أحدث المقالات

د. الشيخ مصطفى مير أحمدي زاده(*)

 

ثورة الإمام الحسين× واقعةٌ يمكن تحليلها ــــــ

تساعد الدراسة الفقهيّة الحقوقيّة لثورة الإمام الحسين× في فهم هذه الحركة على أساس القواعد والموازين المعتمدة في الحقوق الإسلاميّة. ومن هذا المنطلق يجب الالتفات إلى أنّ انتخاب بعض وجهات النظر في تبرير هذه الثورة سيسدّ الطريق على أيّ نوع من أنواع الاستدلال، ويدخل الإنسان إلى وادي التعبّد المحض، والذي يخلو من الإجابة عن أيّ سؤال، أو تقديم حلّ لأيّ إشكاليّة. كما لا يقدّم نماذج قابلة لأن تتكرّر أو تتجدّد. وهو لا يشكِّل خطراً على الظالم، ولكنّه طريق للهروب من المسؤوليّة، ومن عشرات الأسئلة المهمّة والأساسيّة، التي تثير العواطف والأحاسيس، ولكن في المقابل لا يمكنها أن تقدِّم صورة واضحة.

وصحيحٌ أننّا عندما ننظر إلى المعصوم نجد كائناً يمتلك عالماً ثبوتيّاً واسعاً ذا قيمة رفيعة، وهذا ما تمثِّله الأوجه التي تسلّط الضوء عليها الزيارة الجامعة الكبيرة، في حديثها عن مقام الإمام ودوره في الواقع ونفس الأمر. والإدراك الحقيقيّ لذلك المقام بالنسبة إلى الإنسان العادي أمرٌ غير ممكن([1])، ولم يكن الخواصّ ليجدوا سبيلاً إلى عالمهم الساطع إلاّ من كلماتهم أنفسهم عن مقاماتهم. ومع ذلك فإنّنا نتّبع أئمّة وقادة يمتازون بكونهم «أسوة» أيضاً. ولولا هذه الميزة فيهم سيكون عالمهم مغايراً لعالمنا؛ كونه رفيعاً جداً وبعيد المنال. ولذا فإنّ كلامهم في ذلك يعدّ قليلاً، وما من مورد تحدَّثوا فيه عن شيء من ذلك إلاّ لِما وجدوا عند السامع من استعدادٍ لتلقّيه، ثمّ كانوا يأمرونه بالكتمان.

إنّ معنى حجيّة قول المعصوم وفعله وسكوته هو نفس إمكانيّة التأسّي به والاتّباع له.

ومن هذا المنطلق إذا درسنا سيرة المعصوم كظاهرة غير بشريّة سنكون قد أسقطناها عن الحجيّة. لذا يمكننا أن نقدّم من خلال الرؤية الإثباتيّة عند دراستنا للإمام الحسين× صورةً لإنسانٍ عظيم وكامل، يمكنه أن يمثّل أسوة وقدوة للآخرين([2]).

وانطلاقاً من ذلك فما من وقت نظر فيه إلى هذه الثورة نظرة تحليليّة وبشريّة، قابلة لأن يُقتدى بها، إلاّ وقد واجهتها ردّات فعلٍ عنيفة، أمّا حينما كانت تتّخذ صبغة قدسيّة فقد كانت تتمتّع بحماية ظلَمة التاريخ، ما دامت لا تشكّل خطراً على أيٍّ منهم.

وفي هذا الإطار يقول حميد عنايت: …وأمّا التصوير الأمثل له على أنّه قدّيس يستلذّ بشوقه لتحمّل الظلم من أجل معبوده، ويستشهد في سبيله، فإنّه ينقض أيّ شكل من أشكال الاستفادة من الفاجعة في سبيل التحريض على أعمال المواجهة والنضال السياسي.

ويمكن أن ندرك مدى انفعاليّة هذا التصوير، وعدم ضرره من المنظار السياسيّ، من خلال ازدهار تمثيليّات الواقعة؛ بتشجيع الحكّام وأصحاب السلطة الماليّة والسياسيّة. وقد استخدمت في زمان كلٍّ من الصفويين والقاجاريين كوسيلةٍ لإحكام سلطتهم على عامّة الشعب. وفي أوج هذه المظاهر وعصرها الذهبيّ لم يكن مستبدٌّ، كناصر الدين شاه، ليرى أيَّ تضادّ بين أساليب حكومته الظالمة وبين توفير أدقّ التسهيلات لإقامة شعائر العزاء([3]).

وهكذا فإنّ طبيعة الجوّ السياسيّ، وبُعْد الفقهاء وعلماء الشيعة عن مراكز القوّة بشكلٍ مباشر طوال عدّة قرون، وظهور الحركة الأخباريّة، إضافة إلى عوامل الأخرى، كلّ ذلك يمكن أن يكون هو السبب في اتّخاذ هذه الحركة العظيمة شكلاً آخر خلال مرحلة تاريخيّة ممتدّة، فكانت عناوين الكتب التي تحدّثت عن واقعة عاشوراء على النحو التالي: مفتاح البكاء، طوفان البكاء، محيط البكاء، مثير الأحزان، اللهوف، ومئات العناوين الأخرى والجديدة، والتي لها قيمتها ضمن موقعها الخاصّ.

وإنْ كان لا بدّ أن نجعل من هذه الثورة نموذجاً موثوقاً على مدى التاريخ فينبغي، إضافةً إلى إجابتنا عن الأسئلة العديدة المثارة حولها، أن ندرسها على أساس الموازين الفقهيّة والحقوقيّة التي نرتضيها، وأن نبذل ما في وسعنا من البحث والاستدلال في هذا المجال.

ومن المؤسف أنّ علماء الشيعة قلّما درسوا هذه الحادثة على ضوء الموازين الفقهيّة. وفي الموارد القليلة التي طرحوا المبحث الفقهيّ لها فإنّهم نسبوا القضية إلى الأسرار الإلهيّة، وعدم علم الإنسان بكيفيّتها.

ولصاحب الجواهر في هذا المجال كلامٌ يستحقّ التأمّل، وقد أورده في باب الجهاد، ضمن بحث «الهدنة وجوازها وعدم جوازها». فهو بعد أن يعدّ هذه الثورة من الأسرار الإلهيّة، ومن جهةٍ أخرى يعتبر أنّ عدم مصالحة الإمام هو بسبب انحصار طريقه في ذلك، يقول: على أنّه له ـ أي للإمام الحسين× ـ تكليفٌ خاصّ، قد قدم عليه، وبادر إلى إجابته، ومعصومٌ من الخطأ لا يُعترض على فعله، ولا قوله، فلا يقاس عليه مَنْ كان تكليفه ظاهر الأدلّة، والأخذ بعمومها وإطلاقها، مرجّحاً بينها بالمرجِّحات الظنيّة([4]).

هناك نقاط في كلام هذا الفقيه الشهير تستحقّ الدراسة:

أولاً: ثورة الإمام الحسين× هي ذات أسرار إلهيّة.

ثانياً: كان لديه تكليفٌ خاصّ عمل بموجبه.

فهو معصومٌ عن الخطأ، ولا يمكن لأيّ شخص أن يعترض على فعله، أو حتّى أن يقوم بما يماثله.

وصحيحٌ أنّ صاحب الجواهر قد طرح هذا الكلام في مجال الهدنة وجوازها وعدم جوازها فحَسْب، ولكنْ إذا تمّ تعميم ملاك صاحب الجواهر هذا فليس فقط لا يمكن القيام بأيّ عمل في بحثنا حول «مسألة الخروج والتطبيق الفقهيّ لها»، بل ستبقى المسألة مسكوتاً عنها حتّى في مستويات أدنى من ذلك.

وكذلك إذا درسنا هذه الثورة على أساس نظريّة صاحب اللهوف فإنّ مسألة الخروج ستواجه مشكلةً أيضاً؛ فهو يعتقد أنّ الحسين× كان عالماً بما انتهت حاله إليه، وكان تكليفه ما اعتمد عليه([5]).

وطبقاً لهذه النظريّة فإنّ مسألة الخروج ستكون مدعاةً للجدل؛ بمعنى أنّ الخروج بقصد القتل لا حاجة فيه إلى جميع ضوابط ومعايير الخروج، كالمشورة، والعدّة، وغيرها، ممّا سيأتي في الأبحاث التالية. ومن جهةٍ أخرى ستكون هذه الثورة ملاكاً فقط عندما يكون هناك أفرادٌ يريدون أن يُقتَلوا.

ولسنا هنا في مقام استقصاء ومناقشة هذا القول، ودراسة لوازمه.

ويمكن لهذه النظريّة ـ بعيداً عن تصوُّر ونظرة الإمام نفسه ـ أن تكون في الظاهر تناولت الخروج، وهذا خروجٌ يقتدى به، ومطابق للموازين إلى حدٍّ ما. لكنْ حيث إنّ أسسها هي من جهة روايات، مثل: «إنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»([6])، ومن جهة أخرى رسالة سماويّة موقَّعة، أحضرها جبرائيل للنبيّ محمد|، فإنّ المسألة تصبح غير بشريّة، وما ورائيّة بشكلٍ مطلق. وقد كان في هذه الرسالة ختم خاصّ بكلّ إمام، عندما يفتحه يدرك تكليفه الإلهيّ.

ويعتقد أصحاب هذا القول أنّ الإمام الحسين× عندما فتح الختم الخاصّ به رآه مكتوباً فيه: أنْ قاتل فاقتل وتُقتَل، واخرج بأقوامٍ للشهادة، لا شهادة لهم إلاّ معك([7]).

وعلى أساس هذه النظريّة فإنّ تحليل ثورة الإمام الحسين× في الواقع هو بحثٌ في الأسباب والعلل التي لا يعلمها إلاّ الله. وليس لدينا سوى الحدس والتخمين كي يمكننا الحصول على تحليل يتَّصف بالحجّيّة. ومن هنا فعلى الأفراد أن ينتظروا الإلهام الإلهيّ. وهذا الكلام في الحقيقة هو عين كلام صاحب الجواهر، رغم اختلاف بيانَيْهما.

وكذلك فإنْ قبلنا كلام صاحب كتاب «هفت ساله» (السنوات السبع) فستنتفي مسألة الخروج من أساسها؛ لأنّ هذه الحركة كانت للدفاع عن النفس. فهو يؤكِّد أنّ خروج الإمام الحسين× من المدينة إلى مكّة، ومنها إلى العراق، كان للدفاع عن النفس، وليس خروجاً وثورةً، وليس حرباً مع الأعداء، ولا لتشكيل حكومة([8]).

وينقل في مكانٍ آخر عن قولٍ للشيعة: لم يقُمْ الإمام الحسين بثورة، ولا كان يهدف إلى الجهاد([9]).

ومن الجدير بالذكر أننّا، وبتحليل أكثر دقّة لخروج الإمام الحسين×، ودراستنا للمراحل المختلفة لثورته، سنشير في قسمٍ منها إلى أنّ خروجه من المدينة كان من أجل الدفاع عن النفس، أمّا خروجه من مكّة فقد كان للدفاع عن النفس، وللثورة.

إنّ خروج الإمام الحسين× من المدينة، وإقامته الطويلة في مكّة، بعنوانه شخصاً مخالفاً للحكومة، كان قد ترافق مع تهيئة الآخرين، والإعلان عن المخالفة، وتحصيل النصرة من مختلف فئات الناس أيضاً. ويلاحظ هذا النحو من التعامل طوال فترة مسيره من مكّة إلى كربلاء؛ لأنّه قد تعرَّض في كلّ فرصة مناسبة، وعند لقائه بمختلف الأفراد، إلى شرح مواقفه، وإلى إيقاظ المسلمين. غير أنّه لا يمكن أن يستفاد من سلوك الإمام× هذا أنّ هدفه هو فقط وفقط إيقاظ فئات الناس، وأنْ ليس لديه هدفٌ آخر، كما يرى السيد مرتضى العسكري، وهو يعتقد أنّ الإمام الحسين× لم يُرِد تشكيل حكومة في الكوفة، فإنّه لو تمكَّن من السلطة لما أمكنه أن يحيي الإسلام، ولما أمكنه أن يلغي لعن والده، الذي أشاعه معاوية، وكان مرغَماً أن يبقي لعن والده، إضافة إلى البدع الأخرى. ولذا لم يكن الإمام× يريد أن يمسك بزمام السلطة، وإنّما دعا الناس إلى الثورة المسلَّحة ضدّ حكومة يزيد؛ لتغيير الوضع الراهن([10]).

وطبقاً لهذا الرأي فإنّ دور الإمام هو إيجاد الأرضيّة للخروج، الأمر الذي يحتاج بحثاً فقهيّاً يختلف عن البحث الفقهي لأصل مسألة الخروج. ويبدو أنّ الموضوع مدار البحث يمكن أن يطرح فقط على أساس النظريّة التي تقول: إنّ الإمام الحسين× امتنع عن مبايعة يزيد؛ بسبب عدم شرعيّة يزيد، وأنّه توجَّه من المدينة نحو مكّة؛ بسبب فقدان الأمان. وعندما رأى رسائل أهل الكوفة المبايعة له، وتعاضدهم، أرسل مسلماً؛ ليحقِّق في الأمر. وانطلق نحوهم بعد أن استلم جواب مسلم الإيجابيّ، وإعلامه باستعداد أهل الكوفة. وقد ذكر الشيخ المفيد هذا المسير بشكلٍ مفصّل في كتاب (الإرشاد)([11]).

ولا يخفى أنّ هناك مَنْ حاول الجمع بين الرأيين الأخيرين بنحوٍ من الأنحاء؛ فقالوا: إنّ الإمام× كان يريد أن يشكِّل حكومة على أساس الموازين الإسلاميّة، رغم علمه بأنّه سيستشهد، ولن يتمكّن من تحقيق هذا الهدف. يقول الإمام الخميني في هذا المجال: لقد أرسل× مسلماً؛ ليدعو الناس إلى البيعة، حتّى يشكّل حكومة إسلاميّة، ويطيح بالحكومة الفاسدة([12]).

كما يكتب في مكانٍ آخر: لقد علّم سيد الشهداء× الجميع ما ينبغي فعله في مقابل الظلم، وفي مقابل الجور، وكذلك في مقابل أنظمة الحكم. فرغم أنّه كان يعلم منذ البداية أنّ هذا النهج الذي يسلكه هو نهج يجب أن يضحّي فيه بجميع أصحابه وعائلته، وأن يقدِّم هؤلاء الأعزّاء على الإسلام من أجل الإسلام، ولكنّه كان يعرف عاقبة ذلك أيضاً([13]).

وعلى أساس هذه النظريّة يمكن أن نكمل بحثنا هذا، فنقيس ثورة الإمام× على ضوء المعايير الفقهيّة، رغم أنّ القضيّة كانت مجالاً للبحث والنقاش من وجهة نظر كلاميّة([14]).

ونعني بـ «الثورة» إقدام فريق مسلّح أو غير مسلّح على الإطاحة بالحكومة. وإذا كانت الحكومة شرعيّة تُسمّى هذه الحركة بـ «البغي». وقد تطرَّق البعض للحديث عنها في بحث البغاة من كتاب الجهاد. أمّا إذا كانت الحكومة غير شرعيّة فيطلق على هذه الحركة اسم «الثورة». وكما ذكرنا فإنّ كتب الشيعة الفقهيّة قليلاً ما بحثت عن ذلك، وأمّا المصادر الفقهيّة لأهل السنّة فقد تناولته تحت عناوين، كـ «الخروج»، «الخروج المسلّح»، «الثورة»، «الثورة المسلّحة»، «النهوض»، «الملحمة»، «قتال الظلمة»، «القيام على الحكّام»، و«السيف»([15]).

نشوء حكومة يزيد وموقف الإمام× ــــــ

سنحاول في هذا القسم القيام بدراسةٍ مختصرة حول شرعيّة حكومة يزيد، وذلك على ضوء قواعد انعقاد الإمامة والقيادة في فقه العامّة والخاصّة.

يرى فقهاء الإماميّة بالإجماع أنّ انعقاد إمامة الأئمّة الاثني عشر^ مبتنيةٌ على النصّ، وذات حجّة شرعيّة، وليس عندهم بحث واختلاف في ذلك. أمّا ما وقع مجالاً للبحث فهو قيادة الأمّة في زمان غيبة الإمام المعصوم×، وهل أنّ ولاية الفقيه الجامع للشرائط هي بالتنصيب أم بانتخاب الناس؟

أشار معظم الفقهاء إلى التنصيب العامّ لولاية الفقهاء من جانب المعصومين([16])، واعتبروا ذلك هو الطريق الوحيد لها. ولكنّ هناك مَنْ كان له رأيٌ في انتخاب الفقيه الجامع للشرائط، وهم يعتقدون أنّ التنصيب العامّ للفقهاء في مقام الإثبات متوقِّف على صحّته في مقام الثبوت، وحينئذٍ أوردوا بعض الإشكالات على ولاية الفقهاء في مقام الثبوت([17]). وفي المقابل أورد البعض الآخر إشكالات على هذه النظريّة، وجعلوا حجّيّة الانتخاب موضع تساؤل([18]).

وعلى أيّ حال فما هو مهمٌّ بالنسبة لموضوعنا هذا هو أنّه مع تحقُّق إجماع الإماميّة على وجود المعصوم× ـ الحسين بن عليّ× ـ، والنصوص المتعدِّدة على إمامته، فليس لحكومة يزيد شرعيّةٌ بأيّ وجه من الوجوه، سواءٌ اعتقدنا بضرورة ذكر الإمام× باسمه تفصيلاً، بنحوٍ لا يمكن معه لأيّ إنسان آخر أن يكون له شبهة في صلاحيّة نفسه لهذا المقام، أم اكتفينا بذكر صفاته([19])، فإنّ كلا الطريقين متحقِّقان في الإمام الحسين×. وهكذا فإنّ حكومة يزيد هي غير شرعيّة، والخروج عليها هو خروجٌ على مغتصب الخلافة، وسيكون لنا كلام عنه في بحث «مغتصب الخلافة».

وما يتمتَّع هنا بأهميّة أكبر هو بيان طرق انعقاد الإمامة عند أهل السنّة، وتطبيقها على حكومة يزيد، والانتهاء إلى نتيجةٍ متَّفق عليها.

يعتبر الماوردي في (الأحكام السلطانيّة) أنّ انعقاد الإمامة يتمّ بطريقين اثنين:

1ـ انتخاب أهل الحلّ والعقد.

2ـ التعيين من قبل الإمام السابق([20]).

وكذلك القاضي أبو يعلي في شرحه للطريقين المتقدِّمين ينقل رواية أحمد بن حنبل، ويعتبر الإمامة التي تتمّ بالقوّة والسيف حكومةً شرعيّة.

ويقول ابن قدامة، الحنبليّ المذهب، في توضيح طريقَيْ الانتخاب والتعيين: لو خرج رجلٌ على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه، حتّى أقرّوا له، وأذعنوا بطاعته، وتابعوه، صار إماماً، يحرم قتاله والخروج عليه([21]).

كما يقول وهبة الزحيلي: ذكر فقهاء الإسلام طرقاً أربعة في كيفيّة تعيين الحاكم الأعلى للدولة وهي: النصّ، والبيعة، وولاية العهد، والقهر والغلبة([22]).

واعتبر في النهاية أنّ طريق الشورى والبيعة هو أفضل الطرق. ويبيِّن ابن حزم الأندلسيّ أربع طرق لتنصيب الإمام:

أـ أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته….

ب ـ إنْ مات الإمام ولم يعهد إلى أحد، أن يبادر رجلٌ مستحقّ للإمامة فيدعو إلى نفسه، ولا منازع له، ففرضٌ اتّباعه، والانقياد لبيعته، والتزام إمامته وطاعته…

ج ـ إنْ مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه، فوثب رجلٌ يصلح للإمامة، فبايعه واحد فأكثر، ثمّ قام آخر ينازعه، ولو بطرفة عين بعده، فالحقّ حقّ الأوّل…

د ـ أن يصيّر الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجلٍ ثقة أو إلى أكثر من واحد، كما فعل عمر…([23]).

وبهذا يتبيَّن أنّ ابن حزم لا يقبل بطريقة أهل الحلّ والعقد.

ويبيِّن الإمام محمّد الغزالي كذلك بعض الطرق لتنصيب الإمام:

أـ أن يعيّن الإمام الحاضر أحد أولاده، أو رجلاً من قبيلة قريش.

ب ـ أن يتمّ تفويض رجل بواسطة أهل الحلّ والعقد.

ج ـ إنْ لم يكن هناك من قرشيّ، ودعا أحدهم الناس إليه، وكان يملك القوّة والسلطة اللازمة، فهو الإمام([24]).

ويذكر مؤلِّف كتاب (النظام السياسيّ في الإسلام)، عبد العزيز عزّت الخيّاط، عدّة طرق لتعيين الخليفة في زمن الخلفاء الراشدين: الانتخاب من خلال أهل الحلّ والعقد، كما حصل في انتخاب أبي بكر؛ الانتخاب بواسطة الإمام الحاضر ومبايعة المسلمين له بعد وفاة الإمام الحاضر، وهو طريقة تنصيب عمر؛ الترشيح والانتخاب عن طريق الشورى بواسطة الإمام الحاضر، كما فعل عمر في تعيين عثمان؛ و…([25]).

ولسنا هنا في صدد نقد هذه الآراء، ولكنْ من المسلَّم به أنّ الكثير من هذه الأفكار هو تبرير لحادثةٍ وقعت، أكثر من كونها تخبر عن مبنى وفكر سياسيّ وحقوقيّ يرتكزان إلى الأحداث التاريخيّة. والمسألة المهمّة الآن هي البحث في شرعيّة حكومة يزيد على أساس هذه الطرق التي ذكرت لدى أهل السنّة.

ومن الجليّ أنّ حكومة يزيد كانت استخلافاً من نوع ولاية العهد؛ ألا وهي الطريقة التي طرحها معاوية للمرّة الأولى في الإسلام، وكانت «مَلَكيّة»، يرث الابن على أساسها الحكومة من أبيه. لذا وكما قال الكثيرون من علماء السنّة أنّ معاوية هو من سنّ نظام ولاية العهد([26])، ولهذا السبب أطلق البعض على هذا النظام اسم «الهرقليّة»([27]).

ويرى آخرون، كمحمّد رشيد رضا، أنّ إقدام أبي بكر على تعيين الخليفة هو الذي هيّأ الأرضيّة لجعل الخلافة وراثيّة([28]).

وقد أشار معاوية نفسه إلى هذه النقطة في الاستدلالات التي حشدها على صحّة عمله. وقال في خطبته لأهل المدينة: أيّها الناس، قد علمتم أنّ رسول الله| قبض ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى، فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر، فعمل عمر بكتاب الله وسنّة نبيّه، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستّة نفر، اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كلّ ذلك يصنعونه نظراً للمسلمين، فلذلك رأيتُ أن أبايع ليزيد([29]).

وتدلّ مخالفة عبد الله بن الزبير لمعاوية، وكذلك عبد الله بن عمر، الذي قال له: «إنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة، ولا قيصريّة، ولا كسرويّة، يتوارثها الأبناء عن الآباء»([30])، على أنّ أغلب الصحابة لم يرتضوا هذه الطريقة. كما أنّ عائشة كانت مخالفةً لمعاوية، فأجابها: وإنّ أمر يزيد قضاءٌ من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم، وقد أكَّد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطَوْا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترَين أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟([31]).

وعلى أيّ حال فقد استطاع معاوية في حياته؛ بالتهديد والتطميع، اللذين كانا سياسته الدائمة، أن يخدع الناس، وخصوصاً أهل الشام. وفي الواقع كان هذا بداية لقضيّة كبرى، رافقتها إشكالات جديدة، وعلى مرّ التاريخ؛ فإنّ كثيراً من فقهاء أهل السنّة وعلمائهم، الذين لم يريدوا التعرُّض لمشروعيّة الحكومة الأمويّة، لم يقوموا سوى بذمّ يزيد، بعد مواجهتهم لجملةٍ من الأسئلة حول أعماله وصفاته، ولكنْ في هذه الأثناء شكَّك البعض في شرعيّة حكومة يزيد، كما عارض آخرون بشدّة ثورة الإمام الحسين×، واعتبروا خروجه خاطئاً.

وجاء في أحد أعداد المجلة المصريّة «لواء الإسلام» حديثٌ عن ندوةٍ ضمّت كلاًّ من: محمد الغزالي، عبد الرحيم فودة، محمد أبو زهرة، وآخرين من المفكِّرين المصريّين. وقد طرحت فيها موضوعات ثلاث:

أوّلاً: هل كان للحسين أطماعٌ دنيويّة أو طلبٌ للجاه السياسيّ؟

ثانياً: هل قامت ثورته ضدّ حاكمٍ صالح؟

ثالثاً: هل اختار طريقاً صحيحاً للوصول إلى هدفه؟

وكان جواب المحاورين عن السؤالين الأوّل والثاني بالنفي، وعن الثالث بالإيجاب([32]).

ورغم أنّ هناك مجموعة قد بايعت يزيد فإنّ هذه البيعة بعيداً عن مقدار مَنْ قام بها من الناس، أو ممثِّليهم من الدرجة الأولى، هي في كثيرٍ من الموارد فاقدةٌ للعنصر الأساس من عناصر العقد، ألا وهو رضا الطرف الآخر. وفي هذا المجال ينقل الآلوسي، صاحب تفسير روح المعاني، عن ابن الجوزي، في كتاب السرّ المصون: ومن الاعتقادات التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنّة أن يقولوا: إنّ يزيد كان على الصواب، وأنّ الحسين رضي الله عنه أخطأ في الخروج عليه، ولو نظروا في السِّيَر لعلموا كيف عقدت له البيعة، وأجبر وألزم الناس بها، ولقد فعل في ذلك كلّ قبيح([33]).

وقد وافقت المصادر الأخرى لأهل السنّة على أنّ المخالفين لحكومة يزيد، الذين كانوا يتمتّعون في المجتمع بالاحترام والقبول، قد أُجبِروا على السكوت، بالسيف الذي كان يعلو رؤوسهم([34]).

وقضيّة كون خلافة يزيد غاصبة ـ بناءً على الأدلّة المتقدِّمة ـ هي من جملة الشواهد التي وردت في كتب أهل السنّة تحت عنوان «مغتصب الخلافة».

ويظهر بشكلٍ جليّ من الرسالة التي خاطب بها أهل الكوفة الإمام الحسين× أنّ مسألة كون خلافة يزيد خلافة غاصبة وغير شرعيّة كانت رائجة بين فئات المسلمين، فقد جاء في قسمٍ منها: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمَّر عليها بغير رضا منها([35]).

ويظهر من تعبيرَي: «ابتزّها أمرها»، و«تأمَّر عليها»، غصب الولاية، وعدم رضا الناس بها.

ويقرّ الطبري ـ المؤرِّخ السنيّ الكبير ـ بأنّ يزيد هو غاصبٌ؛ بسبب الإكراه على مبايعته، فيقول: وبعد هذه النقطة التي اتَّضحت في حقّ الأمّة بمحاربة غاصب الخلافة نقول: استناداً إلى هذا الحقّ ثار الحسين بن عليّ، وابن بنت رسول الله، على يزيد؛ لأنّ يزيد أخذ البيعة لنفسه كُرْهاً، والعقد الذي يقوم على الإكراه باطلٌ، وقد تخلّى عن بيعته أكثر أعيان المسلمين([36]).

وقد التفت علماء أهل السنّة إلى هذه المسألة، فصرّح أحد كتّابهم بأنّ سبب ثورة الإمام الحسين× هو «غصب يزيد للخلافة»([37]).

ويتمتَّع ابن عبّاس بمكانة خاصّة لدى أهل السنّة، فهم يعدّونه من كبار الصحابة، ويعتمدون بكثرة على رواياته وأقواله. كما يعتبره صاحب (العواصم من القواصم) أعلم أهل زمانه، ويقول: «إنّ الإمام الحسين× لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عبّاس»([38]).

وقد كان ابن عبّاس هذا من الذين أسدَوْا النصح إلى الإمام× قبل خروجه من المدينة وتوجُّهه إلى مكّة، فحذَّره من غدر أهل الكوفة ونكثهم للعهد، كما تخوَّف من أن يُقتَل، واقترح عليه قائلاً: «إنْ كانوا يريدونك، كما زعموا، فاكتب إليهم، فلينفوا عدوَّهم، ثمّ اقدِمْ عليهم»([39]).

وما يلفت النظر في هذا الكلام هو عدم تخطئته لقيام الإمام×، وعدم إطلاقه كلمة الخروج على ثورته، وإنّما كان قلقاً من الحالة المعنويّة لأهل الكوفة. ولم يكن ابن عبّاس هو القلق الوحيد، فقد قيل للإمام× كلامٌ كثير في المدينة ومكّة وطوال مسيره إلى كربلاء([40])، فقال له عمر بن عبد الرحمن بن الحارث: إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيدٌ لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك مَنْ وعدك نصره([41]).

ويذكر مؤلِّف كتاب (تاريخ الإسلام)، شمس الدين الذهبيّ، اعتراضات العديد من كبار مكّة والمدينة على الإمام الحسين×، وتحذيرهم إيّاه. ويتمحور الاعتراض المشترك لهؤلاء حول عدم الاعتماد على وعود الكوفيّين([42]). وقد كان في طليعة المعترضين عبد الله بن مطيع، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وأبو سعيد الخدري، ومسيّب بن نجبة.

وتبدو هذه المسألة واضحة في لقاء الإمام الحسين× بالفرزدق ـ الشاعر ـ بعد خروجه من مكّة متوجِّهاً إلى كربلاء. فبعد لقائه بالإمام×، وإطلاقه العبارة المشهورة: «قلوب أهل الكوفة معك، وسيوفهم عليك»، يقول الفرزدق: ثمّ مضيت فإذا بفسطاطٍ مضروب في الحرم، وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني، فأخبرته بلقاء الحسين بن عليّ، فقال لي: ويلك، فهلاّ اتَّبعته، فوالله، ليملكنَّ، ولا يجوز السلاح فيه([43]).

إنّ كلام الفرزدق وتصرُّف عبد الله يبيِّنان بشكلٍ جليّ أنّ أحداً لم ينتقد الإمام× في أصل حركته، بل المهمّ في نظر البعض كان مسألة السلطة الحاكمة في الكوفة. فعبد الله بن عمرو من كبار أهل السنّة، ومن الأشخاص الذين يتمتّعون بشأن ومكانة. ويذكره خير هيكل في كتابه كأحد قادة المسلمين، ويشير إلى أنّ إشكاله على الحسين بن عليّ كان في عقم حركته، لا في شيء آخر([44]).

ولكنّ قوله بعدم جواز شهر سلاح الإمام وأصحابه ليس بسبب عدم مشروعيّة الحركة، بل بسبب القتل، وعدم نجاح الثورة.

وهناك قرائن كثيرة تبيِّن أنّ جند يزيد لم يكونوا يرَوْن ثورة الإمام× خروجاً غير مشروع. ولولا ذلك لما صلّى الحُرّ بن يزيد الرياحيّ ومَنْ كان معه صلاة الظهر والعصر بإمامة الإمام×، بعد مقابلته([45]).

 

موقف الإمام من الحكومة ــــــ

لقد استفاد الإمام الحسين× بشكلٍ كبير؛ في سبيل إثبات شرعيّة حركته لدى المسلمين، من هاتين النقطتين: تحويل معاوية الخلافة إلى وراثة؛ وكيفيّة أخذ البيعة له ولابنه يزيد.

وتوضيحاً لذلك نقول: إنّ نظريّة الشيعة حول الخلافة هي نظريّة النصّ على الخلافة والإمامة. ولذا يرى الشيعة أنّ حكومة يزيد هي حكومة غير شرعيّة. ولكنْ لو وضعنا أنفسنا في عصر الإمام الحسين× فسندرك جيداً أنّ الإمام لم يكن بإمكانه أن يقنع الناس بهذا الدليل، ويجعلهم إلى جانبه؛ فالأمّة التي شهدت لسنواتٍ طويلة طريقة وصول الخلفاء إلى الحكومة بعد رسول الله| لم يكن لديها أيّ تصوّر عن النصّ، فقد رأت أنّ الإمام عليّاً× وولده الإمام الحسن× وصلا إلى الخلافة بغير طريق النصّ.

ولا شكّ أنّ هذه الفكرة والعقيدة تختصّ بعامّة المسلمين، الذين كانوا ينظرون إليهما نظرةً أخرى، كخلفاء تربّعوا على سدّة الخلافة بطريقةٍ قانونيّة، وإلى جانب هذه النظرة لم تكن مسألة الإمامة خافيةً على كثيرٍ من الخواص، ممَّنْ يعلمون عن طريق النصّ أنّ عليّاً وابنه’ إمامان بالحقّ.

إنّ كيفيّة تعاطي أكثر المسلمين معهم كان يحاكي هذا التفكير؛ وذلك أنّهم لم يكونوا يعتقدون أنّ أمير المؤمنين وابنه الحسن المجتبى’ هما إمامان معصومان نُصَّ على خلافتَيْهما. ومن هنا فكثيراً ما يلاحَظ الاعتراض والانتقاد، وحتّى عدم طاعة الأوامر في زمان خلافتَيْهما وولايتَيْهما.

ومن الأدلّة المبرِّرة لاستنكاف الإمام عليّ× عن البيعة هو تلك الطريقة المعتمدة بين المسلمين فيها، وإلاّ فلا معنى لأن يمتنع مَنْ نُصّ عليه بالخلافة وولاية الأمر عن قبولهما.

لقد وجد الإمام× بين عقيدته وعقيدة كثيرٍ من المسلمين بعد موت معاوية وخلافة يزيد نقطةً مشتركة، تتمثّل في عدم شرعيّة حكومة يزيد، وإنْ كان لكلِّ نظرة أساسها الخاصّ، من نصٍّ أو شورى وبيعة.

وقد جاء في عقد الصلح بين الإمام الحسن× ومعاوية أنّ الخلافة بعد موت معاوية تترك للشورى بين المسلمين، فينتخبون لها رجلاً، حيث يقول: «يجعلها شورى بين المسلمين»([46]).

ومن هذا المنطلق فقد سنحت للإمام الحسين× فرصةٌ مؤاتية جدّاً، يمكنه من خلالها أن يواجه عدم شرعيّة حكومة يزيد، سواءٌ من وجهة نظره هو وجمع من المسلمين أم من وجهة نظر عامّة الناس، وكان أوّل خطابٍ للإمام× أنّ الحكم قد خرج عن سيره الطبيعيّ المعتاد، وإنّي أريد أن أصلحه، حيث تحوَّلت الخلافة إلى «مَلَكيّة»، وخرجت عن مسارها.

فللحكومة المَلَكيّة مميّزات عديدة: إحداها: جعل الخلافة وراثيّة. ومسألة تحويل الخلافة إلى سلطنة لم تكن مسألة خافية على الأذهان. وقد عدّ أبو الأعلى المودودي في كتاب (الخلافة والملك) ثماني خصائص، مقارناً بين الحكومة المَلَكيّة ونظام الخلافة:

1ـ التحوُّل في نظام تنصيب الخليفة.

2ـ التغيّر في كيفيّة حياة الخليفة.

3ـ التحوّل في النظرة إلى بيت المال.

4ـ القضاء على حرّيّة الفكر.

5ـ الإطاحة بحرّيّة القضاء.

6ـ نهاية حكومة الشورى.

7ـ ظهور العصبيات القوميّة.

8ـ القضاء على رفعة القانون وحكومته([47]).

وهو يشير عند كلّ واحد من هذه العناوين إلى نماذج من أعمال معاوية وكيفيّة تحويله الخلافة إلى سلطنة، رغم أنّه يعمد في بعض الموارد إلى تبرئته.

لقد كان أهالي كلٍّ من: المدينة، ومكّة، والكوفة، والبصرة، وكثير من المناطق الأخرى، والذين شاهدوا الحكّام من قبل، يدركون جيداً هذا الاختلاف في مقام المقارنة. لذا كان الخروج ضدّ حكومة كهذه أمراً مشروعاً ومقبولاً. وهذه هي نقطة البداية الحسّاسة والكبيرة، والتي تهيّئ عقل عامّة المسلمين لثورة ضدّ يزيد.

وبالالتفات إلى القضايا التي ذكرت يطرح هذا السؤال الأساس، وهو: لماذا لم يبدأ الإمام الحسين× ثورته في زمن معاوية؟

والجواب عن هذا السؤال هو من ضروريّات الدراسة الفقهيّة لثورة الإمام الحسين×.

وعلى ضوء ما سيأتي في فقرات البحث يبدو أنّ الإمام الحسين× قد رأى أنّ الظروف والأوضاع عند موت معاوية، ومجيء يزيد، هي التوقيت الأفضل والأنسب، ولم تكن قد تهيَّأت ظروفٌ بذاك المستوى في أيِّ وقت مضى.

ولتوضيح ذلك لا بدّ لنا من طرح ودراسة ثلاثة محاور:

1ـ ملاك الخروج.

2ـ موانعه.

3ـ ظروفه والأرضيّة اللازمة له.

 

1ـ مبرّرات الخروج ــــــ

لقد طُرح بين فقهاء المسلمين تساؤلٌ حول الزمان الذي يجوز، أو يجب، فيه الخروج على الحاكم؟

وأشار فقهاء العامّة بشكلٍ مفصّل إلى هذا البحث. كما أنّ فقهاء الخاصّة بيَّنوا بعض ما يتعلّق به من مسائل في كتابَيْ: الجهاد؛ والحدود. فالفسق وانحراف الحاكم، وغصب الحكومة، والبيعة غير الصحيحة، هي الأسس التي تبرِّر بحث الخروج على الحاكم. ولكنّ جميع هذه العناوين تتطلَّب تحقيقاً جامعاً، إنْ في المفهوم أو في التطبيق على مصاديقها في زمان الإمام الحسين×. وسنشير هنا إليها باختصارٍ.

وما ينبغي أن يتَّضح في هذا القسم هو الحدّ الذي يفقد الحاكم شرعيّته إذا ما تخطّاه، وكذا المجريات التي تلي ذلك، والتي ينبغي أن تكون متناسبة مع الظروف والأوضاع، وإلاّ فإنّ ارتكاب الحاكم لذنبٍ أو خطأٍ لن يجعل حكومته غير شرعيّة؛ لأنّ الحكّام ـ كما يشير الفقهاء ـ هم غير معصومين، ويبتلون بالكثير من العثرات، وحينئذٍ فإنّ الحكم عليهم بالتنحية القهريّة، وسلب الشرعيّة منهم، وجواز الخروج على حكومتهم، لن يُنتِج سوى اختلال نظام المسلمين([48]).

وقد نُقلت رواياتٌ عديدة، من طرق مختلفة، من العامّة والخاصة، تحثّ المسلمين على إسداء النصيحة للحكام. وهي تشير إلى المراتب التي تمّ الحديث عنها في أبحاث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي روايةٍ عن رسول الله| أنّه سئل: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال|: «كلمة حقّ عند سلطان جائر»([49]).

وفي رواية أخرى أنّه| قال: «النصيحة وطلب الخير»، فسأله الأصحاب: النصيحة لمَنْ؟ قال|: «لله، ولكتابه، ولرسله، ولأئمّة المسلمين، وعامّتهم».

وقد جاء في هذه المصادر رواياتٌ أخرى، توضِّح بمنتهى الدقّة وأبلغ البيان حدود الطاعة والعصيان. فقد نقل عن رسول الله| أنّه قال: «شرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة؛ لا، ما أقاموا فيكم الصلاة».

وكذلك جاء في تلك الرواية: «ألا مَنْ ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يداً من طاعة»([50]).

وطلب إلى الناس في روايةٍ أخرى أن يسمعوا للحاكم ويطيعوه، ما لم يأمر بمعصية، فإنْ أمر بها فلا طاعة له([51]).

ويقول ابن حزم: …إنّ رسول الله| قال: ما من نبيٍّ بعثه الله في أمّة قبلي إلاّ كان له من أمّته حواريّون وأصحاب، يأخذون بسنّته، ويقتدون بأمره، ثمّ يحدث من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمَنْ جاهدهم بيده فهو مؤمنٌ، ومَنْ جاهدهم بلسانه فهو مؤمنٌ، ومَنْ جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل…. وهو قول عليّ وكلّ مَنْ معه من الصحابة، وأمّ المؤمنين وطلحة والزبير وكلّ مَنْ معهم من الصحابة، ومعاوية وكلّ مَنْ معه من الصحابة، وابن الزبير والحسين بن عليّ رضي الله عن جميعهم، وكلّ مَنْ قام في الحرّة من الصحابة والتابعين، وغيرهم. وهذه الأحاديث ناسخةٌ للأخبار التي فيها خلاف هذا؛ لأنّ تلك موافقةٌ لما كان عليه الدين قبل الأمر بالقتال، ولأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقٍ مفترضٌ لم ينسخ، فهو الناسخ لخلافه بلا شكّ([52]).

وحيث إنّ ابن حزم لم يوضِّح بدقّة حدود الخروج على الحاكم عُدّ واحداً من الفقهاء الذين يقولون: الخروج على الحاكم واجبٌ إذا خرج عن الدين، أو ارتكب ذنباً ما([53]).

ولتحديد حدود ذلك طُرحت لدى أهل السنّة نظريّات ثلاثة:

الأولى: وهي نفس الرأي الذي نسب إلى ابن حزم وآخرين. والحقيقة أنّ نتيجة النظريّة الأولى هي أنّ الخروج على الحكومة واجبٌ، عندما يكون الحاكم قد خرج على الدين أو ارتكب ذنباً ما.

ويقول صاحب كتاب الفقه الإسلاميّ وأدلّته: ورجّح الدكتور محمد يوسف موسى رأي ابن حزم؛ لأنّ الأمّة الإسلاميّة موصوفة بأنّها آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، ترفض الظلم، وتقيم شعائر الله، ولكنْ بشرطٍ واحد، وهو أن يقدّر تمام التقدير مَنْ يرى وجوب الخروج بالقوّة على خليفة يستحقّ العزل شرعاً ضرورة صيانة وحدة الأمّة، التي ينبغي أن تحرص عليها الحرص كلّه، وضرورة تجنيبها الفتنة، وإراقة الدماء بلا ضرورة([54]).

ثمّ يقول متابعاً: وهذا الرأي قريبٌ من رأي المعتزلة، الذين يوجبون الخروج على السلطان، عند القدرة والإمكان([55]).

الثانية: إذا كفر الحاكم عَلَناً وجب عصيانه. أما إذا لم يصل انحرافه إلى ذلك فتجب طاعته في الموارد غير المحرَّمة، ويعدّ الخروج عليه محرَّماً([56]).

ومن أصحاب هذه النظريّة ابن حجر العسقلاني. فهو تعليقاً على روايةٍ تروى عن رسول الله| في وجوب طاعة الحاكم، إلاّ في حال الكفر البواح، يقول: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً. فإنْ أحدث جوراً بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه. والصحيح المنع، إلاّ أن يكفر، فيجب الخروج عليه([57]).

ويرى أبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين) أنّ أصحاب الحديث يتّبعون القول الثاني، ويقول: السيف باطلٌ، ولو قُتلت الرجال وسُبيت الذرّيّة. وإنّ الإمام قد يكون عادلاً؛ وقد ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإنْ كان فاسقاً. وأنكروا الخروج على السلطان ولم يرَوْه. وهذا هو قول أصحاب الحديث([58]).

ويقبل صاحب شرح النووي على صحيح مسلم النظريّة نفسها، ويقول: وأما الخروج عليهم (يعني ولاة الأمر)، وقتالهم، فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإنْ كانوا فسقة ظالمين. وصرّح بعد ذلك بتظاهر الأحاديث بمعنى ما ذكر([59]).

ثمّ نقل قول القاضي عياض([60]) عن جماهير أهل السنّة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلّمين بأنّ الحاكم لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه([61])، ثمّ يكمل قائلاً: وقد ادَّعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد ردَّ عليه بعضهم هذا بقيام الحسين([62]) وابن الزبير وأهل المدينة على بني أميّة([63]).

الثالثة: إذا ارتكب الحاكم ما لم يصل إلى حدّ الكفر العلنيّ فالخروج عليه مباحٌ. ودليلهم أنّ بعض الصحابة لم يشتركوا في الخروج على حكّام زمانهم، ولكنَّهم لم يرفضوا أعمال الخارجين في تلك الأزمان([64]).

تلك هي نظريات أهل السنّة بصورةٍ عامّة، وقد تعرّض محمد خير هيكل، في رسالته التي ألّفها لنيل شهادة الدكتوراه، إلى معالجة هذه المسألة أيضاً، وقدَّم في النهاية التقسيم الذي يراه على النحو التالي:

نحن نفهم من النصوص الشرعيّة أمرين:

1ـ وجوب الصبر، ومنع محاربة الحاكم، رغم كونه فاسقاً وظالماً، إلاّ إذا ارتكب بعض الأعمال، التي وإنْ لم تكن «كفراً بواحاً»، إلاّ أنّها تبيح قتاله.

لذا يبدو أنّه يريد القول بأنّ قتال الحاكم مباحٌ، وليس واجباً. وهذه هي نتيجة النظريّة الثالثة.

ومن وجهة نظره فإنّ انحراف الحاكم هنا على صور:

أـ ترك الصلاة والصيام.

ب ـ عدم إقامة الصلاة بين الناس.

ج ـ عدم سعيه لمنع المعاصي الشائعة علناً بين الناس.

د ـ أن يأمر بالمعصية العلنيّة.

وبعد أن يذكر أدلّة هذه الموارد يبيِّن ويؤكِّد شرعيّة ـ لا وجوب ـ إعمال القوة والقدرة العسكريّة ضدّ الحاكم؛ حيث إنّ المعاصي المخفيّة وغير المعلنة الصادرة عنه لا توجب الخروج عليه.

2ـ وجوب القيام المسلَّح عند الكفر البواح. ويذكر لهذا الوجوب روايات من الموسوعات الروائيّة للبخاري ومسلم، ويعتبر أنّ الكفر البواح ثلاثة أنواع:

أـ كفر الحاكم.

ب ـ كفر أفراد المجتمع، دون أن يكون هناك نهيٌ أو منع من قبل الحكومة.

ج ـ ارتكاز الحكومة إلى الكفر، وإنْ لم يكن الحاكم بنفسه كافراً([65]).

ويعتبر خير هيكل أنّ مجرد أمر الحاكم بالمعصية ليس من مصاديق الكفر البواح.

وهو يطرح في نهاية بحثه سؤالاً مفاده: إذا قيل: عندما ترتكب الحكومة انحرافات، كالفسق غير البواح أو الظلم وأمثالهما، ومع ذلك يمنع النظام الإسلامي من رفع السلاح في وجهها، ألا يعني ذلك حماية النظام الإسلامي لهذه الأعمال؟

ويقول في جوابه: تجب محاربتها؛ طبقاً لاجتهاد البعض، قديماً وحديثاً، سواء كان انحراف الحاكم جزئيّاً أم كبيراً. ولكنّ جمهور العلماء يمنع هذا الأمر، إلاّ عندما يكون كفراً بواحاً. وينقل عن كلام النووي شارح مسلم أنّ هذا القول هو «أخذ بأهون الشرَّيْن». ثمّ يقول في النهاية: يجب أن يُحال هذا الأمر إلى ديوان مظالم محكمة العدل، فإذا خلعه هذا الديوان، ورضي هو بذلك، فلا مشكلة، وإنْ لم يقبل فهنا احتمالان، ولا بدّ من الموازنة بين كفَّتَيْ: الصبر على الظلم؛ والضرر الحاصل من خلعه، وتعيين الراجح منهما… ([66]).

والقدر المتيقَّن ممّا ذكر هو أنّ الثورة على الحاكم الفاسق والمنحرف الذي ينكر ضروريّات الدين بالفعل أو بالقول هو فعلٌ مباح، على الأقلّ في حال وجود الإمكانات اللازمة والأرضيّة المعدّة للقيام.

فما هو مدى انحراف الحكم عند موت معاوية ووصول يزيد إلى السلطة؟

وسيتَّضح الجواب عن هذا السؤال من خلال دراستنا لمحورَيْن آخرين: موانع الخروج؛ وظروفه وإمكاناته.

 

2ـ موانع الخروج ــــــ

لماذا لم ينطلق الإمام الحسين× في ثورته في عهد معاوية؟ ألم يكن ملاكها موجوداً أم كانت هناك موانع تعيق؟

وللإجابة على ذلك نبحث الموانع التي ذكرها البعض:

 

أـ صلح الإمام الحسن× ــــــ

يعتبر البعض أنّ صلح الإمام الحسن× مع معاوية هو المانع الأهمّ لخروج الإمام الحسين× على معاوية طوال السنوات العشر التي عاصره فيها([67]).

وهناك اختلاف حول نصّ الصلح؛ حيث يقول البعض أنّ المادة الثانية من العقد كانت على النحو التالي: الخلافة بعد معاوية هي للإمام الحسن، فإنْ أصابه شيء فإلى الحسين، ولا حقّ لمعاوية في تعيين خليفةٍ له من بعده([68]).

وقد حصل فيها تزويرٌ لاحق إلى أنّ: «الحكم بعده منوطٌ بشورى المسلمين»([69]).

والقدر المشترك بين جميع الأقوال هو أنّ معاوية لم يكن يمتلك حقّاً كهذا ليعيِّن خليفة من بعده، وقد خالف العقد ونقض العهد حين طرح خلافة يزيد. فإذا اعتبرنا أنّ السبب في تأخير ثورة الإمام الحسين× هو وجود المعاهدة فقط فعلى الأقلّ لا يصحّ هذا الكلام منذ طرح معاوية ولاية العهد ليزيد؛ لأنّ معاوية يكون بذلك قد نقض العهد من طرفه.

ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام الحسن× قد استشهد عام 49هـ. وبعد عامٍ واحد، وتحديداً في عام 50هـ، قدم معاوية المدينة، ثمّ أرسل إلى عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحدٍ من الناس حتّى يخرجوا من عنده، فلمّا جلسوا تكلّم معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أما بعد، فإنّي قد كبر سنّي، ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكتُ أن أُدعى فأجيب، وقد رأيتُ أن أستخلف عليكم بعدي يزيد([70]).

إنّ هذا التفسير لتأخُّر الثورة لو صحّ فإنّه يبرِّر سكوت الإمام× لعامٍ واحد، لا لأحد عشر عاماً. وبما أنّ عقد الصلح كان في ربيع الأول من عام 41هـ فإنّ الإمام الحسين× سيكون قد شهد منذ ذلك الحين حتّى عام 61هـ العديد من الخروقات لهذا العقد. وكان الإمام الحسن× على قيد الحياة ممسكاً بزمام الأمور خلال مدّة يسيرة من تلك السنوات، أمّا بعد استشهاده فلم تعُدْ هناك من حاجة للانتظار، حيث كانت الظروف مهيّأة لثورة الإمام الحسين× ونقض المعاهدة. مضافاً إلى أنّ ما نقضه معاوية ليس ما أشرنا إليه من البنود فحَسْب، بل هناك بنودٌ أخرى نقضت كذلك، مثل: عدم لعن عليّ×، والعمل بكتاب الله وسنّة رسوله، وغير ذلك([71]).

إذاً فوجود عقد الصلح لا يعدّ وحده مانعاً من الثورة، رغم وجود روايةٍ عن الإمام الصادق× تفيد أنّ الإمام× اعتبر نفس العقد أحد الموانع([72]).

ولو صحّت الرواية فلا بدّ أن تعدّ من الموانع الظاهريّة؛ حيث كان الإمام× سيعدّ ناكثاً للعهد بين عموم المسلمين لو نقض هذا الصلح، فلم تكن أفكار الناس قادرةً على فهم ما يُقدم عليه الإمام([73]).

 

ب ـ طبيعة تركيبة حكومة معاوية، وقوّتها ــــــ

ذكرنا في المباحث السابقة أنّ حكومة معاوية كانت حكومة مَلَكيّة، وكانت خاليةً من جميع معايير الخلافة. وقد استطاع بماهيّة مزدوجة أن يقمع المخالفين، وفي الوقت نفسه أن يبدو مقبولاً في أعين الناس. فالسيف العلنيّ والمخفي، ترافقه الأسس الفكريّة والفلسفيّة التي صاغها له وضّاع الحديث،والحِلْم الذي دعا حتّى الخواجة نظام الملك الطوسي إلى الإعجاب به([74])، والدهاء والمكر اللذين قال الإمام× عنهما: «ولو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا، وللدنيا أعمل وأنصَب، ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، وأشدّ شكيمة»([75])، كلّ هذا يدّل على سيطرته المحكمة على الأوضاع والأحوال.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ معاوية في حدود عام 16هـ قد ولي الأردن، كما قبل ولاية الشام في عام 19هـ، وذلك عند موت أخيه يزيد بن أبي سفيان، فإنّ الحكم لمدّة أربعين عاماً (بعنوان خليفةٍ أو وال) هو سببٌ لاستحكام أصوله. وفي دراستنا لمباني الفلسفة السياسيّة لحكومته نكتفي بتلك الرواية المجعولة، التي يعتبرها مؤّلف كتاب «انقلاب عاشورا (ثورة عاشوراء)» دليلاً على الغموض في تحليل وتبيين أسس حكومة معاوية، وطبيعة تركيبتها: أطيعوا أمراءكم ما كان، فإنْ أمروكم بما حدّثتكم به فإنّهم يؤجرون عليه وتؤجرون بطاعتكم، وإنْ أمروكم بشيءٍ ممّا لم آمركم به فهو عليهم وأنتم منه بُرآء؛ ذلك بأنكم إذا لقيتم الله قلتم: ربّنا، لا ظلم، فيقول: لا ظلم، فتقولون: ربّنا أرسلتَ إلينا رسلاً فأطعناهم بإذنك، واستخلفت علينا خلفاء فأطعناهم بإذنك، وأمّرت علينا أمراء فأطعناهم، قال: فيقول: صدقتم، هو عليهم، وأنتم منه برآء([76]).

وصحيحٌ أنّ يزيد لم يكن يراعي ظواهر الدين، وكان هذا سبباً لتحريك فئات المجتمع من قبل الإمام الحسين×، ولكنّ هذا لا يعني أنّ معاوية كان يقوم بحفظ ظاهر الدين. ويكتب مؤّلف كتاب «نگاهي به حماسه حسيني (نظرة إلى الملحمة الحسينيّة)»: ألم يقم معاوية بذنوبٍ عظام، كلعن الإمام عليّ×، والكذب على النبيّ|، وقتل الأبرياء، كعمرو بن حمق وحجر بن عديّ ـ رضوان الله عليهم ـ، وجعل الخلافة وراثيّة، ونشر التمييّز العنصريّ، ممّا عدّه الشهيد مطهري من التجاوزات الخفيّة لمعاوية؟ ويقول الإمام عليّ× حول افتضاح معاوية ووقاحته: ظاهرٌ غيّه، مهتوكٌ ستره([77]). لقد أعلن معاوية فسقه وفجوره وانحرافه، ولم يدَعْ على نفسه من ستر([78]).

والدليل الآخر على هذه الحقيقة أنّ مجموعة من الكوفيّين أرسلوا إلى الإمام× رسالة قبل موت معاوية، ودعَوْه فيها إلى بيعته([79])، ولكنّ الإمام× لم يقبل، وصرّح بأنّه ينتظر موت معاوية، لينظر بعده في إمكان الثورة؛ فقد كان يعلم أن ثورته قبل ذلك ستكون عقيمة ووخيمة العاقبة. ويجب القبول على كلّ حال بأنّ افتضاح يزيد وفسقه المعلن كان أكثر من أبيه، وهذه هي المسألة الحسّاسة، والتي كانت في أذهان الجميع، والتي استفاد منها الإمام الحسين× لتعبئة الأفكار وتهييج الأحاسيس، وجعلها جزءاً من ثورته الإصلاحيّة. ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ معاوية كان ملتزماً بالمظاهر؛ لذا يجب أن نحلِّل من هذه الزاوية جملة الخطاب المشهور للحسين بن عليّ إلى والي المدينة: ويزيد رجلٌ شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله…([80]).

وتدلّ حرب الإمام عليّ× مع معاوية، وكذلك حرب الإمام الحسن×، وبعض الرسائل والعبارات التي تمّ تبادلها بين الإمام الحسين× ومعاوية، على خطأ تفسير خروج الإمام على حكومة يزيد بأنّه كان بسبب مقتضيات لم تكن في زمان معاوية (الفسق العلني). ويكتب معاوية في رسالةٍ للإمام×، يحذّره فيها من إثارة الفتنة في صفوف الأمّة، ويعدّد الإمام× في جوابٍ مفصَّل له، يمكن أن يعدّ الميثاق الأساسيّ لحركته، تجاوزاتٍ كثيرة، فيخاطبه بـ «قاتل حجر وأصحابه»، وينسبه إلى الظلم والعدوان، ويوبِّخه على قتل أفراد، كعمرو بن الحمق والحضرمي، ويعجب من إلحاقه زياداً بأبي سفيان، ويعتبر حكومته من أكبر الفتن، و…([81]).

كما يقول له في رسالة الجواب هذه: كأنّك لستَ من هذه الأمّة، وليسوا منك.

تشير هذه الجملة إلى الانقطاع التامّ بين الناس وبين الحكومة؛ بسبب خُلُق معاوية ومَنْ حوله وسيرتهم.

ويقول فيها أيضاً: وإنّي والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإنْ أفعل فإنّه قربة إلى ربّي، وإنْ لم أفعله فأستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحبّ ويرضى([82]).

وتعبِّر جميع هذه العبارات عن أنّ مقتضيات الجهاد مع معاوية كانت مهيّأة، لكنّ المانع الكبير كان موجوداً أيضاً، وهو (اقتدار الحكومة). وكانت هذه المقتضيات نفسها في زمان يزيد، بمشاهد أكثر جلاءً، وكانت الظروف مهيّأة بلا أيّ مانع تقريباً؛ لأنّ يزيد كان قد وصل إلى حدّ من التجاهر بالفسق جعل معاوية ينصحه ويحذِّره منه، وقد كتب في رسالة له عدّة أبيات تشير مضامينها إلى أنّ معاوية كان يحكم بظاهرٍ وباطن مزدوج:

انصب نهارك في طلب العلى *** واصبر على هجر الحبيب القريب

حتّى إذا الليل أتى بالدجى *** واكتحلت بالغمض عين الرقيب

فباشِرْ الليل بما تشتهي *** فإنّما الليل نهار الأريب

كم فاسقٍ تحسبه ناسكاً *** قد باشر الليل بأمر عجيب

غطّى عليه الليل أستاره *** فبات في أمنٍ وعيش خصيب

ولذّة الأحمق مكشوفة *** يشفى بها كلّ عدوّ غريب([83])

ومن هنا فمعاوية يعلن عن منطقه، فيدعو يزيد إلى اللهو ونشدان اللذّة، بعيداً عن أعين الناس([84]). إذاً فملاك الخروج كان موجوداً في زمان حكومة معاوية، وفي زمان حكومة يزيد، ألا وهو انحراف الحكومة([85]). ولكنّ هذا الأمر هو ضمن الإطار والأجواء التي تمّ بيانها؛ بمعنى أنّ الانحراف، مضافاً إلى مجموع الأوضاع والظروف الموجودة، يمكن أن يبرِّر الثورة في زمان يزيد.

فما هي تلك الأوضاع والظروف؟ هذا ما سنتناوله في الفقرة التالية:

 

3ـ الأوضاع والظروف اللازمة للخروج ــــــ

أـ الوعي والاستعداد العامّ ــــــ

تقدّم أنّ الخروج على الحكومة يحتاج إلى ظروف. ودراسة هذه الظروف والأوضاع يؤسِّس قاعدة حقوقيّة مضبوطة للخروج. وعلى أساس الفكرة التي تمّ القبول بها في بداية البحث فلا شكّ أنّ دراسة وعي الشعب واستعداده بمختلف طبقاته سيسهّل فهم وقائع بيعة الإمام عليّ×، وصلح الإمام الحسن×، وثورة الإمام الحسين×، وسيرة باقي الأئمة^. ونستخلص من السيرة العامّة لأئمّة الهدى^ أنّهم كانوا في المسائل الاجتماعيّة يتجنَّبون اعتماد سياسة تغاير روح وحدة الأمّة الإسلاميّة، إلاّ إذا توفّرت الظروف بنحوٍ يجعل كثيراً من الناس ـ أو على الأقلّ عدداً كبيراً من أفراد النخبة في المجتمع ـ قادرين على إدراك مرامي تلك السياسة، وفهمها، وتحليلها.

ويبيِّن سلوك الإمام عليّ× بالجلوس في المنزل مدّة خمس وعشرين عاماً، وكذلك أثناء إمارته، مدى تقيُّده بهذا المبدأ. لذا فقد كانوا يتراجعون حيثما وجدوا أنّ روح وحدة الأمّة الإسلاميّة معرَّضة للاهتزاز([86]). وجاء صلح الإمام الحسن× في جوّ كان فيه لكثيرٍ من أتباعه في ما قام به وجهة نظر مختلفة. وزيادةً على ذلك فعسكر الطرف المقابل كان مسلماً في الظاهر، وطالباً للصلح.

وقد كان لترغيب الأئمّة في جماعة عامّة المسلمين وجماعاتهم، وحضور جنائزهم وأتراحهم، والقيام بحسن معاشرتهم، مع حفظهم لنهجٍ مستقّل بهم، دلالة على ما يحوزه موضوع المجتمع والرأي العامّ من أهميّة لديهم، وخاصّة في قيادة الحركات الاجتماعيّة. وربما يمكن تشبيه أهمّيّة هذا الأمر بأهمّيّة البيعة في تحقيق فعليّة السلطة وبسط يد الحاكم، رغم كونه إماماً معصوماً ومنصوصاً عليه.

وقد كان لثورة الإمام الحسين× نصيبٌ كبير من التأييد والدعم والأنصار، ممّا لم يكن له وجود قبلها. وقد أشرنا في الأبحاث السابقة إلى أنّ مخالفة ثورته من قِبَل بعض الوجوه البارزة في المجتمع الإسلاميّ لم تكن بسبب رفض الرأي العامّ لها، أو عدم شرعيّتها في نظره، بل كان القاسم المشترك بين كافّة مواقف إظهار الحزن والممانعة والنصيحة هو عدم جدوى هذه الثورة على الحكم. لذا فثورته مشروعة، وفي رأي البعض كان هناك مانعٌ كبير. وكما سنذكر عند المقارنة بين عناصر التأييد وعناصر الرفض، حتّى من خلال رؤية (وجود المانع)، فإنّ كفّة عناصر التأييد هي أرجح بكثير.

وجاء في قسمٍ من رسالة أرسلها إليه أهل الكوفة، في حديثهم عن النعمان بن بشير: لسنا نجتمع معه في جمعةٍ، ولا جماعة، ولا نخرج معه إلى عيدٍ([87]).

هذا القسم من الرسالة يعكس رؤية كثيرٍ من المسلمين حول عدم مشروعيّة حكومة يزيد،ولا تدلّ بالضرورة على جواز الثورة عليه أو وجوبها، بل على عدم استعداد عقول العامّة لها في زمان معاوية. وهذا هو حال الكوفة التي هي مركز خلافة أمير المؤمنين×، والإمام الحسن×، ومركز الصراعات والحروب المختلفة، حتّى مع معاوية نفسه، فكيف بسائر المدن؟! لأنّ هذه الرسالة تشير إلى أنّ أهل الكوفة حتّى ذلك الحين كانوا يشاركون في الجمعة والجماعات. لذا فليس المهمّ هو توفّر فئة تناصر الثورة، بل تأمين أرضيّة تحفظ الفكر، وتمنع التفرقة بين صفوف الأمّة. ويمكن لهذا البحث أن يكون له كبير الأثر في توضيح علل عدم خروج الإمام× على معاوية.

 

ب ـ الشورى ــــــ

من الأركان الأخرى لأيّ ثورة اجتماعيّة طلب الرأي والمشورة مع أصحاب العقل وذوي الرأي. ورغم أنّ أصل الشورى ليس من أركان الخروج، لكنْ بما أنّه يتمتّع هنا بأهمّيّة خاصّة ـ كما سيتّضح ضمن طيّات البحث ـ فسنتعرض بشكلٍ مستقلّ لتوضيحه.

إنّ موافقة وجدان الجماعة هي أمرٌ لبّيّ، كما يقول الأصوليّون، ولا دليل لفظيّاً عليه. لذا يجب الأخذ بالقدر المتيقَّن منه، وهو ما كان متحقِّقاً في زمان يزيد؛ بمعنى أنّ يزيد لم يكن وجهاً مقبولاً ومشروعاً للحكم. وفي هذه الحال إذا أراد الحسين بن عليّ أن يقوم بثورةٍ قبل رفض الناس لشرعيّة يزيد فقد كان عليه أن يحرّك الرأي العام ويوحّده ضدّ الحكومة الجائرة، وأن يشركه في الثورة، لذا لم يكن من حيلةٍ سوى مشورةٍ مع النخب من الناس، والذين يمثِّلون الرأي العامّ، ويعدّون معياراً له.

إنّ دراسة هذا البحث، زيادة على ترسيمه التصوير الأصّح، ستقدّم جواباً للبعض ـ وخاصّة كتّاب أهل السنّة ـ الذين يرَوْن أنّ ثورة الإمام الحسين× تعتبر فاقدة لهذا العنصر، فسجَّلوا عليها اعتراضاتٍ عدّة. وقد خلط هؤلاء الكتّاب بين الموضوعين، واستفادوا من مخالفة كثيرٍ من كبار ذاك الزمان لثورة الإمام الحسين× أنّ القيام ضدّ يزيد كان قياماً غير صحيح. ولكنْ بالعودة إلى الكلام الذي جرى بين الإمام× وابن عبّاس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن الحنفيّة وأبو سعيد الخدريّ يتّضح أنّ سبب مخالفتهم هو نكث أهل الكوفة للعهد، وتقاعسهم، وليس شرعيّة يزيد.

ومن جهة أخرى، وفي مقابل هذه المخالفات، وحيث كان محورها هو عدم تعاون أهل الكوفة، فقد رأى العديد من الوجوه البارزة والكبيرة وأهل الخبرة في الكوفة والبصرة، والذين كان لهم تاريخٌ لامع، حتّى أنّ بعضهم اشترك في حروب وفتوحات كثيرة في زمن الخلفاء الراشدين، وكان بعضهم الآخر في ركاب أمير المؤمنين× في معارك صفيّن والنهروان والجمل، ودافعوا عن أمير المؤمنين× حتّى الرمق الأخير، ونفس هؤلاء الأفراد هم مَنْ دعَوْا الحسين بن عليّ، وعاهدوه، ومن هذا المنطلق يكتب الإمام× في جوابه بعد أن وصلته رسالة أهل الكوفة: وأنا باعثٌ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، فإنْ كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي أجلائكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم، قدمت عليكم وشيكاً إنْ شاء الله([88]).

لذا فالإمام× كان يسعى لمعرفة رأي الأفراد الذين كانوا في صلب الأحداث، ويفترض فيهم أن يعطوا رأيهم في أهل الكوفة، وفي مساعدتهم إيّاه وعدمها، وكان الإمام× يعدّهم أصحاب عقل وفكر. والأدلّة التي ستأتي تبيِّن أنّ الإمام× قد انطلق في عمله بمشورة مجموعة مهمّة، وموافقتها:

أـ إرسال مسلم إلى الكوفة، وتأكيده على أن يقابل الكبار وأصحاب الفكر، وأن يستطلع رأيهم.

ب ـ الشخصيّة المميّزة والمهمّة للعديد من الأفراد الذين دعَوْا الإمام([89]).

ج ـ مرافقة كبار أهل البصرة وأتباعهم بعد دعوة الإمام لهم، كالأحنف بن قيس، ويزيد بن مسعود النهشلي.

إذا نظرنا في ما ذكر من مقدّمات، ودقَّقنا في شخصيّات كتّاب الرسائل ومعلني استعدادهم للتعاون مع الإمام×، تبيَّن لنا، إضافةً إلى عدم شرعيّة حكومة يزيد، أنّ هذه الفئة كانت مستعدّة لمساعدة الإمام×، وللثورة أيضاً([90]).

 

ج ـ القوى المسلّحة ــــــ

كما تقدَّم عند دراستنا الفقهيّة للخروج فإنّ من الشروط اللازمة للخروج امتلاك القوى المسلّحة الكافية. فهل كان الإمام الحسين× يمتلك القوّة الكافية لذلك؟

إنّ إعلان جهوزيّة عشرات الآلاف من القوى المسلّحة من الكوفة لمساندة الإمام لا يمكن اعتباره أمراً بسيطاً. فهذا العدد من العسكر، مع تلك المقدّمات التي ذكرناها، تستحثّ أيّ إنسانٍ يمتلك الدافع، وعاقل وخبير ومحبوب ـ تتَّجه إليه الأنظار ـ، لأنْ يقوم بثورةٍ.

يقول الشيخ المفيد: وكتب إليه أهل الكوفة : إنّ لك هاهنا مئة ألف سيف([91]).

ويقول الذهبي: فجاءت رسل أهل الكوفة إليه بديوان فيه أسماء مئة ألف([92]).

ويقول الشيخ الطوسي أيضاً: إنّ مسلم بن عقيل لمّا دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها([93]).

هذا إضافةً إلى مجموعة من أهل البصرة، الذين كانوا قد أعلنوا جهوزيّتهم. لذا فدراسة التاريخ تبيِّن أنّ الملاك كان موجوداً، وكذلك الظروف والأرضيّة. لذا فمن غير المعلوم إلى أيّ أساس يستند انتقاد بعضهم، كمحمّد خضري بك، حيث يقول: إنّ الحسين أخطأ في خروجه هذا، الذي جرّ على الأمّة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد ألفتها إلى يومنا هذا… غاية ما في الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم يهيّئ له، ولم يعدّ له عدّته، فحيل بينه وبين ما يشتهي، وقُتل دونه…. وقد ذهب الجميع إلى ربّهم، يحاسبهم على ما فعلوا، والتاريخ يأخذ من ذلك عبرة، وهي أنه لا ينبغي لمَنْ يريد عظائم الأمور أن يسير إليها بغير عدّتها الطبيعيّة…. كما أنّه لا بدّ أن تكون هناك أسبابٌ حقيقيّة لمصلحة الأمّة، بأنْ يكون جورٌ ظاهر لا يحتمل، وعسفٌ شديد ينوء الناس بحمله. أمّا الحسين فإنّه خالف يزيد وقد بايعه الناس، ولم يظهر منه ذلك الجور ولا العسف عند إظهار هذا الخلاف([94]).

وقد مجَّد آخرون من أهل السنّة هذه الثورة كما تقدّم، ولم يعيبوا عليها بشيءٍ([95]).

 

الخروج وانعدام الظروف ــــــ

لقد تبيَّن من الأبحاث السابقة أنّ خروج الإمام الحسين× كان مشروعاً ومبرَّراً. ولكنّ السؤال المهمّ هنا هو أنّ ما تقدّم إنّما يبرِّر حركته من مكّة إلى منزل ثعلبيّة، أو إلى منزل زبالة كحدٍّ أكثر، حيث وصل إليه خبر شهادة «مسلم» و«هاني». ولكنْ أيّ تبرير مقبول لخروجه من المدينة إلى مكّة، ومن منزل زبالة نحو الكوفة؟

يمكن أن نلاحظ في هذه الحركة مراحل عدّة. ولا بدّ لكلّ مرحلة أن تقاس بظروفها. وقد أدّى عدم الفصل بين المراحل إلى اشتباه كثير من الكتّاب والمحلِّلين لأحداث عاشوراء. ويساعد الفصل بين المراحل على معرفة أيّ مقاطع ثورة الإمام× كان يستند إلى عدم شرعيّة يزيد والاستنكاف عن بيعته، وأيّها كان يستند ـ إضافة إلى ذلك ـ إلى مساندة الناس ونصرتهم وتأييدهم. يترك الإمام× في إحدى المراحل بيعة يزيد، وفيها يعتبر ـ كما ذكرنا ـ أنّ طريقة وصول يزيد إلى الخلافة لم تكن صحيحة([96]). فإضافة إلى عدم النّص على خلافته لدى الشيعة، تعتبر ولاية العهد ليزيد بدعة؛ حيث لم يكن أغلب المسلمين مؤيِّدين لها. وقد استفاد الإمام أفضل الاستفادة من هذه النقطة المشتركة بين الآراء لتبرير ثورته. كما أنّه في هذه المرحلة يَعدّ يزيدَ غير صالح للخلافة، ويصفه بأنّه شاربٌ للخمر، قاتل، وغيرُ كُفْء لمثل هذا المنصب.

ولقد كان من حقّ الإمام× أن لا يبايع إنساناً على هذه الحال، وهذا من حقوقه السياسيّة والاجتماعيّة. وسواءٌ كان الإمام يراه غاصباً للخلافة، التي هي حقّه الشخصيّ المسلوب منه، أم لم يكن يراه كذلك، فإنّه لم يكن مستعدّاً لتحمّل التعهُّدات والآثار الحقوقيّة للبيعة، وأن يضفي على يزيد وخلافته طابع الرسميّة والشرعيّة. ولم يكن استكناف الإمام× عن البيعة بالظاهرة الجديدة في العالم الإسلاميّ، فقد امتنع عبد الله بن عمر عن البيعة لعليّ×، ولم يعترضه أحدٌ على ذلك. إلاّ أنّ حاكم المدينة قد سعى إلى أخذ البيعة من الإمام بالضغط والتهديد؛ ولذا فقد صحب الإمام الحسين× بعض بني هاشم، وأمرهم بأخذ أسلحتهم، حين مضى إلى دار الإمارة في المدينة. ولا ريب أنّ تهديد الحكومة هذا لم يكن له أيّ مستند فقهيّ أو حقوقيّ، فأقصى ما يمكن أن يُدّعى هو أنّ المستنكف عن البيعة عاصٍ، وليس لأحد أن يسمّي هذا الإحجام خروجاً.

ولم يكن في هذه المرحلة من خبر عن الكوفة ورسائلها. وأقصى ما قام به الإمام× هو ترك البيعة. وعندما علم الكوفيّون أنّ الإمام قد ترك منكَراً كبيراً رأَوْا الأرضيّة تساعد على القيام بمعروفٍ كبير. ومن هنا عندما اجتمع محبّو الإمام× في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ذكر هذا الأخير في مطلع كلامه أنّ الحسين بن عليّ× لم يبايع، وطلب منهم أن يساعدوه([97]).

ويتَّجه الإمام× في المرحلة اللاحقة من المدينة نحو مكّة، ولا يسمّى هذا الانتقال والتحرُّك خروجاً على الحكومة أيضاً، فقد كان فقط بغرض الدفاع عن نفسه؛ حيث كان على والي المدينة أن يأخذ البيعة من الإمام بأيّ نحو من الأنحاء، لذا فالتأخير لم يكن جائزاً. ويطلب محمد بن الحنفيّة من الإمام أن لا يقيم في مدينة معيّنة، وأن يكون في مكانٍ بعيد عن الأنظار؛ حتّى يمكنه أن يجمع الناس من حوله([98]).

وجواب الإمام× لأخيه محمد يحكي عن ذلك، وأنّهم قد شدَّدوا وضيَّقوا على الإمام×: يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية…([99]).

وعندما خرج الإمام× من المدينة تلا هذه الآية: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (القصص: 22)، وهي الآية التي قرأها النبيّ موسى× عند تركه لمصر، بعد أن قتل رجلاً عن غير عمد، ففارق المكان في حال من الخوف والأمل الشديدين، هارباً من جلاوزة فرعون. وباختياره لهذه الآية يصوّر الإمام× بوضوح أجواء الهروب والملاحقة.

ويعتبر السيد هبة الدين الشهرستانيّ ذاك الليل وتلك الساعات هي الأكثر مرارةً وصعوبةً في حياة الإمام×([100]).

وعلى الإمام× أن يهيّئ نفسه وجميع عائلته وأقاربه من بني هاشم في ليلة واحدة، ويجهّز مقدّمات السفر. وقد كان هذا الفرار للهروب من البيعة الإجباريّة([101])؛ فقد أحضر الإمام× مرَّتين في ليلةٍ واحدة، فلم يكن له بديلٌ عن الخروج من المدينة، حاملاً معه أهل بيته. ومن ناحيةٍ أخرى فقد رافقت هذه الحركة موجةٌ من الوعي واليقظة، كانت من الأصول الأوّليّة لثورة الإمام×.

كانت مدينة مكّة آمنة، تتمتّع بنوعٍ من الأمن بالنسبة إلى الإمام×. خرج الإمام× من المدينة في الليلة الثامنة والعشرين من شهر رجب. وقد كان شهرا شعبان ورمضان يتمتَّعان بأهمّيّة خاصّة لدى المسلمين، وكان للعمرة المفردة ثوابٌ كبير.

لذا كانت مكّة في هذه الأيام مكتظّة، وكانت الأخبار تصل بشكلٍ أسرع منها إلى سائر الأماكن. وبعد ذلك كان المسلمون يسافرون شيئاً فشيئاً إلى مكّة لأداء حج التمتُّع. كانت مكّة مكاناً مكتظّاً، ومنبراً إعلامياً آمناً نسبيّاً؛ فقد كان هناك اهتمامٌ عامّ بحفظ حرمة مكّة والكعبة. لذا كانت المكان الأفضل للهجرة. إضافة إلى أنّ الهجرة إليها ستؤدّي إلى إيقاظ وجدان المسلمين؛ حيث سينتشر خبر امتناع الحسين بن عليّ عن البيعة في كلّ مكان. وقد وصلت رسالة الكوفييّن إلى يد الإمام× في مكّة، فأخبروه فيها أنّا لا نشارك في جمعة الوالي وجماعته، ونريد أن نجتمع حولك؛ كي تتولّى أمرنا. كما اعتبروا أنّ يزيد غاصب للخلافة أيضاً([102]).

وأرسل الإمام× مسلماً إلى الكوفة؛ ليدرس الظروف. وكانت الأحوال فيها مناسبة، وكان جواب مسلم إيجابيّاً. وحتّى لو لم يكن جواب مسلم إيجابياً لم تعُدْ مكّة مكاناً آمناً للإمام، وكان عليه أن يخرج منها. لذا فالإمام× في جوابه لعبد الله بن عبّاس، الذي يقول للإمام: «إنّي أتخوَّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال…. فإنْ أبيتَ إلاّ أن تخرج فسِرْ إلى اليمن»([103]). ويقول الإمام× بشكل صريح، في جوابه لعبد الله بن الزبير([104]): والله، لئن أقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أقتل داخلاً منها بشبر، ثمّ يكمل قائلاً: وأيم الله، لو كنتُ في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني، حتّى يقضوا فيّ حاجتهم([105]).

لذا فالخروج من مكّة كان أمراً لازماً، سواء للدفاع عن نفسه أم لحفظ حرمة مكّة والمسجد الحرام بيت الأمن الإلهيّ. وقد كان حدس الإمام× صحيحاً؛ لأنّه عندما خرج من مكّة تبعته مجموعةٌ من مأموري الحكومة، بل نشبت بينهما مواجهةٌ بسيطة. وهذا يدلّ على أنّ الإمام× كان مراقَباً في مكّة.

إنّ اختيار الكوفة، وتحرّك الإمام× نحوها؛ استجابة لحاجة الكوفييّن وطلبهم، هو مرحلة من ثورة الإمام، لا بدّ من إمعان النظر فيها. وعلى ضوء المعطيات المتقدِّمة فإنّ هذه الحركة قد حدثت طبقاً للموازين الحقوقيّة المقبولة في أوساط الكثير من المذاهب الإسلاميّة. ومن هنا نجد أنّ الكثير من كبار أهل السنّة، منذ القديم وحتّى زماننا هذا، قد استشهدوا بسيرة الإمام الحسين× للخروج على الحكومة، واعتبروه مجتهداً قام على أساس اجتهاده من أجل أمرٍ مقدَّس([106]).

كان الإمام الحسين× في منزل الثعلبيّة وزبالة عندما بلغه خبر شهادة مسلم، وأكمل طريقه في هذه الحالة. فهل متابعة التحرُّك تتلاءم والموازين الفقهيّة والحقوقيّة للخروج أم لا؟ وبالطبع فإنّ صعوبة الإجابة عن هذا السؤال تزيد حتّى تصل إلى المواجهة بين الإمام× وبين عسكر الحُرّ بن يزيد الرياحيّ؛ لأنّه انطلاقاً من هنا تختلف المسألة. بمعنى أنّ المحطّ الأصليّ للسؤال هو سبب متابعة الإمام للسفر من منزل الثعلبيّة حتّى منزل «شراف» أو «ذي حسم». هذا المنعطف من حادثة عاشوراء الكبرى هو مستمسكٌ مناسب لأولئك الذين يعتبرون أنّ ثورة الإمام× هي على أساس أمرٍ إلهيّ وسرّيّ من قبل الله سبحانه وتعالى؛ لأنّهم يقولون: هذه النظريّة، التي هي في صدد تبرير وتحليل الثورة على أساس القواعد والمقرّرات الفقهيّة والعاديّة، تصحّ كحدٍّ أقصى إلى هذه المرحلة، ولكنْ منها إلى ما يليها ما هو الجواب الذي يبرِّرها؟ ويكتب مؤّلف كتاب «حسين شهيد آگاه (الحسين، الشهيد الواعي)»: لقد كان وصول خبر استشهاد مسلم وهاني في ذاك الحال مؤلماً. وهنا إنْ كانت المدينة المتوجّه إليها هي الكوفة فقد صار معلوماً أنّ الذهاب إلى الكوفة غير ممكنٍ، وإنْ كان الهدف هو تأسيس حكومة بالاعتماد على القوة العسكريّة في الكوفة فقد تلاشت أيضاً. وبمقتضى القواعد الظاهريّة كان يجب أن يرجع الإمام من ذاك المكان، أو أن يعلن برنامجاً عقلائيّاً ومنطقيّاً آخر. هنا يجب أن تفتح كافّة ملفّات الموضوع، وأن تدرس، ولا بدّ أن يؤيِّد رأي كبار بني هاشم، كابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة وغيرهم؛ لأنّ احتمال تأسيس الحكومة هو احتمال غير عقلائيّ، ونسبته تقّل عن واحدٍ في المئة([107]).

وكذلك يقول الشهيد مطهري: من وجهة نظر الروايات، وطبق اعتقادنا الخاصّ بالجانب الغيبي، أي ارتباط الإمام واتّصاله بعالم الغيب، فإنّ كافّة أعمال الإمام الحسين هي محسوبة ومدروسة، ولا وجود للصدفة فيها وللاشتباه. ولهذا فإنّ مسألة مرافقة النساء والأطفال له في سفرٍ مليء بالأخطار هو أمرٌ مدروس أيضاً. وقد كان العقلاء، الذين يحاكمون المواقف آنذاك من منظار حفظ نفس أبي عبد الله× وأهل بيته، يعدّونها أمراً غير جائز، ولكنّه حتّى بعد سماع خبر قتل مسلم، ووضوح المصير، لم يكن ليقوم على الأقلّ بإعادة أهل بيته إلى المدينة([108]).

وكذلك يشير إلى هذه النقطة بعض الكتّاب العرب، الذين لا ينطلقون من وجهة نظر دينيّة، فيقول عن الإمام الحسين×: كان بإمكانه يوم سمع بمقتل مسلم أن يبتعد عن السياسة، ويلتزم العزلة في مكانٍ آمن، ولكنّ هروباً كهذا يتناقض مع سجيّته التي كانت ترفض كلَّ ما يحيط بها، وقد كان حاضراً أن يوسِّع من دائرة رفضه هذا إلى أبعد الحدود. إذاً بعد فشل مأموريّة مسلم كان الحسين يعلم أنّ ثورته لن تنجح، ولكنّه كان يعلم أيضاً أنّه إنْ أراد أن يغيّر الأمّة الإسلاميّة فلا بدّ من هذه التضحية…([109]).

وفي النهاية يقول المعتقدون بنظريّة التكليف الإلهيّ والمصير المحتوم للإمام الحسين×: كانت رسالة مسلم للإمام× سلبيّة، ولكنّ الإمام كان يتحرَّك نحو المصير، وكان يسير باتّجاه الكوفة، ثمّ استقر في كربلاء. فخبر شهادة مسلم ورسالته وسائر العوامل لم يكُنْ لها تأثير واقعيّ في حركته. لذا فهذه المرحلة بنظرهم هي جزءٌ من كلٍّ مترابط، ولا تنفصل عن باقي المراحل.

ويشير الشيخ المفيد في (الإرشاد) إلى تشاور الإمام مع عائلته وإخوة مسلم بعد وصول خبر شهادة مسلم، حيث قال هؤلاء: «والله، لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق»([110]). ولكنْ هل يمكن أن يعدّ هذا دليلاً على الاحتمال العقلائيّ للنصر؟ وإنْ لم يكن حديث الإمام مع الحُرّ وعمر بن سعد في المراحل اللاحقة مبنيّاً على العودة، وإنْ لم يكن منطق تحرُّك الإمام واضحاً من مكّة إلى الكوفة، فإنّ تبرير هذه المرحلة من التحرُّك طبقاً للأطر التي تمّ تحديدها بعيدٌ جدّاً، وسيقوّي منطق الحركة نحو المصير وإنْ أدّى إلى الشهادة. وإذا كان الإمام يأمل بالنصر فلماذا قال بعد سماعه خبر شهادة مسلم: فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرِفْ غير حرجٍ، ليس عليه ذمام([111]).

ولو كان هناك احتمال معتنى به في النصر لكان عليه أن يحدِّثهم عنه، فيقول مثلاً: صحيحٌ أنّ مسلماً قد قتل، ولكنْ لا زال لنا رجاءٌ في الكوفة، وربما أمكننا بقتالٍ يسير أن ننهي الأمر لصالحنا، كما أنّ من الممكن أن لا ننتهي إلى النصر.

ولا شكّ أنّ جماعة ممَّنْ كان مع الحسين×، وخاصّة الذين التحقوا به في مكّة وأثناء الطريق، كانوا يأملون بدخول الكوفة دون أدنى مانع، وأن يسيطروا عليها بسهولة، وينعموا بالحكومة العادلة للحسين بن عليّ×، ثمّ يذلِّلوا مشكلات الحروب على المدى الطويل بمساعدة من الكوفيّين أيضاً. لذلك يحتمل أن يكون غرض الإمام× من كلامه ذاك هو أن يبطل وهمهم، دون أن يكون يائساً من النصر. هذا الاحتمال يستحقّ الدراسة، ولا بدّ من تتبُّع أحداث هذه المرحلة، مع مراعاة الدقّة والاحتياط الشديدين.

والبعض الآخر أعطَوْا رأياً ثالثاً، واعتبروا تبرير هذه المرحلة متعلِّقاً بالصفات الشخصيّة للإمام×. وينقل مؤّلف كتاب «تفكُّر نوين سياسي إسلام (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر)» من كلام محمد كامل بنّا ما يلي: يعدّ الحسين× هو المسؤول عن المسارعة إلى فتح باب الخصام مع يزيد…. ومن هنا فحتّى مع فشل جهود مسلم في الكوفة هو يستمرّ في حركته… لقد كان الحسين× يخوض الثورة على أيّ حال؛ لأنّه حفيد النبيّ، وابن عليّ، فارس قريش وفاتح بدر([112]).

ويصرِّح آخرون ممَّنْ رأَوْا التمسّك بهذا الإطار العامّ الذي يحيط بثورة الإمام الحسين× منذ البداية، فيقولون بوضوحٍ: لو دخل الحسين× الكوفة فاتحاً لتشكّلت حكومة بقيادته، ولالتحقت به مجموعةٌ كبيرة؛ لحبّها العميق له×. كما أنّ قوى أهل البصرة، والذين كانوا قد تلقَّوْا دعوةً من الإمام، كانوا حاضرين للاتّحاد مع أهل الكوفة. وفي ظلّ ذلك فإنّ الأمل بالنصر كان في محلّه؛ لأنّ مقتل قائدٍ واحد هو مسلم بن عقيل لا يحتِّم الهزيمة. فالقائد الحقيقيّ لجميع القوى الشعبيّة العراقيّة كان نفس الحسين بن عليّ×، ومع دخوله الكوفة هناك أملٌ بأن يصبح جيشه× أشدّ قوّة، أو على الأقلّ يستعيد قوّته؛ ليشكّل النواة الأساسيّة لجيش الحسين الكبير، ويستعدّ للقيام بتحقيق أهدافه و…([113]).

لقد أراد هؤلاء أن يطرحوا منطق الخروج المشروع والصحيح ذي الظروف والأرضيّة المناسبين، والذي يمكن الحصول على تفسير حقوقيّ له حتّى في تلك المرحلة. ربما أمكن القول من جهةٍ أنّ الإمام قد دخل في قضيّة لم يكن الخروج منها سهلاً، بمعنى أنّ بدايتها كانت بيده، لكنّ نهايتها لم تكن كذلك([114]). لقد كان يعلم أنّ مكّة والمدينة ليستا آمنتين، والعودة من هذا المكان لن يحلّ المشكلة. من هنا، وفي بطن العقبة، وقبل مواجهته لعسكر الحُرّ، وعندما علم أحدهم ـ ويُدعى عمر بن لوذان، من قبيلة بني عكرمة ـ أنّ الإمام× يريد الكوفة طلب إليه الرجوع، ولكنّ الإمام× أجابه: والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي([115]).

وعلى أيّ تقدير فإنّ مجموع هذه المسائل مانعٌ من الحصول على تحليلٍ واضح وصحيح.

ومن هذا المنطلق يمكن أن نعتبر السير نحو الكوفة مرتكزاً إلى عدّة افتراضات:

أـ المصير الإلهيّ والمحتوم، الذي كان الإمام× يسير نحوه بعلمٍ منه.

ب ـ أراد أن يحترم الشورى مع عائلة عقيل.

ج ـ لم يكن الأمل بالنصر وبالهزيمة قطعيّاً.

د ـ كان يعلم أنّه ليس هناك من طريق آخر، والأماكن الأخرى ليست آمنة بالنسبة له، ويجب أن يكمل سيره نحو الكوفة (وهذا نفس احتمال المصير المحتوم، ولكن وفق تحليل دنيويّ).

هـ ـ كان سلوكاً شخصيّاً وذوقيّاً بشكلٍ كامل([116]).

المرحلة الأخرى هي مواجهة معسكر الحُرّ للإمام الحسين× وأصحابه. هنا اتَّضح للإمام([117])، أو على الأقلّ لأصحابه، بشكلٍ تامّ أنّ الحكومة تريد أن تقف في وجه هذه الحركة بجميع الإمكانات، والقضيّة جديّة بشكلٍ كبير.

ومن الآن فصاعداً يمكن دراسة الخروج ضمن إطار النظرة الفقهيّة دراسة أفضل.

فالسؤال هو أنّ إماماً عادلاً قد استجاب لدعوة الناس، بالالتفات إلى الظروف والإمكانات الكثيرة، وكانت الحكومة الحاليّة فاقدةً لعنصر الشرعيّة أيضاً، أمّا بعد أن انتفت الظروف المساعدة على ذلك فهل من تبريرٍ للخروج؟

يبدو أنّ استراتيجيّة الإمام تغيّرت من هذه اللحظة إلى ما قبل بدء الحرب. فالإمام يعلم أنّ الذهاب إلى الكوفة في تلك الظروف الراهنة لم يعُدْ عملاً فيه السلامة، وهو يعدّ نوعاً من التسليم للحكومة. وفهرس هذه الاستراتيجيّة إلى ما قبل الحرب كان على النحو التالي:

أـ لقد طلبَ المساعدة من جيش الحُرّ؛ لتنفيذ هدفه الأساسي. وربما كان ذلك قرينة على أنّ الإمام× يأمل بالنصر. كما أنّه دعوة لأولئك الذين كتبوا الرسائل وغيرهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المشروعين.

ب ـ أكمل الإمام× كلامه بأنّه في حال عدم قبولهم للاقتراح الأوّل يعود من حيث أتى، إذاً وصلت قضية الخروج إلى النهاية في نظر الإمام×. وفي تحليل سبب الاستمرار في السير نحو الكوفة لو قيل بأنّه عدم أمن المدينة ومكّة فلماذا أراد الإمام الرجوع؟ والجواب عن ذلك واضحٌ؛ لأنّ الإمام كان يريد الرجوع حينئذٍ بضمانة من الحكومة، وهذا يعدّ نوعاً من التعاقد بينه وبين الحكومة، لذلك أجاب الحُرّ بأنّه غير مجازٍ في إعطائه ذلك، ولا بدّ أن يكتب إلى الأمير.

ج ـ التأكيد على العودة بعد صلاة العصر بنفس التحليل السابق. لذا أراد الحُرّ من الإمام أن لا يسير باتّجاه الكوفة، ولا المدينة، بل أن يكون هناك مسيرٌ ثالث، حتّى يستطيع أن يكاتب ابن زياد، وينهي القضيّة بالصلح. قبل الإمام أيضاً، وبدأ الجيشان بالتحرُّك على فاصلةٍ واضحة. الجميع كان ينتظر الجواب، هل تقبل الحكومة طلب الإمام في الرجوع أم لا؟

د ـ وتصل رسالة ابن زياد إلى الحُرّ في نينوى «أمّا بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصنٍ وعلى غير ماء، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك، حتّى يأتيني بإنفاذك أمري»([118]).

هـ ـ عندما أراد زهير بن القين في المكان نفسه أن يقاتل جيش الحُرّ، وأن يقضي عليهم؛ لأنّ وراءهم جيشٌ عظيم، أجاب الإمام×: «ما كنتُ لأبدأهم بالقتال».

هذه الجملة تحمل في طيّاتها قيمة حقوقيّة كبيرة، فالإمام الذي تحرّك من مكّة، وقد كتب إليه الآلاف من الكوفييّن رسالةً بأنّهم سيؤازرونه في الحرب، لا يريد هنا أن يبدأ حرباً؛ لأنّ المنطق الحقوقيّ الذي كان في المراحل السابقة لم يعُدْ موجوداً الآن.

و ـ يصل مبعوث عمر بن سعد إلى الإمام، ويسأله: لماذا أتيت؟ فيجيب الإمام×: كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم، فأمّا إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم([119]).

ز ـ عندما رأى الإمام× عمر بن سعد مع جيشه قد دخل نينوى، أرسل له الإمام: «إنّي أريد أن ألقاك»([120]).

وفي روايةٍ عن الطبري، عن أبي مخنف، أنّ هذا اللقاء قد وقع ثلاث أو أربع مرّات([121]). وبعد هذا اللقاء يكتب عمر بن سعد رسالة إلى عبيد الله: هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيِّره إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه([122]).

وقد ذكر الشيخ المفيد نفس هذا الأمر([123]). وإذا شككنا في القسم الأخير من رسالة عمر بن سعد، كما انتقد الكثيرون على هذا القسم، واعتبروه غير صحيح([124])، ولكنّ الأقسام الأولى للرسالة تؤيِّدها القرائن السابقة. إضافةً إلى أنّه إذا أراد الإمام أن يتعاون مع يزيد لكان قد بايع عبيد الله ومبعوثه في المكان نفسه. وعلى كلّ حال يستخلص من جواب عبيد الله نقطتين أساسيتين: الاستسلام الذليل؛ أو الحرب. واختار الإمام الحرب.

ح ـ ليلة عاشوراء طلب الإمام من أصحابه أن يغادروه بحرّيّة تامّة، وأنّهم في حلّ من بيعته. وهذا التصرُّف يشير إلى أنّ مسألة الخروج قد انتفَتْ بشكلٍ كامل.

ط ـ يوم عاشوراء، وخلال مرحلتين من خطابه، نصح هؤلاء بعدم الحرب، وأن يسمعوا كلامه، ولا يسارعوا إلى سفك الدماء([125]). وهكذا قضى الإمام على جميع حججهم، وعندما واجه الحرب من خلال إصرارهم يقول: ويحكم، أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟!([126])؛ بمعنى أنّكم استناداً إلى أيّ منطق حقوقيّ وموازين فقهيّة تحاربونني؟!

وتكشف هذه الخطابات والمواقف من قبل الإمام عن عدّة مسائل:

1ـ لم يكن الإمام يسعى نحو الحرب وسفك الدماء.

2ـ كان لديه نيّة في الرجوع.

3ـ لم يُرِدْ أن يكون البادئ بالحرب.

4ـ لم يكن لدى أولئك ذريعة للحرب.

إذاً فالخروج في هذه المرحلة منتفٍ أساساً، وليس هناك أيّ قرينة عليه، بل هناك قرائن على خلافه، والطرف المقابل هو الذي كان يطرح منطق القوة والحرب.

وكان سير البحث هنا وفق النحو التالي: حيث لم يكن للإمام× الإمكانات اللازمة، ولم تكن ظروف الجهاد والخروج متوفِّرة لديه، فقد اقترح ترك القتال. ومع ذلك فقد انتقد بعض أهل السنّة الإمام، واعتبروه مسبِّباً لتفرقة الأمّة، وبرّأوا يزيد، كما اعتبروا أنّ ركون الإمام إلى كلام «مسلم» وتقديره للأوضاع كانا خاطئين. وفي النتيجة فقد ظنّوا أنّ خروج الإمام لم يكن صحيحاً من جهة عدم تحقّق شرائط الوجوب وشرائط الواجب. ولكنّ هؤلاء لم يعيروا هذه المرحلة من حركة الإمام أيّ أهمّيّة. وإذا كانت جميع تحليلاتهم ليزيد والإمام والظروف صحيحةٌ فإنّهم يعجزون عن الإجابة عن السؤال التالي: عندما قبل الإمام أن يتراجع، وأن لا يدخل في الحرب، لماذا أصرّوا هم على الحرب؟

ومن جهة أخرى فإنّ العديد من فقهاء الشيعة قد تمسَّكوا بسيرة الإمام الحسين× في بحثهم عن جواز الهدنة أو عدمها. وفي الحقيقة فإنّ جهودهم تصبّ في الإجابة عن هذا السؤال: إذا فُقدت شروط وجوب الخروج فما هو حكم متابعة الجهاد والمواجهة حتّى القتل؟ هل هو جائزٌ، أم واجبٌ، أم محرَّم؟ وما هي المباني الفقهيّة التي يرتكز إليها؟ هل عدم استسلام الإمام يقبل التبرير فقط على أساس القواعد الأخلاقيّة، أم أنّ ذلك المنطق الحقوقيّ بعينه يكفي لتبريره؟ وعلى أيّ أساس فقهيّ يجب أن يقاتل الإمام ويقتَل؟

يواجه منطق الخروج المشروع، والصورة التي بيّنّاها له في الأبحاث السابقة، أسئلة جادّة في مرحلتين: الأولى: المرحلة التي مرّت، أي انطلاقه من منزل «زبالة» إلى «ذي حسم»؛ والثانية: الحرب حتّى الشهادة، إلى الوقت الذي لم يكن فيه أيّ أمل بالنصر. ودراسة آراء الفقهاء وتصانيفهم يفتح أمامنا أفقاً أوسع للبحث.

أمّا المرحلة الأخيرة التي طوتها هذه الثورة التاريخيّة فهي مرحلة الجهاد والمبارزة. وبعد أن بقيت مطالب الإمام بغير إجابة فقد عمدوا إلى تخييره بين خيارين: الذّل والاستسلام؛ أو الحرب والموت بعزّة.

وينقل الشيخ المفيد أنّ عمر بن سعد بعد إرساله الرسالة الثانية تلقّى جواباً قاسياً من عبيد الله بن زياد، حيث كتب له: إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفَّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعتذر له، ولا لتكون له عندي شافعاً، انظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، واستسلموا، فابعث بهم إليَّ سلماً، وإنْ أبَوْا فازحَفْ إليهم حتّى تقتلهم([127]).

لذا فقد صار الإمام مخيَّراً بين الذلّة والعِزّة، لذلك اختار الثانية، ولم يكن من سبيل سوى الدفاع عن نفسه وماله.

وفي يوم عاشوراء، وعندما ردّ الإمام على قيس بن الأشعث، بيّن قضيّة مهمّة. لما طلب قيس من الإمام أن يسلِّم لحكم ابن زياد أجابه الإمام: لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد.

وهكذا فالإمام كان يعلم أن التسليم يعني الموت الذليل، لذا فقد كان مخيّراً بين أمرين: الموت بذلّة؛ أو الموت بعزّة، فاختار الأمر الثاني([128]). والمنطق الحقوقيّ لهذا الأمر واضح، وهو الدفاع المشروع والاضطراريّ. فالاستسلام للموت الذليل هو مصداق لـ «الإلقاء في التهلكة»، التي نهى عنها الباري عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195).

وقد اهتمّ المحقِّق الثاني بهذه النقطة، واستشهد بها. ولو لم نقبل بهذا الاستدلال ـ من أنّ الإمام سيقتل على كلّ حال، وقد اختار الطريق الأفضل ـ فهل هناك من منطق آخر يبرِّر عمله؟

وقد تعرّّض بعض الفقهاء إلى هذه المسألة في كتاب الجهاد، واستشهدوا بمنهج الحسين بن عليّ×، في توضيح الهدنة وضرورتها وشروطها، فهل هذا الاستشهاد صحيحٌ؟

يعتقد العلامة الحلّي أنّ الهدنة ليست واجبة على كلّ تقدير، سواء كان بالمسلمين قوّة أو ضعف، لكنّها جائزة؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، وللآيات المتقدّمة، بل المسلم يتخيّر في فعل ذلك برخصة ما تقدّم، وبقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، وإن شاء قاتل حتّى يلقى الله شهيداً؛ بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، وبقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾، وكذلك فعل سيدنا الحسين×، والنفر الذين وجَّههم النبيّ| إلى هذيل، وكانوا عشرة، فقاتلوا مئة حتّى قتلوا، ولم يغلب منهم أحدٌ إلاّ حبيب([129]).

وقد ذكر ما يشبه ذلك في كتاب (تذكرة الفقهاء)([130]).

والنتيجة أنّ رأي العلاّمة هو أنّ الإمام الحسين× كان مخيّراً بين الحرب والصلح، وهو اختار الحرب والشهادة. وبرأيه فإنّ المنطق الحقوقيّ لتصرّف الإمام هو العمل بطرف الجواز. وكما يبدو فإنّ العلاّمة لم يتعرّض لمسألة أنّ الإمام كان سيقتل على أيّ حال، ولذلك اختار الطريق الأفضل، بل يقول: إنّه كان بإمكانه أن يصالح وأن يحارب، فاختار السبيل الثاني، لذلك استشهد بآية: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ على الهدنة، وبآية ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ على الحرب، وصرّح بأنّه اختار هذا الطريق بنفسه؛ ليستشهد.

وقد قبل الشهيد الثاني هذا المعنى. فهو بعد أن يستشهد بكلام العلاّمة في التذكرة يصرِّح بتبنّيه لرأيه([131]).

ويرى المحقّق الثاني ـ كما أشير ـ أنّ المنطق الحقوقيّ للإمام في متابعة الثورة حتّى الشهادة يتمثّل في أمور ثلاثة: أولاً: إنّ العدّو لن يتقيّد بهذه المعاهدة، وسيقتل الإمام. ثانياً: يوجب الصلح إضعاف الحقّ، ويلتبس الحقّ بالباطل، ثالثاً: لقد قام يزيد علناً بمخالفة الدين.

وممّا لا شكّ فيه أنّه بيّن جميع الموارد التي تقدّمت على نحو الاحتمال. وهو لا يعتبر المهادنة أمراً تخييرياً يمكن للفرد أن يختار أيّ جهة أرادها بدون ملاك أو ملاكات معيّنة.

وهو يقول في قسم آخر من استدلاله: نحن لا يمكننا أن نعلم أنّ مصلحة الإمام الحسين× هي في المهادنة أو في تركها؛ لأنّه من جهة يمكن أن تكون النقاط سابقة الذكر ملاكاً لمتابعة الحرب؛ أو أنّه لم يكن لدى الإمام إمكانيّة للمهادنة أبداً.

وخلاصة كلام المحقّق الثاني هي أنّه من أجل جواز المهادنة أو عدمها لا يمكن الاستشهاد بفعل الإمام، بمعنى أنّنا لا نعلم طبقاً لأيّ ملاك قام الإمام× بهذا العمل؛ هل بسبب المصالح التي ذكرت أو أنّه كان مخيّراً بين الصلح والحرب؟ لا نعلم.

وربما أراد المحقّق الثاني أن يقول: إنّ فعل الإمام هنا دليل لبّي، لا يمكننا أن نأخذ منه أكثر من القدر المتيقّن.

ويقول صاحب رياض المسائل، ضمن نقده لكلام المحقّق الثاني: وأما فعل سيدنا الحسين× فربما يُمنع كون خلافه مصلحة، وأنّ فعله كان جوازاً، لا وجوباً، بل لمصلحةٍ كانت في فعله خاصّة، لا تركه، كيف لا، ولا ريب أنّ في شهادته إحياء لدين الله قطعاً؛ لاعتراض الشيعة على أخيه الحسن في صلحه مع معاوية؟!([132]).

إذاً فالإمام× برأي صاحب الرياض قد اختار الحرب؛ بهدف رعاية المصالح.

ولصاحب الجواهر مبنى خاصّ، يختلف فيه عن سائر الفقهاء الذين تقدّمت الإشارة إليهم. فهو يذكر أنّ الإمام ربما كان يعلم أنّه سيقتل على أيّ حال، ومن جهة فإنّ مقتله سيؤدّي إلى حفظ دين جدّه. ولكنّه لم يكتفِ بهذا، بل يقول: على أنّه له تكليف خاصّ قد أقدم عليه وبادر إلى إجابته، ومعصوم من الخطأ لا يعترض على فعله ولا قوله، فلا يُقاس عليه([133]).

ويرى صاحب الجواهر أنّ تكليفنا في مثل هذه الموارد هو وجوب الصلح. وهو ينظر إلى ثورة الإمام الحسين× نظرة تعتبر التحليل والدراسة الفقهيّة والحقوقيّة لها دخولاً إلى ميدانٍ نحن قاصرون عنه.

من هنا ففي خروج الإمام الحسين× بعد اصطدامه بالمانع من استمراره وجوهاً ثلاثة، طبقاً لمباني عدّة من الفقهاء:

أـ جواز الهدنة والمصالحة مطلقاً؛ وجواز الجهاد.

ب ـ لزوم الجهاد؛ بسبب وجود المصلحة أو الضرورة.

ج ـ الجهاد كان تكليفاً خاصّاً بالإمام الحسين×، ولكنّ الأصل الأوّلي هو وجوب الصلح.

 

آخر الكلام ــــــ

إذا اعتبرنا أنّ ثورة الإمام الحسين× واقعةٌ تقبل التحليل على ضوء المباني الفقهيّة ـ الحقوقيّة المقبولة بين المذاهب الإسلاميّة فإنّ هذه الثورة مقبولةٌ ومشروعة، وكذلك فإنّ نوع حكومة يزيد، وطريقته في التربُّع على عرش الخلافة، لا يقبلها أكثر المسلمين حتّى اليوم، وكان للإمام× الحقّ في أن يستنكف عن بيعته. وعندما رأى أرضيّة مناسبة، وذلك حين تعاون معه العديد؛ ليبني مجتمعاً أفضل، انطلق نحوهم، معتمداً التشاور واتّباع الطرق الطبيعيّة. ورغم أنّ تحليل الثورة يواجه مشكلةً في مرحلة من مراحلها، ولكنْ عندما بدا للإمام بشكلٍ قاطع أنّ الظروف لم تعُدْ مناسبةً أراد الرجوع، لكنّه اصطدم بمخالفة الحكومة، ولذا لم يكن هناك من سبيل سوى الحرب حتّى الشهادة.

 

الهوامش

(*) أستاذ الحقوق في جامعة المفيد، له مجموعة من المؤلّفات.

([1]) بل معرفتهم^ هي أمرٌ ممكن لمَنْ خضع لتربيتهم، وسار على تعاليمهم. ولو صحّ أنّها غير ممكنة لكان الحثّ على معرفة الإمام تكليفاً بالمحال، ومن الواضح أنّ المراد بمعرفة الإمام، الوارد في الروايات أنّه الطريق إلى معرفة الله، لا يقتصر على معرفة اسمه ونسبه وسيرته. (المترجم).

([2]) لا تنافي بين الارتكاز إلى الشخصيّة الواقعيّة للإمام حين دراسة سيرته وبين حجّيّة أفعاله وإمكان الاقتداء بها؛ وذلك أولاً: لأنّ هذه الشخصيّة الواقعية هي سبب الحجّيّة، ومن هنا كان لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار؛ وثانياً: لأنّ الإمام× يراعي في أعماله ضوابط الشريعة وقواعدها، ولكنْ على مستوى دوره هو وقدرته ورؤيته للأمور، ومن هنا فلا بدّ من دراسة أفعاله دراسة فقهيّة تأخذ بعين الاعتبار تكليفه هو كإمامٍ، ومعطياته كذلك، وإلاّ كان من المحال أن نجد لها مبرِّراً شرعياً، وكانت كأفعال الخضر× حين اعترض عليه موسى×. وهذا لا يمنع من الاقتداء بالقاعدة العامة التي يؤسِّسها الإمام، والتي قد تقتضي فعلاً مشابهاً من المكلّف في الظروف والإمكانات المشابهة، كما قد تقتضي فعلاً مغايراً. وسيأتي في التعليقات اللاحقة مزيد بيان لذلك. (المترجم).

([3]) حميد عنايت، تفكّر نوين سياسي إسلام (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر): 254، ترجمة: أبو طالب صارمي.

([4]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 295.

([5]) السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 28.

([6]) المصدر نفسه: 63، 65.

([7]) الكليني، أصول الكافي 1: 280.

([8]) علي پناه اشتهاردي، كتاب هفت ساله (السنوات السبع): 193 ـ 194.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) راجع: السيد مرتضى العسكري، مقدمة مرآة العقول 2: 484 ـ 493. (ملاحظة: لم أعثر على مقدّمة مرآة العقول، فترجمت الفقرة من الفارسية [المترجم]).

([11]) راجع: المفيد، الإرشاد 2: 30 ـ 100.

([12]) صحيفه نور: 174.

([13]) المصدر السابق 17: 58.

([14]) السؤال الأساسي هو أنّه كيف يمكن لشخص يعلم علم اليقين بمقتله، ويكون مصمِّماً في الوقت نفسه بشكلٍ جادّ على القيام بعمل آخر؟!

وقد كان الجمع بين العلم الظاهري والباطني منذ القدم موضع اهتمام المتكلِّمين الشيعة، والتعرّض لذلك الآن هو خارج عن موضوع بحثنا. وقد أجاب العلماء بشكل مفصَّل عن ذلك؛ كلّ منهم من وجهة نظره الخاصّة، ولكلّ منها قيمتها ضمن مجالها.

([15]) راجع: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال 1: 113.

([16]) راجع: العلامة الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 453؛ كشف المراد: 288؛ النراقي، عوائد الأيام: 185.

([17]) راجع: حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 227.

([18]) راجع: محمد مهدي شمس الدين، نظام الحكم والإدارة في الإسلام: 105.

([19]) راجع: جوادي آملي، ولايت فقيه ولايت فقاهت وعدالت: 411.

([20]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 6.

([21]) ابن قدامة، المغني 10: 52.

([22]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته 6: 663.

([23]) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 169 ـ 170.

([24]) الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد: 791. ملاحظة: أقول: حصل اشتباهٌ في النقل والترجمة الفارسية، والفقرة المأخوذ منها هي: وذلك لا يصدر إلاّ من أحد ثلاثة: إمّا التنصيص من جهة النبيّ|؛ وإمّا التنصيص من جهة إمام العصر، بأن يعيِّن لولاية العهد شخصاً معيَّناً من أولاده أو سائر قريش؛ وإمّا التفويض من رجل ذي شوكة، يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة، وذلك قد يسلم في بعض الأعصار لشخصٍ واحد، مرموق في نفسه، مرزوق بالمتابعة، مسؤول على الكافة، ففي بيعته وتفويضه كفاية عن تفويض غيره؛ لأن المقصود أن يجتمع شتات الآراء لشخصٍ مطاع، وقد صار الإمام بمبايعة هذا المطاع مطاعاً، وقد لا يتفق ذلك لشخص واحد، بل لشخصين أو ثلاثة أو جماعة، فلا بدّ من اجتماعهم وبيعتهم واتفاقهم على التفويض، حتّى تتم الطاعة. بل أقول: لو لم يكن بعد وفاة الإمام إلا قرشيّ واحد مطاع متبع، فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه، ونشأ بشوكته وتشاغل بها، واستتبع كافة الخلق بشوكته وكفايته، وكان موصوفاً بصفات الأئمة، فقد انعقدت إمامته، ووجبت طاعته، فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته، وفي منازعته إثارة الفتن، إلاّ أن مَنْ هذا حاله فلا يعجز أيضاً عن أخذ البيعة من أكابر الزمان وأهل الحلّ والعقد. انتهى.

وقد وقع الخطأ في مواضع: ترك قوله تنصيص النبيّ|، وترك ذكر طريقة تفويض الرجل ذي الشوكة والاقتصار على طريقة أهل الحلّ والعقد، والحال أنهما وردا معاً، ذكر صورة ما لم يوجد قرشي والحال أنّ الغزالي قال: لو لم يوجد إلاّ قرشي واحد. (المترجم).

([25]) عبد العزيز عزّت الخياط، النظام السياسي في الإسلام: 791.

([26]) راجع: حسين عطوان، الأمويون والخلافة: 51.

([27]) ابن أعثم الكوفي، الفتوح 4: 233.

([28]) حميد عنايت، أنديشه سياسي در إسلام معاصر: 150.

([29]) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة 1: 208.

([30]) المصدر السابق ‏1: 196.

([31]) المصدر السابق 1: 205.

([32]) حميد عنايت، تفكر نوين سياسي إسلام: 263.

([33]) الآلوسي، روح المعاني 26: 73.

([34]) راجع: ابن الأثير، الكامل 5: 56؛ وابن قتيبة، الإمامة والسياسة 1: 182.

([35]) حسين شاكري، من سيرة الإمام الحسين×: 21.

([36]) تاريخ الطبري 5: 343. ملاحظة: الإرجاع إلى الطبري في هذا المورد غير صحيح؛ حيث لم نجده في الصفحة المشار إليها. ويستبعد أن يكون هذا الكلام للطبري، فهو مؤرّخ وناقل لا أكثر، وهذا كلام تحليليّ، يبدو أنّه من معاصر، ممّا يحتمل أن يكون الكاتب قد اشتبه في إثبات المرجع. (المترجم).

([37]) محمود خالدي، معالم الخلافة في الفكر الإسلامي: 130 ـ 136.

([38]) ابن العربي، العواصم من القواصم: 231.

([39]) راجع: تاريخ الطبري 5: 383.

([40]) راجع: محمد صادق نجمي، كلام الإمام الحسين من المدينة إلى كربلاء.

([41]) شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام 2: 5 وما بعدها. ملاحظة: لم أجد هذا الكلام في تاريخ الإسلام، للذهبي، وإنما نقلته عن الطبري، وأعتقد بأن العنوان المعطى خاطئ؛ فالجزء الثاني من تاريخ الإسلام هو في سيرة النبيّ ومغازيه. (المترجم).

([42]) المصدر السابق.

([43]) تاريخ الطبري 5: 386، 387. ملاحظة هامّة جداً: المنقول عن الطبري مفهوم ومترجم بنحو خاطئ، والكلام اللاحق له مبني على فهمه الخاطئ، فلا بدّ من تصحيحهما معاً. والخطأ هو في ترجمة الجملة الأخيرة تحديداً: «فوالله ليملكنّ…». وقد تمّ نقل العبارة الصحيحة كما هي من تاريخ الطبري. وقد فهم كاتب المقالة عبارة: «فوالله ليملكنّ، ولا يجوز السلاح فيه» بمعنى لا يجوز للإمام أن يشهر السلاح، والحال أنّ معنى ما في الطبري هو أنّ عبد الله كان يقول: إنّ الإمام سيملك، ولن يصل إليه أذى السلاح؛ ولذلك كان ينصح الفرزدق بملازمته ـ وهذا المعنى هو الذي استفاده مترجم تاريخ الطبري، المنقولة عبارته في الحاشية. وهو الأرجح؛ لرجوع ضمير يملكنّ إلى الإمام الحسين المذكور في الكلام ـ؛ أو أنّ بني أميّة سيملكون، ولا يجوز لهم أن يشهروا السلاح على الإمام وأصحابه، ولذا على الفرزدق أن يخرج معه دفاعاً. وكلا المعنيين المحتملين للعبارة لا يلائمان ما استفاده الكاتب منها. (المترجم).‏

([44]) خير هيكل، الجهاد والقتال 1: 198.

([45]) راجع: المفيد، الإرشاد: 205.

([46]) يبدو واضحاً من خلال هذا القسم من رسالة الصلح أنّ الإمام الحسن×؛ بسبب الجوّ الحاكم جسّد هذه المسألة؛ وهي الشورى بين المسلمين والقبول بها من جانب المسلمين. وهذا تأييّد للموضوع، رغم أنّه سيأتي أنّ البعض قد شكّك في صحة هذا القسم من وثيقة الصلح. (راجع: الشيخ راضي آل ياسين، صلح الإمام الحسن: 355، ترجمة: السيد علي الخامنئي).

([47]) راجع: المودودي، الخلافة والملك: 99 ـ 112.

([48]) راجع: حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 593.

([49]) مسند أحمد بن حنبل 5: 251.

([50]) المصدر السابق 3: 1481، ح1855.

([51]) المصدر السابق: 1489، ح1839.

([52]) ابن حزم، المحلّى 9: 362.

48 راجع: خير هيكل، الجهاد والقتال 1: 122.

([54]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 6: 710.

([55]) المصدر نفسه.

([56]) راجع: خير هيكل، الجهاد والقتال 1: 117 وما بعدها.

([57]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 8.

([58]) الأشعري، مقالات الإسلاميّين: 451.

([59]) صحيح مسلم بشرح النووي 8: 35.

([60]) عياض بن أبان بن صدقة هو من فقهاء أهل السنّة، تسلّم قضاء البصرة في زمان المأمون. (راجع: شهاب الدين أحمد بن علي، لسان الميزان 4: 390).

([61]) صحيح مسلم بشرح النووي 8: 36.

([62]) في استشهاد أهل السنّة بقيام الإمام الحسين× في ردّ وقبول نظريّةٍ ما يجب الالتفات إلى أنّ فعل الإمام الحسين× طبقاً لمبانيهم في سائر أعمال الصحابة والتابعين هو اجتهادٌ منه. والنقطة الأخرى التي نحصِّلها من هذا الاستشهاد أنّ المجموعة التي رفضت إجماع أبي بكر بن مجاهد؛ استناداً إلى قيام الإمام الحسين، لم يرَوْا أنّ انحراف يزيد قد وصل إلى الكفر الذي ينتج جواز الثورة عليه حسب نظرهم.

([63]) المصدر السابق: 37.

([64]) صدّيق بن حسن القنوجي البخاري، الروضة البهيّة 2: 520 (ينقل عن خير هيكل، الجهاد والقتال 1: 23) أنّ النظريّات المتقدّمة مبهمة إلى الحدّ الذي جعل الغربييّن يقفون منها موقفاً سلبياً. ينقل محمد يوسف موسى في كتاب (نظام الحكم في الإسلام) بعضاً من تلك المواقف: مرجوليوث: الحاكم الذي ثبت رأي الناس باستقراره ليس من حقّ رعاياه وولاته القيام ضدّه. مك دونالد: الإمام (في عرف المسلمين) ليس هو ذاك الحاكم القانوني الذي نريده. توماس آرنولد: الخلافة التي يعترف بها مسلمون كهؤلاء هي نوع من الحكومة الاستبداديّة الظالمة، حيث يقوم الحاكم بعمله بسلطةٍ مطلقة بلا قيد أو شرط، ويطلب من الناس أن يطيعوه دون أيّ تردد. (راجع: نظام الحكم في الإسلام: 165 وما بعدها).

([65]) محمد خير هيكل، الجهاد والقتال 1: 127 ـ 135.

([66]) المصدر السابق: 133.

([67]) العلامة الحلّي، المستجاد من الإرشاد (المجموعة): 157؛ الأردبيلي، كشف الغمّة 2: 214؛ المفيد، الإرشاد 2: 31.

([68]) راجع: الشيخ راضي آل ياسين، صلح الإمام الحسن×: 355، ترجمة: السيد علي الخامنئي.

([69]) المصدر السابق: 378 وما بعدها.

([70]) راجع: ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة: 148 ـ 150.

([71]) راجع: باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسن×: 469، عن الترجمة الفارسية: زندگاني إمام حسن×، ترجمة: فخر الدين حجازي.

([72]) الخصيبي، الهداية الكبرى: 135.

([73]) يبدو أنّ هذا الكلام يحتاج إلى مزيد تأمّل ونظر.

فعقد الصلح ـ خلافاً لما ذكر ـ هو مانع في نظر الناس، كما أشار الكاتب في النهاية، وهو مانع بنصّ الرواية، التي لا داعي لإهمال دراستها والتشكيك بسندها. وقد ذكر في دراسته لهذا المانع وتأمّله في مدى مانعيّته مقدّمات غير سليمة، منها: كون حياة الإمام الحسن مانعة للإمام الحسين‘ عن القيام. غير أنّ حياة الإمام الحسن لا يمكن فرضها مانعاً عن ثورة الحسين؛ لأنّ الحسين لو كان يريد الثورة في حياة الحسن لكان الحسن أرادها أيضاً؛ كونهما إمامين معصومين لا تنافي بين فعلَيْهما، وأما بعد شهادة الحسن فلا تكفي شهادته ليثور الحسين، ولا تعدّ الظروف مهيّأة بذلك للثورة؛ لأنّ صلح أخيه هو صلحه هو، ولا فرق بين صلحٍ أمضاه أخوه وصلح أمضاه هو، فكما كان هناك مانع للحسن× عن القيام، ولو بعد بوادر للنقض يمكن أن توجّه وتبرّر لو لم تكتمل صورتها أمام الرأي العام، فإنّ هذا المانع نفسه هو مانع عند الحسين×. والصلح كان قد شرط موت معاوية لرجوع الخلافة إلى الحسن أو الحسين أو الشورى على اختلاف روايات الصلح، ولم يشرط موت الإمام الحسن×؛ كي ينتظره الإمام الحسين×.

كما أنّ ما أشار إليه من كلام معاوية عام 49هـ في المدينة مع العبادلة لم يكن بيعةً ليزيد، بل كان مجرَّد طرح للفكرة واستشارة فيها. فلو أنّ أحد الإمامين ثار بعد هذه الواقعة لكان بإمكان معاوية أن يقول للرأي العام بأنّي كنتُ أستشير وجوه الناس، ولم أعقد بيعةً، ولم أخالف عقداً.

كما أنّ كون الصلح مانعاً ظاهرياً هو أمرٌ كافٍ للمنع عن الثورة، ففعل الإمام وإنْ كان له أغراض بعيدة وأسباب باطنيّة، غير أنّه لا يتنافى مع الأسباب والموانع الظاهريّة أيضاً. (المترجم).

([74]) سياست نامه محمد قزويني: 168.

([75]) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة 1: 141، تحقيق: الزيني.

([76]) عطاء الله مهاجراني، انقلاب عاشوراء: 75.

([77]) نهج البلاغة، الرسالة 39.

([78]) نعمت الله صالحي النجف آبادي، شهيد جاويد: 84.

([79]) المفيد، الإرشاد: 179.

([80]) المصدر السابق: 200.

([81]) المصدر نفسه.

([82]) راجع: ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة: 155 ـ 157.

([83]) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: 22 ـ 23.

([84]) وتجنّباً للإطالة فإنّا نختم بحثنا عند هذا الحدّ، وإنْ كان يحسن بنا أن نزيد هذا الموضوع بياناً في سبيل تقديم صورة صحيحة عن الخروج المشروع للإمام الحسين×. إنّ الاستناد إلى فسق يزيد وفجوره، وسعيه إلى محو الإسلام من أساسه، هو أكثر انسجاماً مع تلك النظرية التي تنظر إلى هذه الثورة فقط وفقط ضمن إطار شهادة الإمام التعبديّة؛ ممّا يعني أنّ أساس الإسلام كان في خطر محتّم دفع الإمام أن يقدّم نفسه للشهادة. هذا الأمر ليس فقط لا يتوافق مع الوقائع التاريخيّة المتقدّمة، بل تلزم منه لوازم أخرى فاسدة، فلم يكونوا قلّة حكّام بني العباس الذين كانوا يقتلون ويغيرون بشكل علنيّ ويتناولون المسكر، لكنّ الأئمة اختاروا مقابل هؤلاء إمّا السكوت؛ أو النهي عن المنكر باللسان. ولو كان معيار وجوب الخروج، والذي يكون بقصد القتل أيضاً، هو صدور منكر عظيم يزلزل أساس الدين (وفي هذا الاصطلاح مجالٌ للمناقشة نغضي عنه الآن)، فلماذا لم يثُرْ كلٌّ من: الإمام الصادق×؛ والإمام الكاظم×، كثورة الإمام الحسين×. وهنا ننظر في النماذج التالية:

1ـ يقول أحد الشعراء المخضرمين في مقارنة بين الدولة العباسيّة والدولة الأمويّة:

يا ليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار

2ـ يقول محمد صاحب النفس الزكيّة: لقد كنّا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقلّ خوفاً لله منهم. (باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين× 1: 407، عن الترجمة الفارسية: زندگاني إمام حسين، ترجمة: فخر الدين حجازي).

3ـ كفر المنصور بالإسلام، وبعد أن أنكر جميع أصول وأهداف الإسلام قرّر أن ينقل الكعبة من مكانها إلى دار السلام. كذلك أقدم على إنشاء بناء ضخم في عاصمته (بغداد)، وبهدف التقليل من مقام الكعبة المكرَّمة سمّى ذاك البناء «القبّة الخضراء»، وبهذه الطريقة أعلن كفره وعدم تديّنه. (المصدر السابق، نقلاً عن: تاريخ الطبري 3: 117).

4ـ الضغط الشديد الذي مارسه المنصور على العلويّين وبني هاشم، والذي ذكرت موارده مراراً في التاريخ، ورسالة الإمام الصادق× إلى عبد الله بن حسن؛ لتعزيته ومواساته، هي جزءٌ بسيط من مصائب ذاك الزمان. (راجع: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 47: 99 ـ 301).

5ـ لقد فاق المهدي العباسي يزيد في عدم تحمّل المسؤوليّة والتهتّك. ولنفترض أنّه كان ليزيد سوابق سيّئة، بحيث لم يبقَ للإمام× من عذرٍ زمان خلافة يزيد، فقد راج اللهو واللعب، وانتشرت البذاءة والشعر الإباحي، في عصر المهدي. وكان يحبّ الغلمان، ويطرب للموسيقى، وكان يعشق جاريةً تدعى «جوهر». وقد أفرط في شرب الخمر إلى حدٍّ دفع وزيره يعقوب بن داوود إلى نهيه، وقال: أتشرب في المسجد مع إقامة الصلاة فيه؟ وقد بارك له بعض الشعراء مدوامته على الشراب، وعدم اهتمامه بقول وزيره، وأنشدوا:

فدَعْ عنك ابن داوود جانباً *** وأقبِلْ على الصهباء طيبة النشر

(تحليلي أز زندگاني إمام كاظم (تحليل لحياة الإمام الكاظم) 1: 490، نقلاً عن أخلاق الملوك: 34).

6ـ کان الهادي المعاصر للإمام الكاظم× مولعاً بشرب الخمر، وهو أوّل خليفة عباسي كان دائم السكر، وتبعه فی ذلك هارون الرشيد. (المصدر السابق ، نقلاً عن: تاريخ الطبري 6: 489؛ الأغاني 5: 216).

7ـ فاجعة فخّ، والتي قال عنها الإمام الهادي×: لم يكن لنا بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ. وكانت قد وقعت في عهد الخليفة الهادي، وفي إمامة الإمام الكاظم×. وقد كانت أبعاد هذه الفاجعة كبيرة ومؤلمة جدّاً، استشهد فيها الكثير من العلويين، وقطّعت فيها أيديهم وأرجلهم، وفصلت رؤوسهم عن أبدانهم.

هذه الموارد وغيرها من الشواهد الأخرى تدلّ على أنّ النظريّة التي تعتبر أنّ الشهادة التعبديّة للإمام× هي ناشئة عن تزلزل أركان الدين على يد يزيد هي نظريّة تواجه إشكالات وأسئلة جادّة؛ حيث لا شكّ أنّ بعض أعمال بني العباس هي أشدّ وأعظم إذا ما قورنت بفسق يزيد وفجوره. ولا ريب أنّه إذا قبلنا نظريّة صاحب الجواهر المتقدّمة، فاعتبرنا أنّ ثورة الإمام الحسين× هي من الأسرار الإلهيّة التي لا يرقى إليها فهمنا وتحليلنا، أو إذا قبلنا النظريّة القائلة بأنّ لكلّ إمامٍ من الأئمة دوره الخاص المحدّد في رسالة خاصّة ومختومة، وقد سبق الكلام حولها، فحينها لن يبقى لبحثنا هذا أيّ مجال؛ حيث يبتني هذا البحث إلى إمكان أن يستخرج من الثورة حجّة ودليل يمكن اعتماده في اتّباعها والاقتداء بها.

[أقول: تعليقاً على ما تقدّم يمكن أن يقال: يبدو أنه لا تنافي بين نظريّة «الرسالة المختومة» التي تحدّد وظيفة كلّ إمام وبين إمكان تحليل هذه الثورة وسائر حركات الأئمّة المعصومين^ وسكناتهم وقيامهم وقعودهم تحليلاً قابلاً لأن يقتدى به. كما أنّ كلّ تحليل يقوم به الباحث وفق الأسس السليمة إنّما يحاكي مستوى المحلّل والجانب الذي يهتمّ به، وليس من الضروريّ أن يعبّر عن كامل الظاهرة المدروسة في كلّ أبعادها وجوانبها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقبل بنظريّة صاحب الجواهر، بمعنى أنّنا لن نتمكّن من دراسة فعل المعصوم دراسة تنال كنهه وكافّة أبعاده. إلاّ أنّ هذا لا يؤدّي بنا إلى النتيجة التي ينتهي إليها كاتب المقالة، من عدم جدوى البحث لو قبلنا بتلك النظريّتين. فمع كون الإمام معصوماً، وفعله يرتكز إلى «رسالة مختومة»، إلاّ أنّ هذه الرسالة لم تكن عبثيّة هي الأخرى، وإنّما هي عبارة عن نتيجة تلك السنن الإلهيّة المتّبعة في تربية الأفراد والمجتمعات، وبإمكان الدارس أن يستنبط هذه السنن، ويكتنه بعض حقائق فعل المعصوم، وذلك من خلال دراسة شاملة ومقارنة لمختلف جوانب حياة الأئمّة في العصور المختلفة. غير أنّنا لا يمكن أن ندّعي أنّ ما نتوصّل إليه من دراسة كهذه هو كلّ حقيقة فعل المعصوم×. والأمر في ذلك يرجع إلى البحث الكلامي المعروف بين العدليّة والأشاعرة حول الحسن والقبح وملاكات الأحكام؛ حيث لم يمنع العدليّةَ اعتقادُهم بكون الحسن والقبح عقليّين لا شرعيّين أن يجعلوا سيرة المعصوم وفعله من مصاديق السنّة، وأن يبحثوا في حكمة التشريع، وتنقيح المناط، وإنْ منعوا أنفسهم من القياس الظنّي، ومن القول بإطلاق الأدلّة اللبّيّة، والتي تعدّ السيرة منها.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن لا نمتنع عن دراسة وتحليل سيرة المعصوم، مع تسليمنا بعمق أبعادها. كما أنّ دراستها ينبغي أن لا تنفصل عن دراسة السنن والقوانين الإلهيّة في تربية الأفراد والمجتمعات. وهذه الدراسة بدورها ترتكز إلى الدراسات الكلاميّة والفلسفيّة لحقيقة الفعل الإلهيّ، وغايته، والحكمة منه، وغرضه. وكلّ دراسة لا تنطلق من هذا الأساس هي دراسةٌ بعيدة عن أصولها، تنطلق من غير مبادئها وأسسها.

وإذا انطلقنا من كون هدف الخلقة هو معرفة الله تعالى معرفة اختياريّة ـ كأصلٍ موضوع تؤدّي إليه تلك الدراسات الكلاميّة في الجملة ـ فإنّ أهمّ هدف للأنبياء والرسل والأئمّة^ على صعيد الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة سيتمثّل في قيادة عملية تحقّق هذه المعرفة، وتقديم مستلزماتها لمَنْ يختارها من أفراد ومجتمعات.

والإمساك بزمام السلطة هو الحقّ الطبيعيّ لمَنْ يمتلك القدرات والإمكانات العلميّة والعمليّة التي يمتلكها هؤلاء الأفراد الإلهيّون، والأفراد والأمم الذين ينأون بأنفسهم عن تحكيم هؤلاء في مختلف شؤون حياتهم هم بلا شكّ خاطئون عاصون عاجزون عن بلوغ مرامي الدين وتطبيقها على أنفسهم، وبالتالي هم عاجزون عن تحقيق هدف الخلقة. ولكنْ بالنسبة إلى الإمام نفسه ليس استلام الحكم هو الوسيلة الوحيدة للقيام بدوره؛ بل قد يتمثّل دوره في حقبةٍ ما باستلام الحكم؛ وقد يتمثّل في حقبة أخرى بالاقتصار على السعي إلى استلامه، والقيام بكافّة مقدّمات ذلك، من الدعوة والإعلان والإعداد الفكري والعسكري للقيام، سواء أنتج ذلك نتيجته أم لم ينتج؛ كما قد يتمثَّل تارة أخرى بمعاقبة الأفراد و المجتمعات على سوء اختيارهم، فيدعهم يحصدون ما زرعوا.

والأمر الثابت الذي لا يتغيَّر في دور الإمام هو قيامه الدائم بما يصون النظريّة الدينيّة بأصولها وفروعها، وتربية مَنْ يختارها تربية ظاهرة وباطنة بولايتَيْه التشريعية والتكوينية، أو باطنة فقط بولايته التكوينية. فعلى الإمام أن يعمل على إبقاء هذه النظريّة سليمة لمَنْ أراد أن يختارها ضمن الدائرة التي يراها هو× لانتشار هذه النظريّة، وفق الظروف والمقتضيات الخاصّة بمختلف المجتمعات.

وحفظ هذه النظريّة وإتاحة الإقبال الاختياري عليها من قبل الناس قد يقتضي القيام تارةً والقعود أخرى، الحضور تارةً والغياب أخرى، سواء أدّى القيام إلى الشهادة أم إلى النصر أم إلى الصلح. كلّ ذلك وفق خطط منسجمة مع واقع الأفراد والمجتمعات ذات الصلة.

وإذا أردنا أن نقيّم ثورة الإمام سيّد الشهداء× على ضوء ذلك فإنّ دراسة الوقائع التاريخيّة منذ وفاة رسول الله| إلى موت معاوية تفيد أنّ النظريّة الدينيّة كانت تعاني من تهديد جادّ لم يكن ليزول لولا هذه الثورة، فلم يكن الباعث على الثورة هو الرغبة في استلام الحكم؛ فقد كان الإمام يعلم أنّ المجتمع لا يطلب حكمه للدين، وأنّه لعق على ألسنتهم، فلا يستحقّون حكم الإمام. كما لم يكن الباعث الأوحد على توقيتها بذلك الوقت هو وصول يزيد المعلن بالفسق والفجور إلى الخلافة. بل الباعث المحتِّم لها هو وصوله في تلك المرحلة بالذات، وفي تلك الظروف الخاصّة، بعد سنوات من حكم الشيخين وعثمان، وطمسهم لكثير من معالم الدين، مع حفظهم لنسبةٍ من حسن الظاهر تكفي لإذعان الناس لهم، وعدّهم خلفاء حقٍّ لرسول الله، الأمر الذي يجعلهم حجاباً يغطّي حقيقة الرسالة، الباعث هو وصوله بعد معاوية، الذي كان قد شرع كلٌّ من الإمام عليّ والإمام الحسن‘ بتمزيق قناعه، ولولا ذلك لبقي معاوية ومَنْ قبله مختبئين، ولأطفأوا نور الله. فقد كانت سياسة عليّ معه، وكذلك صلح الحسن، ضربة في هذا الجدار الحاجب لنور النبوّة، وكانت سياسة الإمام الحسين هذه تتمّة لتينك السياستين، حتّى فضح كذب معاوية وخيانته، وحدّ من أثره على هذه النظريّة وانتشارها سليمة.

وأما ظروف سائر الأئمّة^، وما أشار إليه الكاتب من علنيّة فسق وفجور وظلم الكثيرين من خلفاء أزمانهم، فليس في نفسه علّةً للخروج والثورة؛ لعدم خطرٍ في ذلك على أصل النظريّة، بعد أن قام الأئمّة من بعد الحسين^ بأعباء بيانها فروعاً وأصولاً؛ ولعدم استحقاق المجتمعات لمثل هذا الخروج واستلام الحكم من قبل إمام معصوم؛ كونهم لم يختاروا ذلك بملء إرادتهم، ولم يطلبوا الإمام المعصوم لدينهم، والكثير ممَّنْ طلبه من أفراد أممهم، الذين عرضوا الخروج على الأئمّة، وسلّموا إليهم الرايات، إنّما طلبوه لدنياهم، أو قبل استحقاق الأمّة له.

ومن هنا فدراسة موانع الثورة ـ والتي منها: صلح الإمام الحسن، وطبيعة حكومة معاوية ـ على ضوء ما تقدّم ستحلّ الكثير من الاستفهامات ومواضع الإبهام المدّعاة. فصلح الإمام الحسن× هو مانعٌ من الثورة؛ باعتباره عهداً عقده إمامٌ معصوم وفق مصالح وغايات لا بدّ أن يحقّقها، ونقض هذا الصلح من قبل الإمام الحسين× كان سينحرف به عن غاياته. كما أنّ وجود معاوية باعتباره طرف الصلح الآخر وأحد بنود سريان مفعوله هو مانعٌ آخر من الثورة. وأمّا طبيعة حكومته ومكره ودهائه فهي كذلك تمنع من الثورة في ظروف الصلح هذا؛ لأنّ معاوية معها كان سيستمرّ في سياسة التمويه وحجب نور الرسالة المتمثِّل بأهل البيت^.

إنّ سياسة كلٍّ من: أمير المؤمنين×، ومن بعده الحسنان‘، في مواجهة كلٍّ من: معاوية؛ ويزيد، هي التي أزالت تلك الهالة من القداسة، ونزعت ما نسبه الخلفاء لأنفسهم من الحقّ في التشريع، والتعديل في الدين، والتعليم لمعارفه وأصوله وفروعه؛ حيث كشفوا^ بتلك السياسة القناع الزائف عن وجه الخلفاء، وصار معلوماً لدى جميع أهل الإسلام أنّ بداية خلافة معاوية هي نهاية الخلافة الراشدة. كما صار معلوماً للمتدبِّر خاصّة أنّ اسم الخلافة الراشدة كان على غير مسمّاه، وأنّ نظريّة الإسلام إنّما كانت ولا تزال في صدور أهل البيت^ وأتباعهم بالحقّ في كلّ ما قدّموه، لا في بعضه دون بعض. وقد أتيح للأئمّة من بعد الحسين^ أن يشيّدوا دعائم الإسلام على مختلف مستوياته، فقدّموا مذهباً مستقلاًّ في الفقه والكلام والأخلاق، وجعلوا بين أيدي البشر ميزاناً من فكرهم، يزن به الباحث عن الحقّ بملء اختياره فكره وعمله، ويستهدي به في سيره نحو الغاية، تحت رعاية ولايتهم، فإنْ اختاره فردٌ بلغ الغاية، ولو في مجتمعٍ لم يختَرْ الحقّ، وإنْ اختاره مجتمعٌ استحقّ أن ينال رعاية المعصوم كمجتمع؛ لأنّه يكون قد أراد المعصوم للدين، لا للدنيا، فاستحقّ نعمة أن يكون المعصوم هو الحاكم فيه ظاهراً، وكما تكونوا يولّى عليكم. ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخَّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا، على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتّصل بنا ممّا نكرهه، ولا نؤثره منهم، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. (المفيد، المزار: 11). وتجدر الإشارة إلى أنّ الروايات الواردة عن الأئمة^ في بيان حقيقة مواقفهم تفيد ما تقدّم، وهي كثيرةٌ، يحتاج استقصاؤها إلى مقام آخر]. (المترجم)

([85]) وإنّما تحدَّثنا عن انحراف الحكومة ردّاً على إشكال الذين تحدّثوا عن نزاهة يزيد، ولم يجدوا في خروج الإمام الحسين× على الحاكم خروجاً مبرّراً؛ لعدم تسليمهم بانحرافه. وإلاّ فالأمر غنيّ عن البيان.

يقول صاحب (العواصم من القواصم: 227): فإنْ قيل: كان يزيد خمّاراً، قلنا: لا يحلّ إلاّ بشاهدَيْن، فمَنْ شهد بذلك عليه؟ بل شهد العدل بعدالته. فروى يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال الليث: «توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا»، فسمّاه الليث «أمير المؤمنين» بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلاّ «توفي يزيد».

ومن الجدير بالذكر أنّ عدّةً من الكتّاب؛ بنقلهم هذا الكلام وأمثاله عن الكاتب المذكور، ظنّوه محيي الدين ابن عربي الشهير، فنسبوا إلى ابن العربي صاحب الفتوحات تهماً باطلة. والحال أن القضيّة خاطئة. ولا يكتفي أبو بكر ابن العربي بهذا المقدار، بل عمل في كلامه على تبرئة يزيد، وانتقد ثورة الإمام الحسين×. وبعد أن عرض النصائح التي قدَّمها كبار مكّة والمدينة إلى الحسين بن عليّ تعجّب من الإمام الحسين، وعدم إصغائه لنصيحة كبار الصحابة، واتّباعه كلام أوباش الكوفة. وهو يعتبر أنّ جيش يزيد كان يطبِّق رواية عن النبيّ: «أنّه ستكون هَنات وهَنات، فمَنْ أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمّة وهي جميعٌ فاضربوه بالسيف، كائناً مَنْ كان». وهو بتبرئة يزيد يعتبر أن جنده يقومون بتنفيذ الجزاء الذي كان النبيّ قد قرَّره لمفسدي نظام المجتمع العام.

ولمحبّ الدين الخطيب، المدير السابق لمجلة الأزهر، حاشية على الكتاب المذكور، وهو يقول في موضع منها: «فلم يفد شيء من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر، الذي كان مشؤوماً عليه، وعلى الإسلام، وعلى الأمّة الإسلاميّة، إلى هذا اليوم، وإلى قيام الساعة. وكلّ هذا بجناية شيعته الذين حرَّضوه بجهلٍ وغرور، رغبةً في الفتنة والفرقة والشرّ، ثمّ خذلوه بجبنٍ ونذالة وخيانة وغدر…» (المصدر السابق: 231).

هذه نماذج من الإشكالات التي نقل بعضها الآخر الشيخ علي الكوراني العاملي في الجزء الثامن من كتاب (الانتصار). وهي تبيِّن بوضوح ضرورة دراسة ثورة الإمام الحسين× ضمن الأطر الفقهيّة والحقوقيّة المقبولة.

([86]) أقول: قد يعترض على اعتماد ذلك معياراً في حركات الأئمّة وسكناتهم بالكثير من مواقف الأئمّة^. فلو كان ذلك هو المعيار لما قعد الإمام عليّ حيناً وقام أحياناً، ولما قام الحسن حيناً وصالح آخر، ولما قعد الحسين حيناً وثار آخر، خصوصاً مع ما لاقى كلٌّ منهم من المخالفين والمحذّرين، وما أدّت إليه مواقفهم من التفرقة في الظاهر لجماعة المسلمين. ولعلّ المعيار الأدّق الذي يفسِّر قيامهم وقعودهم وظهورهم وغيبتهم^ هو ما تقدّم من حفظ النظريّة، ومدى اختيار الأمّة لتطبيقها كأمّة. فحفظ النظريّة وحده قد يدفع للمخالفة بالقعود (كما فعل الإمام علي× بعد وفاة النبيّ|)، أو إلى المخالفة بالقيام (كما فعل كلٌّ من الإمام عليّ× والحسن× مع معاوية وغيره)، ولو أدّيا إلى اختلال الوحدة ومخالفة الرأي العام. وعدم اختيار الأمّة اختيار حقّ لكافّة مستويات هذه النظريّة يدفع الأئمّة إلى القعود، كما صنع كثيرون منهم، وخصوصاً صاحب العصر والزمان. نعم، حثّ الأئمّة^ على جمعات المسلمين وجماعاتهم هو واحدٌ من التدابير المتنوّعة التي اتّخذوها في سبيل حفظ نظريّة الدين، وحفظ المتديّنين بها، ولا يمكن تعميمها. (المترجم).

([87])المفيد، الإرشاد 2: 37.

([88]) تاريخ الطبري 6: 197.

([89]) يذكر مؤّلف كتاب «نگاهي به حماسه حسيني» ( نظرة إلى الملحمة الحسينيّة) ـ الشهيد مطهري ـ أسماء بعض الوجوه التي دعت الإمام× أو تعاونت معه في استقراءٍ مفصّل تقريباً، حيث سنأتي بشيءٍ مختصر منه، يذكر منهم في ص 45 وما يليها:

ـ سليمان بن صرد الخزاعي، صحابيّ كبير للنبيّ|، ومرافق لعليّ× في معركتي صفيّن والنهروان.

ـ المسيّب بن نخبة، شارك في معارك القادسيّة والجمل وصفيّن.

ـ رفاعة بن شدّاد البجلي، من الثقات الكبار، حتّى عند أهل السنّة.

ـ هاني بن عروة، شخصيّة متميِّزة ومهمّة في الكوفة.

ـ شريك بن الأعور، سياسيّ محنّك، اقترح على مسلم اغتيال عبيد الله.

ـ عبّاس بن أبي شبيب، لم يكن له يوم عاشوراء نظير ينازله في معسكر العدوّ؛ لصلابته وشجاعته وإيمانه الراسخ، فتعاونوا على قتله.

ـ قيس بن سمر الصيداوي، مبعوث أهل الكوفة والإمام×، وهو الذي مدح الإمام في مجلس عبيد الله حتّى الرمق الأخير، وقتل في نفس المجلس.

ـ المختار بن أبي عبيدة الثقفي، سياسيّ معروف في صدر الإسلام، وهو صاحب الثورة الكبيرة فيما بعد.

ـ برير بن الخضير الهمداني، شخصيّة محبّبة ومحترمة، حتّى في معسكر عمر بن سعد، ومعلِّم القرآن في الكوفة.

وبالإضافة إلى هؤلاء وغيرهم، حيث سيطول الكلام بذكرهم، كبارٌ من بني هاشم، الذين كانوا جميعهم عقلاء ويتمتَّعون بالاحترام. (راجع: نگاهي به حماسه حسيني: 45 وما يليها).

([90]) أقول: إذا اعتمدنا على هذه العوامل في تحليل ثورة الإمام الحسين، مع غضّ النظر عن المعيارين المتقدِّمين؛ من مراعاة حفظ نظريّة الشريعة؛ واختيار الأمّة لها، فقد يقال بأنّ اتّكاء الإمام× على مثل هذه الأسباب هو أمر يستلزم نسبة النقص إليه، لا كإمامٍ معصوم فحسب، بل كفردٍ عاقل من أهل الظاهر؛ فإنّ كلّ هذه المعطيات لم تكن لتخفى على أمثال: ابن عبّاس، وابن الحنفيّة، والآخرين، الذين نصحوا الإمام بعدم الخروج، وأشفقوا عليه، وحذّروه من غدر أهل الكوفة، ولو لم يكن للإمام معيارٌ آخر لكان عليه كمكلَّف بالظاهر أن يحذر وفق هذه المعايير العامّة من قوم طالما غدروا بأبيه وأخيه. كما أنّ عليه أن يصغي إلى أولئك الذين أشاروا عليه. من هنا ندرك أنّه كان يرتكز إلى معايير أخرى. (المترجم).

([91]) المفيد، الإرشاد 2: 71.

([92]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 3: 201.

([93]) الطوسي، تلخيص الشافي 4: 183.

([94]) الخضري بك، تاريخ الأمم الإسلامية 2: 129.

([95]) رغم أنّ الشوكاني، صاحب نيل الأوطار، هو من أنصار القول الثاني في مسألة جواز الخروج على الحاكم وعدمه؛ حيث يعتبر الكفر الصريح وحده سبباً في جواز الخروج، ويعترض على مَنْ تمسّك بعمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتبرير وجوب الخروج على الحكومة، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يواجه بشدّة ما ذهبت إليه الكرّاميّة من الاعتراض على خروج الإمام الحسين×، فيقول: «وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بَاغٍ عَلَى الْخِمِّيرِ السِّكِّيرِ، الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَعَنَهُمْ اللهُ، فَيَا للهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالاتٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَا كلّ جلمود». (نيل الأوطار 7: 186).

([96]) تاريخ الطبري 7: 216 ـ 218؛ المفيد، الإرشاد: 200؛ مقتل العوالم: 54.

([97]) الطوسي، تلخيص الشافي 2: 36.

([98]) تاريخ الطبري 7: 221؛ المفيد، الإرشاد: 202.

([99]) عبد الله البحراني، العوالم والعلوم والمعارف: 54.

([100]) راجع: عطاء الله مهاجراني، انقلاب عاشورا (ثورة عاشوراء): 72.

([101]) لو ادّعي أن من شروط صحّة البيعة الرضا، ولا يترتّب على البيعة الإكراهيّة أيّ أثر حقوقي، فيمكن للإمام أن يبايع مكرهاً، ولا تترتّب على بيعته أيّ نتيجة. نجيب على ذلك: أولاً: إنّ من اللوازم الواضحة لفعل الإمام أن الاستنكاف كان مطلوباً في حدّ نفسه، وقد كان خبره مؤثّراً جدّاً. ثانياً: لو بايع الإمام× هذه البيعة فإلى أن يثبت أنّها كانت بالإكراه تكون قد أنتجت نتيجتها، ويكون الطرف المقابل قد أحسن الاستفادة منها؛ لتحقيق أغراضه. ثالثاً: لو أنّ الإمام× لم يستنكِفْ ابتداء، وبايع مكرهاً، ثمّ نكث، لنظرت إليه الأمّة الإسلاميّة على أنّه متخلِّف عن بيعته وخارج و…

([102]) تاريخ الطبري 2: 37.

([103]) المصدر السابق 7: 275.

([104]) ملاحظة: في تاريخ الطبري لم يذكر أنّه خاطب عبد الله بن الزبير بهذا الكلام، وإنّما خاطب به الجماعة التي كانت بالقرب منهما، والتي روت هذا الكلام. (المترجم).

([105]) المصدر السابق 5: 383.

([106]) راجع: الشوكاني، نيل الأوطار 8: 186؛ الآلوسي، روح المعاني 26: 73؛ محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الإسلام: 149. صحيحٌ أنّ الكثير من أهل السنّة قد أيَّدوا قيام الإمام، واعتبروه صحيحاً على أساس اجتهاد الإمام، ولكنّ البحث يتمحور حول وضوح مبادئ ومباني اجتهاد الإمام، وكذا حول تماميّة مقدّمات الاستنباط الحقوقيّ للثورة. أمّا إنْ كان مقصودهم من ذاك الاجتهاد أنّنا لا نعلم على أيّ أساس قد اجتهد الإمام فهذا يشبه نتيجة أصحاب نظريّة الثورة والشهادة التعبّديين. لذا فقد اعتبر بعض أهل السنّة أنّ عمل يزيد صحيح على أساس اجتهاده، وأوكلوا أمر الإمام الحسين× ويزيد إلى الله سبحانه وتعالى.

([107]) لطف الله صافي، حسين، شهيد آگاه (الحسين، الشهيد الواعي): 333.

([108]) مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، عن الأصل الفارسي: «حماسه حسيني» 3: 348.

([109]) عبد الرحمن شرقاوي، الحسين ثائراً، الحسين شاهداً 2: 60 (نقلاً عن: حميد عنايت، تفكر نوين سياسي إسلام: 261).

([110]) المفيد، الإرشاد 2: 85.

([111]) المصدر السابق 2: 87.

([112]) راجع: حميد عنايت، تفكر نوين سياسي إسلام: 262 (نقلاً عن: جمعة المصري، لواء الإسلام، أيلول 1956).

([113]) صالحي النجف آبادي، شهيد جاويد: 218.

([114]) أقول: هذا التعبير لا ينسجم مع مقام الإمام× وحكمته. (المترجم).

([115]) المفيد، الإرشاد 2: 76.

([116]) الفكرة الأساس التي ينبغي تسليط الضوء عليها هي قصد يزيد إلى قتل الإمام بأيّ نحو كان، ولو بالسمّ. وقتلٌ كهذا، من قبل شخص كهذا، في تلك المرحلة التي لم تهتَكْ فيها بعد كامل شخصيّة المتلبّس بالخلافة، لن يكون له أيّ أثر في حفظ الدين والقيم، وسيترك الساحة خاليةً ليزيد وسلسلة من الخلفاء المبسوطي الأيدي إلى كامل المجالات والأفكار والأعمال. لذا فلا بدّ من موتٍ يكون فيه الإثم على يزيد ومَنْ معه، ويكون مبرّراً من ناحية حقوقيّة وشرعيّة أمام أفراد الأمّة على مباني وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفساد البيعة، وقيام الحجّة بوجود الناصر، والوفاء بالعهد الذي قطع بتلبية الدعوة.

والعلم بخيانة أهل الكوفة علماً واقعياً غيبياً؛ لكونه إماماً معصوماً على ارتباط بالغيب، وعلماً ظاهرياً؛ لكونه أشرف العقلاء، الذين يدركون جيّداً التجارب السابقة مع أهل الكوفة ـ والتي كان يستند إليها الناصحون، كابن عباس وابن الحنفية وغيرهما؛ ظنّاً منهم خفاء الرأي على الإمام×، والتي صدّقتها تجربة مسلم وشهادته قبل وصول الإمام الحسين× إلى الكوفة ـ هذا العلم لا يغيِّر من تلك المباني الفقهيّة والحقوقيّة شيئاً، كما لا يغيّر من الأهداف والمصالح الناشئة عن هذه الثورة شيئاً. فلو أحجم الإمام عن إجابة أهل الكوفة؛ بذريعة التجارب السابقة الخائنة منهم مع كلٍّ من أمير المؤمنين والإمام الحسن‘، لبقي الإمام من الناحية الفقهيّة والحقوقيّة مداناً على مرّ العصور، ولعُدّ خائناً لدين جدّه، ومخلفاً للوعد الذي قطعه لأهل الكوفة، ولأمكن ليزيد ولغيره من الطامعين أن يتابعوا مشاريعهم النفعيّة القائمة على قوّة دين محمد الجديد بغير ممانعٍ. كما كان يمكن لأهل الكوفة أن يقولوا: ها نحن تائبون عن خياناتنا السابقة، ومنتظرون مقدم الحسين×، وهو الذي خاف القتل، وقصّر في تلبية دعوتنا.

والأمر نفسه بعد علمه بشهادة مسلم؛ حيث يمكن لأهل الكوفة لو رجع الإمام بعدها، وقتل سرّاً وغيلة بالسمّ، أن يقفوا أمام الملأ، ويلقوا باللوم على الإمام، ويقولوا: رغم قتل مسلم فقد كنّا بانتظار الإمام الحسين×، ولو قدم إلينا فنحن على وعودنا وجهوزيّتنا، وإنّما كان تركنا لمسلم تدبيراً مؤقَّتاً؛ كي لا يقضي علينا ابن زياد، فيأتي الإمام فلا يجدنا، فاختبأنا في بيوتنا تقيّة وانتظاراً لقدومه، غير أنّه عدل عن المسير إلينا ولم يأتِنا، فلم نستطع حمايته والدفاع عنه، فقُتل بعيداً عنّا. ولن يكون لقتلٍ كهذا أيّ فائدة، وسيبقى واقع الأمّة على ما هو عليه، بل أسوأ. أمّا بإصرار الإمام الحسين على الخروج من المدينة أوّلاً، رافضاً بيعة يزيد، ناهياً عن المنكر، متابعاً ما أسَّسه الإمامان الأولان؛ والخروج من مكّة ثانياً، ملبّياً دعوة أهل الكوفة؛ والإصرار على دخولها حُرّاً بعد علمه بشهادة مسلم ثالثاً، كلّ ذلك أدّى إلى الحدّ من آثار مشاريع استغلال الدين من قبل المستغلّين، من خلفاء وغيرهم، وترك الحقّ أمام الأمّة خياراً تختاره متى شاءت، وتشعر بتقصيرها وتفريطها عن نصرته، وأبان أنّ هذا الحقّ لا يدرك بالباطل، وأنّ الوفاء بالوعد وحفظ الحقّ والدين من أن يحرّفا هما الغاية التي ينبغي السير إليها، ولو أدّى إلى القتل. (المترجم).

([117]) أقول: هذا التعبير لا ينسجم مع الحقيقة المسلَّمة التي قامت عليها الأدلّة العقلية والنقلية من علم الإمام× بالغيب، فلا ينبغي إيراده. (المترجم).

([118]) لا يجب أن نخلص من هذا التحليل إلى أنّ الإمام قد تخلّى عن فكرة اعتبر فيها الحكومة رسميّة، أو أنّه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعندما خرج الإمام من المدينة، وترك بيعة يزيد، وحيث لم يكن هناك خبرٌ عن رغبة أهل الكوفة، وكما قلنا: إنّه عندما سمع الكوفيّون بمخالفة الإمام قرَّروا أن يكتبوا إليه رسالة، ويدعوه. إذاً فمخالفة الإمام لم تكن تدور مدار رأيهم، الذي هو مفقود هنا.

([119]) الإرشاد 2: 85.

([120]) المصدر السابق: 87.

([121]) تاريخ الطبري 5: 414.

([122]) المصدر نفسه.

([123]) الإرشاد 2: 87.

([124]) لطف الله صافي، حسين شهيد آگاه: 97.

([125]) الإرشاد 2: 97.

([126]) المصدر السابق 2: 98.

([127]) المصدر السابق 2: 88.

([128]) أقول: العزّة هنا إمّا أن تكون بمعناها الفرديّ والشخصيّ، أو بمعنى عزّة الدين وحفظه ومنعته. ولا شكّ أنّ الملاك في استشهاد الإمام الحسين هو الثاني؛ وفقاً لما تقدَّم في التعليقات السابقة. وأما العزّة الشخصيّة فقد تعرّض الإمام وأهل بيته^ للهوان الظاهري والتعذيب والقتل، وكل ذلك من مصاديق الذلّ الشخصي. وكذلك الإمام الحسن× فقد تعرّض في صلحه للَّوْم والتحقير من بعض أصحابه، حتّى سلّم عليه بـ (مذلّ المؤمنين). وقد رضي الأئمّة من ولد الحسين^ أن يسكتوا ويقمعوا ويسجنوا ويشرّدوا في البلدان؛ حفظاً لعزّة الدين؛ وصوناً لنظريّته، وفق الظروف التي عاشوها^.

من هنا يمكن أن يقال: إنّ هدف الإمام الحسين× هو صون الدين بواسطة استشهاده، شهادة يكون سببها انحراف الأمّة بأفرادها وحكّامها معاً، شهادة يقع اللوم فيها على الأمّة كلّها، فتدرك عمق تقصيرها وبعدها عن مشروع النبوّة والإمامة. ولا بدّ لهذه الشهادة أن تكون محكمةً من حيث الأسباب الظاهريّة لها، وهي الأمور التي كان الإمام× يحاجّ بها قومه، ويطالبهم بها، بدءاً من فساد يزيد وانتهاء بوعده لأهل الكوفة ومطالبته قادة جيشها القادم لاستقباله بأن يتركوا له طريق العودة. وكلّ ذلك لا يعني تراجعه عن خطّته، أو جهله بأهل زمانه، أو عدم إعداده العدّة اللازمة لتحقيق غايته.

وأما الاقتداء بهذه الثورة، والاستفادة منها فقهيّاً على صعيد الإصلاح الاجتماعي، فيبقى مفتوحاً على مصراعَيْه في عنوانها العامّ، وهدفها النهائي الاستراتيجي، وهو حفظ الدين وتقديمه على كلّ عزيز، الأمر الذي قد يقتضي أحياناً تقديمه على الحياة، وعلى أمن المجتمع ووحدته. ويبقى الحكم مرتبطاً بتشخيص الظروف المحيطة تشخيصاً دقيقاً، ولا يمكن استفادة عموم فقهيّ يجري في كلّ الأحوال. (المترجم).

([129]) الحلّي، منتهى المطلب 2: 974.

([130]) الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 467.

([131]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 82.

([132]) علي الطباطبائي، رياض المسائل 1: 487.

([133]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 295 ـ 296

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً