أحدث المقالات

الشيخ صفاء الدين الخزرجي (پيراسته)(*)

 

مقدّمة

ثمّة نظريّة تقول: إذا لم تستطع أن تقاوم فكراً أو تيّاراً ما فعليك أن تتلبس بذلك الفكر ظاهراً، وتتسلّل في ذلك التيّار لكي تنقضه من الداخل. وقد عمل الأمويّون (حزب الطلقاء وأبنائهم) بهذا المبدأ حين عجزوا عن مواجهة الإسلام في الظاهر، وآل أمرهم إلى الاستسلام، فأعلنوا الإسلام؛ ليحقنوا به دماءهم، علماً منهم بأن الإسلام يكتفي بإظهار الشهادتين لحصانة المسلم من التعرّض لدمه وماله وعرضه، فأعلنوا الشهادتين اللّتين طالما حاربوهما في العلن؛ لكي يفرغوهما من محتواهما في السرّ، عندما تسمح الفرصة بذلك بموت الرسول|. وهذا ما تحقّق عندما تولّى معاوية الأمر أميراً، ثم خليفة، مدّة أربعين عاماً، حيث وجد الأرضيّة مناسبة بعد إقصاء الخلافة عن أهلها الحقيقيّين من آل الرسول| لتنفيذ مخطّطه الرامي إلى اختراق المنظومة الفكريّة للإسلام، ونقضها عروة عروة ـ ولا سيما في ما يتعلّق منها بالجانب السياسيّ والحكوميّ، الذي يعتبر الأساس لقيام الدين ونشره أو الانقضاض عليه ودثره في آنٍ واحد ـ، ثم استبدالها بمنظومة مزيّفة تحمل اسم الإسلام دون جوهره.

أجل، لقد شكّل تغيير المنظومة السياسيّة للإسلام عند معاوية والأمويّين بشكلٍ عامّ أولوية تراتبت عليها أولويات أخرى للتغيير في المنظومتين العقدية والتشريعيّة للإسلام. وأهمّ الخطوات التي قام بها في تغيير المنظومة السياسيّة هي:

1ـ الاستمرار في مخطّط إقصاء الخلافة عن آل البيت^، الذي بدأ قبل معاوية، ووجده معاوية فرصة ذهبية؛ لاعتباره أساساً يبني عليه باقي أجزاء مخططه، وقد استطاع تنفيذ هذا من خلال خطوتين:

الأولى: سياسة إفراغ معسكر الإمام الحسن× من الأنصار، ومن ثم إلجاؤه× لقبول الصلح معه، ثم الانقلاب على معاهدة الصلح كلياً.

الثانية: أخذ البيعة لابنه يزيد وهو في حياته؛ ليحول بذلك دون وصول الخلافة إلى الحسين×.

2ـ ابتداع منهج جديد في اختيار الخليفة لم يكن معمولاً به، ألا وهو توريث الخلافة.

3ـ إسقاط شرط العدالة والصلاح والاجتهاد، التي كانت تؤخذ بنظر الاعتبار في تعيين الخليفة.

4ـ العمل على اختلاق أُطر فكريّة وفقهيّة وعقدية تعتبر غطاء شرعيّاً للخطوات السابقة. ومن هذه الأطر الفكريّة والفقهيّة والعقدية الدخيلة على المنظومة الأصليّة للإسلام ما يلي:

أـ ترويج عقيدة الجبر ـ التي كانت سابقاً في العهد الجاهليّ ـ؛ للتغطية على جرائم الخليفة ومخالفاته.

ب ـ ترويج أن خلافتهم هي اختيار وتفويض من الله سبحانه، ليس لأحد مخالفته والخروج عليه.

ج ـ اختلاق عقيدة الإرجاء؛ لإبعاد الحاكم أو الخليفة عن مبدأ الرقابة والمحاسبة.

د ـ إعطاء المشروعية لحكم الحاكم الجائر ما دام يقيم الصلاة، ولم يعلن الكفر البواح الصريح. وبذلك أسقط شرطية العدالة من ولاية الأمر، كما أسقط العلم والاجتهاد منها بتوليته يزيد.

وقد حشد لكلّ واحد من هذه المبادئ والأفكار عشرات الروايات المختلقة من السنّة، وعشرات الآيات المختلق تفسيرها، وبثّها في تراث المسلمين بأسانيد باطلة ومزيّفة، نسبها إلى الصحابة والتابعين، وهم براءٌ منها.

وكان من جملة هذا التراث الروائيّ والفقهيّ المزيَّف نظريّة حرمة الخروج على الحاكم الجائر، المناقضة لصريح الكتاب، والسنّة الثابتة، وحكم العقل القطعيّ. ولذا فإنّ هذه النظريّة هي من إفرازات الفكر الأمويّ، أو ما يسمّى بـ «الإسلام السلطاني».

لكنّ حبل الكذب قصيرٌ كما يقال، وكما قال الله تعالى في كتابه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(العنكبوت: 41)، فإنّ مَنْ يقوم بتزييف الحقائق، وإلباس الباطل لباس الحقّ، إنّما يبني أمره على شفا جرف هارٍ، وهو كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، فلابدّ أن يفتضح أمره وتظهر حقيقته في يومٍ من الأيّام، وإنْ طال الزمان؛ لأنّه ليس من سنن هذا الكون ضياع الحقائق واندثارها إلى الأبد، بل لابدّ أن تظهر بعد غياب، وأن تسفر بعد استتار، فالحقّ طبعه الظهور مهما غلب عليه الباطل. وعليه فإنّ مَنْ حذف حقيقة كبرى، كحقيقة الإمامة، من الدين، وأقام محلّها مزاعم زائفة تبرّر الحكم لجماعة بأدلة واهية وحجج مختلقة، كالإجماع ونحوه، ثم طفق يبرّر لمَنْ أعقب هؤلاء من الجيل الثاني من الحكّام، ونعتهم بولاة الأمر، وأنّ مَنْ خرج عليهم فقد فارق الجماعة، واصطنع لهم حصانة دينيّة، عبر جملة من النصوص الملفَّقة والمزوّرة، لابدّ أن يفتضح أمره وتسقط أقنعته، وها هي أقنعته قد تهاوت بسقوط أعظم نظريّة برّرت للظلم ونظّرت له طوال ألف عام أو يزيد، خدّرت من خلالها الأمة، وجمّدت قرارها، وشلّت طاقاتها، وأوصلتها إلى القعر، ألا وهي نظريّة (حرمة الخروج على الحاكم الجائر).

أجل، لقد أدركت الأمة بفطرتها اليوم سقم هذه النظريّة، وانحرافها عن الفطرة السليمة والعقل الحصيف، فثارت على الواقع الفاسد، وأطاحت بهذه النظريّة المزيَّفة، المخالفة للكتاب والسنّة والعقل.

ورغم تجاوز الأمّة لهذه النظريّة عمليّاً، إلاّ أنّ ثمّة مَنْ يناور ويدافع عنها اليوم من فقهاء السلاطين في بعض البلاد، كمجلس العلماء في اليمن، وبعض المفتين والدعاة في الحجاز، وغيرهما.

وهذا المقال يعالج مشروعية حكومة الجائر، وإشكالية الخروج عليها، مع بيان الجذور الروائيّة والفقهيّة للنظريّة المذكورة، وطرح الرؤية الحقيقيّة للإسلام حول مشروعيّة الحاكم الجائر.

نرجو أن تكتشف الأمة في يوم من الأيام أيضاً زيف الأسس التي قامت عليها هذه النظريّة، أعني بذلك المشروع البديل لمشروع الإمامة الإلهيّة، وهو (مشروع الخلافة)، ذلك المشروع الذي خدعوا به الأمّة قروناً، وسوّقوه في عقولهم وأفكارهم، وبنوا عليه مثل هذه البناءات الفكريّة الفاسدة، كنظريّة حرمة الخروج على الجائر. ولذا لا نجد محلاًّ لمثل هذه البناءات والأطر الفكريّة الفاسدة في مذهب أهل البيت^، ذلك المذهب القائم على نظام الإمامة الإلهيّة، الذي يشترط العصمة في الإمام أو العدالة في مَنْ يخلفه. ولذا فإنّه كان من الطبيعيّ أن لا ترى للجائر موضعاً في هذه النظريّة البتّة، وشتّان ما بين الرؤيتين!

لكن من المؤسف حقّاً أن تحسب هذه النظريّة على الإسلام، كما زعم بعض الباحثين من المستشرقين، يقول الأستاذ أرنولد: «فالنظريّة السياسيّة (أي الإسلاميّة) يبدو أنها تفيد أنّ كل سلطة دنيويّة إنّما هي بتعيين من الله، وأن واجب الرعية أن تطيع، سواء أكان الحاكم عادلاً أو ظالماً؛ لأنه مسؤول فقط أمام الله».

ويقول الأستاذ موير: «إن المثال والنموذج للحاكم الإسلاميّ هو الحاكم المطلق المستبدّ»([1]).

 

أوّلاً: تحديد المصطلحات

قبل كلّ شيء لابدّ من دراسة مصطلحات البحث، وتحديد مداليلها بشكل دقيق، حتّى يتضح الحكم في المسألة. والمصطلحات الواردة في البحث هي:

 

1ـ الإمامة الكبرى، أو ولاية الأمر

عرّفوا الإمامة بما يلي:

قال الماوردي: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»([2]).

وقال الأيجي: «خلافة الرسول في إقامة الدين، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة»([3]).

 

2ـ الخروج على الحاكم

المراد بالخروج في اصطلاح الفقهاء هو الخروج بالسيف والسلاح، لا مجرد الاعتراض السلمي، فإنْ كان الحاكم عادلاً كان الخروج عليه بالسلاح بغياً، وله أحكامه الخاصّة به، وإنْ كان جائراً فلا يصدق عليه البغي.

وعلى هذا الأساس لا يصدق على المظاهرات والاحتجاجات السلمية ضد الحاكم أنّها خروجٌ عليه ـ حسب الاصطلاح الفقهيّ ـ، سواء كان الحاكم عادلاً أو جائراً.

 

3ـ الحاكم

تترادف ألفاظ الحاكم والإمام ووليّ الأمر والوالي والسلطان، لتعطي معنى اصطلاحيّاً واحداً، وهو مَنْ يخلف النبيّ| ويقوم مقامه وينوب عنه، كما تقدم توضيحه في بيان معنى الإمامة. ولفظ الحاكم بهذا الإطلاق يُراد به خصوص العادل منه، دون الجائر، وهذا ما يعرف من خلال القرينة.

 

4ـ الحاكم الجائر

الحاكم الجائر هو كلّ مَنْ وصل إلى سدّة الحكم من غير الطرق المقرَّرة شرعاً لدى الفريقين، وهي عند الجمهور الطرق الثلاثة التي ستُذكر لاحقاً، وكذلك مَنْ وصل عن طريقها، ثم عدل عن طريقة العدل إلى الجور.

 

ثانياً: الجذور الروائيّة للنظريّة

وردت أصول هذه النظريّة في مصادر الحديث لدى الجمهور في الصحاح قطعيّة الصدور عندهم، كما وردت في المصادر الثانويّة أيضاً، الأمر الذي ولّد قناعة فقهيّة وفكريّة على مستوى المضمون. وفي ما يلي إشارة إلى نماذج من النصوص الواردة في هذا المجال، لكنْ قبل ذلك لابدّ من الإشارة إلى أن الروايات الواردة في مسألة الخروج على الجائر متعارضة؛ فطائفة تجيز؛ وأخرى تمنع، فهي على قسمين، ونحن نشير إلى كلا القسمين:

 

القسم الأوّل: الروايات المانعة

وهي أيضاً على ضربين أيضاً:

1ـ الروايات المطلقة في المنع، سواء كان الإمام عادلاً أو جائراً.

2ـ الروايات المقيّدة بولاة الجور خاصّة.

 

1ـ الروايات المطلقة

أـ صحيح البخاري([4])

1ـ ابن عبّاس عن النبي| قال: «مَنْ رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه مَنْ فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهليّة».

2ـ عبادة بن الصامت قال: «دعانا رسول الله| فبايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وإثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلاّ أن ترَوْا كفراً بواحاً».

 

ب ـ صحيح مسلم([5])

3ـ عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتِكَ لأجلس، أتيتُك لأحدّثك حديثاً سمعت رسول الله| يقوله، سمعت رسول الله| يقول: «مَنْ خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومَنْ مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة».

4ـ وعن عرفجة قال: سمعت رسول الله| يقول: «إنّه ستكون هنات وهنات، فمَنْ أراد أن يفرق أمر هذه الأمّة وهي جميعٌ فاضربوه بالسيف، كائناً مَنْ كان».

5ـ عبد الله بن عمر بن العاص، عن النبيّ| قال: «مَنْ بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إنْ استطاع، فإنْ جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».

6ـ وعن حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله| عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله: إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنّون بغير سنّتي ويهدون بغير هداي، تعرف منهم وتنكر، فقلتُ: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلتُ: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم».

7ـ وعن حذيفة بن اليمان أيضاً قال: قلت: «يا رسول الله، إنّا كنّا بشرّ، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال: نعم، قلتُ: هل وراء ذلك الشرّ خير؟ قال: نعم، قلتُ: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلتُ: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإنْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطِعْ».

8 ـ وعن أبي هريرة، عن النبي| أنه قال: «مَنْ خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة، ومَنْ قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهليّة، ومَنْ خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يتحاشَ من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهده فليس منّي ولستُ منه».

وهناك مصادر أخرى لهذه الروايات في السنن والمسانيد، فراجع.

 

2ـ الروايات المقيّدة بالجائر

أـ صحيح مسلم([6])

1ـ عن أمّ سلمة أنّ رسول الله| قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمَنْ عرف برئ، ومَنْ أنكر سلم، ولكن مَنْ رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا».

2ـ وعن عوف بن مالك، عن رسول الله| قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف، فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة».

3ـ وسأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله| فقال: «يا نبيّ الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس وقال: اسمعوا وأطيعوا؛ فإنّما عليهم ما حمّلوا، وعليكم ما حمّلتم. وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا شبابة: حدثنا شعبة، عن سماك، بهذا الإسناد، مثله، وقال: فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله|: اسمعوا وأطيعوا؛ فإنّما عليهم ما حمّلوا، وعليكم ما حمّلتم».

4ـ وعن حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله| عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني، فقلتُ يا رسول الله: إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: نعم، فقلتُ: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنّون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: نعم، قومٌ من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلتُ: يا رسول الله، فما ترى إنْ أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم».

5ـ وعن حذيفة بن اليمان أيضاً قال: «يا رسول الله إنّا كنّا بشرّ، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشرّ خير؟ قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدى أئمّة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطِعْ».

 

القسم الثاني: الأحاديث الآمرة بالخروج على الجائر

أـ صحيح البخاري([7])

1ـ نافع، عن عبد الله,، عن النبيّ| قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

2ـ عليّ, قال: «بعث النبي| سرية، وأمّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي| أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطباً، وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً، فأوقدوا، فلمّا همّوا بالدخول، قام ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنّما تبعنا النبي| فراراً من النار، أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي|، فقال: لو دخولها ما خرجوا منها أبداً، إنّما الطاعة في المعروف».

 

ب ـ سنن أبي داوود([8])

3ـ روى أبو داوود عن خالد، عن النبي| قال: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب».

4ـ وروى أيضاً من حديث ابن مسعود عنه| قال: «والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنّه على الحقّ أطْراً، ولتقصرنّه على الحقّ قصراً».

 

ج ـ مجمع الزوائد([9])

5ـ وعن معاذ بن جبل قال: «سمعت رسول الله| يقول: خذوا العطاء ما دام العطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه بمنعكم الفقر والحاجة. ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإذا عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلّوكم. قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم، نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب، موتٌ في طاعة الله خيرٌ من حياة في معصية الله».

قال الهيثمي بعد هذا الحديث: رواه الطبراني، ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ، والوضين بن عطاء وثّقه ابن حبّان وغيره، وبقيّة رجاله ثقات.

6ـ وعن ثوبان قال: قال رسول الله| «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا لم يفعلوا فضعوا سيوفكم على عواتقكم، فأبيدوا [فانبذوا] خضراءهم، فإنْ لم تفعلوا فكونوا حينئذ زرّاعين أشقياء، تأكلون من كدّ أيديكم».

قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجال الصغير ثقات.

 

الأقوال في ولاية الحاكم الجائر

الحاكم الجائر هو كلّ مَنْ استولى على الحكم من غير الطرق المعهودة شرعاً ـ عند الجمهور ـ، وهي: البيعة، أو الاستخلاف، وقيل: التغلّب بالقوّة أيضاً([10])، فإنّ ولايته غير شرعيّة وغير ملزمة لأحد، لكن بالرغم من ذلك فهل تجب طاعته أو لا؟ قد يبدو هذا السؤال غريباً، ولكن بالوقوف على الأقوال في المسألة، والتي منها القول بوجوب طاعته، يرتفع الاستغراب في المقام. وأمّا الأقوال فهي ما يلي:

 

القول الأوّل: وجوب طاعته وحرمة الخروج عليه

ذهب إلى هذا القول أئمّة المذاهب، عدا أبي حنيفة([11]). قال الشيخ أبو زهرة: «وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السنّة: مالك، والشافعي، وأحمد»([12]). ونسبه الزرقاني إلى عموم أهل السنّة([13]).

وقال النووي: «وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته. وأجمع أهل السنّة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكي عن المعتزلة أيضاً، فغلط من قائله، مخالفٌ للإجماع. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتَّب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه. قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها. قال: وكذلك عند جمهورهم البدعة. قال: وقال بعض البصريين: تنعقد له وتستدام له؛ لأنه متأوِّل. قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب أمام عادل إنْ أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع، إلاّ إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحقَّقوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه. قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداءً، فلو طرأ على الخليفة فسقٌ قال بعضهم: يجب خلعه، إلاّ أن تترتَّب عليه فتنة وحرب. وقال جماهير أهل السنّة، من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك. قال القاضي: وقد ادَّعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد ردّ عليه بعضهم هذا بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأوّل على الحجّاج مع ابن الأشعث»([14]).

وقال القاضي الباقلاني في باب ذكر ما يوجب خلع الإمام، وسقوط فرض طاعة الجائر ما ملخّصه: «قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه، بغصب الأموال، وضرب الإبشار، وتناول النفوس المحرَّمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيءٍ ممّا يدعو إليه من معاصي الله، واحتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبيّ| وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإنْ جاروا واستأثروا بالأموال، وأنه قال×: اسمعوا وأطيعوا ولو لعبدٍ أجدع، ولو لعبدٍ حبشيّ، وصلّوا وراء كلّ برّ وفاجر. وروي أنه قال: أطعهم، وإنْ أكلوا مالك، وضربوا ظهرك»([15]).

وقال الفرّاء: «قد روى الإمام أحمد ألفاظاً تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال: ومَنْ غلبهم بالسيف حتّى صار خليفة، وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين»([16]).

وقال الشيخ أبو زهرة: «ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل أنّه قال بلزوم الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه، عدلٍ أو جور، ولا يخرج على الأُمراء بالسيف، وإنْ جاروا»([17]).

وقال القلقشندي: «إنْ لم يكن الخليفة المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة ـ بأنْ كان فاسقاً أو جاهلاً ـ فوجهان لأصحابنا الشافعيّة، أصحّها انعقاد إمامته أيضاً»([18]).

وقال الزرقاني: «أمّا أهل السنّة فقالوا: الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عادلاً محسناً، فإنْ لم يكنْ فالصبر على طاعة الجائر أَوْلى من الخروج عليه؛ لما فيه من استبدال الخوف بالأمن، وإهراق الدماء، وشنّ الغارات، والفساد، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه»([19]).

ويمكن الاستدلال على هذا القول بما يلي:

الدليل الأوّل: الروايات السابقة الناهية عن الخروج على الجائر، والتي توجب طاعته.

والجواب عن ذلك: أوّلاً: إنّ الخلل موجودٌ أساساً في طريقة الاستدلال والاستنتاج من هذه النصوص؛ وذلك لوجود المعارض المكافئ لها سنداً، الصريح دلالة، وهو عبارة عن النصوص من القسم الثاني، الدالّة على جواز الخروج على الجائر. فكان اللازم في البدء معالجة التعارض الواقع بين هاتين الطائفتين من النصوص، وحينئذ إمّا تنتهي النتيجة إلى الجمع بينهما، أو إلى الترجيح لأحدهما، أو التساقط. وعليه فليس من الصحيح اجتزاء بعض النصوص، وترجيح إحدى الطائفتين، قبل حلّ التعارض، كما يقتضيه المنهج العلميّ. فإذاً النصوص التي تعلّق بها أصحاب هذا القول معارضة بنصوص أخرى مكافئة لها سنداً ودلالة.

وثانياً: إنها معارضة أيضاً بجملة من الآيات، مثل: ما ورد من الآيات القرآنيّة الناهية عن الركون إلى الظالمين، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(هود: 113)، وكذلك عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران: 105).

وثالثاً: معارضة هذه النصوص لمقاصد الدين العامّة، وروح الشريعة الغرّاء، الداعية إلى إقامة العدل والقسط، وإلى تحكيم الدين والشرع في حياة الناس، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد: 25)، فكيف يعقل للدين، الذي جاء من أجل محاربة الظلم والتعسّف والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن ينظّر ويؤسِّس ـ تحت ذريعة أدلّة واهية ـ للظلم والفساد، بإقراره حكومة الحاكم الجائر؟ أليس هذا نقضاً للغرض الذي لا يفعله الحكيم؟! أليس هذا تقنيناً وتشريعاً للظلم؟ أليس معنى هذا أن الدين يمحق نفسه بنفسه عن طريق إعطاء الشرعيّة لمَنْ يمحقه، وهو الظالم؟ كيف يوافق هذا الدين، الذي لم يقبل ولا في واحد من تشريعاته الكثيرة الظلم، لا على المستوى الفرديّ ولا على المستوى الاجتماعيّ، على هذه المساحة الواسعة من الظلم في المجتمع الإسلاميّ بعرضه العريض؟ الإسلام الذي لم يقبل ظلم الزوج لزوجته، وأعطاها الحقّ في رفع أمرها إلى الحاكم، حتّى لو أدّى إلى الطلاق وتفكيك الأُسرة، ولم يأمر المرأة بالصبر على ظلم الزوج للحفاظ على وحدة الأسرة، كيف يأمر هذه الأسرة الكبيرة، التي تسمى بالأمة، أن تصبر على ظلم ولاتها؛ حفاظاً على الأمن والنفوس والنظام العامّ؟ وكأنّ النفوس والأموال والأعراض والمقدرات آمنة بوجود حكّام الجور، وهم الذين باعوا البلاد والعباد للأجانب، وفتحوا لأعداء الدين القواعد العسكريّة وأبواب السفارات، وأبرموا معهم معاهدات الخيانة والذلّ، ولا زالوا يبيعون البلاد والعباد بأخسّ الأثمان للأجنبي، وهم لا يملكون لأنفسهم وبلادهم حولاً ولا قوّة أمام إرادة الأجنبي، فأيّ مصلحة في الصبر على جورهم بعد كلّ هذا؟!

قد يُقال: أليس اجتماع الأمة ووحدتها من مقاصد الشرع والدين، فإذا استلزم ذلك كيف جاز الخروج؟!

ويُقال: صحيحٌ، ولكنْ قد اشترطنا تهيئة الظروف، التي منها اجتماع الأمّة على خلع الجائر، وإلاّ فلابدّ من العمل على تهيئة ذلك.

ورابعاً: إنّ في القبول بولاية الجائر نقضاً لكلّ ما ذكروه في تعريف الخلافة بأنها نيابة عن النبي| لحراسة الدين، فأيّة حراسة من قبل الجائر للدين، وهو يبطش بالدين وأهله؟!

الدليل الثاني: ما تقدّمت الإشارة إليه في بعض الكلمات، من التزاحم بين مفسدتين، ومن ثمّ تغليب مفسدة بقاء الجائر وظلمه وتعسفه على مفسدة استبدال الخوف بالأمن، وإهراق الدماء، وشنّ الغارات، والفساد.

والجواب عليه: أوّلاً: إنه على فرض إرجاع المسألة إلى باب التزاحم، أو ما يسمى بفقه الأولويات والمآلات، فلماذا نغلّب مسبقاً مفسدة بقاء الجائر وظلمه وتعسفه على مفسدة استبدال الخوف بالأمن وإهراق الدماء وشنّ الغارات والفساد؟ فقد يكون العكس صحيحاً، كما لو كان الخارجون أكثر عدّة وعدداً، وكان الجائر ضعيفاً، وعليه فلابدّ من تقييد حكم الخروج وعدمه بملاحظة المفسدة والمصلحة في كلٍّ منهما، لا إطلاق الحكم بالمنع، كما يرى المانعون من الخروج. هذا مضافاً إلى عدم التسليم بتعميم هذه الدعوى؛ إذ قد يتم التغيير بأيسر التضحيات والخسائر، كما تم في الثورة التونسية والمصرية المعاصرتين، من دون شنّ الغارات، ولا هذه التهويلات، كما يحاول أصحاب هذا الرأي بثّه.

وثانياً: إنّ من الضروريات الدينيّة المعلومة بالبداهة وجوب إقامة الدين وحفظه، وأنّ حفظه مقدَّم على حفظ جميع المقدّسات والنواميس الأخرى، التي هي: النفس والعقل، والمال، والعرض. ومعلومٌ أن الجائر لا يقيم الدين، بل يهدمه ويحاربه بأساليب متعدّدة، مثل: نشر الآراء والمذاهب والأفكار المنحرفة والهدّامة في المجتمع الإسلاميّ؛ لسلبه العقيدة الحقّة من الناحية النظريّة على المستوى النظريّ، ثم ترويج الانحراف الأخلاقيّ والسلوكيّ، وقبول سلطة الأجانب، والارتباط بهم، وتنفيذ مخططاتهم، والعمل على خلاف مقتضيات مصالح الشعوب الإسلاميّة، وإفقار الأمة مادّيّاً ومعنويّاً على المستوى العمليّ، كما هو واقع الشعوب الإسلاميّة اليوم، وعليه فكيف تقدّم مصلحة إبقاء الجائر حتّى لو دثر الدين وحاربه على مصلحة الخروج عليه لو استلزم بعض التضحيات بالنفوس والأموال وشبهها؟! فهل حرمة النفوس والأموال أغلى من حرمة الدين؟! لو كان الأمر كذلك لما شُرّع أصل الجهاد والدفاع، ولما عرّض الرسول| وآله الميامين وصحبه الكرام أنفسهم لخطر القتل في الجهاد مع الكفار، وقتال البغاة، كما قام به أمير المؤمنين×.

إذاً لو أدخلنا المسألة في باب التزاحم، أو ما يطلق عليه بـ «فقه الأولويات والمآلات»، فلا شك في تقديم مصلحة إقامة الدين والعدل على مصلحة حفظ النفس والأمن مع وجود الحاكم الجائر، شريطة تهيئة الظروف الموضوعيّة والخارجيّة لمثل هذا الخروج، وإلاّ فلابدّ من العمل على إعداد الأمور لذلك، وعدم اتخاذ فقدان الظروف الموضوعيّة والخارجيّة ذريعةً لسقوط التكليف عن الأمّة، ولا مفسدة أعظم من تعطيل الدين، ولا مصلحة أهمّ من مصلحة إقامة الدين مع تهيئة الظروف.

القول الثاني: عدم وجوب طاعته، ووجوب خلعه

وقد ذهب إلى هذا القول جملةٌ من الفقهاء الجمهور. قال ابن حزم الأندلسي: «والواجب إن وقع شيء من الجور، وإنْ قلَّ، أن يكلّم الإمام في ذلك، ويمنع منه؛ فإن امتنع وراجع الحقّ وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حدّ الزنا والقذف والخمر، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمامٌ كما كان، لا يحلّ خلعه؛ فإن امتنع من نفاذ شيء من هذه الواجبات عليه، ولم يراجع، وجب خلعه، وإقامة غيره ممَّن يقوم بالحق»([20]). وقال في موضع آخر، موضِّحاً حدود الطاعة: «فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسُنّة رسول الله، فإنْ زاغ عن شيء منهما منع من ذلك، وأُقيم عليه الحدّ والحقّ، فإنْ لم يؤمن أذاه إلاّ بخلعه خلع، وولّي غيره»([21]).

وقال البغدادي: «ومتى زاغ عن ذلك كانت الأُمة عياراً [مختاراً] عليه في العدول به من خطئه إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره»([22]).

وقال الماوردي: «الذي يتغيَّر به حاله ـ أي حال الإمام ـ، فيخرج به عن الإمامة، شيئان: أحدهما: خروج في عدالته؛ والثاني: نقص في بدنه»([23]).

وقال أيضاً: «وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمّة فقد أدّى حقّ الله تعالى في ما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقّان: الطاعة؛ والنصرة، ما لم يتغيَّر حاله»([24]).

وقال الرازي في تفسير آية الطاعة لأُولي الأمر: «إنّ الأُمة مجمعةٌ على أن الأمراء والسلاطين إنّما يجب طاعتهم في ما علم بالدليل أنّه حقّ وصواب»([25]).

أقول: دعواه الإجماع على عهدته؛ قد تقدّم ذهاب المشهور من أهل السنّة إلى وجوب طاعة ولاة الجور.

وقال الزمخشري: «إن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم»([26]).

وقال الطبري: «إن الأمر بذلك ـ أي بطاعة الحاكم ـ في ما كان لله طاعة، وللمسلمين مصلحة»([27]).

وقال البيضاوي: «أمر الناس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل؛ تنبيهاً على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحقّ»([28]).

وقال الشهرستاني: «إن ظهر بعد ذلك ـ أي من الإمام ـ جهلٌ أو جور أو ضلال أو كفر انخلع منها، أو خلعناه»([29]).

وقال الرازي: «إنّ الظالمين غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى، وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمّة في الدين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق»([30]).

وقال الغزالي: «إنّ السلطان الظالم عليه أن يكفّ عن ولايته، وهو إمّا معزول، أو واجب العزل… وهو على التحقيق ليس بسلطان»([31]).

وقال الأيجي: «وللأمّة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه». وقد شرح هذه العبارة صاحب شرح المواقف بقوله: «مثل أن يوجد ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها»([32]).

وقد استدلّ على هذا الرأي بما يلي:

 

1ـ الكتاب العزيز

مثل: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾(الشعراء: 151ـ 152)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾(الكهف: 28)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(هود: 113). والركون هو: «الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء، والرضا به. قال قتادة: معناه لا تودّوهم، ولا تطيعوهم»([33]) وقال الجصّاص: «الركون إلى الشيء هو السكون والأنس والمحبة، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين، ومؤانستهم، والإنصات إليهم»([34]).

وأيضاً قوله تعالى، واصفاً حال المعذبين في الآخرة بسبب طاعتهم الحكام في المعصية: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾(الأحزاب: 67ـ 68)، وقوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ﴾(البقرة: 166ـ 167)، وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الأنفال: 25). وقد نقل القرطبي تفسيراً عن ابن عباس لهذه الآية الكريمة: «أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم العذاب»([35]).

وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(الممتحنة: 12). وقد فسّر العلماء قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ بقولهم: «التقييد بالمعروف مع أنّ الرسول| لا يأمر إلاّ به؛ للتنبيه على أنّه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق»([36]).

 

2ـ السُنّة الشريفة

وهي مجموعتان من الروايات:

الأولى: الروايات الناهية بعمومها عن طاعة المخلوق ـ سواء كان حاكماً أو غيره ـ في معصية الخالق، مثل: قوله|: «السمع والطاعة حقّ ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»([37]) وقوله|: «إنّما الطاعة في المعروف»([38])، وقوله أيضاً: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([39]).

الثانية: الروايات الخاصّة الناهية عن طاعة الحاكم الجائر، وهي القسم الثاني من الروايات التي نقلناها أول البحث، مثل: ما رواه أبو داوود عن خالد، عن النبي| أنّه قال: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب»، وما رواه أيضاً من حديث ابن مسعود، عنه| أنّه قال: «والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطْراً، ولتقصرنه على الحقّ قصراً»([40]).

وقد روي عن أبي بكر ـ بناءً على حجّيّة قول الصحابي ـ قوله: «أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله فيكم، فإنْ عصيتُ فلا طاعة لي عليكم»([41]).

وعنه أيضاً قال: سمعتُ رسول الله| يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقابٍ منه»([42]).

وذهب عمر إلى أبعد من ذلك، حيث أجاز قتل الحاكم الظالم، في خطبته التي ورد فيها: «لوددتُ أنّي وإيّاكم في سفينة في لجّة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولّوا رجلاً منهم، فإنْ استقام اتَّبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلتَ: وإن تعوَّج عزلوه؟ قال: لا، القتل أنكل لمَنْ بعده»([43]).

إنْ قلتَ: هذه الروايات معارضة بالروايات الناهية عن الخروج على الجائر، فلابدّ من علاج التعارض.

قلتُ: نعم، يقع التعارض في مقامين:

الأوّل: الروايات الناهية عن شقّ عصا الأمة ومفارقة الجماعة، المروية عند الفريقين، وهنا لابدّ من تقييد إطلاقها؛ طبقاً لقواعد الجمع العرفيّ، بالروايات الدالّة على جواز الخروج، المؤيّدة بعمومات الآيات السابقة الناهية عن الركون إلى الظلم، وعمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا داعي لحمل الروايات الناهية عن شقّ عصا الأمة ومفارقة الجماعة على التقية، كما ذكره السيّد الأستاذ([44]).

الثاني: الروايات الناصّة على حرمة الخروج على الجائر. والتعارض بينها وبين ما دلّ على جواز الخروج محكَّم ومستقرّ، ولا يمكن الجمع العرفيّ، فتصل النوبة إلى المرجّحات، وهي ترجّح الثانية؛ لوجود المرجِّح، من الكتاب وحكم العقل ومقاصد الشرع والمخالفة لفتوى الجمهور.

وأمّا الأدلة الخاصّة التي يمكن الاستدلال بها في فقه الإماميّة على جواز الخروج على الجائر فننقل منها ما أورده أحد الفقهاء المعاصرين من أساتذتنا([45])، وهي عبارة عن أربعة وجوه:

الوجه الأوّل: «عمل الإمام الحسين×، الذي خرج على طاغية زمانه، الذي كان يحكم باسم خلافة رسول الله| وباسم الإسلام.

وقد يقال: إن هذا فعل، وليس قولاً؛ كي يمكن التمسُّك بإطلاقه. والفعل يحتمل حمله على فرضيّة خاصّة كانت وقتئذٍ، وهي أن خلافة بني أُمية وخلافة يزيد بالذات كانت في طريق محو الإسلام نهائيّاً، وحينما تكون الحكومة هكذا فالخروج بقصد الحفاظ على بيضة الإسلام مع الإمكان لا إشكال في جوازه، بل وجوبه.

فالحكومة المنحرفة على قسمين: إذ قد تكون على شكل يخاف منها على بيضة الإسلام؛ لإنّ الحكم كافر، وإنْ كان الحكّام مسلمين، أو لأنها تهدف إلى محو الإسلام باسم الإسلام؛ وقد لا تكون على هذا المستوى من الخطورة.

ففي القسم الأوّل لا إشكال ـ بضرورة الفقه ـ في مشروعية الدفاع عن بيضة الإسلام، وإنّما الكلام في القسم الثاني».

أقول: يمكن ذكر ملاحظتين على هذا الوجه:

الملاحظة الأولى: إذا انحصر الكلام بصورة الخوف على بيضة المسلمين فلا موضوعيّة حينئذٍ للاستدلال بفعل الإمام×؛ وذلك لكون جواز الخروج ثابتاً بضرورة الفقه، كما اعترف به المستدلّ نفسه، فيكون المدار على حفظ بيضة الإسلام، لا فعل الإمام×، فيكون ما ذكرناه تعديلاً لصيغة الدليل، وصالحاً للاستدلال به عند الجميع، غير مختصّ بالإماميّة.

الملاحظة الثانية: المناقشة في حصر الاستناد إلى فعل الإمام× الذي لا إطلاق له؛ وذلك لإمكان الاستناد إلى أقوال الإمام× في المقام، التي يمكن التمسُّك بإطلاقها لكلا الصورتين معاً: الخوف على بيضة الإسلام؛ وعدمها، مثل: قوله×: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي رسول الله، ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»([46])، وقوله: «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»([47])، فإنّ هذه الأقوال ونحوها مطلقة.

الوجه الثاني: «رواية عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله×. وهي تامّة سنداً. وهي واردةٌ في صدد منعه× لشيعته عن الخروج مع الدعاة إلى الخروج في ذاك الزمان، وبيان أنه لا يمكن قياس هؤلاء بزيد؛ إذ قال في ما قال: …ولا تقولوا خرج زيد؛ فإن زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد|، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه.

إذاً فقد دلَّت هذه الرواية على جواز الخروج بالسيف عند ملاءمة الظروف لذلك، إذا كان الخروج يدعو إلى الحكومة الإسلاميّة الصحيحة، ويسلّم الأمر إلى مَنْ ينبغي تسليم الأمر إليه.

إلاّ أنه قد يناقش في الاستدلال بهذه الرواية بأنها معارضة ببعض الروايات الواردة في ذمّ زيد؛ إما لكونه كان يدعو لنفسه؛ أو لكون الأئمّة^ لم يكونوا راضين عن خروجه، ولم يصحِّحوا عمله، ثم ساق الروايات الذامّة لذلك، وناقش فيها».

أقول: وهاهنا يمكن ذكر ملاحظتين أيضاً على هذا الوجه:

الملاحظة الأولى: إنّه قد ورد في ذيل الرواية التعليل بـ (وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد)، فيحتمل اختصاص ذلك بزمن الحضور والدعوة للإمام×، ولذا يختصّ الاستدلال بزمن الحضور، وعلى فرض التعدّي لعصر الغيبة فإنه إنّما يتم عند القائل بولاية الفقيه فحسب؛ لثبوت كلّ ما للإمام للفقيه في أمر الحكومة، فيكون تسليم الأمر في الحقيقة إلى مَنْ ارتضاه الأئمّة^ من الفقهاء العدول.

الملاحظة الثانية: إنّ تمامية الاستدلال لا تتوقَّف على ضعف الروايات الواردة في ذمّ زيد، فحتّى لو كانت صحيحة، وتمّت المعارضة بينها وبين الروايات المادحة، فإنّ الكلام سيكون صغروياً في زيد، وأما أصل كبرى التعليل، الذي هو محلّ الاستدلال: (وإنّما دعاكم إلى الرضا…)، فهو باقٍ على حاله، حيث ينطبق على غيره، غاية الأمر أنه بناء على سقوط الروايات المادحة لزيد سيخرج زيد من هذه الكبرى، ويبقى مَنْ يبقى تحتها.

الوجه الثالث: إنّ قصّة الحسين بن عليّ صاحب فخّ&، الذي خرج على طاغية زمانه، ثابتةٌ بالتواتر، ولم يرِدْ ـ في ما أذكر ـ خبرٌ واحد، ولو ضعيف السند، في ذمّه وذم خروجه، ممّا قد يبعث بالاطمئنان برضا الإمام× بخروجه؛ إذ لولاه ـ وهو يعيش حالة التقية المناسبة للنصّ على عدم الرضا بذلك ـ لكان يكثر النصّ على عدم رضاه، وكان يصلنا شيءٌ من هذا القبيل، أمّا أن لا يصلنا نصٌّ يدلّنا على رضاه× بذلك فهو أمرٌ طبيعيّ؛ لكونه× يعيش حالة التقية، فلا يدلّ ذلك على عدم رضاه، فكيف وقد وصلتنا بعض النصوص الدالّة على رضا المعصوم بخروج عصابة الحسين بن عليّ& ـ وإنْ كانت غير تامّة سنداً ـ بينما لم يصل في المقابل ما يدلّ على عدم الرضا.

الوجه الرابع: أن يتمسّك بما هو المعروف من طبيعة الإسلام الصحيح من أنّه يهدف للسيطرة على العالم أجمع؛ لهدايتهم إلى خير السبل، وأنه دين عالميّ، فقد يقال: إنّه لا يحتمل أن تكون الثورة ضد الفئة المسلمة بالاسم، والمنحرفة عن الإسلام الصحيح، الغاصبة لحقّ الإمامة، غير مشروع في الإسلام، مع وضوح أنّ علاج هؤلاء بشكل منحصر في غالب الأحيان بالجهاد يعتبر ضعفاً تشريعيّاً في الإسلام وليس من قبيل العجز الخارجيّ صدفة عن قتالهم وإعلاء الحق فانّ هذا عجز تكويني للمسلمين لا ضعف تشريعيّ في الإسلام بخلاف ذاك.

وإنْ شئتَ فعبِّر بتعبير ضرورة تقديم الأهمّ على المهمّ، حيث إنّ تحكيم الإسلام الصحيح وتطبيق كلمة الله كاملة أهمّ ممّا يترتب على القتال ضدّ المسلمين المنحرفين من إراقة الدماء، وأهمّيته تصل إلى حدّ تقدّم مصلحة القتال عند احتمال الانتصار احتمالاً يعتمد عليه العقلاء على مفسدة إراقة الدماء، التي هي مفسدة قطعيّة، لا احتماليّة، وذلك على أساس أنّ أهمّيّة المحتمل غطّت على قوّة الاحتمال.

وذكر السيّد الأستاذ في كتابه (ولاية الأمر) وجهاً فنياً لإثبات مشروعية إقامة الحكومة الإسلاميّة زمن الغيبة يمكن جعله وجهاً خامساً، مع تعديل له مستفاد من كلامه في الوجه الرابع. ونصّ ما أفاده هو: «إنّ الكلام الذي يصدر من صاحب مدرسة معيّنة يتكوّن ظهوره ضمن ما يناسب معطيات تلك المدرسة، فكما أنّ العرف العامّ والمناسبات والأجواء العرفيّة العامّة تؤثّر على ظهور الكلام، فلا يتحدّد ظهور الكلام على ضوء المعطيات اللغويّة فحسب، كذلك مناسبات مدرسةٍ مّا وأجواؤها تؤثّر على ظاهر كلام يصدر من أصحاب تلك المدرسة. فربّ إطلاق يتّم بحدّ ذاته لو خلّينا نحن والظهور الأوّليّ للكلام مع مقدّمات الحكمة، لكنّه ينكسر بلحاظ جوّ تلك المدرسة. وربّ إطلاق لا يتمّ بمحض الصناعة لو أغفلنا أجواء المدرسة التي صدر عنها ذاك الكلام ومناسباتها، لكنّ تلك الأجواء والمناسبات تخلق الإطلاق وتثبّته للكلام. فلو أنّ سيبويه مثلاً تكلّم بكلام بما هو إنسان نحويّ فأجواء علم النحو ومناسباته قد تؤثّر على تحديد ظهور كلامه، وعليه نقول: إنّ مدرسةً تشابَكَ نظامها مع نظام الحكم والإدارة والسلطة، بحيث لو فُصِلت عن الحكم سقط الكثير الكثير من أحكامها ونُظُمها عن إمكانيّة التطبيق، حينما يأتي فيها الأمر بإقامة حكم الله، والجهاد، والقتال، وإعداد ما استطعنا من قوّة نُرهب به عدو الله، وتقديم المقدّمات لذلك، والعمل في سبيل خلق الأجواء المناسبة لذلك…، يفهم منه الإطلاق لكلّ زمان وفق الفرص المؤاتية ظاهراً في الفهم الاجتماعيّ السليم»([48]).

ولكنْ تتميماً للاستدلال بهذا الوجه في المقام ينبغي إضافة ما أفاده في الوجه الرابع من انحصار إقامة الحكم الإسلاميّ بقتال ولاة الجور المنحرفين إليه، حتّى يتم الاستدلال.

 

شروط الخروج على الجائر

يشترط في مشروعية الخروج على الجائر شروط:

1ـ استنفاذ الوسائل السلمية، من النصح والوعظ والتحذير والحوار؛ لردعه.

2ـ أن يكون الخروج بقصد إقامة العدل والحكم الإسلاميّ.

3ـ أن يكون ذلك تحت نظر المجتهد العادل.

4ـ أن تتوفَّر القدرة على التغيير.

 

الشكّ في القدرة

وهنا يمكن أن تطرح إشكالية عدم إحراز القدرة منذ البدء، مع أنّ كل تكليف مشروطٌ بالقدرة حسب الشروط العامّة للتكليف. وقد أشار السيّد الحائري لهذا الإشكال فقال: «ومهما أردنا العمل في سبيل تطبيق نظام الإسلام وإقامة الحكم فلا شكّ في أنّه لا يحصل لنا منذ البدء العلم بالقدرة على تحصيل المطلوب، ومع الشكّ فيها نشكّ في أصل الوجوب.

أو تقول: إنّنا عادةً نعلم قبل طيّ المقدّمات البعيدة بأنّنا فعلاً عاجزون عن إقامة الحكم الإسلاميّ، فلا يبقي إلاّ فرض وجوب تحصيل المقدّمات البعيدة، والعمل في سبيل تهيئة الأجواء، إلى أن تحصل القدرة على إقامة الحكم، ولكنّ هذا لا يجب؛ لأنّ القدرة شرط الوجوب، وليست شرط الواجب. وتحصيل شرط الوجوب غير واجب».

ثم أجاب عن ذلك بجوابين:

الأوّل: إنّ القدرة على تحصيل القدرة على الشيء قدرة على ذلك الشيء، فمَنْ يقدر على تهيئة المقدّمات التي بها يقدر على إقامة الحكم يكون قادراً على إقامة الحكم. فليست القدرة المشروطة في كلّ خطاب عبارة عن معنى خاصّ سمّي بالاستطاعة في باب الحجّ، والذي لا يشمل القدرة على تحصيلها، وإنّما القدرة، التي هي شرطٌ لكلّ تكليف، عبارةٌ عن مجردّ الإمكانيّة، ولو مع الوسائط.

والثاني: إنّ أدلة وجوب نصرة الله ودينه والدفاع عن الحقّ ونصرة المظلومين ودفع المنكر وما إلى ذلك ليس المفهوم عرفاً منها هو إيجاب النتيجة فحسب، بل المفهوم عرفاً من أمثال هذه الخطابات الاجتماعيّة هو الأمر بالمقدّمات؛ بملاك احتمال انتهائها إلى ذي المقدّمة، كما هو الحال أيضاً في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي قال عنه الفقهاء بأنّه مشروط باحتمال التأثير، لا بالقطع بذلك. وهذه المقدّمات قد تنتهي إلى النتيجة، وقد لا تنتهي، كما كان الأمر كذلك في زمن المعصومين^. فهذه المشكلة أيضاً ليست مخصوصة بزمن الغيبة.

والخلاصة: إنّ المرتكز عرفاً واجتماعيّاً في القضايا الاجتماعيّة السياسيّة أنّ الأمر ليس متوجّهاً إلى النتيجة فحسب ـ والتي هي غالباً غير مضمونة الحصول ـ، وإنّما هو متوجّه إلى المقدّمات من باب رجاء احتمال حصول النتيجة، لا بمعنى كونه أمراً ظاهريّاً احتياطيّاً، بل بمعني أنّ الاحتياط من قبل نفس المولى، فالمولى أوجب المقدّمات احتياطاً في موارد احتمال الانتهاء إلى النتيجة، ولو في أجيال متأخِّرة غير الجيل الذي هيّأ تلك المقدّمات البعيدة([49]).

 

أساس حقّ الأمة في مساءلة الحاكم

وقد ذكر بعض الباحثين أنّ للأمة محاسبة الحاكم، وأنها تستمدّ حقها في مساءلته ومحاسبته من جملة أمور:

أوّلها: إنه وكيل عنها، يستمدّ سلطته منها، ويمارسها نيابة عنها، والأصيل يملك على الوكيل حقّ الإِشراف والتوجيه والعزل إنْ هو خرج عن حدود وكالته.

ثانيها: إن الأُمّة هي المخاطبة أصلاً بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلاميّة، أي القانون الإسلاميّ، وهي القوّامة على هذا التنفيذ، كما دلَّت كثير من خطابات القرآن الكريم. وقد اختارت الأُمة الإمام أداةً ووسيلةً للتنفيذ، فإذا تحوَّل الحاكم عقبة أمام تنفيذ الشرع فمن حق الأُمة المحاسبة والتغيير؛ للقيام بواجبها الأصليّ في تنفيذ الشرع.

وثالثها: ما أوجبه الشرع لها من حقّ الشورى، التي تتضمَّن بذل الرأي والنصح، وهذا يستلزم مراقبته على الدوام.

ورابعها: إنّ الأُمة مسؤولة عن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾(التوبة: 71).

فلابدّ من مراقبته ومحاسبته من قبل الأُمة، لتخرج من عهدة هذه المسؤوليّة، وتقوم بواجبها في الأمر والنهي.

وخامسها: إنّ الحاكم في النظام الإسلاميّ فردٌ كبقية الأفراد، لا يكسبه الحكم فضل مزية على غيره، فكما يحاسب غيره ويسأل يحاسب هو ويسأل، فنصوص الشريعة لا تفرِّق بين الرؤساء والمرؤوسين في خضوعهم للحساب، وأساس التفاضل في الشريعة (التقوى)، فلا فضل ولا مزية بسبب الحكم أو المنصب([50]).

 

هل الحكّام والرؤساء والملوك الفعليين هم ولاة الأمر؟

قد يُقال أنّ الحكّام والرؤساء والملوك الفعليين في البلاد الإسلاميّة هم ولاة الأمر الشرعيّين الذين يجب طاعتهم، كما يرى ذلك البعض؛ استناداً إلى قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(النساء: 59).

إلاّ أنّ الصحيح عدم صحّة مثل هذا الكلام؛ وذلك للمناقشة فيه من جهات عديدة:

المناقشة الأولى: عدم انطباق تعريف ولاية الأمر عليهم

لقد تقدّم في تعريف الإمامة والولاية أنّها نيابة وخلافة عن النبي| لحراسة الدين وسياسة الدنيا. وكلا الأمرين غير متحقِّق في الحكّام الفعليين، فلا الدين حرسوا، ولا الدنيا ساسوا بما يحقِّق مصالح شعوبهم، كما هو واضحٌ بالوجدان.

 

المناقشة الثانية: عدم انطباق طرق انعقاد ولاية الأمر على الحكّام الفعليين

ذكروا لانعقاد الولاية ثلاثة طرق، كلها لا تنطبق على الحكّام الفعليين([51]). وهذه الطرق هي:

 

الطريق الأول: البيعة

والمراد بها بيعة أهل الحلّ والعقد، وهم: علماء المسلمين، ورؤساؤهم، ووجوه الناس، الذين يتيسَّر اجتماعهم حالة البيعة بلا كلفة عرفاً، ولكن هل يشترط عددٌ معين؟

اختلف في ذلك الفقهاء، فنقل عن بعض الحنفية أنه يشترط جماعة، دون تحديد عدد معين.

وذهب المالكية والحنابلة إلى أنها لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد، بالحضور والمباشرة بصفقة اليد، وإشهاد الغائب منهم من كلّ بلد، ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم بإمامته إجماعاً.

وذهب الشافعية إلى أنه يشترط اتّفاق أهل الحلّ والعقد من سائر البلاد، لتعذّر ذلك وما فيه من المشقّة، وذكروا أقوالاً خمسة في ذلك:

فقالت طائفة: أقلّ ما تنعقد به الإمامة خمسة، يجتمعون على عقدها، أو يعقد أحدهم برضا الباقين.

وذهبت طائفة إلى أنّ الإمامة لا تنعقد بأقلّ من أربعين؛ لأنها أشدّ خطراً من الجمعة، وهي لا تنعقد بأقلّ من أربعين.

والراجح عندهم أنّه لا يشترط عددٌ، حتى لو انحصرت أهلية الحلّ والعقد بواحدٍ مطاع كفت بيعته لانعقاد الإمامة، ولزم على الناس الموافقة والمتابعة.

ومن الواضح عدم انطباق هذا الطريق على الحكّام الفعليين، فهل يتمّ اليوم اختيار ولي الأمر في البلاد الإسلاميّة على أساس مجالس أهل الحلّ والعقد؟ وعلى فرض ذلك فهل ثمة مراعاة للعدد المذكور على اختلاف المذاهب والآراء في ضبط العدد؟

 

الطريق الثاني: ولاية العهد

وهي عهد الإمام بالخلافة إلى مَنْ يصحّ إليه العهد، ليكون إماماً بعده.

قال الماوردي: «انعقاد الإمامة بعهدٍ مَنْ قَبْلَه ممّا انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته؛ لأمرين عمل المسلمون بهما، ولم يتناكروهما:

أحدهما: أن أبا بكر عهد بها إلى عمر، فأثبت المسلمون إمامته بعهده.

والثاني: أن عمر عهد بها إلى أهل الشورى، فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وخرج باقي الصحابة منها ـ، إلى أن قال: فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجهد رأيه في الأحقّ بها، والأقوم بشروطها، فإذا تعين له الاجتهاد في واحد نظر فيه؛ فإنْ لم يكن ولداً ولا والداً جاز أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه، وإنْ لم يستشر فيه أحداً من أهل الاختيار، لكنْ اختلفوا هل يكون ظهور الرضا منهم شرطاً في انعقاد بيعته أو لا؟ وإنْ كان ولي العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب:

أحدها: لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولدٍ، ولا لوالد، حتى يشاور فيه أهل الاختيار، فيرونه أهلاً لها، فيصحّ منه حينئذ عقد البيعة له.

وثانيها: يجوز أن ينفرد بعقدها لولدٍ ووالد؛ لأنه أمير الأمة، نافذ الأمر، لهم وعليهم، فغلب حكم المنصوب على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة طريقاً على أمانته، ولا سبيلاً إلى معارضته، وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده. وهل يكون رضا أهل الاختيار بعد صحة العهد معتبراً في لزومه للأمّة أو لا؟ على ما قدمناه من الوجهين.

وثالثها: أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده، ولا يجوز أن ينفرد بها لولده؛ لأن الطبع يبعث على ممايلة الولد، وكذلك كان كلّ ما يقتنيه في الأغلب مذخوراً لولده، دون والده.

فأمّا عقدها لأخيه ومَنْ قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرّده بها».

ومن الواضح عدم توفُّر الشروط اللازمة في الاستخلاف في الملوك أو الرؤساء الفعليين؛ وذلك للجهات التالية:

الجهة الأولى: عدم أهلية المستخلِف نفسه؛ وذلك لعدم توفّر شروط الإمامة فيه أصلاً، كما تقدّم. وقد ذكروا أن من شروط الاستخلاف توفُّر شروط الإمامة في المستخلِف.

الجهة الثانية: عدم أهليّة المستخلَف لشروط الإمامة والولاية، كما هو الملاحظ في الواقع الخارجيّ.

الجهة الثالثة: عدم اجتهاد المستخلِف في وضع الإمامة في الأصلح من غير الولد والأقرباء، بل العكس صحيحٌ، حيث يجتهد في وضعها في ولده وأقربائه، دون غيرهم.

الجهة الرابعة: عدم صحّة الانفراد بوضعها من قبل المستخلِف في الولد أو الأقرباء، على بعض الآراء والأقوال.

 

المناقشة الثالثة: عدم انطباق شروط ولاية الأمر عليهم

من المهم جدّاً من الناحية المصداقية أو الصغروية إحراز أنّ الحكّام والرؤساء والملوك المعاصرين هل هم ممَّنْ ينطبق عليهم عنوان ولاة الأمر أو لا؟

إنّ إثبات ذلك أو نفيه يستتبع النظر أوّلاً في شروط ولاية الأمر المقرَّرة فقهيّاً، لنرى صحّة انطباقها على المذكورين أو لا.

أمّا الشروط فهي على قسمين:

1ـ الشروط المتَّفق عليها، وهي ما يلي:

أـ الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾(النساء: 141).

ب ـ التكليف، ويشمل: العقل؛ والبلوغ.

ج ـ الذكورة.

د ـ الكفاية، ولو بغيره. والكفاية هي الجرأة والشجاعة والنجدة، بحيث يكون قيِّماً بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود والذبّ عن الأمّة.

هـ ـ الحرّيّة.

و ـ سلامة الحواس والأعضاء.

2ـ الشروط المختلف فيها، وهي كالتالي:

أ / ب ـ العدالة؛ والاجتهاد.

أمّا القسم الأوّل من الشروط (وهي: الإسلام، الذكورة، الحرّيّة، التكليف، سلامة الحواس) فهي متوفِّرة في الرؤساء والحكّام الموجودين، عدا الشرط الرابع، وهو (الكفاية والدراية، وأن يكون قيّماً بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود والذبّ عن الأُمّة)، فإنّ هذا الشرط إمّا معلوم العدم في غالبهم، أو مشكوك الوجود في البعض على أحسن التقادير. فهل الحكّام الموجودون اليوم يراعون السياسة التي تحقّق مصالح الأُمّة؟ وهل أنهّم يقيمون الحدود الشرعيّة؟ وهل أنّهم منفكّون عن التبعية للأعداء والأجانب، ويمتلكون قرارهم المستقلّ الذي يحقّق مصلحة الأُمّة وشعوبها؟

وأمّا القسم الثاني من الشروط (وهي: العدالة، والاجتهاد) فقد اشترطها المالكية، والشافعية، والحنابلة، خلافاً للحنفية، الذين جعلوه شرط أولوية. ومن المعلوم الواضح عدم انطباق هذين الشرطين على الحكّام الفعليين، كيف وفيهم من لا يتقن القراءة، فما ظنك بالاجتهاد الذي هو مرتبة عظيمة؟!

وأما شرط القرشية فهو مجمعٌ عليه بين المذاهب كافّة، عدا بعض فقهائها، كالباقلاني. وعليه فلا مصداق لهذا الشرط بين الحكّام الفعليين، فلا تنعقد لهم الإمامة والولاية.

إذاً لا تنطبق الشروط ـ سواء المتَّفق عليها أو المختلف فيها ـ المعتبرة في الإمامة وولاية الأمر على الحكّام والرؤساء والملوك الفعليين.

نعم، ذكر الشيخ الدكتور الزحيلي طريقاً لحلّ إشكالية الاجتهاد، وذلك بأن يستعين وليّ الأمر بأهل الخبرة والاختصاص لإدارة مهامّه([52]).

ولكنْ يرِدُ على ذلك:

أوّلاً: إنه على خلاف شرطية الاجتهاد الظاهرة في المباشرة. قال الجرجاني في شرح عبارة القاضي الأيجي: «الجمهور على أنّ أهل الإمامة ومستحقّها مَنْ هو «مجتهد في الأصول والفروع؛ ليقوم بأمور الدين»، متمكناً من إقامة الحجج، وحلّ الشبه في العقائد الدينيّة، مستقلاً بالفتوى في النوازل والأحكام والوقائع، نصّاً واستنباطاً؛ لأنّ أهمّ مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الخصومات، ولن يتمّ ذلك بدون هذا»([53]).

ونصّ الغزالي على هذه المسألة فقال: «فلو انتهض لهذا الأمر من فيه الشروط كلّها، سوى شروط القضاء، ولكنّه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم، فما ترون فيه؟ أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟ قلنا: الذي نراه ونقطع به أنّه يجب خلعه إن قدر.

ثانياً: إنّ هذا الكلام على فرض الموافقة عليه والقبول به فإنّا نسأل هل هذا الأمر موجودٌ ومتحقّق بالفعل في البلاد الإسلاميّة؟ فهل يوجد مجلس للاستشارات الشرعيّة والفقهيّة، بحيث تمرّ من خلاله قوانين البلد وتشريعاته ومراسيم الرؤساء والأمراء وقراراتهم؟

لو لم نقطع بالعدم فنحن نشكّ كل الشكّ في الأمر، وإثبات عكسه على عهدة المدّعي.

 

المناقشة الرابعة: عدم عملهم بوظائف ولاة الأمر المقرّرة شرعاً

قد ذكر الفقهاء جملة من الوظائف والمسؤوليّات للإمام الذي يتولّى زمام الأمور، ولكنْ لا نجد الحكّام الفعليين مراعين لها، فينفسخ بذلك عقد البيعة معهم على فرض تحقُّقه. وعليه فحتّى لو سلّمنا بتوفّر طرق البيعة الشرعيّة في هؤلاء الحكّام فإنها منفسخة بتخلُّف العمل من قبلهم بمقتضى عقد البيعة، الملزم لهم وللأمة على حدّ سواء.

وهذه الوظائف هي ما نصّ عليه الماوردي بقوله: «والذي يلزمه من الأمور العامّة عشرة أشياء: [الأوّل]: حفظ الدين على أصوله المستقرّة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإنْ نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجّة، وبيّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل. الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعلم النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. الثالث: حماية البيضة والذبّ عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو مال. والرابع: إقامة الحدود، لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوّة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرّة، ينتهكون فيها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً. والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتّى يسلم، أو يدخل في الذمّة، ليقام بحقّ الله تعالى في إظهاره على الدين كله. والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصّاً واجتهاداً، من غير خوف ولا عسف. والثامن: تقدير العطايا وما يستحقّ في بيت المال، من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقدّم فيه ولا تأخير. التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، في ما يفوض إليهم من الأعمال، ويمكّنه إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفّارة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة. العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذّة أو عبادة، قد يخون الأمين ويغشّ الناصح، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فيِ الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقَّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾(ص: 26)»([54]).

 

المناقشة الخامسة: قياس الأولوية

إنّه قد ورد ذمّ مَنْ يؤمّ قوماً في الصلاة وهم له كارهون، كما جاء في الثلاثة الذين لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: «رجلاً أمّ قوماً وهم له كارهون»، فإذا كان ذلك في الإمامة الصغرى مرفوضاً فكيف يُقبَل في الإمامة الكبرى؟

كما أنه لم يسمح التشريع الإسلاميّ بتزويج البكر بغير إذنها، وأن تفرض عليها حياة لا ترضى عنها، فكيف يقبل الإسلام أن تجبر أمّته على حياة لم تخترها، ولم يؤخذ رأيها فيها.

 

المناقشة السادسة: عدم انطباق الخلافة وولاية الأمر موضوعاً

ذهب البعض إلى انقطاع خلافة النبوّة بالإمام الحسن×؛ وذلك لحديث سفينة، الذي صحَّحه ابن حبان([55]): «الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([56]). ولذا كره جماعة من الفقهاء، منهم الإمام أحمد، إطلاق عنوان الخليفة على مَنْ جاء بعد هذه الفترة من الحكّام([57]). وعليه فإنّ عنوان الخليفة وولاية الأمر سالبةٌ بانتفاء الموضوع بالنسبة لهؤلاء الحكام، فضلاً عن ترتيب أحكام الخلافة عليهم.

 

الخاتمة

اتَّضح ممّا تقدّم بطلان نظريّة حرمة الخروج على الحاكم الجائر، وأنّها مخالفة لصريح الكتاب، والسنّة، والعقل، والفطرة الإنسانيّة، التي ترفض الظلم مهما كان مصدره، وإنْ كان هو الدين كما يزعم([58])؛ وذلك لأنّ القبول بهذه النظريّة الخطيرة يؤسِّس ويقنِّن للظلم الذي رفضه الإسلام بشدّة، فيكون الأمر بقبوله من قبل المشرّع نقضاً للغرض، وأيّ نقض وأيّ غرض؟ غرض يتوقَّف عليه قيام المجتمع الإنسانيّ؛ إذ لم يأتِ الإسلام إلاّ لتقويض الظلم وإقامة العدل في الأرض، فكيف يتَّفق ذلك مع ولاية الجائر؟!

الهوامش:

 

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلميّة، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) ونص عبارته: w. muir: The caliphate, p. 600، نقلاً عن: منير البياتي، النظام السياسي الإسلاميّ: 257.

([2]) الفراء، الأحكام السلطانية: 5.

([3]) الأيجي، المواقف: 395.

([4]) صحيح البخاري 8: 78، كتاب الفتن.

([5]) صحيح مسلم 6: 18 ـ 24، كتاب الإمارة.

([6]) المصدر السابق.

([7]) صحيح البخاري 4: 7، باب السمع والطاعة للإمام، 8: 106، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية.

([8]) سنن أبي داوود: 322، رقم 4336 و4338.

([9]) الهيثمي، مجمع الزوائد 5: 227 ـ 228.

([10]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 23.

([11]) أبو زهرة، المذاهب الإسلاميّة: 155.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) الزرقاني، شرح الموطّأ 2: 292، عنه: المذاهب الإسلاميّة: 155.

([14]) النووي، شرح صحيح مسلم 12: 229.

([15]) الباقلاني، التمهيد.

([16]) الفراء، الأحكام السلطانية: 20.

([17]) المذاهب الإسلاميّة: 155.

([18]) مآثر الإنافة 1: 58.

([19]) شرح الموطّأ 2: 292، عنه: المذاهب الإسلاميّة: 155.

([20]) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 175 ـ 176.

([21]) المصدر السابق: 102.

([22]) البغدادي، أصول الدين: 278.

([23]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 17.

([24]) المصدر نفسه.

([25]) الرازي، التفسير الكبير 10: 145.

([26]) الزمخشري، الكشاف 1: 405.

([27]) تفسير الطبري 5: 89.

([28]) البيضاوي، أنوار وأسرار التأويل 1: 220، ذيل الآية 59 من سورة النساء.

([29]) الشهرستاني، نهاية الإقدام: 296.

([30]) الرازي، التفسير الكبير 4: 47. والآية المشار إليها هي قوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(البقرة: 124).

([31]) الغزالي، إحياء علوم الدين 2: 111.

([32]) الأيجي، المواقف وشرحه للجرجاني 8: 353.

([33]) القرطبي، تفسير القرطبي 9: 108.

([34]) الجصاص، أحكام القرآن 3: 215.

([35]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 7: 391.

([36]) تفسير أبي السعود 5: 159.

([37]) صحيح البخاري 4: 126.

([38]) صحيح البخاري 9: 113؛ صحيح مسلم بشرح النووي 10: 227.

([39]) سنن البيهقي 3: 122؛ الهيثمي، مجمع الزوائد 5: 226؛ السيوطي، الجامع الصغير 2: 203.

([40]) سنن أبي داوود: 322، رقم 4336 و4338.

([41]) ابن هشام، السيرة النبويّة 4: 341.

([42]) سنن البيهقي 10: 91.

([43]) تاريخ ابن الأثير 3: 20.

([44]) كاظم الحائري، الكفاح المسلّح: 102.

([45]) المصدر السابق: 85 ـ 100، مع اختصار وتصرّف قليل.

([46]) المجلسي، بحار الأنوار 44: 329.

([47]) المصدر السابق: 192.

([48]) كاظم الحائري، ولاية الأمر: 61.

([49]) المصدر نفسه.

([50]) منير البياتي، النظام السياسي الإسلاميّ: 253.

([51]) انظر: الموسوعة الفقهيّة (الكويتية).

([52]) الزحيلي، موسوعة قضايا إسلاميّة معاصرة 2: 394.

([53]) الجرجاني والأيجي، شرح المواقف: 349.

([54]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 15.

([55]) صحيح ابن حبّان 15: 392.

([56]) سنن أبي داوود 2: 303، رقم 4254.

([57]) مآثر الإنافة 1.

([58]) ولذا نجد الشعوب الإسلاميّة اليوم رغم وجود هذه النظريّة والنصوص الكثيرة الداعمة لها لم تأبَهْ لذلك، وعملت بمقتضى العقل الصحيح والفطرة السليمة، القاضيين بنبذ الظلم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً