أحدث المقالات

خديجة بهبهاني

ارتبطت كلمة ” العدو ” في القرآن الكريم بشكل أساسي بالشيطان، فقد عَرّفه الله سبحانه وتعالى في قصة بداية الخلق بوصفه ” عدوٌ مُبين “، وجاء هذا التعريف حتى تُوضّح منذ البداية طبيعة العلاقة بين الإنسان والشيطان وبالتالي تحديد أسلوب التعامل مع وَساوسه وهل من الممكن التصالح معه في ظرف من الظروف أم لا. أما لماذا اكتسب الشيطان هذا الوصف فالمتأمل بالقصة سيجد أنه في بدايته لم يكن عدوا بل كان عابدا لله لدرجة أنه رُفع مع الملائكة، ومن كان هذا شأنه لا يكون عدوا للإنسان، إلا أن حالته هذه لم تدُم فبمجرد ما أن مرّ باختبار السجود لآدم، ظهر التكبر في نفسه، وتحوّل هذا التكبر إلى رؤية وسياسة وعمل استراتيجي من أجل كسر إرادة الروح الإنسانية وإفسادها، وتتضح سياسته هذه في قوله : ” قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ “.

يتضح من ذلك أمران، الأول أن الشيطان بذاته لم يكن عدوا وإنما أصبح عدو حينما تبنى سياسة إفساد النوع الإنساني. والأمر الثاني أن نَفس التكبر كحالة نفسية لا تُعتبر عدواناً على الآخرين بل هي عدوان وظلم لنفسِ المتكبر، لكن المبالغة فيه قد يُخرجه من كونه حالة نفسية إلى كونه فعل عدائي اتجاه الآخرين يُحرّكه الشعور ” بالكِبِر “. (لذلك سُميت القوى العظمى، خاصة تلك التي تتبنى سياسة القطب الواحد وإرضاخ بقية الدول لإملاءاتها، بقوى ” الاستكبار ” للدلالة على المبالغة في الكِبِر والطغيان).

وإذا تأملنا قليلا بمفهوم ” العدو” على مستوى الأفراد سنلاحظ أيضا عدم وجود أفراد هم أعداء بالذات، لأن منحهم هذا الوصف يعتمد على مدى حملهم لمقاصد ونوايا عدائية تستهدف الآخرين، فمن كان اليوم عدوا لي نتيجة مقاصده العدائية من الممكن أن يكون غداً صديقا لي في حال غيّر من مقاصده ونواياه، والعكس صحيح. هذا يعني أن الأفراد – كأفراد- محايدون ويكتسبون وصف العدو بناء على  تبنيهم لمقاصد عدائية أو لا. وتتضح معيارية المقصد العدائي، في اعتبار حامله عدوا يجب قتاله أم لا، في كلام أمير المؤمنين عليه السلام حينما نهى المسلمين عن قتال الخوارج بعد معركة النهروان وبرّر ذلك بقوله : (ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه) حيث اعتبر قصد طلب الباطل معيارا لتشخيص العدو الذي يجب قتاله.

و لو أتينا على مستوى الدول والحركات السياسية فسنجد أن هذا المعيار يَسري عليها أيضا، فهناك دول كانت في فترة من الفترات في خانة العدو وفي فترة أخرى تحولت إلى خانة الأصدقاء، وهذا التحوّل يتوقف على ما تحمله الدول والحركات من سياسات عدائية في قضايا معينة اتجاه بعضها البعض في فترة من الفترات. إذا بإمكاننا القول بأن هناك قاعدة مفادها ” أنه لا يوجد عدو هو بذاته عدو، وإنما تًعرُض عليه هذه الصفة عند تبنّيه لسياسة عدائية “.

فهل تنطبق هذه القاعدة على اسرائيل مثلا ؟! في وقت باتت بعض الأنظمة العربية وأبواقها يُروّجون للتطبيع والتحالف مع اسرائيل ويسعون إلى جعله واقع مُعاش في المنطقة، مُبرّرين ذلك بخطورة الأعداء الوهميين وما يشكلونه من تهديد!.

هنا نجدُ لزاما علينا أن نُعيد إلى الذاكرة العربية والاسلامية أسباب نشوء هذا الكيان والوظيفة المُطلوبة منه، لبيان مدى الإجرام الذي تسعى إليه بعض أنظمتنا العربية في سعيها للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي واعتباره حليف لها !.

أولا – إن الكيان الاسرائيلي هو نتاج للفكر المادي النفعي الغربي أو ما يُسمى بالفكر الرأسمالي الامبريالي، وهو فِكر استعماري بامتياز، حملت رايته في البداية بريطانيا ثم استلًمًتها منها الولايات المتحدة الأمريكية.

ثانيا – إن الغرض الأساسي لزرع الكيان الإسرائيلي – كما أوضحه المفكر وعالم الاجتماع المصري د. عبد الوهاب المسيري الباحث بالصهيونية وصاحب موسوعة  “اليهود واليهودية والصهيونية” وبشكل تحليلي فلسفي ومعرفي عميق – هو للقيام بدور استعماري هدفه ” ضرب النُظم القومية العربية التي تحاول رفع سعر المواد الخام أو التحكّم في بيعها، أو التي تختط طريقا تنمويا مستقلا، أو تتبنى سياسة داخلية وخارجية تهدد المصالح الغربية بالخطر “، حيث تَعتبر الولايات المتحدة الأمريكية منطقة آسيا وأفريقيا موردا أساسيا للمواد الخام والثروات الطبيعية من بترول ومعادن وغيرها، وحتى تستفيد الرأسمالية الامريكية من هذه الثروات بأرخص الأثمان لابد أن تكون هذه المنطقة غير مستقرة تعيش حالة الحرب الدائمة، لذلك زُرِع هذا الكيان للحفاظ على عدم الاستقرار الدائم في المنطقة. يقول د. عبد الوهاب المسري بهذا الخصوص : ” على هذه الدولة الوظيفية (اي الكيان الاسرائيلي) أن تقوم ببعض الأعمال المشينة والوظائف المشبوهة التي لا يمكن للدول الغربية الليبرالية الديموقراطية أن تقوم بها حفاظا على صورتها الإعلامية، فيوكل المهمة إلى الدولة الصهيونية … وأهم وظائف الدولة الصهيونية على الإطلاق هي الوظيفة القتالية (لا التجارية ولا المالية) ، فعائد الدولة الوظيفية (اي الكيان الاسرائيلي) الأساسي عائد استراتيجي، والسلعة او الخدمة الاساسية الشاملة التني تنتجها هي القتال “.

وقد جاء هذا الاعتراف على لسان الصهاينة أنفسهم، حيث عرض ناحوم جولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، الدافع من وراء إنشاء الكياني الاسرائيلي بشكل دقيق للغاية في خطاب له ألقاه في مونتريال بكندا عام 1974 قال فيه : ” إن الدولة الصهيونية سوف تؤَسَّس في فلسطين، لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية، بل لأن فلسطين هي ملتقى الطُرق بين اوروبا وأفريقيا، ولأنها المركز الحقيقي للقوة السياسية العالمية والمركز العسكري الاستراتيجي للسيطرة على العالم “. كما وصف البروفسور يشعياهو ليبوفيتس في حديث له في صحيفة لوموند بتاريخ 8 آذار مارس 1974 إسرائيل بأنها ” عميل للولايات المتحدة الأمريكية ” ووصف الإسرائيليين بانهم ” كلاب حراسة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ويتعلق بقاؤنا بقدرتنا على القيام بهذه المهمة “.

ومن هنا نفهم حرص الولايات المتحدة الأمريكية على دعم الأنظمة القمعية في المنطقة بالرغم من تغنيها الدائم بدعم الديموقراطيات والحريات. ومن هنا أيضا نفهم لماذا يتسابق الطامعون في السلطة في دول المنطقة على إبراز عضلاتهم الأمنية، تارة ضد شعوبهم وتارة أخرى ضد جيرانهم، خاصة عند اقتراب زيارة إحدى المسئولين الأميركيين للمنطقة، كل ذلك من أجل كسب ود الولايات المتحدة الامريكية حتى تَدعَم وصولَهم للسلطة كونهم بذلك سيشكّلون امتدادا للدور الوظيفي الذي تلعبه اسرائيل. وما تصريح وزير الأمن الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان في مؤتمر هرتسليا قبل أيام بخصوص توطيد العلاقات الاسرائيلية مع بعض الانظمة العربية القمعية في المنطقة إلا تأكيدا على دورهم الوظيفي المشترك الخادم للرأسمالية الأمريكية المتوحشة.

وبهذا يتضح “فلسفيا” استحالة امكانية التطبيع مع اسرائيل، لأن نفس وجودها هو استمرار لسياستها العدائية بحيث لا يمكن التصالح معها تحت أي ظرف من الظروف، لأن صفة العدائية من ذاتياتها لا تنفك عنها وليست عارضة عليها. وهي بذلك تكون استثناء للقاعدة التي ذكرناها في بداية المقالة والتي مفادها ” “أنه لا يوجد عدو هو بذاته عدو” فوجود اسرائيل بذاته فعلٌ عدائي للمنطقة.

كما يتضح حجم الإجرام الذي سيتحقق لو قبلت الشعوب ورضخت للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي ولم تُبدي أي مقاومة اتجاهه، حيث لا تتحقق منافع هذا الكيان إلا من خلال الإضرار بالمنطقة وإشعالها بالحروب، فبذلك فقط يضمن استمرارية دوره الوظيفي وبالتالي بقاءه، وهو بذلك لا يُمكن إلا أن يكون عدوا لشعوب المنطقة، وقد ورد في الأثر : ” من كان نفعه في مضرّتكَ، لم يخلُ في كل حالٍ من عداوتِك “.

لذا فإنه من أوجب الواجبات على شعوب المنطقة في هذه المرحلة من الصراع مع اسرائيل أن تبقى مستيقظة وواعية ومُدركة ومُقاومة لكل أشكال التطبيع، ولكل توسّع للدور الوظيفي الذي تلعبه إسرائيل، والذي صار واضحا مؤخرا أنّ أنظمة عربية باتت تلعبه هي أيضا عَلنا بعد أن كانت تلعبه سرا.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً