أحدث المقالات

مطالعة في تفكيك المفاهيم ورفع الالتباسات

 

أ. سعيد غفارزاده(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

 

مقدمة ــــــ

إنّ الذي أثار دهشتي في هذه الكلمة هو أنّ هذه الشخصية المحترمة قد حشرت أسمى معارف الوجود في حدود داخلية ضيّقة (شيعية)، وذلك في أدنى مستوياتها، من قبيل: رمي الرسائل في البئر الكذائي. وقد عمدت هذه الشخصية إلى خلط مباحث من قبيل: الرسالة، والوصاية، والولاية، والإمامة، والعصمة، والخاتمية، والمهدوية، بشكل من الأشكال، وتوصَّلت إلى استنتاجات معيّنة.

وفي ما يلي سأقدم إلى القارئ الكريم ما في حوزتي من فهم هذه البحوث في عبارات مختصرة قدر الإمكان، ربما ساعدت في علاج هذا الخلط، وربما أمكن لها أن ترمِّم شيئاً قليلاً من معارف الوجود التي جعلناها من جملة معتقدات الشيعة، وقمنا بعد ذلك بمهاجمتها باسم التجديد، ولكي تكون علاجاً لتعزيز إيمان شباب الوطن المعلَّق بشعرة، ويسعى إلى التشبُّث بكل ذريعة لينكر كلّ شيء.

 

1ـ الرسالة ــــــ

1ـ نعلم يقيناً أنّ الرسالة منصب رباني، وأنّ الله تبارك وتعالى قد اختار بعلمه وحكمته رجالاً لإبلاغ رسالاته.

2ـ ونعلم أيضاً أنّ الآمر إذا كان عالماً وحكيماً تعيّن عليه لإنجاز المهمة على أحسن وجه أن يختار شخصاً يتوفر على خصائص تتناسب والمهمة التي أرسل للقيام بأعبائها. فمثلاً: إذا أردنا أن نختار عميداً للجامعة الطبية وجب علينا اختيار طبيب مدير ومدبّر لهذا المنصب، ولا يمكننا أن نأتي بشخص أمّي لهذه المهمة، بل لا يمكن لنا أن نختار لهذه المهمة خبيراً في الهندسة الإلكترونية. وإنّ مثل هذه الصفات أمور اكتسابية. ونعلم أيضاً أنه كلما كانت المسؤولية أكبر وأهم وأشمل وجب أن تكون خصائص وصفات وكفاءات ذلك الشخص بدورها أهمّ وأشمل. إلا أنّ السؤال المهم: هل يختصّ هذا المنصب بشخص أو أشخاص بعينهم؟ والجواب: لا. فإذا كان المنصب اكتسابياً أمكن لكل شخص أن يتسنَّمه. ولكن علينا أن لا ننسى أنّ هناك اختلافاً كبيراً بين الناس في قابلياتهم لكسب هذا المقام. ففي الوقت الذي تفتح فيه المجالات والفرص في البلاد لكلّ شخص في الوصول لأعلى المراتب العلمية والطبية، فإننا لا نجد على الصعيد العملي إلا نسبة قليلة من أفراد الشعب يصلون إلى هذه المراتب العلمية. وليس ذلك إلا مقام الإنسانية الذي أودعه الله في الإنسان بالقوّة فاستحق بذلك أن يكون خليفة الله في أرضه، ولا يمكن لهم بلوغ ذلك والوصول إلى مرحلة الفعلية إلا بجدهم وسعيهم.

3ـ بالالتفات إلى الفقرة السابقة فإنّ الله العليم والحكيم ينتخب لرسالته في هداية الناس من بين أولئك الذين يتمتعون بأعلى وأسمى الفضائل الإنسانية، وعلى الخصوص آخرهم وخاتمهم. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ و﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾. ولم يعيّن فترة زمنية محددة لرسالة النبي الأكرم|، مع علمه المطلق بهذه الحقيقة، وهي أنّ كافة الناس في حياتهم طوال التاريخ بعد النبي سيواجهون مسائل معقدة ومهمة للغاية. ويجب أن يكون ذلك العلم بالمستوى الذي لا يرقى إليه أي إنسان آخر، وإلا كان ذلك الإنسان الآخر أولى بالاضطلاع بتلك المسؤولية. وإنّ هذا المستوى العلمي هو الذي يعبّر عنه في المصطلح الديني بـ (الولاية). إنّ تخصيص هذا اللفظ ـ خلافاً للفهم المتبادر إلى الأذهان ـ بسبب مفهومه المشتق من (وَ لَ يَ)، بمعنى القرب الكامل. وعليه فإنّ أساس الرسالة هي الولاية، ولكن علينا أن لا ننسى أنّ كلّ رسول هو وليّ أيضاً. ولكن يمكننا أن ندرك بوضوح أنه من الممكن جدّاً أن يصل بعض الناس إلى مقام الولاية ولا يكونون من الأنبياء والرسل. وإنّ هؤلاء الأولياء كلما اتفق أن عاصروا نبياً كانوا في طاعة ذلك النبي بشكل مطلق. ومثال ذلك: إنه كلما ترأس طبيب جامعة طبية من قبل الوزارة المعنية خضع سائر الأطباء لرئاسته، وإن كانوا في نفس مستواه العلمي.

2ـ الوصاية ــــــ

1ـ نعلم أنّ كل واحد من الأنبياء من أولي العزم ـ أصحاب الرسالات العالمية ـ كان له أوصياء، وكان مجموع عدد الأوصياء لكل واحد من أولئك الأنبياء^ اثني عشر وصياً. وقد صرّح القرآن الكريم بذلك في ما يتعلق بموسى وعيسى’، إذ قال تعالى بالنسبة إلى النبي موسى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾. ونعلم أيضاً أنّ عدد الحواريين أنصار عيسى المسيح كان اثني عشر أيضاً. وفي ما يتعلق بالنبي الأكرم| فإنّ عدد أوصيائه الاثني عشر واضح جداً. ولكن السؤال: ما هي الضرورة إلى ذلك؟ فإذا كان كل نبي قد أبلغ أمته في حياته كلّ ما نزل عليه من الله تعالى دون زيادة أو نقصان، وخلف فيهم كتاب الله كاملاً غير منقوص، فما هي الحاجة إلى تعيين عدد من الأولياء كأوصياء له؟ هل كان ذلك من أجل تفويض السلطة والحكم إليهم أو كان ذلك لأسباب أخرى؟

نعلم يقيناً؛ بشهادة الموافق والمخالف والمؤمن والكافر، أنّ كل نبي قد عمد ما دام حيّاً إلى بيان دينه بشكل كامل. ومن هنا كان الناس يسألونه عن كل ما يخطر ببالهم وفقاً للمقتضيات الزمنية، ويعدون إجابته حجّة عليهم. فلو أنّ الموافقين والمؤمنين لم يكن لديهم يقين بذلك لما راجعوه، ولو أنّ المخالفين لم يقبلوا ذلك لما خالفوه. ولكن بمجرّد أن يغيب النبي عن جموع الناس يحتدم الخلاف في من هو الحجة، أو يجب أن يكون هو الحجّة، في غياب النبي. وفي ما يتعلق بالنبي موسى يعلم الجميع قصة السامري وعجله، فحيث أراد موسى× أن يتغيّب عن قومه لأربعين يوماً فقط استخلف عليهم أخاه هارون، قال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي… وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾. وإنّ التدقيق في هذه العبارة الأخيرة يدلنا على الكثير من الفوائد، فإنّ هارون× لم يقل: اتبعوا أمر موسى وأطيعوه، وإنما قال: ﴿فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾. ولم يكن هذا الكلام ليعني أن هارون قد جاء بشريعة جديدة غير الشريعة التي نزلت على النبي موسى، بل إنّ الأحكام الواضحة لموسى× كانت موجودة بين الناس، ولكن مَنْ ذا الذي يستطيع أن يكون هو المثال والأسوة في بيان هذه الأحكام في غيبته؟ ونعلم أيضاً أنه على الرغم من وجود هارون الوصي بين قومه، وجهوده المبذولة في صيانة الأمة من الانحراف، فقد ظهر السامري، ولكنه مع ذلك لم ينكر وجود الله، وإنما عرّف عن نفسه بوصفه ممثلاً لكلّ الدين، وقدّم العجل إلى الناس بوصفه إلهاً لهم، ودعاهم إلى طاعته. وعليه إذا كان الأنبياء يعرّفون الناس بأوصياء لهم من بعدهم فإن ذلك لم يكن لتفويض السلطة إليهم، أو لأنه يريد أن يحابي قومه وعشيرته وأهل بيته، بل لأنّ هذا الأمر هو الصمام الوحيد لضمان وحدة الأمة، حتى وإن كان ذلك على خلاف رغبة الناس، وعدم بذل الطاعة من قبلهم. ومن المعلوم طبعاً أنه ليس هناك مَنْ هو أعلم من الأنبياء بمن هو أولى بمنصب الولاية والوصاية؛ إذ ليس هناك من يعرف خصائص ودقائق الدين الذي نزل عليهم. ولذلك فإنّ الوصاية ـ بمعزل عما هو مركوز في الأذهان العامة ـ عبارة عن إظهار الدين لضمان بقائه واستمراره، وليست تفويضاً لسلطة أو حكومة لم يقل بها الأنبياء لأنفسهم، إلا إذا أحسّوا أن ذلك مسؤولية اجتماعية ملقاة على عاتقهم.

وفي الوقت نفسه نعلم يقيناً أيضاً أنّ أمر التربية والتعليم يقوم دائماً وأبداً على ركيزتين لا غنى لإحداهما عن الأخرى، وهما: الكتاب؛ والمعلم. فلو كان الكتاب وحده كافياً في التربية والتعليم لما كانت هناك من ضرورة لتتحمل الحكومات تبعات الآلاف المؤلفة من المعلمين في العالم؛ وهكذا العكس، فلو كان المعلم لوحده كافياً في التعليم والتربية لما كانت هناك من حاجة لتكليف ميزانية الدولة بإنفاق الأموال الطائلة على طباعة الكتب والمناهج الدراسية.

لو أننا دخلنا فصلاً دراسياً، وأعطينا الطلاب فيه كتاباً؛ ليقرأوه، ويفهموه، ويعملوا بمضامينه، فإننا سنحصل على نتائج مختلفة ومتعددة بعدد التلاميذ في ذلك الفصل، وسيعمل كل طالب طبقاً لفهمه. وبالتالي لن تحصد وزارة التربية والتعليم من ذلك غير النقض لأغراضها. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الكتب السماوية؛ فإنها ليست استثناء من تلك القاعدة؛ لأنّ الناس هم الناس. وقد رأينا ظهور الخلاف بمجرّد رحيل كلّ نبي، فكان الجميع يرى نفسه هو المثال لبيان ذلك الدين بحذافيره، فحصل الذي حصل في التاريخ. ومن هنا ولدت المذاهب، وإلا ففي بداية الإسلام لم يكن هناك مذهب.

 

3ـ الإمامة ــــــ

كما نعلم فإنّ الإمامة تعني الزعامة والقيادة، وتستعمل في معنى خاص ومعنى عام. وفي المعنى العام يقوم كل شخص بإقناع الآخرين باتباعه في كل أمر، حتى ولو كان في طريق الشر، فيكون إماماً بهذا المعنى. وفي ذلك قال الله تعالى: ﴿المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ﴾. وأما بالمعنى الخاص فهم أوصياء النبي الأكرم| والأئمة المعصومون^؛ باعتبار أنهم ـ كما أوضحت سلفاً ـ مبيِّنون لشريعة خاتم الأنبياء. وبمعزل عمّا قاله الآخرون في حقهم فقد كانوا يعتبرون أنفسهم مجرّد مفسرين لدين الله وكتابه الذي نزل على النبي الأكرم‘. وعندما نراجع بعض الروايات المأثورة عنهم نجد أنهم؛ لدفع بعض التهم المحتملة عن أنفسهم، يقولون في جوابهم عن بعض المسائل: سمعت أبي، عن أبيه، عن جدي…، عن أمير المؤمنين، عن النبي، عن جبرئيل، عن الله. وفي هذا من الحِكَم ما لا يَسَعُ المقام لبحثها، ولكن إحدى الحكم هو أنهم يريدون أن يثبتوا للناس أنهم لا يقولون شيئاً من عند أنفسهم. وأحياناً نجد بعض الرواة يذهبون إلى أمور خاطئة، فيقدِّمون المقدمات، ليسأل الإمام× بعد ذلك، قائلاً: يا بن رسول الله، ما هو قولك في هذه المسألة؟ فكان الإمام يجيبه قائلاً: ثكلتك أمك، إننا لا نقول شيئاً من عندنا، وإنما نبيِّن ما ورثناه عن رسول الله‘.

إذن ما كان يقوله أئمة الشيعة في الإجابة عن أسئلة السائلين إنما هو في الحقيقة بيان وشرح للدين على نحو ما تقدم، وليس استمراراً للوحي ونقضاً للخاتمية. وإنّ ما قاله الدكتور سروش من أنّ سلوك الشيعة في نقل الروايات عن أئمتهم قد أفضى إلى سدّ باب الاجتهاد يدعو إلى العجب؛ لأنّ الأئمة أنفسهم كانوا يقولون في الإجابة عن التساؤل القائل: ما هو الحكم إذا لم نجد في المسألة نصاً من القرآن والأحاديث المروية عن النبي وعنكم؟: «علينا إلقاء الأصول، وعليكم أن تفرّعوا». فإنّ الحثّ والتشجيع والترغيب على الفحص والتحقيق في العثور على أحكام المسائل والحوادث الواقعة طوال التاريخ، مع مراعاة الأصول المصرّح بها في القرآن الكريم، الذي كانوا يرونه على الدوام المصدر الرئيس لدين الله، واضحٌ من هذا الكلام بشكل كامل. وكانوا^ يقولون دائماً: «أعرضوا ما بلغكم عنا على كتاب الله؛ فإن وافقه فهو منّا؛ وإن لم يوافقه فهو زخرف، وإننا لم نقُلْه».

لقد ذهب الدكتور سروش في بعض كلماته إلى القول بأنّ الشيعة يعتقدون أنّ أئمتهم كانوا محدَّثين ومفهّمين، معتبراً ذلك أمراً خاطئاً، وأدرجه في خانة الغلو.

وفي هذا الخصوص علينا القول: إننا لو دققنا لوجدنا أنفسنا مفهّمين ومحدّثين، سواء كنا من أصحاب الجنة أم من أصحاب الجحيم. فإذا لم تكن الروايات لتقنعنا فلنرجع إلى القرآن الكريم. وسأذكر مورداً واحداً لكلٍّ من الصالحين والطالحين. فقد قال تعالى في ما يتعلق بأصحاب الجحيم: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾. وقال في ما يتعلق بأصحاب الجنة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وإنّ القرآن لا يستعمل كلمة الوحي للشياطين والكفار فحسب، بل ويستعملها بالنسبة إلى النحل، وإلى أمّ موسى. وطبعاً نحن نؤمن جميعاً بأنّ الأنبياء كان يوحى إليهم، إلا أن حقيقة الوحي لا تنحصر برسالة الرسل؛ لينقطع الوحي بختم الأنبياء. بل إنّ الوحي حقيقة لا يمكن إلغاؤها. وكما ذكرت في كتابي الأخير «أسرار البعث» فإنّ العالم يُدار بأربعة أركان، وأربعة من الملائكة المقربين، وهي: ركن التعليم وإبلاغ الرسالات، واسمه جبرئيل. وإنّ كلّ شخص يستفيد من هذا الركن بمقدار سعته. من قبيل: أن تعمل مؤسسة البريد والهاتف على إدارة مشروع خدمة الهواتف، فيقوم كل واحد من المستهلكين بالاستفادة من هذه الخدمة كلٌّ بحسب حاجته وإمكاناته في مختلف المقاصد والغايات؛ فهناك من يستعمله في الألفة والمحبة؛ وهناك مَنْ يوظفه في طريق البغض والكراهية. إنّ ما يقوم به الشياطين من الوحي لإغواء أتباعهم، وما تقوم به الملائكة من تأييد وبشارة المؤمنين، كله يتم في إطار نظام الوحي. ولو أننا دققنا في أحوالنا لوجدنا أنفسنا على الدوام بما يتناسب وقابلياتنا محطاً لتلك الإفاضات؛ وذلك لأنّ عالم الكون وإدارته من قبل الله، الذي هو ربّ العالمين، لا يقبل التعطيل. وعليه فإنّ أصل إبلاغ الرسالات والتزكية والتعليم لا يقبل التعطيل. وإن الوحي الرحماني والشيطاني مستمر ومتواصل لجميع أفراد الإنسانية. ونعلم أيضاً أنّ هذه الإفاضات ـ وفقاً لما تقتضيه الحكمة ـ تتناسب ونفسية كل شخص، فكلما كان الشخص أطهر كان أقرب مرتبة من الوحي، وسيحصل على إفاضات أكثر صدقاً وطهراً.

ذكرت في الفقرة الثانية من هذا المقال أنّ أصل الرسالة وأساسها يقوم على الولاية. وعليه فإنّ النبي قد استحق الوحي بولايته، وقد أبلغ ذلك الوحي برسالته. ولذلك فقد تم إنزال القرآن الكامل جملة واحدة على النبي الأكرم‘، وقد نصّ على ذلك القرآن نفسه بلفظ الإنزال؛ أو أنه حصل في الواقع على كل هذه الرسالة دفعة واحدة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾، وبعد ذلك بحوالي عشرة أشهر، أي في السابع والعشرين من شهر رجب، أمر بإبلاغ الرسالة بقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾؛ أو كما أصوره على النحو التالي: يأتيه النداء والأمر بأن يفتح بوابة هذا المحيط الهادر على نحو حذر، وعلى طبق الأمر ومقتضى الحكمة، وأن يمنح الآخرين فرصة الاستفادة من هذا الفيض الأعظم، قال تعالى: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾. إذاً ليس الأمر ـ كما يتصوره البعض ـ أنه قد حدث انقطاع للوحي. ولا تعني الخاتمية انقطاع الوحي أيضاً، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾، حيث يستشهد أولئك الذين يقفون على قمّة الإنسانية على نبوّة الرسول. وإنّ الآيات الواردة في هذا المضمون كثيرة. عندما تبدأ دورة تعليمية، وتستمر لثلاثة وعشرين سنة، وتشتمل على جميع ما يحتاجه الإنسان في هدايته وسعادته في الدنيا والآخرة، ويبين ذلك بآيات من قبيل: قوله تعالى: ﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. فمن الطبيعي أن يعمد النبي الأكرم‘ بعد نهاية هذه الدورة من التزكية والتعليم إلى إقامة حفلة تخرّج في غدير خم، وأن يعلن عن إتمام الرسالة وإكمالها رسمياً، إذ يقول تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾. إنّ الوحي لم يبدأ بنبوّة النبي الأكرم‘، ولا أية نبوّة أخرى، حتى ينقطع برحيل النبي، وإلى الأبد.

وقد جاء في سورة الجن على لسان الجن ـ ولا نريد الدخول في تفاصيل ماهية الجن، وما هي الرسالة التي يراد إيصالها من خلال هذه السورة ـ: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً﴾، مما يدل على أنهم كانوا قبل الوحي إلى النبي الأكرم‘ يستمعون إلى وحي الأنبياء السابقين، ولكن حيث إن الوحي الذي تقرَّر إنزاله على النبي الأكرم على أهمية كبيرة حيل بين الجن وسماع ذلك الوحي، وتمّ نهيهم عن الاستماع إليه بشدّة.

 

4ـ العصمة ــــــ

في ما يتعلق بمسألة العصمة يتصور الغالب من الشيعة أنّ المعصومين^ عبارة عن نفوس قدسية قد هبطت من الملأ الأعلى ومرتبة الملكوت إلى عالم الناسوت؛ لتبيين الدين الخاتم أو أية وظيفة أخرى، وأنهم بعد إنجاز مهامهم يعودون إلى جوار القرب الإلهي، ويصعدون إلى الملكوت الأعلى، وأنّ هذه الأنفس المقدسة لم ترتكب أية معصية، بل إنها لم تكن لتستطيع أن ترتكب المعصية، أو أنّ ذاتهم قد خلقت بحيث لا يستطيعون معها اقتراف الذنوب والآثام.

وطبعاً هناك عدة إشكالات ترد على هذا الفهم، ونشير في ما يلي إلى بعض منها بشكل مختصر جداً:

أـ ليس هناك شيء أو نفس أو كائن في عالم الوجود يأتي من الأعلى إلى الأسفل، بل كلّ شيء من دون استثناء يجب أن يصعد من الأسفل إلى الأعلى.

ب ـ إذا لم تستطع نفس مقاربة الذنب؛ لأي سبب من الأسباب، ستكون مكرهة. ولا خير في عدم اقتراف الذنب إذا كان الإنسان مكرهاً عليه؛ لأنه لن يستحق عليه أجراً ولا عقوبة.

ج ـ إنّ لازم هذا الرأي أنّ لله مشاريع متعددة في نظام الخلق، وأنه قد رصد كل طبقة من الطبقات الإنسانية لغاية غير التي خلق سائر الطبقات من أجلها، في حين أنّ لله الواحد خلق واحد.

وبذلك لا نريد التوصُّل إلى القول بعدم وجود أيّ معنىً للعصمة، وإنما الذي نريد قوله هو التالي:

1ـ إنّ وجود الإنسان في هذا العالم سيعرضه لا محالة إلى التلوث ببعض الأمور، من قبيل: الأكل والنوم والزواج والموت والتعامل مع مختلف أنواع الناس. وكل واحد من هذه الأمور يمكنه دفع المرء نحو ارتكاب الأخطاء. ومن جهة أخرى لم يطالب الإنسان في هذا العالم إلا القيام بهذه الأمور، ولكن مع التقرّب بها إلى الله. وبذلك يوفر شروط ارتقائه وسموّه. وعليه يمكن أن يكون العمل بهذه الأمور عبادة إذا كان بقصد التقرُّب من الله؛ وفي غير هذه الصورة لا تكون غير المعاصي والآثام.

2ـ إنّ العمل الذي يراد به وجه الله يؤدي إلى الصلاح، في حين تؤدي المعاصي إلى الفساد. ولذلك نجد الله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاء وَالمُنكَرِ﴾.

3ـ عندما يكون للنفس اقتضاء الفساد فإنها ستعاشر أنفساً تدفعها على الدوام نحو أنواع الذنوب والآثام.

4ـ على العكس مما سبق فإن الاستمرار والاستقامة على العمل الصالح تخلق في النفس اقتضاء فعل الخير.

5ـ إنّ المواظبة على كل واحد من هذه الحالات تدفع النفس نحو فعل الخير أو الشر أكثر فأكثر، وتوجد في النفس ملكات الخير أو الشر.

6ـ لقد أخبرنا القرآن بأنّ الإنسان عرضة لإلهامات الخير والشر على الدوام، قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾. وإنّ هذه الإلهامات وإنْ لم تكن هي العلة التامة التي تسلب الإنسان اختياره، ولكنها تشكل عاملاً مساعداً على فعل الخير أو الشر.

7ـ إنّ النفس من خلال مثابرتها على فعل الخير، وقطع أي ارتباط لها بالشر، ستخلق لنفسها مناعة وحصانة تغلق معها جميع منافذ الذنوب. وهذه هي العصمة؛ لأنّ العصمة مأخوذة من مادة (عَصَمَ يَعْصِمُ)، بمعنى المنع والحفظ.

8ـ إذا كانت العصمة أمراً اكتسابياً ـ وهي كذلك ـ وجب أن يكون الوصول إليها متاحاً لكلّ شخص، ولكنها ستبقى من السهل الممتنع. فالعصمة سهلة من حيث المسلك، وممتنعة من حيث السالك إليها. من قبيل: بلوغ قمة جبل هَمَلايا، فالطريق إليها مفتوح للجميع، ولكن لا يبلغ ذلك إلا القليل القليل.

9ـ إنّ الوصول إلى هذه القمّة ـ كسائر القمم ـ أمر نسبيٌّ، وليس مطلقاً، أي لا يمكن القفز من القاع مباشرة والوقوف على القمة، بل لابد للوصول إلى تلك القمة من المسير إليها خطوة خطوة، وكلما تقدم المتسلق أكثر واجه عناء ومشقة أكبر. وخلافاً لتصوُّرنا فإنّ البقاء على القمة أصعب بكثير من بلوغها. ولهذا السبب كان الأئمة المعصومون^ يراقبون حالاتهم ليل نهار، ويتضرعون إلى الله باستمرار؛ بسبب الخشية من السقوط من تلك القمّة نحو الهاوية، وقد صور لنا القرآن نماذج من سقوط مثل هؤلاء الأشخاص عبر التاريخ. وقد كان النبي الأكرم‘ يضع وجهه الشريف على التراب، متضرعاً ومنتحباً، وهو يقول: «إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، إنك إن وكلتني إلى نفسي هلكت». ولم تكن هذه الكلمات مجرّد مجاملات جافة، أو من فن التمثيل الشكليّ، بل هي حقيقة مرعبة كان المعصومون^ يحذرونها أشد الحذر.

10ـ عندما يبلغ الأوصياء مقام العصمة ينتخبون لمنصب الإمامة. وبعبارة أخرى: إنّ كلّ وصي يجب أن يكون معصوماً، ولكن ليس من الضروري أن يكون كلّ معصومٍ وصياً أو إماماً. وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال يقول: إذاً كيف تمّ تحديد اثني عشر وصياً لرسول الله‘ بأسمائهم وصفاتهم، وقد نال هؤلاء مقام العصمة والإمامة؟ يجب القول: إنّ هذا الكلام عبارة عن إخبار غيبي يجري على لسان النبي الصادق الأمين بعلم الله سبحانه وتعالى، دون محاباة منه لأحد، قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، و﴿لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾، و﴿مَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. ولو أننا دققنا في هذه الأخبار الغيبية لوجدنا أنها قد تحققت بأجمعها، ولم يتحقق أي منها على خلاف ما تم الإخبار عنه.

وهنا لابد لنا؛ للربط بين المسائل بشكل يلقي بضوئه على ما نريد بيانه بعون الله، من الإشارة إلى حلقتين مفقودتين هما في غاية الأهمية.

5ـ ما هو الدين؟ ــــــ

على الرغم من أنّ بلدنا، وخاصة بعد انتصار الثورة، شهد أكثر البحوث والتحقيقات الخطابية والكتابية نفياً أو إثباتاً في ما يتعلق بالأمور المرتبطة بالدين، وأما الذي لم يتمّ التعرض له حتى الآن بحسب علمي، ولم يتمّ بيانه، فهو الدين نفسه. فالمركوز في الأذهان أنّ الدين عبارة عن مجموع ما نزل من قبل الله تعالى الخالق والحكيم على الأنبياء؛ ليقوموا بإبلاغه إلى الناس؛ بغية هدايتهم. وطبعاً إنّ هذا التعريف صحيح وضروري، ولكنه ليس كافياً. وقد أدت عدم كفاية هذا التعريف طوال التاريخ إلى اتخاذ الذهن موقفاً سلبياً؛ إذ تثار على الدوام تساؤلات لم يحصل المستفهم منها على أجوبة مقنعة، من قبيل:

أـ إذا تم إبلاغ أحكام (دينية)، وكانت مفيدة للغاية، وتمّ إبلاغها للناس بشكل جيّد، فما هي مناسبتها مع نفس الإنسان.

ب ـ إنّ هذه الأحكام التي نزل آخرها قبل ألف وأربعمائة سنة، وأبلغت للناس في ذلك العصر، إنما كانت في محيط يحمل ثقافة ولغة وتقاليد اجتماعية مختلفة تماماً، فما هو ارتباطها بثقافتنا ولغتنا وعاداتنا وحضارتنا؟

ج ـ منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا حدثت تطورات في طرق الحياة وأدواتها، والتكنولوجيا، ووسائط الحمل والنقل والاتصالات، التي يمكن أن تؤثر في تلك الأحكام، فما هو نوع التناغم بين ماضيها وحاضرها؟

دـ مع الارتباط والاتحاد العالمي المتزايد، الذي بلغ حتى الآن مرحلة اعتبر العالم كله قرية عالمية واحدة، كيف يمكن لجميع سكان هذه القرية القبول بتطبيق هذه الأحكام؟

إلى غير ذلك من التساؤلات الكثيرة.

ولكن يمكن النظر إلى الدين من زاوية أخرى، وذلك على النحو التالي:

1ـ إنّ الدين لغةً يعني الجزاء.

2ـ إنّ الجزاء يعني ردّ الفعل على كل عمل، سواء أكان حسناً أم سيئاً.

3ـ إنّ عالم الوجود محكوم لنظام لا يمكن لأيّ شخص أن ينكره، وإن هذا النظام مسيطر على كلّ شيء فيه.

4ـ ما هو النظام؟ وهل هو شيء آخر غير الأفعال وردود الأفعال؟

5ـ لماذا أطلق الأنبياء على ما نزل عليهم من قبل الله تعالى لفظ الدين؟ لأنه كان بياناً دقيقاً لردود الأفعال في عالم الوجود. فإنّ جميع الأنبياء، وخاصة خاتمهم، الذي حمل أكثر الأديان شمولية من ناحية الأحكام والمعارف والأخلاق، لم يأتوا بشيء جديد غير إبلاغ الناس أنّ لكل فعل ردّ فعل في الدنيا والآخرة. ولذلك فقد عرّف كلّ نبي نفسه بوصفه بشيراً ونذيراً، فهو (بشير) بالأفعال وردود الأفعال الحسنة، و(نذير) بالأفعال وردود الأفعال السيئة.

6ـ بناءً على ما تقدم إذا لم يكن الدين مجرد الأحكام النازلة من قبل الله تعالى، وكان بياناً لنظام الكون، فعندها تزول كل التساؤلات المتقدمة، ولا يكون الدين مناسباً لأنفسنا فقط، بل هو بيان لنفسياتنا، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾. ولذلك فإنه لا يتغير بتغيّر الزمان ومقتضيات الحياة، وتغير الأمكنة واللغات والثقافات؛ لأنّ النظام لا يقبل التغيّر، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾.

 

6ـ من هو الإنسان؟ أو ما هو الإنسان؟ ــــــ

إنّ من أهم المسائل التي يمكن لنا أن نعتبرها ـ بكل ثقة ـ مفتاحاً لحلّ جميع المسائل المتعلقة بالإنسان، بل وكل عالم الوجود، هو معرفة الإنسان نفسه. ولذلك فإننا نقول:

1ـ إنّ كلّ صانع يمنح مصنوعه ما يتوفر عليه من نقص وكمال، إلا إذا كان عاجزاً أو بخيلاً. ومن خلال هذه القاعدة يتعرّف الخبراء، بمجرد إلقائهم نظرة على عمل فني، من قبيل: لوحة للرسم مثلاً، إلى اسم وخصوصيات صاحب ذلك العمل، وما يتمتع به من صفات فنية وأخلاقية، وإنْ لم يكونوا يعرفونه شخصياً.

2ـ إنّ كل صانع يبتغي هدفاً من وراء صنعه، وإلا كان ذلك الصنع عبثاً.

3ـ إنّ غاية كل صانع ـ كالرسام مثلاً ـ من صنعه هو ظهور وتجلي ذاته من خلال صنعه.

4ـ إنّ تحقق تلك الغاية حتمي، وإلا فإنّ ذلك الصانع سيكون مخفقاً وفاشلاً في مشروع صنعه.

لقد أوضحت في كتاب «أسرار البعث» (رازهاي رستاخيز) أنّ من بين جميع المخلوقات، التي خلقت في طول بعضها، لا يتمكن كل مخلوق من بلوغ الهداية إلى الصراط المستقيم إلا عندما يبلغ مرحلة الإنسانية، وعندها يتمكن من المسير إلى خالقه، وتحقيق مقصده من الخلق. وكلما تقدم في ذلك الصراط تحققت الغاية والقرب من الله على نحو أكبر، حتى يصل إلى الكمال المطلق والغاية من الخلق. ولم يكن أي واحد من المخلوقات متوفِّراً على الشمولية اللازمة، غير الإنسان؛ فقد قال الله تبارك وتعالى في حقه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، وأودعه جميع آثاره، وجعله خليفة له على أرضه.

إذاً فالدين عبارة عن بيان النظام الكوني. وإنّ الإنسان هو التجلي الكامل للغاية من الخلق. وهذا الشيء موجود في جميع الناس بالقوة، ولكن لا يتوصل إلى الفعلية منهم سوى النزر القليل.

وهنا يرد هذا السؤال، وهو: ما هي العلاقة القائمة بين الإنسان والدين؟ عندما نقرأ القرآن نجد الله تعالى يقول في سورة الروم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾. وبشيء من التدقيق ندرك أنّ (الدين) ونظام العالم (فطرة الله) و (الإنسان) عبارة عن مثلث متساوي الأضلاع، لا يمكن أن نتصوّر أيّ تبديل أو تغيير فيه. وإذا تعيَّن علينا شرح تفاصيل ذلك المثلث فسوف نقول: إنّ الفطرة الإلهية تشكل قاعدة لذلك المثلث، وإنّ الدين بيانه وتفسيره، وأما الإنسان فهو مظهره المجسِّد لجميع أشكاله وأنحائه. ومن هنا قال الإمام علي× في شعر منسوب له:

 

أتزعم أنك جرم صغير
وأنت الكتاب المبين الذي

وفيك انطوى العالم الأكبر
بأحرفه يظهر المضمر

 

7ـ ما هو الشرع؟ ــــــ

وأما المسألة الأخرى فهي تشريع الدين. ليس من الممكن وليس من الضروري تعليم جميع النظام الكوني ـ الذي يشكل الدين ـ في أية مرحلة من مراحل التاريخ، سواء للأمم المتخلفة أو المتقدّمة. وإنما يتم في كل مرحلة من المراحل التاريخية، بما يتناسب ومقدار التخلف والتقدم، إرسال نبي؛ ليشرّع للناس من الدين المقدار الضروري لإصلاح حياتهم بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم. قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾. وقد كان هذا التشريع مختصّاً بكل نبي من أنبياء أولي العزم، الذين كانوا يبعثون ليأتوا بمرحلة جديدة من التعليمات الضرورية لرقي الناس وهدايتهم وتصحيح مسيرتهم.

وبالالتفات إلى ما تقدم علينا أن نتساءل: ألا يبعد عن الإنصاف أن نعتبر أولئك الذين بلغوا بجدّهم وسعيهم أعلى المراتب التي يمكن تصوّرها، فأصبحوا مظهراً لجميع الآثار والأسماء الإلهية، فصاروا عين الدين، واستوعبوه بكلّ وجودهم، عاجزين عن شرح وتفسير ما قاله رسول الله‘ أو القول بعدم استحقاقهم لذلك؟ ألم يعرّفهم النبي الأكرم بوصفهم مثال الدين وجميع ما جاء به من عند الله عز وجل؟ أَلَيس قول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ دستوراً ثابتاً في العالم، أو أنّ الأئمة المعصومين لم يكونوا من أهل الذكر؟ فمَنْ ذا الذي استوعب جميع هذه المراحل التعليمية لهذا الدين، أو أنه لم يكن لهذا الدين حفلة تخرّج؟ وهل ادّعى غيرهم هذا المقام، وقال: «سلوني قبل أن تفقدوني»؟ إنّ التاريخ قد وثق هذه الحقائق بشكل كامل وأمين، ولم يشكِّك أحد من المحقِّقين والباحثين في صحتها. ويمكن الوقوف على هذه الحقائق من خلال الرجوع إلى مصادر مختلف الفرق الإسلامية. كيف يكون العمل في ما يتعلق بالعلوم التجريبية؟ ألا يتم التوصّل إلى جواب كل مسألة من ذوي الاختصاص؟! ومَنْ هم ذوو الاختصاص في تلك العلوم؟ أليس هم الذين أتموا دراسة جميع ما يتعلق بتلك العلوم؟! وهكذا هو شأن تلك الأنوار التي كانت في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة. فإذا أراد شخص أن يقول: هم رجال، ونحن رجال ـ وهو ما قاله الغزالي بشأن أبي حنيفة ـ فعلينا التعليق على ذلك بالقول: الطريق مفتوح أمام الجميع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

والحقيقة هي أنّ هناك بين السالكين والمتعلِّمين اختلافاً ماهوياً. ولا نقول: إنّ السالكين لم يتعلَّموا، ولكننا نقول: إنّ أغلب المتعلمين ـ رغم احترامنا واعتزازنا بهم ـ ليسوا من السالكين.

لقد رمى الدكتور سروش، وهو الأستاذ المحترم، بجميع ثقله لإثبات أنّ لازم الخاتمية هو انقطاع الوحي. في حين أننا قلنا: إنّ الرسالة تقوم على الولاية، أما الوحي فهو أصل ثابت وجار في العالم على الدوام، ولكن كل واحد منا يحصل على شعاع منه بمقدار استحقاقه وجدارته. ولو أننا ألقينا نظرة على سورة القدر فإننا سندرك بوضوح أنّ هذه السورة تصرّح بعدم انقطاع الوحي؛ إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، بصيغة الماضي والإنزال.. وحالياً يتمّ التنزيل على كلّ شخص بمقدار سعته: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ بصيغة الحال والتنزيل.

وهنا أجد نفسي مضطراً إلى الخوض في عبارة أخرى أثارها الدكتور سروش؛ إذ يحتمل أن يسيء المغرضون الاستفادة منها، وذلك حين قال في جانب من كلامه، نقلاً عن أبي حنيفة: إنه لم يثبت عنده من أحاديث رسول الله‘ سوى سبعة عشر حديثاً. فقد يضع هذا الكلام علامة استفهام في أذهان الذين لم يخبروا الروايات المروية عن الأئمة المعصومين^. إنّ موضوع الروايات بحث طويل لا يتسع المجال إلى بحثه هنا. ولكنْ في ما يتعلق بكلام أبي حنيفة ينبغي القول: كيف يمكن لعاقل منصف أن يقبل مثل هذا الكلام؟!؛ وذلك أنه من الواضح أننا إذا تجاوزنا عمر النبي قبل النبوة، والذي امتدّ لأربعين سنة، فإنّ الذي لا يقبل الشك أنه في مدّة نبوته، البالغة ثلاثاً وعشرين سنة، في مكة والمدينة، قد صحب الكثير من الصالحين والطالحين، وجالسهم ليل نهار، وفي مختلف الحالات والأجواء، في الأفراح والأتراح، وهو يعلِّمهم وينصحهم؛ لأنّ هذه هي مهمته التي أمر بإبلاغها. فإذا قبلنا بما قاله أبو حنيفة وجب علينا القول بأنّ النبي كان طوال هذه المدة ساكتاً، ولم ينبس ببنت شفة، ولم يتفوّه بغير القرآن الكريم؛ أو القول بأنّ كل ما قاله النبي الأكرم قد تعرض لتحريف من قبل أصحابه الأخيار وأهل بيته الأبرار! فهل كان جميع أصحاب النبي وأهل بيته من الخونة؟! ولكن في الوقت نفسه لا يمكن لنا القول بأن جميع ما وردنا عن النبي الأكرم كان صحيحاً مئة بالمئة، فقد قال النبي نفسه: «كثر عليّ الكذابون».

وأما في ما يتعلق بالمهدوية فالكلام طويل وعريض، ولا نرى هذا المقال يتَّسع للخوض فيه، فعلينا أن نتركه لفرصة أخرى.

(*) باحث في مجال علوم القرآن.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً