أحدث المقالات

حوار مع: حرم السيد محمد باقر الصدر(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

نظرة إلى حياة السيد الصدر وأخته الشهيدة ــــــ

_ بعد عرض أسمى الاحترام والتقدير لشخصكم الكريم، نودّ أن تتفضلي بإعطاء قرّاءنا الأعزاء نظرة مجملة عن حياة الشهيد، وأخته الشهيدة العالمة بنت الهدى.

^ ولد الشهيد محمد باقر الصدر في ذي القعدة 1353هـ، في الكاظمية، من عائلة عرفت بالعلم والزهد والتقوى. والده السيد حيدر من فضلاء الحوزة العلمية، وقد عرف عنه حسن الخلق والتواضع والزهد، واشتهر بتبحره في العديد من العلوم الدينية، لكنه لم يعمر طويلاً، فقد رحل عن هذه الدنيا في سن الشباب. وقد كان جده السيد إسماعيل الصدر من مراجع التقليد الكبار في النصف الأول من القرن الرابع عشر، توفي سنة 1338هـ. كذلك كان بقية أجداد الشهيد محمد باقر الصدر فطاحلة في العلم، وعظماء في الحلم والورع، شجرة طيبة منحدرة من نسل الإمام الكاظم×. عاش أجداد وآباء عائلة الصدر في كلٍّ من: إيران، والعراق، ولبنان، وكانوا نبراساً للعلم والهدى، وحماة للدين، ومبلغين للعلوم والمعارف الإسلامية الواسعة. عاش السيد الشهيد باقر الصدر في وسط عائلة شيمتها العلم والفضل، وشرب في أحضانهم الدين والأخلاق، وكان ذلك الطفل الورع النابغة، الذي يكبر يوماً بعد يوم بمقدار ما يكبر أقرانه في سنة وسنوات، وكان يجلب الانتباه بشدة أدبه وسرعة بداهته. حدَّد هدفه منذ نعومة أظافره، وتجلى واضحاً في كبره، سالكاً نهج الأئمة الأطهار^ وأجداده الكرام. كان همُّه إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحريره من قيود الاستبداد والجهل. ولم يكن هذا الهدف غريباً عنه، ولاسيما أن أباه وأمه كانا مثالاً للإنسان القدوة، وتشخيصاً عينياً للإنسان الكامل. كانت أمه تحرص على أن ترضعه وهي على وضوء، وكانت تقرأ له القرآن عند نومه، رغم أنها كانت أماً لسبعة أولاد ذكور وسبع إناث، وقد ابتُليت بفقد خمسة أولاد ذكور وستّ إناث؛ لأسباب مختلفة، وفي ظروف متفرقة، لكنها تحمِّلت تلك المصائب بالصبر والاحتساب إلى الله واهب الحياة. أصيب الشهيد الصدر في سن طفولته بمرض عضال، لدرجة أقلقت والديه، وشغلت بالهما، فكان التوسل بالحجّة ابن الحسن# وسيلتهما إلى الله في طلب الشفاء والعافية لقرّة عينهما، واستجاب الله تعالى دعاءهما، وأنجح توسلهما. وكانت أمه أثناء توسلها الدائم في طلب الشفاء قد رأت الحجة# في منامها، مخاطباً إياها بعدم القلق على حال ابنها، وأنه سوف يشفى بإذن الله، ومبشراً إياها بمكانة عالية ومستقبل مشرق في العلم والدين. وكانت المعجزة، فقد شفي السيد محمد باقر الصدر في اليوم التالي، وأُلبس ثوب العافية.

كانت عائلة الشهيد رغم مكانتها العلمائية الكبيرة تعيش حياة بسيطة خالية من كل مظاهر الترف، فلم تكن أمور الحياة المادية تشغل حيزاً في فكرها وقلبها، بل كان كل سعيها وكدها في أن تبلغ المراتب العالية في العلم، وأن تحصل على أوسع قدر من المعارف والأخلاق. بعد وفاة والده تربى في حضن والدته سليلة العلماء، فقد كانت بنت الشيخ عبد الحسين آل ياسين، وأخت الشيخ محمد رضا، والشيخ راضي، والشيخ مرتضى آل ياسين. وهؤلاء كانوا أخواله الذين تربى في وسطهم، فقد خصَّه الشيخ محمد رضا بعناية متميزة، وكان عنده مورد احترام وتقدير، وكان له فضلٌ كبيرٌ في توجيهه وتعليمه وتأديبه. أخوه السيد إسماعيل من العلماء الفضلاء والمجتهدين الأجلاء، كثير الحركة والنشاط في النجف، رغم أنه قد غادر الدنيا سنة 1388هـ، وهو ابن الأربعين من العمر. أخته (آمنه بنت الهدى الصدر) من النساء العالمات، شاعرة، وكاتبة، ومعلمة للفقه والأخلاق، وكانت رفيقة أخيها الشهيد في درب الجهاد والتضحية، ومقاومة الظلم والاستبداد، والتصدي للسلطة الغاشمة، فكان أن تُوِّجت بالشهادة إلى جانب أخيها رفيق دربها، وخُتِم لكليهما بالسعادة.

أنهى السيد محمد باقر الصدر مرحلة الابتدائي قبل سن الحادية عشرة من عمره، وقد لوحظ عليه في هذه المرحلة النبوغ وشدة الذكاء، واستعداده العريض لتلقي العلوم والمعارف، فكان معلِّموه وأساتذته في تعجب ودهشة؛ لما يرونه من نباهته وذكائه.

أكمل دراسة المنطق وما كتب فيه من رسائل، إلى جانب الإشكالات الواردة على بعض كتب المنطق، في سن الحادية عشرة من عمره. وفي سن الثانية عشرة درس معالم الأصول على يدي أخيه، كما درس الإشكالات الواردة على كفاية الأصول، وكان قد قرأ أكثر دروس السطوح من دون الحاجة إلى معلم أو أستاذ. وفي سنة 1365هـ هاجر من الكاظمية متوجهاً إلى النجف الأشرف، وحضر حلقة درس الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد الخوئي، وهو لا زال فتى في الثانية عشرة. والعجيب في الأمر أنه كان يحضر حلقات الدرس تلك إلى جانب العديد من الشخصيات العلمية الكبيرة. ومن الأمور التي تظهر مدى قوة السيد الشهيد العلمية، وإحاطته الكاملة بمطالب الدرس وإشكالاته، أن الأستاذ الشيخ محمد رضا آل ياسين طرح يوماً مسألة علمية، حيث سأل: هل يتنجس بدن الحيوان بملاقاته النجاسة، ويطهر بزوالها، أم أن بدن الحيوان لا ينجس ولو لقي عين النجاسة؟ ثم أضاف قائلاً: إن الشيخ الأنصاري& أجاب عن هذا الإشكال، وأورد مبحثين آخرين في كتاب الطهارة، وإن أستاذه السيد إسماعيل الصدر كان قد طلب منه ومن بقية الطلاب أن يأتوا بثمار ومطالب أخرى جديدة، وإنه يطلب من طلبته أن يفكروا في المسألة ملياً، وأن يطرحوا مسألة جديدة في نفس الموضوع. ولما كان يوم الغد أتى الشهيد محمد باقر الصدر من دون جميع الطلبة إلى الشيخ محمد رضا آل ياسين، وقد أتى بمسائل جديدة في نفس الموضوع. وكان الشيخ يرى في الشهيد أنه يحضر الدرس فقط لأجل التفنُّن، ولم يكن يحضر للتحصيل، خصوصاً مع صغر سنه وقلّة عدد أيامه في التلمُّذ على يديه، فتوجه الشيخ إلى باقي الطلاب سائلاً إياهم إن كان من بينهم من أتى بثمرات جديدة واستنتاجات بكر، ولما كان الجواب بالسلب توجه إلى الحضور قائلاً: لقد أتى السيد محمد باقر الصدر بثمرات جديدة في هذا الدرس، وأنا أطلب منه شخصياً أن يعرضها عليكم، ويبينها لكم. وكان في ذلك المجلس مصدر إعجاب الجميع. وعن السيد إسماعيل الصدر& أن كل ما بلغه أخوه الشهيد محمد باقر الصدر من مراتب في العلم كان قد حصل عليه وهو في أوائل سن البلوغ. وفي سنة 1370هـ، وحين توفي الشيخ محمد رضا آل ياسين، تولى الشيخ عباس الرميثي كتابة التعليقات على رسائل أستاذه، وطلب من الشهيد باقر الصدر أن يحضر مجالس درسه، وكان قد كتب هو الآخر تعليقات على رسائل أستاذه، فلما رآها الشيخ عباس الرميثي، وعاين تبحُّره وإحاطته الكاملة بكل المطالب العلمية، توجَّه إليه قائلاً: من دون أدنى شكّ أو ترديد التقليد في حقك حرام. وكان الشهيد الصدر قد حضر درس السيد الخوئي في الأصول إلى سنة 1375هـ، وفي الفقه إلى سنة 1378هـ. قال أحد الطلبة الذين كانوا يحضرون درس السيد الخوئي إلى جانب الشهيد الصدر: كان الشهيد الصدر يحضر معنا الدرس كأنه قمر، كان يستوعب المطالب كلّها، ويسيطر عليها من كل جوانبها، وكان يتقدمنا مرتبة يوماً بعد يوم. كان يقضي معظم أوقات يومه في المطالعة والدرس. وفي العشرين من عمره بدأ مرحلة التدريس بتعليم كتاب كفاية الأصول، وتربية طلبته. وفي سن السابعة والعشرين(1378هـ) بدأ بتدريس البحث الخارج في الأصول، وفي الثامنة والعشرين(1380هـ) شرع في تدريس البحث الخارج في الفقه. وفي سن السابعة والعشرين بنى ببنت عمه السيد صدر الدين الصدر (أخت الإمام موسى الصدر)، وكانت تكاليف زواجه ممّا حصله من طبع كتبه. وكان الإمام موسى الصدر والشهيد الصدر أبناء عمومة، وكان زواجه ثمرة علاقته القوية مع ابن عمه، تلك العلاقة التي قويت واشتدت أواصرها في الفترة التي كانا فيها معاً في النجف يشتغلان بالتحصيل والتعلم. وفي تلك الأيام كان كلٌّ منها قد وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وتشاركا كل ما غطى تلك الفترة من حلوها ومرها، وكانا يتباحثان معاً دروسهما والمطالب العلمية، كما كانا يتشاوران فيما بينهما. كان الإمام موسى الصدر يكنّ مشاعر الاحترام لابن عمه الشهيد الصدر، كما كان الأخير يبادله نفس الاحترام والحب، فكان يخاطبه بـ (سيدي)، وكان الإمام موسى الصدر يخاطبه بدوره بـ (مولاي). وكان الإمام موسى الصدر كلما ضاق صدره، وأحس بالإرهاق، جراء المسؤولية الملقاة على عاتقه، يأخذ جوازه ويسافر إلى النجف، حيث يجد السلوى، ويرتاح بالقرب من ابن عمه، وفي أحضان النجف الأشرف. وبعد اختطاف الإمام موسى الصدر، وشدة حصار وأذى نظام صدام للشهيد الصدر، كان هذا الأخير يقول: لو كان موسى الصدر بجانبي لذهب عني ما أجده من تعب ونصب من صدام وأعوانه.

_ سيدتي، لو تتحدثين لنا عن حياتكما في العراق، كيف كانت تمر في ظل كل تلك الظروف؟

^ أنا من مواليد مدينة قم، وعشتُ فيها إلى التاسعة عشرة من عمري. لقد انتقلت بعد اقتراني بالشهيد الصدر من إيران إلى العراق. وقد كان فراقي وبعدي عن أهلي؛ ونظراً للفرق بين البلدين، وظروف العيش في كليهما، يسبِّب لي الضيق والتعب، وقد عانيتُ كثيراً لذلك. وفي يوم من الأيام ذهبت إلى زيارة حرم أمير المؤمنين×، وتوسلت به أن يلهمني ربي الصبر، ويمنحني القدرة على تحمل فراق أهلي، وصعوبة العيش في هذه الأرض الطيبة، وبعد الزيارة انتابني إحساسٌ عجيب، لدرجة جعلتني أقول في نفسي: إنني لم أقترن بشخص عادي، إن زوجي وليٌّ من أولياء الله والعلماء الأتقياء، وحاصلُ تلك الزيارة أنّني شعرتُ بالاطمئنان، وابتعدت عن نفسي كل مشاعر الضيق والضجر، وعشت بقيت أيامي مع الشهيد في كامل الرضا والاطمئنان.

أخلاقه& في المنزل ـــــــ

_ حبذا لو تحدثيننا عن معاملة وأخلاق السيد الشهيد في المنزل.

^ لقد كان السيد الشهيد طيباً، وعطوفاً، ويقدِّر من حوله. كان محسناً مع أمه وأولاده، وكان بمثابة الصديق لأخواته وإخوانه. وكما كان مع أهله محباً حنوناً كذلك كان خلقه مع أولاده، وبقي إلى آخر لحظة من حياته المباركة مثالاً للولد البار والمطيع لأمه، يشاورها ويحترم آراءها، كما أنه كان يولي عناية خاصة، طوال حياته، بأخته، فقد كان يصرف وقتاً في إعانة أخته، يقرأ مكتوباتها، ويجيب عن تساؤلاتها، ويحترمها، ويهتم بمشاعرها وأحاسيسها، ويساعدها في كل ما تحتاجه، في الجانب العلمي وغيره. وإلى جانب ذلك كان يقدِّر زوجه، وكان لا يفتأ يردد على مسامعي قوله: أتمنى أن تدركي ما أنا مشغول به، وما يشغلني عنكم، وأتمنى في نفس الوقت منك أن تسامحي تقصيري، وتصفحي عما يقلقك مني.

لقد كان السيد الشهيد عطوفاً ورحيماً بأولاده، وكان يهتم بأمورهم، وكان إذا مرض أحدٌ منهم يبادر للسؤال عنه بمجرد رجوعه إلى البيت، فقبل أن يغير ملابسه يذهب إلى جانبه، ويتفقد أحواله، ويمرر يده المباركة على رأسه، وهو يقرأ سورة الفاتحة. وقد بقينا على هذه السيرة بعد وفاته، فنقرأ سورة الفاتحة للشفاء. وكان& يعامل أولاده معاملة الكبار، فيحاورهم، ولم يكن من شيمه أن يجبرهم على فعل شيء لا يرغبونه، يذكِّرهم بالصلاة في أول وقتها، وكان يقول لهم: إنني لا أراكم إلا قليلاً، لذا لا أحب أن يصدر منكم ما يدعوني إلى توبيخكم، فلا تجبروني على هذا بفعلكم للقبيح أو ما يستوجب التوبيخ والتأديب.

وكم كان الأولاد يفرحون برجوع والدهم إلى البيت، فرغم صغر سنّهم كانوا يدركون الأوضاع والظروف التي يعيش فيها والدهم، لذلك كان رجوعه إلى البيت يعني سلامته، وغنيمةً تستوجب شكر المنعم وحمده على سلامة والدهم.

علاقته الروحيّة الخاصّة بأهل البيت^ ـــــــ

_ محبة السيد الشهيد الخاصة لأهل البيت^ دليل على إدراكه وفهمه العميق للمضامين العالية لمقامهم ومكانتهم، وشاهد على توجهه الصحيح لموقع رسالتهم. أنتم زوجه، أقرب الناس إليه، كنتم شاهداً على حالاته الروحية والمعنوية بشكل عام، نتمنى عليكم أن تصفوا لنا بعض الأحداث الخاصة بهذا الجانب من حياته.

^ كان السيد الشهيد يواظب على زيارة سيد الشهداء× في كل ليلة جمعة، وكان يقرأ زيارات مخصوصة، كالزيارة الشعبانية والرجبية، وكان لمدة عشر سنوات يسافر لزيارة أبي عبد الله الحسين×، ولم يكن يمنعه عنها إلا المرض الشديد أو الحالة الأمنية. وكان الشهيد لا يُرى إلا صائماً في أغلب المناسبات. وكم كانت عيناه تفيض بالدموع وهو يتلو زيارة عاشوراء! وكم كان بغضه لقتلة أهل البيت، والحسين بالخصوص، يزداد ويغلو في صدره ومحاسنه مبتلة بالدموع، حتى أن زوار الحرم الشريف كثيراً ما يلفت نظرهم حالة الشهيد وهو في تلك اللحظات! في يوم من أيام زيارته للإمام الحسين×، وبينما كان الشيخ محمد جواد مغنية والسيد محمود الخطيب يرافقان الشهيد في الزيارة، وبعد أن دخلوا الحرم، وقفا قبال صحن الساعة، وأخذا ينظران إلى السيد الشهيد وهو يبكي بحالةٍ استوقفت الزوار، الذين أخذوا بدورهم ينظرون إليه، فتوجهوا إلى الشيخ مغنية يسألونه: ماذا يفعل السيد؟ فأجابهم: إنه يعرف مع مَنْ يتحدث، وأمام مَنْ يقف، كما يعرف معاني ومضامين تلك الزيارات التي يقرؤها. كما أن السيد الشهيد كان مداوماً على قراءة زيارة أمير المؤمنين×، وكان يحفظ متنها عن ظهر قلب. كان الشهيد يحمل مطالب دروسه إلى حرم أمير المؤمنين، وهناك يعكف على دراستها، وظل لمدة لا يستطع الذهاب إلى الحرم، فجاء رجل لعيادته، وأخبره قائلاً: إنه رأى أمير المؤمنين× في المنام، وقال له: إن ابني محمد باقر (يعني الصدر) صار له أياماً لم يأتِ إلينا للمطالعة والمباحثة.

لقد كان يبدو جدّ متأثّراً في أيام عاشوراء، وكانت مظاهر الحزن تبدو على ملامحه طيلة تلك الأيام، وكان يعمل جاهداً على أن يحضر كربلاء في هذه الأيام بالذات، وكان في أيام عاشوراء يقرأ زيارة عاشوراء، ويستمع إلى المقتل، وكان يبكي بصوت عالٍ، وينحب نحيباً لهذا المصاب، وكان وعائلته يمسكون عن الطعام إلى ما بعد ظهر يوم عاشوراء، كما أنه كان يبتعد عن أكل ما لذ وطاب طيلة الأيام العشر من محرم، وكان لا يستقبل أحداً يوم شهادة الإمام علي×. لقد كان يداوم على عقد مجلس عزاء لأهل البيت^ في كل ليلة خميس في بيته، وكان في أيام شهادة الإمام موسى بن جعفر× يقيم مجلس العزاء لمدة ثلاث ليالٍ، وكلما رزقنا مولوداً أنثى نذر لله إن رزقني مولوداً ذكراً أن يقيم في يوم شهادة الإمام السجاد مجلس عزاء له، والحمد لله فقد رزقنا في السنة التالية بالسيد محمد جعفر، ولا زلتُ أداوم على عقد هذا المجلس إلى اليوم.

لم يكن السيد الشهيد يشكي حزنه وبثّه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فكان يناجي ربه كثيراً، إليه يشكو آلامه، ومنه يطلب العون والمدد، وكان التوسل بأهل البيت^ وسيلته إلى الله، وكان يعلم ويشجِّع أبناءه على التوسل بأئمة أهل البيت^ في الشدائد والكربات، وأن لا يشكوا مصائبهم أو ما ألمّ بهم إلا إلى الله، وأن يرجوا الإعانة والتوفيق من الله وحده. وفي الوقت التي تمت محاصرة البيت، وأصبحت الأوضاع جدّ سيئة، وبقي السيد الشهيد وحده، دعا أهل بيته جميعاً إلى قراءة دعاء التوسل، وغيره من الأدعية.

أما في ما يخص الصلاة فخشوع القلب كان دأبه. وطبق شهادة جميع أفراد العائلة فإن الشهيد كلما اشتغل بالصلاة يترنَّم كل البيت بنفحات معنوية عذبة، وتشعر وكأن الملائكة قد غطت أرجاءه، وفاضت قدسيتها عليه بالطمأنينة والسكينة. وكان يروم الخلوة والابتعاد عن أعين الناس في صلاة الليل. أما في رمضان فلم يكن يتهاون في قراءة جميع الأدعية والقيام بجميع الأعمال الواجبة والمستحبة المرتبطة بكل ليلة من لياليه الكريمة، وما لم ينتهِ منها لا يذهب إلى مكتبه. وكانت تلك سيرته في جميع المناسبات الدينية، رغم مشاغله الكثيرة.

وكان حصار منزلنا، وبالخصوص في الأيام القريبة من يوم شهادته، مناسبة وفرصة اغتنمها في أداء العبادات، وتعمَّق فيها، فقلّة الانشغال بالخارج يفتح المجال أكثر للارتباط بالله تعالى، والصعود في مراتب القرب منه جل جلاله.

طريقته في الدراسة والاهتمام بالعلم ــــــ

_ سيدتي، إن كثرة أعماله العلمية، وسعة دائرة تحقيقاته وتأليفاته، يكشف بحقِّ جديته وتفانيه في القيام برسالته العلمية والفكرية، فهلاّ تحدثين طلاب العلم والباحثين والمحققين عن طريقة وأسلوب الدراسة والبحث عند السيد الشهيد.

^ كان الشهيد دؤوباً على الدرس والكتابة والتباحث. ولمدة طويلة كان الشهيد يذهب كل ليلة إلى بيت السيد الخوئي& للمباحثة، وفي ليلة من الليالي كان مريضاً، فأصررت عليه أن لا يذهب إلى تلك المباحثة، وأن يستريح هذه الليلة حتى تعود له العافية، ولكن جوابه كان أن طلب مني إحضار المصحف الكريم، فاستخار به، فخرجت الآية الكريمة: ﴿إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً﴾ (طه: 10)، فنظر إليّ وقال: والآن ماذا تقولين؟ أأذهب أم أمكث في البيت؟! فأجبته: اذهب محفوفاً بعناية الله.

وكان السيد الشهيد إذا عزم على الكتابة، وتناول القلم، لا يرفعه عن الورقة إلا إذا أتمّ المطلب، وكنت أقول له مازحةً: هل نزل عليك الوحي، فجلست تكتبه بهذه الطريقة، وبهذه السرعة؟ فكان يتبسم، ويقول: ربما كان كما تقولين. وكثيراً ما كانت تتورم أنامل يده اليسرى من شدة وكثرة الكتابة، حيث إنه كان يكتب باليد اليسرى، فكنت أهيئ له عجينة أضعها على أصابعه، ولكنها لم تكن تؤثِّر في الأمر شيئاً؛ لأن السيد كان يستمر في الكتابة، ويداوم عليها، ولم يكن يشغله أو يعكِّر صفو مزاجه شيء ممّا يحيط به إذا كان مشغولاً بالكتابة، حتى أن ضجيج الأولاد وصراخهم لم يكن ليجعله يتوقف عن الكتابة، وكنت أعمل على إسكاتهم أو إخراجهم من الغرفة، لكنه كان يبادرني بالقول: اتركيهم، لا تؤذيهم، واتركيهم يلعبون.

_ طريقة وأسلوب معيشة وحياة الشخصيات الكبيرة وذوي المكانة المميزة تكون دائماً بمثابة القدوة لغيرهم، ومنهم تؤخذ العبرة، لذا نودّ من شخصكم الكريم أن تحدثينا قليلاً عن المحطات والنقاط البارزة في حياة السيد الشهيد الشخصية، التي كانت ملفتة في معاشرتك له.

^ إن زهد السيد وتعفّفه كان دائماً درساً لي في حياتي. فبعد زواجي به عرفت أن لباس السيد كان عبارة عن عباءة وقميص أبيض، فسألت عن باقي لباسه، فقالت السيدة أم الشهيد، وهي تضحك: ألم أقل لك: إن زوجتك ستتعجب حين تراك وليس لك لباسٌ غير الذي ترتديه على بدنك. لم يكن يهيئ لباساً إلا نادراً، وإذا فعل فإنه يكتفي بالقليل، وكان يقول: عجباً، كم لي من جسم حتى أخيط وأشتري ألبسة كثيرة؟! لقد كان يزهد في هذه الدنيا الفانية، وكان يردد علينا: إن حياة العالم المرجع يجب أن لا تفرق عن حياة سائر الطلبة. لقد كان في قمة التواضع، لذا فهو طيلة حياتي معه لم يدخل أثاثاً إلى البيت، وبقي البيت على نفس الشكل إلى يومنا هذا. أهدى له يوماً أحد أصدقائه آلة، ولكنه لم يستفد منها أبداً، وأعطاها أحد أصدقائه، وطلب منه أن يبيعها، وأن يقسم أموالها بين الطلبة، وأخذ لنفسه شيئاً قليلاً. نعم، كان كلما أهداه أحدٌ هدية يقبلها، ويشكره عليها، وبعد ذلك يعطيها لطلبة العلوم الدينية. وهذا التعامل منه لم يكن على نحو التكبُّر أو الغرور والاعتزاز بالنفس، لكنه كان زاهداً ومتقياً، وكان يكتفي لحياته وأفراد أسرته باليسير، حتى أن أكلنا وشربنا كان بسيطاً وخالياً من أبسط مظاهر الترف أو التوسعة على النفس، فقد كان يروم المساواة في المعيشة مع الطبقة المقهورة من المجتمع، والتي كانت تمثِّل الأغلبية.

موقف السلطة الحاكمة من الشهيد الصدر ـــــــ

_ كيف كان موقف وتعامل النظام الحاكم في العراق، والمتمثل آنذاك في شخص صدام وزمرته، مع السيد الشهيد لما أصبحت له مرجعية التقليد؟

^ بعد وفاة السيد الحكيم، وبعد إصرار الناس الشديد على انتقال مرجعية التقليد إلى السيد الشهيد، أصدر& رسالته العملية. وقد كان هدف الشهيد من نشر رسالته تنبيه الناس إلى فساد النظام البعثي، وخصوصاً أن الناس كانت تربطهم بالسيد علاقة وطيدة، وكانوا يستمعون له ويطيعونه. فمرجعية السيد الشهيد كانت تخالف مثيلاتها في آرائه ونظرياته في التجديد، والارتقاء بالحوزة العلمية، وفي إرشاد وإنضاج المجتمع الشيعي خصوصاً، والعراقي بشكل عام. وكان يعمل على الدعوة إلى تحسين الوضعية الاجتماعية لفئة طلبة العلوم الدينية، وتحسين ظروفهم المعيشية، وكذا الطبقة الفقيرة من المجتمع، والتي كانت في ظل حكومة الفساد تمثل أغلبية المجتمع العراقي.

وفي هذه المرحلة بالذات أصبح السيد الشهيد يعيش مشكلات ومضايقات عديدة وعسيرة؛ فضغوطات النظام الحاكم وزمرته الفاسقة كانت تزداد يوماً بعد يوم، وكانت مقاومة السيد الشهيد وإصراره على انبعاث المجتمع قد جعلت النظام الحاكم يعيش أسوأ أيامه، وكان ذلك يهدد استقراره، فكان يعمل على اعتقال السيد الشهيد وإيداعه السجن، كأسلوب للحدّ من تحركاته، وبالتالي ليتجنَّب التصادم المباشر مع مقلِّدي السيد، والحوزة العلمية بشكل عام. وكان& كلما حملوه إلى السجن يقول: إنني وفي طريقي إلى السجن أشعر بنشوة الإحساس بقرب الموعد بلقاء الله عز وجل، وكلما أطلقوا سراحي كنت أشعر بالخيبة من ذلك الأمل؛ لأنني أشعر أنني عائد إلى هذا التكليف الصعب. وبعد أن يئس النظام الصدامي من إطفاء نور السيد، ونور أفكاره وآرائه وتحركاته الرسالية، وتيقن أن التضييق عليه لا يزيده إلا إصراراً، وأن السجن لا يزيده إلا حياة، حكموا عليه وعائلته بالإقامة الجبرية، ومنعوا عنه ملاقاة الناس، ودام هذا الوضع زهاء عشرة أشهر، وكانت فرصة أمام السيد الشهيد للتفرغ للكتابة والتأليف، فدوَّن العديد من مؤلَّفاته الجديدة، واشتغل بالعبادة والمناجاة، إلى جانب تربية أسرته على الصبر والتحمل. سألته يوماً: ماذا ـ لا قدّر الله ـ لو أخذوك وتركونا وحدنا، ماذا يكون مصيرنا؟ فأجابني متيقناً: إن لكم رب رحيم، وهو يكفيكم عن غيره، وأنتم وديعتي عنده.

لقد كان دائم البشر رغم شدة الظروف وصعوبة الوضع، وكان دائم التوكل على الله، والتسليم له في السرّاء والضراء، وكان يقول لنا: إنكم تستطيعون الرحيل عن هنا، فصدام وزمرته لا يريدون سواي، ولا حاجة لهم بكم. وهذه الأخلاق وهذا التعامل الوديع منه ما كان يزيد أفراد أسرته إلا ارتباطاً والتحاماً به. وفي آخر سنة ضعف بدنه كثيراً، وخصوصاً مع ارتفاع ضغطه الذي استوجب عليه حمية غذائية صارمة.

_  كيف كانت آخر مرة تعرض فيها السيد الشهيد للاعتقال من طرف أزلام النظام الصدامي؟

^ لما اعتقل السيد& من طرف بلطجية صدام تيقن السيد الشهيد أن هذه المرة لن تكون كسابقتها، وخصوصاً أن البعثيين قد قالوا: إنهم سينقلونه إلى سجن بغداد.

ورغم هذا التصعيد من طرف النظام إلا أن السيد ظل محافظاً على هدوئه، وكانت السكينة تلازمه في كل الأوقات والظروف، وكان يقول: لقد استعددتُ وتهيأت للشهادة منذ وقت بعيد. وفي أثناء ذهابه، وحين وقف أمام عائلته أراد تسكين روعتهم، وتهدئتهم، فقال: إن كل واحد منا سيرحل عن هذه الدنيا لا محالة، وكل فرد يرحل عنها بطريقة من الطرق، قد يكون السبب مرضاً أو غيره، وقد تعددت الطرق والأسباب، لكن الموت حين يكون على طريق الله وفي سبيل الله فهو الأعظم والأشرف عند الله، وإذا أتى الأجل ولم أقتل على أيدي صدام وأعوانه قد أموت بمرض أو بأي حادث آخر، وإذا كان الموت في سبيل حفظ الدين ومذهب أهل البيت^ فإن الأفضل والأشرف أن نسرع نحو الشهادة إلى الله. نعم، لقد كانت هذه اللحظات عصيبة وشديدة على أفراد عائلته.

 

حول أعماله العلمية ومدى الاهتمام بها ـــــــ

_ ماذا كان الموضوع الرئيسي لمعظم مؤلَّفات السيد الشهيد؟ وكيف كانت فعالياته العلمية، وفي التحقيق والبحث؟ وهل يوجد اليوم مؤسسة أو مؤسسات تعنى بآثار السيد العلمية، وبتحقيقاته؟ وما هي الآثار العلمية التي تم نشرها في الوقت الحالي لأول مرة؟

^ أغلب آثار السيد& في مجال الأمور والمسائل العقائدية، والفلسفة، والاقتصاد، والمنطق، والأخلاق، والتاريخ. ولما كان في المجتمع العراقي فرق منحرفة تعمل ليل نهار على إغراء الشباب، والمكر بهم، والدفع بهم إلى طريق الانحراف والخروج عن الدين، عن طريق زرع أفكار مخالفة للعقيدة، وداعية للإلحاد وتبني أفكار حزب البعث الحاكم، أخذ السيد على نفسه عهداً أن يدافع عن الدين إلى آخر رمق، وأن يبذل فيه الغالي والنفيس، وأن يعمل على إرشاد الشباب إلى طريق النبي الأكرم|، وأن يدعوهم إلى منهج أهل البيت الكرام^، وأن يبين لهم الدين الصحيح والمنهج الحق، وأن يعلِّمهم التعاليم الدينية الصحيحة والخالصة. وكانت آثار السيد الشهيد تتميز بخصلتين: الدقة الفائقة والتعمق الذي يقل نظيره من جهة؛ والإحاطة الكاملة بجميع الجوانب والمباحث الخاصة بكل مطلب علمي ديني من جهة أخرى. لقد كان عميقاً في تحقيقاته وأبحاثه، مجتهداً فتح العديد من أبواب البحث والتحقيق، وقد ورد مجالات علمية أخرى غير الفقه والأصول بنفس الخصوصيات والمميزات، فأوجد فقهاً جديداً، وعرضه على طلبته، كما فتح مباحث قيمة وعظيمة.

وفي الفترة الراهنة يعمل مركز الأبحاث الخاصة بآثار السيد الصدر& (مجمع الشهيد الصدر) على تهيئة وإعداد تحقيقات وأبحاث علمية حول مؤلفات الشهيد الصدر، وقد تم إلى اليوم طبع ستة عشر (16) جزءاً من مجموعة آثار الشهيد، والمكوَّنة من عشرين (20) جزءاً، وهي عبارة عن: 1ـ فلسفتنا، 2ـ الأسس المنطقية للاستقراء، 3ـ اقتصادنا، 4ـ البنك اللاربوي في الإسلام، 5ــ الإسلام يقود الحياة، 6ـ دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية)، 7ـ دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة)، 8ـ المعالم الجديدة للأصول، 9ـ غاية الفكر، 10ـ بحوث في شرح العروة الوثقى في أربعة عشر (14) جزءاً، 11ـ الفتاوى الواضحة، 12ـ فدك في التاريخ، التشيع والإسلام، بحث حول المهدي، 13ـ المدرسة القرآنية، علوم القرآن (مقالات قرآنية متفرقة)، 14ـ أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية.

وهناك آثار أخرى للسيد الشهيد تحت الطبع، وهي: موجز أحكام الحج؛ تعليق على مختصر منهاج الصالحين؛ تعليقة على مناسك الحج؛ التعليقة على صلاة الجمعة من كتاب الشرائع؛ منهاج الصالحين ج1 و2.

وقد تم طبع بعض أقسام الجزء 17، و15، و20 لأول مرة. ومن النكات الخاصة بالجزء 17 أنه يشمل مجموعة من خطب الشهيد& الخاصة بالحوزة، واقتراحات السيد حول إيجاد مقدمات الرشد والنمو الفكري والمعنوي العلمية.

وبالإضافة إلى هذا الجزء يوجد جزء آخر تحت عنوان (دروس رمضانية)، وسيطبع قريباً، وهو عبارة عن محاضرات وخطب ألقاها& في شهر رمضان من سنوات 1380، 1384، 1389، و1391هـ.

 

ذكريات من نباهته وفطنته ـــــــ

_ لقد عرف السيد الشهيد بالذكاء والفطنة وسرعة البداهة والإدراك الواسع للأمور، حبذا لو تسردين لنا بعض الذكريات التي تعلق بذهنك عن ذكائه ونبوغه؟

^ كان السيد محمد علي خليلي من رفاق السيد الشهيد في المدرسة، وكان يقول: كان السيد الصدر ذكياً للغاية بشكل قلّ نظيره، وكان المعلمون يعدونه التلميذ النموذج، المجتهد، المؤدب، الذي كان يلتزم القوانين ويعرفها جيداً. كان قدوة لجميع التلاميذ، كما أن المعلمين والمدراء يكنّون له كل الاحترام، ويفتخرون به أيما افتخار. كان يملك القدرة على مخاطبة الجميع، الطلبة وعائلاتهم، بحيث يستمعون إليه بكل شغف وحبّ، وينصتون إلى كلامه بكل وعي. ورغم صغر سنه فقد كان يشارك في هيئة المعزين لأهل البيت^ التابعة للمدرسة، والتي تقيم مجالس العزاء في مناسبات عاشوراء أو مناسبات شهادة باقي الأئمة الأطهار. ولأنه كان ذا لسان عذب ومنطق حلو كان يجلب مسامع وقلوب الناس بكلماته في رصيف الصحن الشريف للكاظميين’، فكانت تزداد مشاركاتهم وتتنوع في هذه الهيئة. صديق آخر للسيد الشهيد كان يحكي بعض ذكرياته عن السيد& قائلاً: إن أي شيء قلته أو مدحت به السيد لن يكون غلواً أو مجاوزاً للحقيقة، فقد كان وسط جميع الطلبة درة ثمينة لا مثيل لها، فقد كان قبلة الطلبة في الأخلاق العالية، فكان يحدِّثهم بكل هدوء، وكانوا دائماً يستمعون إليه بكل شوق وحب. هذا الشوق والحب كان دافعاً جعلني أسعى في كثير من المرات إلى الانخراط في مجموعته، ولم أكن أعرف من أسماء العلماء إلا القليل، أمثال: أديسون، نيوتن، أما هو فقد كان يعرف الماركسية، الإمبريالية، الديالكتيك، والعديد من المصطلحات الفلسفية التي كان يستعملها في أحاديثه وخطاباته، وكنّا نسمعها لأول مرة، ولم نكن ندري هل كان ذلك الجمع من الشباب وحديثي السن يفهمون ويدركون معاني خطاباته، فقد كان جل همّه أن يستوعب الطلبة والمجتمعون حوله مغزى كلامه، وكان يعمل جاهداً على أن يجعل أوقات اللعب واللهو عندنا وقتاً للدرس والتعلم، وكان هو معلمنا ومرشدنا فيها، يعمل بكلّ جد، ولا يبخل علينا بأي جهد، وكان نبوغه وذكاؤه يجعلان منه أستاذاً بكل معنى الكلمة. أما السيد مرتضى العسكري فحين يتحدث عن السيد الشهيد ما يفتأ يذكر أنه كان يدرس دروس سنتين في سنة واحدة، وكان يغيب عن بعض الجلسات، لكنه حين يحضر الامتحانات كان يأتي بأفضل الأجوبة وأتمها. كانت له علاقة قوية بالكتاب والدفتر والقلم منذ حداثة سنه، وعديدة هي المرات التي كانت أمه تبحث عنه فتجده في أحد أركان المدرسة مشغولاً بالمطالعة أو بالكتابة أو بالتفكر.

تقول أم السيد الشهيد: إنها أدركت أن السيد الشهيد وبعد أن أتم مرحلة الابتدائي كانت له علاقة قوية بلبس العمامة، وقد أراد منه أحد أفراد العائلة أن لا يلبس العمامة، وحدّثه عن وضعية الطلبة وظروفهم المعيشية الصعبة، لكن السيد الصدر أراد أن يثبت أن له القدرة على تحمل تلك الظروف، فاكتفى مدة بالخبز والماء طعاماً له، ولما سئل عن السبب أجاب: إنه يريد أن يريهم قدرته على تحدي كل تلك الظروف، وهذه ليست طريقي لوحدي، بل هي طريق أجدادي في تحمل الصعاب وضيق العيش من أجل العلم والتعلم.

وكان يؤتى له ببعض الكتب العميقة في الفلسفة والمنطق، وقد ترجمت من الإنجليزية إلى العربية، وانطلاقاً من موضوعها كان السيد الشهيد يبين لهم الفقرات والنقاط التي ترجمت بشكل غير صحيح، كما أنه كان يرشدهم إلى كيفية تناول الموضوع وغيره من المسائل، وحين كان المترجمون يعيدون التدقيق في ما ترجموه، ومدى تناسبه ومطالب الكتب الأصل، كانوا يقرون أن آراء السيد كانت صائبة ودقيقة.

لمّا أتم الدكتور كريم متى ترجمة قسم من كتاب (العلوم الإنسانية) لبرتراند راسل أتى به إلى السيد الشهيد، الذي أخذه ثم قرأه بتمعن، واكتشف في الترجمة بعض مواطن الخطأ، ثم قال: إنني أستبعد أن يكون هذا قول راسل، ثم نظر الدكتور كريم متى إلى المتن الأصل فأدرك أن رأي السيد كان في محله.

 

الصدر وأسباب الشهادة ـــــــ

_ وفق نظركم ما هو الباعث الأصلي الذي كان له دخل مباشر في شهادة السيد وأخته؟ وما هي نتائجه؟

^ كان صدام يرسل مرتزقته وأزلامه للضغط على السيد الشهيد لعله يرجع عن طريقه في رفض الظلم، وفي مواقفه من الإمام الخميني& وتأييده للثورة الإسلامية في إيران، وكان ضغطهم شديداً ومتتالياً، لكن الشهيد الصدر& بقي ثابتاً على مواقفه، ولم يتزحزح عنها قيد أنملة، بل كانت مواقفه المساندة للإمام وللثورة في إيران تزداد يوماً بعد يوم، ولم يخضع أبداً لرغبات وإملاءات النظام الصدامي، وهذا هو الذي دفع بنظام صدام إلى التصميم على قتله وأخته الشهيدة آمنة بنت الهدى. فحزب البعث الحاكم كان يخاف من أن تنهض السيدة بنت الهدى بعد اغتيال أخيها الصدر بالدعوة إلى الخروج على الحاكم واستنفار الناس ضده، وخصوصاً مع وجود نوع من الظروف المؤاتية لذلك، لهذا أراد أن يسكت صوت السيد وصوت أخته المحتمل قبل أي شيء، لذا عمل على اغتيالهما معاً.

كان حزب البعث الحاكم يحاول التأثير على السيد الشهيد حتى يرفع يده عن الدفاع عن الثورة الإسلامية والدفاع المستميت عن السيد الإمام&، ولكن السيد الصدر& كان يقول: إن الدفاع عن الثورة الإسلامية واجب ديني، وإن المرجعية الشيعية ليس لها هدف آخر سوى إقامة دولة العدل، دولة الإسلام، وما دام السيد الخميني& قد قام بهذا الهدف، الذي هو حلمي وأمنيتي، فلن يرهبني الموت إن قرر نظام صدام قتلي دون مواقفي، فالحياة والموت أصبحا متساويين، وليس لي موقفٌ آخر غير هذا، لذا فأنا مستعد للشهادة أكثر من أي وقت مضى.

طلاب السيد الشهيد ــــــ

_ كيف كان الإقبال على دروس السيد الشهيد والدورات التي كان يجريها في تدريس العلوم الدينية؟ وما هي الفئات التي كانت تتتلمذ على يديه، وتقبل على دروسه؟

^ لقد بدأ السيد الشهيد بتدريس الأصول سنة 1378هـ، وفي تلك الفترة كان الشباب فقط ومَنْ هم في سن السيد الذين يحضرون دروسه، كالسيد عبد الغني الأردبيلي، السيد نور الدين الإشكوري، السيد محمد باقر الحكيم، السيد كاظم الحائري الشيرازي، الشيخ عباس أخلاقي، ثم التحق بهم طلاب من لبنان، وشيئاً فشيئاً كبرت حلقة الدرس، وأخذت تتّسع، حتى أصبحت بحجم حلقة درس السيد الخوئي، لقد كان أكثر طلابه لبنانيين وإيرانيين، وكان عدد الطلبة العراقيين أقل منهما.

طريقته في تربية أبنائه ــــــ

_  ما هي الأمور التي كان السيد الصدر& يركز عليها كثيراً في تربية أبنائه، وبالذات في ما يخص تربية الإناث منهم؟

^ كان السيد الشهيد& دائم التأكيد على أن البنت زهرة، وريحانة، ورزقها على الله، وإذا أحسنت تربيتها، وأعطيت حقها في تعلم أمور الدين والدنيا، فإنها ستكون ذات نفع لأهلها ومجتمعها، وأرضاً خصبة لتربية النشء من أبنائها، كما أن حضورها داخل المجتمع سيكون له مردود إيجابي ومؤثر في رشد مجتمعها. لهذا كان يعطي أهمية كبيرة لتربية البنات، وكان يتعامل معها بكل لطف واحترام، كما أنه كان يهتم بمشاعرها، حتى أنها وهي في سن طفولتها كانت ترى أن أباها أفضل الناس وأحبهم إلى قلبها. لم يكن يقهر بناته أبداً، ولم يكن يجبرهن على فعل شيء لا يطيقونه، بل كان الحوار والتفاهم أساس تعامله معهن، كان يعطي لكل واحدة من بناته درهماً يومياً، وكان يزيد مصروفهن في فصل الموز، حتى يستطعن شراء الموز، حيث كانت الموزة الواحدة تباع بستين (60) قراناً (كل درهم يساوي 50 قراناً)، وكان يقول لهن: سأعطيكنّ 10 قران فوق مصروفكنّ اليومي، ولكن أخبرنني إن كانت جميع التلميذات في المدرسة قد اشترين موزاً؟ فإذا أجبنه بالنفي كان يجيبهن: إذاً فالأفضل أن لا تشترينهن أنتن كذلك، حتى تتساوين والأكثرية، وأن لا تكن من الأقلية. وفي يوم من الأيام، وبعد أن انصرف الضيوف من بيتنا، أخذ السيد الشهيد بيده ابنته، ودخلا معاً إلى المطبخ، وقال لها: يظهر أن أمك قد تعبت اليوم في خدمة الضيوف، وأرى أنه من الأفضل أن نساعدها بغسل الأواني، وكان يردد دائماً الرواية المروية عن الإمام الصادق×: »ولايتي لعلي بن أبي طالب خير من بنوتي«، وكذلك الحديث الشريف عن النبي الأكرم|: »لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى«.

ورغم ما بلغه من المكانة العلمية، وحتى بعد أن أصبح مرجع تقليد، لم يحدث أن أذن لأحد في مدحه وتعظيمه، بل كان يوصي أولاده دائماً بأن يبتعدوا عن إضافة الألقاب التي ترفع من القدر المادي والدنيوي، وكان يأمرهم قائلاً: اكتبوا فقط السيد محمد باقر الصدر، بدون أي لقب أو عنوان. الدنيا في أخلاق السيد، كما في فكره وعقيدته، محل عبور، لذا كان يبِّين لبناته، كما لأولاده، أن الإنسان كمسافر وعابر طريق، وكان يطلب منهن جميعاً أن لا تملأ الدنيا قلوبهم، وأن يكون حملهم في هذا السفر قليلاً وخفيفاً، حتى لا يثقل كاهلهم، وأن يكونوا على استعداد كامل ودائم للرحيل إلى الآخرة، إلى دار القرار، حيث ينجو المحقّون. الدنيا في توصياته لأبنائه متعلقة بهذا البدن، ولأن البدن فانٍ فتلقائياً أمور الدنيا فانية، ولا شأن لها بمقام الروح، ولا ترحل مع الروح إلى حيث المستقر والمستودع، بل ما يبقى مع الروح، وما ينتقل معها إلى عالم الآخرة، هو ما يتعلق بها وما هو من سنخيتها، لذا يجب السعي للإكثار من الذخيرة المعنوية والروحية، والابتعاد قدر الإمكان عن أمور الدنيا الدنيّة.

لما كانت إحدى بناته تصل إلى سن التكليف كان يتوضأ أمامها، ويصلي، وكان يرشدها إلى الأخطاء في العبادات وفق منهج الإمام الحسين×، وكان يشجعها على قراءة القرآن والأدعية والزيارات. كما أنه كان يأمرهم بأداء الصلاة المكتوبة في أول وقتها، وخصوصاً صلاة الصبح، ويكرر عليهم قوله: من كان يسهر الليل ويعرف يقيناً أنه إذا نام لن يستطيع القيام لصلاة الصبح لا يجوز له النوم إلا بعد أداء صلاة الصبح. وكان من مقررات البيت: إذا صامت أي بنت عامها الأوّل أوكل إليها اختيار طعام إفطارها (في حدود المعقول)، وحين يحل عيد الفطر كان يعطيها هدية بقيمة مناسبة.

كان السيد الصدر، إلى جانب مهامه العلمية والعملية، نعم الأب العطوف الحنون على أولاده، وكان أبناؤه، ذكوراً وإناثاً، يبادلونه نفس الحب والاحترام، وما كانوا يطيقون الابتعاد عنه.

علاقته الشخصية بعموم الناس ــــــ

_ نود أن نعرف كيف كانت معاملة السيد الصدر& مع عامة الناس؟ وماذا كان نوع علاقته بهم؟

^ السيد الشهيد شخص متواضع، لطيف، ورقيق الطبع، يألف ويؤلف، جدي من دون حدة، ولطافته مع طيبته ووقاره كانت تجلب قلوب الناس إليه، كان الناس يأنسون به، حتى مَنْ تعرفوا عليه حديثاً، حتى أن من رآه معهم يظن أنه يعرفهم ويعرفونه منذ زمن بعيد. وهذا السلوك الأخلاقي في التعامل له أهمية كبيرة في قلوب الطرف الآخر، وفي توجيهه وإرشاده، حيث ينفي أي تنافر أو إحساس بعدم الراحة والقدرة على التواصل لديه، لذا كان طلبته ومن يحضر دروسه ومجالسه يبقى على تأثر مستمر بكلام السيد الصدر وبتوجيهاته. لم يكن ينفر الناس منه، بل كان يحب الجميع، ويسأل عن أحوال الغائب منهم كما الحاضر. إذا مرض منهم أحد عاده، وإذا احتاج عاله وأعانه. لم يكن يختار الشهرة لسد حاجيات المحتاج منهم، بل كان يتخذ الليل جملاً، يعطي المحتاج منهم ما استطاع إليه سبيلاً في ستر الظلام، حتى لا يطلع عليه أحد، ولا يفتأ يقول للجميع: إذا سمع أحد منكم شخصاً يقول فيّ سوءاً أو ينتقدني فلا تخبروني به، واحملوا كلامه على الحسن. لم يكن يرجح كفة أحد على آخر، بل كان ينظر إلى الناس بعين التساوي، ويحترم الجميع. في أحد أيام عاشوراء ذهب إلى أحد مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين×، ولما وصل إلى المكان وجده مكتظّاً بالناس، فلم يدخل إلى داخل المجلس، واكتفى بالجلوس في فنائه، فلما رآه صاحب البيت أصر عليه بالدخول إلى داخل البيت، فأجابه: إنه لا فرق، فالمهم أن يحضر المجلس، وأن يستمع إلى الخطيب، والتبرك يحصل بهذه الكيفية، كما يحصل بالدخول والجلوس أمام الخطيب.

ذات مرة وبمناسبة حلول ذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر×، وبينما الخطيب يقرأ المجلس أراد أن يقرأ شعراً في مدح السيد الصدر، لكن السيد رفض، وأصر عليه بأن يستمر في ذكر أهل البيت الكرام^. كان يستمع إلى سلام أو سؤال الناس عن قرب، ولم يكن يفرق بين الكبير أو الصغير منهم، الطالب منهم أو العامل، بل كان ينحني احتراماً وحباً للجميع من دون استثناء، وهذه هي أخلاق الأنبياء والقائد الحقيقي. الشباب المتعلم والمثقف كان يحظى بعناية خاصة لدى السيد، وكان يقرأ عليهم أحاديث نبوية وروايات أهل البيت^؛ لتوجيههم وإرشادهم إلى الطريق الصحيح. نقل بعض الطلبة أنه في فترة الشباب كان يذهب برفقة جمع من الطلبة إلى حرم أمير المؤمنين×، وفي يوم رأى أحد الطلبة السيد الشهيد داخلاً إلى الحرم الشريف؛ لإقامة صلاة الصبح، فتوجه إليه يريد سؤاله عن أمر أهمّه، فقابله السيد بابتسامته المعهودة، وحسن أخلاقه، وأخبره أن الوقت غير مناسب؛ لأن وقت الصلاة قد حان، ولا يجوز تأخيره. وفي اليوم التالي أتى السيد قبل موعد الصلاة بساعة، وتوجه إلى نفس الطالب، وقال له: لقد أتيتُ باكراً حتى أستمع إلى استفساراتك، وسرعان ما أحاط به جميع الطلبة، وجلس السيد إلى جانبهم يستمع إلى أسئلتهم واستفساراتهم برحابة صدر. يحكي أحد الطلبة أنه لما كان في سن الحادية عشرة من عمره كتب رسالة صغيرة في تعليم كيفية الصلاة في حدود 10 صفحات، وفكر في مَنْ يصحِّحها فلم يجد أفضل من السيد الصدر، لذا ذهب إلى مسجد الطوسي، حيث كان السيد يعطي درس البحث الخارج، فاستقبله السيد بكل احترام، وأخذ منه الكتيب، وبعد أيام أتى به مصحَّحاً إلى جانب حاشية، وقال له: إذا لم يستطع والدك القيام بطبعه فاْتِ به إليّ لأطبعه على نفقتي الخاصة.

لقد كان تعامله مع طلابه وتلامذته تعامل الأب الرحيم، وهذه شهادة الجميع فيه بدون استثناء، وكان يوقِّع على كتاباتهم باسم والدكم، ويقول: يسعدني أن يرضى الأبناء عن آبائهم، وأن يقدروا ما يقومون به اتجاههم.

وماذا عن الشهيدة المظلومة بنت الهدى؟! ــــــ

_ لو تتحدثين لنا عن الشهيدة الكريمة بنت الهدى.

^ بنت الهدى اسمها الحقيقي آمنة، تعلَّمت القراءة والكتابة في البيت، دون أن تذهب إلى المدرسة، وأخذت دروس المنطق، والفقه، والأصول، وبقية المعارف والعلوم الإسلامية، على يدي أخيها السيد الشهيد في البيت.

لقد تربَّت وترعرعت في حضن أمٍّ عطوفة وحنونة، ذات أصل عريق، صابرة محتسبة، ووسط إخوة فضلاء علماء جليلي القدر. تلقت دروس مرحلة الابتدائي في المنزل، وكانت تطالع في أغلب أوقاتها الكتب الدينية، والأدبية، والتاريخية. وفي سن الثانية عشرة قامت بإخراج جريدة يومية في اثنتي عشرة صفحة تحت عنوان (المجتمع)، وقد كتبت في عادات وآداب وأنواع الألبسة والثقافات المختلفة، إلى جانب العبادات المختلفة، عند أقوام ومجتمعات متنوعة.

وبعد مدة غير طويلة بدأت بتدريس بعض الكتب العلمية والحوزوية، وفي آخر عمرها قامت بتدريس كتاب (شرائع الإسلام) للعلامة الحلي في بيتها، كما عهد إليها مسؤولية مدارس الزهراء÷ الدينية في الكاظمية والنجف الأشرف.

عرفت السيدة بنت الهدى بمنطقها الحلو، وروحيتها الجذابة، وقلبها الكبير الذي يسع الجميع، وأخلاقها الإسلامية. كانت إنسانة متواضعة، محبة للجميع. لقد عاشرتها لسنين تحت سقف واحد، ولم أرَ منها شيئاً يُعاب عليها أو تؤاخذ عليه. كان همّ الدين وإصلاح المجتمع حاضراً دائماً في فكرها وقلبها، وكانت تعمل بكل ما تستطيع، وفي جميع المناسبات، على نشر تعاليم أهل البيت الكرام^، وخصوصاً بين فئة الفتيان والفتيات، وكانت تقول دائماً: إن الإسلام غريب بيننا، والذين يهتمون لأمره ويحرق قلبهم غربته معدودون على رؤوس الأصابع، لذا فأنا أهب نفسي لخدمته، وسوف أستمر على ذلك إلى أن أحظى بالشهادة. وبعد أن أمر صدام بقتلها سأله بعضهم: لأي ذنب قتلت أخت السيد الصدر؟ فأجاب: إنني لن أسمح بتكرار حادثة كربلاء، فزينب بعد قتل أخيها الحسين عملت على فضح يزيد وآل أمية، وجعلت اللعنة تقتفي أثرهم إلى يوم القيامة. كان للشهيدة بنت الهدى الصدر عطاءات دينية وافرة، وكان تعمل على إرشاد وهداية المرأة العراقية، وخاصة الفتيات منهن، ولم ترَ في الإسلام إلا ذلك الدين الذي يقيم العدل، وينتصر للمستضعفين، إسلام العزة والكرامة. كانت تنتهج المنهج المعاصر في كتاباتها، وتحاول أن تتطابق كتاباتها مع هموم العصر، وأن تكون وفق تطلعات الشباب. لقد كانت أول امرأة شيعية تخوض هذا النوع من الجهاد ضد الظلم المادي والمعنوي. رواياتها القصصية إلهام حيٌّ وواقعي، يعكس المجتمع ولكنْ بمهارة وذوق رفيع. كان قلمها أدبياً مملوءاً بالحيوية، وقصصها لوحة فنان رسمتها بألوان هموم المجتمع وهموم الشباب. لم تكتب قصصها خالية من النكهة الدينية، بل كانت ترسم ملامح مبادئ العقيدة وفق نظرية دينية معاصرة، وتأخذ الواقع ومتطلباته وفق الاعتبار. كما أن الشباب والفئة العمرية الصغيرة تجد ضالتها وبغيتها في هذه الكتابات؛ لأنها تناقش مشاكلهم وبعض الجوانب الخفية في حياتهم. وعملت طوال حياتها المباركة على نزع النقاب عن روحية النظام الظالم، الذي كان يعمل حثيثاً على تدمير الرغبة الدينية في قلوب الشباب، وطمس أيّ حب للدين أو رغبة في العيش وفق مبادئه؛ لأنه كان يظهره بمظهر التخلف والهمجية، وأشكال أخرى تنفِّر القلوب، وتبعد عنه كل ذي ذوق سليم. لذا كان نظام البعث الصدامي يعمل على منع تلك الكتابات، ولكن هذا المنع لم يكن يستطيع الصمود أمام الرغبة الملحة للجماهير في قراءتها، والارتباط القلبي والفكري بها، فقد كانوا يهيئونها بأي شكل من الأشكال، وينشرونها بينهم، وإذا شعروا أو علموا أن أعوان صدام ومرتزقته سيهجمون على بيت أحدهم ويخضعونه للتفتيش كانوا يدفنون إلى جانب كتب السيد الصدر تلك الكتب تحت التراب في فناء البيت أو في حدائقه الصغيرة؛ حتى لا تقع في أيدي هؤلاء الظلمة. وقد طبعت مجموعة قصصها في مجلد تحت عنوان (القصص الكاملة). وإحدى مميزات تلك القصص أنها كانت تحوي آيات وأحاديث تنسجم وموضوعها، وبشكل يشدّ القارئ ويفيده في فهمها الواقعي. ومن كتبها الأخرى كتاب (ذكريات الحج)، وهو كتاب يتحدث عن سفر السيدة بنت الهدى إلى الحج، من لحظة دخولها مطار بغداد إلى لحظة رجوعها من الحج إلى بغداد مرة أخرى. وفي مجال الأدب والشعر لها مؤلفات متنوعة، ففي كتابها (ذكريات الحج) كتبت قصيدة طويلة، كما لها قصيدة أخرى في الصلاة ضمن كتابها (تعليم الصلاة طبق فتاوى السيد الشهيد الصدر&). لقد كانت توجيهاتها وإرشاداتها سبباً مباشراً في ارتداء العديد من النساء والفتيات الحجاب الشرعي، وتخلت العديد منهن عن حياة الترف والملذات الزائفة، لتتبع مرشداً ومرجعاً دينياً يقود الروح والنفس نحو كمالها، وكان نصيب العديد منهن، سواء قبل شهادتها أو بعدها، أن نلن وسام الشهادة وفزن فوزاً عظيماً. كان بيت السيد الصدر، حيث تعيش معه أخته بنت الهدى، مفتوحاً في شهر محرم لإقامة مجالس العزاء الحسينية، وكان منزلهما بالقرب من المشهد الشريف لحرم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×، كما كان كذلك مفتوحاً في ليالي القدر، حيث كانت تحضر العديد من النساء لإحياء تلك الليالي معها، ولأنها كانت تحت عيون أتباع النظام البعثي الظالم فقد كان النسوة يحضرن بشكل مخفيّ، وفي نهاية الإحياء كانت تقدم طعاماً للسحور. وإلى جانب مشاغلها الكثيرة كانت في خدمة والدتها، التي ترك الزمان وظلم صدام آثاره عليها. كانت ملاكاً يعيش في بيت يكنّ أفراده الحب لبعضهم البعض، وفوق علاقتها بأخيها السيد الصدر، التي كانت تتسم بالمحبة والصداقة، كانت تراه أستاذها ومعلمها ومرجعها، لذا كانت تناقش جميع المواضيع السياسية، والاجتماعية، وغيرها، مع أخيها، وتأخذ توجيهاته وتحليلاته وفق الاعتبار. تقدَّم العديد لخطبتها، ولكنها كانت ترى أن الدين يحتاج منها كل وقتها وكل قواها، وبسبب صغر سنها كانت تعلن عدم استعدادها الحاضر لبحث موضوع الزواج، وكانت تقول: القيام بمهام كلا الأمرين صعب؛ مهام الإسلام؛ ومهام الزواج. لذلك اختارت أن تبقى إلى جانب أخيها في خدمة الدين، ومقتدية بخطى أخيها، إلى أن لقيت الله شهيدة. ومن أنشطتها الأخرى أنها كانت تقيم حفل التكليف للفتيات اللواتي كُلِّفن حديثاً، وكانت تبين وتوضح لهنّ مسؤوليتهنّ الجديدة، وكانت تشرح لهنّ تكاليفهن الشرعية والاجتماعية، وكانت تشجعهن على التحلي بروح المقاومة، مقاومة الشر بكل ألوانه، وأن يجعلن فطرتهن تتحرك بعيداً عن كل ما من شأنه أن يحرفها عن حقيقتها أو يغمسها في الظلمات.

(*) من النساء المجاهدات الصابرات اللواتي خضن تجارب العمل الإسلامي، وعاشت مع السيد الصدر بإخلاص ومحبّة وتضحية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً