاديّ، وهو ما يمثله أغلب العلماء السلفيّين التقليديين في الوسط السنّي، وبعض الشخصيّات الشيعيّة.

وبهذا شعر التجديد الاجتهادي بأنّه بين فكَّي كمّاشة، فمن جهة يجد أمامه خصماً حداثيّاً ليبرالياً، يطالبه بتحرير المرأة ومنحها المزيد من الحقوق، ومن جهة أخرى يقف وراءه تيار ديني مدرسيّ، يسعى لمنعه من تقديم تنازلات أو إجراء تغيير في الرؤية، وهذا التجاذب الذي يعانيه تيار التجديد يعدّ أحد أشكال الضغط النفسي والفكري الرهيب الذي يعيشه، والذي قد يكون مسؤولاً أحياناً عن وقوع تيار التجديد في ازدواجية أو نفاق أو حلول مجتزءة أو غير ذلك.

4 ـ إنّنا نلاحظ في العالم العربي مسارين منفصلين تقريباً:

المسار الأوّل: وهو مسار الواقع وضغوطاته، خاصّة بعد الدخول في عصر العولمة، وانفجار المعلوماتيّة وتوسّع وسائل التواصل، وأعني به أنّ الواقع ـ بمعزل عن الاجتهاد الإسلامي ـ كانت له محرِّكاته، التي كانت تدفع به نحو تعديل الوضع الحقوقي للمرأة، ومن أبرز العناصر هنا هو أنّ العديد من الدول القومية والقطريّة العربيّة شعرت أنّ صورتها العالميّة باتت على المحكّ بسبب مواقفها من المرأة، وما يجري على أرضها ضدّها، فسعت لإصدار قوانين عبر البرلمانات أو غيرها، تعدّل من قضايا المرأة، وخلقت فضاءً حرّاً في الإعلام لإخراج المرأة نحو مرحلة جديدة.

على سبيل المثال: القوانين أو مشاريع القوانين الجديدة أو مطالبات المجتمع المدني الضاغطة في مصر وتونس والمغرب ولبنان وغيرها، في مختلف الشؤون، مثل حول ما يتصل بزواج القاصرات (اليمن ـ مصر)، أو تعديل قانون الشرف وحقّ الزوج في قتل زوجته الزانية (الأردن عام 1999م)، أو حقوق الترشّح والانتخاب والمشاركة في الحياة السياسيّة (الكويت 1999م)، أو قضيّة الزواج المدني والتحرّر من عقدة الزواج من أبناء الديانات الأخرى ومن قضايا الإرث وغيرها (لبنان 1998م)، أو مناقشة قانون الأحوال الشخصيّة في قطر عام 2000م، أو إثارة قضيّة العنف ضدّ المرأة في السنوات الأخيرة في لبنان وغيره، وصولاً لقرار المملكة العربيّة السعودية مؤخّراً منح المرأة حقّ قيادة السيارة، بل وصولاً للحديث الواسع اليوم الذي بات يدافع نخبويّاً وإعلاميّاً عن المثلية الجنسيّة.

إنّ إصلاح مدوّنة الأحوال الشخصيّة كان أمراً شهدنا جدالات كثيرة له في الكثير من البلدان العربيّة، ذلك كلّه بسبب ضغط الواقع والتيارات السياسيّة وقوى المجتمع المدني وغير ذلك.

بل إنّ تجربة المرأة العربية نفسها فرضت نفسها، فبعد دخولها في المدرسة والجامعة أثبتت المرأة العربية تفوّقها المذهل وقدرتها على المشاركة في المؤسّسات والإدارات والاقتصاد والعلم ومختلف أشكال التعليم والتربية والإدارة، وهذا ما أوقع الآخرين في تجربة ضاغطة، وفرض إعادة النظر في رؤيتنا الوجودية الأنطولوجيّة لها.

المسار الثاني: مسار التخطيط الاجتهادي الديني الذي يستهدف صناعة واقع جديد يجمع بين حقوق المرأة والرؤية الدينيّة، وهذا المسار شهدنا له ترجمات مع الحركات الاسلاميّة، مثل نجاح التجربة السودانية في مشاركة المرأة في الحياة العامّة والسياسيّة، ومشاركة المرأة في الأحزاب الدينية والحياة السياسيّة العامّة في بلدان مثل الأردن، وغير ذلك.. لكنّه ظلّ يلاحق المسار الأوّل أكثر ممّا يدفعه هو للحاق به.

وهذا ما يجعلنا نفهم أكثر ما قاله المفكّر الجزائري مالك بن نبيّ (1973م)، من أنّ قضيّة المرأة هي جزء أساس من مشروع النهضة الحضاريّ للمسلمين، وأنّ المؤسف في هذه القضيّة هو أنّها تسير بضغط الواقع دون رؤية مستقبليّة أو تخطيط أو اجتهاد سابق لزمانه.

5 ـ هل نجح الاجتهاد الإسلامي الجديد في العالم العربي؟

سؤال تبدو الإجابة عليه صعبة جداً؛ لأنّ عناصر النجاح كبيرة، لكنّ المؤتمر الذي انعقد في مصر عام 1999م بمناسبة مؤيّة كتاب قاسم أمين، كاد يجمع على أنّ قرناً من الزمن لم يحقّق شيئاً ملفتاً لقضيّة المرأة في العالم العربي، لكنّني أعتقد بأنّ في الأمر مبالغة، فالمتغيّرات كانت كبيرة جداً، وإن كانت القوانين ما تزال عاجزة عن المواكبة التامّ. نعم أوافق على أنّنا لم ندخل في بارادايم جديد في موضوع المرأة.

6 ـ ما تزال قضيّة الحجاب تأخذ أصداءها في العالم العربي وفي كلّ العالم، فرغم انتشار السفور في بلاد الشام ولبنان ومصر وغيرها منذ بدايات القرن العشرين، إلا أنّ الثلث الأخير منه شهد إقبالاً منقطع النظير على الحجاب، وقد اعتبرت التيارات الحداثية الحجاب قضيّة وشعاراً سياسيّاً، وأنّها مجرّد شكل سياسيّ للأحزاب الدينية، الأمر الذي دفع لتحوّل قضيّة الحجاب إلى صراع سياسي إلى جانب الصراع الفكري والديني، وهذا أمر خطر جداً.

على خطّ آخر، نجد أنّ ما انتقده التيار القديم التحرّري كان حجب المرأة وعزلها، أكثر ممّا كان شكل لباسها، فالقضيّة كانت تدور حول الحَجب لا الحجاب أو الستر، ولهذا استفاد التيار الحداثي في العالم العربي من التجربة الطالبانيّة في أفغانستان استفادةً كبيرة، كونها مارست الحجب ضدّ المرأة، بينما شعر بإحراجٍ كبير في التجربتين الإيرانية والتركيّة، وبعض التجارب الإسلامية العربيّة مثل لبنان.

7 ـ إلى اليوم يمكن القول بأنّ القليل ـ نسبيّاً ـ من النساء يشاركن في رسم صورة المرأة في الاجتهاد الديني في العالم العربي، وينظّرن لقضاياها وحقوقها وواجباتها، وهذا أمر له أسباب عديدة، رغم بعض التقدّم في مشاركاتها العامّة في بلدان مثل الكويت والسودان ولبنان والأردن والمغرب وتونس وغير ذلك، الأمر بحاجة لخلق فضاء معرفي تأهيلي لإنتاج جيل نسويّ منظّر دينيّاً لقضايا المرأة بروحيّة غير انتقامية وغير فئويّة، وهذا موضوع مهم جداً قد يساعد على تطوير الرؤية الدينيّة.

8 ـ يمكن تصنيف مسيرتنا في العالم العربي على الشكل الآتي:

أ ـ لحظة الصدمة، حيث اكتشفنا بعد التعرّف على الغرب منذ حملات نابليون على مصر والاحتكاك مع شبه القارة الهنديّة، ثم دخولنا مرحلة الاستعمار، اكتشفنا وجود تجربة أخرى مغايرة لنا لها عناصر قوّة معيّنة.

ب ـ أعقب لحظة الصدمة ردّتا فعل: سلبيّة دفاعيّة، وإيجابية استنساخية محاكاتيّة، مما دفع إلى تصادمٍ عجيب وعنفٍ في الصراع بين التيّارات.

ج ـ وسط الصراع، ظهرت رؤية وسطيّة تحاول إعادة تكوين اجتهاد إسلاميّ منفتح، يجمع بين الأصالة والتجديد، لكنّ هذه الرؤية مع تعثراتها وعدم وصولها لنتائج نهائية متفق عليها، تعاني هي الأخرى من انعدام التجربة، فلم تجرّب هذه الرؤية نفسها على أرض الواقع في العالم العربي ليتمّ اختبارها، وفي المواضع التي جرّبت نفسها ظهرت مجموعة مشكلات اجتماعيّة وأخلاقيّة، الأمر الذي يفرض دوماً إعادة قراءة هذه التجربة نفسها للوصول إلى مستوى أكثر نضجاً وسلامة.

وفي الختام، مقترح جامعي وحوزويّ

أكتفي بهذا القدر، وأقترح على المستوى الجامعي والحوزويّ، أن تخصّص اُطروحات عليا لدراسات مقارنة لقضيّة المرأة في الفكر الديني بين كلّ من إيران والعالم العربي وتركيا وشبه القارة الهنديّة، فإنّ هذه المقارنات فيها الكثير من الفوائد التي يمكن أن تُثري وعينا وتنفع الأجيال اللاحقة من الباحثين إن شاء الله تعالى.

(*) نصّ المحاضرة التي اُلقيت في جامعة الزهراء في طهران، يوم الثلاثاء، بتاريخ 12 ـ 12 ـ 2017م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً