أحدث المقالات

وقفة نقدية تحليلية مع سبّ المعصوم عليه السلام

الشيخ محمد حسين مهوري

المقدمة

الإنسان هو أشرف المخلوقات في الإسلام، ولا شيء أشرف منه، ومع أنّ حرمة الكعبة في الإسلام عظيمة جداً، وجعل الله لها أحكاماً خاصة، لكن الإنسان المؤمن أشرف وأشدّ حرمة من الكعبة.

روي أنّ رسول الله’ نظر إلى الكعبة فقال: <مرحباً بالبيت ما أعظمكِ وأعظم حرمتكِ على الله! الله للمؤمن أعظم حرمة منك؛ لأنّ الله حرّم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله ودمه وأن يُظن به ظنّ السوء<([1]).

وعلى هذا يكون سبّ المؤمن وهتك عرضه من أعظم الذنوب.

وعن حماد بن بشير، عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله’: قال الله تبارك وتعالى: >من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي<([2]).

فإذا كان سبّ المؤمن بهذه الدرجة من القبح فكيف بسبّ المعصوم×؟ على أنّ سبّه يعدّ سبّاً لجميع المسلمين والشيعة، ولا يكون وجوب قتل سابّ المعصوم حكماً شديداً؛ لأنه إذا لم يحترم جميع المسلمين فخليق أن لا يكون له أي حرمة عند المسلمين أيضاً، فلا كلام في أنّ القتل يكون جزاءً عادلاً لساب المعصوم.

ومع هذا كلّه يجب أن يكون المسلم مسلّماً لأحكام الإسلام.

 

سبّ النبي في نظر الفقهاء

لا إشكال في وجوب قتل سابّ النبي’ عند الإمامية، بل عند جميع فرق المسلمين، قال المحقق في الشرائع: >من سب النبي’ جاز لسامعه قتله<.

وقال صاحب الجواهر& في توضيحه: >بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) باحث في الحوزة العلمية، متخصّص في الفقه السياسي الإسلامي، من إيران.

بقسميه عليه<([3]).

وقال وهبة الزحيلي: >وقد أفتى أكثر فقهاء الخفية بناء عليه بقتل مَن أكثر من سب النبي’ من أهل الذمة، وإن أسلم بعد أخذه، وقالوا: يقتل سياسة، وأجمع العلماء ـ كما قال القاضي عياض في الشفاء ـ على وجوب قتل المسلم إذا سبّ النبي’ لقوله تعالى: {إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً}<([4]).

ومع أنه لا إشكال في وجوب قتل سابّ النبي’ لكن هناك أسئلة حول هذا الحكم، وهي:

1ـ ما هو موضوع هذا الحكم؟ ومتى يصدق السبّ؟

2ـ هل يختص هذا الحكم بالنبي’ أم يشمل جميع المعصومين^؟

3ـ هل يكون إجراء هذا الحكم باختيار الحاكم أم يكون تكليفاً عاماً لكل فرد من المسلمين؟ ولا يحتاج في ذلك إلى إذن الحاكم؟

4ـ وعلى فرض كونه من وظائف الحاكم فهل هو واجب عليه مطلقاً أم أنه موكول لنظره في أصل إجرائه وكيفية إجرائه؟

وفي هذه المقالة نجيب عن هذه الأسئلة.

 

مفهوم السبّ

السبّ مرادف للشتم، قال أهل اللغة: >السبّ: الشتم<([5]).

وقال الشيخ الأنصاري& في تفسيره: >ثم إنّ المرجع في السب إلى العرف، وفسّره في جامع المقاصد بإسناد ما يقتضي نقصه إليه، مثل الوضيع والناقص، وفي كلام بعض آخر: إنّ السبّ والشتم بمعنى واحد، وفي كلام ثالث: إنّ السبّ أن تصف الشخص بما هو إزراء ونقص، فيدخل في النقص كل ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتد، والتعبير بشيء من بلاء الله تعالى، كالأجذم والأبرص<([6]).

وقال السيد الخوئي& في ذلك: >الظاهر من العرف واللغة اعتبار الإهانة والتحقير في مفهوم السب، وكونه تنقيصاً وإزراءً على المسبوب، وأنه متحد مع الشتم، وعلى هذا فيدخل فيه كلُّ ما يوجب إهانة المسبوب وهتكه، كالقذف والتوصيف بالوضيع واللا شيء والحمار والكلب والخنزير والكافر والمرتد والأبرص والأجذم والأعور وغير ذلك من الألفاظ الموجبة للنقص والإهانة، وعليه فلا يتحقق مفهومه إلاّ بقصد الهتك، وأما مواجهة المسبوب فلا تعتبر فيه<([7]).

وعن النبي’ أنه قال: >إذا كان أحدكم ساباً لصاحبه لا محالة، فلا يفتر عليه، ولا يسبّ والديه، ولا يسبّ قومه، ولكن إن كان يعلم ذلك فليقل: إنك لبخيل، أو ليقل: إنك لجبان، أو ليقل: إنك لكذوب، أو ليقل: إنك لنؤوم<([8]).

وهذا الحديث وإن كان يدل على جواز ذلك إن كان حقّاً، ولكن يستفاد منه أنّ هذه الموارد من مصاديق السبّ.

فتحصّل أنّ للسبّ مفهوماً عاماً يشمل كلّ إهانة، فلو نسب الباطل إلى أحد الأئمة^ فإنه يكون ساباً له، وكذلك كلّ من سمّى علياً× بأبي تراب بقصد التوهين كان ساباً له، نعم لا يصدق على إنكار بعض المقامات المعنوية لهم إذا لم يكن بقصد الإهانة، على أنّ موضوع أحاديث الباب لا يختص بالسبّ، بل ورد فيها ألفاظ أخرى نظير: شتم، نال منه، وقع فيك، يذكرك، و…، وهذا يدل على عموم موضوع هذا الحكم.

 

أدلة وجوب قتل ساب النبي

قد تقدم دعوى الإجماع من صاحب الجواهر& على وجوب قتل سابّ النبي’ ولكن لا يكون الإجماع دليلاً مستقلاً على المدّعى مقابل سائر الأدلة؛ لأنّ اتفاق الفقهاء ـ مستند إلى أخبار الباب، فيكون إجماعاً مدركياً، فلا يكون مستقلاً. وعلى هذا فدليل هذا الحكم منحصر في الأخبار، فلابد من ذكرها والبحث في دلالتها:

1ـ حسنة هشام بن سالم عن أبي عبد الله× أنه سئل عمن شتم رسول الله’ فقال: >يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام<([9]).

2ـ عن الحسن بن علي الوشاء قال: >سمعت أبا الحسن× يقول: شتم رجل على عهد جعفر بن محمد‘ رسول الله’ فأتى به عامل المدينة فجمع الناس فدخل عليه ـ أبو عبد الله× وهو قريب العهد بالعلة وعليه رداء له مورد، فأجلسه في صدر المجلس واستأذنه في الاتّكاء وقال لهم: ما ترون؟ فقال له عبد الله بن الحسن والحسن بن زيد وغيرهما: نرى أن تقطع لسانه، فالتفت العامل إلى ربيعة الرأي وأصحابه فقال: ما ترون؟ قال: يؤدَّب، فقال أبو عبد الله×: سبحان الله! فليس بين رسول الله’ وبين أصحابه فرق<([10]).

3ـ عن علي بن جعفر قال: أخبرني أخي موسى× قال: >كنت واقفاً على رأس أبي حين أتاه رسول زياد بن عبيد الله الحارثي عامل المدينة، فقال: يقول لك الأمير انهض إليّ، فاعتلّ بعلّة، فعاد إليه الرسول فقال: قد أمرت أن يفتح لك باب المقصورة فهو أقرب لخطوك، قال: فنهض أبي واعتمد عليّ ودخل على الوالي وقد جمع فقهاء أهل المدينة كلّهم، وبين يديه كتاب فيه شهادة على رجل من أهل وادي القرى قد ذكر النبي’ فنال منه، فقال له الوالي: يا أبا عبد الله انظر في الكتاب قال: حتى أنظر ما قالوا، فالتفت إليهم فقال: ما قلتم؟، قالوا: قلنا: يؤدّب ويضرب ويعزّر [يعذّب] ويحبس، قال: فقال لهم: أرأيتم لو ذكر رجلاً من أصحاب النبي’ ما كان الحكم فيه؟، قالوا: مثل هذا، قال: فليس بين النبي’ وبين رجل من أصحابه فرق؟، فقال الوالي: >دع هؤلاء يا أبا عبد الله! لو أردنا هؤلاء لم نرسل إليك، فقال أبو عبد الله×: أخبرني أبي أنّ رسول الله’ قال: الناس فيّ أُسوة سواء من سمع أحداً يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني، ولا يرفع إلى السلطان، والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال منيّ، فقال زياد بن عبيد الله: أخرجوا الرجل فاقتلوه بحكم أبي عبد الله<([11]).

4ـ عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: >إنّ رجلاً من هذيل كان يسبّ رسول الله’، فبلغ ذلك النبي’ فقال: من لهذا؟ فقام رجلان من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله’، فانطلقا حتى أتيا عربة فسألا عنه، فإذا هو يتلقّى غنمه، فقال: من أنتما وما اسمكما؟ فقالا له: >أنت فلان بن فلان؟<، قال: نعم، فنزلا فضربا عنقه، قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي جعفر×: أرأيت لو أنّ رجلاً الآن سب النبي’ أيقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك فاقتله<([12]).

5ـ الفضل بن الحسن الطبرسي بإسناده في (صحيفة الرضا×) عن آبائه عن رسول الله’ قال: >من سبّ نبيّاً قتل، ومن سبّ صاحب نبي جلد<([13]).

6ـ عن الشعبي، عن علي×: >إنّ يهودية كانت تشتم النبي وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله’ دمها<([14]).

إنّ الحديث الأوّل والثالث يدلاّن على جواز قتل سابّ النبي’ لكل فرد من المسلمين، بل وجوب ذلك عليه، ولكن باقي الأحاديث لا تدل على جوازه لكل أحد؛ لأنّ الإمام الصادق× في الحديث الثاني يسأل مستنكراً: >سبحان الله! فليس بين رسول الله’ وبين أصحابه فرق؟< هذا يدلّ على أنّ سابّ النبي’ يستحق عقاباً شديداً، ولكن لا يدلّ على جواز قتله لكل فرد من المسلمين.

وصدر حديث محمد بن مسلم قضية في واقعة، ولا يدل على جواز قتل ساب النبي’ لكل أحد، ويشهد لذلك أنّ محمد بن مسلم الذي هو من أجلّة أصحاب الأئمة لم يفهم من قول الإمام ذلك، ولذا سأل عن حكم ساب النبي في زمانه.

من هنا يظهر أنه لا يفهم من سائر الموارد التي أمر النبي’ بقتل عدّة من الأفراد جواز قتل سابّ النبي’ لكل أحد، وأما ذيل الحديث فإِذْنُ الإمام× لمحمد بن مسلم بذلك بشرط عدم الخوف على نفسه لا يدل على جوازه لكل أحد؛ لاحتمال أن يكون إذن الإمام مختصاً بمحمد بن مسلم، بل في الحديث قرينة على اختصاصه بمحمد بن مسلم، وهو أنّ سؤال محمد بن مسلم عام وجواب الإمام مختص به، فلو كان الحكم عاماً فلابد من تطابق السؤال والجواب، ومن هنا فإنّ كلام بعض الأجلّه غير مفهوم لنا، حيث قال في ذيل حديث محمد بن مسلم: >وصدرها لا يستفاد منه قتل ساب النبي’ بلا مراجعه الحاكم إلاّ أنّ ذيلها ظاهر في أنّ من سمع السبّ فعليه قتل الساب مع عدم الخوف<([15]).

وأمّا الحديث الخامس فمضافاً إلى ضعف سنده فإنه يكون في مقام بيان حكم ساب النبي لا كيفية إجرائه وجوازه لكل أحد.

والحديث السادس مضافاً إلى ضعف سنده يدلّ على عدم إعطاء دية تلك المرأة بعد قتلها، ولا يدلّ على أنّ قتلها كان جائزاً لقاتلها، وعدم إعطاء الدية إنما يكون لعدم وفائها بما عاهد اليهود النبي، فعلى هذا لا يدلّ الحديث على جواز قتلها، أو أنه وقع بلا إذن من النبي حتى يدل على جواز قتل ساب النبي لكل أحد.

فتحصل أنّ الحديث الأوّل والثالث فقط يدلاّن على جواز قتل ساب النبي’ لكل أحد.

 

الأدلة والشواهد، وقفات نقدية

اتفق فقهاء الإمامية على وجوب قتل ساب الإمام×، وادُّعي عليه الإجماع، قال في الشرائع: >وكذا من سبّ أحد الأئمة^<.

وقال في الجواهر في توضيح كلامه: >بلا خلاف أجده فيه أيضاً، بل الإجماع بقسميه عليه<([16]).

وقال الإمام الخميني&: >من سب النبي’ ـ والعياذ بالله ـ وجب على سامعه قتله ما لم يخف على نفسه أو عرضه أو نفس مؤمن أو عرضه، ومعه لا يجوز، ولو خاف على ماله المعتد به أو مال أخيه كذلك جاز ترك قتله، ولا يتوقف ذلك على إذن من الإمام× أو نائبه، وكذا الحال لو سبّ بعض الأئمة^، وفي إلحاق الصديقة الطاهرة÷ بهم^ وجه، بل لو رجع إلى سبّ النبيّ’ يقتل بلا إشكال<([17]).

وقد استدل لجواز قتل سب الإمام× على كلّ واحد من المسلمين بوجوه:

1 ـ الإجماع.

وفيه ما تقدم من أنّ اتفاق الفقهاء مستند إلى الأحاديث، فلا يعدّ الإجماع دليلاً مستقلاً هنا.

2 ـ تنقيح المناط القطعي مما دلّ على وجوب قتل سابّ النبي’؛ لأنّ الأئمة الأطهار هم كالنبي’ في الكمالات والمقامات المعنوية، فكلّ ما ثبت للنبي’ يثبت لهم أيضاً، قال السيد الخوئي& في ذلك: >… من دون خلاف بين الأصحاب، بل ادُّعيَ عليه الإجماع بقسميه، وذلك لما علم من الخارج بالضرورة أنّ الأئمة^ والصديقة الطاهرة÷ بمنزلة نفس النبي’ وأنّ حكمهم حكمه يجرون مجرى واحداً<([18]).

وقال بعض الأعاظم في ذلك: >المقام الثاني: في سبّ بعض الأئمة^: والظاهر مضافاً إلى نفي وجدان الخلاف فيه في الجواهر، بل دعوى ثبوت الإجماع بقسميه عليه، أنه بعد ثبوت الحكم في المقام الأوّل بالإضافة إلى النبي’ لا حاجة إلى ورود دليل خاص بالنسبة إلى الأئمة^؛ لوضوح كونهم بحكمه، وأنهم يجرون مجراه، وقد عبّر الكتاب العزيز في آية المباهلة عن علي× أمير المؤمنين بأنه نفس النبي’، ومن المعلوم أنه لا فرق بينه وبين أولاده المعصومين من هذه الجهة، وعليه فلا حاجة إلى الاستشهاد على سريان هذا الحكم في سبّ الأئمة إلى رواية أو غيرها<([19]).

لا شكّ ولا شبهة في المقامات المعنوية للأئمة وأنهم بمنزلة نفس النبي، ولكن الكلام في أنّ الاشتراك في المقامات المعنوية هل يوجب الاشتراك في جميع الأحكام؟ لو علم أنّ ثبوت حكم للنبي’ إنما يكون من جهة مقاماته المعنوية لأمكن إثباته للأئمة، ولكن لا دليل على أنّ وجوب قتل ساب النبي إنما يكون من جهة مقاماته المعنوية ولا يكون شيء آخر دخيلاً فيه، بل يحتمل أن يكون وجوب قتل ساب النبي من جهة نبوته، أليس القياس باطلاً في فقه الإمامية؟ أليس الأئمة مشتركين مع النبي في المقامات المعنوية، ومع هذا يختلف معهم في كثير من الأحكام؟ يستحب الصلاة على النبي عند سماع اسمه أو قراءته أو كتابته، ولا يستحب للأئمة، الشهادة بالرسالة واجبة في الأذان والإقامة والتشهد، ولا تكون الشهادة بالولاية واجبة في تلك الموارد، بل الشهادة بالولاية بقصد الجزئية تكون حراماً وتشريعاً، وإنكار الرسالة يستلزم الكفر والخروج عن الإسلام، ولكن إنكار الولاية لا يستلزم الكفر، ومع أنّ جميع الأئمة مشتركون في المقامات المعنوية، ولكن لقب أمير المؤمنين مختص بعليّ بن أبي طالب ولا يجوز استعماله في غيره من الأئمة حتى ولي العصر#، وعلى هذا لا يمكن إثبات وجوب قتل سابّ النبي’ للأئمة^ بمجرد ثبوت وجوب قتل سابّ النبي، فلا بد في ذلك من الاستناد إلى الأحاديث، وهي:

1ـ صحيحة هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله×: ما تقول في رجل سبّابة لعلي×؟ قال: فقال لي: حلال الدم والله، لولا أن تعمّ به بريئاً، قال: قلت: فما تقول في رجل مؤذٍ لنا؟ قال: في ماذا؟ قلت: فيك، يذكرك، قال: فقال لي: له في علي× نصيب؟ قلت: إنه ليقول ذاك ويظهره، قال: لا تعرض له.

ورواه الصدوق& في العلل إلى قوله: تعمّ به بريئاً،>قال: قلت: لأي شيء يعمّ به بريئاً؟ قال: يقتل مؤمناً بكافر<، ولم يزد على ذلك([20]).

قال العلامة المجلسي& في توضيح هذا الحديث:

قوله×: >لولا أن تعمّ< أي أنت أو البلية بسبب القتل من هو بريء منه.

وقوله: >له في علي× نصيب< يحتمل أن يكون المراد أنه هل يتولى علياً× ويقول بإمامته؟ فقال الراوي: نعم، هو يظهر ولايته×، فقال×: لا تعرض له، أي لأجل أنه يتولّى علياً× فيكون هذا إبداء عذر ظاهراً؛ لئلا يتعرض السائل لقتله فيورث فتنة، وإلاّ فهو حلال الدم، إلاّ أن يحمل على ما لم ينته إلى الشتم، بل نفي إمامته، ويحتمل أن يكون استفهاماً إنكارياً، أي من يذكرنا بسوء كيف يزعم أنّ له في علي نصيباً فتولّى السائل تكراراً لما قال أولاً، ويمكن أن يكون الضمير في قوله×: >له< راجعاً إلى الذكر، أي قوله يسري إليه أيضاً، ومنهم من قال هو تصحيف نصب بدون الياء<([21]).

إنّ الراوي يسأل في صدر الحديث عمن يكون سبّابة لعلي× ـ أي كثير السبّ ـ والإمام× يحلّ دمه بشرط عدم قتل بريء في ذلك، ولكن ذكره بلفظ >لولا<ـ الدال على الامتناع ـ مشعر بعدم إمكان قتل الأبرياء في قتل سابّ علي، بل هو مقارن له غالباً، ولذا لا يمكن استفادة الإذن من الإمام في قتل سابّ علي×، بل ظهوره في عدم جواز ذلك أقوى، وهذا نظير قوله’: >لولا أن أشق على أُمتي لأمرتهم بالسواك<، حيث يفهم منه عدم الأمر بالسواك وعدم تشريعه وجوباً، وإن دلّ على وجود مقتضي الوجوب فيه.

فتحصل من صدر حديث هشام بن سالم عدم إذن الإمام× في قتل ساب علي×؛ لاستلزامه قتل الأبرياء، وإن كان مقتضي ذلك موجوداً.

وفي ذيل الحديث يسأل الراوي عمن يسبّ الإمام الصادق×، والإمام يسأل عن تولّيه لعليّ×، وبعد جواب الراوي بإظهاره ذلك منعه عن التعرض له، وهذه هي سيرة جميع الأئمة^، حيث منعوا عن التعرض لمن يسبّهم ويؤذيهم.

وعلى هذا فليس الإمام في مقام إبداء العذر لمنع الفتنة والفوضى، كما قاله العلامة المجلسي&؛ لأنه لو كان نهي الإمام× لمنع الفتنة أو للخوف على الراوي ـ كما قال صاحب الجواهر& ـ لكان قادراً على بيان علة نهيه، ولم يحتج إلى السؤال عن تولّيه لعلي×، وكذلك لا يمكن حمله على مجرد إنكار إمامة الإمام الصادق× ـ كما قاله العلامة المجلسي&ـ؛ لأنّ قول الراوي: >فيك، يذكرك< ظاهر في السب والشتم.

2ـ عن عبد الله بن سليمان العامري قال: >قلت لأبي عبد الله×: >أي شيء تقول في رجل سمعته يشتم علياً ويتبرأ منه؟< قال: فقال لي: والله هو حلال الدم، وما ألف منهم برجل منكم، دعه لا تعرض له إلاّ أن تأمن على نفسك<([22]).

قوله: >لا تعرض له إلاّ أن تأمن على نفسك< ليس في التهذيب([23])، ولا الوسائل([24]).

وقال العلامة المجلسي& في توضيحه: >أي لا تفعلوا ذلك اليوم، فإنهم يقتلونكم قوداً، ولا يساوى ألف رجل منهم بواحد منكم<([25]).

إنّ الإمام× أذِن للعامري في قتل ساب علي مع الأمن على نفسه، ولا يستفاد منه الإذن لكل أحد؛ لاحتمال خصوصية في العامري، على أنّ هذا الحديث ضعيف، ولذا عبّر عنه في الجواهر بـ >خبر<([26]).

3ـ عن عبيد بن زرارة عن أبيه، عن أبي جعفر×: >من قعد في مجلس يسبّ فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله عزّ وجلّ الذلّ في الدنيا، وعذّبه في الآخرة، وسلبه صالح ما منّ به عليه من معرفتنا<([27]).

ويقال: انتصف منه: إذا استوفى حقّه منه كاملاً، حتى صار كلّ على النصف سواء([28]).

ذكر صاحب الوسائل& هذا الحديث في باب قتل من سب علياً…، وهذا يدل على تمامية دلالة الحديث في نظره، ولكن لم يذكره الكليني& في كتاب الحدود، ولم يستدل به صاحب الجواهر، وهذا يدل على عدم تمامية دلالته في نظرهما.

وكيف كان فهذا الحديث لا يدل على جواز قتل سابّ الإمام×، بل المتبادر منه عرفاً هو الدفاع عن الأئمة،ولاسيما أنّ المستفاد منه هو الانتصاف في المجلس، ولا يجوز قتل سابّ علناً؛ لأنه يثير غبار الفتنة.

4 ـ خبر علي بن حديد قال: >سمعت من سأل أبا الحسن الأول×: فقال: إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجتنا في ما بيننا وبين الله، قال: فقال: لعنه الله ـ ثلاثاً ـ أذاقه الله حرّ الحديد، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة، فقلت له: إذا سمعت ذلك منه أوليس حلال لي دمه؟ مباح كما أبيح دم السبّاب لرسول الله’ والإمام×؟ قال: نعم حلّ والله، حل والله دمه وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه، قلت: >أو ليس ذلك بسابّ لك؟ قال: >هذا سباب لله وسباب لرسول الله وسباب لآبائي وسبابي، وأيّ سبّ ليس يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول؟ فقلت: أرأيت إذا أنا لم أخف أن أغمز بذلك بريئاً ثم لم أفعل ولم أقتله ما عليّ من الوزر؟< فقال: يكون عليك وزره أضعافاً مضاعفة، من غير أن ينقص من وزره شيء، أما علمت أنّ أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله ورسوله بظهر الغيب، وردّ عن الله وعن رسوله<([29]).

5ـ ما دل على حلية دم الناصب، كخبر داوود بن فرقد قال: >قلت لأبي عبد الله× ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل<([30]).

6ـ عن الرضا× عن آبائه^ قال: قال رسول الله’: >من سبّ نبياً من الأنبياء فاقتلوه، ومن سبّ وصياً فقد سبّ نبياً<([31]).

فتحصل مما تقدم من الأحاديث أنّ صحيحة هشام بن سالم تامة سنداً ودلالة، وتدل على استحقاق سابّ علي للقتل، ولا تدل على صدور إذن من الإمام بالفعل، ولكن سائر الأحاديث لا تدل على حكم عام؛ لأنّ حديث عبد الله بن سليمان العامري ـ الحديث الثاني ـ يدل على إذن الإمام× لعبد الله لا لكلّ أحد، وأنّ مورده سابّ علي× مضافاً إلى أنه ضعيف السند، وحديث زرارة ـ الحديث الثالث ـ خارج عن مورد الكلام، وخبر علي بن الحديد ـ الحديث الرابع ـ مورده من كان مضلاًّ لكثير من الناس كما يأتي، فلا يدل على جواز قتل كلّ سابّ، مضافاً إلى أنه ضعيف السند، وحديث داوود بن فرقد ـ الحديث الخامس ـ فأولاً: مورده الناصب، وعنوان النصب غير عنوان السب، وثانياً: إنه لا يدل على جواز قتله لكل واحد من المسلمين، بل هو إذن خاص لداوود بن فرقد، مضافاً إلى أنه ضعيف السند، والحديث السادس أيضاً ضعيف السند، على أنه لا ينافي أن يكون قتل الساب باختيار الإمام، بل يؤيد ذلك؛ لاحتمال أن يكون إذناً عاماً من الإمام لكل واحد من المسلمين في قتل ساب الإمام، وصدور هذا الإذن لم يكن على وفق المصلحة قبل عصر الإمام الرضا، وصار فيه مصلحة في عصره.

والحاصل أنه لا دليل على جواز قتل ساب الأئمة^، إلاّ أمير المؤمنين×.

وأما خبر علي بن الحديد فإنّ الإمام الكاظم× أمر بقتل محمد بن بشير الذي كان ضالاًّ مضلاًّ، والتأمل في أفعاله يدل على عدم إمكان استفادة حكم عام من هذا الحديث.

وقفة مع شخصية محمد بن بشير

عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الكاظم× قائلاً: غال ملعون…

وزعموا: أنّ علي بن موسى× وكل من ادّعى الإمامة من ولده وولد موسى× مبطلون كاذبون غير طيبّي الولادة؛ فنفوهم عن أنسابهم وكفروهم لدعواهم الإمامة وكفّروا القائلين بإمامتهم واستحلوا دماءهم وأموالهم.

وزعموا: أنّ الفرض من الله تعالى إقامة الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، وأنكروا الزكاة والحج وسائر الفرائض، وقالوا بإباحة المحارم والفروج والغلمان…

وكان سبب قتل محمد بن بشير ـ لعنه الله ـ لأنه كان معه شعبذة ومخاريق، فكان يظهر الواقفة أنه ممن وقف على علي بن موسى×، وكان يقول في موسى× بالربوبية، ويدعي لنفسه أنه نبي، وكان عنده صورة قد عملها وأقامها شخصاً كأنها صورة أبي الحسن× من ثياب حرير، وقد طلاها بالأدوية وعالجها بحيل عملها فيها حتى صارت شبه صورة إنسان، وكان يطويها فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها فأقامها…

قد كان أبو عبد الله وأبو الحسن‘ يدعوان الله عليه ويسألانه أن يذيقه حر الحديد، فأذاقه الله حرّ الحديد بعد أن عذب بأنواع العذاب([32]).

من هنا يظهر أن محمد بن بشير كان من أصول الكفر والضلالة، فالأمر بقتله من الإمام لا يدل على جواز قتل الساب على كل واحد من المسلمين.

والإمام عدّه سباباً لله وللرسول ولآبائه ولنفسه؛ لأنه بارز أصل الإسلام، ولذا عدّ الإمام× التقصير في قتله أشدّ وزراً منه.

إن قلت: إنّ المرتكز في ذهن الراوي هو جواز قتل الساب، حيث قال: >إذا سمعت ذلك منه أوليس حلال لي دمه، مباح كما أُبيح دم السباب لرسول الله’ والإمام؟<، وقال أيضاً: >أوليس ذلك بساب لك؟<, والإمام× أقرّهُ على ذلك.

قلت: لا يستفاد من الحديث تقرير الإمام× له في ذلك الارتكاز، بل يستفاد منه أنّ الإمام× يفرّ من تقريره، حيث قال في جواب سؤاله الأول: >نعم حلّ والله، حلّ والله دمه وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه<.

ولم يستفد الراوي من هذا الجواب تقرير الإمام× لما ارتكز في ذهنه، ولذا كرّر سؤاله، وقال ثانياً: >أوليس ذلك بساب لك<.

والإمام× ركّز على وجوب قتله، وأنه هادم لأساس الإسلام.

شرطية إذن الإمام في قتل السابّ

قال في الجواهر: >ثم إنّ ظاهر المصنف وغيره عدم توقف جواز قتل الساب على إذن الإمام×، بل هو المشهور، بل عن الغنية الإجماع عليه لإطلاق النصوص، خصوصاً الأول منها، خلافاً للمحكي عن المفيد والفاضل في المختلف، فلم يجوزاه بدونه<([33]).

استدل صاحب الجواهر& لعدم احتياج قتل الساب إلى إذن الإمام بالإجماع وإطلاق النصوص.

والإجماع ـ كما تقدم ـ إجماع مدركي لا يكون دليلاً مستقلاً في الباب، مضافاً إلى أنه موهون بمخالفة المفيد والعلامة.

وأما الإطلاق فقد تقدم أنه لا دليل على جواز قتل ساب الأئمة^ ما عدا أمير المؤمنين×، حيث دلّت صحيحة هشام بن سالم على استحقاق سابّه للقتل لولا المانع، ولكن لا تدلّ على الإذن الفعلي، فلا يمكن استفادة الإذن الفعلي منه لكل أحد وفي كل زمان.

لم يتعرض صاحب الجواهر لتوقف جواز قتل ساب النبي’ على إذن الإمام×؛ وذلك لأنّ حديثي هشام بن سالم وعلي بن جعفر صريحان في وجوب ذلك على كل واحد من المسلمين، ومع التصريح بذلك لا يحتاج إلى هذا البحث.

والمراد من الإطلاق هو أنّ الإمام لم يقيّد جواز قتل ساب الإمام لكل واحد من المسلمين بإذن الإمام، وحيث يكون في مقام البيان فيستفاد من عدم البيان عدم الاشتراط في الواقع.

ولكن يمكن أن يقال: حيث إنّ الإمام× ـ على أنّه مبين للأحكام الشرعية ـ هو حاكم المجتمع ووليّ الأمر للمسلمين، ومن هنا قد يبيّن الأحكام الإلهية، وقد يكلفهم بفعل أو ترك لأنه حاكم المجتمع وولي أمرهم، ويعبّر عن الثاني بالأوامر الولائية.

والفرق بينهما أنّ الأحكام الإلهية قد شرعت من الله تعالى والإمام× مبلغ ومبيّن لذلك، والأحكام الولائية تصدر من الإمام× وتختلف باختلاف الشرائط، ولا يشترط في الأحكام الإلهية إذن الإمام، ولكن الأحكام الولائية تابعة لإذنه، وببيان آخر: إنّ وجود الحكم الولائي مشروط بإذن الإمام وأمره، ولا تحقق له بدون إذنه، وعلى هذا فالشك في اشتراط حكم بإذن الإمام يرجع إلى الشك في أنه حكم شرعي واقعي غير منوط بإذن الإمام×، أو أنه حكم ولائي دائر مدار إذنه وأمره، وعلى هذا فلا يمكن التمسك بإطلاق الدليل لنفي اشتراط إذن الإمام؛ لأنّ الترديد في أنّ الإمام× في مقام بيان الحكم الواقعي أو حكم ولائي، ومعه لم يحرز كونه في مقام بيان أي شيء، نعم حيث إنّ صدور الأحكام الولائية من جانب الإمام× ـ الذي لم يكن متصدياً للدولة ـ قليل جداً، وإنهم^ كلفوا أصحابهم بالعمل بأوامرهم ـ حتى خلاف ذلك ـ فالأصل هو أنّ الإمام× في مقام بيان الحكم الواقعي، ولكن هذا غير التمسّك بإطلاق الدليل.

إن قلت: إنّ ولائية الحكم لا تنافي دوامه؛ لأنه ليس دائراً مدار حياة الإمام، بل هو باقٍ حتى بعد وفاته.

قلت: نعم إنّ الحكم الولائي باقٍ ما لم ينقض من الحاكم المتأخر، وعلى هذا يجوز نقض الحكم الولائي من ولي الفقيه، بخلاف الحكم الشرعي، وببيان آخر: إنّ الحكم الولائي تابع للمصلحة التي يراها الحاكم، ولكنّ الحكم الشرعي لا يمكن تعطيله بالاستحسان و…

وعلى هذا ندّعي أنّ القرائن والشواهد الكثيرة من قول المعصوم× وفعله تدلُّ على أنّ الأمر بقتل الساب حكم ولائي تابع لما يراه الحاكم من المصلحة، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وعناد الساب أو جهالته، فقد تقتضي المصلحة الإقدام العام لحسم مادة الفساد، والمنع من تكراره، كما هجر النبي’ هلال بن أُمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك ونهى عن مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حينما تخلوا عن رسول الله في سفره إلى تبوك([34])، وتهديد النبي بحرق بيوت التاركين للجماعات، والتهديد بتحليل سلب من كان يسترزق بالدف واستأذنه في الغناء([35])، وتحليل سلب من يصيد في المدينة([36]).

كما أنّ الإمام الخميني أحلّ دم من سلب الأمن من المجتمع في دولة الشاه([37]).

وقد تقتضي الظروف البحث والجدال الأحسن.

فتحصل أولاً: إنّ هذا الحكم يكون باختيار الحاكم ويجريه بما يراه من المصلحة، وقد يوكل إجراءه إلى جميع أفراد المجتمع، وثانياً: إنّ مقدار مجازاة الساب أيضاً باختيار الحاكم ولم يعيّن لها مقداراً معيّناً في الشرع.

أدلّة نظرية تدبيرية حكم السابّ

1ـ كان المنافقون من مصاديق ساب النبي’ وقد ذكر في القرآن إيذاءهم وسبّهم للنبي’، قال تعالى:

{ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذنُ خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} (التوبة: آية 61).

لا شك في أنّ كلام المنافقين في النبي’ من أوضح مصاديق السب؛ لأن كلّ كلام يوجب إيذاء شخص فهو سبّ، وبشهادة القرآن فإن كلام المنافقين يوجب إيذاء النبي’.

وقال أيضاً: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} (المنافقون: 8).

ومع هذا نهى النبي’ عن التعرض للمنافقين، وهم يعيشون مع المسلمين في أمن وأمان، ولما طلب منه أن يقتل المنافقين قال’: >أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم<([38]).

وهذا الكلام أقوى شاهد على أنّ حكم الساب تابع لما يراه الحاكم من المصلحة، مع أنّ النبي لم يلاحظ شيئاً في إقامة الحدود.

2 ـ عن زرارة عن أبي جعفر× قال: دخل يهودي على رسول الله’ وعائشة عنده، فقال: >السام عليكم< فقال رسول الله’: >عليكم<، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فردّ عليه كما ردّ على صاحبه، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فردّ رسول الله’ كما ردّ على صاحبيه، فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود! يا إخوة القردة والخنازير! فقال لها رسول الله’: يا عائشة إنّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إنّ الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلاّ زانه، ولم يرفع عنه قطّ إلاّ شانه، قالت: يا رسول الله’ أما سمعت إلى قولهم: السام عليكم؟ فقال: بلى، أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت: عليكم، فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا: سلام عليكم، وإذا سلّم عليكم كافر فقولوا: عليك<([39]).

3 ـ عن مِقسَم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلّقاً نعله بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله’ حين كلّمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخُوَيصرة فوقف عليه وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله’: أجل، فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي’ ثم قال: ويحكم! إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله’، ألا أقتله؟ فقال: لا، دعه فإنه سيكون له شيعة ـ يتعّمقون في الدين حتى يخرجوا منه… <([40]).

4 ـ عن حذيفة بن اليمان قال: … فما قطع رسول الله’ كلامه حتى أقبل إلينا أعرابي يجرّ هراوة له، فلما نظر رسول الله’ إليه قال: قد جاءكم رجل يكّلمكم بكلام غليظ تقشعرّ منه جلودكم، وإنه يسألكم عن أمور، إنّ لكلامه جفوة فجاء الأعرابي فلم يسلّم وقال: أيكم محمد؟< قلنا: وما تريد؟ قال رسول الله’: >مهلاً< فقال: يا محمد، لقد كنت أبغضك ولم أرك، والآن فقد ازددت لك بغضاً! قال: فتبسّم رسول الله’ وغضبنا لذلك وأردنا بالأعرابي إرادة، فأومأ إلينا رسول الله’ أن اسكتوا، فقال الأعرابي: يا محمد، إنك تزعم أنك نبي، وأنك قد كذبت على الأنبياء وما معك من برهانك شيء، قال له: يا أعرابي، وما يدريك؟ قال: فخبرني ببرهانك قال: إن أحببت أَخبرك عضو من أعضائي فيكون ذلك أوكد لبرهاني، قال: أويتكلم العضو؟ قال: نعم، يا حسن قم… قال له: ما الإسلام؟… فأسلم وحسن إسلامه<([41]).

5ـ كان رسول الله’ قد عهد إلى أُمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلاّ من قاتلهم، إلاّ أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة([42]). ولم يقتل منهم إلاّ أربعة، وآمن رسول الله’ الباقين بوساطة بعض الأفراد([43])، ومن هؤلاء من كان ساباً للنبي’، فلو كان قتل الساب حداً من الحدود الشرعية لم يقبل رسول الله’ فيه شفاعة؛ لعدم جواز الشفاعة في الحدود([44]).

فهذا يدلّ على أنّ قتل الساب حكم من الأحكام من الولائية التي يكون اختيارها بيد الحاكم، فإنّ النبي’ في مكة تحمل أذى كثيراً من مشركي قريش، ومع هذا لم يُقدم على شيء، وأما في المدينة فأمر بقتل عدّة من اليهود والمشركين، وكان ساكتاً عن المنافقين، وكل ذلك لما يراه من المصلحة، وبعد أن استحكم أساس الإسلام في عصر الصادق× وتحت الحجة أذِنَ الإمام× في قتل ساب النبي’ لكلّ أحد، ومن قبله لم يأذن الإمام الباقر× في ذلك عامّاً، وإنما أذن فيه لمحمد بن مسلم.

إن قلت: إنّ استناد الإمام الصادق× في هذا الحكم إلى النبي’ في حديث علي بن جعفر ينافي أن يكون حكماً ولائياً، حيث قال: أخبرني أبي أنّ رسول الله’ قال: الناس فيّ أُسوة سواء من سمع أحداً يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني…<؛ لأنه لو كان حكماً ولائياً من الإمام الصادق× لوجب أن يسنده إلى نفسه لا إلى النبي’.

قلت: إنّ الإمام× لم يكن في وضع يمكنه من إصدار الحكم علناً، حيث يُعدّ معارضة للخلافة، ولاسيما في مجلس والي المدينة، فلا محيص للإمام× أن يسند هذا الحكم إلى النبي’ ولم يكن كاذباً في ذلك لأنّ النبي’ أذن له في ذلك.

ما الفرق بين كون عقوبة السابّ حكماً أوّلياً أو ولائياً؟!

إن قلت: ما الفرق بين أن يكون قتل الساب من الأحكام الأولية أو من الأحكام الولائية، حيث إنّ إجراءه مشروط بعدم خوف الضرر على المسلمين على أيّة حال؟

قلت: تظهر الثمرة في موضعين، أولاً: لو كان حكماً أولّياً متوجهاً لجميع المسلمين فإحراز الضرر من وظائف المجري لا من وظائف الحاكم، ولا يجوز للحاكم منع إجرائه من آحاد المسلمين، وعلى هذا فيحتمل أن يقطع أحد من المسلمين بعدم الضرر فيقتل الساب، ولكنه يكون مخطئاً لمحدودية معرفته، ويجلب بذلك ضرراً عظيماً على المسلمين، كما أنه لو كان النبي’ أمر المسلمين بقتل مشركي قريش في مكة مع الأمن من الضرر لأصاب الإسلام ضررٌ عظيم، وأما إذا كان في اختيار الحاكم فإنه أبصر وأعرف بمصالح الإسلام، ويكون أمره للمسلمين بقتل الساب أقرب إلى الصواب.

ثانياً: إنّ آحاد المسلمين ينظرون إلى خصوص الضرر النفسي، ولا ينظرون إلى سائر المصالح، مع أنّ الحاكم ينظر إلى جميع الجهات، فإنّ قتل المنافقين في المدينة لم يستلزم ضرراً نفسياً ولا مالياً على المسلمين، ولكن النبي’ نهى عنه، فعُلِمَ أنه يستلزم تشنيعاً على النبي’ وعدم الرغبة في الإسلام.

6ـ خبر عمار السجستاني عن أبي عبد الله×: إنّ عبد الله بن النجاشي قال له، وعمار حاضر: >إني قتلت ثلاثة عشر رجلاً من الخوارج كلّهم يبدأ من علي بن أبي طالب، فسألت عبد الله بن الحسن، فلك يكن عنده جواب وعظم عليه، وقال: أنت مأخوذ في الدنيا والآخرة… فقال أبو عبد الله: لو كنت قتلتهم بأمر الإمام× لم يكن عليك شيء في قتلهم، ولكنك سبقت الإمام× فعليك ثلاثة عشر شاة تذبحها بمنى وتتصدق بلحمها؛ لسبقك الإمام×، وليس عليك غير ذلك<([45]).

7ـ عن أبي الصباح قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ لنا جاراً فنذكر علياً× وفضله فيقع فيه، أفتأذن لي فيه؟ فقال: أو كنت فاعلاً؟ فقلت: إي والله، لو أذنت لي فيه لأرصدنّه فإذا صار اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله، فقال: يا أبا الصباح، هذا الفتك، وقد نهى رسول الله’ عن الفتك، يا أبا الصباح، إنّ الإسلام قيد الفتك، ولكن دعه فستكفى بغيرك<([46]).

8ـ روي أنّ علياً× كان جالساً في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال×: >إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه، فوثب القوم ليقتلوه، فقال×: رويداً إنما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب<([47]).

فلو وجب قتل الساب على من سمعه لم يكن لعلي× منعهم عن ذلك.

9ـ عن كثير بن نمر قال: جاء رجل برجل إلى علي× فقال: إني رأيت هؤلاء يتوّعدونك ففرّوا وأخذت هذا، قال×: أفأقتل من لم يقتلني؟، قال: إنه سبّك، قال×: سبّه أو دع<([48]).

10ـ ولما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين× بذي قار كتبت إلى حفصة بنت عمر: >أمّا بعد، فإنّا نزلنا البصرة ونزل علي× بذي قار، والله دق عنقه كدّق البيضة على الصفا، إنه بذي قار بمنزلة الأشقر، إن تقدّم نُحر، وإن تأخّر عقر<.

فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تميم وعدّي وأعطت جواريها دفوفاً وأمرتهنّ أن يضربن بالدفوف ويقلن: >ما الخبر؟ ما الخبر؟ علي كالأشقر، إن تقدّم نحر، وإن تأخّر عقر<([49]).

11ـ وروى أنس بن عياض المدني عن جعفر بن محمد× عن أبيه عن جدّه‘ أنّ علياً× كان يوماً يؤمّ الناس وهو يجهر بالقراءة، فجهر ابن الكواء من خلفه: {ولقد أُوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين}، فلما جهر ابن الكواء من خلفه بها سكت علي× فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي× فأتمّ قراءته، فلما شرع علي× في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية، فسكت علي× فلم يزالا كذلك يسكت هذا ويقرأ ذاك مراراً حتى قرأ علي×: {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون فسكت ابن الكواء وعاد علي× إلى قراءته<([50]).

12ـ لما بلغ علياً× مصاب بني ناجية وقتل صاحبهم قال×: >… ثم جاءني مرّة أُخرى فقال لي: إني خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين الطائي، إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما عليها حتى تقتلهما أو توثقهما فلا يفارقان محبسك أبداً، فقلت: >إني مستشيرك فيهما فماذا تأمرني به؟، قال: إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما فعلمت أنه لا ورع له ولا عقل، فقلت: والله ما أظن أنّ لك ورعاً ولا عقلاً نافعاً، والله كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته ولم يناصبني بالذي كنت أعلمتكه من رأيي، حيث جئتني في المرّة الأُولى ووصفت أصحابك عندي، ولقد كان ينبغي لك لو أردت قتلهم أن تقول لي: اتق الله، لم تستحل قتلهم، ولم يقتلوا أحداً ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك؟!<([51]).

13ـ إنّ الخوارج كانوا من أظهر مصاديق السبابين لعلي× ومع ذلك قال أمير المؤمنين× فيهم: >لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه<، قال الشريف: يعني معاوية وأصحابه([52]).

14ـ وقال أمير المؤمنين×: >أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه! ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي، فأمّا السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكن نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأو امنّي، فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة<([53]).

يستفاد مما ذكرنا أنّ قتل ساب أمير المؤمنين× حكم ولائي بيد الحاكم يأمر به على ما يراه من المصالح، فإنّ أمير المؤمنين× كان ينهى أصحابه نهياً مؤكداً عن التعرض لهم، وبعد استشهاده أمر معاوية بلعن علي× وسبّه، واستمر هذا إلى زمان عمر بن عبد العزيز، وفي عصر الصادقين‘ صار أهل بيت النبي’ محبوبين عند المسلمين، وتمت الحجة عندهم في عدم استحقاق علي× اللعن والسبّ، ومع هذا يوجد أشخاص معاندون يسبونه×، وقد أمر الإمام× بقتل ساب علي× للقضاء على تلك السنة السيئة التي سنّها معاوية.

15ـ عن أبي حمزة عن أبي جعفر× قال: >جاء رجل من أصحاب الحسن× يقال له: سفيان بن ليلى، وهو على راحلة له، فدخل على الحسن× وهو محتب في فناء داره فقال له: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فقال له الحسن×: انزل ولا تعجل، فنزل فعقل راحلته في الدار وأقبل يمشي حتى انتهى إليه، قال: فقال له الحسن×: ما قلت؟ قال: قلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وما علمك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأُمة فخلعته من عنقك وقلّدته هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله، قال: فقال الحسن×: سأُخبرك لم فعلت ذلك…، ما جاء بك؟ قال: حبّك، قال: لله؟ قال: لله، فقال الحسن×: والله لا يحبنّا عبدٌ أبداً ولو كان أسيراً في الديلم إلاّ نفعه حبنّا، وإنّ حبنّا ليساقط الذنوب من بني آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر<([54]).

أليس كلام سفيان من السبّ؟ والعجب أنه مع كلّ ذلك يدعي حبّه، والإمام× لا يكذّبه في دعواه، بل يبشره خيراً، ولم يعدّ ذلك عند علماء الرجال قدحاً في عدالة سفيان، قال المحقق الشوشتري&: >وإذا كان مثل موسى× مع كماله لمّا لم يفهم وجه الحكمة اعترض لا غرو أن يعترض هذا مع نقصه، ولما بيّن له الحسن× وجه الحكمة قبل وسلم فهو سالم، بل يكون بموجب عدّه في حواريه يوم القيامة جليلاً، وقد روى خبر حواريّته الاختصاص، وخبره الآخر، وعدّه البرقي أيضاً في أصحابه× أيضاً<([55]).

كيف لا ينقص توهين سفيان من عدالته ووثاقته شيئاً والإمام× لا يكذّبه في دعوى محبتّه له، بل يبشره خيراً، وأما لو قال ـ والعياذ بالله ـ شخص عن جهالة هذا الكلام في الإمام× وجب قتله على جميع من سمع ذلك منه بفتوى جميع الفقهاء؟.

16ـ قال حجر بن عدي للحسن×: سودت وجوه المؤمنين فقال×: ما كلّ أحد يحبّ ما تحبّ، ولا رأيه كرأيك، وإنما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم<([56]).

17ـ قال حجر بن عدي [في مجلس معاوية مخاطباً الإمام الحسن×]: أما والله، لوددت أنك متّ في ذلك اليوم ومتنا معك، ولم نر هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا، فلمّا خلا به الحسن× قال: >يا حجر، قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كل إنسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاء عليكم…< ([57]).

18ـ >إنّ شامياً رأى الحسن× راكباً فجعل يلعنه، والحسن× لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن× فسلّم عليه وضحك فقال: أيها الشيخ أظنّك غريباً ولعّلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم<([58]).

19ـ أبو محمد الحسن بن محمد عن جدّه عن جعفر بن محمد وغيره قالوا: وقف على عليّ بن الحسين‘ رجل من أهل بيته، فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه، فلما انصرف قال لجلسائه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أُحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه، قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنّا نحبّ أن يقول له ويقول، فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين×، قال فخرج إلينا متوثباً للشرّ وهو لا يشك أنه جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين×: يا أخي، إنك قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك، قال: فقبّل الرجل بين عينيه، وقال: بل قلت ما ليس فيك، وأنا أحقُّ به<([59]).

20 ـ شتم رجل عليّ بن الحسين‘ فقال: >يا فتى إنّ بين أيدينا عقبة كؤوداً، فإن جزتُ منها فلا أُبالي بما تقول، وإن أتحيّر فيها فأنا شرٌّ مما تقول<([60]).

21ـ >سبّ رجل علي بن الحسين‘ فسكت عنه، فقال: إياك أعني، فقال×: وعنك أُغضي<([61]).

22ـ قال الواقدي: >كان هشام بن إسماعيل يؤذي عليَّ بن الحسين× في إمارته، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال: ما أخاف إلاّ من عليّ بن الحسين‘ فمرّ به عليُّ بن الحسين وقد وقف عند دار مروان، وكان عليٌّ قد تقدّم إلى خاصته ألاّ يعرض له أحد منكم بكلمة، فلمّا مرّ ناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالته<.

وزاد ابن فياض في الرواية في كتابه: أنّ زين العابدين أنفذ إليه وقال: انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به، فعندنا ما يسعك فطب نفساً منا ومن كلّ من يطيعنا، فنادى هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالته<([62]).

23ـ شتم بعضهم زين العابدين× فقصده غلمانه، فقال: دعوه فإنّ ما خفي منّا أكثر مما قالوا، ثم قال له: ألك حاجة يا رجل؟ فخجل الرجل فأعطاه ثوبه وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخاً يقول: أشهد أنك ابن رسول الله’< ([63]).

24ـ وانتهى [عليُّ بن الحسين×] إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال لهم: >إنّ كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم<([64]).

المراد من الغيبة هو البهتان والافتراء والقول بما ليس فيه؛ لأنّ كلام الإمام× مشعر بأنه كان بريئاً مما قالوا.

25ـ قال سفيان: جاء رجل إلى عليّ بن الحسين× فقال: إنّ فلاناً قد وقع فيك وآذاك، قال: فانطلق بنا إليه فانطلق معه وهو يرى أنه يستنصر لنفسه، فلّما أتاه قال له: يا هذا، إن كان ما قلت فيّ حقّاً فإنه تعالى يغفر لي، وإن كان ما قلت فيّ باطلاً فالله يغفر لك([65]).

26ـ قال نصراني للإمام الباقر×: أنت بقر؟ قال: لا، أنا باقر، قال: أنت ابن الطباخة؟ قال: ذاك حرفتها، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيّة! ، قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك, قال: فأسلم النصراني<([66]).

27ـ عن محمد بن مرازم، عن أبيه قال: >خرجنا مع أبي عبد الله× حيث خرج من عند أبي جعفر من الحيرة، فخرج ساعة أذن له، وانتهى إلى السالحين في أوّل الليل، فعرض له عاشر كان يكون في السالحين في أول الليل فقال له: لا أدعك تجوز فأبى إباءً وأنا ومصادف معه، فقال له مصادف: جعلت فداك إنما هو كلب قد آذاك وأخاف أن يردّك، وما أدري ما يكون من أبي جعفر وأنا ومرازم؟ أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثم نطرحه في النهر؟ فقال له: كفّ [كيف] يا مصادف، فلم يزل يطلب إليه حتى ذهب من الليل أكثره، فأذن فمضى، فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك قال: إنّ الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير<([67]).

28ـ الحسن بن محمد عن جدّه عن غير واحد من أصحابه ومشايخه أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى× ويسبّه، وإذا رآه يشتم علياً×، فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي وزجرهم، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه، فوجده في مزرعة له فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطّأه× بالحمار حتى وصل إليه ونزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مئة دينار، قال×: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب، قال× له: إنما قلت: كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيء مئتا دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن× صرّة فيها ثلاثمئة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو، قال: فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن× وانصرف قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا له: ما قضيتّك؟ قد كنت تقول غير هذا، قال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن× فخاصموه وخاصمهم، فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: أيما كان خيراً، ما أردتم أم ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شرّه<([68]).

29ـ عن أحمد بن عمر الحلاّل قال: سمعت الأخرس بمكّة يذكر الرضا× فنال منه، قال: دخلت مكة فاشتريت سكيناً فرأيته فقلت: والله لأقتلنّه إذا خرج من المسجد، فأقمت على ذلك فما شعرت إلاّ برقعة أبي الحسن×: >بسم الله الرحمن الرحيم بحقّي عليك لمّا كففت عن الأخرس، فإنّ الله ثقتي وهو حسبي<([69]).

30ـ عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: جلس أبو محمد× عند عليّ بن أوتاش وكان شديد العداوة لآل محمد’ غليظاً على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، قال: فما أقام إلاّ يوماً حتى وضع خدّه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه<([70]).

وهذه الأحاديث بعضها معتبر من جهة السند، على أنه يمكن دعوى تواترها إجمالاً.

 

عقوبة سابّ المعصوم، خلاصة ونتائج

نستنتج مما تقدم:

1ـ جزاء ساب المعصوم× حكم باختيار الحاكم في مقدار المجازاة وكيفيتها، وهو يعمل بمقتضى ما يراه من المصلحة كمّاً وكيفاً.

2ـ كلّ من أمر النبي’ بقتله هو من أئمة الكفر والشرك وصورة الفساد، ويكون فاسداً مفسداً وإبقاؤه كان مضّراً للإسلام والمسلمين.

3ـ لم يصدر من الأئمة الأمر بقتل سابّ المعصوم× إلاّ النبي’ وذلك في عصر الصادق× بعد أن تمت الحجة على كلّ أحد، وأما أمير المؤمنين× فإنّما دلّ الدليل على أنّ سابّه مستحق للقتل، وذلك لا ينافي كونه باختيار الإمام×، وأمّا باقي الأئمة^ فلم نجد دليلاً على جواز قتل سابهّم، بل الأحاديث الكثيرة تدلّ على أنّهم يقابلون من سبّهم بالعفو والرحمة والكرم، وهذا ما جعل عدوهم محبّاً لهم، وكانوا من أكمل مصاديق هذه الآية: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} (فصّلت: 34).

وهذا هو من أعظم مفاخر أئمة الشيعة^ وأكبر معجزاتهم، وهذا هو الذي جعل محبتّهم في قلوب الناس مع كثرة أعدائهم، وهذا هو الذي أدّى إلى بقاء الإسلام والتشيع وتقدّمه بمضي الزمان، كما قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك} (آل عمران: 159).

لا تعجب كيف خفيت هذه الوقائع مع كثرتها على الفقهاء العظام، واستندوا في قتل ساب المعصومين^ إلى الأحاديث وأفتوا بوجوب قتل مطلق الساب في كل زمان ومكان.

الهوامش

([1]) بحار الأنوار 64: 71/39.

([2]) أُصول الكافي 2: 351/3.

([3]) جواهر الكلام 41: 432.

([4]) الفقه الإسلامي وأدلته 7: 5594.

([5]) لسان العرب 6: 137؛ النهاية 2: 330.

([6]) الشيخ الأنصاري، كتاب المكاسب 1: 254.

([7]) مصباح الفقاهة 360:1.

([8]) كنز العمال: 3: 605/8133.

([9]) فروع الكافي: 7: 259/21.

([10]) وسائل الشيعة 18: 459، باب 25 من أبواب حدّ القدف، ح1.

([11]) وسائل الشيعة 18: 459، باب 25 من أبواب حدّ القذف، ح2.

([12]) وسائل الشيعة 18: 460، باب 25 من أبواب حدّ القذف، ح3.

([13]) المصدر المتقدم، ح4.

([14]) سنن أبي داوود 4: 530/4362.

([15]) أُسس الحدود والتعزيرات: 257.

([16]) جواهر الكلام 41: 435.

([17]) تحرير الوسيلة، 2: 477ـ476.

([18]) مباني تكملة المنهاج: 1: 321.

([19]) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 321.

([20]) وسائل الشيعة 18: 261، باب27 من أبواب حد القذف، ح1.

([21]) فروع الكافي 7: 270.

([22]) فروع الكافي 7: 269/43.

([23]) تهذيب الأحكام 10: 86/100.

([24]) وسائل الشيعة 18: 462، باب 27 من أبواب حد القذف، ح2.

([25]) فروع الكافي 7: 269.

([26]) جواهر الكلام 41: 435.

([27]) وسائل الشيعة 18: 462، باب 27 من أبواب حد القذف، ح3.

([28]) تاج العروس 12: 502.

([29]) وسائل الشيعة 18: 463، باب 27 من أبواب حد القذف، ح6.

([30]) وسائل الشيعة 18: 463، باب27 من أبواب حد القذف، ح5.

([31]) بحار الأنوار 76: 321/5.

([32]) قاموس الرجال 9: 135 ـ 138/6489.

([33]) جواهر الكلام 41: 438.

([34]) دراسات في ولاية الفقيه 2: 324.

([35]) المتقدم: 334.

([36]) المتقدم: 331.

([37]) صحيفة نور 4: 79.

([38]) تفسير نور الثقلين 2: 238.

([39]) أصول الكافي 2: 648/1، باب التسليم على أهل الملل.

([40]) السيرة النبوية لابن هشام 4: 139.

([41]) بحار الأنوار 43: 335 ـ 333/5.

([42]) السيرة النبوية لابن هشام 4: 51.

([43]) السيرة الحلبية 3: 82 ـ 81.

([44]) وسائل الشيعة 18: 332، باب20 من أبواب مقدمات الحدود.

([45]) وسائل الشيعة 19: 170، باب22 من أبواب ديات النفس، ح2؛ فروع الكافي 7: 376/17.

([46]) فروع الكافي 7: 357.

([47]) نهج البلاغة لصبحي الصالح: 550، الحكمة 420.

([48]) كنـز العمال 11: 319/31616.

([49]) الجمل: 276.

([50]) بحار الأنوار 33: 344، 41: 48؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد2: 269.

([51]) الغارات1: 372 ـ 371.

([52]) نهج البلاغة لصبحي الصالح: 94، الخطبة 61.

([53]) نهج البلاغة لصبحي الصالح: 92، الخطبة 57.

([54]) بحار الأنوار 44: 24، 23: 7.

([55]) قاموس الرجال 5: 124.

([56]) بحار الأنوار 44: 28 ـ 29.

([57]) المصدر المتقدم: 57.

([58]) بحار الأنوار:43: 344.

([59]) بحار الأنوار 46: 54/1.

([60]) المصدر المتقدم 46: 96.

([61]) المصدر المتقدم 46: 96.

([62]) المصدر المتقدم 46: 96/84.

([63]) المصدر المتقدم 46: 95و99، ح87.

([64]) المصدر المتقدم 46: 96.

([65]) بحار الأنوار 46: 98/86.

([66]) المصدر المتقدم 46: 289/12.

([67]) وسائل الشيعة 18: 462 ـ 463، باب 27 من أبواب حد القذف، ح4.

([68]) بحار الأنوار 48: 103 ـ 102/7.

([69]) بحار الأنوار 49: 274/22.

([70]) المصدر المتقدم 50: 307/4.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً