أحدث المقالات

يورغن هابرماس(*)

ترجمة: د. نور الدين علوش(**)

 

من اليهودية إلى أرسطو، مروراً بكانط وانتهاءً بهيغل ــــــ

التفاؤل من الله، والتشاؤم من الإنسان (مَثَل عربي).

الغائية هي بديل فلسفي. فهذا الاختيار يعترف بوجود قضية غائية، ويفترض هدفاً أخيراً. كما أنّه يرى في الخلق علامة جوهرية أو متعالية منذ البداية. وهذا المنظور يسمى الغائية، الذي يتعارض مع النزعة الميكانيكية.

وفلسفة التاريخ هي فرعٌ فلسفي يهتمّ بالتأمّل في معنى ولا معنى الإنسانية.

وعلى ما يبدو لي هناك ثلاث مقاربات لفلسفة التاريخ:

الأولى: تعترض على أيّ محاولة للتأمل في المعنى الأخير للإنسانية. وهذا هو موقف أغلب التيارات الفلسفية المعاصرة، فهي لا تهتمّ إلاّ بما هو راهنٌ، وإلى حدٍّ ما المستقبل القريب.

الثانية: تختلف عن الأولى، حيث إن هناك غاية للبشرية تصبو إليها. وهذا ما نجده عند كانط، وهيغل، وماركس، بالإضافة إلى أوغوست كونت، وتوما الإكويني.

الثالثة: تهتمّ بالغائية، لكنْ من أجل الطعن في جدارتها وأهمّيتها. فمثلاً: نجد شوبنهمر يرفض فكرة تقدُّم الإنسانية؛ ونيتشه يعترف بوجود تقدّم للإنسانية، لكنْ في الاتّجاه الخاطئ.

 

تاريخ فلسفة التاريخ قبل ولادة المسيح× ــــــ

موسى وأرسطو ــــــ

لفلسفة التاريخ بدايات عديدة، منها: الغائية. وفكرة القيامة هي واحدة منها كذلك. نجد فكرة الغائية لأوّل مرة في فلسفة أرسطو. في كتابه الأخلاق إلى نيقوماخس يتحدّث عن الغائية الكامنة في طبيعة الأشياء. لكنّ هذا المبدأ الإيجابي لن يظهر جيداً إلاّ مع اليهودية، في القرن الثالث قبل الميلاد. وحسب اليهودية فإن البشريّة تتطوّر لغاية إقامة مملكة مسيحية عالمية. فظهور الملكوت الأرضي يعني (نهاية الأزمان).

 

القرون الكبرى المنشئة للروحانيات ــــــ

أن تكون فيلسوفاً هو أن تعالج بعضاً من المشاكل، لكنْ ليس على الصعيد النظري فقط، بل على الصعيد العملي كذلك (هنري دافيد تورور).

فالقرن السادس والخامس والرابع قبل الميلاد عرف نهضة فلسفية دينية كبيرة، حيث نجد أنّ الهندوسية، واليانية، والبوذية، والطاوية، واليهودية، و…، أسّست قواعد للتجربة الداخلية والباطنية. ففكرة التقدّم الإيجابي تأسَّست في تلك القرون المثمرة فلسفياً ودينياً، حيث تأسَّست مع كتابات أفلاطون. بالإضافة إلى أن الحبّ تطوّر تدريجياً مع الرغبة البدائية حتّى النشوة.

لكنْ مع ذلك فإنّ أفلاطون ينتمي إلى عالم قبل غائي. وفي الفلسفات الآسيوية نجد تلميذ سقراط يهتمّ بالتطوّر الفرداني. وحتّى السياق الذي كان يعيش فيه، سواء السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، لم يسمح له بتصوّر فكرة التقدّم البشري.

 

التأثير الحاسم للديانات التوحيدية ــــــ

في المقابل نجد أنّ الديانات التوحيدية اهتمّت كثيراً بتطوّر الإنسانية. فإنجيل دانييل في القرن الثالث قبل الميلاد وضع أسس فكرة القيامة.

ثم جاءت أناجيل يوحنا، وبولس، لترسِّخ هذا المفهوم. وفي ما بعد جاء كبار الفلاسفة المسحيين، أمثال: توما الإكويني، وأغسطين، لغرسها في الوجدان المسيحي نهائياً.

 

كانط وهيغل والعقلانية ــــــ

لكنّ الرائد في العقلانية بدون منازع هو الفيلسوف الألماني (كانط)، فهو يعتبر من كبار الفلاسفة الذين اهتمّوا بمستقبل البشريّة. كما أنه من الأوائل الذين انطلقوا من العالم المعاش، وليس من فكرة الله. هيغل أعطى بعداً خاصاً لهذا العمل الفلسفي، وأثراه من ناحيتين: الأولى: مادية، تحقق التاريخ في المطلق؛ والثانية: مثالية، أي المطلق نفسه. فكلّ الأفكار المطروحة الآن هي من بنات أفكار هيغل وكانط. فالمفكِّرون الاشتراكيون والفوضويّون (سان سيمون؛ وفورييه؛ وماركس…) عمَّقوا التوجه المادي والاجتماعي للنوع البشري، حيث عملوا على تحقيقٍ سريع للسعادة الجسدية و الاجتماعية للإنسان.

 

مأزق فلسفة التاريخ ــــــ

المادّية، والمركزية، وتجاهل البعد الروحي، فالدرس المستفاد من فلسفة التاريخ أنّ الناس لا يستفيدون من التاريخ (هكسلي).

منذ بداية فلسفة التاريخ (كانط؛ وهيغل؛ وماركس؛ وفوكوياما) إلى يومنا هذا تعرَّضَتْ لنقدٍ شديد، بل إلى حقيقة مصداقيّتها.

هناك ثلاثة اتّجاهات رئيسة متناقضة دفعت في هذا الاتجاه:

1ـ اتجاه تغيير راديكالي للمجتمع، بدون اعتبار قدرات الإنسان.

2ـ وهم التربُّع على قمّة البشرية.

3ـ تجاهل البعد الروحي.

1ـ الاتّجاه الأول: استصغار الوقت الكافي لتغيير البشرية ــــــ

مستشيطين غضباً من الجور الإنساني يأمل بعض الفلاسفة من هذا الاتجاه بتغيير مفاجئ للعالم. فنظريّاتهم تدعو إلى العنف أو إلى الثورة. وأمام القوة الكبيرة لبعض السلطات يبقى العنف الثوري هو السبيل الوحيد أمامهم. لسوء الحظ فإن هذه التغيُّرات الجذرية هي السبب في التسارع الحادّ الذي يعرفه المجتمع (الثورات الشيوعية).

اليوم دخل العالم بكامله إلى عصر الديموقراطية، ما لم يتلاعب بهذا النموذج الذي يسمح لقوى المعارضة بالتعبير عن نفسها. في ديموقراطية شرعية لن يكون للعنف أيّ معنى. فالثورات اللاعنفية (غاندي؛ ولوثر كينغ) تتفوَّق عندما تكون على حقّ. بفضل الثورة الديموقراطية استطاع الوعي أن ينوب عن العنف في تغيير الإنسان.

 

2ـ الاتّجاه الثاني: مجد الفيلسوف ــــــ

هناك من الفلاسفة الغائيين الفخورين باكتشافاتهم مَنْ اعتبر أن الانسانية قد اقتربت من اكتمالها. لكنّ هذا النوع من التقدير الخاطئ يتناقض مع المنطق السليم، الأمر الذي يمكن أن يضعف مصداقيّة نظريّاتهم.

رأى هيغل في نابليون روح العالم. فوكوياما ارتكب نفس الخطأ عندما ربط بين نهاية الحرب الباردة ونهاية التاريخ. حسب فوكوياما فإنّ نهاية الصراع الإيديولوجي، وتاليه الديموقراطية الليبرالية، أهمّ ما يميز نهاية التاريخ.

فالتاريخ أمامه الكثير من الأيام الجميلة من وجهة نظري. فظهور منظمة الأمم المتّحدة بشكلٍ يجسِّد العدالة والحقّ لا زال بعيداً. فهذا أمرٌ لا بدّ منه لإزالة الصراع الإيديولوجي.

في ما يخص التفاؤل غير اللائق ارتكبت النزعة الميكانيكية ذات الطابع العلمي نفس الأخطاء مرّتين، فهي تريد أن تثور بسرعة النظام، وتتصوَّر قرب الاكتمال البشري.

فالأمر يتعلَّق بتشويهٍ كبير، ومغالطة جسيمة. للوصول إلى كمالٍ لا يمكن تجاوزه لا بدّ للبشرية من قطع الكثير من المراحل، ولا بدّ للكثير من العقد أنْ تحلّ. لا بدّ من أخذ كلّ هذا بعين الاعتبار أثناء زيارتكم لهذا الموقع.

 

3ـ الاتّجاه الثالث: تجاهل البعد الروحي ــــــ

القرن التاسع العشر تميَّز بعودة البعد الروحي. فقرن فرويد وداروين أدّى إلى تطوّر الاتّجاه المادي، حيث كانت الكنيسة رجعية ومتواطئة مع السلطة. إذاً الفلسفة تجاهلت البعد الغائي؛ لتركِّز جهودها نحو ما هو ملموس.

نعم للمادية نواحٍ طيبة، فهي تساهم في التقدّم التقني والعلمي، بالإضافة إلى دورها في الرفاهية وحرّية التصرّف والفكر والاعتقاد. فهي تفتح الأبواب للتمتّع بمتاع الدنيا.

إنّ أيّ مستوى آخر للتطوّر بدون تأمّل روحي لن يؤدّي بنا إلاّ إلى العدمية. وبدون البعد الروحي سيتّجه الإنسان نحو التوحّش والهيمنة.

القيم الإنسانية ليست مغطّاة لجيناتنا بما فيها الكفاية، لنتخلّى عن البعد الروحي.

بالنسبة للمادية الخالصة فإنّ الإنسان يختزل إلى مكوّناته المادية، أو إلى قيمته المادّية أو شكله. ومن هنا فالإنسان لا يمكنه أن يجد معنى لوجوده في ظلّ هذه التصوُّرات المادّية.

لم تكتشف الإنسانية البعد الروحي صدفةً. عندما يحاول أيّ مجتمع أن يلغي هذا البعد الروحي فإنّه سيقصي مرجعيّاته الكبرى. وخير دليل على ذلك عودة الدين في روسيا بعد عقود من الإلحاد. وبنفس الطريقة نجد أنّ حالة الاختناق الدينية التي تسبّبها العولمة تساهم في عدم توازن روح العالم الغربي.

بدون أفق رحب يجد الإنسان نفسه محشوراً في عالمٍ بدون معنى. فالدين ـ كما قال ماركس ـ هو أفيون الشعوب، لكنْ اليوم السوق هو مَنْ يجسِّد الأفيون.

 

منطق فلسفة التاريخ ــــــ

نهاية التاريخ ليست الآن، المستقبل تم خلقه لتغييره (باولو كويليوو).

يجد الفيلسوف دائماً في حاضره نهايةً للعالم. فهيغل رأى في نابليون روحَ العالم. وفي نفس الاتّجاه يذهب فوكوياما إلى أن التاريخ توقَّف عندما لم يعُدْ هناك صراع إيديولوجي بعد نهاية الحرب الباردة.

على ما يبدو سيأتي اليوم ليقول الفلاسفة هذا القول بحقّ، لكنْ ليس اليوم: على البشرية قطع الكثير من المراحل للوصول إلى كمالها.

يجب تحقُّق هذه الانتصارات الجديدة قبل الدخول إلى السلام الأبديّ، العزيز على الفيلسوف كانط.

 

(*) الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر، وأحد أشهر الباحثين في مجال علم المعرفة وقضايا الحداثة والتحوّلات الاجتماعية.

(**) باحثٌ وأستاذ جامعيّ، من المغرب.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً