أحدث المقالات

د. الشيخ حسن آقا نظري(*)

السيد باقر المبرقع(**)

 

مقدّمة

الربا محرّم في جميع مصادر الشريعة الإسلامية؛ أوّلها القرآن الكريم، والسنة النبوية التي هي مفسّرة للقرآن، ولعن الله ورسوله المتعامل بالربا، وهدد وتوعد المتعاملين به بالخسران في الآخرة: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ (البقرة: 178). وقد أجمع المسلمون كغيرهم على تحريم الربا بأنواعه، قليله وكثيره.

وإن للربا آثاره السيئة بتسلّط الأغنياء على الفقراء. ولذلك تأتي القاعدة: إن الانتظار هي صنعة المرابي، وهي كفيلةٌ بإفساد النظام الاقتصادي كلّه. وكذلك اجتماعياً لا يختلف اثنان في أنّ المجتمع الذي يتعامل بالربا تتفشى بينهم الأثرة والأنانية، فلا يساعد بعضهم بعضاً إلاّ أن يرجو من هذه المساعدة فائدة، ويكون المجتمع فريقين: غنيّ؛ وفقير. فالغني يغتنم هذا للاستثمار والتمَوُّل، وهو على حساب الفقير، فيكون المجتمع غير متعاون ومتفكّك، ويكون بالتالي التحارب والتشابك. ولا بُدَّ أن يكون هناك تأثيرٌ في هذا التعامل على الناحية الاقتصادية، وذلك بالزيادة التي يأخذها المرابي فائدةً على أمواله. وهذا ما يسمّى بمهنة المرابي، وهي آفة عامّة لم يسلم منها ومن شرّها أيّ مجتمعٍ من مجتمعات العالم.

إن الإسلام لم يحرِّم الربا، إلاّ لأنه يعدّ وسيلة لتحصيل المال عن الطريق الذي لا خير فيه للمجتمع، ولا للأفراد، ويجعل صاحب المال في تربّص دائم بحاجة المحتاجين، يستغلها في زيادة ماله، دون عمل يحقّق انتماءه إلى مجتمعه. وهو في أثناء ذلك يحمل قلباً خالياً من الشعور بالرحمة ومعاني البر والعطف، التي هي من خصائص الإنسان. وحين جاء الإسلام وجد قلوب الناس فارغة من مشاعر الرحمة والتعاون، يأكل فيهم قويهم ضعيفهم، ويستغلّ غنيّهم فقيرهم، ولا فضل للغني إلاّ أنه ذو مال، ولا ذنب للفقير سوى أن ظروف حياته لم تهيِّئ له سبل الكسب والثراء. واتّخذ أصحاب الأموال من الربا وسيلةً لزيادة أموالهم وتكديسها من دماء المحتاجين. وبذلك انتشرت المادية الطاغية التي مزّقت الإنسانية، وجعلت أفرادها أشبه بحيوان الغاب، الغنيّ يطمع فيفترس الفقير، والفقير يحقد فيعتدي على الغنيّ.

ومن هنا كان في مقدّمة الأعمال التي قام بها الإسلام القضاء على منابع الشرّ، وإزالة الحواجز التي باعدت بين الإنسان وأخيه الإنسان، وقطعت وشائج القربى وصلات الأخوّة بين الناس، وتنمية المشاعر الإنسانية في المجتمع الإنساني الذي تظلّه معاني البر والتعاون والتراحم والتكافل. ومن هنا حرَّم الإسلام الربا.

ومن جهةٍ أخرى فإنّ الإسلام الحنيف هو الدين الوحيد الذي قرّر المبادئ الأساسية التي تشمل كلّ جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والسياسية.

وهو في جوهره المنبع الأصيل لكثيرٍ من الفضائل والمُثُل العليا بكلّ ما فيها من إشراقٍ وخير ونبل.

وهو كذلك المصدر المشعّ لكل حضارة ومدنية. ومن هنا فليس كما يتصوّره الجاهلون به بمعزلٍ عن الحياة، بل له في كل ناحية من نواحيها رأيٌ ثاقب لا يخطئ، ونور ساطع لا يغيب. وليس هذا القول بدافعٍ من تعصُّب ديني، أو عاطفة دينية، ولكنّها الحقيقة الواضحة التي أثبتها التاريخ، وأكّدها واقع الأمة الإسلامية، التي قادت ركب الحياة الناهضة في عصورها الزاهرة.

وهناك عدّة آيات حول الربا، في تحريمه، نكتفي بآيتين منها: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275)؛ و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 278 ـ 279).

 

تعريف الربا لغةً واصطلاحاً

1ـ تعريف الربا لغةً

هو الزيادة مطلقاً([1]). تقول: ربا المال أي زاد ونما. وتقول: أربا الرجل ماله إذا زاده ونمَّاه بالربا. وقال تعالى: ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحجّ: 5)، أي علت وارتفعت. وذلك معنى الزيادة؛ فإن العلوّ والارتفاع زيادة على الأرض. وقال تعالى: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ (النحل: 92)، أي أكثر عدداً.

 

2ـ تعريف الربا في الاصطلاح

إن الربا هو الزيادة من غير عوض.

وعرّفه العلاّمة الحلّي في تذكرة الفقهاء: «الربا هو بيع المثلين بأزيد منه من الآخر» ([2]).

 

2ـ 1ـ تفسير الآيتين عند السيد الطباطبائي

﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275)؛ و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 278 ـ 279).

لقد بين السيد الطبطبائي في تفسيره لهاتين الآيتين في مورد بيان حرمة الربا وتأثيره في حياة الانسان بصورةٍ عامة حيث ذكر بحثين حول هذا الموضوع، وهما: بحث علمي وروائي، حيث قال: «الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا، والتشديد على المرابين، وليست مسوقة للتشريع الابتدائي. كيف ولسانها غير لسان التشريع، وإنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 130). نعم، تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وسياق الآية يدلّ على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول، فأمرهم الله بالكفّ عن ذلك، وترك ما للغرماء في ذمّة المدينين من الربا.

وقد تقدّم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم، وهي مكية: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ﴾ (الروم: 39). ومن هنا يظهر أن الربا كان أمراً مرغوباً عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة، حتى تم أمر النهي عنه في سورة آل عمران. ثم اشتدّ أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدلّ سياقها على تقدّم نزول النهي عليها. ومن هنا يظهر أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.

وقد شدّد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدِّد بمثله في شيء من فروع الدين، إلاّ في تولّي أعداء الدين؛ فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا. وأما سائر الكبائر فإن القرآن وإنْ أعلن مخالفتها، وشدَّد القول فيها، فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتّى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم منها، كقتل النفس التي حرَّم الله والفساد. فجميع ذلك دون الربا وتولّي أعداء الدين.

وليس ذلك إلاّ لأن تلك المعاصي لا تتعدّى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤومة، ولا تسري إلاّ إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلاّ في الأعمال والأفعال، بخلاف هاتين المعصيتين، فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين، ويعفى أثره، ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الإنسانية، ويسقط حكمها فيصير نسياً منسيّاً.

وقد صدَّق جريان التاريخ كتاب الله في ما كان يشدِّد في أمرهما، حيث أهبطت المداهنة والتولي والتحاب والتمايل إلى أعداء الدين الأمم الإسلامية في مهبط من الهلكة، صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم، لا يملكون مالاً ولا عرضاً ولا نفساً، ولا يستحقون موتاً ولا حياة، فلا يؤذَن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامّة الفضائل.

وحيث ساق أكل الربا إلى ادّخار الكنوز وتراكم الثروة والسؤدد، فجرّ ذلك إلى الحروب العالمية العامة، وانقسام الناس إلى قسمين: المثري السعيد؛ والمعدم الشقي، وبان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الأرض، ويهدّد الإنسانية بالانهدام، والدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى.

قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275) جملةٌ مستأنفة، بناءً على أن الجملة الفعلية المصدَّرة بالماضي لو كانت حالاً لوجب تصديرها بـ (قد). يقال: جاءني زيدٌ، وقد ضرب عمراً. ولا يلائم كونها حالاً ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيدٌ لزمان عامله، وظرف لتحقّقه، فلو كانت حالاً لأفادت أن تخبطهم لقولهم: إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحلّ الله البيع وحرَّم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه، فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة، وقبل تشريعهما. فالجملة ليست حالية، وإنما هي مستأنفة.

وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدّم من أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدلّ عليها آية آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 130)، فالجملة، أعني قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ﴾…إلخ، لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الإخبار عن حكم سابق، وتوطئة لتفرّع قوله بعدها: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾…إلخ. هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.

وقد قيل: إنّ قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ مسوقٌ لإبطال قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾. والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين، مع أن الله أحلَّ أحدهما، وحرَّم الآخر.

وفيه: إنّه وإنْ كان استدلالاً صحيحاً في نفسه لكنّه لا ينطبق على لفظ الآية، فإنه معنى كون الجملة: وأحلّ الله…إلخ حالية، وليست بحال.

كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال ويفنيه تدريجاً، من حيث إنه ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة وسوء الظنّ، ويفسد الأمن والحفظ، ويهيج النفوس على الانتقام بأيّ وسيلة أمكنَتْ، من قولٍ أو فعل، مباشرةً أو تسبيباً، وتدعو إلى التفرق والاختلاف. وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال، وقلّما يسلم المال عن آفةٍ تصيبه، أو بليّة تعمّه.

وكلّ ذلك لأن هذين الأمرين، أعني الصدقة والربا، مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء والمعوزين. وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، واستعدّت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، وهمّوا بالمقابلة بالغاً ما بلغت، فإنْ أحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض ـ والحال هذه ـ وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان وحسن النية وأثرت الأثر الجميل، وإنْ أسيء إليهم بأعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأيّ وسيلة. وقلّما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين، على ما يذكره كلّ أحد ممّا شاهد من أخبار آكلي الربا، من ذهاب أموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم.

ويجب عليك أن تعلم أوّلاً: إن العلل والأسباب التي تبنى عليها الأمور والحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود والتأثير. فإنّا إنما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها التي يغلب تحقّقها، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفكّ عنها مسبباتها على الأغلب، لا على الدوام، ونلحق الشاذّ النادر بالمعدوم. وأما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصّة بالتكوين، تتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية.

والتدبُّر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال والأعمال ومفاسدها ممّا يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال، وبناء الأعمال على عللها، يسلك هذا المسلك، ويضع الغالب موضع الدائم، كما عليه بناء العقلاء.

وثانياً: إن المجتمع كالفرد، والأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي، متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلاًّ منهما بحسب الوجود. فكما أن للفرد حياة وعمراً وموتاً مؤجلاً وأفعالاً وآثاراً فكذلك المجتمع في حياته وموته وعمره وأفعاله وآثاره.

وبذلك ينطق القرآن، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ (الحجر: 4 ـ 5).

وعلى هذا لو تبدّل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدّل نحو بقائه وزواله وأثره. فالعفّة والخلاعة الفردية حال كونهما فرديّين لهما نوع من التأثير في الحياة، فإن ركوب الفحشاء مثلاً يوجب نفرة الناس عن الإنسان، والاجتناب عن الزواج به، وعن مجالسته، وزوال الوثوق بأمانته. هذا إذا كان أمراً فردياً، والمجتمع على خلافه. وأما إذا صار اجتماعياً معروفاً عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير؛ لأنها كانت تبعات الإنكار العمومي والاستهجان العام للفعل، وقد أذهبه التداول والشياع، لكنّ المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والأمراض التناسلية والمفاسد الأخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة، كبطلان الأنساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية والفوائد الاجتماعية المترتّبة على ذلك، مترتبة عليه لا محالة. وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد في ما كان فردياً، مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعياً، من حيث السرعة والبطء.

إذا عرفتَ ذلك علمتَ أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلاً انفرادياً، كالربا القائم بالشخص، فإنه يهلك صاحبه غالباً، وقلّما يسلم منه مراب؛ لوجود أسباب وعوامل خاصّة تدفع عن ساحة حياته الفناء والمذلّة، وبين ما كان فعلاً اجتماعياً، كالربا الدائر اليوم والمعترف به دولياً، ووضعت له القوانين، وأسّست عليه البنوك، فإنه يفقد بعض صفاته الفردية؛ لرضا المجتمعات بما شاع فيها، وتعارف بينها، وانصراف النفوس عن التفكر في معائبه، لكنّ آثاره اللازمة ـ كتجمّع الثروة العمومية وتراكمها في جانب، وحلول الفقر والحرمان العمومي في جانبٍ آخر، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين: الموسرين؛ والمعسرين ـ ممّا لا ينفكّ عن هذا الربا، وسوف يؤثِّر أثره السيّئ المشؤوم. وهذا النوع من الظهور والبروز وإنْ كنا نستبطئه بالنظر الفردي، وربما لم نعتنِ به؛ لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنّه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهراً في نظر الفرد. قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140). وهذا اليوم يراد به العصر الذي ظهر فيه ناسٌ على ناس، وطائفة على طائفة، وحكومة على حكومة، وأمة على أمة، وظاهر أن سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع والمجتمع.

والقرآن لا يتكلّم عن الفرد، ولا في الفرد، وإنْ لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيماً على سعادة الإنسان: نوعه؛ وفرده، ومهيمناً على سعادة الدنيا، حاضرها وغابرها.

 

أـ بحثٌ روائي

في تفسير القمّي، في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾…الآية، عن الصادق× قال: قال رسول الله|: لما أسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: مَنْ هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المسّ. وإذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً، ويقولون: ربَّنا، متى تقوم الساعة؟

أقول: وهو مثالٌ برزخي، وتصديق لقوله|: «كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون»([3]) .

وفي الدرّ المنثور أخرج الأصبهاني في ترغيبه، عن أنس، قال: قال رسول الله|: «يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجرّ شقّيه، ثم قرأ: ﴿لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ﴾»([4]).

أقول: وقد ورد في عقاب الربا رواياتٌ كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنّة. وفي بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمّه.

وفي التهذيب بإسناده عن عمر بن يزيد بيّاع السابري قال: قلتُ لأبي عبد الله×: «جعلتُ فداك، إن الناس زعموا أن الربح على المضطر حرام؟ فقال: وهل رأيت أحداً اشترى غنياً أو فقيراً إلاّ من ضرورة؟ يا عمر، قد أحلَّ الله البيع وحرَّم الربا، فاربَحْ ولا ترب. قلتُ: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم، مثلين بمثل، وحنطة بحنطة، مثلين بمثل»([5]).

وفي الفقيه بإسناده عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله× قال: «لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن»([6]).

أقول: وقد اختلف في ما يقع فيه الربا على أقوال. والذي هو مذهب أهل البيت^ أنه إنما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن. والمسألة فقهية لا يتعلَّق منها غرضنا إلاّ بهذا المقدار.

وفي تفسير العياشي([7])، عن الصادق×، في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾…الآية، قال: الموعظة التوبة.

وفي التهذيب، عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله×، من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّى كثر ماله، ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا: ليس يقبل منك شيءٌ حتّى تردّه إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر× فقصّ عليه قصّته، فقال أبو جعفر×: مخرجك من كتاب الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ﴾، قال: الموعظة التوبة.

وفي الكافي والفقيه، عن الصادق×: كلّ ربا أكله الناس بجهالةٍ ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة. وقال: لو أن رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أن في ذلك المال ربا، ولكنْ قد اختلط في التجارة بغيره، فإنه له حلالٌ، فليأكله؛ وإن عرف منه شيئاً معروفاً فليأخذ رأس ماله، وليردّ الزيادة.

وفي الفقيه والعيون، عن الرضا×: هي كبيرةٌ بعد البيان. قال: «والاستخفاف بذلك دخول في الكفر».

وفي الكافي: إنه سئل عن الرجل يأكل الربا، وهو يرى أنه حلال؟ قال: «لا يضره حتّى يصيبه متعمداً، فإذا أصابه متعمداً فهو بالمنزلة التي قال الله عزَّ وجلَّ».

وفي الكافي والفقيه، عن الصادق×، وقد سئل عن قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾…الآية، وقيل: قد أرى مَنْ يأكل الربا يربو ماله؟ قال: فأيّ محقٍ أمحق من درهم الربا، يمحق الدِّين، وإنْ تاب منه ذهب ماله وافتقر.

أقول: والرواية كما ترى تفسِّر المحق بالمحق التشريعي، أعني عدم اعتبار الملكية والتحريم. وتقابله الصدقة في شأنه. وهي لا تنافي ما مرّ من عموم المحق.

وفي المجمع، عن عليّ× أنه قال: «لعن رسول الله| في الرِّبا خمسة: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه»([8]). أقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور بطرقٍ عنه| .

وعن عمرو بن الأحوص: «إنه شهد حجّة الوداع مع رسول الله| فقال: ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوعٌ، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون»([9]) .

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة. والمتحصل من روايات الخاصة والعامة أن الآية نزلت في أموالٍ من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، وكانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم، فأبوا التأدية؛ لوضع الاسلام ذلك، فرفع أمرهم إلى رسول الله|، فنزلت الآية.

وهذا يؤيِّد ما قدمناه في البيان، من أن الربا كان محرماً في الإسلام قبل نزول هذه الآيات، ومبيَّناً للناس. وأن هذه إنما تؤكّد التحريم وتقرِّره. فلا يعبأ ببعض ما رُوي من أن حرمة الربا إنما نزلت في آخر عهد رسول الله|، وأنه قبض ولم يبين للناس أمر الربا، كما في الدرّ المنثور، عن ابن جرير وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب، أنه خطب فقال: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله ولم يبيِّنه لنا، فدَعُوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.

على أن من مذهب أئمة أهل البيت^ أن الله تعالى لم يقبض نبيّه حتّى شرع كلّ ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم، وبين ذلك للناس نبيُّه|.

 

ب ـ بحثٌ علمي

تقدّم مراراً في المباحث السابقة أن لا همّ للإنسان في حياته إلاّ أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية. وبعبارة أخرى: لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملاً متعلقاً بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية. فهو مالك لعمله وما عمله (والعمل في هذا الباب أعمّ من الفعل والانفعال، وهو نسبة ورابطة يرتب عليها الأثر عند أهل الاجتماع)، أي إنه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، ويعدّه ملكاً جائز التصرف لشخصه، والعقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك.

لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعا ذلك إلى الاجتماع التعاوني، وأن ينتفع كلٌّ بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدّى ذلك إلى المعاوضة بينهم. واستقرّ ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل، ويملك بذلك أشياء، ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوض ما يزيد على حاجته ممّا ليس عنده من مال الغير. وهذا أصل المعاملة والمعاوضة.

غير أن التباين التامّ بين الأموال والأمتعة من حيث النوع، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلته، يولد الإشكال في المعاوضة. فإنّ الفاكهة لغرض الأكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلاً، لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض، فمسّت الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار. وكان الأصل في وضعه أنهم جعلوا شيئاً من الأمتعة عزيزة الوجود، كالذهب مثلاً، أصلاً يرجع إليه بقية الأمتعة والسلعات، فكان كالواحد التامّ من النوع يجعل مقياساً لبقية أفراده، كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما. فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامّة، ويقوم به كل شيء من الأمتعة، فيتعين به نسبة كلّ واحد منها بالنسبة إليه، ونسبة بعضها إلى بعض.

ثم إنهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقاييس للأشياء، كواحد الطول من الذراع ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمنّ ونحوه، وعند ذلك تعيَّنت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلاً أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير، والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبين بذلك أن القيراط من الألماس يعدل أربعين منّاً من دقيق الحنطة مثلاً، وعلى هذا القياس.

ثم توسّعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتّى، نفيسة أو رخيصة؛ للتسهيل والتوسعة، كنقود الفضة والنحاس والبرونز والورق والنوط، على ما تشرحه كتب الاقتصاد.

ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من الأفراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوعٍ آخر؛ لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة في ما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.

فهذه أعمال قدّمها الإنسان بين يدَيْه لرفع حوائجه في الحياة. واستقرّ الأمر أخيراً على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، وكأنه كلّ متاع يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه الذي يقدر الإنسان؛ بالحصول عليه، على الحصول على كلّ ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتّع به في الحياة. وربما جعل سلعةً فاكتسب عليه، كما يكتسب على سائر السلع والأمتعة، وهو الصرف.

وقد ظهر بما مرّ أن أصل المعاملة والمعاوضة قد استقرّ على تبديل متاعٍ من متاع آخر مغاير له؛ لمسيس الحاجة بالبدل منه، كما في أصل المعاوضة؛ أو لمسيس الحاجة إلى الربح، الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة. وهذا ـ أعني المغايرة ـ هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع. وأما المعاملة بتبديل السلعة بما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلاً فإنْ كان من غير زيادة، كقرض المثل بالمثل مثلاً، فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به، وهو مما يقيم أود الاجتماع، ويرفع حاجة المحتاج، ولا فساد يترتب عليه؛ وإنْ كان مع زيادة في المبدَل منه، وهي الربح، فذلك هو الربا. فلننظر ما هي نتيجة الربا؟

الربا ـ ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة، كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل وأخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل، وما أشبه ذلك ـ إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإعسار والإعواز، بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال، كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين، فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغدٍ، ولازمه أنّ له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين. فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص، ولا يلبث زماناً طويلاً حتّى يفنى تمام ما يكتسبه، ويبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد (20 ـ 0 = المال)، وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.

وأما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض، وذلك تمام العشرين. فيجتمع جميع المالين في جانبٍ، ويخلو الجانب الآخر من المال. وليس إلاّ لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي. فالرِّبا يؤدّي إلى فناء طبقة المعسرين، وانجرار المال إلى طبقة الموسرين، ويؤدّي ذلك إلى تأمّر المثرين من المرابين، وتحكمهم في أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوّسون؛ لما في الإنسان من قريحة التعالي والاستخدام، وإلى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم في ما وقعوا فيه من مرّ الحياة بكلّ ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام. وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام، الذي فيه هلاك الإنسانية وفناء المدنية.

هذا مع ما يتّفق عليه كثيراً من ذهاب المال الربوي من رأس. فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه، أو يريد ذلك.

هذا في الربا المتداول بين الأغنياء وأهل العسرة. وأما الذي بين غيرهم، كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها، كالربا على القرض والاتّجار به، فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجاً إلى المال الموضوع للربا من جانبٍ، ويوجب ازدياد رؤوس أموال التجارة واقتدارها أزيد ممّا هي عليها بحسب الواقع، ووقوع التطاول بينها وأكل بعضها بعضاً، وانهضام بعضها في بعض، وفناء كلٍّ في ما هو أقوى منه، فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلّين. وعاد المحذور الذي ذكرناه آنفاً.

ولا يشكّ الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية وتقدّم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، وتقدّمهم البارز في مزايا الحياة، وحرمان آخرين ـ وهم الأكثرون ـ من أوجب واجباتهم. وقد كانت الطبقة المقتدرة غرّوا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية والتساوي في الحقوق الإنسانية، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، وكانوا يحسبون أنها تسعدهم في ما يريدونه من الإتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم، والتحكّم المطلق بما شاؤوا، وأنها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة، لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، وكان عاقبة الذين أساؤوا السوأى. والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانية في مستقبل أيامها. ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، وحبس الألوف والملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشراء، وجلوس قوم على أريكة البطالة والإتراف، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة، وهو اتّكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدّة لإترافهم، ولا يعيش به آخرون لحرمانهم.

 

2ـ 2ـ تفسير الآيتين عند الشيخ مكارم الشيرازي

أـ الربا في القرآن الكريم

سنتكلَّم هنا حول تفسير الآية المباركة عبر ثلاث نقاط، وهي: الربا في القرآن الكريم؛ وسبب نزول الآية الكريمة؛ وأضرار الربا على الإنسان.

وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق. والواقع هو أن هذه الآيات تكمّل هدف الآيات السابقة؛ لأن تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية، ويركز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبّب فقر الأكثرية. والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع؛ والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس.

هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا. ولكنْ يبدو منها أن موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه.

فإذا لاحظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك. فبحسب ترتيب نزول القرآن السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأوّل مرة هي سورة الروم، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا. لكنّ الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ﴾([10])، أي إن قصيري النظر قد يرَوْن أن الثروة تزداد بالربا، ولكنّه لا يزداد عند الله. ثم بعد الهجرة تناول القرآن الربا في ثلاث سور أخرى من السور التي نزلت في المدينة، وهي بالترتيب: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء. وعلى الرغم من أن سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران فلا يستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران ـ وهي التي تحرِّم الربا تحريماً صريحاً ـ قد نزلت قبل سورة البقرة، والآيات المذكورة أعلاه. على كلّ حال هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقتٍ كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكة والمدينة والجزيرة العربية، حتى غدا عاملاً مهماً من عوامل الحياة الطبقية، وسبباً من أهم أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية. لذلك فإن الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من أهمّ الحروب الاجتماعية التي خاضها الإسلام.

منطق المرابين: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾. هذه الآية تبين منطق المرابين، فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أن كلَيْهما يمثلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما. يقول القرآن، جواباً على ذلك: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، ولم يزِدْ في ذلك شرحاً وتفصيلاً؛ ربما لوضوح الاختلاف.

فأوّلاً: في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك، ومرة يخسر هذا ويربح ذاك. بينما في المعاملة الربوية لا يتحمل المرابي أيّة خسارة، فكل الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر. ولذلك نرى المؤسسات الربوية تتوسع يوماً فيوماً، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة.

وثانياً: في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في (الإنتاج والاستهلاك)، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال.

وثالثاً: بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم، وتتزعزع قواعد الاقتصاد، الذي هو أساس المجتمع. بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم.

ورابعاً: الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية؛ بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.

﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ﴾: تقول الآية إن مَنْ بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتَّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل، أي إن القانون ليس رجعياً؛ لأن القوانين الرجعية تولِّد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس. ولذلك فإن القوانين تنفذ عادة من تاريخ سنّها. وهذا لا يعني بالطبع أن للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنَوْه من أرباحٍ قبل نزول الآية. ثم يقول: وأمره إلى الله، أي إن النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله. وإنْ كان ظاهر الآية يدلّ على أن مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكنْ بالتوجُّه إلى الآية السابقة نفهم أن القصد هو العفو. ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إن حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطَوْنه قبل نزول الآية لا يذكر صراحةً. وردت احتمالات أخرى في معنى هذه الجملة أعرضنا عن ذكرها؛ كونها خلاف الظاهر.

﴿وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي إنّ مَنْ يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً. إن العذاب الخالد لا يكون نصيب مَنْ آمن بالله، لكنّ الآية تَعِدُ المصرّين على الربا بالخلود في النار؛ ذلك لأنهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليلٌ على عدم صحة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار.

كما يمكن القول: إن خلود العذاب هنا، كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني العذاب المديد الطويل الأمد، لا الأبدي الدائم.

ثم إن الآية التالية تبين الفرق بين الربا والصدقة، وتقول: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾. ثم يضيف: ﴿وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة، والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

(المحق) النقصان التدريجي، و(الربا) هو النمو التدريجي: فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة. وقد يؤدّي عمله هذا إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم، بحيث يصبحون بالتدريج متعطّشين إلى شرب دماء المرابين، ويهددون أموالهم وأرواحهم. فالقرآن يقول: إن الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

إنّ هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضاً. وبالمقابل فالأشخاص الذين يتقدّمون إلى المجتمع بقلوبٍ مليئة بالعواطف الإنسانية، وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس، يحظون بمحبة الناس وعواطفهم عموماً. وأموال هؤلاء، فضلاً عن عدم تعرّضها لأيّ خطر، تنمو بالتعاون العامّ نمواً طبيعياً. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله: ويُرْبي الصدقات. وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع. فالمجتمع الذي يعنى بالحاجات العامة تتحرّك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلّف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيِّز الوجود ذلك النظام الاقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامة.

﴿وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾: (الكفار) من الكفور، بوزن فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة. و(الأثيم) هو الموغل في ارتكاب الآثام. هذه الفقرة من الآية تشير إلى أن المرابين؛ بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامة، يكفرون بما أغدق الله عليهم من النعم، بل أكثر من ذلك يسخِّرون هذه النعم على طريق الإثم والظلم والفساد. ومن الطبيعي أن الله لا يحبّ أمثال هؤلاء.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أناسٌ من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة، وظهور الاختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظٌ عند الله، ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة. ثم إن هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدِّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع. وأخيراً فإنهم يعيشون في اطمئنانٍ تام، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون([11]) .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 278 ـ 279):

 

ب ـ سبب النزول

جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم أنه بعد نزول آيات الربا جاء خالد بن الوليد إلى رسول الله| وقال: كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات ولم يتسلم دينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد. فهل يجوز لي ذلك؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهى الناس عن ذلك نهياً شديداً. وفي روايةٍ أخرى أنه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله|: «ألا كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوعٌ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب»([12]) .

يتضح من هذا أن رسول الله| في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أوّلاً. وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء، مثل: العباس، ممَّنْ كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهلية فقد ألغى رسول الله| ـ أوّلاً ـ ربا هؤلاء. وجاء في الروايات أن النبي| بعد نزول هذه الآيات أمر أمير مكة بأنه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم([13]).

التفسير: في الآية الأولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى، ثم يأمرهم أن يتنازلوا عمّا بقي لهم في ذمة الناس من فوائد ربوية.

يلاحظ أن الآية بدأت بذكر الإيمان بالله، واختتمت بذكره، مما يدل بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.

﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾: تتغير في هذه الآية لهجة السياق القرآني. فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ تهاجم هذه الآية المرابين بكل شدة، وتنذرهم بلهجةٍ صارمة أنهم إذا واصلوا عملهم الربوي، ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل، واستمروا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين، فلا يسع رسول الله| إلاّ أن يتوسّل بالقوة لإيقافهم عند حدّهم، وإخضاعهم للحقّ. وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم. وهي الحرب التي تنطلق من قانون: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾([14]). لذلك عندما سمع الإمام الصادق× أن مرابياً يتعاطى الربا بكلّ صراحةٍ، ويستهزئ بحرمته، هدَّده بالقتل.

ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنما هو لمنكر تحريم الربا.

فَأْذَنوا من مادة (أذن)، وكلما كانت متعدّية بالأمر فالمعنى هو السماح، وإذا تعدّت بالباء فتعني العلم، فعلى هذا يكون قوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ﴾ يعني اعلموا أن الله ورسوله سيحاربونكم. وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة. فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه (اسمحوا بإعلان الحرب من الله).

عن أبي بكير قال: بلغ أبا عبد الله الصادق× عن رجلٍ أنه كان يأكل الربا، ويسمِّيه اللِّبا، فقال: لئن أمكنني الله منه لأضربَنَّ عنقه([15]).

يتّضح من هذا أن هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام. على كل حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسَّل بالقوة لمكافحة الربا([16]).

﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾: أما إذا تبتم ورجعتم عن غيكم، وتركتم تعاطي الربا، فلكم أن تتسلَّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط (بغير ربح).

وهذا قانون عادلٌ تماماً؛ لأنه يحول دون أن تظلموا الناس، ودون أن يصيبكم ظلم. إن تعبير (لا تظلمون ولا تظلمون) وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنه في الحقيقة شعارٌ إسلامي واسع وعميق، يعني أن المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنب الظلم يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحملون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً، ولو أن المسلمين أعدّوا العدة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكن أحدٌ من أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول للظالم: لا تظلم علينا أن نقول للمظلوم: لا تستسلم للظلم.

﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾([17]): استكمالاً لبيان حق الدائن في الحصول على رأسماله (بدون ربح) تبين الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع. ففضلاً عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه، كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت؛ لتسديد أصل الدين عند القدرة والاستطاعة. إن القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من الاستيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دَيْنه، إنما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك. وهذا قانونٌ صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.

﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: وهذه في الواقع خطوةٌ أبعد من المسائل الحقوقية، أي إنها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم. تقول الآية للدائنين: إن الأفضل من كل ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو أن يخطو الدائن خطوةً إنسانية كبيرة، فيتنازل للمدين عما بقي له بذمته، فهذا خير عمل إنساني يقوم به. وكل مَنْ يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة. من المألوف في القرآن أنه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عامّاً شاملاً يؤكِّد به ما سبق قوله؛ لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيداً في العقل والنفس. لذلك فإنه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم، حيث يوضع أمام كلّ امرئ جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكل ما حفظ في ملف عالم الوجود يسلَّم إليه دفعة واحدة. عندئذٍ تهوله النتائج التي تنتظره. ولكنّ ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه، وما ظلمه فيه أحد، إنما هو نفسه ظلم نفسه، وهم لا يظلمون. جديرٌ بالذكر أن هذه الآية من الأدلة الأخرى على تجسد أعمال الإنسان في العالم الآخر.

وممّا يلفت النظر أن تفسير (الدر المنثور) ينقل بطرق عديدة أن هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله|. ولا يُستبعَد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله|؛ لأن بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة لها، وذلك بأمر النبيّ| نفسه.

 

ج ـ أضرار الربا

1ـ الربا يخلّ بالتوازن الاقتصادي في المجتمع، ويؤدّي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة؛ لأن هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح، بينما لا يجني الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط. الربا يشكِّل اليوم أهم عوامل اتّساع الهوّة المستمرّ بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.

2ـ الربا لونٌ من ألوان التبادل الاقتصادي غير السليم. يضعف العلائق العاطفية، ويغرس روح الحقد في القلوب؛ ذلك لأن الربا يقوم في الواقع على أساس أن المرابي لا ينظر إلاّ إلى أرباحه، ولا يهمّه الضرر الذي يصيب المدين. هنا يبدأ المدين بالاعتقاد بأن المرابي يتّخذ من أمواله وسيلةً لتدمير حياة الآخرين.

3ـ صحيح أن دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجةٍ قد ألجأته إلى ذلك، ولكنه لن ينسى هذا الظلم أبداً. وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدّد من ضغطها على عنقه، وتكاد تخنقه. وفي هذه الحالة تبدأ كل جوارح المدين المسكين ترسل اللعنات على المرابي، ويتعطّش لشرب دمه. إنه يرى بأمّ عينيه كيف أن حاصل شقائه وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي. في مثل هذه الحالة الهائجة تتركّب عشرات الجرائم المرعبة. فقد يقدم المدين على الانتحار؛ وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شرّ قتلة؛ وقد ينفجر الشعب المضطهد انفجاراً عاماً في ثورة عارمة. إن انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها بالربا واضح للعيان أيضاً. إن الدول التي تجد ثرواتها تصبّ في خزائن دولة أخرى باسم الربا تنظر دون شكّ بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية، وفي الوقت الذي هي تستقرض منها؛ لحاجتها الماسّة، فإنها تتحين الفرصة للإعراب عن نقمتها وكرهها بشتّى الوسائل والطرق. وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأن للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جداً في نفسية المدين، ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي بين الأفراد والملل.

4ـ في الأحاديث الإسلامية إشارةٌ إلى آثار الربا الأخلاقية السيّئة، وردت في جملة قصيرة، ولكنها عميقة المعنى. جاء في كتاب (وسائل الشيعة) عن علّة تحريم الربا عن الإمام الصادق× قال: «إنما حرَّم الله عزَّ وجلَّ الربا لكي لا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف»([18]) .

 

مراحل تحريم الربا في القرآن الكريم

ولقد انتهج القرآن لكريم في تحريم الربا منهج التدرج. كما أن الخمر لم يحرَّم دفعة واحدة، أو مرحلة واحدة، كذلك لم يحرّم الربا دفعة واحدة؛ لتمكنه من قلوب الناس وأعرافهم في معاملاتهم طوال مئات السنين قبل الإسلام في الجاهلية. وهذا من حكمة الله تعالى في تحريمه لهذا الصنف من المعاملات بين الناس. ولهذا جعل الله التدرّج في التحريم. فقد جاء تحريم الربا في أربع مراحل، وهي:

 

1ـ المرحلة الأولى

لم يأتِ فيها تحريمٌ قاطع، ولا جزئي، وإنما كان فيها مقارنة ومقابلة بين زيادة المال ومضاعفته بالربا، وبين زيادته ومضاعفته بالزكاة والصدقات. وهذه المرحلة يمثِّلها قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ﴾ (الروم: 39).

 

2ـ المرحلة الثانية

لم يأتِ فيها تحريمٌ أيضاً، وإنما موعظة للمسلمين؛ إذ بين الله تعالى أنه حرَّم الربا على اليهود، ولكنهم خالفوا أمر الله وأخذوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل، ولذلك أعدّ للمخالفين منهم العذاب الأليم. فكأنّه يحذِّر المسلمين من اتباع سبيل اليهود؛ إذ حرَّم عليهم الربا. وهذه المرحلة يمثِّلها قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ (النساء: 160 ـ 161).

 

3ـ المرحلة الثالثة

جاء التحريم في هذه المرحلة، إلاّ أنه تحريم جزئي؛ حيث حرَّم الله تعالى الربا الكثير المضاعف بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 130).

 

4ـ المرحلة الرابعة

وهي التي جاء فيها التحريم القاطع في سورة البقرة، والذي تمثِّله الآيات التالية: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 275 ـ 279).

 

آثار الربا الاقتصادية

والآفات الاقتصادية التي يجلبها الربا كثيرة، سنذكر أهمّ تلك الآثار، وهي:

 

1ـ الربا من أسباب غلاء الأسعار

يشكو العالم اليوم من غلاء الأسعار. وسببه يرجع إلى حدٍّ كبير إلى النظام الربوي السائد اليوم. لا يرضى صاحب المال إذا استثمر ماله في صناعة أو زراعة أو شراء سلعة أن يبيع سلعته أو الشيء الذي أنتجه إلاّ بربح أكثر من نسبة الربا؛ وذلك لأنه يفكر بأنه استثمر المال وبذل الجهد واستعدّ لتحمّل الخسارة فلا بُدَّ أن تكون نسبة الربح أكثر من نسبة الربا. وكلما زادت نسبة الربا غلت الأسعار أكثر منها بكثير. هذا إذا كان المنتج أو التاجر صاحب مال.

وأما إذا كان المنتج أو التاجر ممَّنْ يقترض الربا فرفعُه أسعار منتجاته وسلعته أمرٌ بديهيّ؛ حيث سيضيف إلى نفقاته ما يدفعه ربا. يقول أحد علماء الغرب: «لعله يلزم أن تكون نسبة الربح من (15%) إلى (20%) لترغيب الناس في مخاطرة الاستثمار عندما يكون سعر الفائدة الخالص (5%) أو (6%). وتُحدث تلك النسبة من الربح تفاوتاً في توزيع الدخل الفردي، وعند انخفاض السعر الخالص إلى (2%) أو (3%) تحت تأثير نظام المصارف أو الوسائل المالية الأخرى سيكون ممكناً للمبادلة الاجتماعية أو السلطات المباشرة خفض نسبة الربح إلى (5%) أو (10%)»([19]).

ولا يقف الأمر عند غلاء الأسعار، بل يحدث اضطراب في حياة الناس، حيث لا يتمكنون من شراء حاجاتهم الأساسية؛ بسبب غلاء الأسعار([20]).

هذا لأن الربا والفائدة سببٌ في رفع تكاليف الإنتاج التي يترتّب عليها رفع الأسعار. وهذا يؤدي إلى أضرار محققة على الناحية الاقتصادية([21]).

 

2ـ الربا من أسباب البطالة

يتسبّب الربا في انتشار البطالة؛ لأن أصحاب الأموال يفضِّلون استثمار أموالهم بالربا على استثمارها في إقامة مشروعات صناعية أو زراعية أو تجارية. وهذا ـ بالتالي ـ يقلِّل فرص العمل، فتنتشر البطالة في المجتمعات التي يسود فيها التعامل الربوي. ويؤكد هذا ما نشاهده من معاناة الدول الغربية من مشكلة البطالة، رغم تقدُّمها فنّياً، وتطوّرها في الصناعة.

وتبذل حكومات تلك الدول الجهد لتشغيل الناس، والسيطرة على المشكلة، مع إبقاء سبيلها؟ وقد بيَّن علماء الغرب الارتباط الوثيق بين البطالة والتعامل الربوي. يقول أحدهم: «من مصلحتنا أن نخفض سعر الربا إلى درجة يتمكَّن من تشغيل الناس جميعاً»([22])([23]).

 

3ـ التضخُّم

التضخم يقصد به وجود اتجاه صعودي في الأثمان؛ بسبب وجود طلب زائد أو فائض بالنسبة إلى إمكانية التوسُّع في العروض.

والتضخُّم له أسباب طبيعية؛ وأسباب غير طبيعية. ومن الأسباب غير الطبيعية الربا. فالمرابي بما يقرضه من فائدة مرتفعة يجبر أصحاب السلع والخدمات على رفع أثمان هذه السلع والخدمات. ولا شك أن التضخم يسيء إلى الناس كثيراً، وخاصة أصحاب الدخول النقدية الثابتة، كالموظفين والعمال، ومن ثَمّ تنخفض دخولهم الحقيقية. وإذا اضطرت الحكومات إلى مواجهة الأمر برفع مداخيل الموظفين والعمال فالملاحظ أن تقرير الزيادة لا يتمّ بسرعة وفي الوقت المناسب. ولذلك يجب أن يعمل المفكرون ورجال السياسة والاقتصاد على محاربة التضخُّم، وخاصّة ذلك النوع الذي يُسمِّيه الاقتصاديون بالتضخُّم الجموح، والذي ترتفع فيه الأثمان ارتفاعاً غير طبيعي. ومن أعظم الأسباب التي تؤدي إليه الربا. فمنعُه إنما هو علاجٌ لمرض خطير([24]).

 

4ـ الربا يسبِّب شقاوة المقترضين لحاجاتهم الشخصية

يبدو أن النظام الربوي يساعد المقترضين، حيث يتمكَّنون من تلبية حاجاتهم بالمال الذي ينالونه بالقرض. لكنْ إذا نظرنا إلى ما يترتَّب على هذا الاقتراض وجدنا أنه سبب دمارهم وشقاوتهم. إنَّ نسبة الربا التي يتقاضاها المرابون من هؤلاء عالية جداً. ونتيجة لذلك إذا وقع أحدٌ فريسةً للمرابين فلا يكاد يخرج من شباكهم. يدفع المقترض ربا الدَّيْن في كثيرٍ من الأحيان أكثر من أصل الدَّيْن، في حين يبقى الدَّيْن في ذمّته كاملاً غير ناقص. وقد قيل عن حالة المدين المزارع في الهند: «يولد الفلاّح وهو مدين، ويعيش وهو مدين، ويموت وهو مدين»([25]).

 

5ـ منع الربا من الاستثمار في المشروعات المفيدة للمجتمع

يجد صاحب المال في النظام الربوي فرصةً للحصول على نسبة معيَّنة من الربا على ماله. وهذا يصرفه عن استثمار ماله في مشروعات صناعية وزراعية وتجارية، مهما كانت مفيدة للمجتمع، إلاّ إذا اعتقد حصول نسبة ربح أكثر من تلك المشروعات من نسبة الربا. وقد لا يرغب مع ذلك في تلك المشروعات؛ حيث إنها تتطلب بذل الجهد، واستعداداً لتحمُّل الخسارة؛ في حين يتمكَّن فيه صاحب المال من الحصول على الربا بدون مشقّة ومخاطرة. وقد بَيَّن الفخر الرازي: «قال بعضهم: الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنّه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكّن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد، نقداً كان أو نسيئة، خفَّ عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمَّل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة»([26]).

ويؤثر إعراض الناس عن استثمار أموالهم في المشروعات المختلفة على نموّ رأس مال المجتمع.

فهكذا يحرم الربا أصحاب الأموال من استثمار أموالهم في المشروعات، ويجعلهم كسالى. ويترتّب على هذا الانخفاض في الإنتاج. ويظهر تأثير الربا في انخفاض الإنتاج من جانب آخر، وذلك أن نفقات المشروع الذي يقترض صاحبه مالاً له بالربا تزداد، فتقلّ نسبة الأرباح، وبالتالي تضعف الرغبة في تنفيذ المشروع. وهذا يؤدّي إلى انخفاض الإنتاج([27]).

 

6ـ تعطيل الطاقات البشرية

الربا يعطّل الطاقات البشرية المنتجة، ويُرغِّب في الكسل وإهمال العمل. والحياة الإنسانية إنّما ترقى وتتقدّم إذا بذل الجميع طاقاتهم الفكرية والبدنية في التنمية والإعمار. والمرابي الذي يجد المجال رَحْباً لإنماء ماله بالربا يسهل عليه الكسب الذي يؤمن له العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ولا يشتغل بشيءٍ من الحرف والصناعات. ثم إنَّ تعطيل الربا للطاقات المنتجة لا يتوقّف على تعطيل طاقة المرابي، بل إنّ كثيراً من طاقات العمّال ورجال الأعمال قد تقلّ أو تتوقّف؛ ذلك أن الربا يوقع العمال في مشكلات اقتصادية صعبة. فالذين تصيبهم المصائب في البلاد الرأسمالية لا يجدون إلاّ المرابي الذي يقرضهم المال بفوائد عالية تعتصر ثمرة أتعابهم، فإذا أحاطت هذه المشكلات بالعمال أثَّرت في إنتاجهم.

هذا جانبٌ. وجانبٌ آخر أن الربا يسبِّب الركود الاقتصادي والبطالة. وهذا يعطِّل الطاقات العاملة في المجتمعات الإنسانية([28]).

 

7ـ تعطيل المال

وكما يعطّل الربا جزءاً من الطاقات البشرية الفاعلة فإنه كذلك يعطِّل الأموال عن الدوران والعمل. والمال للمجتمع يعدّ بمثابة الدم الذي يجري في عروق الإنسان، وبمثابة الماء الذي يسيل إلى البساتين والحقول. وتوقّف المال عن الدوران يصيب المجتمعات بأضرار فادحة، مثله كمثل انسداد الشرايين، أو الحواجز الذي تقف في مجرى الماء.

وقد رهَّب الله الذين يكنزون المال وتهدَّدهم بالعذاب الأليم الموجع: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (التوبة: 34 ـ 35).

وقد شرّع الله من الأحكام ما يكفل استمرار تدفّق المال إلى كلّ أفراد المجتمع، بحيث لا يصبح المال دولة بين الأغنياء، دون غيرهم: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7).

والمرابي بجُبْنه وتطلُّعاته إلى الكسب الوفير لا يدفع ماله إلى المشروعات النافعة والأعمال الاقتصادية، إلاّ بمقدار يضمن عودة المال وافراً كثيراً. وهو يحبسه إذا ما أحسّ بالخطر، أو طمع في نسبة أعلى من الفائدة في المستقبل. وعندما يقلّ المال في أيدي الناس يقع الناس في بلاءٍ كبير.

ثم إن مقترضي المال بالربا لا يُسهْمون في الأعمال المختلفة، إلاّ إذا ضمنوا نسبةً من الربح أعلى من الربا المفروض على الدَّيْن([29]).

 

8ـ الربا يشجِّع على المغامرة والإسراف

الحصول على المال بالربا سهلٌ ميسور، ما دام المرابي يضمن عودة المال إليه. ولذا فإنّ الذين ليس لهم تجربةٌ، وليس عندهم خبرة، يغريهم الطمع، فيأخذون القروض بالربا، ثم يدخلون في أعمال هي إلى المقامرة أقرب منها إلى الأعمال الصالحة. ومتى كَثُر هذا النوع من الأعمال فإنه يضرّ باقتصاد الأمّة. والمرابي لا يمتنع من إمداد هؤلاء بالمال؛ لأنه لا يشغل باله الطريقة التي يوُظَّف المال بها، وكلّ ما يشغله عودة المال برباه. وقد أوجب علينا الإسلام منع السَّفيه من التصرُّف في ماله؛ حفاظاً على ثروة الأمّة من الضياع: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ (النساء: 5). ولاحظ قوله: «أموالكم» فقد جعل مال السفيه مالاً للأمّة، به قوام أمرها. فالربا يسهِّل وضع الكثير من مال الأمّة بين أيدي المغامرين والجهلاء الذين قد يبدِّدون هذه الأموال. ويزداد الأمر سوءاً عندما يستولي المرابي على بيوتهم ومزارعهم والبقية الباقية من مصانعهم ومتاجرهم([30]).

 

9ـ الكساد والبطالة

إذا ارتفعت أثمان الأشياء ارتفاعاً عالياً فإن الناس يكفّون عن الإقبال على السلع والخدمات المرتفعة الأثمان؛ إما لعدم قدرتهم على دفع أثمانها؛ أو لأنها ترهق ميزانيتهم. وإذا امتنع الناس عن الشراء كسدت البضائع في المخازن والمتاجر، وعند ذلك تقلِّل المصانع من الإنتاج، وقد تتوقَّف عنه. ولا بُدَّ في هذه الحالة من أن تستغني المصانع والشركات عن جزءٍ من عمَّالها وموظَّفيها في حالة تخفيض إنتاجها، أو تستغني عن جميع عمّالها وموظَّفيها إذا توقَّفت عن الإنتاج. وعندما يحسّ المرابون بما يصيب السوق من زعزعة يزيدون الطين بِلَّة، فيقبضون أيديهم، ويسحبون أموالهم، فعند ذلك تكون الهزّات الاقتصادية. الأمر العجيب أن الأموال في المجتمع كثيرة، ولكنها في خزائن المرابين، والناس بحاجة إلى السلع، ولكنّهم لا يشترونها؛ لعدم وجود المال بين أيديهم. والعُمَّال يحتاجون إلى عمل، ولكنّ المصانع والشركات تمتنع من تشغيلهم؛ لحاجتها إلى المال من جانبٍ، وإلى تصريف بضاعتها من جانب.

إن الربا يُحدث خللاً في دورة التجارة. والإسلام في سبيل إصلاح هذا الخلل وغيره حرَّم الربا، وشرَّع تشريعات كثيرة تمنع تركُّز المال في أيدي طائفةٍ من أفراد المجتمع([31]).

10ـ توجيه الاقتصاد وِجْهةً منحرفة

ومن بلايا الربا أنه يُوجِّه الاقتصاد وِجْهةً منحرفة. فالمرابي يدفع لمَنْ يعطيه ربحاً أكثر. وآخذ القرض الربوي لا يوظِّف المال الذي اقترضه إلاّ في مجالات تعود عليه بربحٍ أكثر مما فرضه عليه المرابي.

إذن القضية تكالبٌ على تحصيل المال. وفي سبيل ذلك تتجاوز المشاريع النافعة التي تعود بالخير على المجتمع، ويوظَّف المال في المشاريع الأكثر إدراراً للربح. حينها تحرم المشاريع التي يحتاج إليها الإنسان من تلك الأموال([32]).

 

11ـ التسبُّب في الأزمات الجانحة

إن الربا في ذاته يسهِّل على الناس أن يدخلوا في مغامرات لا قِبَل لهم باحتمال نتائجها. فالتاجر بدل أن يتّجر بقدر من المال يتكافأ مع قدرته المالية على السداد يأخذ مالاً بفائدة؛ ليزيد في متجره. وقد يكسب من ذلك، ولكنّ العاقبة غير محمودة إذا نزلت البضائع، فإنه لا يكون في قدرته البيع في الوقت الذي يريد؛ إذ إن الفائدة التي تلاحقه، والديون التي تركبه، تضطره للبيع في الوقت الذي لا يناسبه، فتكون الخسارة الفادحة، أو يكون الإفلاس المدمِّر، والديون تحيط بذمّته، كما تحيط الأغلال بعنقه.

وقد ثبت أن الأزمات الجانحة التي تعتري الاقتصاد العالمي تكون من الديون التي تركب الشركات المقلّة؛ فإن عجزها عن السداد عند الكساد يدفعها إلى الخروج عن بضاعتها بأقلّ الأثمان إذا وجدت مَنْ يشتري. ولذلك كانت تعالج هذه الأزمات الجانحة بتقليل الديون بطرقٍ مختلفة، كإحداث تضخُّم مالي من شأنه أن يضعِّف قيمة النقد، فيقلّ الدَّيْن تبعاً لذلك، أو بتنقيص الديون مباشرة([33]).

 

12ـ إضعاف القوّة الشرائية عند الطبقة الفقيرة والعمّال، مما يعرقل ترقية التجارة والصناعة

إن المرابي يسلب مَنْ يقرضه من ذي الحاجة آخرَ ما يبقى عنده من قوّة الشراء.

إن بطالة مئات الألوف من البشر، والدخل الزهيد لملايين منهم، سبّب عرقلة شديدة في سبيل تنمية تجارة البلاد وصناعتها. وإذا حصلت بعض القوة الشرائية عند هؤلاء الملايين من الفقراء بدخلهم القليل وأجورهم غير الكافية فإنهم لا يستطيعون أن يشتروا بها أدوات الحاجة ومرافق الحياة اللازمة؛ فإن المرابي يسلبهم معظمها، ثم لا يستهلكها في اشتراء البضائع والخدمات، بل ليزيد على المجتمع قروضاً تجلب مزيداً من الربا إلى خزانته. فلو أنه إذا كان في الدنيا كلّها خمسون مليون رجل ممَّنْ وقعوا في مخالب المرابين يؤدّي كلّ واحد منهم جنيهاً فقط في كلّ شهر فمعناه أن الدنيا يبقى فيها في كلّ شهر من البضائع ما قيمته خمسون مليوناً دون استهلاك. وينصرف هذا القدر من المال في كلّ شهر في خلق قروضٍ ربوية جديدة، بدل أن يرجع إلى إنتاج البلاد الاقتصادي([34]).

 

13ـ وضع مال المسلمين بين أيدي خصوم الإسلام

من أخطر ما أُصيب به المسلمون أنّهم أودعوا الفائض من أموالهم في البنوك الربوية في دول الكفر. وهذا الإيداع يجرِّد المسلمين من أدوات النشاط الاقتصادي، ومن القوة الظاهرة في المبادلات، ثم يضعها في أيدي أباطرة المال ـ اليهود ـ، الذين أحكموا سيطرتهم على أسواق المال. وهذه الفوائد الخبيثة التي يدفعها لنا المرابون هي ثمن التحكُّم في السيولة الدولية([35]).

 

 

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو الهيئة العلمية لمركز بحوث الحوزة والجامعة، متخصِّصٌ في الاقتصاد الإسلامي. من إيران.

(**) باحثٌ في الاقتصاد الإسلامي.

([1]) ابن منظور، لسان العرب، ج14.

([2]) تذكرة الفقهاء 1: 481؛ مختلف الشيعة 5: 309.

([3]) السيرة الحلبية 1: 272، باب استخفائه| وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم.

([4]) الدر المنثور 1: 364.

([5]) تهذيب الأحكام 7: 18، الباب 1 من أبواب التجارات، ح78؛ ونحوه في وسائل الشيعة 18: 133، الباب 6 من أبواب الربا، ح2.

([6]) تهذيب الأحكام 7: 19، باب فضل التجارة وآدابها، ح81.

([7]) تفسير العياشي 2: 98.

([8]) وسائل الشيعة 18: 127.

([9]) البروجردي، جامع أحاديث الشيعة 18: 169.

([10]) الروم: 39. (يتخبّطه) من مادة (الخبط)، وهو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.

([11]) تفسير القرطبي 2: 169. وهنا ذكر أربع تفاسير. وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ذكرت احتمالات عديدة أخرى أيضاً.

([12]) تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1: 93.

([13]) وسائل الشيعة 12: 439 باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا، ح1.

([14]) تفسير القمس 1: 93.

([15]) وسائل الشيعة 18: 125، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب الربا، ح1.

([16]) مجمع البيان 1: 392؛ الدر المنثور 2: 109، مع تفاوتٍ يسير.

([17]) الدر المنثور 2: 108 ـ 107.

([18]) وسائل الشيعة 12: 422، الباب 1 من أبواب الربا.

([19]) نقلاً من كتاب التدابير الواقية: 58.

([20]) التدابير الواقية من الربا: 84 ـ 85، بتصرُّف يسير.

([21]) الربا خطره وسبيل الخلاص منه: 33، بتصرُّف.

([22]) نقلاً من التدابير الواقية من الربا: 87.

([23]) انظر هذا الأثر في التدابير الواقية من الربا: 85 ـ 87.

([24]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني: 123 ـ 124.

([25]) إعلام الموقعين 2: 103. وانظر هذا الأثر في التدابير الواقية: 87 ـ 89.

([26]) تفسير الرازي 7: 87.

([27]) انظر هذا الأثر في التدابير الواقية: 82 ـ 84.

([28]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني: 120 ـ 121.

([29]) المصدر السابق: 122 ـ 123.

([30]) المصدر السابق: 129 ـ130.

([31]) كتب هذا الكلام بتاريخ 1408هـ: 124 ـ 129.

([32]) المصدر السابق: 128 ـ 129.

([33]) تحريم الربا تنظيمٌ اقتصادي: 16.

([34]) المودودي، الربا: 58 ـ 59، بتصرُّفٍ.

([35]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني: 132.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً