أحدث المقالات
ترجمة: زين العابدين شمس الدين

مقدمة ــــــــــــــــ

تواجه العديد من المفاهيم إشكاليات في تعريفها وتحديد المراد منها، من قبيل الثقافة والدين والحرية والسعادة والعدالة، فمن الصعوبة بمكان تعريف هذه المصطلحات تعريفاً دقيقاً وجامعاً، يكون محلّ اتفاق الجميع، وإذا أجلنا النظر في دوائر المعارف وموسوعات العلوم الاجتماعية والإنسانية، فسوف نعثر ـ بلا تردّد ـ على أكثر من مئة تعريف لكلمة الثقافة، ومع غضّ النظر عن ذلك، يمكن الإتيان بتعريف تسامحي وتقريبي للثقافة نقول فيه: إن ثقافة أي مجتمع عبارة عن مجموعة من الحقائق والقيم والتقاليد المعمول بها، التي تتأثر بطريقة العيش والأعمال الاجتماعية والإبداعات الفنية لهذا المجتمع، وبناءً على هذا، تحكي الآداب والتقاليد والأعمال الدينية، ومظاهر الحزن والفرح، والأشكال الأدبية والفنية وغير ذلك… كلّ هذه الأمور تحكي ثقافة أيّ مجتمع، وتؤثّر عليه بشكل أو بآخر، كما أنها تتأثر به أيضاً.

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا التعريف للثقافة، سيغدو الإنسان بطبيعته موجوداً ثقافياً، بل لا يمكن أن نجد مجتمعاً على مرّ التاريخ خالٍٍ عن ثقافةٍ مختصّة به.

ويعتبر الدين صاحب السهم الأكبر ـ من هذه المؤثّرات ـ في بناء ثقافة المجتمعات الإنسانية، بل يمكن أن يقال: إن الدين في أيّ مجتمعٍ من مجتمعات القرون الأخيرة هو المؤثر الوحيد في بناء ثقافته، لأن ثقافة أكثر المجتمعات البشرية عبارة عن مزيج من ثقافات أخرى، وهي مدانة لعدّة عناصر وأسس… يمكن أن يكون الدين أهمها، فعلى سبيل المثال، نلاحظ الحضارة الغربية المعاصرة وثقافتها، فإنّ تطوّرها وإن كان يبتني ـ بشكل أو بآخر ـ على نتائج العلوم التجريبية، إلا أنه لا يمكن إنكار أن للدين المسيحي ـ مع تحولاته التاريخية كافّة ـ سهماً في التأثير عليها، كما هو الحال في الثقافة الإيرانية المعاصرة، فإنها مدانة لثلاثة أركان: الثقافة الإيرانية القديمة، والثقافة الغربية، والأهم من ذلك التعاليم الإسلامية، وبناءً على هذا، تشغر الثقافة الدينية حيّزاً هامّاً من الثقافة العامة للمجتمعات.

وبدورنا هنا، سوف نعرض لبيان وضع الثقافة الدينية في العالم المعاصر، مجيبين ـ باختصار ـ على السؤال الأساسي التالي: هل يمكن الحديث عن صيانة الثقافة الدينية، وحفظ الهوية الإسلامية، في ظلّ تطور وسائل الاتصال، وفي عصر التحوّلات الاجتماعية والثقافية الواسعة، والهيمنة القوية لقيم الحضارة المادية والصناعية على المجتمعات، مع تزايد وانتشار نمط الحياة الغربية؟

يظنّ البعض أن أيّ اندماج مع الحضارات والثقافات الأخرى، وخصوصاً الحضارة الغربية المعاصرة، سوف يكون سبباً لاضمحلال الثقافة الإسلامية وتغييبها عن واقع الحياة، والطريق الوحيد للحفاظ على هذه الثقافة والهوية الإسلامية ـ بنظر هؤلاء ـ منحصر في الانزواء الثقافي، والابتعاد عن الأخذ مطلقاً بنتائج المدنية الحديثة.

هذا الظن هو الذي جعلنا نطرح السؤال الأساسي المتقدّم، والجواب عليه سيظهر عبر الإشارة المختصرة إلى مجموعة نقاط:

التغيّر والتبدل الثقافي ــــــــــــــــ

يعتبر التغير الثقافي واقعاً لا يمكن اجتنابه أو الفرار منه، لأن الإنسان موجود مؤثر في محيطه ومتأثر به كذلك، ويمكنه بشخصيته المبدعة أن يجري تجارب عديدة على أنماط مختلفة من الحياة، واكتشاف طرق اقتصادية واجتماعية متعددة، كما ويمكنه أيضاً أن يظهر الكثير من تجلياته الذاتية والفكرية عبر إبداعاته الفنية والأدبية، وعلى صعيد آخر، تتواصل المجتمعات الإنسانية على الدوام فيما بينها على المستويين الثقافي والاقتصادي، رغم الاختلاف الإثني والقومي بينها، وما هي عليه من تعدّد في الطبائع والعلاقات وتغاير في الأفكار والثقافات. وهذا التواصل والارتباط بين المجتمعات يستتبع بشكل طبيعي حصول تأثير ثقافي متقابل، يؤدي إلى انتقال التجارب الاجتماعية، وتبادل النتائج المختلفة من مجتمعٍ إلى آخر.

وبعبارة أخرى، إن التغير الثقافي يمثّل نتيجة طبيعية للاختلاف الإثني وتنوّع الجماعات الإنسانية، ويكشف القرآن الكريم عن هذه الحقيقة، معتبراً أن سرَّ التنوع العرقي وتعدّد الشعوب والقبائل، يكمن في تهيئة الأرضية المناسبة كي يتمّ التعارف بين الناس، واستفادة كل شعب من تجارب الشعب الآخر: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا< الحجرات:13.

من هنا كان التغير الثقافي من حيث هو تغير ثقافي، لا يتصف بشيء من الإيجابية أو السلبية، بل الاتصاف بهما يتبع الوجهة التي يسير إليها هذا التغيير، وتتشكل نتيجته النهائية على أساسها، فأحياناً يكون احتكاك أمةٍ بأمّةٍ وحضارةٍ بأخرى، موجباً لتقدم ثقافة هذه الأمة واستغنائها، لذا يأخذ هذا الاحتكاك شكلاً إيجابياً، فيما يغدو أحياناً أخرى سبباً في اضمحلال قسم من العناصر الحية والمتطوّرة في هذه الثقافة، وهذا ما يسمى بـ “التحوّل الثقافي”، وهناك العديد من النماذج التاريخية لهذين القسمين من التغيير ـ الإيجابي والسلبي ـ في ثقافات الأمم السابقة، فمثلاً نرى أن الدين الإسلامي قد غيَّر ثقافة العرب الجاهليين تغييراً مميَّزاً، حتى أضحت الحضارة الإسلامية العظيمة التي كانت في أوجها في القرون الوسطى، ثمرة عمل مركّز على نشر التعاليم الإسلامية في العالم الإسلامي، ومن جهة أخرى نلاحظ الدور البالغ الذي لعبته الحضارة الإسلامية وثقافتها في الـتأثير على الحضارة الغربية المعاصرة أيضاً، ففي زمن الحروب الصليبية، تعرّفت أوروبا على الكثير من المنجزات الهامة لثقافة الإسلام وحضارته، الأمر الذي أدّى إلى خلق آثار فائقة الأهمية تركت بصماتها على تكوّن الحداثة الأوروبية نفسها.

إن للتغير السلبي للثقافة ـ الذي يعبر عنه بالتحوّل الثقافي ـ مراتب ودرجات مختلفة، فتارة يكون التحول الثقافي في مجتمعٍ ما تدريجياً وغير محسوس، وتارة أخرى يكون جذرياً من أصوله، كما أن حجم هذه التحولات السلبية ليست متساوية، بل تختلف باختلاف الموارد، فبعد وفاة الرسول الأكرم 2 حصل تحوّل كبير على ثقافة المجتمع الإسلامي، حيث تغيرت الكثير من قيم الإسلام وحقائقه الغنيّة، لتأخذ شكلاً ولوناً آخر لها، فقد نجح الرسول 2 خلال فترة ثلاثة وعشرين عاماً في تشييد بعض المفاهيم في نفوس المسلمين، من قبيل المساواة، وعدم الولاء للقبيلة، والعدالة، والابتعاد عن الاختلافات الطبقية والعرقية، وتثبيت روح الفداء والإيثار في سبيل الله… إلا أن هذا لم يستمر طويلاً، فسرعان ما عادت الحياة إلى سابق عهدها، وسادت الثقافة الجاهلية بعد وفاته 2، وتبدّلت بعض القيم والمبادئ الإسلامية.

ويكشف الإمام علي C عن هذه الحقيقة المرّة، شاهداً على عودة المجتمع الإسلامي مرةً أخرى إلى عهد الانحطاط الجاهلي، بدلاً عن الاعتصام بالحبل الإلهي، والحفاظ على القيم والمبادئ الإسلامية، وذلك عن طريق التمسك بمفاهيم وأحكام موروثة عن الجاهلية، حيث يقول: “ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم 2، والذي بعثه بالحق لتُبلْبلُنّ بلبلة”([1])، وفي مكان آخر يقول C: “ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية”([2]).

وهناك الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤكد وقوع تحوّل ثقافي بعد وفاة الرسول 2، وسوف نقتصر على الإشارة إلى نماذج منها:

فعلى سبيل المثال، بذل الرسول 2 جهداً كبيراً للقضاء على التبعية القبلية والولاء الأعمى للعشيرة، محكّماً مكانها العلاقة القائمة على أساس الإيمان، حتى وصل الأمر بهم إلى أن يقف الأخ أحياناً مقابل أخيه في الحرب، والأب مقابل ابنه لاختلافهما في الإيمان والكفر.. لقد علّمهم الرسول أن الجميع أخوة في الإيمان، وأن الإيمان مقدّم على الدم والقومية والقبيلة، لكن بعد وفاة الرسول 2، شاهدنا عملية إعادة إحياء الولاء القبلي تدريجياً، وكشاهد على ذلك ينقل لنا التاريخ أن النجاشي وهو أحد أصحاب الإمام علي C وشاعره في حرب صفين، شرب في أحد أيام شهر رمضان الخمر مع صديقه المسيحي، فحدَّه علي C، فقام طارق بن عبد الله أحد قوّاد عسكر علي C وكان من قبيلة النجاشي فقال ـ معترضاً على إجراء الحد ـ لقد ” أوغرت صدورنا وشتّت أمورنا”، وقد أدّى به ذلك إلى الانتقال ـ عقب هذه الحادثة ـ إلى معسكر معاوية([3]).

ويمكن أن نسجل شاهداً آخر على التحول الثقافي بعد وفاة
الرسول 2، وهو رواج طلب الدنيا وادّخار الأموال بين المسلمين الأوائل، فالكثير من أصحاب الرسول الذين كانوا قد تعلّموا منه الإيثار والإنفاق ومساعدة الفقراء، توجهوا بعد وفاته إلى جمع الذهب وتكديس الأموال، فبعد وفاة عبد الرحمن بن عوف ـ وهو أحد الصحابة ـ احتاج ورثته؛ لتقسيم الذهب الذي كان لديه؛ إلى أن يقطعوه بالفأس، وكذلك كان حال بعض الصحابة أمثال طلحة والزبير، حيث ينقل التاريخ أنه كان لديهما ـ عند وفاتهما ـ آلاف الجواري والغلمان والأنعام.

التغيير الثقافي: تلقائي ومدروس ــــــــــــــــ

يرجع التغير الحاصل في المجتمع إلى شكلين:

الشكل الأول: التغيير الذي يعبّر عنه بـ “التغيير الثقافي العادي”، وهو يحكي عن تحول ثقافي عادي وطبيعي، فكل مجتمع بشري يتأثر بشكل تدريجي وطبيعي عبر الاحتكاك بمجتمع آخر، مما يؤدي إلى تبادل النتائج العلمية والثقافية معه، ويحصل كل منهما ـ نتيجة ذلك ـ على خلاصة تجارب الآخر، كما ويمكنه من الاستفادة من سائر العوامل الاقتصادية والسياسية الأخرى، وهذا التغير الثقافي المتبادل قد يترك أثراً سلبياً في بعض الأحيان، وقد يكون ذا نتائج إيجابية في أحيان أخرى. وعادةً ما يكون المؤثر الأكبر في هذا الاحتكاك والتبادل هو المجتمع الذي يمتلك مخزوناً ثقافياً أكبر من غيره.

إذن، فهذا النوع من التغيير يعبر عنه بالتغيير التلقائي والعادي، وظهوره واضح في جميع المجتمعات، حتى أنه لا يكاد يخلو مجتمع من هذا التغيير، ولو ضمن مرتبة من مراتبه.

الشكل الثاني: التغيير الثقافي الذي لم يحصل بشكل طبيعي، بل جرى ضمن عملية مخطط لها من قبل، وهو في الواقع تغيير “مهندَس ثقافياً” يهدف إلى تغيير العناصر الثقافية في المجتمع، وهذا الشكل من التحوّل الثقافي يحصل عادة نتيجة حركة إرادية مخطط لها ومدارة من قِبل بعض الأشخاص أو الجمعيات أو الدول أو أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية، للوصول من خلاله إلى أهداف خاصة، وهو يحمل في هذه الحالة سمة التنظيم الاجتماعي المخطط له مسبقاً، ويعمل على إحلال عناصر ثقافية جديدة مكان الثقافة القديمة للمجتمع، أو مكان بعضها على الأقل، ويطلق على التغيير الإرادي للثقافة القديمة بثقافة جديدة اسم: “التخطيط الثقافي”.

إلا أن مفهوم التخطيط الثقافي أو التغيير الإرادي للثقافة مفهوم مشكّك، بمعنى أنه لا يمكن أن نصدر بحقه حكماً كلياً، لأن تقييمه والحكم عليه يدور مدار أهداف هذا التخطيط ويرتبط بالتغيير الثقافي المزمع تنفيذه، ففي بعض الأحيان يتصف التخطيط لإحداث تغيير ثقافي لمجتمعٍ ما بالإيجابية، بينما يتصف في أحيان أخرى بالسلبية، ليغدو مصدر قلق على هذه الثقافة.

وكأنموذج على ذلك، الإسلام الذي غيّر الثقافة التي كانت قائمةً في العصر الجاهلي، فقد قام النبي الأكرم 2 تدريجياً بوضع أسس الثقافة الإسلامية مكان المفردات والمفاهيم المنحطة في الثقافة الجاهلية، ضمن خطة محكمة واستقامة عالية وعلى طبق الأوامر الإلهية، وكان يوصي أصحابه بذلك، فحينما وجه معاذ بن جبل إلى اليمن أوصاه أن يغير سنّة الجاهلية هناك ويميتها.

لكن الواقع أن المجتمع الإسلامي واجه بعد النبي 2 الكثير من محاولات التغيير الثقافية المخطّط لها، ففي عصر بني أمية وبالخصوص في عهد معاوية، تم السعي كثيراً لتغيير المعالم الثقافية للدين الإسلامي الأصيل، فقد قام معاوية بترويج فكرة الجبر بين المسلمين لتثبيت حكومته، وضمان إطاعة الناس للحاكم الظالم، واعتبر انتصاره بصفين شاهداً على رضا الله تعالى بحكومته وكونها محطّ الإرادة الإلهية، وروّج القول بأن حكومته وسلطته هي قضاء إلهي محتوم.

وحينما اعترضت عائشة وعبد الله بن عمر عليه حين أخذ البيعة ليزيد، توسّل معاوية، لإقناع من عارضه في ذلك، بعقيدة الجبر معتبراً أن المسألة من قضاء الله وقدره، وقال: “وإن أمر يزيد من قضاء الله، وليس للعباد الخيرة من أمرهم”([4]).

لقد ابتعد معاوية كثيراً في زمان حكومته عن السنّة النبوية، وفرض على العالم الإسلامي نظاماً سلطوياً يقوم على أساس استمالة رؤساء القبائل، وتعميق الهوة بين الطبقات، وخلق تفاضل في المجالات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة.

من جانب آخر، أقدم معاوية ـ في محاولة تغيير ثقافية أخرى ـ على تعبئة المساجد والمنابر، وحثّ الخطباء ضدّ علي C وطمس منـزلته ومكانته في الإسلام. كما أن من خطط التغيير الثقافي الذي قام بها معاوية في الإسلام، أنه حمل أصحابه التابعين له على جعل أحاديث عن الرسول 2 في فضائله، وتحريف بعض الروايات الواردة في تفسير الآيات القرآنية النازلة في علي وأهل البيت G، من قبيل ما ورد من أنه أعطى سمرة بن جندب مبلغ أربعمئة ألف درهم لكي يروي أن هذه الآية: >وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ< البقرة:207، التي نزلت بحق علي C حين بات في فراش الرسول ليلة الهجرة.. أنها قد نزلت بحق عبد الرحمن بن ملجم لقتله علياً C([5]).

 

التخطيط للغزو الثقافي في العالم المعاصر ــــــــــــــــ

ثمّة عوامل ثلاثة بالغة الأهمية تساعد على التغيير الثقافي الإرادي للمجتمعات وهي:

1- تطوّر فنون الاتصالات.

2- غنى العلوم الاجتماعية وتكاملها مع الفروع المختلفة لعلم الاجتماع وعلم النفس.

3- انتشار ظاهرة استخدام وسائل الاتصال العالمية.

فقد غدا من السهولة بمكان؛ في هذا العصر؛ توجيه أفكار أكبر قدر من الناس والتأثير على طباعهم، كما أن عملية إقناع الناس وحثهم على الانتخاب واختيار الأمثل، لم تعد مقتصرةً على خصوص إعلانات المنتجين، أو محصورةً ضمن الحملات الانتخابية التي يخوضها السياسيون في معاركهم الانتخابية فقط، بل يمكن للعوامل الثلاثة المتقدمة أن تهيئ الظروف الموضوعية للتأثير على الناس، مما يساعد في حصول عملية تغيير ثقافية أوسع وأشمل.

من هنا، أدرك أصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي في العالم المعاصر جيداً، أن أساس قدرتهم في أي مجتمع، يكمن في توجيه العامل الثقافي لهذا المجتمع، وكأنموذج على ذلك: ثقافة الدعايات الإعلانية التي تترك أثراً مهماً في تحديد مكانة الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية، وأما المجتمعات التي لا تتأثر من ثقافة الإعلام والدعايات، فسوف تسدّ الطريق أمام أصحاب السلطة الاقتصادية في التدخّل لصياغة نسيج حياتهم الاجتماعية والسياسية.

لذا كان على أصحاب القدرة الاقتصادية، وأصحاب الشركات المتعددة الجنسية ـ التي تُعدّ من أهم العوامل المؤثرة في الميدان السياسي، ولديها القدرة على توجيه السلطة السياسية ـ إعداد ظروف ثقافية تساعد على أداء هذه المهمة، لأجل بسط أيديهم وتوسيع دائرة نفوذهم في المجتمعات والدول الأخرى. لهذا السبب يسعى هؤلاء إلى إعداد أنظمة ثقافية معتمدين على خبراء في العلوم النفسية والاجتماعية، ومستعينين بوسائل الاتصال العالمية، لأجل تغيير ثقافة المجتمعات الحالية وتوجيهها.

إذن، فقضية الغزو الثقافي والفكري، غير مختصّة بالعالم الثالث والدول النامية، بل يمكن القول ـ بشكل عام ـ : إن كل سلطة سياسية اقتصادية تحاول دائماً أن تفرض الثقافة التي تثبت سلطتها في المجتمعات الأخرى، حتى لو كانت من المجتمعات الصناعية والمتطوّرة، وعلى أساس هذه القاعدة العامة، يخشى الكثير من المفكرين والمثقفين الأوروبيين من ترويج شعار “الحياة على الطريقة الأمريكية”، وانتشار ثقافة “هولييود”، بل يذهب بعضهم إلى تفسير فكرة “العولمة” على أنها بداية لـ “أمركة” العالم والمجتمعات المعاصرة.

أين هي اليوم ثقافتنا الدينية في هذا العالم؟ ــــــــــــــــ

إن الخطر الذي يهدّد الثقافة الإسلامية وهويتها الدينية في هذه الأيام، ينشأ من ناحيتين:

الأولى: إن الشروط الحالية للتغيير “الطبيعي” للثقافة تسيطر على الإرادة بسرعة وتستميلها نحوها، فانتشار وسائل الاتصال أوجدت البيئة المساعدة على تلاقح الثقافات والاستفادة من بعضها.

الثانية: لقد أدى تغيير النسيج الاقتصادي وتعقّد الأعمال الاجتماعية وتقسم أعمالها، مضافاً إلى تطوّر الآلة، إلى التأثير بشكل طبيعي على الثقافة العامة، وبالأخص على الثقافة الدينية، الأمر الذي أضحى سبباً لبرامج ثقافية تتعارض في بعض الأحيان مع روح الثقافة الإسلامية.

ولعلّ أهم خطر يواجه الهوية الإسلامية يأتي من ناحية الدعوات المنادية بحلول الثقافة الغربية محلّ الثقافة الإسلامية، ومن المراكز التي تُسوِّق وتسعى لعملية تحويل الثقافة الإسلامية إلى ثقافة غربية تدريجياً.

ويمكن اختصار الأهداف الأصلية لمخطّط التغيير الثقافي في:

1- إبعاد جيل الشباب في المجتمع الإسلامي عن الأسس والمقوّمات الفكرية والثقافية والتاريخية في هذا المجتمع.

2- تهميش روح المسؤولية والمحافظة على القيم الأخلاقية والمعنوية.

3- تعميق العلاقة بالأمور الظاهرية والملذات الآنيّة.

لقد أكدنا سابقاً أن اجتناب بعض أنواع التغيير الثقافي أمر غير ممكن، بل لا بد من ظهور مثل هذا التغيير بشكل طبيعي في تاريخ المجتمعات، لكن ليس معنى هذا عدم إمكان الحفاظ على الهوية الإسلامية وخصائصها الثقافية مطلقاً، فإن كل ثقافة تتكون من قسمين:

قسم أصيل يشتمل على العناصر الأساسية والجوهرية لهذه الثقافة، بحيث يكون هو المحقق لقوامها والمؤلف لكيانها، وأيّ خلل يطرأ عليها سيكون بمثابة اضمحلال لهذه الثقافة، وتغير كلي أو جزئي لها.

والقسم الآخر فرعي، يشتمل على الموضوعات والمسائل الاجتماعية، وهو يتكوّن في الواقع على أساس العناصر الأصلية في هذه الثقافة، ويكون انعكاساً لها، وهذه الأشكال المكونة لعناصر الثقافة هي القابلة للتغير.

وبناء عليه يمكن لأمة ما، مع المحافظة على العناصر الأساسية لديها ومؤسساتها الثقافية الخاصة، أن تستفيد من الاختلاف والتنوع الاجتماعي، في إخضاع طرق تعامل الثقافات والحضارات الأخرى مع التجاذبات التاريخية المختلفة، لعملية تحليل وتجزئة، للمحافظة على جوهر ثقافتها.

وتتمثل العناصر الأصلية في الثقافة والهوية الإسلامية بعدة مسائل، من قبيل القيم الأخلاقية، الفضائل الشخصية، الروح المعنوية، التفكير بالآخرة، رعاية الحقوق المتبادلة، العدالة واتباع العدل، احترام كرامة الإنسان، والاهتمام بالعمل والعلم والمعرفة.

هذه الأسس الثقافية ليست مختصة في قالب اجتماعي خاص، أو مرتهنة ضمن عصر وجيل كذلك، بل لديها القدرة على البقاء أبداً، وبقاء هذه الثقافة مرهون ببقاء العزم والإرادة الجماعية للمسلمين على المحافظة على تراثهم الثقافي الأصيل. ولعل أخطر رسالة يحملها الجيل الواعي في المجتمع الإسلامي في الوقت الحاضر، تكمن في أمرين:

أ ـ فمن جهة، يتحتم على المفكرين والمثقفين في المجتمع الإسلامي أن يكونوا محيطين بمقتضيات زمانهم وظروف تاريخهم المعاصر.

ب ـ ومن جهة أخرى عليهم أن يتعرّفوا على مواطن الضعف والخلل في ثقافة المجتمعات الإسلامية بمسؤولية ووعي، وأن يسدّوا الطريق التي تنفذ منها الثقافة غير الإسلامية، موصدين الأبواب أمام خطط التغيير الثقافية في هذه المجتمعات.

إذن، فمن أهم حاجات المجتمع الإسلامي المعاصر، دراسة واقع الحضارة المعاصرة بعيداً عن الإعجاب والانبهار بها، وبعيداً أيضاً عن التحجّر والنظرة الضيقة للأمور، مضافاً إلى ضرورة نقد الواقع الثقافي للمجتمعات الإسلامية نقداً موضوعياً، والعثور على طريق حل واقعي للثقافة، ومعرفة مدى تناغمه مع الأخطار والتهديدات المحيطة بالهوية الإسلامية.



[1]) محمد عبده، شرح نهج البلاغة للإمام علي C، دار المعرفة، بيروت، 1 : 47.

[2]) المصدر نفسه 2 : 154.

[3]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، دار إحياء الكتب العربية، 4 : 89.

[4]) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، تحقيق علي شيري، منشورات الشريف الرضي، 1 : 205.

[5]) ـ ابن أبي الحديد، شرح النهج، 4 : 73.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً