أحدث المقالات

مطالعة في ضوء القرآن الكريم

تمهيد ــــــ

تقوم هذه الكلمات التي سأكتبها الآن إن شاء الله تعالى على مصادرة رمزية تقول بأنّ كل حركة دعوة وتغيير وإصلاح وإيمان تمرّ بمرحلتين، وهاتان المرحلتان سأستعير تسميتهما من التجربة النبوية المحمّدية، وهما: المرحلة المكية؛ والمرحلة المدنية.

الميزة العامة في المرحلة المكية هي ضعف الحركة الإيمانية، وعدم امتلاكها مواقع القوّة، أو عدم قدرتها ـ لسبب أو لآخر ـ على توظيف كل عناصر القوّة التي تملكها، فهي مقهورة مظلومة مقصاة، يمارس ضدّها الإرهاب، وهي قلّة في العدد والعدّة، وهي وحشة ووحدة…

أما الميزة العامة في المرحلة المدنية فهي القوّة والرهبة والصرامة والمواجهة…

الرمزية هنا في إسقاط التجربة التاريخية النبوية على الواقع ـ كلّ واقع ـ الدعوي والتغييري والإصلاحي والتقدّمي، لأخذ الحِكَم القرآنية في تلك التجربة؛ بهدف جعلها نماذج مثالية يراد لسائر التجارب أن تأخذها.

ولأجل هذه الرمزية من الممكن أن لا تصدق الأمور دوماً، ومن الممكن أن تكون هناك خصوصيات في التجربة الرمز (النبوية)، أو في التجربة التي يُراد نحت رمز لها تهتدي بهديه.

كما يهمّني أن أشير أيضاً إلى أننا سنأخذ بعض التوجيهات القرآنية؛ لأن المجال يضيق ولا يسع، وإلا فهذا البحث يصلح بسطه ليصبح تحت عنوان «التغيير المجتمعي في القرآن الكريم». كما لا تعني الآيات التي سنأخذها للمرحلة المكية مثلاً أنها آيات مكية، فنحن هنا نستخدم الترميز أكثر من البحث التاريخي.

 

أولاً: المرحلة المكيّة في المشروع التغييري، توجيهات قرآنية ــــــ

سأبدأ هنا بالمرحلة المكية؛ تبعاً لتقدّمها زمناً وطبيعةً على المرحلة المدنية.

من أبرز التوجهات القرآنية للمرحلة المكية لأية دعوة صالحة ما يلي:

1ـ عدم الغرور بقوّة الآخرين ولا الذهول أمامهم. فقد يواجه الإنسان الداعية إلى الله أو الجماعة العاملة ذهولاً يسيطر على أنفسهم من قوّة الآخرين التي يملكونها في المجتمع. إنّ الآخر يملك المال والقوّة والنفوذ والرجال والصوت العالي (وسائل الإعلام) وغير ذلك فيما حركة التغيير الإيماني لا تملك سوى حفنة قليلة من الرجال والنساء المستضعفين الذين لا يملكون الإمكانات المالية اللازمة، ولا عناصر القوّة والنفوذ. إنه شعور يتملَّك المؤمن العامل في سبيل الله، فيحبطه ويكسر عنفوانه… وفي هذا السياق جاء القرآن الكريم ليصنع الفعل التربوي فقال: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (آل عمران: 196 ـ 197). هنا تحلّ في روح المؤمن صورة أخرى للمشهد. إن هذا التقلّب ليس هو الصورة الكاملة، بل إذا وضعنا الآخرة أمامه لن يظهر سوى نفوذ بسيط لحركة الكفر أو الانحراف بقدر حجم الدنيا أمام حجم الآخرة. إن الآية ـ كما هي القاعدة في التربية القرآنية ـ تبعث على الأمل؛ بتصحيحها المشهد عبر إدخال جزء هامّ من اللوحة، ألا وهو الآخرة، هناك سيرى المؤمن أن الحدث الدنيوي ليس هو نهاية المطاف وخاتمة الطريق، بل هناك مساحات أخرى تقف لصالحه عند الله تعالى.

المؤمن لا يخاف من ضجيج الآخرين، ولا يسكته رعب أصواتهم، إنه يريد أن يغيّر مجتمعه نحو الصلاح، ولا يهمّه حجم القوّة المنافسة في المبدأ، وإن كان الحجم مهمّاً في تفاصيل إدارة المعركة، وأكبر خلل يحدث عندما تتحوّل قواعد التفاصيل إلى أصول العمل الاستراتيجي، فتنقلب المعايير وتتقلّب.

2ـ الامتحان والاختبار. إنّ المرحلة المكيّة ليست ضرورة موضوعية لتحقيق التغيير فحسب، بل هي ضرورة ذاتية أيضاً؛ لأن الدخول في هذه المرحلة هو الذي سيولّد النفوس الصافية التي تستطيع أن تنجح في الامتحان. قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179)، وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214)، وقال سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2).

فهذا الاختبار سيكون قاسياً جداً في هذه المرحلة، فهناك الذين سيمارسون العذاب ضدّ المؤمنين بالسجن أو القتل أو التعذيب البدني، فيعاني المؤمنون من الخوف، ويلزمهم حينئذٍ الصبر.

وهناك من يصادر أموال المؤمنين، أو يضيّق عليهم في معيشتهم، فيقطع رواتبهم مثلاً، أو يمنع عنهم حقهم في الأموال العامة؛ بحجّة أن بيده التصرّف فيها، مستخدماً منطق «الولاءات قبل الكفاءات»، وهنا أيضاً يجب عليهم أن يصبروا ويتحمّلوا المعاناة.

وهناك من سيضيّق عليهم في مكانتهم الاجتماعية، فلا يسمح لهم بالوصول إلى ما يستحقون من مناصب اجتماعية في الدولة أو العشيرة أو الحزب أو الجماعة أو النقابة أو الجامعة أو المدرسة أو…، ويحرمهم من حقهم الطبيعي في أن يأخذوا ما يستحقون، وما يتناسب مع إمكاناتهم، وهنا أيضاً عليهم أن يصبروا.

وهناك أيضاً من سيشوّه صورتهم، ويفتري عليهم الكذب، ويقوّلهم ما لم يقولوا، أو يفعّلهم ما لم يفعلوا؛ ليسقط احترامهم بين الناس. وقد ينطلق الخصم هذه المرة من دوافع دنيوية في فعله هذا، وقد يغلّف فعله هذا ـ معتقداً بجدّ أو هازئاً بنفسه ـ بأغلفة عقدية، كمحاربة أهل البدع والضلالة الذين يجوز غيبتهم وبهتانهم على إطلاق ذلك كما يدّعي، هنا لن يكون اغتيالٌ جسدي، بل سيكون اغتيالاً اجتماعياً وسياسياً حينئذٍ.

ولا تقف أشكال الامتحان الذي يجب الصبر أمامه ـ وسنوضح أشكال الصبر ومعانيه هنا قريباً إن شاء الله ـ عند هذه الحدود، بل تتعدّاها إلى الاستهزاء الذي تحدّث عنه القرآن الكريم مراراً، فهذه الحركة التغييرية المؤمنة ستتعرض للسخرية والاستهزاء بأشكالهما. قد يكون ذلك بالضحك، لكنه قد يكون بممارسة مواقف لا تعبّر في مدلولها الاجتماعي إلا عن استهزاء بالآخر، وتحقير له وتجاهل. سيروج الكلام حول سخافة الفكر التغييري للمؤمنين وضحالته وضعفه. سيكون هناك استهزاء بالجهود المبذولة عند هذا الفريق. سيقال: هي كلمات صحافة، لا كلمات فكر وعلم. لن يسمح لهؤلاء أن يتصوّرهم أحد بوصفهم علماء أساساً وأصحاب وجهة نظر. هنا أيضاً يجب الصبر أمام هذه الفتنة، وسعة الصدر، والتحمّل، والترحيب بالمعاناة.

ومن مظاهر الامتحان أيضاً الحجر الاجتماعي. فقد يواجه المؤمنون الصادقون قطيعةً اجتماعية شديدة، قد لا يلقى عليهم السلام، وقد لا يجاب سلامهم، قد لا يزارون في بيوتهم وأماكن عملهم، قد لا يتم التواصل معهم والتعاون لغرضٍ أو لآخر، وقد لا يدعون إلى المجالس العامة في مدنهم وقراهم؛ رغبةً في استبعادهم، رغم أن إمكاناتهم قد تعود بالخير الوفير على الآخرين لو أشركوا في قضايا مجتمعهم. وهنا أيضاً يجب الصبر، لا بل يجب مؤاخاة الصبر ومصاهرته والزواج منه وكل أشكال العلاقات الوطيدة.

هذه الظواهر أو المؤثرات الخارجية جميعاً ستكون بالنسبة للداعية المؤمن فرصاً تتوفّر له لتربية نفسه وإثبات مدى قدرته على تحمّل المصاعب ومديات صدقه في ما يعتقد به، فبعض الناس قد يشتركون في التصديق بشيء والإيمان به لكن درجة التفاعل الروحي والعاطفي مع هذا الشيء قد يختلف بينهم، فترى بعضهم مستعّداً للتضحية في سبيل المبدأ الذي يؤمن به، فيما نجد بعضهم الآخر ـ رغم إيمانه الحقيقي بذلك المبدأ السامي ـ غير مستعدّ للاحتراق في سبيله أو التضحية أو جعله في الأولويات الأساسية في حياته.

إنّ المصاعب والمشاكل التي تواجه العامل المؤمن تستطيع صقل نفسه ورفع درجة إيمانه بمبادئه، أي بتعبير آخر: اختبار هذه المبادئ في وجودها النفسي عنده… إنّ هذا الاختبار تطهيرٌ للذات وتسامٍ بها وتفانٍ؛ لهذا قلنا إنّ الاختبار والامتحان في المرحلة المكيّة لهما دور ذاتيّ أيضاً في تكوين الجماعة الصالحة، وصنع عناصرها الروحية الصادقة والمخلصة.

لكن ليس المهم ما يفعله الآخرون، بل المهم ما هي ردود أفعال المؤمنين على ما يفعله الآخرون؟

3ـ الصبر. إنه ردّة الفعل هنا في هذه المرحلة. إنه قيمة عظيمة في مواجهة البلاء، قال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186).

فهذه الآية تخبرنا أن المؤمنين سيبتلون في المال، حيث قد تصادر أموالهم، أو قد يضيّق عليهم في وظائفهم ورواتبهم، أو قد تمنع عنهم الأموال العامة التي تشملهم بطبيعتها، وسيبتلون في الأنفس، فقد يقتلون في سبيل قضيتهم، وقد يتساقط بعضهم في الهاوية فيخضع للطرف الآخر فيقلّ عدد نفوس المؤمنين بالمشروع التغييري الإيماني، وقد يكون ابتلاؤهم بأنفسهم باغتيالها اجتماعياً وسياسياً ونحو ذلك. إنّ هؤلاء المؤمنين الصادقين سيسمعون الكثير من الأذى، حتّى من بعض أتباع الدين (أهل الكتاب)، سيفترى عليهم ويكذب، سيظلمون بغيبتهم وبهتانهم وتتبع عثراتهم وتناسي حسناتهم وتشويه صورتهم وتضخيم سلبياتهم وتقزيم إيجابياتهم وغير ذلك. إن الأذى ليس بقليل، إنه أذى كثير كما وصفته الآية، لكن ما هو المفترض فعله؟ إنه خطوتان هامتان هنا، هما:

1ـ الصبر والتحمّل إلى جانب التقوى، كما قالت الآية المتقدّمة، وعدم الانفعال والخروج عن قواعد الهدوء والسكينة اللتين يتصف بهما المؤمن التقيّ. لقد علّم الله سبحانه رسوله أن لا يستدرج ويستخفّ في هذه المواقع: قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ (الروم: 60).

لماذا الصبر؟ كي لا تكون أفعال الآخرين وتصرّفاتهم السلبية تجاه الدعوة الدينية استفزازاً يخرج الإنسان عن حالته الطبيعية، فيصيّره خفيفاً لا وزن له، فينفعل ويضطرب ويغضب، وتصدر منه التصرّفات المشينة، فيفقد التقوى، فيكون الحقّ معه ثم ينقلب عليه. فيا محمد، انتبه من أن يجعلك هؤلاء في تصرفاتهم الصبيانية والسفهية خفيفاً لا تزن كلماتك أو أفعالك. فهذه هي قيمة الصبر هنا، في أنه لا يسقط حركة التغيير في الانفعال الذي يشوّه صورتها، ويهبط بها إلى مستوى خصومها التافهين من مشركي قريش وأنصارهم. ومن هنا أيضاً نفهم معنى قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾ (الفرقان: 63)، فإنّ هذا الجواب (السلام) تعبير آخر عن ردّه الفعل الهادئة والمتعالية في الوقت عينه عن نمطهم السفهي في مواجهة الآخرين، وذلك أنّ واحدةً من أخطر مظاهر العداء مع الآخر هي أن يتأثر الإنسان بخصمه، فيجرّه خصمه لكي يفعل أفعاله وينزل إلى منزلته، فيستخف العدوّ عقلنا بخفّة عقله، ويفقدنا اتزاننا بفوضويته وعبثيته، هنا لابدّ أن يكون الجواب (سلام)، أي لا حرب بيننا بالمعنى الذي تريده أنت، بل نحن من يصنع قواعد الحرب بصبرنا.

لكن كيف يكون الصبر؟ هل هو المذلّة عينها؟ كيف يمكن تحصيله في هذه الحالات؟ وكيف يمكن إدارة تطبيقه؟ وكيف يمكن للإنسان أن يبني شخصيته العصامية المؤمنة وسط كلّ هذا الظلم والجور والإجحاف والاستهزاء؟

 

ـ يتبع ـ

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً