أحدث المقالات

 
 
 
العنف الجسدي
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 
حيدر حب الله
توطئة:

السؤال المطروح هنا هو هل أن الشريعة الإسلامية وبحسب المقرّرات الأوّلية قد جعلت لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبةً ثالثةً بمعنى يستبطن استخدام القوّة والعنف الجسدي ضدّ فاعل المنكر زيادةً على مرتبتي القلب واللسان أم أن هذه الفريضة لم يقرّر فيها سوى هاتين المرتبتين أو على أبعد تقدير مرتبة ثالثة ليست بالتي تُختزَن فيها فكرة القوّة بالمعنى المتقدّم بحيث نلتزم بثلاثيّة المراتب لكن مع إجراء تعديل على مضمون المرتبة الثّالثة بحيث تتحوّل عن معناها الشّامل لاستخدام القوّة الجسدية إلى ممارسة القوّة بما لا يفضي إلى العنف الجسدي؟

ولا يعني العنف الجسدي مدلولاً سلبياً حتى يثار تساؤل عن مدى إمكانيّة أن يلتزم الإسلام به؟ وبالتالي فلا يعني هذا العنوان استباقاً للنتائج من خلال تحميل الفكرة وإلباسها المظهر السلبي، لأننا نلتزم بأن الإسلام قد دعا إلى العنف الجسدي في هذه الدائرة أو تلك، إذ العنف الجسدي لا يمكن لأيّ نظامٍ أو قانونٍ أو حكومةٍ أن تلغيه إذا أرادت أن تكون واقعيّة، ولم يحدّث التاريخ عن سلطةٍ سياسيّة أو اجتماعية أو دينية أو… لم تمارس العنف ولو في إطار عمليّة قوننة لـه حتى لو نظّرت ضدّه، كل ما في الأمر أنّه إذا أريد للموضوع أن يُقرأ من زاوية فلسفيّة إنسانيّة فإنه من الضروري أن تقدّم تبريرات تفسّر السّبب في اللجوء إلى القوّة ولو من خلال عدم وجود منفذ آخر.

وعلى كلّ حال، فليس هذا هو موضوع هذه الصفحات، لأنّها تريد أن تعالج المسألة من زاوية فقهيّة بحتة لا أكثر، أي أننا نريد مطاولة الموضوع وفق معطيات الفقه الإسلامي، لنكتشف هل يوجد في النصّ الديني أو العقل المؤسّس على هذا النص ما يدعم فرضيّة العنف الجسدي في سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو السائد حاليّاً أم لا؟

ونحن في معالجتنا الفقهية هذه نعي مدى حساسية هذا الموضوع في واقعنا الإسلامي، ونقرّ بضرورة أن تكون إحدى معالجاته منطلقةً من المناخ القائم على الموروث الديني، ولهذا سنسعى قدر المكنة لتوظيف الموروث وأدواته لبحث هذا الأمر، كي لا نقع في مواجهة الاشكاليات التقليديّة للتيارات المدرسية السائدة، والتي ترفض بشدّة مطاولة موضوعاتها التراثية بأدوات متخارجة عن موروثها، رغم الإقرار بأنّ تجنّب المواجهة يبدو لنا كالمستحيل في ظلّ تجاربنا الأخيرة إسلاميّاً.

 

المسألة من زاوية التّاريخ الفقهي:

وينبغي ـ بدايةً ـ أن نطلّ على تاريخ هذه المسألة في التراث الفقهي الإسلامي، والظاهر أنه لا خلاف بين الفقهاء (رض) في ثبوت هذه المرتبة ـ أي الثالثة ـ من حيث المبدأ، وقد عبرّ عنها في كثير من المصادر والمراجع الفقهيّة باليد، وفسّرت في بعض هذه المصادر بمعنى مطلق استخدام القوّة والعنف الجسدي ضدّ فاعل المنكر كضربه ونحو ذلك.

فقد صرّح بذلك أو هو ظاهر كلمات كل من ابن حمزة الطوسي (ق 6هـ)(1)، وابن البرّاج الطرابلسي (588 هـ)(2)، وأبو الصلاح الحلبي(447هـ)(3)، والشيخ المفيد (413هـ)(4)، والشيخ الصّدوق (381هـ)(5)، والشيخ الطوسي (460هـ)(6)، وابن إدريس الحلّي (598هـ)(7)، وابن فهد الحلّي (841هـ)(8)، وسلاّر الديلمي (448هـ)(9)، والمحقق الحلّي (676هـ)(10)، والعلاّمة الحلّي (726هـ)(11)، والشهيدين الأول (786هـ)(12)، والثاني (965هـ)(13)، وابن سعيد الحلّي (690هـ)(14)، والفيض الكاشاني (1091هـ)(15)، والمحقق الخراساني (1090هـ)(16)، والمقدّس الأردبيلي (1093هـ)(17)، والميرزا القمّي (1231هـ)(18)، والمحقّق العراقي (1361هـ)(19)، والمحقق النجفي صاحب الجواهر (1266هـ)(20)، والمقداد السيوري (826هـ)(21)، والسّادة الحكيم (1390هـ)(22)، والخوئي (1413هـ)(23)، والگلپايگاني(24)، والخميني (1409هـ)(25)، والشهيد الصدر (1400هـ)(26) قدّس الله أسرارهم، ولعلّه ظاهر كتناب “فقه القرآن” للراوندي (573هـ)(27) أيضاً.

إلا أنني ـ وفي حدود ما بحثت ـ لم أعثر على رأي في المسألة لمجموعة من الفقهاء، فلم أر رأياً لابن الجنيد الأسكافي (ق 3 ـ 4هـ) والشريف المرتضى (436هـ)، وإبن زهرة الحلبي (588هـ)، وابن أبي عقيل العماني (ق 3 ـــ 4هـ)، وبعض العلماء المتأخّرين كالسيد جواد العاملي (1226هـ) صاحب الكتاب الموسوعي الشهير “مفتاح الكرامة”، ووالسيد السند ( 1009هـ) صاحب كتاب “مدارك الأحكام”، والعلامة النراقي (1245هـ) صاحب كتاب “مستند الشيعة”، والمحدّث يوسف البحراني (1186هـ) صاحب كتاب “الحدائق الناضرة”، والمحقق الكركي المعروف ( 940هـ) صاحب كتاب “جامع المقاصد”، والعلامة السيد علي الطباطبائي (1231هـ) صاحب كتاب “رياض المسائل”، والآغا رضا الهمداني (1322هـ) صاحب كتاب “مصباح الفقيه” و.. ولا أظن أنّني بحثت بطور استقصائي وشامل.

لكنّ أحداً من الفقهاء (رض) لم يذكر نفي هذه المرتبة بهذا المعنى ـ فضلاً عن أن يذكره من ناحية أوّلية بمعنى أن ينقل قولاً بعدم الثّلاثية في المراتب ـ كرأيٍ أو كوجهٍ، ولم يُنسب الخلاف في ذلك إلى أحد، عدا ما سيأتي، ومن هنا نصّ في “التنقيح” على أن الحكم اتّفاقي(28)، إلا أنّ الميرزا المعاصر جواد التّبريزي استشكل في المسألة(28)، ولعلّه متوقّف في ثبوت هذه المرتبة بهذا المعنى على أقلّ تقدير.

هذا على مستوى الفقه الإمامي، وأمّا على مستوى فقه السنّة، فالظاهر أن الأمر على نفس الطّراز على ما تفيده بعض المراجع الموسوعيّة الأخيرة كالموسوعة الكويتيّة.

المقتضيات الأوليّة:

وعلى أيّة حال، فمقتضى الأصل الأوّلي والقاعدة المبدئية التي تشكّل منطلقاً وفي الوقت عينه مرجعاً معرفيّاً عند فقدان الأدلّة الاجتهادية هو البراءة عن لزوم استخدام هذه المرتبة بالمعنى المتقدّم، بل إن مقتضى العمومات والمطلقات القرآنية والروائية حرمة الإيذاء والاعتداء وشبههما، وهي حرمةٌ مطلقةٌ وشديدة يحتاج إلى دليل ثابت لكي يحدّ منها أو يضيّق من دائرتها، ولذلك لابد من تلمّس دليل يمكّننا من رفع اليد عن مقتضيات الأصول والأدلّة المذكورة.

 

أدلّة مبدأ العنف الجسدي:

وما يمكن أن يسجّل كأدلّة للمسألة وجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع الإسلامي العام، بل ما قد يرقى إلى مستوى الضّرورة الفقهيّة بعد ملاحظة تصريحات الفقهاء (رض) في هذا الإطار، سيّما وأن بعضهم قد ساق المسألة مساق الأمور الجزميّة الواضحة والمسلّمات القطعية الثابتة.

وربما يلاحظ عليه:

أولاً: إن العلاّمة الحلّي (726هـ) قد ذكر أن كلّ من قدّم من الفقهاء اليد على ‏القلب واللسان في سياق استعراضه ترتيب هذه المراتب، أراد باليد عين فعل المعروف وترك المنكر من الآمر الناهي نفسه، ناسباً مثل هذا التقديم إلى سلار الديلمي صاحب كتاب “المراسم العلوية”.

قال العلامة في كتابه “مختلف الشيعة”: (30) “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان باليد واللّسان والقلب، واختلف في التقديم: فقال الشّيخ أولاً باللّسان ثم باليد ثم بالقلب، وربما قيل بتقديم القلب، وقال سلاّر: وهو مرتب باليد أولاً فإن لم يكن فباللّسان فإن لم يمكن فبالقلب، ولا أرى في ذلك كثير بحث.

والتحقيق أن النـزاع لفظي فإن القائل بوجوبه… والقائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف ويتجنّب المنكر بحيث يتأسّى به الناس، فإن أفاد ذلك الانقياد إلى التأسّي، وإلا وعظ وزجر وخوّف باللّسان، فإن عجز عن الجميع اعتقد الوجوب”.

ووفقاً لنصّ العلامة الحلي هذا، لن نحرز أن الجميع يقصدون معنىً واحداً من مصطلح اليد ونحوه بحيث يكون شاملاً أو منحصراً في استخدام العنف الجسدي.

ويعزّز أصل الإيحاء بمثل هذا المدلول أن الشّيخ الطوسي (460هـ) في كتاب “النّهاية”(31) وابن البرّاج الطرابلسي (588هـ) في كتاب “المهذّب”(32) قد جعلا هذا المعنى ـ أي عين فعل المعروف وترك المنكر من الآمر والنّاهي ـ أحد معاني اليد في الباب، بل من الممكن أن يستظهر من عبارتهما أنّه المدلول الأوّل، لأنّهما ذكراه في إطار تفسير هذه المرتبة أولاً، وإن ضمّنا في استدراكهما أو ما يشبه الإستدراك بعد ذلك المعنى الثّاني لليد وهو العنف وشبهه ملتزمين بهذا الشمول.

ثانياً: إن كثيراً من الكلمات استخدمت كلمة اليد من دون أن تشير إلى معنى هذا المصطلح هنا، الأمر الذي ربمّا يفسح لنا المجال في التشكيك في إرادة هؤلاء نفس المعنى الذي فهمه المتأخّرون مما استقرّ عليه الحكم والفتوى فيما بعد.

وهذا التشكيك ممكن، إلا إذا استبعد بعدم ذكر أحد معنى آخر مما يضعّف من احتمال إرادة من أطلق خصوص معنى فعل المعروف، وبالتالي نصبح بحاجة إلى مثل نصّ النّهاية والمهذّب والمختلف لبعث الحياة مجدّداً في هذا الشك.

ثالثاً: إن هذا الإجماع وبعد ملاحظة النصوص الروائية الواردة في المقام، واستخدام الفقهاء تعابير مشابهة لما في هذه النصوص كتعبير اليد، يمكن الوثوق بمدركيّته ولا أقل من الاحتمال، وبالتالي سقوطه عن الحجيّة، فإنّ المقرّر في علم أصول الفقه أنّ الإجماع إن علم أو احتمل مستند المجمعين فيه كانت العبرة بالمستند نفسه فنرجع إليه مباشرةً، فإن فهمهم لهذا المستند ليس حجةً علينا.

الوجه الثاني: التمسك بأدلّة الجهاد عل أساس اشتمالها على فكرة استخدام القوّة لتغيير الواقع الفاسد أو لفرض الأنموذج الصّالح وأمثال هذه الصّياغات التي تعطي مفاداً هو أن استخدام القوّة لرفع المنكرات والانحرافات أمر مشروع بل ومطلوب. ويعزّز ذلك أن مفردة الجهاد قد استفيد منها في النصوص في مختلف مواقع مواجهة الفساد حتى ذاك الذي يعيشه الفرد داخل نفسه مما يعطي هذا المصطلح ـ في النص الإسلامي ـ مدلولاً أوسع من الإطار الحربي بالمعنى العسكري للكلمة.

كما أن ملاحظة جملة من المصادر الفقهية المتقدّمة تاريخيّاً يشرف الباحث من خلالها على الاطمئنان بذلك، لأن هذه المصادر كانت تدرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن كتاب الجهاد ولا تفصله عنه، كما يلاحظ من بعض المناقشات (يراجع هنا كتاب الغنية لابن زهرة، قسم العقائد) حول طبيعة وجوب الأمر بالمعروف وأنّه عقلي أو شرعي أنّ الإمامية قائلة بـأن الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر فردٌ من أفراد الجهاد.

وقد يناقش: بأن باب الجهاد وأدلّته من حيث المحتوى والظرف الذي صدرت فيه أجنبيةً نسبياً عن مجال البحث هنا، لأننا نريد هنا إثبات مشروعية استخدام العنف الجسدي ضد فاعل المنكر مثلاً لردعه عن فعله حتى لو كان مسلماً غير باغ، وأدلّة الجهاد أخصّ وأضيق بكثير من هذا المدّعى لظهورها في المواجهة السياسيّة بتوظيفها القوّة لاعتبارات عامّة ذات طابع جمعي بمستوى الظاهرة المقابلة، ومثل هذا التشريع ـ المستوحى من مجموع أدلّة الجهاد ـ كيفما امتدت مساحته لا يستوجب صيرورة العنف مشروعاً حتّى لآحاد المكلّفين مع بعضهم في ظلّ أي وضع سياسيّ أو اجتماعي ولو بإذن الحاكم الشرعي.

وبعبارة مختصرة إنّ المطالع لنصوص باب الجهاد القرآنيّة والروائيّة يشعر بأنّه بحاجة إلى شيء من تحميل النص إذا أراد أن يفهم منها معنىً بهذا الحجم من السّعة.

كما أن مسألة إدراج الأمر بالمعروف في ضمن أبحاث الجهاد لا ينفع كثيراً هنا، لأن من الواضح أن كونه فرداً منه فقهياً بحسب التقسيم والتبويب المتّبع في علم الفقه ـ وهو تقسيم وإن كان يحمل في داخله الكثير من فرص قراءة العقل الفقهي الذي يستشرف الموقف الفقهي أحياناً إلا أنّه ونتيجة بعض تأثيرات الفقه السنيّ فيه وأمور أخرى أيضاً قد حمل بطريقة غير مقصودة هيكليةً غير معبّرة عن ذاته بالدقة ـ لا يعني تطبيق كافّة أحكام الجهاد عليه، بل هناك ما يفيد بأنهم لم يقولوا بذلك من خلال ملاحقة بعض التفاصيل التي أوردوها في كلا البابين من قبيل اختلافهم في جواز الجـرح أو القتل فـي الأمر بالمعروف ونحو ذلك.

هذا، ومن جهة أخرى مجرد الصّدق اللغوي واستعمال مفردة الجهاد أحياناً في غير هذا المعنى الخاصّ الذي أشرنا إليه لا يوجب حكماً شرعياً ـ كان ثابتاً للجهاد بهذا المعنى ـ لما هو أوسع من ذلك ما لم تصل المسألة إلى درجة الاصطلاح والمواضعة في الدائرة الشرعية والمتشرّعية الأمر الذي لا يتسنّى التأكّد منه فعلاً.

الوجه الثالث: التمسّك بكافّة الأدلّة الواردة في مجال العقوبات كالحدود، فإنها تمثّل أبرز شاهد على تقرير الإسلام العنف بالمعنى المتقدم لمواجهة المنكر.

لكنّ هذا الوجه يفتقر إلى مصادرة أن العناصر القانونيّة والمفردات التشريعيّة البانية لوظيفة الأمر بالمعروف متّفقة معها في العقوبات، بمعنى أن الشروط والمتطلّبات والإجراءات الموجودة في تلك الوظيفة هي بعينها أو بروحها المأخوذة في التركيبة البنيويّة للقانون الجزائي ونحوه، وما لم يكن الأمر كذلك سوف تبدو أمامنا ظاهرتان قانونيتان مختلفتان في المضمون والشكل والآليّة والعناصر وإن تلامستا في الأهداف.

غير أن هذه المصادرة غير واضحة، وذلك لأن المستخلص من نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلسلة من الشروط والمراتب والأحكام كالترتيب ونحوها من الاعتبارات التي لا وجود لها في باب العقوبات، كما أنه من جهة أخرى يلاحظ أن باب القانون الجزائي محدّد وفق مقرّرات قضائية لإثبات الجرم، فبدون الإثبات القضائي من البيّنة وغيرها لا يمكن إقامة حدّ وهو أمر لا وجود له فيما نحن فيه في إطار علاقة الآمرين بالمأمورين.

وبعبارة أخرى حتّى الحاكم لا يمكنه أوّلياً إجراء الحدود بدون مراعاة الضوابط القضائية، وذلك لأنّنا حينما نفوّض الحاكم في قضيّة الأمر بالمعروف، سيعني ذلك أنه يملك الحق في تفويض ملاحقة المنكرات ولو بالقوّة ـ بالمعنى المتقدّم ـ إلى مجموعة من الأفراد لتطبيقها بلا حاجة إلى محاكم وغيرها، بمعنى كفاية تأكّد أحد الأفراد من المنكر لاستعمال هذه المجموعة القوّة وفق شروط الأمر والنّهي، بل للحاكم جعل هذه الوظيفة في يد آحاد المكلّفين بلا داعي لمراعاة الجانب القضائي بل هي في أيديهم بلا حاجة لإذن الحاكم على بعض المباني والآراء، وهذا الأمر غير واضح في باب العقوبات التي لا يتأتّى فيها تنفيذها بمثل هذه الآليّة الإجرائيّة.

ومن خلال هذا الأنموذج من التفاوت في المعالم يظهر أنه ليس من الجليّ أن تشريع العقوبات يمكنه أن يدلّل على ما نحن فيه.

ولعلّ هذه الخصوصيات المتقدّم ذكرها دفعت بالمحقّق العراقي (1361هـ) إلى نفي الملازمة ـــ صريحاً ـــ بين أدلّة الجهاد والحدود وما نحن فيه حيث أشار بصورة سريعة إلى ذلك في “شرح التّبصرة”(33).

الوجه الرابع: التمسّك بأدلّة الحكومة لإعطاء الصّلاحية للحاكم في ممارسة أسلوب العنف الجسدي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل أدلّة الولاية العامّة للفقيه.

غير أنّه يسجّل على هذا الوجه، أننا نريد هنا تثبيت تشريع له جعل قانوني أوّلي، بمعنى كون العنف الجسدي صيغة أوليّة مقرّرة في الشريعة لوظيفة الأمر والنّهي، وهذا غير أن يسمح الشارع من خلال جعل آخر ـ وهو جعل الولاية للحاكم ـ بآليّة عمل في هذا المجال مبتنية على نظر إنسانيّ بشريّ آني، فقبول الشارع بمبدأ العنف ـ بالمعنى الذي نقصده هنا ـ من خلال حاكميّة الحاكم إنما هو قبول لها بملاك مغاير لمورد البحث ومن حيث العنوان الأوّلي.

وبعبارة ثانية، إن ترخيص الحاكم باستخدام العنف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كانت له مثل هذه الصلاحية في الفقه الإسلامي وكان هذا الترخيص مبنياً على أساس مصالح عليا يراها الحاكم ضرورية الإجراء والتنفيذ لا يعني أنّ رؤيته تحوّلت الى جزء من النصّ الأساسي للدين الإسلامي، حتى لو كان الإسلام ـ وفق نظرية ولاية الفقيه العامّة مثلاً ـ يدعو للانصياع لأوامر هذا الحاكم، لأن الرضا بأوامره لا يصيّر أمره حكماً واقعيّاً إلهيّاً من حيث ذاته، وإنّما ضرورة عملانيّة يأمر الشارع بالانقياد لها تبعاً لحاجات النظام العام.

وفي مقابل هذا الكلام قد يستعان بالمقولة القاضية بنفي الإكراه في الدّين، وأن الوظيفة ـ حتى النبويّة ـ مقتصرة على التبليغ والجدال بالتي هي أحسن وما شابه ذلك وأن استخدام القوّة والإجبار المباشر وغير المباشر أمر بعيد عن الجوّ الدّيني سيّما وأنّ الدّين أمر قلبيّ واختياريّ لا مجال لفرض الإكراه فيه لانتفاء الغرض حينئذ منه.

وهذا الوجه مبتن على نظريّة كلاميّة في باب الدين والتديّن ولهذه النظرية أنصار ومؤيّدون سيما في الغرب المسيحي، ونحن لن ندخل في البحث حولها لكن نشير إلى أن هناك فرقاً بين الدين بمعنى الفعل القلبي والروحي وبينه بالمعنى القانوني، فمن الممكن أن يبحث في الجانب الأوّل وقد بحث فعلا،ً أما الجانب الثاني فلا أظن أنه من المنطقي افتراضه بوصفه حقيقةً، لأنه لا معنى لافتراض نظام حاكم سياسياً أو اجتماعياً أو عائلياً أو قانونياً أو… ثم يعتمد فكرة الفعل الاختياريّ الخالص فحسب، وإلا فبماذا نفسّر قوانين العقوبات الجزائية والجنائية في الإسلام وغيره وأشباهها؟!

 إنّ هذه النظرية تشبه في تكوينها الشيوعيّة المطلقة التي وعدت الماركسية بها العالم والتي تقوم على نظام إلغاء الملكية وإزالة الطبقيّة، وإذا حصل ظرف كهذا وصارت هناك إمكانية وضمانة في الاعتماد على الفعل الاختياري فحسب من دون حاجة إلى نظام قوّة وحاكميّة ملزمة من خارج النّفس الإنسانية، فهناك يمكن التفكير في الأمر من جديد.

وفيما أخمّن فإنّ هذا النّمط من التفكير قد تمّ استيراده من الغرب المسيحي مع سلخه عن نسقه وسياقه المحيط والتاريخي والذي اقتضته الديانة المسيحيّة والظروف الأخيرة التي واجهتها، ومن ثمّ أريد تطبيقه في الدائرة الإسلاميّة مع تجاهل الفوارق العديدة بين المسيحية ـ لا أقل بوجودها الفعلي ـ وبين الإسلام، ولا نعني بذلك أن المسيحيّة تتقبّل مثل هذا الفرض فإن الإنجيل نفسه قد سنّ قوانين عديدة في مجال العقوبات ونحوها، وإنما نعني أن قابلية هذه الديانة لاستيعاب مثل هذا الافتراض وبهذه السّعة أكبر منها بالنسبة إلى الإسلام.

الوجه السادس: العمومات والمطلقات القرآنية والروائية الآمرة والحاثّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من خلال شمولها للقوّة، فإنّ معنى النهي عن المنكر هو الزجر عنه والرّدع، ومقتضى إطلاق الزجر شموله لما كان بوسيلة القوّة بالمعنى السابق.

إلا أنّ الملاحظة الأساسيّة هنا هي أن كافّة هذه الأدلة ليس فيها إطلاق أو عموم مؤثّر في مجال بحثنا، فإنها غير ناظرة إلى وسائل التنفيذ وتحديد الشروط والأحكام والمراتب، وأشكال إقامة هذه الفريضة وإنما نظرها:

 أ ـ إمّا لوصف المؤمنين كقوله تعالى: “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصّلاة…”(34).

 ب ـ وإما لوصف النبي (ص) كقوله تعالى: “الذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيّبات…” (35).

 ج ـ أو لأصل الحثّ على هذه الوظيفة وتقريرها كمبدأ نحو قوله تعالى: «ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون»(36).

 د ـ أو لبيان ايجابيّاتها وسلبيات هجرانها كما في عدّة روايات نحو ما في خبر يحيي عن حسن(37) وغيره، وأشباه هذه الألسنة والمقامات، وفي مثل هذه الأجواء لا يتسنىّ استنطاق هذه النصوص لتأكيد أمر فرعي يتعلّق بأشكال التطبيق، أو كما في التعبير المستخدم في علم أصول الفقه: ليست هذه النصوص في مقام البيان من هذه الجهة حتى يؤخذ بإطلاقها، فإنّ المتكلّم إذا أراد بيان مبدأ لا يمكن من سكوته عن فروعه فهم تفصيلات هذا المبدأ وأحكامه الفرعية الجانبيّة.

الوجه السّابع: وهو على ما يظهر العمدة عندهم(38)، حيث يرجع إلى مجموعة روايات لها دلالة حول موضوع البحث وهذه الروايات هي:

الرّواية الأولى والثانية والثالثة: خبر جابر عن أبي جعفر الباقر (ع) ـ في حديث ـ قال «فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتّعظوا وإلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم «إنما السّبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم»، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بالظلم ظفراً، حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته»(39).

ومن قبيل هذه الرواية خبر ابن أبي ليلى قال: «إني سمعت علياً (ع) يقول يوم لقينا أهل الشّام: أيها المؤمنون، إنه من رأى منكم عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ… ومن أنكره بالسّيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظّالمين السّفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى…»(40).

 وكذلك ما في ‏نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال في خطبة له يذكر فيها أصحاب الجمل: «فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً، معتمدين لقتله بلا جرم، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه، إذ حضروه ولم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد…» (41).

وذلك أن «فجاهدوهم بأبدانكم» و«أنكره بالسّيف» و«بلسان ولا يد» الواردة في هذه الروايات تدلّ على استخدام العنف ـ بالمعنى المتقدّم ـ في الأمر والنهي.

والجواب: أولاً: إنّ هذه الروايات ضعيفة سنداً، إذ الأولى ـــ مضافاً إلى الإرسال ــــ ضعيفة بمجهوليّة بشر بن عبد الله(42)، وأبي عصمة قاضي مرو(43)، والثانية بجهالة عبد الرحمن بن أبي ليلى على بعض الآراء(44)، فضلاً عن الإرسال، والأخيرة لا سند لها، إلا إذا بُني على صحّة كتاب نهج البلاغة كمجموع دون التّفتيش عن سند كل رواية رواية فيه، ولا نرى دليلاً على هذا القول.

ثانياً: إن السّياق الذي وقعت فيه هذه النصوص ــــ سيّما الأوّلين ـــ هو سياق الجهاد والقتال في إطار المواجهة السياسيّة، وعبارة “غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً..” في خبر جابر، و«أنكره بالسّيف» في خبر ابن أبي ليلى، مؤيّداً بظرف صدور النص في أجواء قتال أهل الشّام، تدلّل على أن المقدار الذي تتحدّث هاتان الروايتان عنه هو في إطار مواجهة الانحراف العام بالخروج المسلّح والمعارضة العسكريّة ونحو ذلك، وهو أمر يتعلّق بالفقه السياسي أكثر من تعلّقه بما نحن فيه.

كما أنّ كلمة اليد الواردة في رواية نهج البلاغة لا علاقة لها بما نحن فيه، إذ يراد بها القيام بعمل يؤدّي إلى دفع القتل عن مسلم، وهذا مما لا إشكال فيه، فإنّ رفع العدوان عن مسلم برفع قتله فريضة أخرى قد تكون واجبةً حتى لو لم يكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبين أصلاً، وفي مورد القتل يمكن تصوّر استخدام اليد لرفع الظلم عن إنسان بريء.

الرواية الرابعة: رواية الحسين بن سالم عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: “أيمّا ناشئ نشأ في قومه ثم لم يؤدّب على معصية كان الله أوّل ما يعاقبهم به أن ينقص في (من) أرزاقهم”(45)، وفي نطاق موضوع هذه الرواية عدّة نصوص تتعرّض لضرب أو تأديب الزّوجة والصبي والمملوك، وتقريب الاستدلال بها واضح.

والجواب: إن دائرة هذه النصوص هو الحياة العائلية تقريباً، واحتمال الخصوصيّة للدائرة الأسرية في نطاقٍ كهذا معقول جداً إذا لم نقل أنّه موثوق به، ومع هذا كيف يراد تسرية حكم في مجال تربوي أسري لإطار اجتماعي عام أوسع منه بكثير؟! هذا مع غضّ النظر عن ضعف هذه الرواية بجهالة كلّ من أبي عبد الله الخراساني(46) والحسين بن سالم(47).

الرواية الخامسة: ما عن أمير المؤمنين (ع): « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه ويده فهو ميّت بين الأحياء..» (48)، فإنّ هذه الرواية ظاهرة في ثبوت مرتبة اليد ـ بالمعنى السّابق الشامل للعنف الجسدي ـ بمقتضى إطلاق اليد، وكما يقول المحقّق العراقي ( 1361هـ) فإنّ حمل اليد في هذه الرواية وأمثالها على نفس فعل الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر نفس المعروف وتركه المنكر خلاف الظاهر من كلمة اليد (49).

وما أفاده المحقق ضياء الدين العراقي في محلّه، غير أنّه مع ذلك يمكن إبراز عدّة ملاحظات وهي:

الملاحظة الأولى: إنّ الرواية من حيث السّند ضعيفة، فقد رواها كلّ من الشيخ الطّوسي (460هـ) في “تهذيب الأحكام”، والشيخ المفيد (413هـ) في كتاب “المقنعة” ـــ على ما نقله الحرّ العاملي (1104هـ) صاحب كتاب “وسائل الشيعة” ــــ مرسلة(50).

الملاحظة الثّانية: إنّ الرواية لا بيان فيها للمراد من اليد ولو بالإطلاق، لأنها واردة في إطار الحديث عمّن ترك إنكار المنكر بيده، وهي لا تدلّ على سعة «اليد»، لأنها ليست في مقام بيان ‏وإثبات الحكم حتى نتمسّك بإطلاقها، وإنما هي في مقام بيان أثر ترك الإنكار باليد من دون أن تحدّد لنا مفهوماً، بل وكأنها تفترض مسبقاً أنّ هذا المفهوم واضح وتريد أن تقرّر ما ينجم عن تركه.

ولتقريب ذلك نأخذ كلمة اللسان، أفهل يقال هنا بانعقاد إطلاق في الرواية لإثبات تمام حالات الإنكار بالّلسان، أم نقول: إن الرواية ليست بصدد بيان امتدادات هذه المراتب وإنما في مقام بيان نتائج الإعراض عنها وفرق بينهما؟

ووفقاً لذلك، فإنّ كلمة «اليد» في الاستعمالات العربيّة يكثر تداولها بمعنى القوّة والقدرة، وليس من الضروري أن يكون استعمال القوّة للرّدع عن المنكر مساوقاً لاستخدام العنف الجسدي، فإنّ استعمال القوّة في مواجهة ظاهرة شرب الخمرة يصدق على صورة مصادرتها أو إتلافها بدون رضا أصحابها، وكذا الأوثان وأدوات القمار ونحو ذلك.

ومادام هذا المعنى بهذا المقدار صادقاً فلا نحرز ما هو أوسع منه من كلمة «اليد» بعدما تقدّم آنفاً.

الملاحظة الثالثة: إن كلمة «اليد» لم ترد في بعض النسخ مما يحدث الشّك في المقام.

إلا أنّ ملاحظة ما جاء في روايةٍ في نهج البلاغة وهي «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده، فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير ومضيّع خصلة… ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميّت الأحياء»(51)، إن ملاحظة هذه الرواية قد يجعلنا نميل إلى أن الشيخ الطّوسي والمفيد قصدا في نقلهما رواية النهج هذه، وحيث إنّ هذه الرواية مشتملةٌ على كلمة «اليد» فيتقوّى بذلك احتمال صحّة النسخ التي اشتملت على هذه الكلمة، ويبقى أن يصل هذ الاحتمال إلى درجة عدم تأثير الاحتمال المعاكس.

كما أن تقديم أصالة عدم الزيادة وتحكيمها وفق بعض المباني المقرّرة في علم أصول الفقه قد ينفع في المقام أيضاً، وفيما تقدّم كفاية لنا.

الرواية السادسة: خبر محمد بن سنان عمّن أخبره عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث طويل يروي قصّة فاجرة ردعت طالباً للزنا عن المعصية حيث ورد في آخرها: «.. وأوجبت لها الجنة بتثبيطها عبدي فلاناً عن معصيتي»(52).

لكنّ هذه الرواية ـــــ بقطع النظر عن ابتلائها بضعف السّند بالإرسال ـــــ قضيّة في واقعة، ولا تعطي شمولاً في أن كلّ تثبيط عن المعصية مشروع، غايته أن مبدأ الحيلولة بين الآخر والمعصية ممدوح دون تعرّض للأسلوب.

هذا كلّه إذا تغاضينا عن أن هذه المرأة قد حالت بين العبد والمعصيّة بالوعظ واللّسان لا بغيرهما كما تفيده الرواية نفسها.

الرواية السابعة: خبر مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (ع) قال: «قال أمير المؤمنين (ع): إن الله لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّاً من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من الله عزوجل»(53)، حيث قد يتمسّك بإطلاق التغيير الوارد فيها لحالات استخدام العنف والقوّة.

ويناقش: أولاً: إنها ليست في مقام البيان من ناحية وسائل التغيير، فلا ينعقد لها إطلاق على ما شرحناه سابقاً.

ثانياً: إنها أقرب إلى الاختصاص بعلاقة العامّة بالخاصّة، فتكتسب مدلولاً سياسيّاً في علاقة الحاكم بالمحكوم، ولا يحرز بالتالي شمولها لغير هذا المورد الذي تقدّم الحديث عنه.

الرّواية الثامنة: ما عن الصادق (ع):” إنه قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك!”(45).

حيث صرّحت باستخدام حتىّ الأذيّة في الرّدع عن المنكر مغياةً بإقلاع فاعله عنه، فتدلّ على مشروعية أيّ سبيل لتحقيق هذا الهدف حتى لو كان الضرب ونحوه.

وهذه الرواية وإن كان فيها نحو دلالة على المطلوب، غير أنّها ضعيفة سنداً لرواية الطوسي والمفيد لها بلا سند أصلاً مما يوجب سقوطها عن الحجيّة حتى لو صدّر الشيخ الرواية بــــ «قال الصّادق ‏(ع)».

الرواية التاسعة: خبر يحيى الطّويل عن أبي عبد الله (ع): “ما جعل الله بسط اللّسان وكفّ اليد ولكن جعلهما يبسطان معاً ويكفّان معاً”(55)، فإنّها تقرّر أنّ حكم اليد واللسان واحد من حيث الإطلاق والإمساك، وحيث لا شكّ في بسط اللسان في هذه الفريضة فاليد تكون كذلك.

ويرد عليه:

أولاً: إن الرواية ضعيفة سنداً بجهالة يحيى الطويل، إلا إذا بني على وثاقة كل من روى عنه ابن أبي عمير(56)، مع إثبات أنه قد روى عنه فعلاً، لأنه لا يكفي أن يكون قد ورد في الروايات أنه روى عنه، بل لا بدّ من كون السند أو القرينة الحافّة مؤكّدين لذلك، إذ من الجائز أن تكون الرواية قد وضعها من وقع بعد ابن أبي عمير في السّند فلا يثبت أن ابن أبي عمير قد روى فعلاً عن هذا الرجل، وهذه نقطة هامّة قد يغفل عنها الباحث أثناء مراجعته.

ثانياً: إن الرواية لا يتضّح منها الملازمة الدّائمة بين اللسان واليد بالمعنى المقرّب آنفاً، بل أقصى ما يظهر منها هو أن مبدأ اليد يقف إلى جانب اللسان لا أزيد، وإلا أفهل يقبل فقيه بأنه كلّما جاز استخدام اللسان مطلقاً حتى في تعليم الأحكام جاز استخدام اليد؟! أو هل يقبل بالكفّ عن استخدام البيان عند عدم وجود المجال لاستخدام القوّة؟! فالإنصاف أن الرواية غير واضحة بدرجة تفيد الظّهور فيما نحن فيه إذا لم نقل: إنها مندرجة في كتاب الجهاد لتقرير مبدأ الجهاد كما يظهر من الشيخ الكليني (329هـ) في كتاب “الكافي” حيث أدرجها في باب الجهاد.

الرواية العاشرة: ما في تفسير الإمام العسكري (ع) عن النبي‏ (ص) في حديث قال: «… من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه…» (57).

وهذه الرواية من حيث السّند وقع فيها جدل تبعاً للجدل في صحّة هذا التفسير، حيث ضعّف ـ كما ذهب إليه السيد الخوئي (1413هـ) ـ من جهة جهالة أبو الحسن علي بن محمّد بن سيّار(58) وأبو يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد(59).

وأمّا من حيث الدّلالة فإنّ السؤال الذي يمكن إثارته هنا هو أنه هل أنّ مواجهة المنكر من أيّ شخص تتم بالدرجة الأولى بالضرب ونحوه، فإنه قد يدغدغ في هذا المدلول إذا ما قيس بالرّوح العامة في علاقات المؤمن بالمؤمن المستفادة من الكثير من النصوص القرآنية والروائية، ومن هنا يترجّح أن يكون المراد من «اليد» ما كان من قبيل الحيلولة بين الآخر والمعصية وأشباه ذلك من تأسيس المؤسّسات وممارسة الضغوط التي تأتي من مواقع النفوذ وأشباه ذلك، فإن لم يتمكّن المؤمنون من ذلك كفاهم الوعظ والتذكير وهكذا، وهذا المعنى محتمل الإرادة من الرواية، وفهم الضّرب من اليد ربما كان اشتباهاً في التطبيق لا المفهوم، هذا إضافةً إلى احتمال أنّ المراد باليد فيها ما كان نقله لنا العلامة الحلّي (726هـ) من تقمّص الآمر والناهي شخصيّة فاعل المعروف وتارك المنكر بحيث يكون قدوةً لغيره في المجتمع.

الرواية الحادية عشرة: ونحو هذه الرواية المتقدّمة آنفاً من حيث الترتيب ما جاء في نّهج البلاغة مرسلاً: «إنّ أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم…» (60).

غير أنها:

أ ـ مضافاً إلى الضّعف السندي الذي فيها، وهو الإرسال.

ب ـ لا إطلاق فيها من هذه النّاحية، وفق ما شرحناه سابقاً.

ج ـ على أنّها ـــ وبقرينة الجهاد ــــ قد يتوقّف في استفادة اليد التي ذكرت في الأمر بالمعروف من اليد هنا، لأنها تحتمل معنى الجهاد المسلّح فيكون معنى الرواية هو أنكم تغلبون أولا من ناحية الحرب، وتضعفون عن القتال ومواجهة الأعداء، ولكن تحتفظون لأنفسكم بالجهاد اللّساني والقلبي، ثم تخسرونهما أيضاً وبالتدريج، ومعه فلا دلالة في الرواية على ما نحن فيه.

 

نتيجة البحث:

والمتحصّل من الروايات الشّريفة ـ على تقدير ثبوتها ـ ومع غض النّظر عن الرواية الثامنة والتي تكمن المشكلة فيها في سندها كما تقدّم، أنّ الوظيفة في غير إطار المواجهة السياسيّة والمجال العائلي هو ممارسة النّفوذ والسّعي الفعلي لمواجهة المنكر، وأما أن يمارس الضّرب والعنف الجسدي فهذا ما لم تصرّح به أيّة آية قرآنية أو رواية نبوية أو عن أحد أئمة أهل البيت (ع)، ولا يوجد إطلاق واضح يمكنه أن يقف قبالة الأصول والأدلة الأوليّة المحرّمة لأذيّة المسلم أو ما شابه ذلك.

ولابد هنا من ذكر تنبيهات:

التنبيه الأول: إن بعض الأدلة المتقدّمة ـ على تقدير تماميّتها ـ مختصّة بإنكار المنكر وبعضها شامل حتى لدائرة الأمر بالمعروف، وبعض التعابير الفقهية يظهر منها التّفريق بينهما بحيث تكون اليد من مراتب الإنكار لا الأمر، فخبر الحسين بن سالم، وابن أبي ليلى، وتفسير العسكري‏ (ع)، ومسعدة ابن صدقة، وغيرها تدلّ على الحكم في دائرة إنكار المنكر، إلا إذا جعل المنكر أعمّ بحيث يشمل ترك المعروف فلا يعود هناك فرق.

التنبيه الثاني: إن الأدلة المتقدّمة غير متساوية من حيث الإلزام والجواز، لأن بعضها قد لا يدلّ على أزيد من الجواز كما في خبر ابن أبي ليلى وبعض روايات نّهج البلاغة وغيرها، إلا إذا ضممنا الأدلة الملزمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمقام، أو قلنا بأن الجوار فيه ترخيص بفعل الحرام وهو الأذية للمسلم ولا يكون الترخيص أقوى ملاك ومصلحةً من الإلزام.

التنبيه الثالث: إنه من الممكن أن يدّعى أنّ قوله تعالى: “ادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن…” (61) وما شابه هذه الآية من آيات وروايات إنما هي في إطار تحديد أسس الدعوة بحيث تكون لها حاكميّة وإشراف على مجمل النصوص المتعرّضة لموضوع التبليغ والدعوة والهداية والجدال والحوار و… مما يعزز ــــ وفق هذه القاعدة القرآنية العامّة ـ وانسجاماً بين النص نفسه أن يكون المراد باليد غير المعنى الذي يختزن العنف الجسدي وما شابه ذلك.

غير أن الإشكاليّة التي تقف إزاء هذا الفهم هو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يدّعى أنهما لا يتطابقان مع موضوع الدعوة تمام التطابق، لأن ظاهر الآية القرآنية الكريمة هو دعوة الكافرين إلى الإسلام وهو أمر قد يختلف في ضوابطه وأنماطه عن نفس محاربة المنكر داخل المجتمع الإسلامي نفسه الذي هو المستفاد من النصوص المتقدّمة، فهذه المغايرة قد تمنع من تحكيم هذا الفهم في المورد، إلا إذا قيل: إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخصّ الحياة الدّاخلية للمجتمع الإسلامي بحيث يصبح هذا المفهوم مرافقاً لمفهوم الدّعوة، وموضوع الفرق بينهما وهل هناك ضوابط مختلفة لكلّ منهما أو لا؟ هو بحث جدير بالاهتمام ويلقي بظلاله على مسائل عديدة كما نحن فيه.

 

الهوامش:
1 – الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 207.
2 – المهذّب 1: 341.
3 – الكافي: 267
4 – المقنعة: 809 ـ810.
5 – الهداية: 57.
6 – النّهاية: 299 ـ 300، والاقتصاد: 150.
7 – السّرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 23.

8 – قد يظهر من المهذب البارع ‏2: 325، وان كانت الدلالة ضعيفة لانها لمحض سكوته عن التزام المختصر النافع بذلك وهو لا يؤكّد أنه يلتزمه أيضاً، لأنّ مقدّمة الكتاب ـ أي المهذب البارع ـ ليس فيها ما يشير الى مثل ذلك من أنّه سيعلّق على ما يخالفه أو ما شابه.

9 – المراسم العلويّة: 263.
10 – المختصر النافع: 115، وشرائع الإسلام 1: 259.

11 – القواعد 1: 525، وتبصرة المتعلّمين: 90، وإرشاد الأذهان 1: 353، ومنتهى المطلب 2: 993، ومختلف الشيعة 4: 474 ـ 475.

12 – اللّمعة: 84، والدّروس 2: 47.
13 – الرّوضة البهيّة 2: 416، ومسالك الأفهام 3: 104 ـ 105.
14 – الجامع للشّرائع: 243.
15 – مفاتيح الشّرائع 2: 57.
16 – كفاية الأحكام: 82.
17 – مجمع الفائدة والبرهان 7: 542.
18 – جامع الشّتات 1: 422.
19 – شرح تبصرة المتعلّمين 4: 458 ـ 459.
20 – جواهر الكلام 21: 377 ـ 378.
21 – التنقيح 1: 595.
22 – منهاج الصّالحين 1: 490.
23 – منهاج الصّالحين 1: 352.
24 – مجمع المسائل 1: 397.
25 – تحرير الوسيلة 1: 441.
26 – منهاج الصّالحين 1: 490.
27 – فقه القرآن 1: 358.
28 – التنقيح 1: 594.
29 – التبريزي، صراط النّجاة 3: 140 س 421.

30 – العلامة الحلي، مختلف الشيعة 4: 474 ـ 475، وتجدر الإشارة إلى أن النّسبة التي ذكرها العلاّمة هنا إلى صاحب المراسم هي نسبة صحيحة، راجع المراسم، مصدر سابق.

31 – النّهاية: 299 ـ 300.
32 – المهذّب 1: 341.
33 – شرح تبصرة المتعلّمين 4: 458 ـ 459.
34 – التّوبة: 71.
35 – الأعراف: 157.
36 – آل عمران: 104.
37 – الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 16 ـ كتاب الأمر والنهي باب 1 ح 7.

38 – كما يظهر من المنتهى والكفاية والجواهر وشرح التبصرة، راجع المصادر المتقدمة.

39 – وسائل الشيعة ـ 16 ـ كتاب الأمر والنهي باب 3 ح 1.
40 – المصدر نفسه ـ 16 ـ كتاب الأمر والنهي باب 3 ح 8.
41 – المصدر نفسه ـ 16 ـ كتاب الأمر والنهي باب 5 ح 6.

42 – الخوئي، معجم رجال الحديث 3: 318 ـ 319، وقد ذكر عدّة أسماء كلّها مجهولة.

43 – المصدر نفسه 21: 240، رقم: 14544.
44 – المصدر نفسه 19: 298 ـ 299، رقم: 6332.
45 – وسائل الشيعة ـ 16 ـ كتاب الأمر والنهي باب 3 ح 6.
46 – معجم رجال الحديث 21: 226، رقم: 14492.
47 – المصدر نفسه 5: 242، رقم: 3408 ـ 3409.
48 – وسائل الشيعة 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 4.
49 – العراقي، شرح تبصرة المتعلّمين 4: 459.
50 – وسائل الشيعة 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 4.
51 – المصدر نفسه 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 9.
52 – المصدر نفسه 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 3.
53 – المصدر نفسه 16، كتاب الأمر والنهي، باب 4، ح 1.
54 – المصدر نفسه 16، كتاب الأمر والنهي، باب 7، ح 4.
55 – المصدر نفسه 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 2.
56 – معجم رجال الحديث 20: 100، رقم: 13617 ـ 13618.
57 – وسائل الشيعة 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 12.
58 – معجم رجال الحديث 12: 147، رقم: 8428.
59 – المصدر نفسه 20: 175، رقم: 13809.
60 – وسائل الشيعة 16، كتاب الأمر والنهي، باب 3، ح 10.
61 – النحل: 125.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً