أحدث المقالات
المقدمة

يمثل ما يجري اليوم في حوزاتنا العلمية من البحث عن دور الزمان والمكان في الاجتهاد نهضةً علمية تتعطّش إلى إثبات أنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وأنّه يبقى ثابتاً لا تحرّكه تيّارات الشكوك، ولا تُعجزه الظواهر المعقّدة في الحياة البشريّة، ولا تُخضعه تقلّبات قضايا المجتمع الإنساني.

والذي شقّ طريق هذه النهضة العلمية المباركة هو الإمام الخميني P؛ إذ قام في هذا المجال بتأسيس نظريّة علميّة، ترى أنّ موضوع الحكم يتغيّر بتبدّل الزمان والمكان، وهي نظريّة تتّسم بما يلي:

أوّلاً: إنّ لها جذوراً في مدرسة أهل البيت %.

ثانياً: إنّها تقوم على دعائم تستقرّ في أعماق الفكر الأصولي لدى الإماميّة.

ثالثاً: إنّها تُعتبَر ــ بحقًّ ــ مفتاح العلاج العلمي لما يستجدّ من القضايا في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولذلك ارتأينا في هذا المقال، أن نتصدّى لتحليل هذه النظرية واستعراض بعض الجوانب العلمية المتعلّقة بها، مما يتمّ في ضوئه تبيين سمات النظرية وإثبات صحّتها.

يقول الإمام الخميني: <إنّ لعنصري الزمان والمكان دوراً حاسماً في الاجتهاد؛ فالمسألة التي كان لها سابقاً حكم خاص يُصبح لها حكمٌ جديد فيما لو وقع في ظلّ مجموعة من العلاقات الحاكمة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أنّه بالمعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يعلم أنّ الموضوع الحالي ــ الذي يبدو وكأنّه لا يختلف عن الموضوع الأول ــ هو موضوعٌ آخر، وتبعاً لذلك فهو يتطلّب حكماً جديداً>([1]).

تحليل نظرية الدور الزمكاني في الاجتهاد

نحلّل هذه النظريّة باستعراض بعض النقاط:

أولاً: موقف النظريّة من المنهج الاجتهادي

ما هو موقف هذه النظرية من المنهج الاجتهادي السائد في الحوزات العلمية، وهو ما نعرفه عبر مفاصل:

1 ــ المنهج الاجتهادي السائد، الاتجاهات منه والمواقف

كلّ حركةٍ تدعو للتجديد لا يخرج موقفها إزاء المنهج الاجتهادي الذي يسود الآن الحوزات العلمية عن ثلاثة:

الأول: رفض المنهج الاجتهادي السائد واقتراح إحلال منهج جديد مكانه.

الثاني: الدعوة إلى عقد تركيب بين المنهج الاجتهادي والمنهج الجديد، يحدّد إطاره العلمُ والتجربة البشرية.

الثالث: القيام بتطوير المنهج الاجتهادي السائد، بإضافة قاعدة أو قواعد إليه تتناسق مع أسسه وأطره.

ويشترك الموقف الثاني ــ أي الذي يتمّ فيه عقد تركيب بين القديم والجديد ــ مع كلّ من الأول والثالث في موارد، كما يختلف عنهما في أخرى.

2 ــ موارد الاشتراك والافتراق بين الموقف التجديدي والتركيبي

أ ــ يشترك الموقفان في الاشتمال على عنصر رفض المنهج الاجتهادي، غير أنّ الرفض في الأول يتمّ بصورة كاملة، كالمنهج الذي تبنّاه بعض المستغربين أو المنافقين في إيران، بينما يتمّ الرفض في الثاني بالنسبة إلى عناصر خاصّة من المنهج الاجتهادي، وفقط كنتيجة تستدعيها عملية التلفيق بين القديم والجديد؛ وكمثال على الرفض الذي يتمّ في الموقف الثاني، ما اقترحه أحد كتّاب أهل السّنة من أن نوسّع دائرة الإجماع ــ الذي يعدّ عنصراً من عناصر المنهج الاجتهادي ــ بصورةٍ تجعله ينطبق على التصويت الذي يتمّ من قبل عامّة الناس، حتى يصبح هذا الإجماع مصدراً في مجال السياسة والحكومة؛ لإنشاء الحكم الذي يجب أن ينزل عليه كل المسلمين([2]).

ب ــ يشترك الموقفان في تبنّي لزوم الرجوع إلى العلم والتجربة لتأسيس منهج جديد، غير أنّ هذا المنهج يكون في الثاني تركيباً من المنهج السابق وما يضاف إليه.

3 ــ موارد الاشتراك والافتراق بين الموقف التركيبي والتطويري

أ ــ يتبنّى الموقفان ــ الثاني والثالث ــ عدم كفاية الاجتهاد الدارج في الحوزات.

ب ــ يتبنّيان معاً ضرورة إضافة شيءٍ إلى المنهج الاجتهادي؛ ليتدارك به بعض ما فقده في مواجهة بعض الأحداث، غير أنّ الموقف الثاني يدعو إلى أن يكون ما يضاف عناصرَ تتكوّن على ضوء العلم والتجربة، بينما يدعو الثالث إلى أن يكون المضاف مأخوذاً من الأسس والمواد عينها التي أخذت منها العناصر والقواعد في المنهج التقليدي، ففي الحقيقة يؤدي الموقف الثاني إلى إضافة العلم والتجربة بوصفهما مصدرين جديدين إلى مصادر الاجتهاد المعروفة، فيما يحافظ الموقف الثالث على هذه المصادر، ولا يضيف إليها أيّ جديد.

4 ــ دعوة الإمام الخميني للحفاظ على المنهج التقليدي

لم تستهدف نظرية الإمام الخميني إعطاء طريقة تستبطن شيئاً من رفض المنهج التقليدي، بل نجده يصرّ على حفظ هذا المنهج، حيث يقول: <يجب عليكم السعي لحفظ الفقه التقليدي الذي هو تراث السلف الصالح>([3])، بل يصل في مبلغ حرصه على هذا المنهج إلى حدّ يجعل الخروج عنه سبباً لضعف أركان التحقيق والتدقيق([4]).

ولو وقفنا عند هذا الكلام وقفة تأمّل لوجدنا أنّه ) كان يريد الإشارة إلى أنّ الخروج عن الفقه التقليدي يؤدّي إلى انهيار صرح الفقاهة، باعتبار أن هذا الصرح الشامخ لا يقوم إلا على أساس التحقيق والتدقيق وما لهما من أركان؛ تلك الأركان التي جرى الفقه الجواهري ــ أي الاجتهادي على طريقة صاحب الجواهر ــ على أساسها.

والحقيقة، إنّ هذا التركيز الشديد على حفظ التدقيق الفقهي يمثل امتداداً لتركيز الفقهاء على أن يكون همّهم الأول استعمال الدقّة للاجتناب عن الوقوع في مغبّة فقه جديد؛ إذ نجد أنّهم كانوا يصفون كلّ رأي لم يتمّ على أساس الدقة المعهودة بينهم بأنه فقه جديد؛ ومن هنا يُعلم أنّ الإمام الخميني لم تكن دعوته إلى التجديد قائمةً على انتهاج أحد الموقفين: الأول والثاني، إذ إنّهما يستلزمان رفض المنهج الاجتهادي، إما كلّه، كما في الأول، أو بعضه كما في الثاني.

من هذا المنطلق، لا يرى الإمام الخميني أيّة قيمة للمحاولات التي تستهدف الوصول إلى أحكام الإسلام دون الركون إلى الاجتهاد، بل يعتبرها أعمالاً قد تجعل من يمارسها مسانداً للرأسمالية أو المدارس المنحرفة الأخرى([5]).

5 ــ حراكية الفقه التقليديّ عند الإمام الخميني

ثمّة نصّان دالان للإمام الخميني هنا هما:

أ ــ إنّ الاجتهاد المصطلح لا يكفي لإدارة المجتمع([6]).

ب ــ إنّني أؤمن بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري، ولا أرى جواز مخالفته، فالاجتهاد يصحّ بذلك الأسلوب، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ الفقه الإسلامي ليس مرناً متحركاً بذاته([7]).

وبضمّ هذين النصّين إلى بعضهما تُعلَم صحّة ما ادّعيناه من أنّه  ) كان يدعو إلى ما يتضمّنه الموقف الثالث؛ إذ يقوم هذا الموقف على عنصرين:

الأوّل: إنّ الاجتهاد السائد في الحوزات العلمية لا يكفي لحلّ المسائل المستجدّة.

الثاني: يجب إضافةُ شيء إلى هذا المنهج يُستمدّ من العناصر نفسها التي كان أخذ منها.

فنظريّة تغيّر موضوع الحكم بتبدّل الزمان والمكان جاءت لكي تضيف إلى المنهج التقليدي قاعدةً تنسجم مع أركانه، أمّا ماذا تعني هذه القاعدة؟ وكيف تنسجم مع المنهج التقليدي؟ فهو ما سندرسه قريباً، إن شاء الله تعالى.

ثانياً: انسجام النظريّة مع أركان المنهج التقليدي

تقوم أسس المنهج التقليدي على ما يلي:

1 ــ خلود الشريعة الإسلاميّة

من المعلوم أنّ المجتهد لولا إيمانه بهذا المبدأ لما بذل جهده في سبيل فهم النصوص لأخذ الأحكام منها، ولو فقد يوماً إيمانه هذا لما اجتهد بعد ذلك أصلاً، وهذا يكفي ليجعلنا نُذعن بأنّ هذا الإيمان ذو دور فاعل في خلق مناخ الاجتهاد التقليدي.

وهذا المبدأ تبنّته نظريّة تغيّر الموضوعات بجدّية، بل هو يشكّل في الواقع فلسفة تأسيس هذه النظرية؛ حيث هدفها المنشود أن تعكس مظاهر خلود الشريعة الإسلاميّة، يقول الإمام الخميني ) مخاطباً بعض المجتهدين: <إنكم في نفس الوقت الذي يجب أن تسعوا فيه للحيلولة دون ارتكاب ما يخالف الشرع، ابذلوا تمام جهدكم كي لا يتّهم الإسلام بالعجز عن إدارة العالم في المجالات الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعية والعسكريّة المعقّدة>([8]).

2 ــ مرجعية الشريعة في النوازل والوقائع المستجدّة

كلمة القضايا المستجدّة عنوان لا يختلف مفهومه بحسب اختلاف العصور، لكن تختلف مصاديقه باختلافها، فلكلّ عصر مصاديق خاصّة من القضايا المستجدّة، وعليه لا تصرّ نظريّة تغيّر الموضوعات على أكثر من دعوى أنّ معظم قضايا هذا العصر قضايا معقّدة، تختلف عن قضايا العصور السابقة، وأنه يجب السّعي لاكتشاف أحكامها في الإسلام، وأنّ ذلك يتطلّب سعياً خاصاً واستعداداً مضاعفاً؛ يقول الإمام الخميني ): <على المجتهد أن يحيط بمسائل زمانه علماً>([9]).

3 ــ الاجتهاد عبر القواعد المؤيدة من الشرع والعقل والعرف

سبّب هذا المبدأ نشوء علم الأصول، باعتباره علماً يتكفّل إعطاء هذه القواعد، وإنّ نظرية تغيّر الموضوع لم تذهب باتّجاه رفض هذا المبدأ، بل قامت على أساسه، فنشأت ضمن النطاق الأصولي، غير أنّها أضافت إلى تلك القواعد قاعدةً أخرى ليست بمعزل عن سائر القواعد الأصولية، وهي أنّ العلاقات البشرية في مجالاتها كافة قد تتغيّر موضوعياً في ظلّ التطور الزمني لتغدو موضوعاً جديداً للحكم الشرعي.

وهذه الإضافة لا ضير فيها، مادامت منسجمةً مع التفكير الأصولي، أي أنّها لا تحوي مشكلةً علمية في ذاتها بما هي إضافة؛ يقول الإمام الخميني ) ــ مخاطباً الحوزات العلمية ــ : <يجب أن يسعوا (المجتهدون) إلى أن تتعمّق يوماً بعد يوم روح الدقّة والبحث والنظر والابتكار، وأن تضاف البحوث إلى البحوث>([10]).

وهذه الإضافة قد تصبح ضرورةً مؤكّدة يجب السعي إليها، وذلك في مثل مسألة حلّ المعضلات المستجدّة، حيث يؤول المنهج الاجتهادي لما وضعه العلماء على ضوء الشرع والعقل والعرف، ومعلوم أنّهم لم يضعوا إلا ما كانوا يحتاجونه في الاستنباط المتناسب مع قضايا عصرهم، وحيث تجدّدت اليوم قضايا معقّدة، كان على المجتهد ــ انطلاقاً من ذلك الارتكاز القائل بلزوم الاجتهاد ــ أن يفتّش عن سبيل  يتلاءم مع المنهج الاجتهادي؛ بغية استنباط أحكام هذه القضايا الجديدة.

والذي يهمّنا، أن نرى هل تنسجم النظرية مع التفكير الأصولي أم لا؟ أي هل لها جذور في علم الأصول أم لا؟ وكذلك هل يمكن إثباتها أم لا؟

ثالثاً: جذور نظرية الدور الزمكاني في أصول الفقه

نقصد بالجذور الفكرية الأصولية للنظرية تلك المرتكزات والأفكار الأصولية التي لولاها لما قامت النظريّة نفسها، وهذه الجذور لو ثبت وجودها يثبت أنّ هذه النظرية لم تكن بمعزلٍ عن التفكير الأصوليّ، وهذه الجذور هي:

1 ــ عدم خلوّ الواقعة من الحكم: وهذا مبدأ يقبله الأصوليّون؛ وسرّ جعلنا ذلك من مرتكزات النظريّة أنّها تفترض أنّ الموضوع إذا تبدّل فله حكمٌ لا محالة في الإسلام، ومعلوم أنّه لولا مبدأ عدم خلوّ الواقعة من الحكم لا يستقيم الاعتقاد بوجود حكم شرعيّ للموضوع بعد تغيّره في ظلّ تبدّل الزمان أو المكان.

2 ــ عدم جواز تعميم حكم الموضوع إلى موضوع آخر إلا بدليل: وهذا مبدأ يتّفق عليه السنّة والإمامية، وإن كان بينهما اختلاف في سعة وضيق دائرة التعميم المقبول؛ تبعاً لاختلافهم حول أدلة التعميم؛ فأهل السنّة يرون القياس معتبراً في الشرع، فذهبوا ــ لذلك ــ إلى دائرة أوسع للتعميم، بينما لا يقبل الإماميّة بذلك إلاّ في بعض الموارد، مثل ما نصّ فيه على العلّة أو أحرز فيه مناط الحكم.

والسرّ في اعتبار هذا المبدأ من مرتكزات هذه النظريّة أنّه مع فرض تبدّل الموضوع بحسب تغيّر الزمان أو المكان إلى موضوع آخر، فلا يمكننا تعميم حكم ما قبل التبدّل إلى ما بعده.

3 ــ صلاحية الموضوع لكي يكن موطناً للتدقيقات الأصولية: لقد فطن الأصوليون من خلال دراساتهم إلى أنّ الموضوع ميدانٌ رحب لتجول فيه الآراء وتُعمَل فيه التدقيقات الأصولية، وأرض خصبة تنمو فيها النظريات التي قد تنبثق منها الإبداعات الأصولية، والكثير من الروائع الأصولية نشأت في ظلّ البحث في الموضوع، وفي ظلّ هذه العناية بالموضوع اندفع الإمام الخميني للتركيز عليه، ممّا أمكنه من طرح هذه النظرية.

4 ــ اتّجاه الشارع إلى تكثير الموضوعات: إنّ معرفتنا بالإسلام تهدينا إلى أنّه قد يحسب لعروض حالة في موضوع أو زوالها عنه حساباً جديّاً، بحيث قد يتكوّن من جرّاء هذا العروض أو الزّوال موضوعٌ شرعي؛ ولذا توجد في الإسلام فروع كثيرة، ولا يخفى أنّ ذلك ينفع في تقريب الأذهان إلى وجود موضوعات كثيرة في الإسلام، فلا يمكن أن نحكم على أساس ذلك بعد كلّ عروض أو زوال بتكوّن موضوع ما، أي تنفع في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات. وهذه الحقيقة سادت الفكر الأصولي ممّا جعله يميل إلى أن يعتبر للأشياء والوقائع حدوداً يتميّز بها بعضها عن بعض.

وقد نشأت هذه الفكرة في ظلّ مدرسة أهل البيت E؛ إذ كانوا يصرّون على إبداء هذه الحقيقة، لكي يتبيّن بطلان القياس الذي يتطلّب نفي حدود يقينية للأشياء، وإثبات حدود ظنّية لها، وكمثال على ذلك، الرواية الواردة عن الإمام الصادق %: <ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدّ كحدود داري هذه، ما كان منها من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة>([11]).

5 ــ انقلاب الموضوع: والمثال المعروف لانقلاب الموضوع هو انقلاب الخمر خلاًّ، ولم يختلف أحدٌ في أنّ حكم الموضوع بعد الانقلاب مغاير لحكمه قبله؛ لأنّ الانقلاب يجعله موضوعاً جديداً، وقد لعبت هذه المسألة دوراً مهماً في خلق مناخ مساعد على تأسيس نظرية الزمان والمكان، بل يمكن القول: إن نظريّة تغيّر الموضوع تعدّ في الحقيقة تعليقاً على قضيّة انقلاب الموضوع المسلّم بها، بمعنى أنّ النظريّة تقول: إن تبدّل الموضوع لا ينحصر بهذا المورد (انقلاب الموضوع) بل يمكن أن يتمّ بصورة أخرى، وهي تبدّله في ظلّ تغيّر الزمان والمكان.

هذه جملة من الأفكار الأصولية التي هيّأت الأرضيّة الأصولية للإمام الخميني لتأسيس نظريّته هنا.

رابعاً: نظرية الدور الزمكاني في الاجتهاد، الأدلّة والشواهد

1 ــ إثبات النظرية على أساس تنقيح المناط

إن شدّة تأثير الزمان والمكان في إيجاد آثار مستحدثة لموضوعٍ ما قد يجعل الفقيه يحرز أنّه حدث في الموضوع مناطٌ آخر للحكم؛ فإنّ التطوّرات الزمنية قد تعطي للموضوع ــ لشدّة عمقها ــ آثاراً جديدة، تتبلور في نوعيّة التعامل الذي يحصل بينه وبين سائر الموضوعات، ولو ألقينا نظرةً معمّقة إلى الظواهر الاجتماعية لوجدنا أن هناك الكثير من الموضوعات كانت لها آثار حسنة وبنّاءة في الماضي، فجاء الشارع لها بأحكام متناسبة معها من الحلّ والجواز، غير أنّ هذه الموضوعات أصبحت الآن ذات آثارٍ سيّئة في بعض جوانبها؛ فالفقيه الفطن والعالم بأمور الزمان لا يسمح لنفسه أن يُغمض عينيه عن تلك الآثار السيّئة، التي قد تؤدّي إلى محق الروح الدينيّة أو الإضرار باقتصاد المجتمع أو أهدافه السياسيّة.

فالملكية ــ مثلاً ــ كانت لها أحكام في الإسلام، وقد أصبحت لها الآن آثار جديدة، بلغت في اتّساع دائرتها حدّ الرأسمالية، تلك الآثار التي تشكّل أعظم وأوسع خطر على الإنسانية، وعلى تطبيق الأحكام الشرعية وتحقيق أهدافها السامية؛ فهنا ــ أي إذا ما بلغت الملكية حدّ الرأسمالية ــ لا يمكن القول بأنّ مناط الحكم لم يتغيّر، دون أن يعني هذا أن نحكم بصورة مطلقة على أنّ الملكية بكلّ مراتبها في هذا الزمان أصبحت موضوعاً جديداً، بل البالغ منها حدّاً يتغيّر المناط فيه هو الموضوع الجديد.

الدليل الشرعي بين العنوان والمعنون

لو قيل: كيف يمكن الركون إلى ذلك مع أنّا نجد حكماً لعنوان الموضوع في لسان الدليل الشرعي؟ فإذا لم يتغيّر هذا العنوان ــ والمفروض أنّه لم يتغيّر، إذ الواقع هو الذي يتغيّر حسب النظريّة ــ فعلم الأصول يرشدنا إلى الأخذ بإطلاقه والحكم بعدم تبدلّه.

وفي الإجابة نقول: صحيح أنّ الأصوليين يعتنون بعنوان الموضوع وإطلاقه وعمومه، غير أنّ هناك أصلاً اتفقوا عليه، وهو أنّه ينبغي أن لا يُعتني بالحدود الظاهرية الثابتة لما جعل في دليل شرعي موضوعاً للحكم، وهو إنما يكون فيما لو أحرز أنّ الحكم قد رُتّب على هذا الموضوع بلحاظ وجود مناط خاص فيه، وهذا ما يعبّر عنه بتنقيح المناط، ومعنى عدم الاعتناء بالحدود الظاهرية للموضوع أنّ الموضوع في الواقع هو هذا المناط مع ما له من حدود، ولذا لو وجد هذا المناط في مورد آخر يحكم له بذلك الحكم استناداً إلى الدليل عينه.

وتجدر هنا الإشارة إلى أمرين:

الأوّل: لا ينبغي أن يُتصوَّر أنّ تنقيح المناط لا يمكن أن نجعل لَه هذا الدور الأساس الواسع النطاق، مع أنّ الأصوليين قلّما يتفق أن يُعملوه، إذ إنّ سرّ ضيق دائرة إعماله في الماضي كان يكمن في ضيق مجاله، بيد أنّ مجاله أصبح الآن متّسعاً في ظلّ التطورات الزمنية، فيجب إعمالُه وتنشيطه وإحياؤه بصورة تتناسب مع الظروف الراهنة.

الثاني: إنّ الحكم بتبدّل الموضوع ليس أمراً يتسامح فيه، بل يدور مدار إحراز حدوث مناط جديد فيه؛ من هنا فالحكم بالتبدل يعدّ جزءاً من عمليه الاجتهاد، فلا يجوز لأيّ كان القيام به.

2 ــ لزوم محاولة معرفة الموضوع

لم يكن المجتهد سابقاً مجبوراً على بذل جهد لمعرفة الموضوعات؛ أما نظرية تبدل الموضوع فتحكم بأنّ المجتهد لابدّ أن يجهد جهدين: جهدٌ يبذله في سبيل معرفة الحكم، وجهدٌ آخر في سبيل معرفة الموضوع؛ إذ لو لم يكن يعرف الموضوع، كيف بإمكانه إحراز تغيّر المناط فيه؟

3 ــ احتياج الاجتهاد إلى العلوم البشرية

إنّ عملية الاجتهاد اليوم بحاجة إلى بعض العلوم الحديثة لمعرفة الموضوعات، وليس معنى ذلك لزوم أن يكون المجتهد عالماً بهذه العلوم، بل يمكنه التشاور مع الأخصائيين فيها، لكنّ الحكم بعد هذا التشاور في أن المناط هل تغيّر في الموضوع أم لا؟ يختصّ بالمجتهد نفسه، وغنيّ عن البيان أنّ الاحتياج إلى بعض العلوم في عملية الاجتهاد لا يعني أن هذه العلوم تدخل عملية الاستنباط؛ فهي لا تخضع للعلوم ومقتضياتها أصلاً، بل الحاجة إليها تأتي ــ كما قلنا ــ في إطار معرفة الموضوع فحسب، إذاً فقد تلعب هذه العلوم الدورَ الذي يلعبه العُرف.

خامساً: النظرية ومشكلة الثبات والتغيّر

والبحث هنا يتمّ عبر نقاط:

1 ــ تحديد مجالات المتغيّر والثابت

لابدّ لكل نظرية تستهدف إثبات المرونة في الإسلام أن تحسب للتغيّر حساباً إلى جانب الثبات؛ بمعنى أن ترفع اليد عن الثوابت لصالح المتغيّرات في بعض المجالات، غير أنّ تحديد هذه المجالات يظل هو النقطة الحسّاسة في تأسيس النظريّة، إذ قد يغيب عمّن يمارس عملية التنظير العلمُ بالحدود الواقعية لكل من الثبات والتغيّر، بحيث قد يجعل الثابت في مجال المتغير والمتغير في مجال الثابت، أو قد يوسّع أو يضيّق دائرة كل منهما أكثر ممّا يستحق، أو قد لا يصل إلى معرفة كيفية جعل الإسلام المتغيّرات تحت سيطرة الثوابت.

والنظريات التي تقع فيها مثل هذه الأخطاء تترك آثاراً سيئة جداً على الفهم الإسلامي؛ فمثلاً توسعة دائرة المتغيرات أكثر ممّا لها يمكن أن تنتهي إلى ما يجعل جوهر الدين في معرض الزوال، أو يجعله خاضعاً للتطوّرات، كما أن تضييق دائرتها يمكن أن يجمّد الدين عن الحركة، ويمنعه عن مواكبة المسيرة الإنسانية.

2 ــ المعرفة بالتطوّرات الزمكانية الحادثة

ينبغي أن لا يفسح المجال في تأسيس مثل هذه النظريات إلاّ لمن له معرفة بالتطورات الزمنيّة التي أحدثها العلم والتجربة البشرية، وإلا فإن العالم الذي لا يُعير اهتماماً لتغيّر الزمن والأحداث والظروف لا ينقدح في ذهنه البحثُ عن مسألة الثابت والمتغيّر، ولو واجه بحثاً كهذا لا ينظر إليه بعين الاعتبار، كما أنّ من يسعى لتأسيس نظرية من هذا النوع ليس محميّاً من تحكيم مقولاته المسبقة التي أخذها من العلم والتجربة، كما وقع ذلك لكثير من الباحثين.

ولذلك فإن الخطر الذي يسمّيه الشهيد الصدر ): خطر العنصر الذاتي الذي يحفّ عملية الاكتشاف، يبدو أنّه خطر جدّي، ذلك الخطر الذي يعني <إن أضاف الممارس خلال عملية الاكتشاف شيئاً من ذاته، وساهم في العطاء فإنّ البحث يفقد أمانته الموضوعية وطابعه الاكتشافي الحقيقي>([12]).

3 ــ مجالات الثبات والتغير

والذي بإمكانه أن يمنع من تسرّب هذا الخطر إلى النظريّة هو تقيّد من يمارس عملية الاكتشاف بضوابط وحدود المنهج الاجتهادي الأصولي، فمن ليست له معرفة أو إلمام بمعالم أو خطوط هذا المنهج سيقع في انحراف كبير خلال ممارسته لعملية الاكتشاف هذه، إنّ موطن المتغيّر ــ حسب نظريّة تبدل الموضوع ــ عبارة عن موضوع الحكم المتأثر بالزمان، وعليه يكون للثبات مجالات ثلاثة، كما للتغير مجالين.

أما الثبات، فمجاله ما يلي:

أ ــ الحكم: لا مجال للتغيّر والتبدل في الحكم الشرعي في أيّ زمان أو مكان، وبما أنّ النظرية لا تعتبر الحكم متغيّراً فهي تتّسم بميزة مهمة، وهي عدم تنافيها مع الحديث القائل: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة؛ إذ إنّها لا تعتبر للزمان والمكان حقّاً في تغيير الحكم حتى تكون ــ من ناحية ــ داعيةً إلى التشريع، بل تعتبر لهما الحقّ في تغيير الموضوعات، وهذا شيء خارج عن التشريع، كما أنّها ــ من ناحية أخرى ــ لا تقول بعدم وفاء الإسلام بمتطلبات العصر، بل ترى النظام التشريعي الإسلامي متمكّناً من مواكبة الأعصار.

يقول الإمام الخميني ): <إنّ القوانين الإسلامية تصلح ــ بصورةٍ دائمية ــ للتطبيق على كلّ الظروف الزمانية والمكانية، فليس هناك حكم إسلامي يكون مفيداً في زمان ومضراً في زمان آخر، نعم في بعض الأزمنة لا يتحقّق موضوع حكمٍ ما فيؤدي إلى أن يترك ذلك الحكم>([13]).

ب ــ الموضوعات الثابتة على كلّ حال: مثل موضوعات الحدود الشرعية، أو الكثير من الموضوعات الأخلاقيّة.

ج ــ الموضوعات القابلة للتبدل إلى غيرها بحسب تغيّر الزمان أو المكان، غير أنّها لم تقع بعدُ في ظروفٍ تجعلها عرضةً للتأثر بأحدهما، وهذا معناه أن صرف القابلية للتأثر بالزمان أو المكان لا يكفي للحكم بتبدّل الموضوع، بل يجب إحراز أنّ هذا التأثر قد تمّ بالنسبة إلى هذا الموضوع.

أمّا التغير، فمجاله:

أولاً: انقلاب الموضوع من حالة إلى حالة أخرى، والتغيير الذي يتمّ هنا يكون في كلّ من الظاهر والواقع، كانقلاب الخمر خلاً، ويتفق جميع العلماء هنا على أنّ الموضوع يصبح بالانقلاب جديداً، فيلحقه حكم آخر، وهذا القسم من التغيير خارج عمّا كانت النظرية بصدده.

ثانياً: حصول حالة التفاعل لموضوع ما مع الموضوعات الأخرى في ظلّ مجموعة من العلاقات، وهذا هو الذي كانت النظرية بصدد بيانه وإثباته، والتغيير الذي يتمّ هنا يحصل في الواقع وإن لم يُرَ في الظاهر.

يقول الإمام الخميني ): <إنّ الموضوع (الواقع في ظلّ العلاقات الجديدة) يبدو أنه نفس الموضوع الأول ظاهراً، مع أنه موضوع جديد>([14]).

إنّ نظرية تبدّل الموضوع ــ ومن خلال تناولها هذا القسم من التغيير في الموضوع ــ تمكّنت من إدراج كل ما يمكن أن يحصل في ظلّ حركة الزمن أو تغير المكان من التطوّر في هذه المنطقة ــ أي منطقة الموضوع ــ فبحسب هذه النظرية يستوعب الفقه أيّ تطور أو تغير، ويتصدّى لبيان حكمه؛ فهي تملي على الفقيه أن لا يتردّد أمام أيّ تطور وأن يبحث في الشريعة الإسلامية عن حكم كل موضوع يظهر إلى ساحة الواقع المعاش.

على عاتق الحوزات العلمية القيام بـ: 1 ــ إدراج هذه النظرية في عداد المسائل الأصولية، واختيار موضع مناسب لها. 2 ــ تأسيس فروع لها. 3 ــ وتعميق الاستدلال في إثباتها.

*     *     *

الهوامش



(*) أستاذ في الحوزة العلميّة، ومسؤول قسم الفقه والأصول في مكتب الإعلام الإسلامي في مدينة قم الإيرانية، من إيران.



([1]) صحيفة النور 21: 98.

([2]) انظر: مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية 1: 43 ـ 42.

([3]) الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني: 22.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) المصدر نفسه: 34.

([6]) صحيفة النور 21: 100.

([7]) المصدر نفسه: 98.

([8]) المصدر نفسه 31: 61.

([9]) المصدر نفسه 21: 98

([10]) الوصية السياسية الإلهية: 22.

([11]) بحار الأنوار 2: 170.

([12]) اقتصادنا: 43، 44.

([13]) صحيفة النور 3: 2.

([14]) المصدر نفسه 21: 98.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً