أحدث المقالات

مدخل لتحديد مادّة البحث

تشير الإحصاءات إلى وجود أعداد لا يُستهان بها من نزلاء السجون المدنية من الذين سُلبت حرّيتهم، ونعني بهم المواطنين المديونين، الذين لديونهم وثيقة تعاقدية تشمل حالات من قبيل المطالبة بالمهر بسبب الفقر، ويكون حبس هؤلاء المديونين في العادة بطلب من دائنيهم، وبحسب القوانين الخاصّة التي تنظّم عملية دفع المطالبات المالية، فإنّه يمكن أن يتحوّل هذا الحبس إلى ما يُعرف بسجن يوم الأداء، ممّا يعني ـ بالنتيجة ـ استمرار حبسهم ما لم يؤدّوا ما عليهم من ديون مستحقّة، ولمّا كان الحبس يحول دون قيام المدين بأيّ نشاط أو عمل يدرّ عليه دخلاً يساعده في تسديد ما عليه من مطالبات الدائن والوصول إلى يوم الأداء والحصول على براءته ومن ثمّ حريّته، ولأنّ المدين السجين يدور في حلقة مفرغة، وإنّ استعادته لحريّته يعدّ ضرباً من الخيال؛ لذلك عليه أن يقضي بقية عمره وحيداً بين قضبان السجن الموحشة، ليزيد ذلك في حيرة أسرته وعذاباتها.

إنّ تسليط الضوء على هذه المعضلة من جميع الجوانب وإثبات رفض العقل ونهي الشرع عن السجون المدنية، يمكن أن تستثير مصلحي المجتمع والمسؤولين المعنيين بهذه الأمور؛ للتحرّك باتجاه تعديل القوانين لإتاحة فرصة أخيرة للنـزيل كي يزاول نشاطه وعمله حتى يتمكّن من تسديد ديونه، وبالتالي بعث الأمل في نفسه باستعادة حريّته، ليتمّ ـ من جهة أخرى ـ تقديم حلول ثقافية ووقائية تحول دون وقوع الفرد في دوّامة الديون، وبذلك يمكن المحافظة على نشاط المجتمع وحيويته وصيانة كيان الأسرة والحيلولة دون تفكّكها وانحلالها.

مبدأ تناسب العقوبة مع طبيعة الجرم، المخالفات الجزائية والمدنية

يمكننا التعرّف على خطورة الجرم المرتكب عن طريق معرفة مقدار العقوبة التي سنّها أو يسنّها الشارع لحالات ارتكاب المخالفات (الذنب ـ الجرم) أو ترك الواجب (التكليف)، وعلى هذا الأساس دأبت النظم الشرعية والوضعية منذ أقدم العصور على تصنيف المخالفات التي يرتكبها الإنسان إلى فئتين متمايزتين عن بعضهما تماماً: الفئة الأولى المخالفات التي تمسّ وجود الإنسان، والفئة الثانية هي المخالفات التي تسبّب أضراراً لممتلكات الإنسان ومتعلّقاته (إن بواسطة التغيير أو التصرّف العدواني) دون مسّه هو شخصياً بأذى، وقد شُرّع لكلّ فئة عقوبات توازي حجم المخالفة والضرر الذي تتسبّب به، بغضّ النظر عن الصفات الشخصية والفردية لكل فئة، وأساساً فإنّ العقوبات المقرّرة للفئة الأولى هي لجرائم سلب الحريّات، سلب الحياة، الغرامات المالية الكبيرة.. ويطلق عليها العقوبات الجزائية، وهي في مقابل الفئة الثانية التي يطلق عليها المخالفات المدنية، والتي لا تصنّف في العادة ضمن العقوبات الجزائية؛ إذ تتطلّب بذل جهود أكبر لإعادة الشيء أو الأشياء المنقولة، والتعويض عن الأضرار الناجمة([1])، ويجب الانتباه إلى أنّ أسلوب التعاطي مع المخالفة وتقرير العقوبة للمتّهم في الفئتين المذكورتين يقتربان أحياناً من بعضهما كثيراً، مثل الغرامات المالية أو مصادرة الأموال وغير ذلك، فمثلاً يتمّ في الفئة الأولى التعويض عن المنافع والأرباح التي لم يتمّ استيفاؤها في الفئة الثانية، كما ويتمّ أحياناً تطبيق إجراءات مشتركة في كلتا الفئتين تحت مسمّيات وأهداف وأساليب مختلفة، من هذه الإجراءات ـ على سبيل المثال ـ التوقيف الذي يتمّ في الفئة الأولى لأهداف من قبيل الحيلولة دون معاودة الجريمة، ومنع هروب المجرم، والتعرّف على شخصية المتهم، وبصورة عامة سلب حريّة الفرد، وبالنسبة للفئة الثانية يتمّ التوقيف ـ في حالات نادرة ـ لغرض التحقّق من الحالة المالية للمدين.

السجن، الأهداف والمقاصد والنتائج والآثار

كانت القوانين في الماضي، تضع موضوع الانتقام هدفاً رئيسياً لها عند تشريعها للعقوبات، بغضّ النظر عن الآثار المدمّرة التي قد تنجم عن تلك العقوبات([2])، وقد تغيّرت النظرة في الوقت الحاضر؛ فأصبح الهدف ـ خاصّةً فيما يتعلّق بالعقوبات المدنية ـ إصلاح المجرم وتأهيله للعودة إلى أحضان المجتمع، ومن المؤسف أن نقول: إنّه لم تتحقّق أيّ من هذه الأهداف في السجون المدنية، بل على النقيض من ذلك باتت تعطي نتائج معكوسة تماماً؛ وذلك لأنّه علاوة على أنّ الفرد المدين لا يعاني من مشكلة في الاندماج في المجتمع، لكي يُصار إلى تأهيله، فإنّ حبسه يتنافي مع ضرورة قيامه بنشاطات وأعمال تقتضيها متطلّبات تسديد الدين، من هنا سنلقي نظرةً سريعة على النتائج والآثار التي تسبّبها السجون الجزائية والمدنية على السجين والمجتمع ومقارنتهما ببعضهما؛ لننتقل بعد ذلك إلى مناقشة جدوى بقاء السجون المدنية.

تتمثل مهمّة السجون الجزائية في إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة، وقطع صلاته بشركائه فيها؛ بغية منع تكرار وقوعها، عبر الحدّ من حرية تنقّل المجرم، ومن ثمّ تفويت الفرصة عليه لمعاودة التآمر والتحضير لجريمة أخرى، وعبر هذا الطريق يمكن إصلاحه وتأهيله من خلال إدخاله في دورات أخلاقية دينية تثقيفية، وقد كتبوا في هذا الجانب: <إنّ المعرفة الصحيحة لأصول الدين، والتربية الدينية السليمة والإيمان القوي والراسخ بخالق الكون، والاستئناس بالتعاليم الإلهية التي تهدف إلى تقوية المواهب العقلية والأحاسيس العاطفية، وتحكيم الإرادة والتوق إلى الكمال وحبّ الفضيلة وطلب الحقيقة، والارتقاء إلى ذروة الإنسانية والمتمثلة بمعاني الحرية والإيثار، وخدمة البشرية والتضحية والإخلاص والصدق ونقاء السريرة، والتعاون والسعي والمثابرة، والسير نحو مدارج العلم وكشف أسرار الكائنات وقوة الطبيعة الخارقة، كلّ هذه المعاني السامية تعصم الإنسان من الانحدار في مهاوي الرذيلة والانحطاط والمناهي والأعمال المشينة، وتحول دون نزوعه نحو الظلم والإسراف، والكذب والسقوط في مستنقع الخيانة والجريمة. لا شك أنّ التربية الدينية القويمة المستندة إلى الأسس العلمية الصحيحة، في ظلّ الإيمان القوي الكامل، تمثل عامل ردع منيع بوجه الجريمة>([3]).

إنّ الإعداد الشغلي للمدين السجين وتهيئته عن طريق التعليم المهني للانخراط في سلك العمل الإنتاجي، ومنحه الإجازات، وتطبيق ما يُطلق عليها: سياسة السجن المفتوح والحرية المحدودة، ومراقبة أعماله، هذه الإجراءات ستسهّل بالتأكيد رجوعه إلى الحياة الطبيعية الشريفة وتُعدّه نفسيّاً لإعادة اندماجه في المجتمع، يقول أحد المفكّرين في هذا المجال: <إنّ الهدف من العقوبات السالبة للحريّات والإجراءات التأديبية والإصلاحية، هي تحليل شخصية المنحرف وسبر أغوارها، وإصلاحه وتأهيله للعودة إلى أحضان الحياة الاجتماعية العادية، والحؤول دون معاودته للجريمة>([4]).

كما نلاحظ، فإنّ أيّاً من الأهداف المتوخاة من العملية الإصلاحية للسجون لا تتوفر في السجون المدنية؛ ذلك أنّ المدين لم يرتكب أصلاً جريمة يستحقّ عليها إبعاده عن مسرح الجريمة، وهو بعدُ ليس له شركاء لكي يتحتّم علينا إبعاده عنهم، وحياته لم تخرج عن المسار الطبيعي السليم حتى تحتاج منّا إعادتها إلى مسارها الطبيعي بالإصلاح والتقويم والترميم والتأهيل؛ وفي ضوء ذلك، فإنّ الجرائم من قبيل النصب، والسرقة، والخيانة.. والتي تنطوي على بُعدين: جزائي ومدني، تتبع في تصنيفها البُعد الأهم، وهو هنا البعد الجزائي، وبهذا يتّضح لنا أنّ السجن المدني لا يعوّل عليه الكثير مما ذكر، لا بل يمكن القول: إنّه ينطوي على آثار سلبية جدّ خطيرة؛ وذلك لأنّه ـ بخلاف السجن الجزائي الذي يمكنه تغيير أو على الأقل السيطرة على روح الإجرام لدى المجرم وتحجيمها ـ يقوم بشلّ قدرة المدين على العمل وتقليل دخله إلى حدّ بعيد، وبالتالي بقاء المشكلة واللجوء مجدّداً إلى القروض التي لا تؤدّي إلاّ إلى زيادة الفقر والعجز، وهكذا يتكرّر المشهد في تسلسل لا ينتهي، ولا يخفى ما لهذه الدورة من عواقب وخيمة، لجهة تأثيرها المباشر على الحدّ من النشاط والكسب، الأمر الذي يقضي على أيّ أمل في تسديد الديون والعودة إلى حياة طبيعية مستقرّة.

لكلّ ما تقدّم نقول: إنّ السجون المدنية تمثل صيغةً مخالفة للعقل والمنطق، بل إنّ الدائن الذكي يجب ـ أساساً ـ أن يسعى إلى توفير الظروف الملائمة التي تمكّن المدين من العمل والكسب حتى يتمكّن بهذه الطريقة من استيفاء مطالباته تدريجياً، وقطعاً لن يفيد الدائن حبس المدين؛ لأنّه بذلك يقضي على الحلّ الوحيد المتبقى له في استرجاع تلك الديون.

وخلاصة القول: إنّ السجون المدنية مجانبةٌ لمصلحة المدين وأسرته والدائن والمجتمع على السواء؛ ولهذا السبب لا يمكن أن تكون عملاً عقلائياً في ظلّ المواصفات التي ذكرناها؛ إذ حتى لو كان في حيازة المدين أموال خارج مستثنيات الدين، فلن يكون بالإمكان حجزها وتقييمها والتصرّف بها إلا في إطار القوانين والمقررات، وإلاّ فعودٌ على بدء، فلا مناص من مزاولة النشاط والعمل بل مضاعفتهما للخلاص من عبء الديون، أمّا تعطيل هذا النشاط عبر سجن المدين ففيه أضرار جسيمة للمجتمع من خلال الآثار السلبية التي سيتركها الحبس على نفسية المدين وحالة الشلل والركود التي ستصيب أطراف القضية، ودخول أسرة المدين في دوامة الاضطراب والحيرة، وانضمام الدائن إلى قائمة المفلسين، وأخيراً التسبّب في معاناة فظيعة للسجين في سجنه هي أقرب إلى الموت البطيء، بينما بالإمكان تجنّب جميع هذه العواقب والتداعيات السلبية بإلغاء عقوبة السجن، والاستعاضة عن هذه الخسائر والأضرار والاختلالات الاجتماعية بإتاحة فرص العمل والكسب للمدين، وبالنتيجة رفع اضطراب الأسرة وتسكين خاطرها، وإعطاء شحنة من الأمل للدائن في إمكانية استرداد أمواله، واستيفاء مطالباته، وإنقاذ المدين من أسر السجن وقيوده واسترجاعه لحريّته ثانية، لتستحيل جميع هذه التداعيات السلبية المكفهرّة إلى نتائج إيجابية مشرقة. ولهذا كلّه نجد أنّ العقل لا يقرّ الحكم الصادر عن دوائر القرار في البلاد (إيران) بسجن المدين، بل يرى إلغاءه وإبطاله بالرجوع إلى قاعدة الملازمة بين العقل والشرع([5])؛ وبناء على ذلك، تكون ظاهرة السجون المدنية منافيةً لحكم العقل، ومن ثمّ لا يجيزها الشرع.

السجون المدنية، مقاربة في الشرعية الدينية

اعتاد الفقهاء على تحديد شرعية أيّ ظاهرة من خلال عرضها على الأدلّة الأربعة: الكتاب، السنّة، الإجماع، والعقل، مع تقديم الكتاب باعتباره الدليل الأهم والمعيار الذي يحدّد حجّية سائر الأدلّة الأخرى، من هذا المنطلق ارتأينا أن نبحث مشروعية السجون المدنية بعرضها على القرآن الكريم أولاً؛ لنستنبط حكمها من هذا المعين الصافي.

حكم السجون المدنية في القرآن الكريم

بعد نزول حكم تحريم الربا (البقرة: 279) وقبل بيان ضوابط ومقرّرات التداين من تنظيم السند والاسترهان والاستشهاد (البقرة: 282) نزلت الآية الكريمة رقم 280:
>.. وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ<([6]). ويلاحظ أنّ حكم الآية الكريمة بشأن المدين الذي فقد القدرة المالية على التسديد، هو الحرية؛ وذلك في إطار الاستحباب وترجيح العفو والإمهال حتى وقت الميسرة، وعليه فمن البديهي أن يشكّل حبس هذا المدين مخالفةً صريحة لنصّ القرآن الكريم؛ لذا، يمكن القول بأنّ السجون المدنية لا تجد لها مسوّغاً قرآنياً؛ لأنّ القرآن يرى إمهال المدين، ولنا في آراء المفسّرين خير سند لدعم هذا القول.

نظريات المفسرين، نماذج وأمثلة

يرى الطوسي لدى تعليقه على الآية 280 من سورة البقرة، ضمن بحث شامل نسبياً، أنّ حكم الآية هو الإمهال حتى الميسرة، من هنا جاء النهي عن حبس المدين المعسر، وبالتالي رفض فكرة السجون المدنية([7])، ونشير هنا إلى أن صاحب التبيان الذي كان عالماً جهبذاً محيطاً بعلوم زمانه، ومتمرّساً في العلوم الدقيقة، طرح مباحث أخرى في معرض تفسيره لهذه الآية، من بينها تسديد الدين من سهم الغارمين، كما طرح موضوعات تتناول أصول الدَّيْن وتفسيرها اللغوي لا طائل من الخوض فيها هنا.

ومن المتأخرين، كان للعلامة الطباطبائي رأيٌ في الآية نفسها، وإن من زاوية الدَّين المترتّب على الربا، ومع هذا، فهو ـ أيضاً ـ يقول بعدم شرعية حبس المدين المعسر([8])، والرأي عينه نادى به المفسّر القرطبي في بحث مسهب في الآية المذكورة، طرح خلاله فرضيات متعدّدة؛ ليستنتج في نهاية المطاف عدم شرعية السجون المدنية([9]).

تأسيساً على هذا، تتأكّد لنا مخالفة القرآن الكريم لمسألة السجون المدنية، وعدم إجازته لها، لدرجة يمكن معها القول بحرمة حبس المدين المعسر من وجهة نظر القرآن.

السجون المدنية في السنّة الشريفة

وردت في السنّة الشريفة أيضاً أدلة متعدّدة على عدم شرعية السجون المدنية، فعلى العموم، بعد حصول العلم بإعسار المدين، يحكم بإطلاق سراحه والانتظار حتى تصلُح أوضاعه المالية، وهناك العديد من الأحاديث في هذا الباب، نعرض لها دون ذكر سلسلة أسانيدها مراعاةً للاختصار:

1 ـ <..عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت علياً % يقول لشريح: أنظر إلى أهل.. من لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه..>([10])، وهو حديث طويل، ولذلك أهملنا ذكر سلسلة الرواة بالإضافة إلى بدايته ونهايته، واكتفينا بنقل خلاصته التي تشير إلى تعليمات الإمام % لشريح، وقوله بأنّ من كان معسراً ولا مال له، فلا سبيل عليه، شاهد على نفي السجن لكونه أحد هذه السبل المنفية، فيستنتج من ذلك عدم شرعية السجن المدني.

2 ـ عن الأصبغ بن نباتة، عن الإمام علي أمير المؤمنين %، <أنّه قضى: يُحجر على الغلام حتى يعقل، وقضى % في الدين أنّه يُحبس صاحبه فإن تبيّن إفلاسه والحاجة فيخلّى سبيله حتى يستفيد مالاً..> ([11])، ونلاحظ هنا أنّ حبس المدين المحرز إعسارُه أمرٌ لا ينطوي على الاحترام. وهنا يلزم التنويه إلى أنّ توقيف المدين بهدف تحديد إن كان موسراً أم معسراً يتمّ فقط إذا لم يكن ثمّة سبيل آخر للتمكّن من المدين والحؤول دون تحرّك أمواله المحتملة وانتقالها، وعلى أيّ حال، إنّه وإن كان التوقيف شبيهاً بالحبس إلى حدّ ما، لكنّهما بالتأكيد متمايزان عن بعضهما تماماً، ومع هذا، فإنّ حجز المدين فترة طويلة ودون سبب مخالفة تنطوي على عواقب.

3 ـ عن زرارة، عن أبي جعفر % قال: <كان علي % لا يحبس في الدين إلا ثلاثة: الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلماً، ومن أئتمن على أمانة فذهب بها، فإن وجد له شيئاً باعه غائباً كان أو شاهداً>([12])، وهذا الحديث ثابت وله دلالة قطعية على عدم حبس المدين([13])، وبالتأكيد إنّ المقصود هو المدين المعسر، وطبعاً استبيان أوضاع المدين إن كان معسراً أم لا، يستلزم إجراءات وتدابير تمهيدية. وبهذا يظهر عدم شرعية السجون في السنّة الشريفة أيضاً، بلا حاجة إلى مزيد استقراء للنصوص.

الموقف الفقهي من السجون المدنية، هل هناك إجماع فقهي؟

ينعقد الإجماع الحجّة عندما يكون الحكم ـ متعلّق الإجماع ـ فاقداً لأيّ سند أو دليل آخر، فبالإضافة إلى الآية الكريمة، هناك العديد من الأحاديث التي تحمل دلالةً على حرمة السجن المدني. والإجماع ـ بمعناه المصطلح ـ لا يمكن أن ينعقد هنا؛ لذا، فعلى الرغم من اتفاق الفقهاء على عدم شرعية السجون المدنية، إلاّ أنّه بالاستناد إلى الأدلة المذكورة، وفيما يتعلّق بالنهي عن السجون المدنية، لا يمكن حصول إجماع بشأنه بل لا توجد حاجة له أصلاً، كما أنّه لا يمكن الاستناد إلى الاتفاق الموجود بين الفقهاء([14])، اللهمّ إلاّ في حدود اعتباره قرينةً على صحّة الحكم.

السجن المدني وحكم العقل

بيّنا قبل قليل بداهة دلالة العقل على عدم شرعية السجن المدني؛ وذلك لأنّ المدين ـ بصورة عامّة ـ لا يملك ما يوازي الدين المستحقّ عليه، والمدين المعسر على وجه الخصوص، يحتاج إلى فرصة للقيام بأيّ نشاط ممكن كالعمل أو بيع ما يملك ـ إن اقتضى الأمر ـ وجمع ما يمكن جمعه لتسديد دينه، ومن أين للمعسر هذه الفرصة؟! فالسجن يسلب كلّ أمل في العمل وفي الكسب والادّخار، وهو ما يعني عدم انفراج أزمة المدين المعسر، والدوران في حلقة مفرغة، من هنا نقول: إنّ العقل يحكم بعدم شرعية السجن المدني، وهي النتيجة عينها التي توصّلنا إليها في بحثنا هذا بحكم قاعدة الملازمة بين العقل والشرع([15])، حيث إنّ الدائن الحاذق هو الذي يعطي باليد السفلى ليأخذ باليد العليا، وذلك بأن يوسّع على المدين عبر إعطائه فرصةً للعمل والكسب ليستردّ دينه ويحول دون بروز خسائر احتمالية أو التقليل منها على الأقلّ.

السجن المدني في التراث الفقهي الشيعي، مواقف وآراء

لا يجيز الفقه الإسلامي حبس المدين أو توقيفه، إلا في حالة واحدة، هي التحقّق من أوضاعه المالية، لمعرفة درجة إعساره، وهي ضرورة يجمع عليها الفقهاء ويرونها لازمة لمن استحقّت ديونه وامتنع عن سدادها بدعوى الإعسار، ليمكن في حال امتلاكه للأموال دفع مستحقّاته مباشرة أو بالنيابة عن طريق حاكم الشرع، وذلك بعد كسر مستثنيات الدين منها، وإن لم يغطّ هذا المال مبلغ الدين يُطلق سراح المدين إلى حين الميسرة، طبعاً هناك خلاف حول ما إذا كان ينبغي إطلاق سراحه أو تسليمه إلى الدائنين للعمل عندهم، لكنّ الرأي الغالب الذي يقترب من الإجماع هو إطلاق سراح المدين عملاً بالآية الكريمة 280 من سورة البقرة، واستناداً إلى ما أثر من الأحاديث الشريفة في هذا الخصوص، والانتظار إلى حين الميسرة، ومن الطبيعي أنّه في حال عدم تعاون المدين أو امتناعه عن السداد، على الحاكم حينذاك تقييم أمواله ومصادرتها بالمقدار الذي يفي بمبلغ الدين، وفي جميع الأحوال لا ينبغي حبس المدين المعسر مؤقتاً أو دائمياً، لتعارض ذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، كما لا يحقّ لأيّ مسلم القيام بهذا العمل.

وحتى مسألة إجبار المدين المعسر على العمل جوبهت بمعارضة من قبل كبار الفقهاء من أمثال الشيخ الطوسي وابن ادريس الحلّي، مستندين في ذلك إلى الآية 280 وأحاديث عدّة؛ إذ رأى ابن ادريس تعارض هذا العمل مع أصول المذهب الإمامي، دون أن يغفل التأكيد في الوقت عينه على ضرورة عمل المدين ووجوبه، حيث يمكن اعتبار العملية بمثابة تقسيط مريح للدين، ومن أجل المزيد من التوضيح لأبعاد المسألة، نورد فيما يلي آراء عدد من أساطين الفقه الإمامي:

يقول الشيخ الطوسي: إذا أمر حاكم الشرع بحبس المدين لامتناعه عن تسديد الدين واتّضح له فيما بعد إعساره يجب عليه إطلاق سراحه، مع العلم أنّه في حال تبيّن له عدم إعساره يستطيع الحاكم أن يصادر أمواله المنقولة وغير المنقولة ويسدّد منها المبلغ المستحقّ على المدين([16]). ويفهم من المحقق الحلي في شرائع الإسلام عدم شرعية السجون المدنية([17]).

ويقول العلامة الحلي: <قال ابن حمزة.. فإذا ثبت إعساره خلي سبيله، إن لم يكن ذا حرفة دفعه إليه ليستعمله، في فضل عن قوته وقوت عياله بالمعروف أخذ بالمعروف..>، ويجب الانتباه إلى أنّ ابن حمزة علاوة على رفضه لفكرة حبس المدين، يرفض أيضاً التضييق على نفقة عياله ممّن تجب نفقتهم، حيث ربط قوت المدين وعياله بالمعروف، ثم يتابع الفتوى الخاصة بوجوب إطلاق سراح المدين فيذكر أنّ السكوني ينقل في رواية مشهورة عن الإمام السادس عن جدّه الإمام الخامس عن جدّه الإمام الأول أنّه <كان يحبس في الدين، ثم ينظر إن كان له مال أعطى إلى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم آجروه وإن شئتم استعملوه>، ويرى ابن ادريس تعارض هذا الخبر مع أصول المذهب الإمامي مستنداً إلى الآية 280 من سورة البقرة، رافضاً استعمال المدين أو تأجيره أو إكرائه، وقد احتجّ ابن ادريس في رفضه هذا برأي الشيخ الطوسي في كتاب (النهاية) الذي عارض بدوره هذه الفتوى([18]).

وعليه، نرى تفنيد العلامة الحلّي لشرعية السجن المدني، وزاد عليه رفضه التضييق على المدين لجهة استئجاره أو إجباره على العمل لاستيفاء الدائن لمطالباته، ومع ذلك
يرى وجوب أن يعمل المدين في سبيل الإنفاق على عياله وتسديد ديونه، ولكن دون
السماح للدائنين بالتدخّل في العملية، وممّا تجدر الإشارة إليه هنا هو أنّ مشهور الفقهاء المتأخرين يؤيّد رأي العلامة هذا، باستثناء الشهيد الأول الذي يؤيّد ـ إذا اقتضت الضرورة ـ توقيف المدين الذي يدّعي الإعسار لغرض التحقّق من أوضاعه المالية والتأكد إن كان يملك شيئاً أو إشهار إفلاسه، فبالنسبة للحالة الأولى يتمّ كسر مستثنيات الدين ثم يقسّم فضل المال على الغرماء إن كان من سنخ الدين، وإلاّ يقسّم بعد تحويله ويطلق سراح المدين([19]).

وكذلك الشهيد الثاني يؤيّد رأي الشهيد الأول والمحقق الحلي؛ وذلك بعد تقديم إيضاحات شاملة تقريباً([20])، وهذا صاحب الرياض يبسط البحث في المسألة ويصل إلى عدم شرعية السجن المدني([21])، ويقول الفاضل المقداد السيوري: لو ادّعى الإعسار كُلّف البيّنة، ومع ثبوته ينظر في تسليمه إلى الغرماء، فيه رواية، وأشهر منها: تخلّيه، ثم يصرّح بعدم شرعية تسليمه إلى الغرماء استناداً للآية 280 من سورة البقرة([22]).

وينضمّ الفيض الكاشاني إلى فقهاء الشيعة في رؤيتهم؛ حيث يرى استحباب إرفاق الدائن بالمدين، ومن ثمّ يؤكد على عدم شرعية السجن المدني، ويضاف إلى هؤلاء فقهاء آخرين من جملتهم الشيخ يوسف البحراني، والمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي، والسيد محمد الحسيني الشيرازي في بحث مطوّل، والسيد أحمد الخونساري، وأخيراً الإمام الخميني، الذي يقول في فتواه ـ وهي شبيهة في مضمونها لفتاوى الفقهاء الذين ذكرناهم والتي لا مجال لذكرها جميعها ـ بعدم شرعية السجن المدني، ونصّ الفتوى هو: <إذا شك في إعساره وإيساره وطلب المدعي حبسه إلى أن يتبيّن الحال حبسه الحاكم وإذا تبيّن إعساره خلّى سبيله..>([23]).

في ضوء ما قيل، تبرز أمامنا هذه الحقيقة، وهي أنّ الفقه الشيعي لم يؤيّد مطلقاً السجن المدني الذي يتنافى مع العقل وعرف العقلاء والذي يعدّ عملاً انتقامياً، كما لم يؤيّد التوقيف إلاّ لضرورة التحقق من حالة الإعسار أو الإيسار وعلى مسؤولية القاضي؛ وذلك لجهة التسريع في تحديد الوضع المالي للمدين، وضمان حقوق الدائن.

وثمّة ملاحظة يجدر ذكرها هنا، وهي أنّ مسؤولية المحكمة كشف الحقيقة وليس من واجب المدين إثبات إعساره وإن كان يمكنه ذلك عن طريق تقديم الشهود.

السجن المدني في الموروث الفقهي السنّي، نظريات واتجاهات

بالنظر إلى الأسس المشتركة التي يستند إليها كل من الفقهين: الشيعي والسنّي، نكتفي بنقل فقرة من أحد المصادر المهمّة عند أهل السنّة تستعرض فتاوى فقهاء مختلف المذاهب، وتقول: <إذا ثبت لدى القاضي أنّ المدين معسر ومعدم لا مال له لا يُحكم بحبسه في الدين، باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى: >.. وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ< (البقرة: 280)، إذ لا فائدة من حبسه، فيكون ظلماً، وإنّما يُترك ليسعى في الأرض ويكتسب فيتمكّن من سداد دينه أو بعضه. إذا كان مشكوكاً في أمر المدين، أهو معسر أم موسر؟ جاز حبسه عند جمهور الفقهاء حبس تلوم واختبار، إذا كان الدين من ديون المعاوضة كثمن المبيع..> ([24]).

استنتاج

من خلال استعراضنا فيما مضى للأدلة القرآنية والروائية والعقلية وعُرف العقلاء، من المستبعد ـ كما دلّت على ذلك فتاوى الفقهاء ـ أن يرضى الإنسان العاقل الرشيد بحبس الشخص المدين؛ وذلك لأنّه طبقاً للقوانين الموجودة، إذا كانت للمدين أموال حُقّ للدائن تقديم طلب بحجزها واستيفاء دينه منها، فأموال الفرد تعتبر وثيقة عامة بديونه([25])، وإذا لم يتوافر الفرد على المال، فإنّ حبسه لن يزيده إلاّ فقراً ومسكنة، فنفقات الحياة ثابتة وجارية، والحبس بطبيعة الحال سيتسبّب في قطع دخل الفرد ومصدر رزقه، كما أنّ الحبس يؤدّي إلى ضياع الأسرة وانفراط عقدها، وغير هذا وذاك، فالحبس سيقطع الأمل الأخير المتبقي لتسديد الدين، اللهم إلاّ إذا كانت للمدين أموال مستورة؛ وعلى هذا، فالسجن ليس من مصلحة أيّ من الأطراف الثلاثة: الدائن والمدين والحاكم باعتباره ممثلاً للحق العام.

في إطار القوانين الخاصة بالجرائم المالية، نلاحظ فقدان الكثير لحريّاتهم بسبب دعاوى تسديد المهر للزوجة أو سائر الديون المدنية الأخرى، وينتهي بهم المطاف إلى السجن حيث يواجه المدين حالةً من الفقر والعوز الشديدين، وقد يتطوّر الأمر بالبعض ليُشمل بسجن يوم الأداء، وقد تبيّن لنا منافاة هذا السجن مع ما يحكم به العقل وكذلك أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك لأنّ المصادر الشرعية تنصّ على توقيف المدين في حالة واحدة فقط وهي التحقّق من أوضاعه المالية، فإمّا أن يكون لديه المال الكافي الذي يغطّي الديون المستحقّة عليه، فيقوم بتسديدها وتسوية حسابه، أو أنّ المال أقلّ من مبلغ الديون المستحقّة، فيوزّع بالتناسب على الديون، ثم يطلق سراح المدين للعمل والكسب، أو أنّه لا مال لديه ليسدّد ما عليه فيثبت إعساره وفي هذه الحالة أيضاً يطلق سراحه لغرض الإيسار، ولا يُتَصَوَّر للمسألة حلّ ثالث.

بناءً على هذه المعطيات، فإنّ حبس المدين وخاصة حبس يوم الأداء ـ أي حبسه حتى أداء ديونه ـ أو غيرها من الحلول التعسّفية.. كلّها مفاهيم لا تحمل صفةً شرعية وتتسبّب في إضرار الدائن والمدين والمجتمع على حدّ سواء؛ لذلك، يتحتّم على المسؤولين التحرّك لتعديل القوانين الخاصّة بهذا الموضوع، وإلغاء السجون المدنية ليساهموا في إنقاذ الأسر من الحيرة والاضطراب، والمدينين من الضياع، وسائر الأطراف ذات العلاقة من الحرج والشدّة، وأخيراً إحياء الأمل في نفوس الغرماء في استرجاع مستحقاتهم من خلال عمل المدينين وكسبهم، والحؤول دون جعل المجتمع شاهداً على تنفيذ رغبة الانتقام للدائنين، ففي ذلك توفير في نفقات السجون وما ينجم عنها من ركود في الحياة، ليعود النشاط والحبور إلى حياة المجتمع من جديد.

 

*     *     *

الهوامش



(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران والجامعة الإسلامية الحرّة، من إيران.



([1]) عبد الحسين علي آبادي، الحقوق الجنائية 1: 72 ـ 73.

([2]) مرتضى محسني، الحقوق الجزائية العامة 1: 131 ـ 137.

([3]) مهدي، كي نيا، أصول علم الإجرام 2: 239 ـ 241.

([4]) تاج زمان، دانش، حقوق السجناء وعلم السجون: 188 ـ 189.

([5]) محمد رضا المظفر، أصول الفقه 2: 213 ـ 240؛ ومحمد حسين الغروي النائيني، فوائد الأصول 3: 20 ـ 63.

([6]) إدوارد، مونتيه، المستدرك، ترجمة: محمد فؤاد عبد الباقي، ومهدي إلهي قمشه اي، ملحق تفصيل آيات القرآن لجورج لابوم: 781.

([7]) الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن 2: 368 ـ 369.

([8]) محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان 4: 279 ـ 280.

([9]) تفسير القرطبي 2: 371 ـ 375.

([10]) الحرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 155.

([11]) المصدر نفسه: 167.

([12]) المصدر نفسه: 181.

([13]) المصدر نفسه: 167.

([14]) مصطفى، محقق داماد، قواعد الفقه، القسم المدني 1: 112.

([15]) محمد رضا المظفر، أصول الفقه 2: 213 ـ 240؛ والدكتور علي رضا فيض، مبادئ الفقه والأصول: 75 ـ 80.

([16]) الطوسي، النهاية: 203.

([17]) الحلي، شرائع الإسلام 4: 1676.

([18]) الحسن بن يوسف، العلامة الحلّي، مختلف الشيعة في أحكام الشريعة 4: 112، 113، المسألة 14.

([19]) الشهيد الأول، اللمعة الدمشقية: 79 ـ 82.

([20]) الشهيد الثاني، الروضة البهية 2: 82 ـ 83؛ ومسالك الأفهام 13: 44 ـ 45.

([21]) السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل 9: 289 ـ 290.

([22]) جمال الدين المقداد بن عبد الله السيوري الحلي، التنقيح الرائع: 250 ـ 251.

([23]) راجع: الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 133، 134؛ والشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 20: 412 ـ 413؛ والمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي، مستند الشيعة في أحكام الشريعة 17: 288 ـ 289؛ والسيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه 84 ـ 85: 262 فما بعد؛ والسيد أحمد الخونساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 6: 6، 7؛ والإمام الخميني، تحرير الوسيلة 2: 548.

([24]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته 8: 5966.

([25]) السيد حسن إمامي، الحقوق المدنية 1: 227 ـ 228.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً