أحدث المقالات

مراجعة في تجربة عبد الجليل الرازي وكتاب (النقض)

أ. رضا بابائي(*)

ترجمة: ذو الفقار عواضة

توطئة ــــــ

تعرض هذه المقالة التي بين أيديكم إشارات إلى بعض العبارات الواردة في كتاب «النقض»، ذات الدلالة الواضحة على الاعتدال الديني والفكر العقائدي الواسع لدى المؤلِّف. ومن الواضح أن ما يتّسم به هذا الكتاب من الموضوعية والشفافية والاعتدال لم يأتِ نتيجة لممارسة التقية والمجاملة ومراعاة الآخرين. فالمؤلِّف خبير وعالم في النقض، نراه يدافع دفاعاً مستميتاً عن كلّ مباني الشيعة الاثني عشرية. وأما ما كان يعتبر في زمانه من التعاليم الشيعية، ثمّ أدخلت عليها إضافات في القرون اللاحقة، فإنّه لا يعتبرها من أصول المذهب الشيعي، ولا من فروعه. وهو يلقي باللائمة في خلق هذه البِدَع ورواجها على الحشويّة والغُلاة. وعلى الرغم من تكريس كتابه للردّ على كتاب ألّف في زمانه، وأثار الشبهات والتُّهَم ضدّ الشيعة الاثني عشرية لم يفُتْه توجيه سهام نقده اللاذع إلى الغلاة والحشويّة.

وفضلاً عمّا يصرّح به عبد الجليل في مواضع كثيرة من كتابه، فإن أسلوبه في نقد كتاب بعض فضائح الروافض، ينمّ عن نهجه الاعتدالي. ولعلّ أبرز ما في ذلك هو الاحترام الذي يُبديه لكبار شخصيات الفِرَق والمذاهب الإسلامية. وفي القسم الأخير من الكتاب ذكر بعض النماذج من مواقفه الاعتداليّة إزاء الصحابة والخلفاء.

مقدّمة ــــــ

والحمد لله ربّ العالمين الذي أبقانا على قيد الحياة، وأطال في عمرنا، ووفقنا ومكَّننا من الردّ على هذا الخارجي والناصبي بهذا النحو، بحيث يتسنّى لجميع المؤمنين في الشرق والغرب إلى قيام يوم الدين الاطّلاع على بطلان واضمحلال الشبهات والدعاوى التي أثارها هؤلاء المجبِّرة. ونرجو من الباري تعالى أن يعفو عنّا إذا كان هناك من خللٍ أو سهو في القلم أو القول. فكل تعصّب وكلام شديد وقاسٍ صدر منّي كان على سبيل الإجابة والرّد، لا الابتداء والمبادرة([1]).

فكتاب بعض مثالب النواصب في نقض كتاب «بعض فضائح الروافض»([2]) معروف ومشهور بـ «النقض»، وهو تأليف عبد الجليل الرازي القزويني(560هـ)، حيث يتضمَّن الكثير من الروائع والنفائس القيمة؛ من معلومات أدبية، وتاريخية، والجغرافيا الحديثة، والأنساب، وفرق المسلمين، والعقائد، وعلم الاجتماع، وغير ذلك. وفي الوقت الذي نرى فيه كثيراً من الفوائد الجانبية التي تعرَّضت لها كلماته، نرى أن كلامه الذي تناول فيه الشيعة لم يتَّصف بالعلمية والموضوعية، رغم كونه الموضوع الأصلي الذي ألّف الكتاب لأجله. فالمؤلِّف على استعداد أن يقدِّم مختصراً عن كلّ جوانب هذا الأثر (أي الكتاب)، فلم يكن معتدلاً في كلامه حين تعرّض للشيعة، وكان بعيداً عن الإنصاف كلّ البعد. وفي المقابل نجد اعتداله واضحاً في حديثه عند تعرّضه للصحابة وكبار أهل السنّة. فلا شَكَّ أن كتاب النقض من هذه الجهة يعتبر كتاباً مهمّاً يجدر بنا أخذه بعين الاعتبار، وتتجلّى قيمته عندما نقايس بينه وبين الآثار التي ألِّفت في القرون الأخيرة، فيبرز الفرق بشكلٍ أوضح. ويمكننا بمجرّد دراسة تاريخية واحدة أن نتوصَّل إلى هذه النتيجة، دون أن نبذل جهداً زائداً، وهي أن كتاب النقض يراعي حرمة المخالفين، وأما الآثار الموجودة في زمانه فلا يقارن بها. وبناءً على ما تقدَّم فإن مقتضى الإنصاف والعدل القول بأنه لا يصحّ القول: إنّه لم يكن مبالياً بالمذهب الحقّ، وهذا ما يظهر من خلال دفاعه عن التنصيص على خلافة مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب× مرّات عديدة([3])، وهو يعتقد «أن كل مَنْ في قلبه ذرّة حقد لعليٍّ× فهناك نظرٌ في مولده. وهذا النظر ناجم عن تقصير لدى أمّه»([4]).

وعلى أيّ حال فإنّ ما تقرأه من كتاب النقض يسلِّط الضوء على بعض الأفكار العظيمة لدى المؤلِّف، فعبد الجليل القزويني الرازي كان يبرز «اعتداله الديني» إزاء كبار أهل السنّة.

كتاب «النقض» والفكر التقريبي ــــــ

عبد الجليل القزويني الرازي هو أحد المفكِّرين الشيعة الأوائل الذين أرسوا دعائم الوحدة في أوساط الشيعة والسنّة، وساهم في تقريب المسافة وردم الهوّة الفاصلة بين الفريقين إلى حدٍّ ما. وقد انتقد في كتاب النقض بعض آراء الإفراطيين في حق الفرق الإسلامية الأخرى، وسلّط الضوء على المحاور الأساسية المشتركة. كما أنه صرَّح قائلاً: «مذهب الشيعة هو ما ينصّ عليه علماء الشيعة، ولا يؤخذ بحالٍ من ألسنة عامّة الناس»([5]).

ويمكن لك أن تلحظ في الصفحات الأولى من الكتاب المحور المختص بالتقريب، الذي يعتبر الهدف الأساسي للمؤلِّف من وراء تأليف كتاب النقض، وقد ألفه للردّ على بعض الإفراطيين من الحشوية والغُلاة، الذين نسبهم صاحب كتاب «بعض فضائح الروافض» إلى الشيعة الاثني عشرية.

في شهر ربيع عام (556هـ) نقل إلينا بأن كتاباً ذكر فيه بعض فضائح الروافض، وكان يقرأ في المحافل العامّة؛ للتشنيع على مذهب التشيّع… وهناك صديق مخلص حمل نسخةً من ذلك الكتاب إلى رئيس الشيعة السيد الرئيس الكبير جمال الدين عليّ بن شمس الدين الحسيني. وقد طالعه بأكمله، ومن ثمّ أرسله إلى أخيه المحترم أوحد الدين الحسيني، الذي كان مفتي الطائفة وكبيرها. وكان يتخوَّف من أن أقدم على الإجابة والردّ عليه من دون تأنٍّ ورويّة، فلا يتحقَّق الهدف المرجوّ. وقد مضَتْ مدّة طويلة كنت أترقَّب فيها الحصول على نسخةٍ منه، ولكنّ ذلك لم يتحقَّق. وما كنتُ أعلم أن فرق وعلماء كلّ طائفة قد اطَّلعوا بشكلٍ تفصيلي وكامل على جميع محتويات أوراقه وما تضمّنه من أفكار. فتعجّبت من إقدامه على هذا الفعل مع أن أصول وفروع المذاهب لا تكاد تخفى على العلماء وأهل الفضل. والسبّ واللعن والظلم وقول البهتان من دون الاستناد إلى دليلٍ مقنع لم يكن معهوداً ومعروفاً في الكتب. وقد أشار المؤلِّف في طيّات كتابه، وأحال إلى متقدِّمي علماء الإمامية الكلاميين، في حين أن بعضهم من الغلاة والأخبارية والحشويّة على اختلاف آرائهم، رغم أن تبرّؤ علماء الشيعة الاثني عشرية من هؤلاء، ونفيهم كونهم جزءاً منهم، أمر ظاهر وبيِّن في كتبهم. هذا مضافاً إلى أن قسماً منهم قاموا بوضعه على سبيل التمويه وذرّ الرماد في العيون، وبعض الأشياء المذكورة لم تكن مذهباً لأحدٍ.

كتب المؤلِّف ثلاث نسخ: إحداها أرسلها إلى خزانة أميرك معروف؛ وثانيها موجودة عند المصنِّف؛ وثالثها كان يقرؤها في الخفاء على عوامّ الناس. ونسخة من النسخ نقلها إلى قزوين. ومن الطبيعي أن أحداً من العلماء المنصفين لا يقدم على هذا الفعل إطلاقاً. فليس الهدف من وراء اعتماد تلك الطرق والحيل التي تؤدي إلى إراقة الدماء من قبل الفتّانين إلاّ إثارة الفتنة والاختلاف بين عامّة الناس([6]).

ثمّ ذكر الشيخ عبد الجليل مراراً، وباختصارٍ، الحدود التي تميّز الشيعة الكلامية عن الشيعة الغُلاة والحشوية. فكتب في طيّات كتابه: إن أصل مذهب الشيعة الكلامية الاثني عشرية يعتقد بما يلي: إن الله تعالى خالق كلّ شيء في السماء والأرض وما بينهما…، وهو صانع العالم. وقديمٌ، ولا قديم سواه… والقرآن كلام الله. وكلّ ما ورد فيه، من أوّله إلى آخره، صدق وحقّ… والأنبياء معصومون ومنزَّهون عن الكفر والظلم والمعصية، لم يصدر ذلك منهم، ولن يصدر…، وكلّهم صادقون وأمناء…، من آدم إلى الخاتم. أضف إلى ذلك أن الإمامة لا تكون إلاّ بالنصّ من الله. ولا بُدَّ أن يكون الإمام معصوماً. وقد ورد النصّ على إمامة عليّ المرتضى× من قِبَل الله تعالى…([7]). وكلُّ زيادة أو نقيصة عن هذا الحدّ يعتبر غلوّاً أو تقصيراً.

وللمؤلِّف جهدٌ وسعي آخر في هذا الاتجاه، يتجسّد في تقريب الشيعة إلى الحكومة السلجوقية، حيث وصلت الشيعة في عهده إلى مناصب هامّة في الدولة. وهذا النفوذ والتوافق بلغ إلى حدّ تزويج خواجه نظام الملك الطوسي أخته من أحد سادات الشيعة في الريّ([8]).

نعم، يعتبر التقارب بين علماء الشيعة والحكّام نموذجاً من النماذج التي يتجسّد فيها الاعتدال المذهبي. وقد بدأ هذا التقارب بين الفريقين منذ عهد القاجار. وهذا التقارب كان موجوداً في القرون الماضية أيضاً، إلى عصر الشيخ عبد الجليل، إلاّ أنه يوجد تفاوتٌ كبير بينهما. فالتقريب الذي كان آنذاك يحمل نفس المعنى الذي نعرفه اليوم، ونسعى لتحقيقه، وهو من مقتضيات العصر الحديث ومتطلّباته. والهدف الأساس من وراء هذا النوع من التقريب هو إيجاد جبهة موحّدة في العالم الإسلامي في مقابل الأعداء الغرباء([9]). واتّباع مثل هذه الطرق وهذا التناغم لم يكن موجوداً بين الأقوام المتقدّمين. بل إنّه في بعض العهود، مثل: عهد الصفوية، كان عالم أهل السنّة عالماً مليئاً بالكفر والإلحاد وفي قمة الحساسيّة. وقد وصل الأمر بملوك الصفوية إلى أنهم كانوا على استعداد للتآمر مع الإفرنج وطلب المساعدة منهم من أجل قتال الحكومة العثمانية السنيّة.

وبأيّ حالٍ إذا أردنا أن نتحدّث حول هذا الموضوع من وجهة نظر كتاب النقض فهناك ثلاث نكات مهمة، وهي:

1ـ التعرّف على عقائد الشيعة.

2ـ النظرة التطبيقية المعاصرة.

3ـ وسائل التقريب بين المذاهب.

فالجهة الأولى ذات قيمة تاريخية؛ والجهة الثانية ذات قيمة كلامية؛ والجهة الثالثة تعكس قيمة التعايش الديني بين المجتمعات الإسلامية، وإمكانيته.

فإذا كان هذا المقال الصغير أكثر ما ينتقص من احترام كبار أهل السنةّ في كتاب النقض فإنه ممّا لا شَكَّ فيه لو أن بعض المحقِّقين بحثوا في هذا المجال لاتَّضح لهم هذا المشهد بهذا المقدار، أو أقلّ منه أو أكثر. فلو أخذنا بعين الاعتبار المواد والمطالب التي طرحت في ذاك الباب لوجدنا أوّلاً: إن تلك المواد واضحة بحيث لا تحتاج إلى تفسير وتأويل. ومثل هذا الوضوح لا يحتاج لتمحُّل أيّ عذر، وغير قابل للتوجيه والإنكار، بل حتّى الحمل على التقيّة. أضِفْ إلى ذلك أن الشيعة في منطقة الريّ في القرن السادس لم يكونوا في وضعٍ بحاجة فيه إلى تمحّل الأعذار؛ كي يضطر عالم معروف ـ كعبد الجليل وأمثاله ـ للتقيّة([10]).

وثانياً: إن الاختلافات الشيعية العقائدية والكلامية مع أهل السنّة أقصى ما أوقعت الطرفين في البغضاء والعدواة والنفور والتوهين المتبادَل لكبار كلا الطرفين. ويمكن الجزم بأنه ليس هناك أيّ أثرٍ سلبيّ في اتّباع طريقة عبد الجليل وأمثاله في مؤلَّفاته الكلامية؛ لأن مراجعة أصول وفروع المذهب لا تولِّد نزاعاً، ولا تضع أموال المسلمين في مهبّ الريح، وتتركها رماداً.

إنّ تميُّز عبد الجليل في النقض يتمثَّل في أنه في نفس الوقت الذي يدافع فيه مئة بالمئة عن جميع الآراء المحمودة والخيِّرة لم يتفوّه بكلمةٍ واحدة تثير البغضاء والكراهية، أو تمسّ بمكانة الآخرين. ولكنّ هذا لا يعني أن الشيعة والسنّة في زمن تأليف كتاب النقض كانوا يعيشون معاً في جوٍّ مسالم تسوده الطمأنينة والمصالحة([11]). أمّا في القرن السادس فقد بذل كبار حكّام نظام الملك جهداً كبيراً أثمر انتشاراً واسعاً للدين في سائر أنحاء العالم، حتّى أصبح ينظر للإسلام بعين الاعتبار. فالمعركة الأصليّة للسلطة السلجوقيّة أكثر ما كانت مع المجموعات الطاغية والمعارضة، كأمثال: الإسماعيليّين([12]).

وهناك أهمية أخرى لهذا الكتاب تكمن في الأسلوب الذي اتّبعه عبد الجليل، من خلال مراعاته آداب وأخلاقيات الكتابة والقلم. والذي يقرأ بدقّة وتأمّل كتاب عبد الجليل القيِّم، والمسمَّى (بعض مثالب النواصب في نقض «بعض فضائح الروافض») يتبيّن له أن طريقة المؤلِّف لم تكن من باب التقريب، ولا التقيّة، إنما كان له فوائد كثيرة في التقريب في القرون الماضية. ونستطيع أن نعتبر أن كتاب النقض من الآثار التقريبية، ولكنْ لا نستطيع القول: إن طريقته هي طريقة تقريب؛ فلا يوجد أيّ دليل يثبت ذلك، ولا علامة دالّة على أن عبد الجليل كان تقريبياً. فحين أبرز احترامه وإنصافه في موارد متعدّدة إنما فعل ذلك من باب التزامه بالقضايا الاجتماعية والسياسية. فهو يكتب نفس ما يفكِّر به، ويجول في خاطره، وما يمليه عليه ضميره، ولم يكن لديه نيّة التقريب ولا غيره ممّا كان من هذا القبيل. فلو استطعنا اليوم أن نتصيَّد من كتابه فوائد تقريبية كثيرة، تحت عنوان تقريب الشيعة إلى السنّة في القرون الماضية، فعلماء الشيعة الأوائل في القرون الماضية لم يكونوا بحاجةٍ ماسّة وملحّة إلى اختراع مثل هذه المسألة التقريبية بين المذاهب. هذا مضافاً إلى أن النزاعات الاجتماعية لم تكن مقبولة وموضع ترحيب في أعرافهم، حتّى يشعروا بضرورة تدارك الأمر من خلال اعتماد طريقة التقريب.

فإذا اعتبرنا التقريب نوعاً من العمل التكتيكي فرضَتْه الضرورات الاجتماعية على الحماة الخاصّين بالمذهب، فالنقض بريءٌ من ذلك بشكلٍ كلّي. هذا مضافاً إلى عدم وجود أيّ أثر في أيّ مكان منه يدلّ على العمل التكتيكي، ويمكن اعتبار احترام كبار أهل السنّة نموذجاً ثانياً. فالتقريب عادةً ما توجبه الضرورات الاجتماعية في الأجواء التي يسودها التشنُّج والمشادات الكلامية الحادّة. ومثل هذه الأجواء المضطربة لم تكن موجودةً في العهود التي سبقت الصفوية؛ والسبب في ذلك وجود الفكر الاجتماعي الذي اتَّخذ شكلاً تقريبيّاً، وتجسَّد في أقلام وألسنة الكتاب. والتقريب هو ابن وحدة المسلمين في مقابل الأجانب، وأحد امتيازات العصر الحديث.

لقد كان عبد الجليل في نقد ونقض آراء أهل السنّة دقيقاً إلى حدٍّ كبير، وشجاعاً لا يلجأ إلى المحاباة. وطريقته الكلامية في عرضه لعقائد الشيعة لا تسمح له بالمداهنة والمداراة. وإذا وجدنا مثل هذا الكاتب منصفاً لكبار أهل السنّة، ومجلاًّ لهم في موردٍ ما، فلا ينبغي أن نطعن عليه بذلك ونلعنه، ولا يصحّ أن يحمل كلامه على التقية. مضافاً إلى ذلك نراه يضرب بسيفه بقوّة، ويهدم الاعتقادات المنحرفة إذا استدعى الأمر، ولا يقصّر على الإطلاق. فلم يكن عنده أيّ تسامح وكذب. وهكذا كان تلميذه المشهور ابن شهرآشوب([13]).

فلو رأيت أن المؤلِّف في مكانٍ ما من كتاب النقض يبذل جهداً في دفع التُّهَم عن الخلفاء وإنكارها فهذا لا يعني تنازلاً من قبله، أو تقية، أو مراعاة للتقريب. نعم، إذا كان هناك مَنْ يستطيع أن يأتي بدليلٍ، ويثبت أن المؤلِّف قصَّر أحياناً ولو مقدار قيد أنملة في كتاب النقض في الدفاع عن بعض مبانيه العقائدية، ومارس التقية، مثل: «تنزيه عائشة»([14]) وأمثال ذلك، يمكن حملها حينئذٍ على التقيّة والتقريب. ولكنْ يمكن الجزم بأن هذه المنكرات المنسوبة إلى الخلفاء لا توجد في كتاب النقض، ولا مؤلَّفات عبد الجليل الأخرى. وبغضّ النظر عن ذلك فإن الشيعة في زمن تأليف النقض وصلوا إلى حدٍّ من الرشد والقدرات الاجتماعية التي تسمح لهم أن يقولوا كلمتهم من دون تحفُّظٍ وخوف، ولا اعتناء بالتقيّة([15])، وخصوصاً إلى القرن الثامن، حيث لم تكن علامات أفول التمدُّن الإسلامي واضحة([16]).

وعلاوة على هذا فإن الشيعة في زمن تأليف النقض لم يكونوا مضطرّين إلى ممارسة التقيّة، ومثل تحقيق عبد الجليل.

لقد كتب المؤلِّف السنّي ـ ولعله ناصبيّ ـ في كتابه فضائح الروافض بغصّةٍ حول التوسُّع والنفوذ الشيعي ما يلي: «إن الشيعة لم يكن لديهم في يومٍ من الأيام مثل هذه القوّة التي يملكونها اليوم. فكم أصبحوا اليوم شجعاناً. يا لشجاعتهم، فبإمكانهم الآن أن يقولوا كلمتهم وبالفم الملآن، وبأيّ لسانٍ كان. ولا يوجد خانٌ في تركيا إلا وفيه عشرة أو خمسة عشر رافضياً، ولهم وزراء في الدواوين أيضاً. وهذا بعينه كان في زمن الخليفة المقتدر»([17]).

ويقال: إن القزويني نقل الأقسام التي تحدَّثت حول قدرة الشيعة في عهد المقتدر وحكم آل بويه من ذلك الكتاب، وذكرها في كتابه النقض([18]).

نماذج الاعتدال المذهبي في كتاب «النقض» ــــــ

فالنقض يعتبر مدرسة للاعتدال والجدال بالتي هي أحسن، وخصوصاً إذا قارنته بالكتب الأخرى التي ألِّفَتْ بعده. وعلامات الاعتدال والعقلانية الكلامية في كتاب النقض كثيرةٌ. وفي ما يلي وقفةٌ قصيرة مع بعض هذه النماذج:

1ـ محاربة الفِرَق المنحرفة ــــــ

ومن عجائب كتاب النقض أنه تصدّى لنقد أكثر مذاهب المخالفين على اختلاف انحرافاتهم. وهو شديد الحرص على عدم الإساءة إلى المذاهب أكثر من أصحاب المذاهب أنفسهم. وبناءً على هذا الدليل فإنه في نفس الوقت الذي يشيد ببعض اتجاهات مذاهب أهل السنّة كان يذكر دائماً أقسام فرقهم المنحرفة، وأسماءهم، ومن ثمّ يطعن بهم. ومخالفته للانحراف والتعصُّب لم تكن محصورة بأهل السنّة، فقد كان يطعن بـ «الحشوية» و«الأخبارية» و«الغلاة» و«الباطنية» و«الطبيعية» و«الحلولية»([19]) ـ الذين هم من فرق الشيعة ـ، وكثيراً ما تراهم في كتاب النقض([20]). ولهذا تراه يكثر في كتاب النقض من ذكر بعض الكلمات، من قبيل: «المجبرة»، «المشبهة»، «المجسمة»، و«الناصبي»، أكثر من بعض الكلمات الأخرى، من قبيل: الشافعي، والحنفي. وهذا ما تراه بشكلٍ جليّ في خطبة الكتاب.

…ليت المدبر قد صمت عندما قال: «إن الموجب للمعرفة التقليد والعلم والخبر. هو الملك المتعال… المنزَّه عن غبار تهمة الجبرية والمشبّهة والمعطلة، زال جماله وكماله… حاشا لله لما قاله مذهب الجبرية من أن لله صدراً طاهراً يشقّ ويغسل. ولد من أصلاب الطيبين وأرحام المطهرات… ثناء أهل الأرض والسماء على آل محمد| والمطهّرين والمرسلين وأحبابه وأزواجه وأصحابه ما دار فلك وسبَّح ملك([21]).

تقسيم الشيعة إلى: أخبارية؛ وأصولية ـ التي لم تكن قبل النقض رائجة ومعروفة ـ من النماذج الأخرى لاهتمام هذا الكتاب، مضافاً إلى تمييز الفرق من رأسها إلى ذيلها([22]). فالشيعة الأصوليون عند عبد الجليل هم المفكِّرون المعتدلون، كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، ومحمد فتّال النيشابوري، وأبي علي الطبرسي، وأبي الفتح الرازي([23]).

ومن خصوصيات أتباع هذه الفرقة أنهم يتكلَّمون وفق القواعد والأدلة، ولا يسحبون أيديهم من بحث المسائل الصعبة. فمثلاً: نجد عبد الجليل يقول في جوابه على مَنْ يدعي بأن «الشيعة يطعنون على كبار الصحابة والسلف الصالح وزوجات الرسول|، ولا يحبونهم»، يقول: هذا ليس مذهباً للشيعة الأصولية، وهم يحرِّمون مثل هذا الكلام، كما أنّ هذا ليس مذهباً لأهل السنّة أيضاً. وليس من الشبهة أن الشيعة الأصولية تجعل لكلّ واحد من هؤلاء الجماعة مرتبة معينة. فيقولون علي× أفضل من أبي بكر، والحسن أفضل من عمر، والحسن أفضل من معاوية، والحسن أفضل من عثمان، وفاطمة÷ أفضل من عائشة، وخديجة أفضل من حفصة، والصادق× أفضل من أبي حنيفة، والكاظم× أفضل من الشافعي، وإمامة أبي بكر وعمر من اختيار الناس. ويعتقدون أن إمامة عليّ وأولاده× نصٌّ وفعل من الله تعالى. وهم يدركون أن هذا الاعتقاد ليس عداوةً لأبي بكر، ولا طعناً بالصحابة والتابعين. وإذا رأيتُم خلاف ذلك فهو صادر من الحشويّة والغُلاة، لا من الشيعة الأصوليين([24]).

فمن خلال هذه العبارات يمكن لك أن ترى بوضوحٍ إنصاف المؤلِّف العلمي وطريقته التحقيقية في كتاب النقض.

فأوّلاً: يدافع عن أهل السنّة، ويقول: كثيرٌ ممّا يقولونه عن أهل السنّة لا نقبله، ونعلم بأنه كذب عليهم.

وثانياً: لا نقول أكثر من أن علياً كان أفضل من أبي بكر. فمن أين جاؤوا بهذا الكلام حول الخلفاء؟ وهل كان رائجاً في القرون الماضية في أوساط الخاصّة والعامة؟

وثالثاً: في نظر عبد الجليل أن الحشوية ليست خارجة عن المذهب فحَسْب، بل خارجة عن الدين. وبناءً على هذا فكما أننا لا نعتبر الناصبين من أهل السنّة الحقيقيين كذلك يجب على أهل السنّة أن لا يعتبروا أهل الحشويّة والغُلاة من الشيعة، ولا أن ينسبوا معتقداتهم إلى الشيعة الأصولية([25]). وبناء على هذا فإن النقوض الأساسية التي ذكرها كتاب النقض هي أكثر ما تطعن في الناصبية والحشوية، وليست هي من معتقدات معتدلي السنّة. وهو لا يترك هذه المعتقدات بعيدةً عن انتقاداته العلمية.

يقسِّم عبد الجليل أتباع أبي حنيفة إلى مجموعتين: مجموعة الأوفياء؛ ومجموعة الخونة. فهو يجلّ الحنفيين المخلصين، المعتقدين بمعتقداته([26]). ومراده من الوفاء لأبي حنيفة هو وفاؤهم لمذهبه الكلامي والعقائدي. فمذهب أبي حنيفة الاعتقادي كان قريباً لأهل العَدْل والتوحيد، ولكن مجموعة من الحنفيين العراقيين كانوا متبعين لتلاميذ أبي حنيفة (كأبي يوسف)، فلم يلتزموا المذهب الاعتقادي لأستاذهم، في حين أنهم كانوا مقتنعين بمذهبه الفقهي. فعبد الجليل يريد من أتباعه الالتزام بها، وأن لا يتركوا إمامهم، وأن يقتربوا في معتقداتهم إلى معتقدات أبي حنيفة، ولا يبتعدوا عنها. الإمام أبو حنيفة الكوفي ـ رضي الله عنه ـ… من كبار التابعين، وقد رأى بعض الصحابة، كجابر بن عبد الله الأنصاري ومالك بن أنس… وروى كلّ رواياته عن محمد الباقر وجعفر الصادق’. وكان موحِّداً وعدليّ المذهب. كان موالياً لآل المصطفى|… وهو في رحمة الله وجواره([27]).

وبناء على هذا الأساس فإن عبد الجليل يريد أيضاً من المخالفين للتشيُّع أن لا يكتبوا بعض المعتقدات الشيعية المنحرفة والشاذّة: إن القول بجواز الزيادة والنقيصة في أصل القرآن بدعةٌ وضلالة. وإذا نقل مغالٍ أو حشويّ خبراً ما يتضمّن ما شابه ذلك فهو من أصحاب الكرامية من أصحاب أبي حنيفة، والمشبّهة من أصحاب الشافعي، فليس بحجّةٍ على الشيعة([28]).

2ـ الابتعاد عن المشاحنات الكلامية، والتأكيد على المشتركات ــــــ

إن كتاب النقض ينظر إلى المشتركات، ويلقي الضوء عليها، أكثر من نظره إلى الاختلافات. وعبد الجليل يسعى بصورة متواصلة إلى تقريب الشيعة من المذاهب الإسلامية، لا أن تبقى بعيدة عن الجميع. وهذه الطريقة تختلف إلى حدٍّ كبير مع الطريقة التي يتّبعها أولئك الذين يريدون إبقاء الشيعة بعيدين عن سائر المذاهب الإسلامية فراسخ عديدة، ويجعلون هذا ممراً دائماً لخلق أرضية مناسبة لتحريك دوافع الفتنة والإيقاع بين المسلمين. فطريقة عبد الجليل وكبار مدرسة بغداد وأتباعها ومتكلِّمي الريّ ـ صحيحةً كانت أم خطأ ـ تتَّسم بأدبيات وأخلاق خاصة، ويطلبون الابتعاد عن سلاح التكفير والتفسيق فيما بينهم. والحقّ أن يقال: «الحرب ليست هي الحلّ»([29]). وقد أفصح عن هذه الجملة وما شابهها مرّات عديدة في كاب النقض. وقال في نهاية الكتاب في توجيهه لبعض العبارات غير الملائمة: «كلّ ما صدر منّي من حديثٍ شديد اللهجة أو تعصّب كان على سبيل الإجابة، لا على سبيل الابتداء والمبادرة»([30]).

فإجاباته لم تكن حادّة وشديدة اللهجة، بحيث يستشم منها القارئ رائحة التكفير والغِلْظة. وقد أظهر المصنِّف أيضاً عدّة مرات كراهيته لاعتماد سلاح التكفير والتفسيق. فسلاحه في النقض يتمثَّل في الجَدَل اللاهوتي. وكان يحرص على عدم الاقتراب من إلقاء التُّهَم في أثناء مناظرته. أما كلماته الحادة واللاذعة في كتاب النقض فلم تكن تتجاوز هذا الحدّ: «المصنِّف بلا إنصاف» أو «المجبّرة لا حول لهم»، أو «الخواجه السنّي الجديد»([31]).

وأحد الانتقادات المهمّة والمكرّرة التي استفاد منها كثيراً مؤلِّف كتاب «بعض فضائح الروافض» كانت عبارة عن الاتّهامات المذهبية. فالتبعيّة موجودةٌ عند جميع أهل السنّة، من عهد خلافة أبي بكر إلى يومنا هذا. ألم يكن أفضل وأكثر علماً وتعصباً وشفقة من هذا المصنِّف في جميع علماء السنّة من عهد خلافة أبي بكر إلى هذا اليوم، حتّى يؤلف كتاباً مثل هذا الكتاب، ويسمّيه «بعض فضائح الروافض». فهل يكفي ليكون أعلم من غيره وأفضل من جميع المتقدِّمين والمتأخرين أن يقوم بعد خمسمئة سنة بجمع بعض التشنيعات والأكاذيب والبهوت، ويتّهم المسلمين بالإلحاد([32]).

فعبد الجليل يبذل جهده للتقليل من الخلافات الموجودة بين أهل السنّة والشيعة، ولهذا تراه يذكر كلما سنحت له الفرصة الأصول المشتركة بين جميع المذاهب الإسلامية.

الحمد لله لا يوجد أحدٌ من المسلمين ينكر ويجحد منقبة ومدح آل الرسول|، ويبغضهم، ولا يحبّ أن يسمعها. نعم، اللهُمَّ إلاّ إذا كان من المجبِّرة أو خرج من مذهبنا، وانتقل إلى مذهبٍ آخر. وكذلك يعتقد بأنه إذا كان هناك اختلاف ما فلا يجب أن يتحول إلى مادة خصبة للنزاع والتفرقة. ويريد من الحكام أيضاً أن لا يجعلوا هذه المجموعة من الاختلافات عذراً لاضطهاد المخالفين والمعارضين، ولا أن يرميهم في متاهات الاختلافات المذهبية؛ لأن مَنْ يكون حاكماً يجب أن يرى الجميع بعينٍ واحدة: مذهب المسلمين مختلفٌ وكذلك مقالتهم، ولا بُدَّ للحاكم من أن يرعى رعيته. فالراعي يشابه الشمس التي تبعث بأشعتها إلى جميع بقاع الأرض، سواء السيئة أو الحسنة منها. فإننا نحكم على الأشياء بالقبح والحسن في هذه الدنيا بحسب الظاهر، وبمقتضى الأدلة الظاهرية، وفي يوم القيامة يتميَّز المحق من المبطل، والتقيّ من الشقي، والمخلص من المنافق([33]). ونصّ عبارته كما يلي: «حجّية الحسن والقبح في هذه الدنيا بحسب الظاهر، وفي يوم القيامة يتميّز المحقّ من المبطل، والتقيّ من الشقيّ، والمخلص من المنافق».

وهذا في غاية الأهمّية من وجهة نظر المجتمعات الدينية. وبناءً على هذا الأساس فإن الحقيقة ليست واضحة بالمقدار الذي يحكم فيه على المنكر بكونه أعمى. وهذا هو واحدٌ من الأسس الدينية.

وقد أصاب عبد الجليل الأصحّ حين قال: إنّ حجية أعمالنا حجية ظاهرية، «ولكنْ في يوم القيامة فقط يتميز المحق من المبطل، والتقي من الشقي، والمخلص من المنافق».

فقط على هذا الأساس نستطيع اعتبار أتباع جميع المذاهب الإسلامية المعتقدين بالتوحيد وأصول الدين من أهل النجاة: الزهّاد والعبّاد وأهل النصيحة وأهل الموعظة كلهم كانوا عدليّي المذهب، وكانوا معتقدين بمذهب السلف الصالح، وتبرّؤوا من عقيدة الجبر والمشبّهة. والشيعة كانوا يظنون الخير بعمر وعبيد وواصل وعطاء والحسن البصري والشيخ أبي بكر الشبلي وجنيد والشيخ روزكار وأبي يزيد البسطامي وأبي سعيد وأبي الخير، ويعتبرون أن بعضاً منهم كان من أهل العدل والاعتقاد… ومن أئمّة أهل اللغة كان الخليل بن أحمد الفراهيدي شيعياً، وكذلك ابن السكّيت صاحب إصلاح المنطق، وسيبويه وعثمان جنّي… وقد ذكر أبو جعفر الطوسي في كتاب أسماء الرجال: وكان محمد بن إدريس الشافعي من أصحابنا… زبيدة زوجة هارون الرشيد ـ رحمة الله عليها ـ كانت شيعيّة… فضل بن سهل ذو الرياستين كان وزيراً للمأمون… الفردوسي الطوسي كان شيعياً… ولم يكن هناك خلافٌ في تشيُّع هؤلاء، وآخرون أيضاً… والخواجه سنايي الغزنوي…([34]).

قارن وقايس بين هذا الحديث مع مبنى الذين يسعون جاهدين إلى إخراج فردوسي وسنايي ومولوي وبايزيد من سلك الإسلاميين؛ كي يبقوا هم في النهاية وحدهم، ومريدوهم.

3ـ الحفاظ على حرمة الصحابة وكبار أهل السنّة ــــــ

لم يكن عبد الجليل من أهل اللعن والتكفير، بل كان ينصف الصحابة وكبار أهل السنّة. فهو في كلّ موردٍ يتعرّض لهم في كتاب النقض يذكرهم بالخير، ويدافع عن مقامهم وحرمتهم. وهذا ما نراه مراراً في النقض، وكتب أيضاً كتاباً في تنزيه عائشة. وهو يجيز الثناء على الخلفاء: فنحن لا ننكر الثناء على الخلفاء؛ لأنهم كبار الدين، فهم من المهاجرين والأنصار والسابقون الأولون والذين اتَّبعوهم بإحسان ـ رضي الله تعالى عنهم ـ([35]). وأمّا الترحُّم على أبي لؤلؤة، وشتم الصحابة، الذي ذكرها في مواضع متعدّدة من كتاب (فضائح الروافض)؛ للتشنيع على الشيعة، فهي دعوى بلا دليل ولا حجّة، وهو نقلٌ ليس صحيحاً… ولا أدري من أيِّ ناقلٍ نقل هذه التنشيعات، وأيّ كتاب أشار إليها…([36]).

فعبد الجليل أنكر مرّات عديدة في كتاب النقض عداوة الشيعة لكبار صحابة النبيّ والسَّلَف الصالح ونساء النبيّ|: فكلّ نمط من الناس، عالماً كان أو واحداً من عامّة الناس، حين يقرأ هذا الفصل أو يسمعه يظنّ أن مذهب الشيعة الإمامية الأصولية ـ والله تعالى يعلم بذلك ـ ليس على هذا الوجه، ولو أن أخبارياً أو حشوياً أو مغالٍ يقول بمثل هذه الأشياء، وينقل ذلك كذباً ويلصقه بالشيعة، فأقلّ ما يقال فيه: إنه ليس أميناً، ولا مسلماً… ولكنْ ليس من الشبهة أن الشيعة وأتباعهم يعتقدون بأنّ لكلّ واحد من هذه الجماعة مرتبة معينة، ولا يتجاوزون هذا المقدار: عليّ أفضل من أبي بكر، والحسن أفضل من عمر، والحسين أفضل من عثمان، وفاطمة أفضل من عائشة، وخديجة أفضل من حفصة، والصادق أفضل من أبي حنيفة، والكاظم أفضل من الشافعي، وإمامة أبي بكر وعمر من اختيار الناس، وإمامة عليّ× وأولاده من فعل الله. والعقلاء يدركون أن هذا ليس عداوة لأبي بكر وعمر، ولا نقمة، ولا ذمّ للصحابة والتابعين. ولو رأيتم خلاف ما قلناه فإنما هو منسوب إلى الحشوية والغلاة، لا الشيعة الأصولية([37]).

فإذا كان الشيعة لا يرَوْن المشروعية للخلافة الناجمة من الشورى فهذا لا يعني أنهم يعتقدون بكفر وشرك الصحابة؛ فإن غاية ما يعتقدون به هو أنه في حال وجود أمير المؤمنين عليّ× لا يستحقّ أبو بكر وعمر وغيرهما الخلافة؛ لافتقادهم لشرائط استحقاقها([38]). وبناءً على هذا فلو أن شاعراً من علماء الشيعة نقل مدح الخلفاء فلا ينتقد، ولا ينكر عليه ذلك([39]). فإن شكاية عبد الجليل هي أنه لماذا يكتمون مقام أمير المؤمنين× وحقّه أحياناً؟

إنّ ما قاله من أن فتح ديار الكفّار كان في عهد عمر بن الخطاب، هذا ما حدث، ولا أحد ينكر هذا القول. أما ما جاء من ذكر أسماء المبارزين والناس الطيبين الذين جاهدوا، وقد جرَتْ الغزوات والفتوحات على أيديهم وسيوفهم الشامخة، هذا ما حصل وما هو موجودٌ ـ جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ـ … ولم يذكر اسم عليّ لغايةٍ من غايات هذا الناصبي الخارجي… ولكنّه ذكر اسم خالد بن الوليد بن المغيرة الذي كان عدوّاً للنبيّ|، واسم سعد والد عمر الذي قطع رأس الحسين بن عليّ، واسم شرحبيل مشاور معاوية، وذكر أيضاً اسم قاتل الحسين بن عليّ بالخير وأثنى عليه. ولكنْ عندما وصل الحديث إلى عليّ× وآله لم ينسَ بغضه لأمّه فاطمة…([40]). وحديث فضل ومنقبة عمر، وفتوحاته للبلاد، أمور معروفة، ولا ينكرها أحدٌ من الشيعة. ولكنْ ليس من المقبول أن يذكر فصلاً في فضل الصحابة دون أن ينقص من فضل عليّ المرتضى([41]).

فعبد الجليل لا يكتفي بهذا المقدار، بل ينفي أحياناً الروايات التاريخية التي وردت في مقام انتقاد الصحابة، ويرفض نسبتها إلى الشيعة الأصولية. ومنها: اتهام مرافقة أبي بكر للنبيّ في أثناء هجرته من مكّة. والدليل على ذلك تخوّف النبيّ من خيانته؛ ومشاركة عمر وأبي بكر وبعض الصحابة في قصّة اغتيال النبيّ| في العقبة؛ وأحاديث ارتداد جميع المسلمين بعد النبيّ|، باستثناء بعض الأشخاص المحدودين([42]).

ولكي نظهر القدرة الكلامية لكتاب النقض بشكلٍ أوضح، في مقابل الصحابة وكبار أهل السنّة، نقدم بعض النماذج من إنصافه واحترامه لهم. فعباراته في هذا الباب كثيرة، وهي خالية من شائبة التقيّة والمماشاة الجدلية:

سلام على أصحاب وأزواج النبي|([43])؛ إنكار لعن وشتم الصحابة في أوساط الشيعة([44])؛ ذكر وصف الصدّيق لأبي بكر([45])؛ مرافقة أبي بكر للنبيّ في مسيره للهجرة كانت صادقة([46])؛ الدفاع عن حرمة عائشة([47])؛ عشق عائشة للنبيّ|([48])؛ ذكر لقب أمّ المؤمنين والصدّيقة بالنسبة لعائشة([49])؛ بغض الصحابة معصية([50])؛ الدعاء بصيغة «رضي الله عنه» لأصحاب وفقهاء كبار أهل السنّة، أمثال: أبي حنيفة([51])؛ لزوم احترام الصحابة، ورفض توهين الخلفاء الراشدين([52])؛ لا وجود لتوهين عمر في عقيدة الشيعة([53])؛ علوّ درجة الصحابة الأوائل([54])؛ وصف عثمان بالشهيد والكبير([55])؛ توجيه وحمل بعض عبارات الخلفاء الأوائل على الصحّة([56])؛ الخليفتان الأول والثاني في مرتبة أدنى من مرتبة عليّ×، وكلّ كلام يُقال خلاف ذلك كذبٌ وافتراء([57])؛ التأييد والتأكيد على سخاوة أبي بكر في سبيل انتشار الإسلام([58])؛ ردّ أخبار الحشوية والغلاة حول الخلفاء الأوائل في مواضع متعدِّدة([59])؛ مخالفة لعن وعداوة الخلفاء: «ليست عداوة وبغض أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من أصول مذهب الشيعة الإمامية الأصولية([60])؛ نفي حديث الارتداد: «مذهب التشيُّع هو أنّ أحداً لم يرتدّ بعد اتّصافه بمذهب الشيعة، وبعد ثبوت إيمانه. فعندما توفّي النبيّ| كان الجميع مسلمين، وبقوا كذلك»([61])؛ فإن الشيعة هم مَنْ لا يعتقدون بكفر أحد من الطوائف الإسلامية، التي تنقسم إلى اثنتين وسبعين طائفة، لا يوجد أحدٌ منهم كافر؛ لأنهم يقرّون جميعاً بربوبية الله ورسالة نبيّه؛ هذا مضافاً إلى أنهم جميعاً مقرون بالله ورسوله، وينتمون إلى أمة الرسول»([62])؛ فصل الشيعة عن الغلاة([63])؛ لم يكن عمر يعلم بوجود حضرة الزهراء÷ خلف الباب، الذي تسبَّب بإسقاط جنينها([64]).

كلامٌ آخر ــــــ

أوّلاً: قبل أن يكون النقض كتاباً لنقد أهل السنّة والدفاع عن أصول الشيعة هو كتابٌ ذكر فيه تهماً كثيرة نسبت إلى الشيعة، ونحن بحاجة إلى إجابة عنها. وأكثر كلامه كان مع الذين لا يعلمون ولا يفرِّقون بين الشيعة الأصولية والغلاة والحشوية.

ثانياً: مؤلّف «النقض» عالِمٌ، وقد تعرَّض لأكثر المذاهب والاتجاهات، بما فيها الاتجاهات الإفراطية.

ثالثاً: امتياز عبد الجليل يكمن في تعظيمه حرمة الأصحاب وكبار أهل السنّة، ودفاعه عن أصول وفروع مذهب الشيعة جدّياً وقوياً. أما في أثناء دفاعه عن الشيعة فلم يتعرّض قلمه لظلم وجفاء الآخرين قطّ.

رابعاً: إن التشيع الذي دافع عنه عبد الجليل هو نفس التشيُّع الذي نؤمن به اليوم، مع اختلافٍ في جزئياته.

خامساً: يمكن أن يعدّ كتاب «النقض» من مدرسة الشيعة الأصولية، كما يمكن الاحتجاج به على أهل الغلوّ والحشوية. ومضافاً إلى ذلك فإنّ ما ذكر في كتاب النقض عصارة الفكر الشيعي في العصور الماضية، ويمكن استثناء الفكر الشيعي من القرون الماضية إلى اليوم. في هذا التحقيق يتَّضح لنا حجم التهم التي ألحقت بالشيعة، وأن أكثرها لم يكن موجوداً. كذلك يظهر أن أكثر التُّهَم جاءت من طرق الغُلاة.

سادساً: في نفس الوقت الذي يدفع فيه عبد الجليل التُّهَم والافتراءات عن الشيعة بحماسةٍ ظاهرة لم يكن يخرج عن طريقته الاعتدالية والمنصفة في أيّ موردٍ من الموارد. وكذلك اهتمّ دائماً بحرمة كبار المذاهب وعلمائها.

سابعاً: كتاب النقض وصاحبه في الحديث من أهل الدراية والتفسير، وهم أيضاً من أهل النصوص والتأويل.

ثامناً: يمكن أن يعدّ «النقض» من المصادر التاريخية لتقريب المذاهب، ولكن لم يكن قصد المؤلِّف التقريب. وفي نفس الوقت يمكن اعتماد هذا الكتاب الكلامي كداعمٍ أساس لكلّ نشاطٍ تقريبي.

تاسعاً: أكثر ما نقض القزويني في كتاب النقض، ووجه التُّهَم للشيعة([65]). ومن المحتمل أن لا يعد النقض من الكتب المهمة لدى الشيعة، ولكنَّهم غفلوا عن أن النقض لم يكن لنقض أهل السنّة، ولا للدفاع عن التشيُّع. لقد ذكر الخرافات لكلّ المذاهب الإسلامية، وخصوصاً أن الشيعة الاثنا عشرية لم يكونوا في ذاك العصر بحاجة إلى الدفاع عنهم بهذه الطريقة.

عاشراً: لم يكن الاعتدال المذهبي من خصوصيات هذا الكتاب، بل لا بُدَّ أن يعدّ نموذجاً من الآثار الكلامية الشيعية في القرون الماضية، حتّى الصفويّة.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحث في الجامعة والحوزة العلميّة.

([1]) كتاب النقض: 147.

([2]) في ما يتعلَّق بكتاب النقض ومؤلّفه انظر: السيد مرتضى حسيني شاه ترابي، «تحقيق وإخراج كتاب النقض»، مجلة التأريخ، العدد 3، صيف 1387هـ.ش.

([3]) كتاب النقض: 530.

([4]) المصدر السابق: 71. إشارة منه إلى الأحاديث التي نقلت هذا المضمون. فمنها مثلاً: ما رواه أبو أيوب، عن رسول الله|، أنه قال لعليّ×: «لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق، أو ولد زنية، أو من حملته أمُّه وهي طامث». (الحرّ العاملي، وسائل الشيعة ج2، باب تحريم وطء الحائض قبلاً قبل أن تطهر، ح8، ومثله ح7، 9).

([5]) المصدر السابق: 247.

([6]) المصدر السابق: 2 ـ 4.

([7]) المصدر السابق: 415 ـ 416.

([8]) مثل هذه العلاقات الزوجية لها معنى خاص في التاريخ الإسلامي. وإلى هذا قد أشار الشيخ عبد الجليل، وهو أهمّ دليل وبرهان على التقارب بين الشيعة والحكّام الذين يعيشون في ظلّ حكوماتهم. (النقض: 108، 261).

([9]) طبعاً طرحت مسألة أو أكثر مرتبطة بالوحدة الإسلامية في زمن تأليف كتاب النقض ـ الذي كان في أواخر عهد السلاجقة ـ في مقابل الأعداء الغرباء والكفّار؛ نتيجة لهجوم الصليبيين من الغرب وحملات الأتراك من الشرق. (انظر: النقض: 276، 436، 577؛ تعليقات كتاب النقض: 1309) .

([10]) «تخريج وتحقيق كتاب النقض»، السيد مرتضى حسيني شاه ترابي، مجلة التأريخ، العدد 3.

([11]) إن الاختلافات الكلامية بين الشيعة وأهل السنّة في عهد عبد الجليل القزويني كانت أكثر وضوحاً، وقد نشبت عدّة مرات معارك شديدة في بغداد ومدن أخرى. وقد أرّخ ابن الأثير بشكل دقيق حوادث دامية بين الشيعة والسنّة حدثت في السنوات التالية 432، 443، 444، 478، مضافاً لسنوات أخرى.

([12]) انظر: إيران والعالم الإسلامي: 22 ـ 27.

([13]) انظر: معالم العلماء: 145.

([14]) اسم آخر من مؤلفات عبد الجليل القزويني الرازي مؤلف نقض (انظر: النقض (مقدمة المصحّح): 18). وقد أشار هو نفسه أيضاً في الكتاب إلى هذا الأثر (ص 295). هذا الأثر ألّف في الردّ على اتهام عائشة وقذفها. أمّا توبة عائشة في معركة الجمل فجعلها واجبة. وكذلك الأمر في كتاب النقض. (انظر: الفهرست: 87؛ روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات 4: 186؛ رياض العلماء 3: 72).

([15]) انظر: تاريخ التشيّع في إيران : 477 ـ 539.

([16]) علامة أخرى: بلغ التصوّف والعرفان أوجه في القرن السادس عندما ظهرت أسباب كثيرة من الاختلافات المذهبية في القرون الماضية. تأليف كتاب مثل: مقتل الحسين، بقلم الخوارزمي الحنفي، كان نموذجاً عن التفاهم والتفاعل.

([17]) كتاب النقض: 43.

([18]) المصدر السابق: 54.

([19]) المصدر السابق: 18.

([20]) إشارة إلى الفرق الإفراطية في أوساط الشيعة، وكلمات الحشوية والغلاة، في أوساط كبار مذهب التشيع أيضاً عندما نرى تخوّفهم من الغلوّ عند تعرضهم له. وكنموذج لذلك انظر: تصحيح اعتقادات الإمامية: 81، 86، 113، 114، 133؛ رسائل المرتضى 1: 157، 3: 310؛ كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 359، 4: 549.

([21]) النقض: 1.

([22]) كعيِّنة مثلاً انظر: 235، 282، 529.

([23]) انظر: المصدر السابق: 504، 262 ـ 263.

([24]) المصدر السابق: 236. وأيضاً انظر: المصدر السابق: 286، 529، 568 ـ 569.

([25]) الغلوّ المحض له حكاية أخرى في كتاب النقض، الذي لا بُدَّ من التفصيل فيه. وفي هذا المقام نقدّم أربعة نماذج للإقناع: الأول: «إذا كان مذهب الشيعة يعتقد بأن علياً× نصّ على إمامته من قبل الله تعالى، وبأنه إمام معصوم، وهو أفضل من كلّ أمة، ومذهبه كذلك، فلو أن أحد قال في فصول الأذان بعد الشهادتين: أشهد أن علياً وليّ الله لبطلت صلاته، وكان مأثوماً، وذكر اسم عليّ في الصلاة بدعة، وباعتقادي أنها معصية، والقائل بها ملعونٌ وغضب الله عليه…». (المصدر السابق: 97).

ثانياً: «يعلم من كتب الشيعة الأصولية أن هذا ليس من المذهب، ولم يكن من الدين، ودرجة أمير المؤمنين هي درجة الأنبياء. وبعض الحشوية والأخبارية يعتبرونها مكافأة لهم، وقد جرى السلف الصالح على ذلك، بأن عليّاً هو أفضل من سائر الأنبياء غير أولي العزم والمرسَلين. وهذا المذهب مردودٌ وغير مقبول، وكلامٌ بلا دليل، ولا فائدة فيه، وليس من مذهب الشيعة الأصولية». (المصدر السابق: 528 ـ 529).

ثالثاً: ويعلم من نصّ القرآن وإجماع المسلمين بأن الغيب لا يعلمه إلاّ الله…، وأن الأئّمة هم ليسوا في درجة الأنبياء، وقد دفنوا في تراب خراسان وبغداد والحجاز وكربلاء، فكيف يعلمون بأحوال العالم وحدوده؟ وهذا المعنى بعيد كلّ البعد عن العقل والشرع، وأجنبي عنهما. وهذا معتقد جماعة من الحشوية… (المصدر السابق: 285 ـ 286).

رابعاً: لا يعلم الغيب إلاّ الله. (المصدر السابق: 257، 396) .

([26]) انظر: المصدر السابق: 344.

([27]) المصدر السابق: 160.

([28]) المصدر السابق: 272.

([29]) المصدر السابق: 147.

([30])المصدر السابق: 646.

([31]) نسبة «السنّي الجديد» إلى مؤلّف كتاب فضائح الروافض من باب أنه كتب في مقدمة كتابه: «أنا كنت أقرب للرافضة، ومن ثمّ صرت سنّيّاً».

([32]) المصدر السابق: 162.

([33]) المصدر نفسه.

([34]) المصدر السابق: 232.

([35]) المصدر السابق: 11.

([36]) المصدر السابق: 235 ـ 236.

([37]) المصدر نفسه.

([38]) المصدر السابق: 257.

([39]) المصدر السابق: 145 ـ 146.

([40]) المصدر السابق: 149 ـ 150.

([41]) المصدر السابق: 177.

([42]) المصدر السابق: 9، 262 ـ 263. وأكثر ما تنظر مجمل هذه الروايات التأريخية إلى كتب التفسير، كتفسير عليّ بن إبراهيم القمي، وتفسير العيّاشي، جاءت في بطون الكتب الشيعية التي لم يذكرها عبد الجليل قطّ في كتابه، ولم يحتسبها من المصادر الشيعية الأصولية المعتبرة.

([43]) المصدر السابق: 1.

([44]) المصدر السابق: 15، 16، 19.

([45]) المصدر السابق: 93.

([46]) المصدر السابق: 247.

([47]) المصدر السابق: 96، 519.

([48]) المصدر السابق: 294.

([49]) المصدر السابق: 115 ـ 590.

([50]) المصدر السابق: 264.

([51]) المصدر السابق: 159.

([52]) المصدر السابق: 164.

([53]) المصدر السابق: 176.

([54]) المصدر السابق: 243.

([55]) المصدر السابق: 363 ـ 369..

([56]) المصدر السابق: 498.

([57]) المصدر السابق: 514.

([58]) المصدر السابق: 281 ـ 282.

([59]) المصدر السابق: 281 وما بعدها.

([60]) المصدر السابق: 416، 235 ـ 236.

([61]) المصدر السابق: 462.

([62]) المصدر نفسه.

([63]) المصدر السابق: 235 ـ 245.

([64]) المصدر السابق: 298.

([65]) كان المخالفون للشيعة يجتهدون في خلط الشيعة مع الملاحدة الإسماعيلية والقرامطة المصرية. وقد أشار القزويني مراراً إلى هذا الخلط العمدي. (انظر: المصدر السابق: 109).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً