أحدث المقالات

الشيخ جواد فخّار الطوسي(*)

 

مقدّمة ــــــ

يقسّم فقهاء الشيعة الحكومة إلى نوعين كلّيّين: حكومة محقّة عادلة؛ وحكومة مبطلة ظالمة متغلّبة([1]). وقد أشير إلى هذا التقسيم بوضوح في بعض الروايات([2])، ومن ذلك: ما نجده في رواية تحف العقول: وهي [الولاية والحكومة] جهتان؛ فإحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل، الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم على الناس، وولاية ولاته وولاة ولاته، إلى أدناهم باباً من أبواب الولاية على مَنْ هو والٍ عليه؛ والجهة الأخرى من الولاية ولاية ولاة الجور وولاة ولاته، إلى أدناهم باباً من الأبواب التي هو والٍ عليه([3]).

وقد أطلق في الفقه عنوان حكومة الجور أو الحاكم الجائر على القسم الثاني، كما عبّر عنها في باب القضاء، في مسألة المنع من الترافع إلى القضاة المنصوبين من قبل الحكومة غير المشروعة، تحت عنوان (الطاغوت).

والطاغوت في اللغة بمعنى الطاغي. ويشير إبراهيم بن إسحاق الحربي إلى المعاني المختلفة التي يذكرها المفسِّرون، في ذيل الآية 51 من سورة النساء، لهذه الكلمة، وأن المراد بها: الشيطان؛ أو كعب بن أشرف؛ أو الكاهن؛ أو الشاعر، ثمّ يقول: وهذا كلّه له وجه في النهي عن الحلف بالطواغيت؛ لأن واحدها طاغوت، وهو الشيطان؛ لأن الشيطان في قول أبي عبيدة كلّ فائق في الشرّ، متمرّد فيه، من إنسان أو دابّة([4]).

ويرجِّح أبو هلال العسكري أن يكون معنى الطاغوت كلّ معبود سوى الله([5]). كما يختار ذلك ابن الأثير([6]). ويجمع ابن منظور هذين التعريفين معاً، ويقول: الطاغوت: ما عبد من دون الله عزَّ وجلَّ، وكلّ رأس في الضلال طاغوت([7]).

وعلى أيّ حال يمكن أن نعرّف الطاغوت في كلمةٍ واحدة بأنّه: الموجود المتسلّط القويّ الذي لا ينتسب إلى الله. وسنوضّح أنّ هناك تناسباً كبيراً بين هذا المعنى اللغويّ وبين الرؤية الخاصّة التي يتبنّاها الشيعة في تفسير (الطاغوت).

أمّا المعنى الاصطلاحي للطاغوت والجور، اللذين تتناولهما هذه الدراسة، فهو الحاكم السياسيّ غير الشرعيّ. وما يهمّنا في هذا البحث هو نوع الموقف الذي يتّخذه الفقه الشيعيّ من هذه الحكومة، تبعاً لسيّد الشهداء×. ولذا فسنعمل أوّلاً على تحديد عناصر مواجهة الحكومة الظالمة في فقه الشيعة، ثمّ ننتقل إلى دور مواقف الإمام الحسين× السياسيّة، والأثر الذي تتركه هذه المواقف على بلورة تلك العناصر.

وإذا اقتصرنا في بحثنا على المصادر الفقهيّة المتوفّرة فمن الممكن أن نجد حضوراً فعالاً لعناصر مواجهة حكّام الجور والطواغيت. وهذه العناصر هي ما يميّز الفقه الشيعيّ عن سائر المذاهب الإسلاميّة، وهي توقف الباحث على روح الثورة والتغيير في هذا الفقه. وتتمثّل أركان الفكر الثوري المواجه للطاغوت في الفقه الشيعيّ بما يلي:

1ـ تفسير حكومة الجور والطاغوت على أساس الشرعيّة في الحكم، لا على أساس الممارسات فقط.

2ـ الاعتقاد بضرورة اقتلاع حكومة الجور والمواجهة المسلّحة معها عند توفّر الفرصة المناسبة.

3ـ الاعتماد على المقاومة السلبيّة، والحكم بتحريم حكومة الجور، عند عدم توفّر الفرصة للثورة.

وقد تمّ ترتيب أبحاث هذه المقالة، وفق تسلسل هذه العناوين الثلاثة، ضمن فصول ثلاثة. وسنهتمّ في كلّ فصلٍ بدراسة المواقف السياسيّة للإمام الحسين× في مجال ذلك العنوان الخاصّ للفصل. ولا شكّ أنّ فقهاء الشيعة كانوا ـ في كلّ مورد من هذه الموارد ـ متأثّرين بالمواقف التي كان الأئمّة المعصومون قد اتّخذوها، لذا كان هدفنا منصباً على تحديد مواقف الإمام الحسين× بالذات.  ومن الواضح أنّ تأثير هذه المواقف لم يكن على نسق ومستوى واحد؛ ففي بعض الموارد كان المؤثّر الأوحد في تبلور فكرة المبارزة في الفقه الشيعيّ مواقف وخطوات الإمام الحسين× فحَسْب؛ وفي بعض آخر كان المؤثّر مواقفه×، إلى جانب مواقف سائر أئمّة الشيعة^.

 

تفسير حكومة الجور والطاغوت على أساس منشأ الحكم، لا الأعمال والمواقف ــــــ

يرى فقهاء الشيعة أنّ الحكومة المشروعة هي التي ترتكز إلى النصّ الشرعيّ. وتقوم هذه الفكرة على محاور ثلاثة:

1ـ أصل عدم الولاية، والاعتقاد بأنّه ليس لأيّ من أفراد البشر حقّ الحكومة على الغير، وأنّ الحاكميّة منحصرة بالله خالق الناس. وعليه فالوحيد الذي يمتلك حقّ الحكومة هو الذي ينصَّب في ذلك من قبل الله تعالى([8]).

2ـ كما تدلّ الأدلّة العقليّة والنقليّة فقد خصّ هذا الأصل في ما يتعلّق بالنبيّ والأئمّة^، وقد ثبتت حاكميّتهم على الناس بالنصّ.

3ـ تخصيص هذا الأصل في ما يتعلّق بالمنصَّبين على الحكم من قبل المعصومين^. وعلى أساس هذا المحور الثالث فإنّ حقّ الولاية ثابتٌ للمنصَّبين على الحكم من قبل المعصومين^([9]).

وباختصارٍ فالحكومة المشروعة، وفقاً لرؤية كافّة آراء الفقهاء الشيعة، هي الحكومة التي تقوم على أساس النصّ؛ وفي المقابل فإنّ حكومة الجور والطاغوت هي حكومة لا تستند إلى النصّ الشرعي. وبالاعتماد على هذا التفسير لا يتمّ النظر إلى الأعمال والتصرّفات الحكوميّة للحكّام في معرفة جور الحكومة أو عدالتها؛ لأنّه إذا خرج الحكّام الذين استلموا الحكم على أساس النصّ الشرعيّ عن موازين العدل والشرع، وعملوا بالظلم والجور…، فإنّهم سيخسرون شرعيّتهم المستمدّة من النصّ عندئذٍ. ومن هنا فالملاك في تعيين شرعيّة الحكومة أو طغيانها هو منشأ الحكومة فقط، دون غيره، وإذا كان لمواقفها وأعمالها أثرٌ في هذه الشرعية أو نفيها فهي على نحو الكاشفيّة والطريقيّة اللاحقة بها، لا على نحو الموضوعيّة والأصالة.

ويجدر في المقام أن نذكر بعض النماذج من كلمات فقهاء الشيعة في عدم تأثير أفعال الحكومة في اكتسابها عنوان الجور أو العدل.

ولكنْ؛ ومنعاً للإطالة والتكرار لما سيأتي في المباحث اللاحقة، نكتفي بفتوى ابن فهد الحلّي، حيث وجّه إليه سؤالٌ ورد فيه: ما يقول مولانا الشيخ… في جماعةٍ من الناس تأمّر عليهم أحد بغير رضاهم، وهو قاصد مع ذلك العدل بينهم، لا يمكنه ولا يتمكّن من العدل إلاّ بحصول الهيبة في قلوب هؤلاء، ولم يقصد بذلك إلاّ الإصلاح الديني أو الدنيوي، مع غلبة ظنّه أنّه لو لم يتأمّر عليهم لحصل الفساد العظيم، الذي يؤول ضرره إليهم وإليه، والقوم إذا كان لهم رئيس عادل كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وإنْ كان العدل يتفاوت. فبقي يأخذ من أموالهم وما يدفع به عنهم ما هو أشدّ ضرراً، مع أنّه يخرج من ماله أيضاً، ويؤدّب بالضرب والشتم والهجر، فهل فعل ذلك أولى أم تركه، مع غلبة ظنّه بحصول الضرر عليه وعليهم…؟

الجواب: هنا مسائل: الأولى: لا يجوز التأمّر على جماعة بغير رضاهم، إلاّ أن يولّيه المعصوم×، ومع عدم ذلك لا يجوز قطعاً.

الثانية: إذا رأى الإنسان أنّ التأمّر عليهم فيه مصلحة لهم، لكنّه يحتاج مع ذلك إلى الضرب والشتم وأخذ بعض الأموال، والضرر العائد إليهم بترك هذه التولية أكثر من الضرب وممّا يأخذ منهم، لا يجوز اعتماد ذلك، والساعي فيه كالشمعة، يضيء للناس ويحرق نفسه([10]).

والنموذج الآخر هو كلام للسيّد المرتضى، في جوابٍ له عن سؤالٍ عن السبيل إلى العلم بأنّ المتولّي في الظاهر من قبل السلطان الجائر هو محقّ، والحال أنّه على ما يدلّ عليه الظاهر متولٍّ من قبل الظالم الطاغي، الذي يجب جهاده، ولا يحسن إقرار أحكامه؟

فيجيب: الطريق إلى ذلك أن نجد مَنْ يعتقد المذهب الحقّ، المتولي من قبل الظلمة والمتغلّبين مختاراً، فنعلم أنّه ما اعتمد ذلك إلاّ لوجهٍ صحيح اقتضاه([11]).

وتقع وجهة نظر فقهاء الشيعة في تفسير حكومة الجور في النقطة المقابلة لوجهة نظر أهل السنّة؛ حيث لا يرى هؤلاء أنّ مشروعيّة الحكومة تستند في منشئها إلى النصّ. ولذا فهي ليست مقيّدة عندهم بشيء، حتّى رضا أفراد الأمّة، بل يمكن أن تحصل عندهم بالإجبار واستعمال القوّة. ومن هنا فهم يفسِّرون عدالة الحكومة وجورها استناداً إلى أعمالها ومواقفها فقط([12]).

واستناداً إلى هذه المقدّمة ننتهي إلى أنّ لدى فقهاء الشيعة اتّجاهين في تحديد مفهوم حكومة الجور: أحدهما: سلبيّ؛ والآخر: إيجابي.

ويتمثّل الأول بنفي شرعيّة كلّ حكومة لا ترجع إلى النصّ؛ بينما يدور الإيجابيّ حول محورين اثنين:

1ـ إثبات حقّ الحكومة للمعصوم×.

2ـ إثبات استمرار النصّ في ما يتعلّق باختصاص حقّ الحكم بأفراد محدَّدين بعد المعصومين^.

ويمكن القول بأنّ كلا هذين الاتجاهين باديان في الإعلانات والمواقف السياسيّة للإمام الحسين×. ولا شكّ أنّ هناك نماذج من ذلك أيضاً في أقوال سائر الأئمّة المعصومين^ ومواقفهم، رغم الأجواء الخانقة التي كانت حاكمة في عصورهم. غير أنّ ما يطالعنا أكثر عندهم^ هو نوعٌ من المقاومة السلبيّة، ونهي أصحابهم عن مساعدة الحكومات الظالمة، والدخول في الأجهزة الحاكمة. وسنطرح هذه النماذج في الفصل الثالث من هذه المقالة، مكتفين هنا بخصوص الموقفين: السلبي؛ والإيجابي، اللذين يبدوان بوضوح في كلام الإمام الحسين×. وقد ترك هذان الموقفان أثراً في تبلور الرؤية الخاصّة حول كلٍّ من حكومتي: الجور؛ والعدل.

 

 1ـ الموقف السلبي ــــــ

لقد أكّد الإمام الحسين× على هذا الموقف في مواضع عديدة، منها: عند لقائه الأول مع الحُرّ بن يزيد؛ حيث قال له ولأصحابه: أما بعد أيّها الناس، فإنّكم إنْ تتَّقوا الله، وتعرفوا الحقّ لأهله، يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أَوْلى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان([13]).

ومن الواضح أنّ كلمة «أَوْلى» هنا ليست بمعنى التفضيل، بل بمعنى تعيُّن الحكومة والولاية لأهل البيت^. ومن هنا فهي تدلّ على نفي حقّ مَنْ لم ينصّب تنصيباً شرعياً في الحكومة. وما يثبت هذا المدّعى هو تأكيد الإمام على معرفة أهل الحقّ، والذين يريد بهم أهل البيت، وهذا يوضح أنّ ملاك التمايز بين أهل البيت وبين مدّعي السلطة هو الاستحقاق التعيينيّ للحكم، والذي يمتلكه أهل البيت؛ استناداً إلى النص الصادر عن النبيّ الأكرم|.

 

 2ـ الموقف الإيجابي ــــــ

أـ إثبات الحقّ في الحكم للمعصومين^. وقد كتب الإمام× في بداية نهضته، وفي أوّل رسالة إلى أهل البصرة، قائلاً: وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة… ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممَّنْ تولاّه([14]).

وكذلك يصرّح في خطبةٍ له بين جمع من أصحابه وعسكر الحُرّ بن يزيد قائلاً: وأنا أحقّ من غيري([15]).

ب ـ التأكيد على استمرار الحكومة على أساس النصّ بعد المعصومين^. ومن المواقف التي ترتبط بالحكم هي تأكيد الإمام× على استمرار الحكم المستند إلى النصّ إلى يوم القيامة. ولهذا الأصل الذي ظهر عند فقهاء الشيعة في تعريف حكومة الجور أثرٌ كبير؛ لأنّ التسليم بمفهوم الشيعة الخاصّ حول الحكم، والالتزام بلوازمه العمليّة، يستند إلى التسليم بإمكان استمرار الحكم القائم على النصّ. وغنيّ عن البيان أنّه لو رفض ذلك فسوف يكون لنظريّة فقهاء الشيعة في تقسيم الحكومة إلى قسمين: شرعيّة؛ وغير شرعيّة، لوازم فاسدة، أهمّها: الاعتقاد بتعطيل الحكومة في عصر غَيْبة الإمام المعصوم×. وعلى أيّ تقدير فقد صرّح الإمام الحسين× في هذا المجال بالعديد من المبادئ، وذلك في خطبة عامّة له. ونظراً لأهميّتها ومكانتها الخاصّة نلمس ضرورة في نقل المقطع التالي: ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ، واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحمّلتم المؤونة في ذات الله، كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنَّكم مكَّنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلَّطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة، التي هي مفارقتكم([16]).

وعلى ضوء هذه الرواية فإنّ مجاري الأمور بيد العلماء بالله. وقد جعلت مجاري الأمور في مقابل مجاري الأحكام، وهي تعني ما يرتبط بالحكومة والسياسة. والشاهد على ذلك هو ما ورد في نهاية الكلام من القول: «واستسلمتم أمور الله في أيديهم»، ومن الواضح أنّ ما سلّمه الناس لحكّام الجور هو الحكومة وإدارة المجتمع. والدليل الآخر كذلك هو أنّ الرواية أشارت إلى غصب حقّ العلماء، ومن الجليّ أنّه لم يسلب من حقّهم شيءٌ سوى الحكومة. نعم، لا بدّ؛ لكي تصحّ الاستفادة من هذه الرواية، أن نفسّر «العلماء بالله» الوارد فيها بالعلماء بالدين والفقهاء، خلافاً لما عليه نظر جماعة اعتبروا أنّ العلماء بالله هم خصوص الأئمّة المعصومون^. وإذا كان الأمر كذلك فقد ألغَوْا دلالة كلام الإمام× على الحكومة المنصوص عليها في عصر غيبة المعصومين^([17]). كما أنّ بداية الكلام تدلّ على أنّ مراد الإمام× لا يختصّ بزمانٍ أو مكان خاصّ، بل هو يتضمَّن برنامج عمل كليّ لكافة العلماء، وفي كلّ عصر ومصر، وخاصّة مع الالتفات إلى الفقرة التي يذمّ الإمام× فيها العلماء، ويعدّ تسلّط الظالمين، وغصب حقّهم^ المشروع، نتيجة لترك العمل، والامتناع عن أداء الوظيفة. كما أنّ تطبيق عنوان العلماء على غير الأئمّة^ هو أشدّ ظهوراً؛ لأنّ استعمال هذا العنوان في المعصومين يحتاج إلى قرينةٍ([18]).

إنّ الجمع بين الموقف السلبيّ والإيجابيّ في مجال الحكم، والذي ظهر من الإمام الحسين، يؤدّي إلى ظهور تفسير خاصّ للحكم غير المشروع، وهو ما تقدّمت الإشارة إليه في الصفحات السابقة. وما يميِّز دور الإمام الحسين× في هذا المجال عن سائر الأئمّة هو تأكيده الصريح× على الموقف السلبي، الأمر الذي يندر وجوده صراحة عند سائر الأئمّة. إنّ الاعتقاد بتعريف كلٍّ من حكومة الجور والعدل على أساس من منشأ ظهور السلطة السياسيّة هو باعثٌ على ظهور الاعتقاد بضرورة عزل حكّام الجور في الفقه الشيعيّ.

 

الاعتقاد بمواجهة ومحاربة حكّام الجور ــــــ

من العناصر الثوريّة التي يمكن أن تستفاد من مواقف الإمام الحسين× هو الاعتقاد بالقيام والمواجهة المسلّحة مع حكّام الجور. وفي هذا المجال مسألتان تتطلّبان الدراسة، وسنقوم بدراستهما باختصارٍ:

1ـ موقع هذه العقيدة في فكر أهل السنّة وفقهاء الشيعة.

2ـ استنباط هذه العقيدة على أساس الموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين× في ثورة كربلاء. وهذه المواقف التي سنعرضها عبارة عن:

أـ التأكيد على طرح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجال الحقوق الاجتماعيّة، والاعتقاد بعدم انحصارها في المجالات الخاصّة والفرديّة.

ب ـ تهيئة الأرضية لفهم انصراف أدلّة التقيّة عن الأمور المهمّة.

ج ـ طرح نظريّة العزّة الإسلاميّة كأصل من الأصول المعتمدة.

 

 1ـ موقع عقيدة المواجهة المسلّحة في الفكر السنّي والشيعي ــــــ

يمنع معظم فقهاء أهل السنّة المواجهة المسلّحة مع الحاكم الجائر منعاً مطلقاً؛ استناداً إلى بعض الروايات([19]). ويعتبر العالم السنّي «النووي» أنّ هذا الأمر موضع اتفاق بين علماء السنّة. فضمن تفسيره لحديث عن النبيّ| يتعرّض لبيان الاتفاق المذكور بهذا الشكل: ومعنى الحديث لا تُنازعوا وُلاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلاّ أن ترَوْا منهم مُنكراً محقَّقاً تعلمونه من قواعد الإسلام. فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحقّ حيثما كنتم، وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرامٌ؛ بإجماع المسلمين، وإنْ كانوا فسقة ظالمين. وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرتُه، وأجمع أهل السنّة أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق… وقال جماهير أهل السنّة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يُخلع، ولا يجوز الخروجُ عليه بذلك، بل يجب وعظُه وتخويفه([20]).

ولابن قدامة ـ بدوره ـ كلام ملفِتٌ في هذا المجال، يقول فيه: وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الإِمَامِ، فَقَهَرَهُ وَغَلَبَ الناسَ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَقَرُّوا لَهُ، وَأَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ، وَبَايَعُوهُ، صَارَ إمَاماً، يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلادِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعاً وَكُرْهاً، فَصَارَ إمَاماً يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَدْخُلُ الْخَارِجُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ×: «مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، كَائِناً مَنْ كَانَ»([21]).

والظاهر أنّه من بين أهل السنّة لم يجوِّز أحد غير المعتزلة محاربةَ الحاكم والخروج عليه بالسلاح. اللهمّ إلاّ ما نصادفه في هذا المجال من بعض المرويّات غير الموثَّقة. ومن جملة ذلك: ما ينسبه أبو بكر الجصّاص إلى أبي حنيفة من أنّه كان يُجوّز قتال الظلمة([22]). غير أنّه؛ وبالالتفات إلى الظروف التي أوردها الجصّاص تأييداً لهذا النقل، بإمكاننا استنتاج أنّ ما نسبه إلى أبي حنيفة لا يُمثّل رأياً فقهيّاً، بقدر ما يُعدّ إجراءً سياسيّاً في سبيل دعمه وإبراز انحيازه لبني العبّاس، الذين قاموا ضدّ الأمويّين. ويُمكننا تبرير ذلك أيضاً بمساعدته لزيد بن عليّ، الذي خرج على بني أميّة، من خلال منحه ثلاثين ألف دينار. ويشهد على ذلك سكوته المريب في عهد حكومة بني العبّاس، ومُهادنته للبلاط العبّاسي.

كما تمّ التفكيك في مواضع أخرى من نصوص أهل السنّة ـ التي تعرّضت لقضيّة خلع الحاكم الفاسق ـ بين مسألة خلعه على يد أهل الحلّ والعقد ومسألة خلعه بالثورة المسلّحة. ويرى مجموعة من الفقهاء السنّة، الذين يميلون إلى هذه الفكرة، ضرورة الفصل بين خلع الإمام وبين الخروج عليه؛ حيث يعتقدون بأنّه يمكن للنخبة في المجتمع وأهل الحلّ والعقد أن يخلعوا الإمام عندما يحصل لهم القطع بفسقه وخروجه عن جادّة العدل والشرع، وأمّا الخروج عن طاعته والثورة عليه فلا يُعدّ أمراً جائزاً. وينسب صاحب كتاب المجموع هذا الرأي إلى مؤلّف كتاب المهذّب (أبي إسحاق الشيرازي)، ويتعرَّض لبيانه بشكلٍ مفصّل([23]).

ويُمكننا عدّ الماوردي([24])، وابن حزم الأندلسي([25])، من زمرة هذه المجموعة من الفقهاء. وعليه نرى أنّه لم يقبل بفكرة الخروج على الحاكم الجائر إلاّ جماعة معدودة من المعتزلة، يقتربون تماماً من الناحية الفكريّة من مذهب التشيّع. وبكلمةٍ واحدة: ينبغي القول: إنّ الفقه السنّي لا يمتلك الاستعداد اللازم للقبول بالمواجهة المسلّحة مع حكومة الطاغوت، بل غاية ما يُمكن أن نلحظه في هذا المجال هو التحرّك السلمي لنخب المجتمع في سبيل خلع الحاكم الجائر.

وأمّا بالنسبة إلى الفقهاء الشيعة فقد تجنّبوا التعرّض لمسألة الخروج على الحاكم؛ نظراً للظروف الصعبة وأجواء الاختناق التي كانوا يعيشونها. ولهذا فإنّنا نجدهم غالباً ما يطرحون هذه المسألة تحت عنوان: عند تمرّد الناس على الحاكم الجائر فإنّه لا يجوز مواجهة المتمرِّدين. وبالنظر إلى الموقف الإيجابي للفقهاء الشيعة في هذا المجال، والحساسية المفرطة التي كانت تُبديها الحكومات تجاه النظريّات التي كان يطرحها كبارهم، فإنّ الحديث عن هذه المسألة لم يكن لِيخلوَ من عواقب وخيمة بالنسبة إلى المتحدّثين عنها. ومع هذا، وكما ذكرنا سابقاً، يُمكننا مشاهدة آثار لهذه المسألة تمّت الإشارة إليها بصورةٍ مبعثرة في طيّات المتون الفقهيّة([26]).

كما هو ملحوظٌ لم يتجاوز ما تمّ أخذه بالحسبان ـ عند طرح المسألة بالنحو السابق ـ المنعُ عن محاربة المتمرِّدين، وحرمة إعانة الحكومة الجائرة في إحباط ذلك التمرُّد. ويُحتمل أن يكون عدم إبداء الرأي حول مسألة جواز أو عدم جواز إعانة المتمرّدين يستند في أساسه إلى بعض الروايات، التي أرجعت مسألة الثورة إلى نية الثوّار وهدفهم، وأعلنت بأنّه إذا كان الثوّار يدعون إلى تشكيل حكومة غير شرعيّة أخرى، تُماثل الحكومة الجائرة الحالية، فإنّ هذه الثورة والنهضة ستكون ممنوعة هي الأخرى، وسيُنظر إلى قادتها وزعمائها كطواغيت؛ وأمّا إذا كانت دعوتهم تهدف إلى تسليم الحكم إلى أصحاب الحقّ ـ أي المعصومين^ ـ فإنّها ستكون مشروعة عندئذٍ، إنْ لم نقل بأنّها ستحظى بتأييد أئمّة الدين وتشجيعهم.

لكنْ يجب أن لا ننفي احتمال أن يكون فقهاؤنا ـ عندما نهَوْا في المسألة السابقة (التمرُّد والثورة ضدّ الجائرين) عن إعانة الثوّار والمتمرّدين، في نفس الوقت الذي نهَوْا فيه عن إعانة الحكومة الجائرة ـ واقعين تحت تأثير بعض الروايات التي تنهى عن العمل المسلَّح ضدّ الحاكم الجائر([27]).

 

 2ـ إمكانيّة الاستنباط الفقهي لفكرة المواجهة المسلّحة من النصوص التي تعرّضت للمواقف السياسيّة للإمام الحسين× ــــــ

2 ـ 1ـ توسعة دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتناسب مع الحقوق الأساسيّة، وإخراجه عن المجال المرتبط بالحقوق الشخصيّة ــــــ

لقد نظر الإمام الحسين× إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمسألة خارجة عن دائرة العلاقات الفرديّة؛ بحيث تمتدّ إلى مجال الحكم والعلاقات القائمة بين المواطنين، وفي إطار الإطاحة بالحكومة، وهذا ما يظهر بوضوح من كلامه×. نعم، قد نصادف أيضاً في كلام سائر الأئمّة^ ورود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجال الاعتراض على إجراءات الحكومة، لكنْ ليس بالشكل الذي تمّ طرحه على لسان الإمام الحسين×، والذي نهدف إليه في هذه المقالة؛ إذ لا نجد له نظيراً أبداً في كلامهم^. وبعبارة أخرى: إذا كنّا نلحظ في كلام باقي المعصومين^ أنّ الإنسان مكلّف ـ من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بالوقوف في وجه الحاكم الجائر فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نظر الإمام الحسين يعني الثورة ضدّ الحاكم، والإنكار عليه، باستخدام القوّة والثورة، والوصول إلى حدّ الإطاحة بالحكم. إنّ هذا النوع من التأكيد سيترك أثراً عميقاً في عمليّة الاستنباط الفقهي لجواز القيام بعمليّات مسلّحة ضدّ الحكومة الجائرة. ولهذا السبب سنورد في البداية خطبة مهمّة للإمام× تتحدّث حول هذا الموضوع، ثمّ بعد ذلك سنسعى للكشف عن تأثيرات هذا الموقف على الفقه الشيعي.

اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه، من سوء ثنائه على الأحبار؛ إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ﴾، وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. وإنّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنّهم كانوا يرَوْن من الظلمة، الذين بين أظهرهم، المنكر والفساد، فلا ينهَوْنهم عن ذلك؛ رغبةً في ما كانوا ينالون منهم، ورهبةً ممّا يحذرون، والله يقول: ﴿فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي﴾، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾. فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه؛ لِعلمه بأنّها إذا أُدِّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها، هيّنها وصعبها؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفي‏ء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها([28]).

وكما هو ملحوظٌ فإنّ الإمام يعدّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمثابة عنصر وقائي من الظلم، يرتبط بمجال مواجهة الظالم، وتأطير المسائل السياسيّة والاقتصاديّة للمجتمع بشكلٍ صحيح. وانطلاقاً من هذا المنهج المحدّد يُمكننا الانتقال إلى فكرة الخروج على الحكومة الجائرة، اعتماداً على مسلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وينبغي علينا القول: إنّه بالإمكان تصوير تطبيق مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجال الحقوق السياسيّة؛ وبهدف استخلاص جواز المواجهة المسلّحة ضدّ الحاكم، من خلال بيانين:

 

 أـ تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الثورة المسلّحة ضدّ الحاكم ــــــ

إنّ توسيع دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتشمل العلاقات القائمة بين المواطنين والحكّام، وتطبيقها على مسألة الثورة ضدّ الحاكم…، من شأنه أن يُفضي إلى تطبيق القواعد العامّة لهذا الواجب في مجال الثورة على الحاكم المذكور. وهذه القواعد عبارةٌ عن:

 

1ـ تقييد الإجراءات العمليّة المتّخذة ضدّ الحاكم من خلال جعلها تحت إشراف ومراقبة الإمام أو نائبه ــــــ

لقد اعتبر فقهاؤنا بأنّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ثلاثة؛ بحيث يكون الإقدام على كلّ مرتبة منها مُنوطاً ومشروطاً باليأس من الظفر بالنتيجة من المرتبة السابقة. وتكون المرتبة الثالثة ـ المذكورة في كلام الفقهاء ـ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الاستعانة بالضرب والجرح، بل قد تبلغ درجة القتل. ولا يخفى أنّه بإمكاننا أن نستنتج ـ من خلال التعرُّض لذكر هذه الموارد (الضرب والجرح والقتل)، ووضعها في جنب بعضها البعض ـ أنّ المقصود من ذلك كلّه هو اتخاذ إجراء عملي بحقّ الشخص الذي يرتكب المنكر؛ ويُعدّ التعبير بالأمر والنهي باليد كناية عن ذلك.

ثمّة اختلاف ملحوظ بين فقهائنا في ما يخصّ هذه المرحلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث يعتبر أكثرُهم أنّ جوازها مشروطٌ بوجود إذن الإمام أو نائبه أو (الحاكم الشرعي). هذا مع أنّ البعض منهم يميل إلى وجوب التفريق بين بعض مصاديق التدخّل العملي (نظير: التسبّب في الجرح والقتل وبقيّة الاعتداءات البدنيّة)؛ حيث يقتصر اشتراط وجود إذن الإمام على الأوّلان فقط. وعلى أيّ حال فإنّ هذا الاختلاف الفرعي لا يُؤثّر في شيءٍ بالنسبة إلى ما نهدف إليه في هذه المقالة؛ إذ على جميع التقادير من المسلّم به أنّ الإجراء العملي العنيف، الذي يكون مصحوباً بإراقة الدماء، منوطٌ برأي الإمام أو نائبه([29]). وهذا يصحّ حتّى بناءً على رأي مَنْ لا يعتبر بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المفضي إلى الجرح والقتل متوقِّفٌ على إذن الإمام([30])؛ لأنّ الأدلّة التي أوردوها في المقام تقتصر على الأمر والنهي في مجال العلاقات الفرديّة والشخصيّة. ولهذا يكون اتّخاذ أيّ إجراء عملي ضدّ الحكم السياسي والإطاحة به خارجاً عن نطاق كلامهم وأدلّتهم، ومفتقراً ـ بحسب الأصول ـ إلى إذن وإشراف مباشر من الإمام× أو نائبه.

إنّ أخذ هذا الشرط بعين الاعتبار من شأنه أن يمنحنا القدرة على تقديم تفسير صحيح عند مواجهتنا لبعض الروايات التي تنهى عن التحرّك العملي ضدّ الحكومات، وعلى الانتباه إلى أنّ هذه الروايات ناظرة إلى الثورات التي قامت بشكلٍ تلقائي، ومن دون استئذان وإشراف من الإمام، أو من الأشخاص الذي يُشكِّلون موضعاً لثقته. وسيُفضي هذا الأمر إلى رفع التعارض الموجود بين دعوة الإمام الحسين× إلى الثورة المسلَّحة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين دعوة بقيّة المعصومين إلى التخلّي عن الثورة والتحرّك العملي، ليُصبح هذان الاتجاهان متطابقين بشكلٍ كامل. ونذكر من باب المثال: ما نقل عن الإمام الصادق× حول النهي عن الثورة المسلّحة؛ حيث يقول: فَالْخَارِجُ مِنَّا الْيَوْمَ إِلَى أَيِّ شَيْ‏ءٍ يَدْعُوكُمْ؟! إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ|. فَنَحْنُ نُشْهِدُكُمْ أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِهِ، وهُوَ يَعْصِينَا الْيَوْمَ، ولَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وهُوَ إِذَا كَانَتِ الرَّايَاتُ والأَلْوِيَةُ أَجْدَرُ أَنْ لا يُسْمَعَ مِنَّا إِلاّ مَنْ اجْتَمَعَتْ بَنُو فَاطِمَةَ مَعَهُ. فَوَاللَّهِ مَا صَاحِبُكُمْ إِلاَّ مَنْ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ([31]).

 

2ـ تقييد جواز الثورة المسلّحة بصورة التمكُّن وتوفّر الظروف ــــــ

من جملة النقاط الأخرى، التي قد تُساعدنا ـ في حالة تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الثورة المسلّحة، وعدّ تحرّك الإمام الحسين× من هذا الباب ـ على تفسير التعارض الظاهري بين هذا التحرّك وبين السكوت الظاهري لبقيّة الأئمّة^، وعدم قيامهم بأيّ إجراء عملي…، هو وجود ضابطة حاكمة على مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يكتسب على أساسها هذا الواجب جانباً إلزاميّاً، إلاّ حين تكون ظروف تأثيره مهيّأة. فقد اعتبر فقهاؤنا ـ في ما اعتبروه من شروط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ أن لا يكون هناك علم بعدم التأثير. هذا مع أنّ عدداً من الفقهاء لم يعتبروا هذا الشرط ضروريّاً، بل اعتبروا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ الذي يشمل أيضاً التحرّك العملي ـ واجبٌ، حتّى مع العلم بعدم التأثير([32]). لكنْ يبقى أنّ الغالبيّة العظمى من الفقهاء يرَوْن أنّ الاحتمال ـ بل حتّى الظنّ ـ بالتأثير شرط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([33])، على الرغم من أنّ بعضهم يُرجِّح أنّ يكون هذا الشرط مأخوذاً في المرتبة الثالثة فقط، أي في مرتبة الأمر والنهي العملي([34]).

ومع غضّ النظر عن كلّ هذه الاختلافات، وكذلك الغضّ عن بعض الاختلافات الأخرى التي ترتبط بماهيّة هذا الشرط، وأنّ الظنّ بالتأثير هو الشرط أم أنّ عدم الظنّ بعدم التأثير هو الشرط؟ و…، فإنّه من المسلّم بأنّ الأمر والنهي العمليّين لا يصيران إلزاميّين إلاّ في الحالة التي يكون فيها المكلَّف مطمئنّاً بالتأثير. وأما في موارد جريان الأمر والنهي في مجال العلاقات الشخصيّة والفرديّة؛ بهدف ردع مرتكب المعصيّة، فإنّ هذا الشرط يُفسّر بمؤثّرية الأمر والنهي في ردع العاصي. وأمّا في المسألة المبحوث عنها ـ أي الثورة العمليّة المسلّحة ضدّ الحكومة الجائرة ـ فيجب علينا أن نُفسّر المعنى المراد من التأثير بمؤثّرية الوقوف في مقابل الفساد. وعليه إذا لم تكن ظروف الثورة مهيّأة بشكل جيّد، ولم يترتّب في حالة المواجهة ـ فضلاً عن الهزيمة الظاهريّة ـ أيّ أثرٍ يُساهم في تقوية دعائم الدين والمذهب، وبالتالي يُؤدّي ذلك إلى تقوية الفساد…، فإنّ لزوم هذه المواجهة يصبح لاغياً ومنتفياً. وقد تمّ التأكيد على هذا الأمر ضمن كلام سائر المعصومين^. كما أنّ الإمام الحسين× قد أشار مراراً وتكراراً إلى دور الحسابات الظاهريّة في عزمه على النهوض والثورة المسلّحة. وهذا يعني أنّ الإمام× لم يلجأ إلى القيام بالثورة دون الأخذ بعين الاعتبار لهذه الحسابات والتقديرات الظاهرية، وللنتيجة التي ستؤول إليها ثورته، والآثار التي ستترتّب عليها. ولو لم يكن الأمر بهذا الشكل لبَدَتْ هذه المواجهة المسلّحة ضدّ حكومة مثل حكومة يزيد بمثابة حركة ثوريّة عمياء لا هدف لها، مع أنّ ساحة الإمام منزّهة عن هذا الأمر. ولذلك فقد كتب الإمام× في أولى رسائله إلى أعيان الكوفة ما نصّه: أمّا بعد، فإنّ هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر مَنْ قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي قصصتم وذكرتم ومقالة حالكم… وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي (مسلم بن عقيل)، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإنْ كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم، وذوي الحجى منكم، على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم([35]).

والجدير بالانتباه أنّ الإمام الحسين× لم يتّخذ أيّ خطوة في اتّجاه الثورة والمواجهة المسلّحة قبل اصطدامه بدعوة الكوفيّين. والشاهد على هذا الأمر أنّه كان يتجنّب حتّى ذلك الحين المجابهة، وإبداء مواقف استفزازيّة. فمع أنّ الإمام× كان يعتقد ـ بعد أن تمّ استدعاؤه من قِبَل والي المدينة بأمرٍ من يزيد ـ أنّ الداعي إلى استدعائه هو موت معاوية، وقد توقَّع في حواره مع عبد الله بن الزبير في المسجد بشكلٍ صريح هدف الوالي من ذلك…، إلاّ أنّه امتنع عن إبراز مخالفته علانيةً، وأجاب دعوة الوالي، في نفس الوقت الذي أظهر فيه عدم اطّلاعه على موت معاوية، وأبدى حزمه وأخذ احتياطاته الكاملة من أيّ عملية غدرٍ محتملة. هذا بالإضافة إلى أنّه× ـ وبعد أن شاهد إصرار الحاكم على أخذ البيعة ـ هرب من المدينة مبيِّناً طبيعة هذا السفر من خلال تلاوته للآية الشريفة: ﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني‏ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ‏﴾ (القصص: 21)؛ أي الهروب من التهلكة وتعريض النفس للخطر([36]).

وفي كلّ الأحوال فإنّ توفير الإمكانات اللازمة، وانتفاء احتمال تأثير الثورة المسلّحة العمليّة ضدّ الحاكم الجائر، هما جزءان أساسيّان تمّ أخذهما كشرطٍ في النهضة الحسينيّة. كما أخذا أيضاً في أيّ عرض تحليلي قدَّمه بقيّة الأئمّة المعصومين في مجال الثورة والانتفاضة ضدّ العتاة والظلمة. وقد انعكس هذان الشرطان أيضاً في فقهنا بنفس النحو. وكمثال على ذلك: نتعرّض لذكر عبارةٍ أوردها أحد كبار فقهاء الشيعة ترتبط بنفس هذا الموضوع، حيث يقول الشهيد الأوّل: لو أدّى الإنكار إلى قتل المنكِر حرُم ارتكابه؛ لما سلف. وجوّزه كثير من العامة؛ لقوله تعالى ﴿وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ (آل عمران: 146)، مدحهم بأنّهم قُتلوا بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا مسلَّمٌ إذا كان على وجه الجهاد [لأنّه في هذه الحالة سيكون مُختلفاً عمّا يُطرح في المجال الشخصي والفردي، حيث إنّه وعند سريان هذا الواجب إلى دائرة الحقوق العامّة فلن يكون قتل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مانعاً من الحكم بوجوب هاتين الفريضتين]([37]).

قالوا: قُتل يحيى بن زكريا’ لنهيه عن تزويج الربيبة.

قلنا: وظيفة الأنبياء غير وظائفنا.

قالوا: قال رسول اللّه|: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر»، وفي هذا تعريضٌ لنفسه بالقتل، ولم يُفرّق بين الكلمات ـ التي جُعل الجهر بها عند السلطان كأفضل أنواع الجهاد ـ أهي نصٌّ في الأصول أو الفروع، من الكبائر أو الصغائر؟

قلنا: محمولٌ على الإمام، أو نائبه، أو بإذنه، أو على مَنْ لا يظنّ القتل([38]).

وكما هو ملحوظ يسترعي انتباهنا في هذا الكلام وجود كلٍّ من: الشرط الأوّل ـ أي مشروطيّة التحرّك العملي بإذن المعصوم× وإشرافه ـ؛ والشرط الثاني ـ أي لزوم التأثير ـ.

 

 ب ـ حثّ الصالحين على السعي للحصول على السلطة ــــــ

لقد كان لكلٍّ من اتساع رقعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتمتدّ إلى مجال الحقوق الأساسيّة، وتطبيقهما على سلب الحكم من الجائر ـ كما لاحظناه في مشروع الإمام الحسين× ـ، انعكاسٌ واضح على الفقه الشيعي. فقد اعتبر فقهاؤنا أنّ السعي نحو السلطة السياسيّة؛ بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمرٌ جائز، بل واجبٌ عندما يكون القيام بهاتين الفريضتين متوقّفاً على السلطة. وقد بلغ بهم المقام أن يجوّزوا ـ بناءً على ذلك ـ الدخول في النظام الجائر([39]). غير أنّ ما تغاضى الفقهاء عن التصريح به هو أنّ الوصول إلى السلطة إذا كان عن طريق الدخول في النظام الجائر يُعدّ أمراً واجباً؛ بصفته مقدّمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([40])، فإنّ السعي نحو هذا الأمر من خلال المواجهة العمليّة وإسقاط الحاكم الجائر سيكون واجباً بطريق أَوْلى.

ونذكّر بعدم تردُّد فقهائنا في أصل جواز ـ بل واستحباب ـ الحصول على السلطة في حال كونها مقدّمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([41]). هذا مع أنّهم اختلفوا حول التعبير عن وجوب أو عدم وجوب هذه المقدّمة. والحقّ أنّه ينبغي الحكم بالوجوب، حتّى من هذه الناحية. وأمّا الذين استعملوا كلمة الجواز فمرادهم هو الجواز بالمعنى الأعمّ. وعلى أيّ حال ـ ومع غضّ النظر عن هذه النقاط، التي يُعدّ التعرّض لها خارجاً عن عُهدة هذه المقالة ـ فإنّ ما يحوز على أهميّة خاصّة بالنسبة إلينا، ويُعدّ أمراً جديراً بالانتباه، هو مشاهدة جذور وآثار هذا النحو من الفهم وهذا النوع من النظرة إلى مسألة السلطة السياسيّة في مشروع الإمام الحسين×. وفي هذا الصدد أعتقد أنّ خطبته× المشهورة، في حضور أصحابه، وأمام جيش الحُرّ، لا تحتاج لأيّ تعليق، حيث يقول فيها: أيّها الناس، إنَّ رَسُولَ اللهِ| قَالَ: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرُمِ اللهِ، نَاكِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ|، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالإِثْمِ والْعُدْوَانِ،فَلمْ يُغَيِّرْ عَلَيهِ بِفِعلٍ ولا قولٍ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ، أَلاَ وإنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وتَرَكوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وعَطَّلُوا الْحُدُودَ، واسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْ‏ءِ، وأَحَلُّوا حَرَامَ اللهِ، وحَرَّمُوا حَلالَهُ، وأَنا أَحَقُّ مِن غيري؛ قَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ، أَنَّكُمْ لا تُسَلِّمُونِّي، ولا تَخْذُلُوني، فَإِنْ تمَّمْتُم عليَّ بَيْعَتَكُمْ تُصيبوا رُشْدَكُم‏([42]).

وقد تركّز كلامه× في هذه الخطبة حول بيان الهدف من حركته الثوريّة، والذي يتمثّل في الوقوف ضدّ الفساد وتعطيل الحدود الإلهيّة والظلم وأكل أموال الناس واتباع الحاكم في أهوائه ونزواته.

كما أعلن ـ بشكل صريح ـ أنّ نهضته هي مقدّمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولهذا السبب فهو يسعى للحصول على السلطة؛ حيث تُعدّ كلٌّ من: جملة «أنا أحقّ من غيري»، وكذلك العبارة الواردة في ذيل الخطبة، التي تُشير إلى البيعة العامّة لأهل الكوفة ولزوم التقيُّد بها ـ بصفتها تُمثّل ميثاقاً شعبيّاً ـ، شاهداً على أنّ مراده× كان يتعلّق بهذا الهدف.

كما نقرأ أيضاً في خطبة أوردها في منزل ذي حسم في مسيره إلى العراق: ألا ترَوْن أن الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه([43])، حيث تُشير هذه العبارة أيضاً إلى مسألة إقامة الحقّ والوقوف ضدّ الباطل، وهو تعبيرٌ آخر عن أمره× بالمعروف ونهيه عن المنكر وثورته المسلّحة.

 

2 ـ 2ـ انصراف أدلّة التقيّة عن الأمور الرئيسة ــــــ

من جملة الأمور التي اختصّ بها الفقه الشيعي هي مسألة التقيّة، التي تعني صون النفس عن الأذى والضرر الاحتمالي، من خلال إظهار التوافق مع كلام المخالفين وعملهم([44]). وخلافاً للنظرة السطحيّة لبعض الظاهريّين فإنّ التقيّة تحتوي في الفقه الشيعي على نكاتٍ تُضفي عليها معنىً خاصّاً ومحدّداً. فمع أنّ الغرض من التقيّة هو التسهيل على أتباع الشريعة ـ من خلال عدم إلزامهم بإظهار معتقداتهم وطقوسهم في الظروف المتأزّمة والخطرة ــ، غير أنّ ماهيتها وحقيقتها تتجلّى في كونها بمثابة استراتيجيّة تهدف في النهاية إلى الحفاظ على المذهب عن طريق توفير الإمكانيات اللازمة لاستمرار النشاطات التي يقوم بها أتباعه، وتمكينهم من الحضور الفعّال على جميع المستويات والأصعدة. وببيان آخر: إنّ التقيّة تُتيح الإمكانيّة لأتباع المذهب الحقّ أن لا يوقعوا أنفسهم في التهلكة، ويتمكّنوا بذلك من صون المذهب، والمحافظة عليه وعلى أنفسهم.

إنّ الالتفات إلى هذه النقطة (ماهية التقيّة) من شأنه أن يضع أمامنا بعض القيود عند تحديد نطاق ودائرة التقيّة، فلا نتصوّر أنّه يمكننا استعمال التقيّة في كلّ موردٍ، من خلال التذرّع بأيّ خطر مهما كان. وقد جاء في الكلام الوارد عن فقهائنا ـ تبعاً للروايات المنقولة عن المعصومين^ ـ الحديث عن التقيّة المرتبطة بغير القتل؛ حيث قيل فيه بأنّ التقيّة تُجوّز ارتكاب جميع المحرَّمات، إلاّ قتل الأشخاص الأبرياء؛ لأنّه «إذا بلغ الدم فلا تقيّة»([45]). وأمّا في ما يخصّ مشروع الإمام الحسين× فقد تمّ الالتفات إلى مسألة أدقّ وأعمق. ففي هذا المشروع لا تشمل التقيّة من الأساس الأمور المهمّة التي ترتبط بكيان الإسلام. وبعبارة أخرى: إذا كان الامتناع عن التحرّك سينجرّ في الأخير إلى ضياع المقدّسات الإسلامية أو القِيَم الحاكمة على الشريعة فإنّ التقيّة لا تجوز عند ذلك.

ويعتبر الإمام الخميني& أنّ محو كتاب الله، وجمع كافّة نسخه، وتأويل القرآن بحيث يوجب ضلال الناس، وهدم الكعبة وطمس معالمها، وتخريب قبر الرسول| وقبور الأئمّة^، و…، بمثابة نماذج على هذه المسألة المهمّة([46]). كما يوجد العديد من الشواهد في المواقف التي اتّخذها الإمام الحسين× تُؤيّد هذا الرأي.

ويُمكننا استعراض بعض الأمثلة على هذا الأمر، من قبيل:

1ـ النهي عن السكوت عندما يصير أساس الدين والشرع ألعوبةً بيد الحاكم الجائر: «مَنْ رأى سلطاناً جائراً مُستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً بعهد الله، مُخالفاً لسنّة رسول الله|، يعمل في عباد الله بالإثم والعُدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله»([47]).

2ـ مساواة السكوت مقابل الظلم المرتكب من قبل الحكومة الجائرة بالموت، بل الترجيح ـ نوعاً ما ـ للموت الأحمر على حياةٍ كهذه: «ألا ترَوْن أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؛ لِيرغب المؤمن في لقاء الله مُحقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادةً، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَماً»([48]).

3ـ لزوم التخلّص من الخوف، والحثّ على ضرورة عدم الانشغال بسلامة البدن والنفس: «أفبالموت تُخوِّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لكم، ولكنْ أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يُريد نُصرة رسول الله، فقال: أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال:

سأمضي فما بالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلماً»([49])

4ـ بالإضافة إلى مسألة كتابة رسالة توبيخ إلى مسلم بن عقيل، الذي أرسل كتاباً يلتمس فيه من الإمام× إعفاءَه من السفر إلى العراق، ومن المهمّة التي كلّفه بها، فقد جاء فيه ما مضمونه: «أمّا بعد، فقد خشيتُ أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن، فامضِ لوجهك الذي وجّهتُك له، والسلام»([50]).

تجدر الإشارة إلى أنّه يوجد مُتَّسع للبحث حول هذا الأمر بشكلٍ أكبر، غير أنّنا مضطرّون لعدم الخوض فيه فعلاً لضيق المجال. كما أنّه يوجد مجالٌ للحديث حول مسألة انصراف التقيّة عن الأمور المهمّة، وعلاقة هذا الأصل بالتهلكة الممنوعة، لكنّ كاتب هذه المقالة كان قد تعرَّض لهذا البحث في مقالةٍ أخرى.

 

2ـ 3ـ عرض نظريّة العِزّة الإسلاميّة ــــــ

يمتاز طرح مسألة العِزّة في ضمن كلام الإمام الحسين× عن طرحها في ضمن كلام بقيّة المعصومين^ ـ الذين يعتقد بهم الشيعة ـ بفارقٍ جوهري وبارز؛ إذ تمّ طرح العِزّة على لسان سائر المعصومين تحت عنوان عِزّة المؤمن، وعلى المستوى الشخصي والفردي. فمن هذه الناحية يُعتبر وجوب المحافظة على العِزّة في عِداد الأحكام الشرعيّة التي ينحصر افتراقها عن الحقوق الفرديّة للأشخاص في كونها خارجةً عن دائرة اختيار الإنسان، الذي لا ينبغي له أن يُذِلّ نفسه.

ومن الجدير الالتفات إلى بعض الأمثلة المذكورة على هذا الأمر:

1ـ يقول الإمام الصادق×: إنّ الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يُفوّض إليه أن يكون ذليلاً؛ أما تسمع قول الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، فالمؤمن يكون عزيزاً، ولا يكون ذليلاً. ثمّ قال: إنّ المؤمن أعزّ من الجبل؛ إنّ الجبل يستقلّ منه بالمعادن، والمؤمن لا يستقلّ من دينه شيء([51]).

2ـ تمّ نقل حديثٍ آخر بنفس المضمون، وجاء في ذيله: فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً، ولا يكون ذليلاً، يُعزّه الله بالإيمان والإسلام([52]).

3ـ وجاء في رواية أبي بصير عنه×: إنّ الله تبارك وتعالى فوَّض إلى المؤمن كلّ شيء إلاّ إذلال نفسه([53]).

4ـ ونقرأ في حديثٍ آخر: سمعت أبا عبد الله× يقول: لا ينبغي للمؤمن أن يُذلّ نفسه. قيل له: وكيف يُذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يُطيق (من الأعمال)([54]).

5ـ ويروي عبد المؤمن الأنصاري عن الإمام الباقر× أنّه قال: إنّ الله عزَّ وجلَّ أعطى المؤمن ثلاث خصال: العزّة في الدنيا؛ والفلح في الآخرة؛ والمهابة في صدور الظالمين([55]).

ومن الطبيعي أنّ طرح مسألة العزّة بصفتها شأناً شخصيّاً، وصفةً مرتبطة بنفس المؤمن، سيستتبع نتائج ولوازم خاصّة. ومن جملة هذه اللوازم أنّ وجوب المحافظة على العزّة سيكون ـ وِفقاً للفرض المذكور ـ واجباً مشروطاً؛ بمعنى أنّ وجوب المحافظة عليها سيكون مشروطاً بتحقُّق بعض الظروف والمقدّمات.

وأمّا بالنسبة إلى مسألة العزّة كما هي مطروحة في فكر الإمام الحسين×، فيُنظر إليها كشأنٍ سياسي مرتبط بمركز الثقل في النظام الإسلامي. ومن البديهي أن يكون وجوب المحافظة عليها ـ بحسب هذا الفرض ـ واجباً مطلقاً؛ بحيث يُعدّ تحصيل مقدّماته بدوره أمراً واجباً وإلزاميّاً.

ويمكن أن نعثر على عدّة أمثلة تدلّ على وجود هذا النوع من الفهم في الفكر السياسي للإمام الحسين×، منها:

1ـ يقول×: ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام([56]).

فالمسألة الأولى أنّ الخيار الذي خيّر فيه يزيد الإمام بين اختياره أو اختيار الموت كان الرضا بالحكم السياسي اللامشروع للطاغوت، وهو ما اعتبره× ذِلّةً.

والثانية أنّ الإمام رأى بأنّ الحجور الزكيّة والمطهّرة، والنفوس الغيورة، أعلى وأشرف من أن ترضى بطاعة حكم الأراذل وتسلّطهم. وهو ما يُمثّل شاهداً على النظر إلى العِزّة في بُعْدَيْها السياسي والاجتماعي.

2ـ ويقول أيضاً في رجزٍ له، طالما كرّره في يوم عاشوراء:

القتل أَوْلى من ركوب العار *** والعار أَوْلى من دخول النار

فمن خلال الالتفات إلى مسألة التخيير بين الرضا بالحكم السياسي اللامشروع وبين الموت يتبيّن أنّ المراد من الذِلّة هو القبول بهذا الحكم.

وكما ذكرنا سابقاً إذا تمّ اعتبار العِزّة في عِداد الأصول الحاكمة والسائدة، وتمّ النظر إليها بما هي مرتبطةٌ بكيان الإسلام ـ مثلما طرح ذلك الإمام الحسين× ـ، فإنّها ستكون متمتّعةً بخصوصيّات هذه الأصول، ولن تكون الأحكام الثانويّة ـ من قبيل: الإكراه؛ والتقيّة ـ مسوِّغاً لارتكاب ما يُفضي إلى انتهاك العِزّة الإسلاميّة. فمن هذه الناحية حتّى لو وصل الأمر إلى تهديد الأجانب والكفّار بسفك الدماء ونهب الأموال، وكانت المحافظة على العِزّة تقتضي إزهاق أرواح المسلمين وضياع أموالهم، فإنّ التكليف المذكور سيبقى على ما هو عليه.

 

المقاومة السلبيّة ضدّ حكّام الجور ــــــ

لقد اعتمدت السياسة التي تبنّاها الفقهاء الشيعة ـ في الظروف التي تنعدم فيها إمكانيّة الثورة المسلّحة والإطاحة بالحكومات الجائرة ـ على المقاومة السلبيّة، وعدم الاعتراف الرسمي بهذه الحكومات. ويُمكن مشاهدة مظاهر من هذه المقاومة السلبيّة في الفقه، بدءاً من أبواب العبادات وانتهاءً بأبواب المعاملات.

والأمثلة المذكورة على هذا الاتجاه السلبي عبارة عن:

1ـ عدّ السفر برفقة الحاكم الجائر سفر معصية([57]).

2ـ النهي عن جهاد الكفار في رِكاب الحاكم الجائر([58]).

3ـ المنع عن مساعدة جيش الحاكم الجائر في قمعه للتمرّدات الداخليّة([59]).

4ـ النهي عن الدخول في النظام الجائر، والقبول بولاية الحاكم المذكور([60]).

5ـ مشروطيّة وجوب صلاة الجمعة بإمامة السلطان العادل([61]).

6ـ المنع عن إعطاء ميراث مَنْ لا وارث له للسلطان الظالم([62]).

7ـ النهي عن التظلّم والرجوع إلى المحاكم المرتبطة بالحكومة الجائرة([63]).

8ـ النهي عن منح الضرائب الشرعيّة، من قبيل: الزكاة، إلى الحاكم الجائر (اختياراً)([64]).

9ـ المنع من تقديم أيّ عون أو مساعدة إلى الظلمة، بالشكل الذي يُعدّ معه الإنسان منتسباً إلى النظام([65]).

10ـ المنع من إقامة الحدود بواسطة الحكومة الجائرة.

ولو وضعنا هذه المجموعة من الأمثلة إلى جانب بعضها فسوف نستنتج من ذلك أنّ الفقه الشيعي ـ فضلاً عن عدم رضاه الباتّ بالتعاون مع الحكومة الجائرة ـ يمنع ـ عند التمكّن ـ من التعامل ومساندة، وكذلك من الرجوع إلى مؤسّسات الدولة المرتبطة بالحكومة الجائرة. وبعبارةٍ جامعة نقول: إنّه لا يعترف ـ في الفقه الشيعي ـ بالحكومة الجائرة كمؤسّسة اجتماعيّة تسهر على إدارة وتسيير شؤون المجتمع.

ما يحوز على أهمّيّة خاصّة في هذا المجال هو أنّ المقاومة السلبيّة ضدّ الحكومة الجائرة تعتمد بشكلٍ دقيق على مشروع محدَّد وواضح المعالم يطرحه الفقه الشيعي في مقابل الحكومات. وبحسب ما اطّلعنا عليه يتكئ هذا المشروع على مبنى واحد (نفي الشرعيّة عن الحكومة التي لا تعتمد على النصّ). ومن الواضح أنّ النتيجة العمليّة لهذا المبنى هو التكليف بإطاحة الحكومة الجائرة؛ لأنّه إذا كان ثمّة ضرورة لوجود دولةٍ فهي موجودةٌ فعلاً، وإذا كان الجميع مكلَّفاً بالعمل على إقامة حكومة صالحة فلا بدّ من القول بأنّ رفع المانع لهذا التكليف ـ وهو إسقاط حكومة الجور ـ أمرٌ ضروريّ وواجب، ولا يمكن القول بسقوط هذا الواجب إلاّ بسبب قهريّ، كالعجز وفقدان الظروف والإمكانيّات المساعدة. غير أنّ المبنى المذكور (أي نفي الشرعيّة عن الحكومة) سيبقى على حاله، وستظلّ آثاره ونتائجه (أي عدم الاعتراف بالحكومة المذكورة كمؤسّسة حاكمة، وتأدية ذلك إلى عدّ كلّ تدخُّل تقوم به هذه المؤسّسة أمراً ممنوعاً، وعدم ترتيب أيّ أثر على هذا النوع من التصرّفات) ثابتة وقائمة.

وقد تأثّر الفقه الشيعي في هذا المجال أيضاً بمواقف الإمام الحسين×؛ لأنّ ما يُمكن ملاحظته في نهضة الإمام× وكلماته ومواقفه هو أنّه لم يكن يعترف بالنظام الاجتماعي المؤسَّس في عهد الحكومة الجائرة. ولهذا فقد أظهر مراراً وتكراراً اعتراضه على هذا النظام، وذلك في خطبته المشهورة، التي قال فيها: لكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم… فأسلمتم الضعفاء في أيديهم؛ فما بين مستضعف مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب. يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم… في كلّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع. فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجباً، وما لي لا أعجب؟! والأرض من غاشّ غشوم، ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم([66]).

بالإضافة إلى قيامه× أثناء سفره إلى مكّة، وقبل مواجهته للقوات العسكريّة الموالية للحكومة، ببعض الأعمال التي كانت بمثابة إعلان رسمي عن معارضته النظام الموجود، وتعبير عن عدم الاعتراف بحكومة يزيد…، يُمكننا الإشارة إلى مسألة مصادرة الأموال المبعوثة بعنوان ضرائب من قِبَل حاكم اليمن بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد، والتي تمّت حيازتها بأمرٍ من الإمام([67]). والجدير بالانتباه أنّ السيد ابن طاووس كتب في توجيهه لعمل الإمام× قائلاً: لأنّ حكم أمور المسلمين إليه([68]).

 

رأي الفقهاء الشيعة في ما يخصّ نظام الحاكم الجائر ــــــ

يوجد في الفقه الشيعي مجموعة من المواقف قد تُفضي إلى حدوث توهّم في ذهن الباحث في مطاوي تلك النصوص، ومفاده أنّ رفض النظام الاجتماعي المؤسَّس على يد الحاكم الجائر ـ الذي تمّت ملاحظته في مشروع الإمام الحسين× ـ لم ينعكس على الفقه الشيعي. فموقف الفقهاء الشيعة من مسألة إجزاء الزكاة المدفوعة إلى الحاكم الجائر، وحليّة أخذ جوائز السلطان عند عدم العلم بحرمة المال المأخوذ بشكلٍ محدّد، وحليّة الخراج والمقاسمة التي يأخذها الحاكم من الأراضي الخراجيّة…، كلّها أمثلة على قبول الفقهاء بالنظام الاجتماعي لحكومة الجور.

غير أنّ التدقيق في العبارات التي أوردها الفقهاء في مثل هذه الموارد ـ بالإضافة إلى تتبُّع الروايات التي استندت إليها هذه الفتاوى ـ تدلّ بشكل واضح على أنّ موقف الفقه الشيعي لم يكن تدعيم نظام الحكومة الجائرة والرضا به، بل كان ترخيصاً وتجويزاً يسعى نحو خلق فضاء مناسب للعيش بالنسبة لأنصار التشيُّع. وقد أشار الفقهاء إلى هذا الهدف بشكل صريح في عدّة موارد.

 

خاتمةٌ ونتيجة ــــــ

لقد تمّ الاقتصار في هذه المقالة على تقديم مخطَّط إجمالي يمكننا استقصاؤه ومتابعته من خلال المواقف السياسيّة للإمام الحسين×. وعلى أساس هذا المخطّط تمّ استعراض مبنى محدّد في مجال الحكم، تتحصّل منه نتيجتان في طول بعضهما البعض:

الأولى: ترتبط بمسألة الإطاحة بالحكومة وإلغاء كيانها.

والثانية: تتعلّق بمعارضة الحكومة ومقاومتها سلبيّاً.

ولا يخفى أنّ القدر المشترك بين هاتين النتيجتين يتمثّل في عدم التعايش السلمي مع الحكومات الجائرة.

كما أنّنا في غنى عن القول بأنّ التعرّض لكلّ واحد من المحاور والعناوين المطروحة في هذا المخطَّط يحتاج إلى كتابة رسالة مفصّلة ومبسوطة تتمّ فيها دراسة المسألة في جوانبها وأبعادها المختلفة.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحث في الحوزة العلمية.

([1]) رسائل المرتضى 2: 84؛ ابن البرّاج الطرابلسي، المهذّب 1: 346؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى 2: 202؛ العلاّمة الحلي، منتهى المطلب 2: 1024.

([2]) النعمان المغربي، دعائم الإسلام: 1؛ ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 332.

([3]) تحف العقول: 332.

([4]) إبراهيم بن إسحاق الحربي، غريب الحديث 2: 644.

([5]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغويّة: 154.

([6]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث 3: 128.

([7]) ابن منظور، لسان العرب 8: 444.

([8]) راجع في مجال أصل عدم الولاية الكتب الفقهيّة الموسّعة، وخصوصاً في باب التجارة، ضمن بحث أولياء التصرُّف في أموال الصبي.

([9]) لا يتنافى هذا الكلام مع وجهة نظر الفقهاء الذين لا يرون ولاية الفقيه، وينكرون تنصيب الفقهاء؛ لأنّ الحكومة المشروعة في نظرهم كذلك هي الحكومة المنصوص عليها من قبل المعصوم×، غاية الأمر أنّهم ينكرون هذا النصّ على المصداق الخاصّ المتمثِّل بالفقيه. والنتيجة هي أنّه لو لم يكن قد صدر نصّ في حقّ غير الفقيه فسوف تكون كافّة الحكومات التي تقوم في عصر الغيبة حكوماتٍ غيرَ شرعيّة.

كما أنّ الكلام المذكور في المتن لا يتنافى مع نظريّة الفقهاء القائلين بولاية الفقيه، والذين يرَوْن الانتخاب فيها، لا التنصيب؛ وذلك لأنّهم لا يخالفون اشتراط خصائص معيّنة في شخص الحاكم تمّ بيانها من قبل المعصومين^، وفي النتيجة ترجع مشروعيّة الحكومة إلى المعصومين، بناءً على هذه النظريّة.

([10]) ابن فهد الحلّي، الرسائل العشر: 414 ـ 415.

([11]) رسائل المرتضى 2: 94. أقول: لقد حصل اشتباه في ترجمة هذه الجملة إلى الفارسية؛ حيث ورد فيها أنّ الملاك هو كونه شيعياً على مذهب الحقّ، والحال أنّ الأصل العربيّ لها هو كون هذا الشيعي قد أقدم مختاراً على التولّي. وبالتالي فهذا الكلام يعالج أمراً تفصيلياً لا ربط له أبداً ببحثنا. فالاستشهاد به في غير محلّه، ولكنْ تمّ نقله كما هو؛ للأمانة العلمّية. (المترجم).

([12]) يحسن الالتفات إلى نموذج من عبارات أحد كبار فقهاء أهل السنّة في القرن العاشر، ويدعى ابن نجيم المصري، فهو في شرحه لعبارة: «وَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ وَالْجَائِرُ، وَمِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ» يستند إلى تقبّل الصحابة ذلك المنصب في زمان معاوية، قائلاً: «لأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ…، هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا. وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوْرِ مُعَاوِيَةَ، وَالْمُرَادُ فِي خُرُوجِهِ، لا فِي أَقْضِيَتِهِ. ثُمَّ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَلِيَ الْقُضَاةَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهِ فَلا، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْجَمَاعَةِ. انتهى».

وهو ينقل عن كتاب المِعْرَاج أنّه «انقعد الإجماع عَلَى بَيْعَةِ مُعَاوِيَةَ حِينَ سَلَّمَ لَهُ الْحَسَنُ…» (راجع: ابن نجيم الحنفي، البحر الرائق في شرح كنـز الدقائق 6: 460).

([13]) لوط بن يحيى بن سعيد بن المخنّف الأزدي، المقتل: 83.

([14]) المصدر السابق: 25.

([15]) المصدر السابق: 85.

([16]) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 240.

([17]) محمد كاظم الخراساني، حاشية المكاسب: 94؛ موسى الخوانساري، منية الطالب 2: 233؛ أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة 5: 43.

([18]) راجع: «در محضر شيخ أنصاري» (في محضر الشيخ الأنصاري) 20: 205، لكاتب المقالة نفسه.

([19]) يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين 7: 325؛ زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، فتح الوهّاب 2: 44؛ محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي، مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل 4: 541؛ علاء الدين السمرقندي، تحفة الفقهاء 3 : 292.

([20]) شرح النووي على صحيح مسلم 12: 229.

([21]) ابن قدامة، المغني 10: 53.

([22]) أحمد بن علي الرازي الجصّاص، أحكام القرآن 1: 88.

([23]) النووي، المجموع في شرح المهذّب 19: 194.

([24]) الماوردي، الأحكام السلطانيّة: 17.

([25]) ابن حزم الأندلسي، المحلّى 4: 175.

([26]) الطوسي، النهاية: 297؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى 2: 15؛ ابن سعيد الحلّي، الجامع للشرايع: 241.

([27]) راجع: دراسات في ولاية الفقيه 1: 204 ـ 256.

([28]) الحرّاني، تحف العقول: 240 ـ 241.

([29]) المفيد، الإرشاد: 809؛ سلاّر بن عبد العزيز الديلمي، المراسم العلويّة: 264؛ الطوسي، النهاية: 300؛ المحقّق الحلّي، الشرائع 1: 259؛ العلاّمة الحلّي، الإرشاد 1: 353؛ تبصرة المتعلّمين: 114؛ المحقّق الكركي، جامع المقاصد 3: 489؛ الشهيد الثاني، الروضة البهيّة 2: 417؛ أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 7: 543؛ البهائي، الجامع العبّاسي: 162؛ النجفي، جواهر الكلام 21: 384؛ الخوانساري، جامع المدارك 5: 411؛ أبو القاسم القمّي، جامع الشتات 1: 422.

([30]) راجع: الطوسي، الاقتصاد: 315؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر 2: 23؛ ابن سعيد الحلّي، الجامع للشرايع: 243.

([31]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 11: 35.

([32]) أبو الصلاح الحلبي، الكافي: 265.

([33]) الطوسي، مصباح المتهجّد: 855؛ العلاّمة الحلّي، الإرشاد 1: 352؛ الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد: 75؛ ابن طيّ الفقعاني، الدرّ المنضود: 102؛ الشهيد الثاني، الروضة البهيّة 2: 416؛ المسالك 3: 102؛ أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 7: 563؛ محمد باقر السبزواري، كفاية الأحكام: 82؛ النجفي، جواهر الكلام 21: 368.

([34]) العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام 1: 157؛ المحقق الكركي، جامع المقاصد 3: 87.

([35]) أبو مخنف، المقتل: 17.

([36]) المصدر السابق: 11.

([37]) من الجدير الالتفات إلى أنّنا كنّا ندّعي في الصفحات السابقة بأنّ توسعة دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مجال الحقوقية الخاصّة المرتبطة بعلاقة المواطنين بالدولة ـ كما هو مطروح في قاموس الإمام الحسين× ـ سيُفضي إلى تبلور آثار ونتائج مختلفة، أو أنّ طرحه في مجال الحقوق الخاصّة ستنشأ عنه بعض الاختلافات الظاهريّة، ويمكننا مشاهدة هذه الدعوى في كلام الشهيد الأوّل أيضاً.

([38]) الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد 2: 206.

([39]) ابن البرّاج الطرابلسي، المهذّب 1: 346؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر 2: 203؛ المحقّق الحلّي، الشرائع 2: 264؛ المختصر النافع: 117؛ العلاّمة الحلّي، الإرشاد 1: 358؛ التحرير 2: 270؛ نهاية الأحكام 2: 525؛ المحقّق الكركي، جامع المقاصد 4: 44.

([40]) يقول الشيخ مرتضى الأنصاري في (المكاسب: 58): «منها ـ أي قبول الولاية من قبل الجائر ـ ما يكون واجباً، وهو ما توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان عليه؛ فإنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجبٌ مع القدرة». وكذلك في الصفحة 59: «وكيف كان فلا إشكال في وجوب تحصيل الولاية إذا كان هناك معروف متروك أو منكر مركوب، يجب فعلاً الأمر بالأوّل، والنهي عن الثاني».

([41]) راجع: المصدر السابق.

([42]) أبو مخنف، المقتل: 86.

([43]) المصدر نفسه.

([44]) مرتضى الأنصاري، رسالة التقيّة: 1 (مطبوعة ضمن المكاسب).

([45]) في الكافي 2: 220: «عن أبي جعفر× قال: إنّما جُعلت التقيّة ليُحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة».

([46]) الخميني، المكاسب المحرّمة 2: 221.

([47]) أبو مخنف، المقتل: 85.

([48]) المصدر السابق: 86.

([49]) المصدر السابق: 25.

([50]) المفيد، الإرشاد 2: 40.

([51]) الكليني، الكافي 5: 63.

([52]) المصدر نفسه.

([53]) المصدر نفسه.

([54]) المصدر السابق 5: 64.

([55]) الصدوق، الخصال: 152.

([56]) ابن طاووس، اللهوف: 59.

([57]) الطوسي، النهاية: 122؛ ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 110، المحقّق الحلّي، الشرائع 1: 102؛ ابن زهرة الحلبي، الغنية: 54.

([58]) الطوسي، النهاية: 290؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لمجموع الفتاوى 3: 4.

([59]) الطوسي، النهاية: 297.

([60]) ابن البرّاج الطرابلسي، المهذّب 1: 364؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر 3: 202.

([61]) المحقّق الحلّي، المعتبر 2: 279؛ العلاّمة الحلّي، المنتهى 1: 317.

([62]) ابن سعيد الحلّي، الجامع للشرايع: 508.

([63]) العلاّمة الحلّي، المنتهى 2: 594؛ الشهيد الثاني، المسالك 3: 110.

([64]) العلاّمة الحلّي، المنتهى 1: 524؛ أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 4: 116.

([65]) مرتضى الأنصاري، المكاسب: 58.

([66]) الحرّاني، تحف العقول: 243.

([67]) أبو مخنف، المقتل: 68.

([68]) ابن طاووس، اللهوف: 43.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً