أحدث المقالات

في ساحتنا الإسلامية، هناك اتجاهان في رسم استراتيجية العمل الثقافي يتجاذبان الحياة الثقافية الإسلامية، اتجاه يميل نحو التغيير والإصلاح للأمور القائمة ثقافيّاً، واتجاه يتحفّظ من التغيير، ربما من حيث المبدأ إلا مع استثناءات طفيفة، وربما من حيث الحجم التغييري الذي يرتئيه الاتجاه الأوّل؛ لهذا يقف متوجّساً أحياناً من مشاريع التغيير التي تُقترح، ونقف هنا قليلاً على بعض النقاط البنيوية في تفكير الفريقين.

1ـ ثمّة ترابطٌ ما بين معطيات العقل النظري ومعطيات العقل العملي، فالوجود الواقعي للأشياء قد لا يدفع العقل العملي لإصدار أحكامه الأخلاقية، إنّما الوجود العلمي لها هو ما يدفع لذلك.

من هذا المنطلق، تتبع ردّات فعل كلّ إنسان إزاء الواقع المحيط به طبيعةَ الصورة التي يكوّنها عن هذا الواقع، وهذا شيء طبيعي، فإذا حصل علمٌ بأنّ بجانبي ناراً فعندئذٍ أتحرّك لدرء الضرر عن نفسي، أمّا إذا ما كنت لا أعلم بأصل وجودها أو بحجم ضررها فسوف تكون ردّة فعلي مختلفة.

قد يرجع الخلاف بين الاتجاهين المشار إليهما مطلع الحديث إلى الخلاف في فهم الواقع وقراءته، وليس فقط إلى الخلاف في الإجراء المناسب الذي يُفترض اتخاذه، من هنا أسمح لنفسي بتسمية هذا الخلاف بالمبنائي، أي الخلاف الذي يفترض التفتيش عنه في البناءات المسبقة لدى كلّ فريق، لا في الظواهر التي تطفو على السطح.

ولكي نطبّق هذه الفكرة هنا، نلاحظ أنّ الصورة التي يحملها الفريق المتحفّظ عن واقعنا الثقافي والفكري صورةٌ إمّا لا ترى أنّ هناك مشكلةً داخليّة، أو تعتقد أنّها موجودة ولكنها طفيفة، أو أنّها كبيرة يمكن تفاديها عبر حلول تدريجية بعيدة المدى، وربما نرجّح ـ تخميناً ـ أنّ قسماً كبيراً يميل إلى الاحتمال الأخير، تماماً ـ والأمثلة تُضرب ولا تقاس ـ كشخصٍ يعتقد بأنّ زيداً ليس بالمريض حتى نُجري له عمليةً جراحية، أو هو مريضٌ بمرضٍ عارضٍ طفيف بحيث يمكن ببعض الأدوية الخفيفة تفادي مرضه والحصول على البرء والشفاء، أو مريض بمرض شديدٍ عضال لكنّ طريقة المثابرة على دواءٍ بعيد المدى سوف يحلّ مشكلته، وعلى أيّة حال، لا يحتاج إلى عمليّة جراحيّة أو ما شابه ذلك.

أمّا الصورة التي يحملها الفريق الداعي للتغيير ـ وربما يكون مخطئاً في رسمها أو غير موضوعي ـ فهي ترى أنّ هناك على هذا الصعيد أزمةً حقيقيّة، بكلّ ما لكلمة “أزمة حقيقيّة” من معنى، وأنّ هذه الأزمة يلعب مرور الوقت دوراً في تعميقها والمضاعفة من خطورتها، إذاً فنحن ـ من وجهة نظر هذه الصورة المرسومة عن الواقع ـ بحاجةٍ إلى عمل مكثّف وسريع وجذري، وطبعاً عقلاني.

من هنا، تختلف أساليب كلّ فريق من الفريقين، فلا ينبغي للفريق الأوّل أن يرى في خطوات الفريق الثاني تسرّعاً وعجلةً و..، كما لا يصحّ للفريق الثاني أن يرى في خطوات الفريق الأوّل تخاذلاً أو خمولاً أو ترنّحاً، وإنّما المفروض بالفريقين أن يسعيا لإعادة رسم صورتهما عن الواقع، وإقناع بعضهما بهذا الأمر، وهذه نقطة أساس فيما نفترض.

2ـ وانطلاقاً من النقطة السالفة، نجد في حياتنا الثقافية المعاصرة فريقين: فريقٌ يرى أنّ المشكلة الرئيسة تقع خارج جسمنا الإسلامي مثل الغرب، أو خارج جسمنا الشيعي مثل الفرقة السلفية السنيّة، لهذا يضع أولويات العمل على جبهة الدفاع، ويسعى ـ لأجل ذلك ـ لتفادي أيّ خلل داخلي، حتى لو كان معتقداً بوجود مشكلة داخلية، أمّا الفريق الآخر فهو يرى أنّ أساس المشكلة داخلي، أي توجد أزمات فكرية في منظوماتنا ويجب إصلاحها، والإصلاح ـ كما أشرتُ سابقاً في مناسبةٍ أخرى ـ لا ينحصر بنسف ما مضى، بل يتمّ أيضاً بمراكمة أجزاء جديدة عليه توجب تطوّراً حقيقيّاً في صيغته، وليس من الصحيح أن نكل كلّ شيء إلى الخارج، كما أن التغاضي عن المشاكل الداخلية سيفاقمها بمرور الزمن.

ولعلّ وجهة النظر الأصوب هي تلك التي ترجّح الجمع بين الرؤيتين المذكورتين، مع إعطاء بعض الأولوية ـ حاليّاً ـ للرؤية الثانية، ومعنى ذلك أنّ إعادة بناء وضع مأزوم يمكن أن يكون بحاجة إلى حالة عصف أفكار قد يمرّ خلالها ما هو غير مقبول ـ شبه ما يُقال في علم أصول الفقه من إعطاء الحجية للظنّ بملاك التزاحم الحفظي مع مرور بعض ما هو غير مطابق للواقع وربما حرّمه الله ـ لكن المهمّ هو السعي للوصول إلى نتائج، وهذا ما يجعل الحركات التغييريّة متورّطةً عادةً في أخطاء ربما تصاحب مرحلة التغيير، ممّا يعرف بعيوب مرحلة الانتقال.

3ـ وربما يكون المبرّر الشرعي للتغييريين عادةً في هذا المجال هو قاعدة التزاحم وتقديم الأهمّ على المهم، بحسب ما يحملون من رؤيةٍ عن الواقع الخارجي، تجعل لديهم صورةً عن حسابات المصالح والمفاسد، تقدّم عندهم مصلحةً ما على أخرى، الأمر الذي تُصاحبه بعض المفاسد تلقائيّاً، تماماً كأي موردٍ من موارد قانون التزاحم الذي تفوت فيه مصلحةٌ ما أو تقع فيه مفسدةٌ كذلك لصالح درء مفسدةٍ أكبر أو تحقيق مصلحةٍ أعظم، يظلّ تحديدها ـ عادةً ـ تابعاً للتقييمات البشرية للواقع الخارجي؛ لأن هذا القانون يلعب نوع الرؤية المكوّنة فيه عن الواقع دوراً كبيراً في تطبيقه عادةً.

4ـ وقد يُتساءل عن ضمانات لعمليّة التغيير هذه، حيث لا يصحّ الانطلاق في مشاريع تفتقد الضمانات، وقد يجيب الفريق الآخر بأنّ من الضروري السعي لتحقيق ضمانات، لكن يجب أن نعلم أن لا أحد في العالم يمكنه إعطاء ضمانات حاسمة في مشاريع تغييرية كبرى أو وسطى، وليُقرأ التاريخ وليُنظر كيف أن ذهاب الجيل المؤسّس أدّى في كثيرٍ من الأحيان إلى الانجراف عن المسير الأصلي المرسوم، وربما كان هذا من سنن الله في خلقه، وعلينا أن نبذل جهدنا لا أن نعيش دوماً القلق الذي يوقف حركتنا، أو يعرقلها.

5ـ ومن الممكن أحياناً أن تتّحد رؤية الطرفين للواقع المحيط، لكن مع ذلك تختلف الإجراءات المتبعة، ربما لأنّ بعضهم يرى في هذا الإجراء مردودات إيجابية أكبر، فيما يرى الفريق الآخر مردودات عكسيّة، وهذا شيء عام بين بني البشر، بل لعلّ شخصيّة هذا الطرف تلعب دوراً، فقد تجد إنساناً انفعاليّاً في شخصيّته يواجه الأشياء بالغضب فتجده عنيفاً في إصلاح الأوضاع وربما ارتدّ إصلاحه عليه فأفسد بنفسه مشروعه، والعكس صحيح أيضاً، وهنا ـ فيما أتصوّر ـ تدخل فكرةٌ في غاية الحساسيّة على مستوى العمل الديني، وأسمح لنفسي هنا باستعراضها لأنّني أراها مهمّة.

في التفكير الديني، هناك قاعدة يغلب ـ ولا نقول دوماً ـ حضورها في الوعي واللاوعي، حتى لو أبطلت في مباحث أصول الفقه وعلم الكلام إبطالاً نظرياً عند بعضهم، وهذه القاعدة هي: mدفع المفسدة أولى من جلب المصلحةn، فالإنسان المتديّن حريصٌ على الدين، ولنِعم الخصلة فيه هذه، لهذا فهو ينطلق دوماً في أيّ مشروع من موقع الحرص هذا، وعندما يريد أن يقوم بخطوة ـ خصوصاً الخطوة الإصلاحية داخل الدين ـ سوف تمثل أمامه إيجابيات الأمور وسلبيّاتها، فقد يرى بعض الإيجابيات، لكنه سيرى أيضاً بعض السلبيات، من هنا تجده في لا وعيه أكثر اهتماماً بأمر السلبيات التي ستقع منه بأمر الإيجابيات ـ وطبعاً نفترض هنا أنه رأى إيجابيات ونفترض أنها متساوية أو الإيجابيات أكثر بحيث لا تلحق السلبيات بحدّ العدم ـ فقد يعطّل المشروع خوفاً من تلك السلبيات ما دام عجز عن ضمان عدم وقوعها؛ إيماناً منه بالدين وخوفاً منه عليه، ولا ينظر ـ أحياناً ـ إلى أن تعطيله هذا هو بنفسه سلبية على الوضع الديني ستتراكم إلى جانب بعضها بمرور الأيام ما دام كلّ واحد يفكّر بهذه الطريقة؛ لأنه يعتبر أن السلبية الناشئة من عدم الفعل أخفّ على النفس ـ وربما عقلياً ـ من تلك الناشئة عن الفعل، فالإنسان عندما يترك أمراً يترتب على تركه خللٌ ما قد لا يرى شدّةً ـ لو راجع وجدانه ـ فيما فعله أمام أن يُقدم على أمر تحصل سلبيات من إقدامه عليه، فإن نسبة الفعل وآثاره إلى الفاعل قد تكون أشدّ وأوضح من نسبة الآثار إلى الترك في الشؤون الاجتماعية، لهذا يتراءى المثل الفارسي أمامنا والذي يقول: إن من لا يتكلّم لا يخطأ ليس لأنه بارع بل لأنه لم يتكلّم، حُسباناً من المثل المذكور أنّ عدم الكلام لا يمثل خطأ أحياناً.

هذا المفهوم ـ من وجهة نظري القاصرة ـ أساسي ورئيس؛ لأنه كلّما ازداد حضور مقول دفع المفسدة كلّما حصل انكفاء عن القيام بمشروع، سيما المشاريع ذات الطابع الجذري، لا الطابع المرحلي الجزئي الموردي المحدود.

6 ـ وفي هذا السياق، يحصل التباس أمام العامل في المجال الديني، وهو أنه عندما يحسب السلبيات ينظر إلى أنّ الأصل عدمها، وأن هذا المشروع سوف يأتي بها، وهذا صحيح من الناحية الوجودية الأنطولوجية، فالمشروع هو الذي حمل السلبيات،والمشروع هو الذي احتوى الأخطار المفترضة، لكنّ هنا سؤالاً يُفترض أن نجيب عنه سوياً: كيف نحسب قيمة مشروعٍ ما؟ هل يوجد مشروع لا سلبيات له؟

وحيث لكل مشروع ـ عادةً ـ سلبيات، فيجب أن نقيسها على حجم المشروع، فمثلاً لو كان مشروعي أن أهدي شخصاً إلى الدين وكانت المردودات السلبية أن يحصل ضلال شخص فهذا المردود السلبي ذو حجم كبير نسبةً إلى حجم المشروع ومنجزاته، أمّا لو كان المشروع هداية مليون شخص وكان ذلك يؤدي إلى ضلال عشرة من الناس فإن الأمور ستختلف.

وعليه، فالأمر يتبع رؤية كلّ شخص للمشروع ومدى أهميته وإنجازاته، وكذلك تأثيراته الفاعلة وحجمه، ثم يقيس تلك السلبيات، التي يجب عليه فعل أقصى ما يمكن لتفاديها، على المشروع ليحصل له تصوّرٌ شامل، فليس الموضوع موضوع وجود سلبيات بقدر ما هو موضوع قياسها إلى حجم العمل ودائرة تأثيراته الإيجابية، التي ينبغي أن يؤخذ معها بعين الاعتبار عنصر المساحة المكانية والامتداد الزمني أيضاً، لا أن يلحظ آنٌ واحد ليُفصل عن سائر المراحل والآنات.

7 ـ وأركّز هنا على مفهوم حسّاس، وهو أنّ أمر الدين يتساوى فيه إنقاص شيء منه وزيادة شيء عليه، فإذا كنت معنياً بأمر الدين، فعليّ أن أهتمّ بكل المحاولات التي أراها تُنقص هذا الدين وتحذف مفاهيمه وتُبطل بعض ما فيه، تماماً كما أهتمّ أيضاً ـ وبالدرجة عينها من حيث المبدأ ـ بكل إضافة على هذا الدين لا أراها منه ولا أجدها فيه، من هنا أظنّ أنه ليس من الصحيح أن أنظر إلى محاولات تصفية الدين بوصفها محاولات مشبوهة، أما محاولات الإضافة عليه فأراها مخطئة لكنها منطلقة من حبّ الدين والإخلاص له؛ إذاً فالمواجهة معها تختلف، فبعيداً عن تفسير النوايا يُفترض بمن يحمل همّ الدين أن يحمل الهمّين معاً، فلعلّ من نراه يُنقص إنما يرى أنه يصفّي، ولعلّ من نراه يزيد قد يهدف إعادة الاعتبار إلى ما رآه قد أنقص، وازدواجية المعايير على هذين الخطين قد تترك آثاراً سلبية.

8ـ وختاماً، وتعقيباً على النقطة الأخيرة يأتي الحديث عن مسألة الهمّ الديني، فلا ينبغي اتّهام أحد الفريقين: فريق تصفية الدين وفريق ردّ الاعتبار إلى بعض مقولاته، في نواياهم الدينية، وحسن سلوكهم الإيماني، فهل يحقّ ـ والأمثلة تُضرب ولا تقاس ـ للسيّد الكلبايكاني وهو يرى ـ على ما قيل ـ في الفلسفة ما يؤدي إلى الضلال ـ حتى مع إرفاق البحث الفلسفي بنقد الباطل فيه ـ أن يتّهم السيد محمد حسين الطباطبائي أنّه لا يحمل همّ الدين؛ لأنه رفع أعلام الفلسفة في الحوزة العلمية وشاد بناء النـزعات الصدرائية؟ لقد دان علماء الإمامية المولى محمد أمين الاسترآبادي على قسوته على العلامة الحلي الذي اتهمه أنّه اقتبس بعض أفكار أهل السنّة في مجال الفقه والأصول والحديث، هل كان يصحّ اتّهامه في حرصه على التشيّع وهو ـ أي العلامة ـ ممّن رفع شأن هذا المذهب وشاد أركانه؟

لهذا يحسن بالناشطين في الميدان الثقافي أن لا يُغرقوا أنفسهم في محاولة اكتشاف النوايا، فهذا عمل غير ثقافي، وإنما هو عمل يعنى به السياسيّون ورجال الأمن وأمثالهم ممّن تكون وظيفته مثل هذه الأمور وحتى من المنطلق الشرعي أحياناً.

إنّنا دوماً ندعو إلى التواضع في فهم الحقيقة وامتلاكها، وفي ادّعاء الوصول إليها؛ فالعلم والفكر والحقيقة أكبر ممّا نتصوّر بكثير، وقد قيل لبعض الحشرات: كيف هو الله؟ فأجابت: إنّ له قرني استشعار، وعلى حدّ مضمون قول الفراهيدي فيما ينقله عنه صاحب السرائر: إنّ الإنسان لا يعرف خطأ أو حجم أستاذه إلا أن يرى غيره، فالفكر والمعرفة مدارس واتجاهات، ولا تؤخذ الأمور بالبساطة، وعلى الجميع تحمّل المسؤولية الشرعيّة في هذا المجال.

وأخيراً، وحيث خصّصت مجلة “نصوص معاصرة” ملفّاً حول المرأة من وجهة نظر فريق في الساحة الثقافية الإيرانية، ونشرته في عددها التجريبي (صفر)، تكمل مشروعها هذا بملف حول المرأة من وجهة نظر أخرى، لتكتمل صورة المشهد عند القارئ الكريم، فكان ملفّ هذا العدد حول القراءات النقدية في مسألة المرأة.

>وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ …< ]الأنفال: 105[.




[1] . نشر هذا المقال في العدد السادس من مجلة نصوص معاصرة، ربيع عام 2006م.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً